عيد الأضحى 1418هـ
سيرة وتاريخ, فقه
الذبائح والأطعمة, القصص
إسماعيل الخطيب
تطوان
10/12/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
قصة إبراهيم عليه السلام وكيف تبرأ من الشرك وأهله بل وحطّم الأصنام وكيف
هاجر إلى ربه وكيف ابتلاه الله بأمره بذبح ابنه فأجاب لذلك ففداه الله بِذِبْح عظيم –حثّ
الناس على الاقتداء بإبراهيم عليه السلام وذبح الأضاحي في هذا اليوم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله تعالى: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْر?هِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ?صْطَفَيْنَـ?هُ فِي ?لدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى ?لآخِرَةِ لَمِنَ ?لصَّـ?لِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [البقرة:130، 131].
عباد الله، في هذه الأيام المباركة التي فضلها الله وشرفها، في هذا اليوم يوم النحر، يوم العيد الأكبر والمسلمون في بقاع الدنيا يكبرون الله تعالى على ما هداهم إليه من دين قويم وصراط مستقيم، حق للمسلم أن يذكر أبا الأنبياء، وخليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي أعلن في الناس عقيدة التوحيد في وقت طغى فيه الشرك والضلال، فعبدت الأصنام وهجرت شريعة الرحمن، فعم الفساد، فنادى في قومه: مَاذَا تَعْبُدُونَ أَءفْكاً ءالِهَةً دُونَ ?للَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الصافات:85-87]، ولم يكتف بالدعوة باللسان بل عمد إلى أصنامهم، وهي رمز انحرافهم وضلالهم، فحطمها، وقال لقومه قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:66، 67]، هكذا بكل ثبات أعلن كلمة الحق في وجه من أشرك وعاند وكفر، الله أكبر.
وعلى منهج إبراهيم سار هذا الركب المبارك من أنبياء الله ورسله فدعوا إلى عبادة الله وحده، وتحكيم شرعه قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من متبوع ومطاع في معصية الله، والتشريع حق من حقوق الله، وقد شرع الله لعباده المنهج الواضح والطريق السليم، وقال لرسوله: ثُمَّ جَعَلْنَـ?كَ عَلَى? شَرِيعَةٍ مّنَ ?لأَمْرِ فَ?تَّبِعْهَا [الجاثية:18]، فبين سبحانه في كتبه المنزّلة وعلى السنة رسله: الحلال والحرام، وسائر الأحكام وشريعة الله لم تترك صغيرة ولا كبيرة من أمور الناس إلا وبينت حكم الله فيها، وإنك لتجد فيما بقي سليما من صحف أهل الكتاب، تطابقا واضحا في كثير من الأحكام الشرعية فالمحرمات من خمر وقمار وربا وزنا وسرقة وغصب وغيرها من الفواحش كانت محرمة في سائر الشرائع كذلك الأمر في الأخلاق والمعاملات فقد جاء الرسل الكرام بمكارم الأخلاق، وما كان للبشرية أن تعرف مكارم الأخلاق إلا بواسطة الرسل والأنبياء فبهم عرف الناس الطيب والخبيث، والجميل والقبيح والخير والشر، الله أكبر.
ولا عجب في ذلك فدين الله واحد، قال تعالى: شَرَعَ لَكُم مّنَ ?لِدِينِ مَا وَصَّى? بِهِ نُوحاً وَ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى? وَعِيسَى? أَنْ أَقِيمُواْ ?لدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [الشورى:13]، فالدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وتوحيده وطاعة رسله وقبول شرائعه، وقد ألزم الله تعالى الأمم السابقة بتحكيم شرعه وعمل الرسل الكرام على تطبيق حكم الله وشنع رب العزة تعالى على أولئك الذين امتنعوا من تطبيق حكم الله فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ?لْكِتَـ?بِ يُدْعَوْنَ إِلَى? كِتَـ?بِ ?للَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى? فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ [عمران:23].
وبين حقيقتهم فقال: سَمَّـ?عُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـ?لُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]. لذلك تجدهم يرفضون تحكيم شرع الله الذي أنزله الله في التوراة، كما رفض أهل الإنجيل الحكم بما أنزل الله وبذلك كانوا كفارا ظلمة فاسقين، لا رابطة بينهم وبين إبراهيم مَا كَانَ إِبْر?هِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا [عمران:67]، وقد سمي إبراهيم حنيفا لأنه مال إلى دين الله وهو الإسلام والإسلام هو الخضوع والطاعة والخشوع لله.
فإبراهيم كان مسلما، وقد سمى الله تعالى من اتبع دينه وأطاع أمره مسلما، قال تعالى: هُوَ سَمَّـ?كُمُ ?لْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـ?ذَا [الحج:78]، فسمانا الله تعالى مسلمين من قبل نزول القرآن وفي القرآن فالمسلم حقا من اتبع ملة إبراهيم وآمن بجميع الرسل وبخاتمهم وإمامهم نبينا محمد سيد البشر، الله أكبر.
والمسلم المستسلم الخاضع لأمر الله لا يرضى إلا بحكم الله، ولا يحكم إلا بشرع الله، ولا يطبق إلا أمر الله، فقد هداه الله إلى الدين الحق، والصراط المستقيم، والمنهج القويم قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [الأنعام:161]، أما من زهد في دين الله وشرعه وهجر أحكامه، فقد جهل أمر نفسه وأهلكها.
اللهم اجعلنا مسلمين لك، عاملين بأمرك إنك جواد كريم، غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر... لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، نشهد أنه الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله: نذكر في هذا اليوم خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام الذي ضرب المثل للأمم والأجيال من بعده: ثار ثورة عملية على الأصنام فحطمها، استهان بطغيان الكفرة الذين أرادوا حرقه بالنار، فكانت بردا وسلاما عليه. تبرأ من أبيه عندما تبين له أنه عدوا لله، هجر قومه فرحل من بلد لبلد وهو يقول: إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى? رَبّى سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، وسأل الله تعالى أن يهب له ولدا صالحا يعينه على الطاعة ويؤنسه في الغربة، فبشره الله بإسماعيل فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ?لسَّعْىَ [الصافات:102]. أي صار شابا قادرا على مساعدة أبيه قَالَ ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? [الصافات:102]، الله أكبر.
إنه الامتحان الذي ظهرت نتيجته الباهرة فإبراهيم صدّق الرؤيا وإسماعيل صدّق أباه، والأمر شاق وصعب، إبراهيم شيخ كبير مهاجر ترك الأرض والوطن، رزقه الله غلاما حليما، ما كاد يستأنس به حتى أمره ربه بذبحه، والإبن تلقى الأمر في طاعة واستسلام ورضى فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا [الصافات:103-105]، هذا هو الإسلام، إنه الإستسلام لأمر الله، إنه الطاعة والتسليم والتنفيذ وذاك ما يريده الله من عبده، فلما ظهر ذلك منهما فدى الله هذه النفس المسلمة بذبح عظيم.
وها أنتم معاشر المسلمين ستذبحون ضحاياكم ذكرى لهذا الحادث العظيم، ذكرى لعظمة الإستسلام والطاعة لرب العالمين، فاحمدوا الله على نعمه، واشكروه على أن وفقكم لطاعته، واذكروا أبا الأنبياء الذي هو أبو هذه الأمة المسلمة التي كتب الله عليها أن تقود البشرية بالقرآن على ملة إبراهيم عليه السلام، فأبشروا بالثواب الجزيل والخير الذي لا يحصر، الله أكبر.
(1/734)
ذكرى الهجرة النبوية
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
إسماعيل الخطيب
تطوان
1/1/1420
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الهجرة وأنه حَدَث عظيم أرّخ به الصحابة لأهميته في الإسلام 2- الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة وهجرة رسول الله إليها وما حصل في هجرته
_________
الخطبة الأولى
_________
ها نحن بالأمس ودّعنا عاما واستقبلنا اليوم عاما آخر، ودّعنا بالأمس عاما ماضيا شهيدا، واستقبلنا عاما مقبلا جديدا،، فليت شعري ماذا أودعنا في العام الماضي وماذا نستقبل في عامنا الجديد.
إن من آيات الله تعاقب الشهور والأعوام، وتوالي الليالي، وكل عام يمضي فلن يعود أبدا، لذلك كان على المؤمن العاقل أن يغتنم الأيام بالعمل الصالح الذي سيجد ثوابه في دار الجزاء.
لقد طوى ملف العام التاسع عشر من القرن الخامس عشر، طوى بما كان فيه من عمل صالح أو آثام، وجفت الصحف ورفعت الأقلام، والملائكة الكرام هم الكتاب والشهود على الأنام، فهنيئا لمن أحسن في العام الماضي واستقام، وليحاسب كل منا نفسه، وليتذكر ما قدمه، فإن كان خيرا حمد الله وشكره وإن كان شرا تاب إلى الله واستغفره.
لقد استقبلكم - أيها الأحباب – العام الهجري الذي اتفق الصحابة على جعله مبدأ لتاريخ الإسلام، وذلك لأنهم رأوا في الهجرة أعظم نصر حققه الإسلام، وميلادا جديدا للإسلام هذا الإسلام الذي أحيا به عقولا سممتها الشكوك والشبهات وأحل به من الأغلال أفكارا قيدتها الخرافات، والهجرة مثل رائع للثبات والصبر والتحمل وقوة الإيمان، فلقد قام الرسول بمكة يدعو الناس إلى الله، فأوذي وحورب وحوصر حتى أراد الله إظهار دينه فساق إليه نفرا من الأنصار من أهل المدينة فآمنوا ورجعوا إلى المدينة فدعوا قومهم إلى الإسلام، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا ودخلها الإسلام، وهكذا هيأ الله لرسوله دار الهجرة.
وقبل الهجرة إلى المدينة هاجر المهاجرون الأوائل إلى الحبشة، ففي الوقت الذي اشتد فيه أذى الكفار لرسول الله ولمن أسلم وجهه لله أذن الرسول في الهجرة إلى الحبشة وقال: ((إن بها ملكا لا يظلم الناس عنده)) فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلا وأربع نسوة في مقدمتهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار وتوالت الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فكان المهاجرون إلى المدينة يخرجون متسللين أولهم مصعب بن عمير فقدموا على الأنصار في دورهم فآووهم ونصروهم ثم أذن الله لرسول الله في الهجرة فخرج من مكة يوم الاثنين في شهر صفر وله إذا ذاك ثلاث وخمسون سنة ومعه أبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، ودليلهم عبد الله بن الأريقط فدخل غار ثور هو وأبو بكر فأقاما فيه ثلاثا ثم أخذا على طريق الساحل فوصلا إلى المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، فنزل بقباء وأسس مسجد قباء، (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) فأقام بها أربعة عشرة يوما ثم خرج يوم جمعة إلى المدينة فصلاها في بني سالم ثم سار راكبا ناقته وجعل الناس يكلمونه في النزول عندهم ويأخذون بخطام الناقة فيقول خلوا سبيلها فإنها مأمورة فبركت عند مسجده اليوم.
ولا يستطيع واصف أن يصف ذاك المشهد العظيم حين خرج أهل المدينة مهللين مكبرين فرحين بمقدم النبي الكريم وخرجت البنات فيما يرويه ابن هشام فرحات بمقدم النبي وهن ينشدن:
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
فقال لهن : ((أتحببنني، فقلن نعم، فقال : الله يعلم أن قلبي يحبكن)).
نعم – أيها الأحباب – هاجر المسلمون إلى الحبشة وهاجر النبي إلى الطائف، ثم هاجر مع أحبابه إلى المدينة وهنالك أقيمت دولة الإسلام، وقد شاء الله أن تقوم دولة الإسلام بالهجرة، وأن يحفظ الإسلام التضحية بالمال والوطن والحياة في سبيل الدين، وبذلك يضمن المسلمون لأنفسهم المال والوطن والحياة، من أجل هذا شرع مبدأ الهجرة في الإسلام والهجرة ألم وعذاب، فهي ليست هروبا من الأذى بل هي تبديل للمحنة ريثما يأتي الفرج والنصر، وها نحن نرى على مر التاريخ أن الهجرة كانت سبيلا للنصر والعزة، كما كانت هجرة محمد الخامس رحمه الله.
فهجرة النبي من مكة إلى المدينة بحسب الظاهر ترك للوطن وتضييع له لكنها كانت في الواقع حفاظا عليه وضمانة له، فقد عاد بعد بضع سنوات من هجرته عاد إلى وطنه الذي أخرج منه عزيز الجانب منصورا مظفرا من أجل كل ذلك أرخ المسلمون بالهجرة فلقد كانت نصرا وميلادا جديدا للإسلام.
وها نحن في مستهل عامنا هذا نجتمع مستحضرين لهذه الذكرى العزيزة فحق لنا أن نتوجه إلى ربنا خاشعين ضارعين قانتين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/735)
رمضان وأحكام الصيام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
إسماعيل الخطيب
تطوان
3/9/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل شهر رمضان وذكر الذين يُباح لهم الفطر فيه 2- متى يؤمرالصبي بالصوم وشأن الحائض وما يتعلّق بها من أحكم الصيام 3- المخالفات التي تقع في رمضان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة، ولقد كان سلفنا الصالح يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم، وكان من دعائهم إذا دخل شهر رجب : اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان، وكان من دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا، وكان النبي يبشر أصحابه بقدوم رمضان، وكيف لا، وهو شهر يفتح الله فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، شهر فرض الله صيامه كما فرضه على الأمم السابقة، ومن رحمة الله تعالى ولطفه وتيسيره أن سهل الصوم على أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بعدة أشياء، منها:
أن الصوم إنما يكون في نهار رمضان، قال تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل وجاءت السنة تدعوا إلى تعجيل الإفطار وتأخير السحور، وثبت أن أصحاب رسول الله كانوا أسرع الناس إفطارا وأبطأهم سحورا.
وفي أحكام الصيام يتجلى اليسر والتخفيف فالإفطار يباح لسبعة: للمسافر، والمريض، والحامل والمرضع، والهرم، ومن أرهقه الجوع والعطش، والمكره.
فالمرأة الحامل إن خافت على نفسها أو على ولدها أفطرت، وقضت، وكذلك المرضع، أما الشيخ الكبير والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يرجى شفاؤه، فهم يفطرون ويطعمون مسكينا بنحو صاع أو مد أو ما تيسر إن كانوا قادرين على الإطعام، وإلا فالله تعالى كريم جواد لا رب سواه.
ومن اليسر والتخفيف في الصيام أن قطرة الدواء في العين أو في الأذن لا تفطر وكذلك الطيب والكحل، وأخذ الدم للتحليل، والرعاف والحقنة، والشرجية (القوالب) والإبر غير المغذية والغبار، وذوق الطباخ للطعام دون دخوله إلى جوفه، ودواء الربو الذي يؤخذ بطريق الاستنشاق، وتنظيف الأسنان بمعجونها جائز طيلة النهار.
ومن أحكام الصيام التي يجب معرفتها: متى يؤمر الصبي بالصيام، إن الصبيان أمانة في أعناق مربيهم ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، لذلك كان على المربي أن يكلف الطفل ما يطيق وأن يزرع في نفسه الشعور بمسؤولياته تجاه ربه ودينه وقد أرشدنا الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أمر الطفل بالصلاة وهو في سن السابعة تدريبا له على تحمل مسؤوليات العبادة، وقد ذكر العلماء أن الطفل إذا بلغ عشر سنين وأطاق الصيام، أي كانت حالته الصحية تسمح له بالصوم، أخذ به، واستدلوا بأن النبي أمر بالضرب عندها على الصلاة، واعتبار الصوم بالصلاة أحسن لقرب إحداهما من الأخرى، ولقد كان الصحابة يصوّمون أطفالهم فإن بكوا من العطش أو الجوع شغلوهم بلعب يتلهون بها، وذلك لتنغرس العبادة في قلوبهم ويتعودوا عليها.
ومن أحكام النساء في الصيام أن المرأة إذا انقطع عنها دم الحيض بالليل وجب عليها أن تنوي الصيام ولو لم تغتسل إلا بعد الفجر، وكذلك النفساء متى انقطع عنها دم النفاس لعشرة أيام أو أكثر أو أقل تبادر إلى الاغتسال وتصلي وتصوم، فإذا اغتسلت الحائض والنفساء ثم رأت شيئا من الصفرة أو الكدرة فلا تبالي به بل تصلي وتصوم والحامل إذا رأت شيئا من الدم فإن ذلك الدم ليس بحيض وإنما هو دم فساد، فتصوم وتصلي وتسأل الله تعالى أن يحفظها ويعافيها، ويعينها، ويهبها ذرية صالحة بمنه وفضله وكرمه.
عباد الله: أقسم النبي أنه ما مر بالمسلمين شهر خير لهم من رمضان، شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وذلك بسبب تنافس الناس في العبادات والإكثار من الصلوات، وبذل الصدقات والإكثار من تلاوة كتاب الله والذكر والدعاء، إنه شهر القرآن لذلك كان على المؤمن أن يجتهد فيه في تلاوة القرآن، وأن ينظر إليه باعتباره شهرا للجد والاجتهاد، وتطهير القلوب من الفساد.
إنه شهر الصيام و((الصيام جُنّة)) كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، أي وقاية وسترة من الإجرام والآثام، من السب واللعن والغيبة والنميمة والكذب، فالمسلم إذا صام، صام سمعه وبصره ولسانه.
ولقد عمل الشيطان على إفساد ليل رمضان على من أطاعه وعصى الرحمان، فدعاهم إلى جعل ليله مناسبة للسهر على اللهو واللعب وزين لهم تقديم السحور مخالفة للسنة، وترك صلاة الفجر في وقتها، وما ذلك إلا من عدم معرفتهم بجلال هذا الشهر ومكانته وفضله وأنه شهر للعبادة والطاعة يتمنى أهل القبور أن لو مد الله في أعمارهم ليملأ ساعاته بما يرضي الله، وما يجدون ثوابه عند الله.
لقد عمل طائفة من الناس على إفساد شهر رمضان عندما جعلوا منه شهرا لاختيار ما لذ وطاب من الطعام والشراب، وعندما حولوا لياليه إلى ليالي للسهر في اللهو واللعب، ثم جاء عصر التلفاز والفضائيات فزادت الفساد فسادا بأشغال الناس بكل ما يصدهم عن ذكر الله.
رمضان شهر عبادة، فاستقبلوه بالتوبة واحرصوا فيه على الزيادة من كل أعمال الخير: من تلاوة القرآن وصلاة النوافل والذكر والصدقة وزيارة الأقارب وصلة الرحم، لتنالوا من عفوا الله ورحمته.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/736)
عيد الأضحى 1419هـ
العلم والدعوة والجهاد, فقه
أحاديث مشروحة, الذبائح والأطعمة
إسماعيل الخطيب
تطوان
10/12/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطبة الوداع التي خطبها رسول الله في مثل هذا اليوم ووقفات مع هذه الخطبة
2- حق الله تعالى على عباده وهو عبادته وحده
لا شريك له وأن من ذلك ذبح الأضاحي وبعض أحكام الأضحية
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
في مثل هذا اليوم خطب رسول الله في منى في حجة الوداع فقال: ((ألا تدرون أي يوم هذا، قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: أليس بيوم النحر، ثم قال: أي بلد هذا، أليست بالبلدة الحرام، ثم قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، آلا هل بلّغت، فقالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب ثم قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) [1] - الله أكبر.
عباد الله: هانحن اليوم نستمع إلى كلمات نبينا عليه الصلاة والسلام، كما استمع إليها ذلك الحشد المبارك من الذين حضروا معه في حجة الوداع، فقد بلّغ الشاهد، واستمع الغائب، وتناقلت القرون هذا التوجيه النبوي الداعي إلى حفظ الدماء والأموال والأعراض، ليعيش الناس في أمن واستقرار، وذاك هدف بارز من أهداف الإسلام.
وفي يوم عرفة وقف رسول الحق في صعيد عرفات ليعلن في الناس حقوقهم، ففي يوم الجمعة تاسع ذي الحجة عام عشرة خطب النبي بعرفات خطبة أعلن فيها عن الحقوق التي أقرها الإسلام لكل أحد.
أعلن الحقوق الأساسية التي لا تتحقق كرامة الإنسان إلا باحترامها، في مقدمتها حق الحياة، فقال: ((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم)) [2].
إن شريعة الإسلام عنيت عناية كبرى بالحفاظ على النفس، فليس للإنسان أن يعتدي على أية نفس بإزهاق روحها أو ربما دون ذلك، من الأضرار، وأعلن الكتاب الحكيم: أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، فقتل النفس الإنسانية، وانتهاك حق فرد واحد انتهاك لحق الجميع، الله أكبر.
ومن حق الإنسان أن لا يعتدي على ماله ولقد شدد الشرع على حفظ حق صاحب المال، فلا يؤخذ مال أحد إلا بطيب خاطر منه، ولصاحب المال أن يقاتل دفاعا عن ماله، قال عليه الصلاة والسلام: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)) [3].
ولعن الله كل من أخذ مالا بغير حق، قال عليه الصلاة والسلام: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)) [4] ، وقال ((لعن الله السارق..)) [5] ، وقال: ((لعن الله من غير منار الأرض)) [6].
وذلك باغتصابها، إن دين الله بهذا الموقف يعمل على محاربة الظلم المتمثل في أخذ أموال الناس بالباطل، ليظل المال، الذي هو في الواقع مال الله، محفوظا نافعا.
وفي خطبة عرفات بين النبي حق النساء، ونادى وقال: ((اتقوا الله في النساء)) [7] ، فنبه إلى خطورة امتهان النساء واحتقارهن ومنعهن من حقوقهن، ولقد أكد القضاء على الظلم الذي لحق النساء في الجاهلية، وهو ظلم يمكن أن يلحق بالنساء كلما ابتعد المجتمع عن تعاليم الإسلام، ووقع التفريط من النساء في الأحكام الخاصة بهن والتي تحقق لهن العزة والكرامة، إن حقوق المرأة مبينة بتفصيل في الكتاب والسنة، فما على النساء إن أردن خير الدنيا والآخرة إلا الالتزام بأحكام الإسلام ونبذ كل أمر يخالف أمر الله تعالى، الله أكبر.
وفي خطبة عرفات أعلن النبي هذا القرار: ((وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا)) [8] ، وفي ذاك اليوم والنبي يودع الدنيا، يعلن قرار الإسلام بمنع الربا، ويؤكد حرمته، ويصدر قرارا عمليا بإسقاط ربا عمه العباس ويقول: ((وأول رباً أضع رباناً، ربا العباس بن عبد المطلب)) [9] وهو بذلك يعطي المثال لعدالة الإسلام، التي لا تفرق بين طبقة وأخرى في الأحكام، كما أنها لا تسمح للأغنياء، باستغلال حاجة الفقراء، والربا استغلال فظيع لذلك جاء القرآن بأعظم تهديد لمن تعامل بالربا، فقال: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، أي فإن لم تنتهوا عن التعامل بالربا، فأنتم في حرب مع الله ورسوله والحرب لا تكون إلا بين الأعداء، الله أكبر.
وفي هذه الخطبة الجامعة أوصى الرسول أمته بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرها مادام عاملا بكتاب الله وسنة رسوله فقال: ((أيها الناس اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله تعالى)) [10] ، ولقد ذكر الناس أن كتاب الله هو العاصم من كل هلاك والأمان من كل ضلال، فقال: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة رسوله)) [11] ، فإذا نبذ الناس كتاب ربهم، وخالفوا شرع خالقهم حل بهم الهلاك والدمار والفساد.
وهذا النبي الحبيب الرؤوف الرحيم يحب لأمته الخير كله، والسعادة في الدنيا والآخرة لذلك حذرها – وهو يودعها في خطبة الوداع – من أن يصل بها الفساد إلى أن تتقاتل فيما بينها، كما تقاتل عدوها، فقال: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) [12] فحق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه لا أن يقاتله، فماذا يكون يوم الحساب جواب من سفك دما بغير حق ونبينا يقول: ((لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)) [13] ، قال ابن العربي: "ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالمسلم، فكيف بالتقي الصالح" [14]. وما جواب من حمل السلاح لتخويف الآمنين ونشر الرعب بين المسلمين ونبينا يقول: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) [15] ، إن نبي الله برئ من المفسدين الظالمين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
اللهم أصلح حالنا وحال المسلمين جميعا، وتغمرنا بلطفك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري في : الفتن ، باب : قول النبي : ((لا ترجعوا بعدي كفاراً)) (7078) ، في : القيامة والمحاربين ، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] هذا اللفظ كان في خطبته يوم العقبة أخرجه أحمد (4/76) مختصراً ، والطبراني في الكبرى (22/363-912) مطولاً من حديث أبي غادية الجهني ، قال الهيثمي في المجمع (9/298) : "رواه كله الطبراني وعبد الله باختصار ، ورجال أحد إسنادي الطبراني رجال الصحيح" ، أما خطبة عرفة فيلفظ : ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا...)) الحديث ، أخرجه مسلم في : الحج ، باب : حجة النبي (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في : المظالم والغصب ، باب : من قاتل دون ماله (2480) ، ومسلم في : الإيمان ، باب : الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم (141) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (2/212) ، وابن ماجه في : الأحكام ، باب : التغليظ في الحيف والرشوة (2213) واللفظ لهما ، وأخرجه الترمذي في : الأحكام ، باب : ما جاء في الراشي والمرتشي (1337) ، وأبو داود في : الأقضية ، باب : في كراهية الرشوة (3580) بلفظ : (لعن رسول الله الراشي والمرتشي)، من حديث عبد الله بن عمرو ، قال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح" وصححه ابن حبان (11/468) ، وقال الحاكم (4/115) : "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وصححه الألباني في الإرواء (2621).
[5] أخرجه البخاري في : الحدود ، باب : لعن السارق إذا لم يسم (6783) ، ومسلم في : الحدود ، باب: حد السرقة ونصابها (1687) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في : الأضاحي ، باب : تحريم الذبح لغير الله تعالى (1978) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[7] أخرجه مسلم في : الحج ، باب : حجة النبي (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[8] أخرجه الترمذي في : تفسير القرآن ، باب : سورة التوبة (3087) ، وأبو داود في : البيوع ، باب : في وضع الربا (3334) ، وابن ماجه في : المناسك ، باب : الخطبة يوم النحر (3055) من حديث عمرو ابن الأحوص ، بنحوه. من غير لفظ : ((قضى الله....)). فلم أجده ، وليس فيه ما يدل على أنها في عرفة ، قال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح". وحسنه الألباني كما في صحيح الترمذي (2464).
[9] أخرجه مسلم في : الحج ، باب : حجة النبي (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[10] أخرجه أحمد (4/70) واللفظ له ، وأصله في مسلم كتاب : الإمارة ، باب : وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (1838) من حديث أم الحصين.
[11] أخرجه مسلم في : الحج ، باب : حجة النبي (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما دون قوله : ((وسنة رسوله)).
[12] أخرجه البخاري في : العلم ، باب : الإنصات للعلماء (121) ، ومسلم في: الإيمان ، باب : معنى قول النبي : ((لا ترجعوا بعدي كفار)) (65) من حديث جرير رضي الله عنه.
[13] أخرجه الترمذي في: الديات ، باب : ما جاء في تشديد قتل المؤمن (1395) ، والنسائي في : تحريم الدم ، باب : تعظيم الدم (3986) واللفظ له من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. ورجح الترمذي وفقه ، وقال : "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعطية بن عامر وابن مسعود وبريدة". وكذا البراء عن ابن ماجه (2619). قال المنذري في الترغيب (3/202) : "إسناده حسن". وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[14] انظر : فتح الباري لابن حجر (12/189).
[15] أخرجه البخاري في : الفتن ، باب : قول النبي : ((من حمل علينا السلاح)) (7070) ، ومسلم في : الإيمان ، باب : قول النبي : ((من حمل علينا السلاح)) (98) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر....((7مرات)).
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله الذي بعث نبينا محمدا رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، بعثه بدين الهدى والرحمة، والحق والعدل والمساواة، فأنقذ الله به من الهلاك، وهدى به من الضلالة، نشهد أنه الله لا إله إلا هو ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: لقد أصبح الحديث عن الحق والحقوق يتكرر باستمرار في عصرنا، وإن من حق الإنسان أن يعرف حقوقه وأن يجتهد لينالها، لكنه ليس من حقه أن ينسى حق خالقه، ولذلك نبه النبي أمته لهذا الأمر فقال: ((يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، قال: الله ورسوله أعلم قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حقهم عليه، قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم)) [1].
فحق الله على العباد أن يعبدوه وحده، والعبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، فالصلاة والصيام والزكاة والحج عبادة، وذكر الله بالقلب واللسان وتلاوة القرآن عبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحكم بشرع الله عبادة واجتناب المحرمات من خمر وقمار وربا وغيبة، ونميمة وكذب، عبادة وإعانة الضعيف ورعاية الفقير والإحسان إلى اليتيم عبادة، والقيام بالأعمال النافعة من تجارة، وصناعة، وتيسير لمصالح الناس، عبادة، وهكذا.. الله أكبر.
فكل عمل يرضاه الله ويحبه، عبادة، من ذلك هذه الأضاحي التي تتقربون بها اليوم إلى ربكم، فليس هناك عمل أحب إلى الله اليوم من إراقة دم، وهذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والسلام، وهي سنة مؤكدة لمن قدر عليها، وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها لما في ذلك من إحياء للسنة، ومن لم يقدر على الأضحية فقد ضحى عنه النبي [2] جزاه الله عن أمته خير الجزاء.
واعلموا أن للذبح شروطا منها: أن يكون في الوقت المحدد ويبدأ بذبح الإمام بالمصلى وينتهي بغروب الشمس ثالث العيد.
ومن كان يحسن الذبح فليذبح أضحيته بيده فإن لم يتمكن فليوكل مسلما مصليا، ويقول عند الذبح بسم الله والله أكبر.
واذبحوا برفق وحدّوا السكين، ولا تظهروا السكين للضحية، ولا تذبحوها وأختها تنظر إليها، وأمروا السكين بقوة وسرعة، ولا تسلخوها أو تكسروا رقبتها قبل أن تموت، وكلوا من الأضاحي واهدوا وتصدقوا، ولا تبيعوا شيئا منها، واسألوا الله أن يتقبل منكم الله أكبر.
وأيام العيد أيام أكل وشرب وذكر فكبروا الله تعالى بعد الصلوات المفروضة من ظهر يومكم هذا إلى صبح اليوم الرابع. وأكثروا من الصلاة والسلام على من أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور.
[1] أخرجه البخاري في : التوحيد ، باب : ما جاء في دعاء النبي (7373) واللفظ له ، ومسلم في : الإيمان ، باب : الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة (30) من حديث معاذ رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/356) ، والترمذي في : الأضاحي ، باب : العقيقة بشاة (1521) ، وأبو داود في : الضحايا ، باب : في الشاة يضحى بها عن جماعة (2810) من حديث جابر رضي الله عنهما ، قال الترمذي : "هذا حديث غريب من هذا الوجه والعمل على هذا عند أهل العلم". وصححه الألباني في الإرواء (1638).
(1/737)
عيد الفطر 1419هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, الآداب والحقوق العامة, محاسن الشريعة
إسماعيل الخطيب
تطوان
1/10/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة الإسلام إلى النظافة والجمال في البدن والملبس وفي الطريق وغيره
2- اعتناء الإسلام بالطرقات وجعْل آداب لها 3- الحضارة الحقّة هي الإيمان واتباع شرع الله تعالى 4- شكر نعمة الله على إنزال المطر وحثّ الناس على أداء الزكاة لأن منعها سبب لمنع المطر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: يقول الله عز وجل: يَـ?بَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـ?تِ مِنَ ?لرّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كَذَلِكَ نُفَصِلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:31، 32].
معاشر المسلمين، ها أنتم أكملتم صيام شهركم، ورفعتم أصواتكم بالتكبير تمجيدا لربكم، وفرحا بالثواب العظيم، الذي بشر به النبي الكريم من صام رمضان وقامه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)) [1] الله أكبر.
وها أنتم معاشر المسلمين عملتم بأمر ربكم الذي دعاكم إلى أخذ زينتكم من اللباس اللائق عند الصلاة، لا سيما صلاة الجمعة والجماعة وفي العيدين، فقد علمتم أن إطلاق الأمر في الآية يدل على وجوب الزينة للعبادة، ليكون المؤمن عند عبادة الله تعالى مع عبادة المؤمنين في أجمل حالة، إنه مظهر حضاري جميل يعطي الدليل على أن الإسلام دين حضارة ومدنية ورقي، وحضارة الإسلام صدرت عن أساس هو الركيزة الأولى لها وهو الوحي المتمثل بكتاب الله وسنة رسوله.
وتذوق الجمال من الحضارة التي جاء بها الإسلام، فها هو القرآن يوجه النظر إلى الجمال في خلق الله، قال عز وجل: وَ?لاْنْعَـ?مَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَـ?فِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:5، 6]، ويقول سبحانه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ?لأرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7]، وقد وجهنا القرآن إلى النظر في هذا الكون للتملي بجمال السماء ونجومها، والأرض ونباتها، والبحار وأمواجها، والطير وتسبيحها، لنعلم عظمة خالقها - الله أكبر.
عباد الله، الله جميل يحب الجمال، كما جاء في الحديث [2] ، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة. ولذلك شدد الإسلام على أمر النظافة، فحث على تنظيف الجسد وتنظيف اللباس، وتنظيف الأواني، وتنظيف الطرقات، والحضارات الإسلامية، وهي التي تمتاز في كونها تخضع لتعاليم الإسلام وتوجيهات الوحي لم تدع جانبا من جوانب الحياة إلا وصممت له، وقد اعترف الباحثون من الغربيين أنه بينما كانت سائر بلدان أوربا تتمرغ شوارعها في الأوحال والأوساخ كانت مدن البلاد الإسلامية نظيفة منظمة، شوارعها معبدة ومضاءة.
وما ذلك من المسلمين إلا تطبيق عملي لأوامر النبي الكريم الذي دعاهم إلى تعبيد الطرقات وتنظيفها وأرشدهم إلى ما يتعلق بهندستها واتساعها: عن أبي هريرة قال: ((قضى النبي إذا تشاجروا في الطريق الميتاء سبعة أذرع)) [3] ، فأقل مساحة لعرض الطريق الميتاء، هي سبعة أذرع وذلك لتتسع للمارة، ولذلك وجدنا أن عمر بن الخطاب لما أذن ببناء البصرة والكوفة خطوا الشوارع على عرض عشرين ذراعا.
ولقد نبه نبينا عليه الصلاة والسلام إلى حق الطريق الذي يجب أن يراعى، عن أبي برزة قال: قلت: يا نبي الله علمني شيئا أنتفع به، قال: ((اعزل الأذى عن طريق المسلمين)) [4] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الإيمان بضع وستون أو سبعون شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق وأرفعها قول لا إله إلا الله)) [5]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين)) [6] الله أكبر.
إذا علمنا هذا تبين لنا مستوى الحضارة والمدنية الذي كانت عليه شوارع المدن الإسلامية، وكان علينا أن نعلم أن من حق الطريق أن تكون منفعته عامة للناس، فلا يحتكره محتكر ولو للصلاة: عن سالم عن أبيه أن النبي نهى أن يصلى على قارعة الطريق، فإذا كان رسول الهدى قد نهى عن الصلاة في الطريق، ووقت أداء الصلاة قصير، وذلك حتى لا تضيق الطريق على الناس ولو لفترة قصيرة، فما بالك بتحويل الطريق إلى أسواق تتسبب في تضييقها وتلويثها مما يعتبر أذية كبيرة للناس الذين من حقهم أن يمشوا في طريق واسعة ونظيفة.
إن المسلمين اليوم بحاجة إلى وعي حضاري ينتشلهم من مظاهر الابتعاد عن هذه الحضارة العظيمة التي جاء بها الإسلام.
اللهم أصلحنا وأصلح أعمالنا وتقبل منا إنك سميع مجيب.
[1] أخرجه أحمد (2/174) واللفظ له، والحاكم (1/554) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم"، وقال المنذري في الترغيب (2/10): "رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله محتج به في الصحيح". وقال الهيثمي في المجمع (3/181): "رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح". وقال في (10/381): "رواه أحمد، وإسناده حسن على ضعف في ابن لهيعة، وقد وثق". وحسنه الألباني في تمام المنة (ص394).
[2] أخرجه مسلم في: الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في: المظالم والغضب، باب: إذا اختلفوا في الطريق الميتاء (2473) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بنحوه.
[4] أخرجه مسلم في: البر والصلة، باب: فضل إزالة الأذى عن الطريق (2618).
[5] أخرجه البخاري في: الإيمان، باب: أمور الإيمان (19) ومسلم في: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بنحوه.
[6] أخرجه مسلم في: البر والصلة، باب: فضل إزالة الأذى عن الطريق (1914) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، الحمد لله معيد الجمع والأعياد، الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، الحمد لله لا شريك له ولا ند ولا مضاد. وأشهد أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله فضله على جميع العباد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد.
أما بعد:
فلقد قامت حضارة الإسلام على الإيمان، والحضارة إذا لم يشدها الإيمان والعلم والفضيلة، دمرها الكفر والجهل والرذيلة، ولقد ضل أقوام فهموا أن الحضارة هي احتساء الخمر ولعب القمار والانخراط في المجون والرذيلة، وأن العري والاختلاط والتكلم بلغة أجنبية، وخلع ثوب الحشمة والفضيلة ورداء الأدب والعفة، تقدم وحضارة، بئس ما فهموا.
إن الحضارة هي الأدب الرفيع والفكر النقي والقلب التقي. والأخلاق والأمانة والعزة والكرامة.
إن الأمة المتحضرة هي التي تبني اقتصادها على التعاون والصدق والأمانة.
إن الأمة المتحضرة هي التي تأخذ بيد الضعيف، وتنصر المظلوم وتحارب كل مظاهر استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
وحضارة الإسلام حضارة عالمية في رسالتها، إنسانية في نزعتها، خلقية في اتجاهاتها، واقعية في مبادئها، وهي بذلك الحضارة الباقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، الله أكبر.
عباد الله، يقول الله عز وجل: وَهُوَ ?لَّذِى يُنَزّلُ ?لْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى:28].
وها قد استجاب الله دعاءكم بعد ما خرجتم ضارعين تسألونه الغيث والرحمة، فنزلت أمطار الخير التي عمت البلاد، وبعثت في النفوس الفرحة والأمل. فحق علينا أن نقابل هذا الفضل العميم، بالشكر للعلي الكريم، وإذا كنا نعلم أن منع أداء الزكاة سبب من أسباب انحباس المطر، فإن علينا أن نذكر أنفسنا بوجوب أداء الزكاة فهي حق الفقراء والمساكين، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله تعالى، من جحد وجوبها كفر ومن منعها بخلا وتهاونا نسب إلى الفسق والضلال، ومن أداها معتقدا وجوبها راجيا ثوابها. فليفرح بالخير الكثير والبركة من الله تعالى في ماله ونفسه وأهله، الله أكبر.
عباد الله، ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم الله تعالى فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا)).
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد صاحب اللواء المعقود والحوض المورود والمقام المحمود، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم بمنك وفضلك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
(1/738)
غزوة بدر
سيرة وتاريخ
غزوات
إسماعيل الخطيب
تطوان
17/9/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
غزوة بدر ووقوعها في رمضان وأن الله نصر فيها المسلمين مع قلة عَددهم وعُددهم –ذِكر أهمية الجهاد وأنه بتركه ضاعت مواضع من بلاد المسلمين ولن تعود إلا به
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم.
عباد الله، في شهر الصيام وقعت الغزوة الكبرى التي انتصر فيها الإسلام، والتي سميت في القرآن بيوم الفرقان، والتي قال النبي فيمن حضرها، ((لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة)) [1]. في السنة الثانية من الهجرة فرض صيام شهر رمضان، وفي أول رمضان يصام في الإسلام وقعت غزوة بدر الكبرى في يوم الجمعة السابع عشر منه. فقد شاء الله تعالى أن تقع هذه الغزوة في شهر الصبر الذي يطلب فيه من أهل الإيمان أن يغتنموه بالعبادة وكثرة الصلاة وقراءة القرآن والذكر والصدقة والإحسان، وهكذا أضاف ذاك الجيل المبارك من صحابة رسول الله إلى كل ذلك، جهادا بالنفس والمال لإعلاء كلمة الله وقمع عصابة الشرك والطغيان.
لقد علّمهم النبي عليه الصلاة والسلام أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، وعلمهم أنه بالصبر يظهر الفرق بين أصحاب العزائم والهمم وأهل الجبن والضعف، وعلمهم أن العبادة لا تؤدي كما أمر الله إلا بالصبر، وأن المعاصي لا تجتنب إلا بالصبر، وأن على المؤمن أن يصبر على ما قدره الله وقضاه فلا يتسخط ولا يضجر عند نزول البلاء، وتلا عليهم قول الله تعالى: ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ، وقوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ، أي اصبروا على الطاعة ولازموها واصبروا عن الشهوات وامتنعوا عنها ورابطوا إما في الثغور في مواجهة العدو أو انتظار الصلاة في المساجد ثبت في الصحيح أن النبي قال : ((ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط)).
وبالصبر يتحقق النصر بإذن الله، فهاهم أهل بدر عندما وقفوا في وجه أعداء الله خاطبهم النبي بقوله: ((ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين)) لقد رأى أهل بدر أن عدوهم يبلغ ثلاثة أضعاف عددهم وتتوفر معه مؤونة وسلاح وأنه جاء مستعدا متهيئا للقتال، بينما هم على العكس من ذلك، لقد كان الموقف حرجا جدا، فقريش في عز قوتها، والمسلمون في ضعف مادي شديد، ولذلك كان من دعاء النبي في ليلة بدر: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)) فلو انهزم المسلمون في بدر لما قامت للإسلام قائمة، ولذلك بشر النبي أهل بدر بنزول ثلاثة آلاف من الملائكة، وأنهم إن صبروا على شدة الحرب وثبتوا في المعركة فإن الله تعالى يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة، قال تعالى: بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين روى البخاري أن النبي قال يوم بدر ((هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب)) ، وقال في رواية أخرى: ((جاء جبريل النبي فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم، قال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة)).
والنبي قاد المسلمين في غزوة بدر وشارك في القتال، عن علي قال: ((لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله وهو أقربنا من العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسا)) فكان يجاهد بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى ويقاتل ببدنه جمعا بين المقامين الشريفين.
وحقق الله تعالى لعباده المؤمنين الصابرين النصر على عدوهم رغم قلة عددهم وعددهم، قال تعالى: ولقد نصركم الله ببدر وأنت أذلة بسبب قلتهم ولكن الله تعالى نصرهم لصبرهم وثباتهم والله تعالى ينصر المؤمنين الصابرين الصادقين.
عباد الله، بين الله تعالى في كتابه الحكيم أن الجهاد في سبيله هو التجارة التي تنجي من عذاب أليم، قال العلماء نزل قوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم في عثمان بن مظعون وذلك أنه قال لرسول الله : لو أذنت لي فطلقت خولة وترهبت واختصيت وحرمت اللحم ولا أنام بليل أبدا ولا أفطر بنهار أبدا، فقال رسول الله : ((إن من سنتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس مني)). فقال عثمان فمن والله لوددت يا نبي الله أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها فنزلت الآية.
فبالجهاد في سبيل الله ينجو المؤمن من عذاب الله وبالجهاد في سبيل الله انتصر المسلمون على أعداء الله وعندما ترك المسلمون الجهاد ضاعت الأندلس وغيرها من بلاد الإسلام، وهاهي اليوم فلسطين تضيع بسبب ترك الجهاد في سبيل الله والمسجد الأقصى وفلسطين لن يعودا إلى المسلمين إلا بالجهاد في سبيل الله، وغزوة بدر ستبقى درسا للمسلمين يتعلمون منها أن الله تعالى يؤيد المؤمنين الصابرين، ويمدهم بمدده الذي لا ينفد، فهو سبحانه وتعالى القائل: وكان حقا علينا نصر المؤمنين.
[1] صحيح مسلم (النووي 16:55).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/739)
لا عدوى ولا طيرة ولا هامة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أمراض القلوب
إسماعيل الخطيب
تطوان
15/2/1416
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
حديث " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر " وشرحه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عن أبي هريرة ، عن النبي قال: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)) [1].
عباد الله، جاء الإسلام بدعوة التوحيد الخالص (لا إله إلا الله) فالله وحده هو الإله المعبود الذي يستحق العبادة، وعليه وحده التوكل، ولا يعمل إلا لأجله وتلك كانت دعوة الرسل جميعا، قال تعالى: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون.
والله وحده له الحكم والأمر، هو سبحانه المتفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، والكل تحت ملكه وقهره، وإنه لمن الضلال المبين أن يعتقد معتقد أن غير الله قد يضر أو ينفع أو يعطي أو يمنع، قال تعالى: أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون.
ولقد وصل الحال بأهل الشرك والضلال إلى الخوف من أشياء وهمية، فجاء الإسلام ليثبت أن الفاعل الحق هو الله وحده، وهذا الحديث ينفي تأثير هذه الأربعة بنفسها.
أولها العدوى، فقال : ((لا عدوى))، أي على الوجه الذي يعتقده المشركون من إضافة الفعل إلى غير الله، فالإنسان المسلم يبتعد عن ما يسبب انتقال المرض إليه، كابتعاده عن الزنى حتى لا يصاب عن طريق العدوى بأمراضه الخطيرة، وكابتعاده عن المجذوم، وهو في الوقت نفسه على يقين بأنه لا يقع شيء إلا بأمر الله وحده.
ثانيها: الطيرة، فالرسول ينفي حقيقة الطيرة، وأنها اعتقاد باطل، يخالف التوحيد الذي من استمسك به، وتوكل على الله، قطع دابر الظنون الباطلة، وإنك لتعجب ممن ينتسب إلى الإسلام، ويعتقد أن الأمر بيد الله وحده، وهو مع ذلك يتطير من أشياء، وربما ورث ذاك التطير عن الآباء والأجداد.
ثالثها: الهامة، طائر من طير الليل (البومة) وكان أهل الجاهلية يتشاءمون بها، فإذا نزلت على بيت أحدهم قال: نعت إلى نفسي أو أحدا من أهل داري، فأثبت النبي أن لا شؤم بالبومة أو غيرها، قال عكرمة: كنا جلوسا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر.
فبادر بالإنكار، لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر، ولينفي بذلك كل اعتقاد خرافي وهمي لا أصل له ولا حقيقة.
رابعها: صفر، وهو شهر من شهور السنة القمرية يأتي بعد الأشهر الحرم، وكان أهل الجاهلية يقولون: إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي ذلك الاعتقاد، ولذلك سماه المسلمون صفر الخير، ردا على اعتقاد أهل الجاهلية بأنه شهر شؤم وشر، وهذا التشاؤم هو من الطيرة المنهي عنها وإلى عهد قريب كان الناس يتشاءمون بيوم الأربعاء، كما كان العرب في الجاهلية فلا يحلقون فيه حتى كانت دكاكين الحلاقة تقفل أبوابها.
إن الإسلام – معاشر المسلمين – ينبذ ويحارب كل فكر خرافي وثنى، ويدعو الناس إلى الإيمان بالإله الواحد الأحد الذي له وحده الملك والأمر لا إله إلا هو ولا رب سواه. فادعوه مخلصين له الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
[1] رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/740)
مخالفات نسائية
الأسرة والمجتمع, فقه
المرأة, النكاح
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكم زواج الرجل المسلم بغير المسلمة وحكم زواج المسلمة بغير المسلم
2- التحذّير من فتنة النساء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن.
عباد الله: لما بدأ المسلمون يهاجرون إلى المدينة، كان من الذين يريدون الهجرة نساء مؤمنات، أزواجهن كفار، فنزل حكم الله يقرر أن المرأة إذا أسلمت فقد حرمت على زوجها الكافر، فلا هي تحل له ولا هو يحل لها.
هذا حكم الله، فالزواج من غاياته إقامة الأسرة المسلمة، وتنشئة الأبناء على الإسلام، وهذا أمر لا يتأتى إذا كان الزوج كافرا، والإسلام إنما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية لأن القوامة للزوج وعلى المرأة أن تطيعه في المعروف وزواجه بها قد يكون سببا في إسلامها، فعثمان بن عفان تزوج بنائلة بنت القراقصة، وهي نصرانية فأسلمت عنده، ولذلك بين العلماء أن الزواج بالنصرانية أو اليهودية مكروه، ذلك لأنها قد تفتنه عن دينه، أو يميل لأهل دينها ويبتعد عن أهل دينه، وهذا أمر مشاهد معروف.
أما زواج المسلمة بغير المسلم، على أي دين كان فقد حرمه الإسلام، والحكمة من هذا التحريم بينة ظاهرة.
إذا علم هذا – معاشر المسلمين – فقد ذكرناكم بهذا الحكم الإلهي لأن طائفة لا ندري عددها من نساء المغرب خارج الوطن يعملون في أمور غير مباحة كالدعارة وغيرها.
ولا يمكن أن نسمي تلك العلاقة المحرمة زواجا فللزواج أركان لابد منها فإذا لم تتحقق فإنما هو الزنا، ولذلك فلا يحق لنا أن نقول، إن فلانة تزوجت بفلان النصراني بل نقول إنها تزني معه والأولاد الذين يأتون نتيجة تلك العلاقة هم أولاد زنى.
إن هذا الأمر الخطير يبين لنا إلى أي حد وصل الاستهتار بالدين، وعدم المبالاة بأحكامه وإلى أي مدى بلغت الجرأة على الله، فهذه المرأة التي تعاشر كافرا لم تصل إلى هذا الدرك الأسفل حتى انسلخت شيئا فشيئا من دينها، فلم يعدلها من الإسلام أي التزام، وكل ذلك نتيجة لضعف الإيمان أو عدمه.
إن النبي عليه الصلاة والسلام حذر أمته من فتنة النساء، فقال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) وهذه الفتنة لا تتحقق إلا إذا خالفت النساء أمر ربهن.
فإذا تركت النساء اللباس الشرعي وتعرين كانت الفتنة.
وإذا نزعن اللباس على الشواطئ، كانت الفتنة وإذا اختلطن بالرجال خاصة في الحفلات كانت الفتنة.
وإذا سافرت المرأة وحدها دون محرم كانت الفتنة، فالفتنة والإفساد، نتيجة حتمية لمخالفة أمر الله.
لما أهبط آدم أوحى الله إليه أربع فيهن جماع الأمر لك ولولدك من بعدك، أما الأولى فلي، وأما الثانية فلك، وأما الثالثة فبيني وبينك وأما الرابعة فبينك وبين الناس؟
أما التي لي فتعبدني ولا تشرك بي شيئا.
وأما التي لك فعملك أجزيكه أفقر ما تكون إليه.
وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة.
وأما التي بينك وبين الناس فتصاحبهم بما تحب أن يصاحبوك به.
أربع من حصل عليها واجتمعت عنده اجتمع له خير الدنيا والآخرة: امرأة صالحة عفيفة، وحديث موافق على طاعة الله ومال من حلال واسع ينفقه في مراض الله وعمل صالح.
اللهم اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، وامنن علينا بالعفو والعتق من النار.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/741)
مداومة العبادة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
إسماعيل الخطيب
تطوان
15/5/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذِكر قوله تعالى ( وقوموا لله قانتين ) ثم ذِكر معنى القنوت والحث على الحرص عليه
2- فضل المداومة على الأعمال الصالحة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا سبحانه في كتابه الحكيم: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين.
عباد الله : القنوت هو لزوم الطاعة والخضوع لله سبحانه وتعالى، وأهل الملل المختلفة يقومون في عبادتهم المنحرفة عاصين ضالين، فقيل لهذه الأمة قوموا لله طائعين خاشعين، وطول القيام في الصلاة قنوت، قال عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الصلاة طول القنوت)) [1] ، فالذي يطيل القيام والقراءة والدعاء في الصلاة يسمى قانتا، ودعاء القنوت تطول به الركعة، وقد بين العلماء أن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء، لذلك سمى من يدوم على الطاعة قانتا، وقد مدح الله تعالى من قام في الليل وصلى وأطال القيام والسجود، قال تعالى: أمّن هو قانت ءاناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه فبين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر فالمؤمن مطيع خاشع في صلاته يطيل قيامها ويدعو ربه وهو على أحسن حال من نظافة القلب، وإخلاص التوجه، ونظافة الثياب وعدم الإلتفات والعبث، فالقنوت الذي هو الطاعة يتنافى مع العبث والالتفات في الصلاة، وهو من صفات المؤمنين، قال تعالى: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات.. الآية، وخاطب سبحانه نساء النبي فقال: ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما وأمر تعالى مريم أن تطيل القيام في الصلاة وتديم الطاعة، فقال سبحانه: يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، وبين تعالى أن المرأة الصالحة هي التي تدوم على طاعة ربها وزوجها، فقال سبحانه: فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ، فالصالحات هن المحسنات لأزواجهن، الحافظات للغيب، يعني غيبة زوجها، فلا تفعل في غيبته ما يكره أن يرى منها في حضوره فهي دائما على العهد والوفاء لزوجها، قال : ((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)) [2].
ونوّه الله تعالى في كتابه الحكيم بذكر خليله إبراهيم وقال عنه: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين. قال ابن مسعود: الأمة الذي يعلم الناس الخير والقانت هو المطيع لله تعالى، وإبراهيم عليه السلام كان قائما بحق الله صغيرا وكبيرا، ما عبد إلا الله، ودعا قومه إلى عبادة الله، فكسر الأصنام، وواجه قومه بالعداوة في وقت انفرد فيه وحده بالإيمان، وعندما تزوج سارة، قال لها: كما في صحيح البخاري: ((ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك)) ، وظل دائما مستمسكا بحبل الله، فأعطاه الله فلم يبعث نبياً بعده إلا من ذريته، وأعطاه الله الذكر الجميل في الدنيا، وأوحى الله إلى نبينا محمد وأمته أن اتبع ملة إبراهيم فإنه كان حنيفا أي مخلصا مسلما.
عباد الله: إن القنوت وهو المداومة على العمل عنوان على الإيمان والتمسك بحبل الله، وقد ورد في السنة الترغيب في المداومة على العمل وإن كان قليلا. روى البخاري ومسلم أن رسول الله قال: ((سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)) فأمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بالسداد، وهو تحري الصواب أي أن لا نعمل عملا إلا بدليل من الكتاب والسنة فالله تعالى لا يعبد إلا بما أمر، ثم قال: ((وقاربوا))، أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة فيفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل، ثم بين عليه الصلاة والسلام أن أحدا لن يدخل الجنة بعمله بل برحمته سبحانه، وحث نبينا عليه الصلاة والسلام على مداومة العمل الصالح وإن كان قليلا. وقراءة القرآن من أجل العبادات وقد قرأه عبد الله بن عمرو في ليلة، فقال له رسول الله : ((إني أخشى أن يطول عليك الزمان وأن تملّ فاقرأه في شهر)).
وهكذا الأمر في سائر الأعمال: في صلاة الليل وفي الذكر وفي الصوم، على المؤمن أن يسلك السبيل الوسط وأن يداوم على عمله الصالح حتى يلقى الله تعالى، قال سبحانه: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
[1] رواه مسلم.
[2] سنن ابن ماجة – كتاب النكاح ، باب أفضل النساء.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/742)
فخ العولمة
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
دعوة العولمة , معناها وخطورتها – بعض مظاهر العولمة – محاذير الإنترنت – المؤتمرات
والمؤامرات ( السكان , المرأة.. ) – المنظمات الدولية ودورها الخبيث – أثر الاقتصاد
وخطورة الاقتراض من الدول الكافرة – كيف نواجه العولمة
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: إن فخا عظيما ينصب لأمة الإسلام اليوم يراد لها أن تقع فيه فتضمحل في غيرها وتفقد خصوصيتها وتخسر خيريتها وشهادتها على الناس إنه فخ العولمة الذي تنصب شراكه هذه الأيام شعاره المصير الواحد للبشرية هدفه إزالة الحواجز الدينية والأخلاقية وتذويب الفروق بين المجتمعات الإنسانية المختلفة وإشاعة القيم المشتركة التي يراد لها أن تجمع البشر بزعمهم وسيادة المال وحرية التجارة عبر الدول والنفاذ إلى المجتمعات بعيدا عن هيمنة حكوماتها فتضعف بذلك السلطات المحلية ويحل محلها سلطات أخرى تنتظم مجموعة الدول التي وقعت في الشراك عبر شركات كبرى تجوب الأرض طولا وعرضا لا تعوقها حدود ولا تضايقها قيود ولا تراعي خصوصيات لبلد لسان حالها من رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ومن مظاهرها التي تم شيء منها وبعضها في الطريق شبكات المعلومات العالمية الإنترنت والتي يصعب السيطرة عليها إلا بإلغاء نظام الإتصال أصلا وهذا لا تفكر أي دولة بالإقدام عليه أما الرؤى والأخلاق والثقافات والمواقف التي تطرح عبر هذه الشبكات فهي بمنأى عن سيطرة الدول وتحكمها وفيها من الإختلاط والتوصل إلى الشعوب ما ينذر بخطر عظيم على ما فيه من خير لا يتطلبه إلا علماء الناس وحكماؤهم وما أكثر الناس بعالمين ومن مظاهرها المواطئة لها شبكات الإتصال والإعلام عبر الأقمار الصناعية من خلال أطباق الإستقبال التي تعلو كثيراً من بيوت المسلمين وتنشر فيهم ثقافات وقناعات وتغرس في أبنائهم وبناتهم قيما ومبادئ وأخلاقا ما كان يعرفها أحد من آبائهم المحافظين حتى أصبح ما يشبه إنفصاما نكدا بين ثقافة الوالدين وقناعاتهم وقيمهم وأخلاقهم وبين كل ذلك في الأولاد واستسلم كثير من الأولياء وأعلن عجزه عن تربية أولاده وما ذاك إلا لأن هناك من يزاحمه بل من يبعده ويحتل موقعه في تربية فلذات كبده وهي هذه القنوات التي تصب عليهم بالليل والنهار أخلاقاً وقيماً ومبادئ وأفكاراً مستمدة من قيم وأفكار ومبادئ القائمين عليها وأكثرهم من اليهود ومن شايعهم من الصليبيين ومنها هذه المؤتمرات التي تعقد بين الفينة والأخرى بهدف فرض رؤى العولمة بفرض رؤى غريبة عن المجتمعات الإسلامية حتى تفقد هويتها وتضمحل في غيرها ومنها مؤتمر السكان بالقاهرة والذي تدخل في أمور شرعية هي من المسلمات عند المسلمين وقاطعته هذه البلاد والحمد لله واستنكره في حينه علماؤنا في هذه البلاد وفي مصر ولله الحمد وفي كثير من بلاد المسلمين ثم مؤتمر السكان بلاهاي ومؤتمر المرأة ببكين ومؤتمر الإسكان بإسطنبول وكلها نوع من العولمة لقيم غريبة غربية محددة لسحب المجتمع الدولي والمجتمع الإسلامي بخاصة إلى الوحل الأخلاقي والإجتماعي الذي انحدر إليه الغرب فالأسرة في المجتمعات الإسلامية تعد ركيزة إجتماعية متماسكة قوية وهي في الغرب تعد من مخلفات الماضي ولذا يحرصون على هدم هذه الركيزة عند المسلمين عبر هذه المؤتمرات عبر إخراج المرأة من تميزها النوعي والإنساني والكثافة السكانية وهي قوة بشرية يتمتع بها العالم الإسلامي تمثل هاجساً مخيفاً للغرب يسعى لتقليصه عبر هذه المؤتمرات وتوصياتها أما الوسائل التي عن طريقها تفرض رؤى العولمة فهي المؤتمرات والمنظمات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والمجلس الإقتصادي والإجتماعي ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة العمل الدولية ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونسكو وغيرها إن المال والإعلام هما السلاحان النافذان في عصر العولمة فمن ملكهما كانت له السيطرة والنفوذ وقد قال أحد حكماء الغرب قبل خمسمائة عام : إذا حاربت بسيف المال فستكون الغالب دائما وقد أخبرنا الله تعالى عن هذا عن اليهود ونظرتهم إلى المال فقال جل وعلا عن قولهم في طالوت: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال وقال جل وعلا عن المنافقين: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا إن من ملك المال والإعلام هو من سيفرض مفاهيمه وقيمه ومبادئه على الآخرين في عصر العولمة وهو الذي سيحدد المعايير ويدفع الهيئات والمؤسسات نحو ما يريد وسيعمل لتحقيق مصالحه خاصة إنه الغرب وعلى رأسه أمريكا فهو الذي سيبقى مسيطرا في عصر العولمة إلى درجة العمل على إفناء الآخرين وإلغائهم ومن عدى الغرب سيصبح مجرد حشو يمكن توظيفه لصالح المستفيد الأول من العولمة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر لله على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه أما بعد فيا عباد الله يجب ألا يعزب عن أذهاننا أن تدخل إنجلترا واحتلالها لمصر في القرن الماضي واحتلال فرنسا لتونس في القرن الماضي أيضا هو عن طريق القروض التي أوجدت بتراكمها والعجز عن سدادها أوجدت الذريعة للتدخل السافر للمستعمر وبسبب الديون التي بدأت بتشجيع من الغرب عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذين يعملان على إغراق الدول المستهدفة بالديون بسببها أصبح إقتصاد معظم هذه الدول متخبطاً وما كوارث الدول الإسلامية في جنوب شرق آسيا عنا ببعيد والدول العربية وهي إحدى الدول المستهدفة بالعولمة بلغت ديونها الآن مائتان وخمسون مليار دولار وهي تتزايد ربا بمقدار خمسين ألف دولار في الدقيقة الواحدة فيا لهول الأمر وعظم الفاجعة ولعلنا إن شاء الله في خطب لاحقة نكمل الحديث عن خطر العولمة ونبين جوانب الضعف فيها التي لو أحسن المسلمون إستغلالها لقلبوا السحر على الساحر ونبين واجبنا تجاهها ونقول ما قال ولي العهد في تصريحه لا لعولمة الفساد والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/743)
الدعوة إلى تحرير المرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
دور العلمانيين والمنافقين في إفساد العقيدة وترويج الفساد , والانحلال – أسلوبهم في إضلال
الأمة وإفساد النساء وتدرجهم – مخططات إفساد المرأة السعودية – تاريخ الدعوة لتحرير المرأة
بزعمهم – خروج المرأة للعمل , ضوابطه ومخاطره وآثاره على الأسرة والمجتمع
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: لا يزال المنافقون من أهل العلمنة والتغريب ومن اغتر بدعواهم يطالعوننا المرة بعد المرة بأقوال وآراء عبر صحفنا اليومية تخالف ثوابتنا الشرعية ومسلماتنا الإعتقادية يلبسون لبوس الغيرة على الدين أحيانا ولبوس النهضة بالاقتصاد أحيانا أخرى ويطرحون أفكارا خاوية لا تتفق وواقعنا المحافظ على دينه وما هم إلا حفنة قليلة من المتأثرين بالغرب اللاهثين خلف ما يفد منه ولو كان فيه حتفنا ولو كان الغرب قد ذاق مرارته ونادى بالويلات والثبور من جرائه فيصدق عليهم بذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) إن هؤلاء المسعورين من العلمانيين والمستغربين ومن سار في فلكهم ممن يتباكون على وضع المرأة في بلادنا هم أعداء المرأة حقا ولعلمهم بواقع مجتمعنا واختلافه عن سائر المجتمعات التي عانت من الاستعمار دهورا فإنهم يتسللون بأفكارهم التحررية ودعوتهم للانحلال من خلال قضايا شرعية يحاولون أن يجعلوها مجال نقاش وأخذ ورد فحين يطالب أحدهم مثلا بالبخنق الذي تلبسه نساء ماليزيا أترونه صادقا في مطالبته هل سيرضى بالوقوف عند هذا الحد أم أنها خطوات الطريق الطويل اللاحب الذي يراد جر المرأة إليه في بلادنا وهل قدوته ماليزيا حقا أم إن قدوته هناك حيث العري والاختلاط والعار والشنار وهل واقعه الآن يشهد بحسن سيرته وطيب طويته وسلامه مشربه أم هو بحاجة إلى إصلاح حاله ثم من نصبه وكيلاً لبنات آدم يطالب لهن بحقوقهن بزعمه ثم ينسف في طريقه مسلمات شرعية وثوابت عقدية بصريح العبارة أو بتلويحها ولحنها: أم حسب الذين في صدورهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم لقد طار العلمانيون والمستغربون ومن انخدع بهم بكلمة قالها ولي العهد وعلق عليها مصدر لم يصرح باسمه نشر تعليقه في جريدة الشرق الأوسط وجريدة الحياة ومما جاء في تعليقه: إن الكلمة المشار إليها تعد الطلقة الأولى للحوار حول المرأة السعودية وتحريك دورها وتابع يقول: إن البعض يتناول قضايا هامشية وقشور مثل قيادة المرأة للسيارات وغطاء الوجه فالموضوع الأول تمت مناقشته في مجلس الشورى وهي قضية تقنية بحاجة مثلا لشرطة نسائية تتولى تنظيمها وأما الثاني فهي قضية خلافية هكذا يقول هذا المصدر الذي لم يصرح باسمه وتابع قائلا: وإذا أردنا مجتمعا دون اختلاط فإننا سنخلق مجتمعاً منقسماً وشاذاً وزاد: حان الوقت لمساهمة المرأة السعودية في المسيرة التنموية وحرص هذا المصدر على تأكيد أن الدين الإسلامي دين يخاطب الجميع وقال: لا وجود لكهنوتية في السعودية هكذا قال هذا المصدر المجهول ولنا مع تصريحه الذي قد جاء بيان يرد عليه بيان توضيحي لكلمة ولي العهد يتبرأ من كل التعليقات التي نسبت إليها والتي تعد نفسها شرحا لها لنا مع هذا التصريح عدة وقفات أولها يلمس أن هناك توجها لبحث قضايا محسومة في هذا البلد من قبل هيئة كبار العلماء تتعلق بالمرأة وطرحها للمفاوضة والنقاش والاعتراض ثانيا وصف القضايا الشرعية كالحجاب ونحوها بأنها قشور وأمور هامشية مما يدعو إلى التوجس والخوف من تلك الدعاوى وإن ألبست بلباس الدين. ثالثاً: الزعم بأن موضوع قيادة المرأة للسيارة تمت مناقشته في لجنة الشورى رغم أنه صدرت فيه فتوى شرعية رسمية وهذا الزعم باطل فقد صرح وزير الداخلية لجريدة اقتصادية بأنه لا توجد أي رغبة أو توجه لدى الدولة بشأن السماح للمرأة بالقيادة في السعودية وبأنه ليس هناك دراسة بهذا الخصوص وأن كل مجتمع له خصوصياته وكأي أمور أخرى تخضع لهذه الاعتبارات لكن أعود وأؤكد أنه لا توجد أي دراسة حول هذا الموضوع انتهى كلامه رابعا أن عمل المرأة الذي يدعى له ويراد فتح أبوابه هو عمل في محيط الرجال وميادينهم كما جاء في التصريح إننا إذا أردنا مجتمعا دون اختلاط فسنخلق مجتمعاً منقسماً شاذاً هكذا قال المصدر المجهول خامسا إلغاء دور المرجعية الدينية والرجوع في كل أمر إلى كتاب الله وسنة رسوله بقوله: لا كهنوتية في السعودية وفي ذلك نسف للثوابت الشرعية وقد تتابعت المقالات الصحفية من جملة من المستغربين من أبناء وبنات هذا المجتمع رغم صدور بيان يرد ويوضح كلمة ولي العهد ويتنصل من كل المقالات التي تعلقت بها رغم ذلك كله فقد تتابعت المقالات من المستغربين في الصحف ومما تضمنته هذه المقالات استغلال كلمة ولي العهد وتوجيهها حسب توجههم المنحرف وجعلها توطئة لعرض ما يريدونه ومن ذلك أن المقالات تضمنت الدعوة الصريحة لتحرير المرأة وتغريبها ورفع الظلم والضيم الذي تعانيه من مجتمعها حسب زعمهم حتى قال بعضهم: المرأة لا تملك الصلاحيات في اتخاذ أبسط القرارات وقال آخر من هؤلاء المستغربين: عمل المرأة كمعلمة بطالة مقنعة وهدر للأموال وقال ثالث : لن تتقدم أمة نصفها مصاب بالشلل شل الله يمينه ويلحظ تبرم واستياء تلك الفئة المنحرفة من حال مجتمعنا المحافظ والدعوة إلى تغيير أوضاعه حتى قال بعضهم: حال المرأة يدعو إلى الرثاء وضع النساء في مجتمعنا لا يطابق المعايير التي يتفق عليها العقلاء النساء في مجتمعنا لا يحصلن على حقوقهن المرأة لا مكان لها في مجتمعنا نساؤنا في العالم العربي لا يتحدثن عن حقوقهن كي تعود المرأة إلى الإنتاج فإننا في حاجة إلى الكثير من الكلام الصريح اللهم أكفنا شر الأشرار وشر الفجار اللهم من أرادنا والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه أما بعد فيا عباد الله لقد بدأت حركة ما يسمى بتحرير المرأة قبل مائة عام أي في عام ألف وثمانمائة وتسع وتسعين للميلاد حيث خرج كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين الذي دعا فيه المرأة إلى السفور ونبذ الحجاب واختلاطها بالرجال ولم يكن في ذلك الوقت في مصر امرأة تختلط بالرجال سوى امرأة واحدة هي ناظلي فاضل حفيدة محمد على باشا وفي تركيا دعا أحمد رضا عام ألف وتسعمائة وثمانية للميلاد أي قبل تسعين سنة إلى إفساد المرأة حيث قال ما نصه: ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علناً مع المرأة على جسر غلطة وهو جسر في تركيا وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستوراً ولا حرية فهكذا دعا هذا الأثيم إلى سفور المرأة قبل تسعين عاماً تقريباً ولكن انظروا ما يحدث الآن حيث وصل الحال إلى إنشاء المراقص وبيوت البغاء وكل أنواع الشرور كما هو مشاهد ومعلوم في بعض البلاد نسأل الله أن يحمي بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه وإن كثيرا من الكتابات التي نطالعها على صفحات جرائدنا إنما هي نسخة مستلة من دعوة قاسم أمين وهي طبق الأصل من كتاباته وأفكاره هو وأضرابه دعاة السفور والاختلاط وإن عمل المرأة بالصورة التي ينادون بها له من المفاسد الشيء الكثير فمما نذكره باختصار إهمال الأسرة وتمزيق أركانها وتضييع النشء وإفساد الأولاد وكثرة حالات الطلاق وكثرة حالات العنوسة في المجتمع وتحديد النسل إذ أن المرأة العاملة تضطر لإيقاف الإنجاب مراعاة للوظيفة والتضييق على الرجل في الحصول على الوظيفة وهذا مشاهد ملموس بل الواقع يشير إلى بداية ظهور البطالة في المجتمع في أوساط الرجال والرجل مطالب بالعمل لكونه مطالب بالنفقة على المرأة ومن ذلك كثرة السائقين والخادمات والمربيات ومن ذلك ما تحدثه من أثر نفسي على الأطفال نتيجة تنشأتهم في دور الحضانة ومنها أنه لا عائد مادي من عمل المرأة إذ أنه سيصرف في تبعات ذلك خادمة أو مربية أو سائق وسيارة وغيرها من المصاريف ومنها تسهيل اللجان بالفساد والانحراف الأخلاقي وما يتبع ذلك من هتك الأعراض وضياع الحرمات أما بالصورة المحافظة فإن الآثار تكاد تنعدم وبالجملة فمن أراد أن يعرف آثار عمل المرأة بالصورة التي ينادي بها العلمانيون فلينظر إلى المجتمعات التي سبقت إلى مثل هذا العمل وما حل بها من فساد وانحراف يوجب على العقلاء من أبناء هذا المجتمع السعي لكف هذا الشر عن المسلمين ويتعين على الجميع بذل الجهود لحفظ المجتمع وصيانة الأمة من خلال السعي على الحفاظ على خصوصية تعليم المرأة وعملها في هذه البلاد بمنع الاختلاط في التعليم والعمل والسعي الجاد إلى إقرار التقاعد المبكر للمرأة والعمل بنظام الساعة والعمل بهذين الأمرين سيغلق الباب أمام تلك المطالبات والخطوات إذ أن قلة الوظائف المطروحة للمرأة هي حجة أولئك في مطالباتهم ومن ذلك إعادة النظر في سنوات تعليم المرأة وعملها بما يتوافق مع طبيعتها ويتلاءم مع وظيفتها الأساسية كأم وزوجة ومن ذلك إنشاء مستشفيات نسائية خاصة تراعي حرمات المرأة ومن ذلك تعديل مناهج التعليم في المراحل كلها من الإبتدائية إلى الجامعية بما يوائم طبيعة المرأة ويخالف الرجال وفي الختام نسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار.
(1/744)
الحكمة من كسوف الشمس
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه, موضوعات عامة
أعمال القلوب, الصلاة, مخلوقات الله
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) , العبرة في الآيات الكونية – التدبر في خلق السماوات
والأرض يُذكِّر الإنسان بقرب أجله – خطر عدم تدبر الآيات والاعتبار بها – الكسوف وما فيه
من عبرة , وماذا يجب عند حدوثه – ثمرة التخويف بالآيات : المبادرة إلى التوبة والعمل
الصالح – حال المؤمن والكافر عند الموت وفي القبر – التحذير من بعض الذنوب والمعاصي -
الإخبار بزمن الكسوف ليس من علم الغيب – نظرة الإعلام إلى الكسوف وسبب ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله إن الله عز وجل يري عباده في الآفاق ما من شأنه أن يذكرهم إن كانوا يؤمنون: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط ثم يلفت نظرنا إلى آياته في السماوات وفي الأرض لنتذكر بذلك قرب النهاية فنستعد للرحيل ونترك التسويف ونعلم قصر الدنيا مهما طالت وقرب الآخرة بانتهاء الأجل أو بقيام الساعة وإذا مات الإنسان فقد قامت قيامته حيث لا عمل ولا استدراك إنما هو الحساب في دار البرزخ ثم دار القرار: أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ثم ينعى على من لم يتعظ بالآيات المبثوثة بالآفاق في قوله جل وعلا: من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون وفي السورة الأخرى يقول جل وعلا: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ثم ينعى على من لم يتعظ بهذه الآيات بقوله: وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ثم يحذر سبحانه من أخذه الشديد بقوله جل وعلا بعدها مباشرة: فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننجِِ المؤمنين فكم لله من حكم في خلق السماوات والأرض ولكن كما قال: حكمة بالغة فما تغن النذر كم نذارة أرسلها الله على ألسنة رسله وكم نذارة بثها سبحانه في الآفاق ولكن كما قال جل وعلا: فما تغن النذر وإن من آخر النذر التي شهدناها جميعا كسوف الشمس أمس الأول فهل خفنا أم هل تبنا أم هل راجعنا حياتنا لنقيمها على ما يرضي ربنا سبحانه أناشدكم الله يا عباد الله هل اختلفت حياتنا قبل الكسوف عنها بعد الكسوف هل حسنا أحوالنا وراجعنا ربنا سبحانه وأقلعنا عن ذنوبنا صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بهما عباده فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة والدعاء والاستغفار)) [1] فهل استجبنا لتخويف ربنا لنا فخفنا ثم أدلجنا وقد صح عنه صلى لله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ((من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله الجنة)) [2] أم صح علينا قول الله سبحانه – نعوذ بالله أن نكون كذلك -: فما تغن النذر إن إنسانا من البشر حين يتوعد ويزبد ويرعد ويهدد ويحدد يحسب له الناس ألف حساب ويصبح تهديده وتحديده حديث مجالسهم ومجال شوراهم وميدان اقتراحاتهم ونصائحهم فمن الذي خوفنا بالخسوف العظيم؟ ألا إنه رب العالمين ألا إنه إله الأولين والآخرين إلا إنه من يقول للشيء كن فيكون ومن بيده ملكوت السماوات والأرض وهو يجير ولا يجار عليه لا تخفى عليه منا خافيه يعلم سرنا كما يعلم علانيتنا: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ألا إنه من يضع السماوات يوم القيامة على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أنا الجبار أين الجبارون أين المتكبرون أين ملوك الأرض؟ [3] ألا إنه من عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو: ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يعلم السر وأخفى سنعرض عليه يوم القيامة كما قال: يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية وإن من استجابتنا لتخويف ربنا لنا أن نخاف فنعمل صالحا ونحذر طالحا ونستغفر ونتوب من سائر الذنوب وندعو ونذكر ولا نطغى ونفجر ونتصدق كثيرا ونخشى سعيرا حتى يثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة كما قال سبحانه: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء في الحياة الدنيا أي في القبر حين ترد الروح إلى الميت حين ترد روح الميت إلى جسده وإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مدبرين فيأتيه ملكان شديدا الإنتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له من ربك ما دينك ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ما علمك فأما المؤمن فيقول ربي الله ديني الإسلام نبيي محمد صلى الله عليه وسلم قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حين يقول الله جل وعلا: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وأما الفاجر فيقول ها ها لا أدري سمعت الناس يقولون ذاك فيقال لا دريت ولا تليت [4] فلنأخذ للأمر أهميته ولنستعد لفتنة القبر بالاستعاذة منها كما أمرنا بذلك صلى الله عليه وسلم حين وقع الكسوف فقال: ((تعوذوا بالله من عذاب القبر)) [5] ، وعلمنا الاستعاذة منه دبر كل صلاة نقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وعذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال)) [6] ، وإن من الموبقات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع الكسوف الزنا حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) [7] ، فلنحذر الزنا وأسبابه يا عباد الله ولنغلق أبوابه فما من أحد بأغير من الله فلنحذر سخطه ونبتعد عن كل ما يقرب من الزنا امتثالا لأمره سبحانه: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً ونغض أبصارنا عن النظر إلى ما حرم الله كما أدبنا ربنا بذلك في قوله: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن متى يتعظ من لم يتعظ بنذر الله ومتى يرعوي عن غيه من غفل قلبه فهو لاه لاه أننتظر الفاجعة: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون صح عنه صلى الله عليه وسلم حين وقع الكسوف أنه قال: ((ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبا من فتنة الدجال)) [8] نعوذ بالله من فتنة القبر نعوذ بالله من فتنة المحيا والممات نعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال لا أحد أحلم من الله وهو القائل: لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد لا أحد أصبر من الله وهو القائل: ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى من بارز الله بالمعاصي فهو الخاسر: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) [9].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (1044)، صحيح مسلم (901).
[2] سنن الترمذي (2450).
[3] صحيح البخاري (7414)، صحيح مسلم (2786).
[4] سنن أبي داود (4753).
[5] صحيح مسلم (2867).
[6] صحيح البخاري (833)، صحيح مسلم (588).
[7] صحيح البخاري (1044)، صحيح مسلم (901).
[8] صحيح البخاري (86).
[9] صحيح مسلم (2577).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد فيا عباد الله.
ننبه بهذه المناسبة إلى أمور قد تخفى على كثير من الناس فمنها أن الإخبار بزمن الكسوف قبل حدوثه ليس من علم الغيب بل هو من العلوم العادية التي قد يتعلمها البشر قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الإستسرار وأن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار ووقت إبداره هي الليالي البيض التي يستحب صيام أيامها ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فالقمر لا يخسف إلا في هذه الليالي والهلال يستسر آخر الشهر ليلة تسعة وعشرين وليلة ثلاثين والشمس لا تكسف إلا وقت إستسرار الهلال وللشمس والقمر ليالي معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف وقال رحمه الله عليه: أما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريان الشمس والقمر وليس خبر الحاسب بذلك من علم الغيب بل هو مثل العلم بأوقات الفصول وقال رحمه الله: ولكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك يعني على الإخبار بزمن الكسوف فلا يكادون يخطئون ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك وقال: إذا استعد الإنسان ذلك الوقت - يعني الذي أخبر به أهل الحساب - لرؤية ذلك كان ذلك من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته الأمر الثاني أن ما شغلتنا به الصحف من الحديث حول هذا الموضوع إنما يدل على إفلاسها من القيم حتى إنها اشتغلت بالأشياء التافهة وتركت الأمر العظيم الذي نبه له صلى الله عليه وسلم إن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما حصل الكسوف خاف حتى ظن أنها الساعة كما تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها [1] وصحفنا اليوم تسخر من ذلك وكذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخطأ بردائه حتى أخذ بعض درع زوجاته ليذهب ويصلي بالناس به حتى أرسل له ثوبه مع بعض الناس من شدة ذهوله صلى الله عليه وسلم من هذه الآية التي يقول الله جل وعلا: وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [2] ، أما صحفنا اليوم وكثير من هذا الغثاء الذي شحنت به الأسواق تتحدث عن عرس فلكي بين الشمس والقمر عرس فلكي وثم يعلمون الناس أحسن طريقة لرؤية هذا الكسوف هذا الحدث الكوني كيف تستمتع برؤية هذا الحدث ثم يبينون للناس صور الأطفال الأوربيين وغيرهم في شتى بقاع الأرض الكافرة يرسمون لهم صورهم وهم يلبسون النظارات السوداء أو غيرها لينظروا إلى الكسوف ما لنا ولهم هؤلاء قوم ممن قال الله عز وجل فيهم: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ، هؤلاء شر من الكلب والخنزير وصحفنا بعض صحفنا اليوم تجعلهم كالمثل الأعلى للناس ترسم صورهم وصور كلابهم وهم يلبسونها النظارات وربما تحدثت أيضا بعض الصحف عن سهرة بالنهار تقام في هذا البلد أو ذاك واشغلت الناس بعدد الناس الذين سيتعرضون للعمى أربعة ملايين أو أربعه مليون فاشتغلوا بعمى البصر وتركوا الحديث عن عمى البصائر الذي عليه عامة أهل الأرض اليوم كما قال جل وعلا: وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ، وقال سبحانه: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون فلو اشتغلنا ولو اشتغلت صحفنا بتعليم الناس أمر دينهم وحثهم على التوبة والاستغفار وتبديل أحوالهم إلى أحسن الأحوال لكان خيراً لهم وأقوم
[1] صحيح مسلم (912)، وهو عن أبي موسى ولم أجد هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنهم أجمعين.
[2] صحيح مسلم (906).
(1/745)
المجادلة بالباطل في آيات الله
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, الكبائر والمعاصي
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
المجادلة في الله بغير علم من أعظم أسباب مقت الله , والآيات في ذلك – صفات المجادلين
بالباطل – كيف تواجَه شبه الملحدين في رفضهم التحاكم إلى الشريعة – خطورة المجادلة عن
المسرفين وأهل الباطل
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: إن من أعظم أسباب مقت الله وغضبه المجادلة في الله بغير حجة من الله والمحاجة في دينه بغير هدى منه سبحانه فتلكم يا عباد الله توجب غضبه سبحانه ومقته وتوجب طبعه على قلب صاحبها فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً وهو الضال الذي ذمه الله بقوله: كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ثم بين سبحانه وتعالى من هو المسرف المرتاب في الآية التي بعدها: الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم فالمسرف على نفسه المتجاوز قدره الطاغي في شؤونه المرتاب في دينه فلا يقين عنده بوعد الله ووعيده ولا يقين عنده بحكم الله وشرعه ولا يقين عنده بقضاء الله وقدره هم الذين يجادلون في آيات الله الظاهرات البينات التي تتلى من كتابه أو أحاديث رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الثابتة عنه تتلى عليهم فيجادلون فيها بمخاريق من القول وزور من الكلام وهجر من الحديث يجادلون فيها بغير حجة ولا سلطان إلا ما جاء عن الله أو عن رسوله فالحجة والسلطان والبرهان فيهما وكل ما عدا الكتاب والسنة فراجع إليهما ثم يبين سبحانه شدة وعيد من كان هذا شأنه بقوله جل وعلا: كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا أي والله إن الله سبحانه ليمقت على ذلك أشد المقت ويغضب أشد الغضب على من يجادل في آياته البينات الباهرات وحججه الساطعات بموروثات من الأسلاف أو ضغوط من الواقع أو استسلام للعادات وكل هذه ترهات لا يجوز لمسلم أن يجادل بها في آيات الله ثم بين جل وعلا أن من كانت هذه صفته يطبع الله على قلبه فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً ولذلك قال سبحانه: كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وكم رأينا من ذلك أصنافا ممن يجادل في آيات الله بغير سلطان حتى وصل ببعضهم الحال إلى ما قص الله في كتابه فصار مطبوعاً على قلبه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا فالمعروف عنده هو ما عرفه واشتهاه والمنكر عنده ما كرهه وخالف هواه ولو كان هو مراد الله فالكبر هو الحامل له على إتباع الهوى والمجادلة في آيات الله بلا حجة ولا برهان: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه.
قال ابن كثير رحمة الله عليه: أي يدفعون الحق بالباطل ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله فهؤلاء إن في صدورهم إلا كبر عن اتباع الحق واحتقار لمن جاء بالحق وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم بل الحق هو المرفوع وقولهم وقصدهم هو الموضوع انتهى كلامه رحمه الله فقوله جل وعلا: ما هم ببالغيه أي لن يبلغوا مرادهم وقصدهم وهو إزهاق الحق وإعلاء الباطل فهي كقوله جل وعلا: أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون وقوله سبحانه: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون وقوله سبحانه: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين وقوله جل شانه: وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقوله سبحانه: وما كيد فرعون إلا في تباب أي في خسار وغيروا من الآيات الدالة على أن مجادلتهم بالباطل ليدحضوا به الحق ستبوء بالخسران وتنتهي بالخيبة والعاقبة للتقوى والعاقبة للمتقين.
عباد الله: إن شمس الرسالة إذا سطعت على شبه الملحدين والمضلين أحرقتها وجعلت أهلها في ذهول لا يحرون جواباً فكيف إذا انضاف إلى حجج الله الواضحات وآياته البينات كيف إذا انضاف إليها التطبيق العملي لهذه الشرائع والنموذج الواقعي من ثلة مؤمنة تأخذ بها والامتثال الفعلي لتلك التكليفات عندها تعظم الحجة حيث صارت آية وتطبيقا وحديثا وواقعا يعيشه الناس حين تستجيب أمة من الناس لشريعة الله فتطبقها في واقعها يكون هذا ردا عمليا على من يزعمون أن شريعة الله غير قابلة للتطبيق وأنها مثل عليا لكنها مستحيلة التطبيق في دنيا الناس ولذا كان جرم من يحاج في آيات الله بعد استجابة المؤمنين بها لله جرما عظيما واستحق الغضب من الله والعذاب الشديد إضافة إلى ضحود حجته وبطلانها حيث كذبها الواقع الذي يكذبه من استجابوا لهذه الآيات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له أي من بعد ما استجاب له فريق من عباده المؤمنين ومع ذلك تجد فريقا من المعاندين المجادلين يحاجون فيها ويزعمون عدم إمكانية الاستجابة لها: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد فيا عباد الله علمنا أن من أعظم أسباب سخط الله ومقته وغضبه المجادلة في آيات الله بعد وضوحها وقيام عباده الصالحين بها واستجابتهم لها وأن ذلك من أسباب العذاب الشديد في الآخرة وضحود الحجة وانكسارها في الدنيا عباد الله إن من الناس فريقا عافاهم الله من هذه الحال فاستجابوا لله في ذواتهم وطبقوا شرعه في أنفسهم ورضوا حكمه في خاصتهم ولكن منهم من باع دينه بدنيا غيره ووقع فيما نهى الله عنه في قوله: ولا تكن للخائنين خصيما فأخذ يخاصم لصالح الخائنين المفسدين في الأرض وبقوله جل شأنه: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً.
فالنجاة النجاة يا أهل الصلاة ممن وفقكم الله للتمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حذار من المجادلة عن المسرفين في الأرض الذين يبغونها عوجا وقد بغاها الله دينا قيما ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين فالنجاة النجاة يا عباد الله من حال هؤلاء فيا من من الله عليه بالتزام شرعه فليتوج ذلك بمجانبة الزائغين ونصحهم وإرشادهم والأخذ بأيديهم ودلالتهم إلى الطريق المستقيم بدلا من المجادلة عنهم وتبرير واقعهم والتماس المعاذير لهم أو ليلزم نفسه ولا يوردها موارد الهلكة بالمجادلة بالباطل عن من يختانون أنفسهم فيحشر في زمرتهم فالمرء مع من أحب يوم القيامة
(1/746)
من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم تجريد المتابعة له
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الشهادة بأنّ محمداً رسول الله – وجوب تقديم النبي وطاعته على مَن سواه من العلماء
والأمراء 3- صور من امتثال الصحابة ووقوفهم عند كلام الله ورسوله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من أعظم حقوق النبي المصطفي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تجريد المتابعة له ومعني ذلك أن تتبعه فتطيعه صلى الله عليه وسلم هو وحده متبوعك المطاع وهذا هو مضمون الركن الثاني من كلمة التوحيد وشعار الإسلام أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله , فأنت يا مسلم بإقرارك وإيمانك بالرسالة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تعطي عهدا على نفسك بأن تتبع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطيعه وحده فيكون هو سيدك المطاع بلا نزاع تقدم أمره على أمر غيره وطاعته على طاعة غيره , هذا هو معنى الركن الثاني من ركني كلمة التوحيد وشعار الإسلام ولقد أمر الله تبارك وتعالى بطاعة رسوله ومصطفاه في أكثر من أربعين آية من القرآن مما يدل على عظم أهمية هذا الأمر وأنه أصل عظيم من أصول الإيمان بل يكفي أنه كما قررنا أحد ركني الدين الذين هما , الركن الأول توحيد الله تبارك وتعالى في العبادة والذي تلتزم به في قولك أشهد أن لا إله إلا الله والركن الثاني تجريد المتابعة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي تلتزم به بقولك وأشهد أن محمد رسول الله , فتجريد المتابعة معناه أن طاعتك واتباعك هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده من دون الناس فأي أحد من الناس كائناً من كان أو عالما أو أميرا أو رئيسا أو غير هؤلاء إنما تكون طاعتهم إذا كانت ضمن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يصح اتباعهم إذا كان ذلك ضمن اتباع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن كان في طاعتهم وفي اتباعهم مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحل لك ذلك شرعا, فإن أطعتهم واتبعتهم بالرغم مما في ذلك من مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك تكون حينئذ قد أخللت بالركن الثاني من ركني كلمة الإخلاص والتوحيد وهو أشهد أن محمدا رسول الله, قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [النساء:59]. فدلت هذه الآية على أن طاعة أولي الأمر وأولو الأمر هم الأمراء والعلماء مقيدة بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما لو أمر الأمراء أو قال العلماء بشيء يخالف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فإن المؤمن لا يقدم على أمر الله وعلى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أي شيء بل يضرب بأمر من خالفهما عرض الحائط , هذا هو منهج سلف هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أعمق هذه الأمة إيمانا وأغزرهم علما وأقلهم تكلفا كانوا إذا سمعوا كلام الله وسمعوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدلون بهما أي شيء ولا يعارضون أمر الله وأمر رسوله بأمر أي أحد من الناس كائن من كان , كان أصحاب رسول الله وقافين عند أمر رسول الله وعند أمر رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزونهما أبدا والأمثلة علي ذلك كثيرة اسمعوا بعضا منها:-
المثال الأول: عندما توفي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب الأمر على أصحابه من بعده من هول الصدمة وقوة الفاجعة ومرارة الفراق وكادوا يتنازعون في أمر الخلافة والإمارة وهم مجتمعون في السقيفة فقال الأنصار للمهاجرين: نحن أهل الديار آويناكم ونصرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهدنا بين يديه بأسيافنا فنحن أحق بالإمارة منكم.
ثم تنازلوا خطوة فقالوا رضي الله عنهم وأرضاهم منا أمير ومنكم أمير. حتى إذا سمع الجميع مهاجرين وأنصار الصديق أبا بكر يذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: ((الأئمة من قريش)) [1] , مما يدل على أن أحق أصحاب رسول الله في ذاك الوقت بالخلافة هو أبو بكر الصديق رضى الله عنه أذعنوا جميعا وانتهى النزاع وانقادت الأنصار لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واحدا منهم لما تلكأ كادت الأنصار أن تطأه بأقدامها وهي تتسابق وتبادر إلى الصديق أبي بكر تبايعه امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فببركة حسن متابعتهم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم استقامت أحوالهم وبورك لهم في أمورهم ووقاهم الله شر الفتنة وسلموا من عواقب النزاع فإن أمر الخلافة وأمر الإمارة من أشد مسائل الناس خطورة وأعظمها فتنة.
المثال الثاني: خليفة رسول الله أبو بكر الصديق أرجح هذه الأمة إيمانا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أول أمره بالخلافة وقد اضطربت الأمور, انتقضت العرب وخرجت عن الطاعة وارتدت عن الإسلام وانفلت حبل الأمن في مثل هذه الأحوال العصيبة لم يفكر في مقاتلة الروم أقوى دولة في ذاك الوقت ومع ذلك فقد صمم أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أن ينفذ بعث أسامة بن زيد رضى الله عنه وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته قد جهز جيشا بقيادة أسامة لغزو الروم ثم توفي قبل أن يمضى ذاك الجيش إلى وجهته, فأصر أبو بكر علي أن يرسل هذا الجيش فلما نوقش في ذلك وأشار عليه بعض الصحابة بأن لا يفعل ويستعين بالجيش على مقاتلة المرتدين وإعادة الأمن إلي نصابه أبى الصديق وقال: ما كنت لأرد بعثا أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمضى ذلك الجيش وذهب الجيش لغزو الروم وجعل الله عز وجل الصلاح في هذه الخطوة الصديقية فإنه كان لها أثر نفسي عظيم ورادع في نفوس العرب الذين انتقضوا في ذلك الوقت حتى قال قائلهم: لو لم تكن لديه قوة كافية ما أرسل أبو بكر جيشا لغزو الروم, هذا كله ببركة حسن المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والتجريد والتوحيد في المتابعة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
[1] أحمد (3/183).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الفاروق رضى الله عنه وقافا عند كتاب الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم إذا سمع أمر الله أو سمع أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ما كان يتجاوز هذا أبدا مهما كانت الأحوال, في الصحيح عن أبي وائل جلست إلى شيبة في المسجد فقال جلس عمر بن الخطاب إلي في مجلسك هذا وقال: لقد هممت ألا أدع فيها بيضاء ولا صفراء إلا قسمتها بين المسلمين أي هممت أن أقسم الأموال بين المسلمين لا أترك منها شيئاً في بيت المال. قال فقلت له: ما أنت بفاعل قال: ولم؟ قال: لأن صاحبيك لم يفعلا ذلك، فطأطأ الفاروق رأسه وقال: هما المرءان بهما أهتدي.
أي صرف الفاروق نظره عن تلك الفكرة التي هم بأن يفعلها وينفذها لما ذكره هذا الناصح الأمين بأن هذه الفكرة ليست موافقة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لما كان عليه صاحبه أبو بكر الصديق , لم يتجاوز ذلك بمجرد أن سمعه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث عيينة بن حصن الفزاري أنه لما استؤذن له على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدخل على عمر وقال له: يا ابن الخطاب إنك والله ما تعطي الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب الفاروق غضبا شديدا وهم بأن يقع فيه أي هم بأن يعاقبه فقال له الحر بن قيس كان من جلساء الفاروق ومستشاريه: يا أمير المؤمنين لقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [الأعراف:199]. فما زاد عليها عمر لما تلا عليه الآية أي سكن إليها وخضع وكف عما هم به بمعاقبة عيينة بن حصن الفزاري لما جابهه تلك المجابهة العنيفة.
هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أحوج ولاة الأمر إلى التأسي بعمر الفاروق في مثل هذه المواقف وما أحوجهم إلى جلساء وإلى مستشارين كالحر بن قيس رضي الله عنه يذكرونهم بأمر الله تعالى وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وينصحونهم ويصدقون معهم, بل ما أحوجنا جميعا إلى ذلك فقد ضعفت متابعتنا لسيدنا وإمامنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدمنا على أمره مورثات الآباء والأجداد, بعضنا إذا قال له ناصح: إن ما تفعله مخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما نفعل ما وجدنا عليه آبائنا وأجدادنا , ضعفت متابعتنا للنبي المصطفي صلى الله عليه وسلم وقدمنا على أوامره أوامر الرؤساء والأمراء والكبراء وكلام العلماء والمشايخ مشايخ العلم أو مشايخ القبيلة أو مشايخ الطريقة أو غير ذلك إذا أمروا بأمر فيه مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليك أيها المؤمن أن تضرب بأوامرهم عرض الحائط فإنهم حتى ولو حرصوا على الخير قد يضلون وقد يجتهدون ويخطئون لأنهم غير معصومين والدين كل الدين في اتباع المعصوم وهو سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فمن عارض أمره بآراء الرجال خسر الدين.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/747)
محبة الصحابة رضوان الله عليهم
غير محدد
غير محدد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
5/5/1413
قباء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمن حقوق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيم أصحابه وتبجيلهم واحترامهم والدعاء لهم والترضي عنهم وكف اللسان عنهم وعما شجر بينهم فإنهم سلف هذه الأمة وصفوتها وخيرها بعد نبيها صلى الله عليه وسلم بهم نصر الله رسوله وأعز دينه وأعلى كلمته وبسببهم اهتدينا إلى الإسلام , فالمنة في هدايتنا إلى الإسلام لله تبارك وتعالى أولا ثم لمصطفاه صلى الله عليه وسلم ثم لأصحاب رسوله الذين جاهدوا بين يديه أحسن جهاد والذين نقلوا إلي الأمة من بعده السنن والشرائع والقرآن. فلولاهم ما عرفنا شيئا عن الإسلام ولولاهم ما عرفنا شيئا من القرآن ولولاهم ما اهتدينا إلى الإيمان.
فحب الصحابة إيمان وبغضهم كفر ونفاق , بوب الإمام البخاري في صحيحه الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله أبوابا في فضائل الصحابة والمهاجرين ثم قال باب "حب الأنصار من الإيمان" فخرج فيه حديثا عن البراء رضى الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)) [1].
وخرج أيضا حديثاً عن أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)) [2]. فإذا كان هذا في حب الأنصار فحب المهاجرين أحرى وأولى وآكد لأنهم أسبق منهم وأفضل منهم, ثم حب السابقين أولى وأوجب وآكد وعلى رأسهم الأربعة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي الذين هم أفضل هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم فرضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم يا مسلم كيف لا تحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم كل المنة في عنقك, أصحاب رسول الله هم أنصاره وجنده وأتباعه, إنهم حواريوه لما قال عيسى بن مريم من أنصاري إلي الله قال حواريوه نحن أنصار الله ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنصاري إلى الله)) تسابق أولا المهاجرون إلى الإيمان به ونصرته والذب عنه صلى الله عليه وسلم وتحملوا في سبيل ذلك من الأذى والاضطهاد ما تنهد منه الرواسي الشوامخ ثم تسابق إلي الإيمان به صلى الله عليه وسلم ونصرته الأنصار من الأوس والخزرج, أهل هذه المدينة الطيبة أووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وجاهدوا بين يديه حق الجهاد حتى قال قائلهم في غزوة نبوية يوم بدر: يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيهم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون [المائدة:24]. ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه [3] , رضي الله عنهم وأرضاهم, هذا مقال لسان الصحابة أجمعين, وهذا كان لسان حالهم دائما جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجاهدوا بين يديه أحسن الجهاد حتى أعز الله بهم الملة ورفع بهم الكلمة وأظهر بهم دينه علي الدين كله ولو كره المشركون.
يا مسلم كيف لا تحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أسوته وهم قدوته ؟ فكما اصطفى نبيه وخليله وصفيه كما اصطفاه من بين سائر خلقه, اصطفى له أصحاباً وجنداً وأنصارا هم أحسن الناس يومئذ فصاروا أفضل هذه الأمة بصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.
جعلهم الله الأنموذج العملي لهذا الإسلام فما عليك إلا أن تحتذي حذوهم وتتأسى بهم, إنهم التفسير العملي لهذا الدين ولذلك ذكرهم الله تعالى في كتابه ونوه بفضلهم وأثنى عليهم وعلى خلالهم وأوصافهم وأفعالهم من ذلك قوله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [التوبة:100]. ومن ذلك قوله تعالى: والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم [الأنفال:74].
وبين تعالى في كتابه أنه تاب عليهم ورضي عنهم فقال مثنياً عليهم وعلى نصرتهم وجهادهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحلك الأوقات وأصعب الظروف لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم [التوبة:117].
وقال تبارك وتعالى في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منوها بهم وبفضلهم محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا كريما [الفتح:29].
دلت هذه الآية الكريمة على أنه لا يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كافر إذ قال: ليغيظ بهم الكفار وهل هناك أغيظ على الكفار وأشد حنقا على قلوبهم من نصرة الصحابة لرسوله صلى الله عليه وسلم وجهادهم أعداء الله حتى دوخوا المجوس والروم, ودوخوا أهل الشرك وطواغيت الكفر في الأرض جميعا.
ثم قسم الله الفيء بين المسلمين أجمعين فبدأ بالمهاجرين فقال: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [الحشر:8]. ثم ثنى بالأنصار فذكرهم وذكر أوصافهم منوها بها مثنيا عليهم بها فقال سبحانه وتعالى: والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9].
ثم ذكر سبحانه باقي أهل الإيمان, أهل المنة فوصفهم بهذه الأوصاف فقال تبارك وتعالى: والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر:10]. وصف الله أهل الإيمان وأهل ملة الإيمان بأنهم لا يكنون بغضا ولا غلا لمن سبقهم بالإيمان وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يعظمونهم ويبجلونهم ويعرفون لهم حقهم ومن سبقهم في الإيمان ويدعون لهم ويترضون عليهم.
ودلت هذه الآية على أن من لم تكن تلك صفته فهو ليس من أهل الإيمان وليس من أهل منة الإسلام.
ومن هذا المعنى استدل إمام دار الهجرة إمام هذه المدينة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه بهذه الآية على كفر الروافض الذين يسبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم لا نصيب لهم من الفيء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري كتاب فضائل الصحابة (3572).
[2] البخاري كتاب الإيمان (17).
[3] صحيح البخاري (3952، 4609).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
وأثنى الله تبارك وتعالى في كتابه العظيم على طوائف مخصوصة من الصحابة وأفراد أعيانهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فذكر سبحانه وتعالى أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا رسول الله يوم الحديبية وكان ذلك سنة ست من الهجرة لما خرج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا قاصدا مكة فصدته قريش عن البيت ففاوضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل لهم عثمان بن عفان رضى الله عنه ليفاوضهم فاحتبسه أهل مكة , فظن رسول الله وأصحابه أن عثمان قد قتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نبرح حتى نناجز القوم))، فالتف حوله الصحابة يبايعونه تحت الشجرة على الموت فأنزل الله تعالى فيهم قوله: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا [الفتح:18].
ونوه الله تعالى في كتابه الكريم بأبي بكر الصديق وذكر فضله وأثنى على نصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن صحبته له في رحلة الهجرة على وجه الخصوص فقال تبارك وتعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].
ثم لما اشترى الصديق رضي الله عنه بحر ماله بعض الموالي المستضعفين الذين أسلموا فعذبهم أسيادهم, اشتراهم أبو بكر الصديق وأعتقهم فأنزل الله تعالى فيه قوله: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [الليل:17-21]. ويا لها من منقبة عظيمة للصديق رضي الله عنه ويالها من بشارة له رضي الله عنه.
وأنزل الله تعالى في صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه أنزل قوله: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد [البقرة:207]. وسببه أن صهيباً لما أسلم خرج من مكة مهاجرا إلى هذه المدينة الطيبة فتبعه أهل مكة فأخذ كنانته وأخرج منها أربعين سهما ثم قال: لأضعن في كل رجل منكم سهما ثم لأصيرن لسيفي فتعلمن أني رجل وأني تركت بمكة قينيتين فهما لكم فرجعوا عنه لما سمعوا ذلك ووصل صهيب إلى المدينة فاستقبله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشرا إياه قائلا له يا أبا يحيى لقد ربح البيع ثم تلا عليه هذه الآية التي نزلت فيه: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد [1] ، رضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم أجمعين وجزاهم عن الأمة خير الجزاء.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [2] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه الطبري في تفسيره (2/322).
[2] صحيح مسلم (408).
(1/748)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وحكم سابه
الإيمان
الإيمان بالرسل
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكم سبّ النبي 2- أدلة القائلين بأنّ سب النبي موجب لقتله 3- محنة إخواننا المسلمين
في البوسنة وكشمير 4- دعوة للإنفاق في سبيل الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من أعظم حقوق المصطفى النبي صلى الله عليه وسلم حماية جنابه ومقامه والذب عن عرضه والانتصار له ضد شانئيه والانتقام من محاربيه الذين يسبونه أو يمسون مقامه بأي نوع من أنواع التنقص, فقد أجمع أئمة الإسلام كما روى ذلك إسحاق بن راهويه على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استهزأ به أو تنقص من حقه على أنه كافر خارج من الملة عقوبته القتل مرتدا, قال تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم إلى أن قال سبحانه: والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [التوبة:61]. ثم قال سبحانه وتعالى: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم [التوبة:63]. علم من هذه الآية أن من يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستهزئ به أو يتنقص من قدره أنه يحادد الله ورسوله أي محارب لله ورسوله فالمحاددة معناها المحاربة والمحاربة أغلظ وأشد من الكفر لأنها كفر مع المعاداة والمناوئة والمشاققة والمعاندة, فدلت هذه الآية علي أن من يسب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستهزئ به أو يتنقص من حقه أنه محارب لله ورسوله وأنه كافر كفرا أكبر خارج من الملة تأملوا قوله سبحانه: فأن له نار جهنم خالدا فيها [التوبة:63]. فإذا صدر إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بسبه أو الاستهزاء به أو التنقص من حقه, إذا صدر ذلك ممن يظهر الإسلام فهو كافر مرتد, أجمع الأئمة الأربعة وغيرهم على أنه يقتل مرتدا كافرا خارجا من الملة ولا تلزم استتابته قبل ذلك فقد سمع سيف الله المسلول خالد [1] بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه سمع رجل يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقتله دون أن يستتيبه, فإذا كان المسلم يقتل بذلك فالذمي من باب أولى وكذلك الكافر معاهدا كان أو غير معاهد فكل من يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستهزئ به أو يتنقص من حقه من مسلم في ظاهره أو ذمي أو كافر معاهد أو غير معاهد يجب قتله والذي يجب أن يتولى تنفيذ ذلك ولي أمر المسلمين مادام لهم ولي شرعي, فأما إذا كانوا في زمان أو مكان ليس لهم فيه ولي شرعي فعلى المسلمين أن يتولوا تنفيذ ذلك بأنفسهم متى ما قدروا عليه وأمنوا من فتنة أعظم. قال تعالى: يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا فالله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة:64-66], دلت هذه الآية على أن من يستهزئ بشيء من القرآن أو يستهزئ بشيء من الدين أو مقام النبوة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلا عن مقام الألوهية فهو كافر مرتد خارج من الملة إن كان ممن يظهر الإسلام ويجب قتله سواء كان مسلما أو ذميا أو كافرا معاهد أو غير معاهد لأنه لا يصدر ذلك إلا من منافق كافر عدو لله ورسوله وقد سمى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسبه عدوا فقال في رجل كان يسبه: ((من يقتل عدوي)) [2] قال صلى الله عليه وسلم: ((من لي بعدوي)) أي من يقتل عدوي, وقال في كعب بن الأشرف اليهودي الخبيث قال: ((من لي بكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله)) [3]. انتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين لقتل ذلك اليهودي مع أنه كان معاهدا, لماذا لأنه كان يسب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ويهجوه في شعره ويهجو المسلمين ويشبب بناتهم أي يتغزل بنسائهم بغية نشر الفساد الخلقي وكان يؤلب بشعره المشركين على المسلمين فانتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليه نفر من أبطال الأنصار على رأسهم محمد بن مسلمة خرجوا إليه وهو وراء حصنه في قبلي هذا المسجد المبارك فاستنزلوه من حصنه وقتلوه وعفروا التراب بدمه النجس الخبيث.
وإنما أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه مع أنه كان معاهدا لأن المعاهد والذمي ينتقض ما بينه وبين المسلمين بمجرد الطعن في دين الإسلام أو سب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إيذاء المسلمين , فعلى كل مسلم رعاة أو رعية أن يذبوا عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يحموا مقامه وجنابه من شناءة أعدائه ومحاربيه وشانئيه وأن ينتصروا له, يجب على الحكومات التي تقول إنها إسلامية أن تحمي مقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تذب عن عرضه وأن توقع العقوبة الشرعية عن كل من يسبه أو يستهزئ به ومن التنقص من حقه صلى الله عليه وسلم التنقص من أي من زوجاته الطاهرات المطهرات أمهات المؤمنين , فإن التنقص من أمهات المؤمنين تنقص من عرضه صلى الله عليه وسلم.
يجب على الحكومات التي تقول إنها إسلامية أن تقوم على ذلك فإن لم تفعل فحاشى أن تكون إسلامية أو شرعية, فما بالك من حكومات بدلا من أن تعاقب من يسب الله ورسوله ويتنقص من هذا الدين فإنها تمكن لهم وتهيئ لهم الأسباب, إن مثل الحكومات التي تفعل ذلك حاشا أن تكون إسلامية بل هي حكومات كافرة خبيثة. وعلى كل مسلم أيضا ومسلمة أن يذب عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا سمع مسلم أحدا يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستهزئ به أو يتنقص منه بأي شكل من أشكال التنقص فلم يغضب لرسول الله ولم ينتصر له صلى الله عليه وسلم ولم يعاقب ذلك الساب أو يسعى لدى ولي الأمر في معاقبته وفي سبيل إقامة الحكم الشرعي عليه , فإذا لم يفعل ذلك مع قدرته عليه فهو منافق معلوم النفاق مشكوك في إيمانه وإسلامه لأن الله تعالى يقول: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [المجادلة:22]. وقد بينا أن من معاني محادة الله ورسوله سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو التنقص من حقه أو الاستهزاء به.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه عبد الرزاق (5/307) رقم (9705) وأحمد في الصارم والمسلول.
[2] أخرجه عبد الرزاق (5/237و307) برقم (9477و9704) من حديث ابن عباس.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرهن باب رهن السلاح (2/887).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا أهل الإيمان ويا أهل الإسلام يا أهل هذه المدينة المباركة لقد اشتد الكرب بإخواننا المستضعفين المنكوبين في البوسنة والهرسك أو في بورما أو في كشمير أو في غير ذلك من بقاع هذه الدنيا وليس لهم ذنب عند المعتدين إلا أنهم مسلمون يقولون ربنا الله لقد سفكت دماؤهم وانتهكت أعراضهم ومزقت حرماتهم وأخرجوا من ديارهم بغير حق فهم يهيمون على وجوههم لا ناصر لهم من الخلق , يمدون أيديهم إلى السماء يشتكون إلى الخالق سبحانه وتعالى فقد خذلهم الخلق أجمعون أما الكفار فلا عجب في ذلك أوربيون أو أمريكيون أو أمم متحدة أو غير متحدة لا عجب في أن يخذل الكافر المسلم, ولكن العجب كل العجب من المسلمين أجمعين يعدون أكثر من مليار بل ربما مليارين ومع ذلك وقفوا يتفرجون على إخوانهم عاجزين عن نصرة من أمرهم الله عز وجل بنصرتهم إذا استنصروهم في الدين. ولماذا عجزوا عن ذلك؟ الجواب على ذلك ذو شجون يوجهه كل واحد منا إلى نفسه يبحث عن جوابه سيجده واضحا كالشمس. ولكن المهم الآن وقد عجزنا عن إنجاد إخواننا بالرجال والسلاح والعتاد والقتال وقد أمرنا ربنا عز وجل أن نقاتل من أجل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا. لقد خذلهم العالم الإسلامي قبل غيره وقف مكتوف اليدين يتفرج على أولئك المنكوبين من المسلمين لا يفعل شيئا لنصرتهم, فأقل الإيمان علينا الآن خوفا من أن يحل علينا غضب الله علي كل مسلم ومسلمة أن يواسي إخوانه المنكوبين في الإيمان والإسلام وأن يضمد جراحهم وأن يمدهم بما يحتاجون إليه وأن يؤوي أراملهم وأن يكفل أيتامهم علينا أن نواسيهم بما استطعنا بالمال وبغيره. هذا أقل الواجب على جميع المسلمين المتخاذلين العاجزين الذين لم يقوموا بأمر الله بنصرة إخوانهم في الدين.
فبادروا يا أيها المسلمون إلى الإنفاق في مواساة هؤلاء فإن الإنفاق والصدقة مما يطفئ غضب الرب ونحن قوم كثرت ذنوبنا وزادت معاصينا, فعلينا أن نبادر إلى استرضاء ربنا عز وجل بالتوبة من الذنوب والإقلاع عن المعاصي والإنفاق في أوجه الخير فإن الصدقة تطفئ غضب الرب [1] كما روي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [2]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه الترمذي برقم (664) وسنده ضعيف.
[2] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/306) رقم (408).
(1/749)
محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"ثناء الله ورسوله على الصحابة – من فضائل الصحابة – سبب هذه المكانة واجب من بعدهم نحوهم – النجاة في اتباع الصحابة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد أثنى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فاجتمع لهم ثناء الله تعالى في كتابه وثناء رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم , روى البخاري في صحيحه [1] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) , في هذا الحديث يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بتعظيم أصحابه ومعرفة قدرهم وحقهم ويكفي لبيان منزلتهم أنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بالصحبة وأضافهم إلى نفسه فقال أصحابي, فكيف وقد بين صلى الله عليه وسلم المنة العظمى في أعناق الأمة لأصحابه صلى الله عليه وسلم لذلك الرعيل الأول الذين حملوا الرسالة مع النبي صلى الله عليه وسلم وجاهدوا معه حق الجهاد وأنفقوا في سبيل الله كل غالٍ ورخيص في أوقات بالغة الأهمية وفي مرحلة عظيمة القدر مع ضيق الحال وقلة ذات اليد , ومع ذلك رضوان الله عليهم أجمعين فقد تحملوا المشاق وكابدوا المتاعب في سبيل نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ولعظيم أثر تلك النصرة وعموم بركتها على سائر الأمة فان ما أنفقه واحد من أولئك الأصحاب الكرام مهما قل مقداره وحجمه فهو أعظم بركة وأثراً وثواباً عند الله تعالى مما ينفقه من جاء بعدهم مهما عظم حجمه وعظمت كميته , فمد من الطعام أو نصف مد أنفقه واحد من الصحابة الكرام في سبيل الله هو أعظم أثراً وبركة وثواباً عند الله من مثل جبل أحد ذهباً ينفقه من جاء بعدهم , عن عبد الله بن عمر [2] رضي الله عنهما قال: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة-يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم- خير من عمل أحدكم أربعين سنة" رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة.
فعلى هذه الأمة أن تعرف قدر سادتها وأن تحفظ حق قادتها رعيلها الأول وصدرها المبجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يمثلون أفضل حقبة في تاريخ البشرية , في الصحيحين [3] عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) قال عمران رضي الله عنه: فلا أدرى أذكر قرنين بعده أم ثلاثة.
وقال صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث: ((ثم إن من بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون ويكثر فيهم السمن)) , القرن هم أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران لأن أهل كل زمان يقترنون في أعمارهم وفي أحوالهم والقرن أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة سنة وهو الأصح, فعلى شرار القرون أن يتأدبوا مع خير القرون, على أهل هذه الأزمنة الفاسدة التي كثر فيها الخبث وقلت فيها الأمانة وظهر فيها السمن وكبرت الكروش من الترف والنعمة والقعود عن الجهاد, على أهل هذه الأزمنة الفاسدة أن يعرفوا قدر أنفسهم وأن يبقوا على أحوالهم وأن يتقربوا إلى ربهم بحب سلفهم وصدرهم المبجل أصحاب النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم لعلنا ببركة هذا الحب وبركة هذا التبجيل والتعظيم لأولئك الأسلاف الكرام ندرك النجاة ونسلم من الخسف والنسخ, على حد قول الشاعر:
أحب الصالحين ولست منهم وأرجو أن أنال بهم شفاعة
إن الأمة التي لا تحافظ على رموزها المبجلين ولا تحمي عرض سادتها الحقيقيين ولا تذب عن سادتها الحقيقيين عن صدرها الأول وعن رعيلها الأول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, إن أمة لا تعظم رموزها المقدسين المعظمين ولا تذب عن عرضهم ولا تحمى مقامهم لا تستحق الحياة.
وماذا يبقى لنا من كرامة وكيان وعقيدة ودين إذا سبوا سادتنا وأهانوا قادتنا وسلبوا قدوتنا رعيلنا الأول وصدرنا المبجل رضى الله عنهم أجمعين وأرضاهم, أيرضى أحدكم أن يسب أبوه أو يهان ابنه أو أخوه؟ أصحاب النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم حقهم في أعناقنا أكبر من حق الأباء والأبناء والأخوان , أعظم من حق العشيرة والقبيلة, فكيف لا نغضب من أجلهم ؟ وكيف لا نذب عن عرضهم؟ وكيف لا نفديهم بأنفسنا وبكل ما نملك؟ إن هذه المسألة لا تتعلق فقط بأشخاص نحبهم ولا بأعيان نعظمهم إنما تتعلق بديننا وشريعتنا وعقيدتنا وقرآن ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فكل ذلك متعلق بالصحابة الكرام الذين نقلوه إلينا رضي الله عنهم وأرضاهم.
اللهم إنا نشهدك على حبهم, على حب أصحاب رسول الله وأنصار رسول الله وجند رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اصطفاهم الله لرسوله وخليله ونبيه صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نشهدك على حبهم وحب من يحبهم ونشهدك على بغض من يبغضهم. نشهدك على بغض أعدائهم وخصومهم من منافقي هذه الأمة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في فضائل الصحابة باب قول النبي لو كنت متخذا خليلا (3/1343).
[2] أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/907) برقم (1729) وسنده صحيح.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضل أصحاب النبي رضي الله عنهم (3/1335) ومسلم في صحيحه في فضائل الصحابة (3/1964).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فعن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه [1].
قوله صلى الله عليه وسلم أمنة أي أمن وأمان فالنجوم إذا ذهبت وانكدرت وتناثرت يوم القيامة اختل نظام السماء فانفطرت وانشقت وذهبت وهكذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمن وأمان لأصحابه ما دام بين ظهرانيهم فلما ذهب صلى الله عليه وسلم ولحق بالرفيق الأعلى أتى الصحابة ما يوعدون ما أنذرهم به النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من الفتن وأول ذلك ارتداد العرب واختلاف قلوب الناس عليهم ولكن بحول الله تعالى وبقوته ثم ببركة قوة إيمان الصحابة وبعلمهم وبفقههم نجت الأمة من تلك الفتن الدهياء, انظر ماذا فعل أبو بكر الصديق بفتنة الردة وهي فتنة دهياء عظيمة فبعد وفاة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة, لم يبق إلا مكة والمدينة وقلة قليلة من غيرهم ثبتوا على الإسلام وارتد باقي العرب أجمعون فعزم الصديق عزمته الإيمانية الصديقية ووضع السيف في أعناق المرتدين حتى أعاد كل أولئك الشاردين إلى حظيرة الإسلام, فالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا في حياتهم ماداموا علي قيد الحياة سداً منيعاً أمام الفتن عن الأمة وسداً منيعاً أمام البدع والضلالات الفكرية وقد كان بدأت بوادرها تظهر في عهد الخليفة عليّ رضي الله عنه وأرضاه فعالجها أبو السبطين بكل حزم وقوة, قتل الخوارج قتل عاد وثمود حتى أباد منهم يوم النهروان تسعة آلاف مارق كما أوصاه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثم حرق السبئية أجداد الروافض بالنار وذلك أنه لما خرج يوماً من المسجد وجد أن بعض الناس يسجدون له فلما زجرهم وسألهم قالوا: أنت هو. قال: ومن هو. قالوا: الله. فجمعهم وحرقهم بالنار [2]. وكانت بدعة القدرية قد بدأت تظهر في أخر عهد الصحابة [3] فكبتها من بقى من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين فلم تتفشى في الأمة إلا بعد رحيلهم , بعد رحيل الصحابة تفشت البدع والضلالات في الأمة والتي لو انتشرت في أمة أخرى لذهبت وتلاشت وانهدم كيانها وأصبحت أثراً بعد عين وضاع دينها كما وقع للنصارى فالنصارى اليوم ليسوا على الدين الذي أنزل على عيسى ابن مريم بل هم على مجموعة من البدع والضلالات والخزعبلات التي دسها فيهم اليهود ولكن الله تبارك وتعالى وعد رسوله صلى الله عليه وسلم ببقاء هذه الأمة بقاء أمته إلى أن تقوم الساعة وجعل السبب الأول في بقائها هو بقاء دينها وحفظ قرأنها وشريعتها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم, تكفل الله بحفظ القرآن وحفظ السنة النبوية وببقاء المنهج منهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فمن انحرف عن هذه الثلاثة القرآن والسنة ومنهج الصحابة هلك مع الهالكين وما أكثرهم ومن تمسك بها فقد أدرك النجاة ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: ((وستفترق أمتي علي ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا: وما هي يا رسول الله. قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)) [4] , فمن كان على المنهج متمسكاً بالقرآن والسنة فليبشر بالنجاة.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [5] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب بيان أن بقاء النبي أمان لأصحابه (4/1961).
[2] رواه البخاري في صحيحه (6/2537).
[3] اخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان (1/36).
[4] أخرجه الترمذي برقم (2641) والحاكم (1/218-219) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/99-100) وسنده ضعيف، وضعفه الترمذي والحاكم.
[5] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد (1/306).
(1/750)
محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم
الإيمان
خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
آل البيت وحق النبي – المراد ب (آل البيت) – وصية الرسول بهم – نساؤه من آل بيته الواجب لآل البيت – فضح المجوس وأفراخهم خطبة 2 : من آداب صلاة الجمعة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمن حقوق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة آل بيته الطيبين الطاهرين وتعظيمهم وإكرامهم وتبجيلهم , لقد أثنى الله في كتابه عليهم فقال سبحانه وتعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيراً [الأحزاب:33]. وآل رسول الله صلى الله عليه وسلم هم قرابته ممن حرم الصدقة وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس وقيل تحرم الصدقة على بني هاشم وبني المطلب وقال مالك رحمه الله: تحرم على بني هاشم فقط , فآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هم هؤلاء وعلى رأسهم أهل الكساء فقد روي من أحاديث كثيرة أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا حسناً وحسيناً وفاطمة وعلي فجمعهم تحت كساء له وقال: ((هؤلاء أهل بيتي, هؤلاء هم أحق)) [1]. ولقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته خيراً بأهل بيته فقال: ((أما بعد أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال صلى الله عليه وسلم: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) رواه مسلم في صحيحه [2].
وأزواجه صلى الله عليه وسلم الطاهرات المطهرات أمهات المؤمنين يدخلن في الآية بلا شك وهي قوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيراً [الأحزاب:33]. وكيف لا يدخلن فيها وهن سبب نزولها والخطاب لهن في السياق فقد بدأ السياق بالخطاب لهن يا نساء النبي ثم استمر الخطاب لهن حتى آخر هذه الآية التي أولها: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيراً [الأحزاب:33]. ولا شك في أن زوجات الرجل يدخلن في أهل بيته وإنما جمع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناً وحسيناً وفاطمة وعلياً تحت الكساء ليبين أن هؤلاء الأربعة أول أهل بيته وأولى أهل بيته بالتكريم , لم يرد صلى الله عليه وسلم الحصر وإلا فآله وقرابته كثير لم يدخلوا تحت الكساء ابن عمه عقيل ابن أبي طالب وعمه العباس وعمه الحارث بن عبد المطلب وعمته صفية وغيرهم من ذوي قرابته وآله صلى الله عليه وسلم لم يدخلوا تحت الكساء لما ذكرنا من أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد التنبيه إلي أن هؤلاء الأربعة أهل الكساء هم أولى آل بيته بالتكريم, فأزواجه الطاهرات المطهرات داخلات في أهل بيته صلى الله عليه وسلم فمحبتهن وتعظيمهن وتكريمهن وتبجيلهن واجب كتعظيم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكمحبتهم وكتعظيم أهل الكساء ومحبتهم.
أما آل بيته صلى الله عليه وسلم ممن جاؤوا من بعده وذرياتهم إلى يوم القيامة فإنما نحب المتقين منهم, نحب المؤمنين الذين تمسكوا بسنة جدهم وبهديه صلى الله عليه وسلم وتمسكوا بتوقير أزواجه وتمسكوا بتوقير أصحابه , أما من انحرف منهم عن ذلك عن سنة المصطفي صلى الله عليه وسلم وهديه وعن القرآن الذي أنزل عليه أو أساء الأدب مع زوجاته الطاهرات أو مع أصحابه الكرام فلا والله لا نحبهم بل نبغضهم لأنهم ليسوا أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا من ذوي قرابته , إنهم أعدائه وإن كانوا من ذوي قرابته وهم في ذلك كسلفهم أبي لهب فقد كان من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً فهو عمه ومع ذلك فقد كان من أعدائه لأنه ناصب ما أنزل عليه العداء فلم يشفع به نسبه وتردت به عداوته, فأولياء النبي صلى الله عليه وسلم هم المتقون سواء كانوا من آله أو من غيرهم كما قال سبحانه: وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون [الأنفال:234]. وعن أنس بن مالك [3] رضى الله عنه سؤل رسول الله صلى الله عليه وسلم من هم أولياؤك فقال: ((كل تقي)) وتلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية: إن أولياؤه إلا المتقون. فمذهب أهل الحق أهل السنة والجماعة أن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه كلهم لهم في أعناقنا حق المحبة وواجب التبجيل والتعظيم فقد كانوا شكلوا هيئة واحدة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم مترابطة متآلفة متكاتفة متعاونة على الإيمان برسول الله وعلى محبته صلى الله عليه وسلم وعلى طاعته ونصرته ولكن المجوس دسوا في صفوف بعض المسلمين خرافة التفريق بين هذه الهيئة الواحدة المتآلفة محاولة من المجوس لهدم الإسلام في نفوس المسلمين بل هي محاولة خبيثة منهم لتشويه مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وصورته في نفوس المسلمين بمحاولتهم تصويره صلى الله عليه وسلم بصورة الرجل الفاشل الذي فشل علي حد قولهم في التأليف والتوفيق بين آله وبين أصحابه , بصورة الرجل الذي خانه زوجاته حاشاه صلى الله عليه وسلم والمقصود الخفي للمجوس وفروخ المجوس من تلك الخرافة هو تدمير الإسلام في نفوس أهله, والحق الأبلج الواضح الساطع لكل ذي عينين أن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وأزواجه الطاهرات وأصحابه الكرام كلهم كانوا متحابين متآلفين متآزرين متعاونين يتسابقون ويتفانون في محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإيمان به وفي طاعته وفي نصرته والله أعلم حيث يجعل رسالته , فكما اصطفى نبيه من بين سائر خلقه إذ كان أفضلهم فقد اصطفى لنبيه زوجات هن أحسن النساء يومئذ وأكرمهن واصطفى لنبيه جنداً وأصحاباً وأنصاراً هم أفضل الرجال يومئذ وأكملهم بعد النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم , والله أعلم حيث يجعل رسالته وبدون ذلك كيف يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي أمانته ويبلغ رسالته دون زوجات صالحات قانتات يسكن إليهن ويعنّه على شؤون الحياة والبيت, وبدون أصحاب وجند وأنصار يذبون عنه وعن دعوته ويجاهدون بين يديه ويبلغون الأمة رسالاته صلى الله عليه وسلم, بدون ذلك كيف يمكنه أن يبلغ رسالته والله تعالى يقول له: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [الأنفال:64]. أي وحسبك من اتبعك من المؤمنين بنصرتهم لك وطاعتهم لك وجهادهم بين يديك وهذا هو أحد وجهي المعنى في الآية, والمعني الآخر وكلا الوجهان صحيح والله حسب من اتبعك من المؤمنين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/577-578) وفيالمسند (4/107) والحاكم (3/159) وغيرهما. والحديث صححه ابن حبان والحاكم.
[2] أخرجه مسلم في صحيحه في فضائل الصحابة باب من فضائل عليبن أبي طالب رضي الله عنه (4/1873).
[3] أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (2/152) وسنده ضعيف جداً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المصلون إن من آداب صلاة الجمعة أن يبكر المصلي إليها فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المصلين على التبكير في المجيء إلى المسجد يوم الجمعة وبين ما في ذلك من الثواب العظيم والأجر الكبير, أما من تأخر في المجيء فإن عليه أن يحرص كل الحرص على أن لا يؤذي من سبقه من المصلين يجلس في أدنى مكان يجده ولا يجوز له أن يتخطى رقاب المصلين فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل أذى والأذى لا شك يترتب عليه الإثم والوزر فقال صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً يوم الجمعة يتخطى رقاب الناس قال له وهو على المنبر: ((اجلس يا هذا فقد آذيت)) [1].
كما أن من آداب صلاة الجمعة وواجباتها أن ينصت المصلي إلى الإمام وهو يخطب على المنبر لا يجوز له أن يشغل نفسه بغير ذلك ولا يجوز له أن يتحدث مع أحد أثناء الخطبة حتى لا يجوز له أن يقول لصاحبه أنصت فمن قال لصاحبه أنصت فقد لغا [2] ومن لغا فقد ضيع الأجر والثواب وهو مهدد بالوزر والإثم. فكم من الناس يأتي يوم الجمعة ليكسب أجراً فإذا به يرجع وقد كسب وزراً وإثماً.فاتقوا الله أيها المصلون وحافظوا على صلاتكم وعلى آداب الصلاة يوم الجمعة , وقد بلغني أن بعض الحريصين على الخير ينهى الناس في هذا المسجد عن الصف بين السواري, لقد ثبت [3] عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن معاوية [4] بن قرة عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: كنا ننهى عن أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ثبت [5] عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل الكعبة صلى بين الساريتين فقال الفقهاء إن النهي موجه للجماعة والإباحة للمنفرد وحملوا كذلك النهي على أنه عند السعة وأما عند الضيق فلا بأس بذلك. قال الفقيه المالكي ابن العربي صاحب أحكام القرآن لا خلاف بين الفقهاء على أنه يجوز ذلك عند الضيق وأنه يكره عند السعة للجماعة وأما المنفرد فلا بأس له بذلك فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة بين سواريها.
فنقول أنه بناء على ذلك لا ينبغي لأحد أن يشق على الناس فينهاهم عن أن يصفوا بين السواري وخاصة يوم الجمعة في مثل هذا المسجد لأن الضيق متحقق من كثرة المصلين ومن زحام ومن نحو ذلك.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [6] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه أبو داود (1118) وأحمد (4/188) والنسائي (3/103) وابن خزيمة (3/656) والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في الجمعة باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب (1/316).
[3] أخرجه الترمذي (229) والنسائي (2/94) وأبو داود (673) وأحمد (3/131) وسنده صحيح.
[4] أخرجه ابن ماجة (1002) وابن خزيمة (1567) وابن حبان (2219).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه (32) الحج باب الصلاة في الكعبة (2/580).
[6] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي في التشهد (1/306) (408).
(1/751)
استقلال الجزائر
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
محمد البشير الإبراهيمي
الجزائر
5/6/1382
كتشاوا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استَهَلّ ببيان سُنّة الله في نُصرة الحق وإزهاق الباطل 2- ثم دعا لشهداء الثورة ولغيرهم
ممن أبلى في ذلك بلاءً حسناً 3- ثم ذكّر بنعمة الله العظيمة على الشعب الجزائري 4- مقارنة
بين الأمس واليوم 5- عدوان الاستعمار على الجزائر 6- وظيفة المسجد 7- الاستعمار
كالشيطان 8- نصيحة بالتعاون والتكافل 9- التحذير من الغرور 10- واجب النصح لولاة
الأمور
_________
الخطبة الأولى
_________
ونستنزل من رحمات الله الصيبة، وصلواتها الزاكية الطيبة لشهدائنا الأبرار ما يكون كفاء لبطولتهم في الدفاع عن شرف الحياة وحرمات الدين وعزة الإسلام كرامة الإنسان وحقوق الوطن.
واستمد من الله اللطف والإعانة لبقايا الموت وآثار الفناء ممن ابتلوا في هذه الثورة المباركة بالتعذيب في أبدانهم والتخريب لديارهم والتحيف لأموالهم.
وأسأله تعالى للقائمين بشؤون هذه الأمة، ألفة تجمع الشمل، ووحدة تبعث القوة، ورحمة تضمد الجراح، وتعاونا يثمر المنفعة، وإخلاصا يهون العسير، وتوفيقا ينير السبيل وتسديدا يقوم الرأي ويثبت الأقدام، وحكمة مستمدة من تعاليم الإسلام وروحانية الشرق وأمجاد العرب، وعزيمة تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض.
ونعوذ بالله ونبرأ إليه من كل داع يدعو إلى الفرقة والخلاف، وكل ساع يسعى إلى التفريق والتمزيق وكل ناعق ينعق بالفتنة والفساد.
ونحي بالعمار والثمار والغيث المدرار هذه القطعة الغالية من أرض الإسلام التي نسميها الجزائر، والتي فيها نبتنا، وعلى حبها ثبتنا، ومن نباتها غذينا وفي سبيلها أوذينا.
أحييك يا مغنى الكمال بواجب وأنفق في أوصافك الغر أوقاتي
يا أتباع محمد عليه السلام هذا هو اليوم الأزهر الأنور وهذا هو اليوم الأغر المحجل، وهذا هو اليوم المشهود في تاريخكم الإسلامي بهذا الشمال، وهذا اليوم هو الغرة اللائحة في وجه ثورتكم المباركة، وهذا هو التاج المتألق في مفرقها، والصحيفة المذهبة الحواشي والطرر من كتابها.
وهذا المسجد هو حصة الإسلام من مغانم جهادكم، بل هو وديعة التاريخ في ذممكم، أضعتموها بالأمس مقهورين غير معذورين واسترجعتموها اليوم مشكورين غير مكفورين وهذه بضاعتكم ردت إليكم، أخذها الاستعمار منكم استلابا، وأخذتموها منه غلابا، بل هذا بيت التوحيد عاد إلى التوحيد، وعاد إليه التوحيد فالتقيتم جميعا على قدر.
إن هذه المواكب الحاشدة بكم من رجال ونساء يغمرها الفرح، ويطفح على وجوهها البشر لتجسيم لذلك المعنى الجليل، وتعبير فصيح عنه، وهو أن المسجد عاد إلى الساجدين الركع من أمة محمد، وأن كلمة لا إله إلا الله عادت لمستقرها منه كأن معناها دام مستقرا في نفوس المؤمنين، فالإيمان الذي تترجم عنه كلمة لا إله إلا الله، هو الذي أعاد المسجد إلى أهله، وهو الذي أتى بالعجائب وخوارق العادات في هذه الثورة.
وأما والله لو أن الاستعمار الغاشم أعاده إليكم عفوا من غير تعب، وفيئة منه إلى الحق دون نصب، لما كان لهذا اليوم ما تشهدونه من الروعة والجلال.
يا معشر الجزائريين إذا عدت الأيام ذوات السمات، والغرر والشيات في تاريخ الجزائر فسيكون هذا اليوم أوضحها سمة وأطولها غرة وأثبتها تمجيدا، فاعجبوا لتصاريف الأقدار، فلقد كنا نمر على هذه الساحة مطرقين.
ونشهد هذا المشهد المحزن منطوين على مضض يصهر الجوانح ويسيل العبرات، كأن الأرض تلعننا بما فرطنا في جنب ديننا وبما أضعنا بما كسبت أيدينا من ميراث أسلافنا، فلا تملك إلا الحوقلة والاسترجاع، ثم نرجع إلى مطالبات قولية هي كل ما نملك في ذاك الوقت، ولكنها نبهت الأذهان، وسجلت الاغتصاب، وبذرت بذور الثورة في النفوس حتى تكلمت البنادق.
أيها المؤمنون: قد يبغي الوحش على الوحش فلا يكون ذلك غريبا، لأن البغي مما ركب في غرائزه، وقد يبغي الإنسان على الإنسان فلا يكون ذلك عجيبا لأن في الإنسان عرقا نزاعا إلى الحيوانات وشيطانا نزاغا بالظلم، وطبعا من الجبلة الأولى ميالا إلى الشر، ولكن العجيب الغريب معا، والمؤلم المحزن معا، أن يبغي دين عيسى روح الله وكلمته على دين محمد الذي بشر به عيسى روح الله وكلمته.
يا معشر المؤمنين إنكم لم تسترجعوا من هذا المسجد سقوفه وأبوابه وحيطانه، ولا فرحتم باسترجاعه فرحة الصبيان ساعة ثم تنقضي، ولكنكم استرجعتم معانيه التي كان يدل عليها المسجد في الإسلام ووظائفه التي كان يؤديها من إقامة شعائر الصلوات والجمع والتلاوة ودروس العلم النافعة على اختلاف أنواعها، من دينية ودنيوية، فإن المسجد كان يؤدي وظيفة المعهد والمدرسة والجامعة.
أيها المسلمون: إن الله ذم قوما فقال: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، ومدح قوما فقال: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين.
يا معشر الجزائريين، إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما دون ذلك)) ، فهو قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
يا معشر الجزائريين: إن الثورة قد تركت في جسم أمتكم ندوبا لا تندمل إلا بعد عشرات السنين، وتركت عشرات الآلاف من اليتامى والأيامى والمشوهين الذين فقدوا العائل والكافل وآلة العمل فاشملوهم بالرعاية حتى ينسى اليتيم مرارة اليتم وتنسى الأيم حرارة الثكل وينسى المشوه أنه عالة عليكم، وامسحوا على أحزانهم بيد العطف والحنان فإنهم أبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم.
يا إخواني: إنكم خارجون من ثورة التهمت الأخضر واليابس، وإنكم اشتريتم حريتكم بالثمن الغالي، وقدمتم في سبيلها من الضحايا ما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض قديما ولا حديثا وحزتم من إعجاب العالم بكم ما لم يحزه شعب ثائر، فاحذروا أن يركبكم الغرور ويستزلكم الشيطان، فتشوهوا بسوء تدبيركم محاسن هذه الثورة أو تقضوا على هذه السمعة العاطرة.
إن حكومتكم الفتية منكم، تلقت تركة مثقلة بالتكاليف والتبعات في وقت ضيق لم يجاوز أسابيع، فأعينوها بقوة، وانصحوها فيما يجب النصح فيه بالتي هي أحسن، ولا تقطعوا أوقاتكم في السفاسف والصغائر، وانصرفوا بجميع قواكم إلى الإصلاح والتجديد، والبناء والتشييد، ولا تجعلوا للشيطان بينكم وبينها منفذا يدخل منه، ولا لحظوظ النفس بينكم مدخلا.
وفقكم الله جميعا، وأجرى الخير على أيديكم جميعا، وجمع أيديكم على خدمة الوطن، وقلوبكم على المحبة لأبناء الوطن، وجعلكم متعاونين على البر والتقوى غير متعاونين على الإثم والعدوان.
قال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وهو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/752)
قيمة كل إنسان ما يحسنه
التوحيد
الألوهية
محمد البشير الإبراهيمي
الجزائر
1/1/1348
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قيمة الرجال تُقدّر بالعمال 2- الأعمال الجليلة نوعان 3- نصيحة عامة
4- فضل الجمعة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس: إن يومكم هذا من الأيام المشهودة، وسمه دينكم بسمة هي الغرة اللائحة في جبين الأيام، وهي هذه الشعيرة التي تقيمون أركانها، وتجتمعون لأجلها.
فاحمدوا الله تعالى على الهداية، واسألوه أن تكون كل ساعة تأتي بعد ساعتكم هذه خيراً مما قبلها، وأن يكون اجتماعكم هذا فاتحة اجتماعات في الخير تنقضي مع العمر، تتآمرون فيها بالمعروف وتتناهون عن المنكر، وتتواصون بالحق وتتواصون بالصبر.
عباد الله: لو كانت كلمة الحكمة توازن بالذهب، أو تقدّر بالمال والنسب، لكانت كلمة علي بن أبي طالب هي تلك الكلمة، وفوقها قدراً وقيمة تلك الحكمة التي ثقفتها الفكرة العالية، ومحضتها الخبرة الراقية، وهي قوله – -: ((قيمة كل إنسان ما يحسنه)) بيّن لنا – رضي الله عنه – وهو مصدر البيان، وينبوع التبيان، أن الأعمار هي الأعمال؛ وبالإحسان فيها تتفاوت قيمة الرجال، وأن ذلك لا يرجع إلى وزن بميزان، ولا كيل بقفزان، وإنما هو عقل مفكّر، ولسان متذكّر، ومن لا عمل له، فلا عمر له، ومن لا أثر له في الدين يمتثل به أمر ربه، ولا أثر له في الدنيا تزدان به صحيفة كسبه، فوجوده عدم، وعُقباه ندم وحياته مسلوبة الاعتبار، وإن شارك الأحياء في الصفة والمميزات.
فاحرصوا، رحمكم الله، على أن تكون لحياتكم قيمة، واربأوا عن أن تكون في كفة النحس والهضيمة، واسعوا في الوصول بها إلى القيم الغالية، والحصول منها على الحصص العالية.
وأن الأعمال التي تجمل الحياة وتُغليها، وتقف بها في مستوى الإجلال وتحييها لا تعدو نوعين: وظائف العبادات التي هي سور الوحدانية، والعنوان الصادق على الإخلاص في العبودية، وهي أخف النوعين محملاً وأقربهما تحصيلاً وعملا، لأن الله لم يكلفكم من عبادته إلا باليسير، وشغل بها القليل من أوقاتكم وترك لكم الكثير.
والنوع الثاني السعي فيما تقوم به هذه الحياة الدنيا من الأعمال وتتوقف عليه عمارتها، وهذا يرجع إلى الدين بإخلاص النية، وتمحيض القصد للجري على حكمة الله وتأييد سنته الكونية.
جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وكشف عن قلوبنا - لإدراك الحقائق – حجاب الغفلة والسنة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة من آمن به وأخلص توحيده، واعتمد عليه في كل أموره، فرجا وعده وخاف وعيده، ورفع أكف الابتهال والضراعة طالباً لطفه وتسديده، وفضله وتأييده، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله إتماما لنصاب العقيدة. وتنويهاً بمزاياه الحميدة، كما نصر الحق وأكثر عديده، وخذل الباطل وأبلى جديده، وتمّم مكارم الأخلاق بصفاته المجيدة وأقواله السديدة، وبعث آخر الأنبياء فكان لبنة التمام ورويّ القصيدة.
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وحافظوا على حدوده في السر والنجوى، وامتثلوا أمر ربكم الذي أكسبكم به فخراً وتعظيماً، وهو قوله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، واعلموا أن يومكم هذا خصّص للاجتماع والعبادة والحسنى والزيادة، فأقيموا القصد في التقرّب من بعضكم ودعوا الأحقاد والتباغض، وأسبلوا على ما فرط من بعضكم للبعض أذيال الستر والعفو، والزموا خلق الرضا والصفح، فكونوا عباد الله رحماء بينكم، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل ووقاني وإياكم شر مزالق الزلل.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
(1/753)
من حكم العيد
فقه, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, الذبائح والأطعمة
محمد البشير الإبراهيمي
الجزائر
10/12/1939
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض حِكَم صلاة العيد 2- الترغيب في الأضحية 3- شروط الأضحية ومصرفها
4- رأس مال الدين تصحيح العقائد وتصحيح العبادات وتصحيح الأخلاق واتباع السّنة
ونبذ البدع 5- الأمر بإخلاص العبادة لله وحده
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر! الله أكبر! عباد الله: إن هذا العيد من شعائر الإسلام العظيمة، وسنن الدين القويمة، شرع الله فيه هذه الصلاة لنجتمع بقلوبنا وأجسادنا، ونتعاطف ونتراحم ونتسامح ونتصافح، وتظهر الأخوة الإسلامية على حقيقتها، وشرع فيه الأضحية لنوسع فيها على العيال، وندخل الفرح على النساء والأطفال، ونتصدق منها على الفقراء والسُّؤّال، وبهذا يشترك المسلمون كلهم في هذا اليوم في السرور، ويتقارب الأغنياء والفقراء بالرحمة، وتتواصل أرواحهم وأجسادهم بالأخوّة والمحبّة، ويتذكرون جميعاً ما أتى به الدين الحنيف من خير وصلاح ومعروف وإحسان.
الله أكبر! عباد الله: إن سنة الأضحية مرغب فيها من نبينا من كل قادر عليها لا تجحف بحاله، ولما كانت قربة إلى الله فإنه يشترط فيها أن تكون كاملة الأجزاء، سليمة من العيوب لقوله تعالى في مقام الكمال: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ، ولقوله تعالى في مقام الذم: ويجعلون لله ما يكرهون ، وقد كان نبينا يرغّب في التصدق من الحمها على الفقراء في أعوام المجاعة والفقر كعامنا هذا، وينهى عن الادخار في مثل هذه الأحوال، فاجمعوا أيها الناس – على سنة رسول الله – بين الأكل والصدقة على الفقراء، فإن الوقت وقت عسير، وإن عدد الفقراء – وهم إخوانكم – كثير..
عباد الله: إن هذه الشعيرة الدينية وأمثالها من الشعائر هي كالربح في التجارة، لا ينتظره التاجر إذا كان رأس المال سالماً، أما رأس المال في الدين فهو تصحيح العقائد، وتصحيح العبادات، وتصحيح الأخلاق الصالحة، واتباع سنة نبينا في كل ما فعل وترك، والمحافظة عليها والانتصار لها، ونبذ البدع المخالفة لها، ثم صرف الوقت الزائد على ذلك في الأعمال النافعة في الدنيا، فإن الله لا يرضى لعبده المؤمن أن يكون ذليلاً حقيراً، وإنما يرضى له بعد الإيمان الصحيح أن يكون عزيزاً شريفاً عاملاً لدينه ودنياه، معيناً لإخوانه على الخير، ناصحاً لهم، آخذاً بيد ضعيفهم، محسناً له بيده ولسانه وبجاهه وماله.
فصحّحوا عقائدكم في الله، واعلموا أنه واحد أحد، فرد صمد، لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، هو المتفرد بالخلق والرزق والإعطاء والمنع والضر والنفع.
فأخصلوا له الدعاء والعبادة، ولا تدعوا معه أحدا ولا من دونه أحداً، وطهّروا أنفسكم وعقولكم من هذه العقائد الباطلة الرائجة بين المسلمين اليوم، فإنها أهلكتهم وأضلّتهم عن سواء السبيل، وإياكم والبدع في الدين فإنها مفسدة له، وكل ما خالف السنة الثابتة عن نبينا فهو بدعة.
وصحّحوا عباداتكم بمعرفة أحكامها وشروطها ومعرفة ما هو مشروع وما هو غير مشروع، فإن الله تعالى لا يقبل منكم إلا ما شرعه لكم على لسان نبيه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/754)
الاستجابة لنداء العلماء المصلحين
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
محمد بن منصور
برج أم نايل
1/11/1354
محمد بن منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان سُنة الله في عباده ببعثة أئمة هداة دعاة يُجدّدون للناس أمر دينهم 2- أن الله عز وجل
جعل لهؤلاء الدعاة الهداة أنصاراً أحراراً يشدّ بهم أزرهم ويُقوّي بهم ظهرهم 3- وجّه نداءً إلى
المؤمنين بأن يجتهدوا في العمل الصالح وأن يَسْعَوا في اتخاذ الأسباب مع مراقبة تحقيق التوكل
على الله عزّ وجل 4- ذكّر بوصية لقمان الحكيم لابنه وبيّن أهميتها 5- حضّ على التمسّك
بالقرآن الكريم وتدبّر آياته 6- أوصى بالعناية بتزكية النفس وتطهيرها من الشرك والمعاصي
والإكثار من الطاعات والعمل الصالح للفوز بالجنة والنجاة من النار
_________
الخطبة الأولى
_________
جرت سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا أنهم كلما بعدوا عن الهدى وحادوا عن الصراط السوي لطول الأمد وقساوة القلوب بعث إليهم أئمة يهدون بأمره، ودعاة يدعون إلى دينه القويم، وصراطه المستقيم، بالبراهين الساطعة، والحجج الدامغة، وجعل لهم في كل وقت أنصاراً، رجالا أحرارا، يعشقون الفضيلة، ويتباعدون عن الرذيلة، ولا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا تقهقرهم ملاكمة ملاكم، يشد الله بهم أزر الهداة، ويقوّي بهم ظهر الدعاة، ليزدادوا بذلك نشاطا إلى نشاطهم وقوة إلى قوتهم الموهوبة التي خلقها الله فيهم، وجعلها ممزوجة بلحومهم ودمائهم، لا تغيرها الحوادث، ولا تزعزعها الكوارث، بل تجدهم آناء الليل وأطراف النهار مثابرين على الدعوة إلى الله وإلى توحيده والمحبة فيه، بإظهار آياته الكونية الدالة على كمال قدرته، وعجائب صنعته، وواسع رحمته، تنبيها للقلوب الغافلة، والأفكار الراكدة، ولا عجب ولا بدع أن قيّض الله لأهل هذا العصر الحاضر رجالا من أهل العلم الصحيح أخذتهم الغيرة الدينية، والعاطفة القومية حين رأوا الناس في اضطراب شديد، واختلاف ما عليه من مزيد؛ شرّه متفاقم، وموجه متلاطم، فأسرعوا إلى تلافي هذا الخطر المحدث بكيان هذه الأمة المسكينة التي رميت من كل صوب بمصائب لو نزلت على الجبال لدكّتها دكّا، أو على الجمال لحثّتها حثّا، ونادوا بصوت واحد سمعه أهل القبور في قبورهم: ألا هبّوا أيها النائمون، تنبّهوا من منامكم، وقوموا على أقدامكم، فهذا وقت وعصرٌ تحرّك فيه كل شيء حتى الجماد، فكيف لا تستيقظون أيها العباد، فقام من نومه من قام، وهب ينفض عن نفسه التراب، ويقول: هل من توبة لمن تاب؟ فقيل له: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [ الشورى: 25]، فقم الآن للعمل وتباعد عن داء الكسل، ونبّه من غفل، ولا تكن في الأمة عضوا أشلّ فقد ورد: ((إن الله يحب العبد المحترف، ويبغض العبد البطال)).
فاعمل اليوم لتفوز غدا، وتنجو من الهلاك والردى، وتعاط الأسباب، وتوكل على الملك الوهاب، ولا تتكل على عمل غيرك، ظنًا منك أنه ينجيك، أو يقرّبك إلى الله ويدنيك، هل رأيت أحدا صعد إلى سطح دار بغير سلّم؟ هل رأيت أحدا علم من غير أن يتعلّم؟ هل رأيت أحدا حصد ما لم يزرع؟ هل رأيت أحدا بأكل غيره يشبع؟ هل رأيت أحدا وُلد له من غير أن ينكح؟ هل يُعدّ الرجل صالحا من غير أن يصلِح؟ إن الله سبحانه وتعالى ربط المسببات بأسبابها، وأمرنا أن نأتي البيوت من أبوابها، فإذا فعلنا ذلك كنّا ممتثلين أمره راجين وعده، وكان وعده مفعولا، وفضله مأمولا.
وتذكّر أيها العاقل وصية لقمان الحكيم لابنه، فقد ذكرها الحكيم العليم في كتابه الكريم بقوله: وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه.. [ لقمان: 13-14] إلى أن قال: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ّ [ لقمان: 15] ثم قال: يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردك فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور [ لقمان: 16-17].
فلو تمسّك الناس بهذه الوصية لأفلحوا وفازوا بكل خير من خيري الدنيا والآخرة، ومهما تأمّل الإنسان في أي آية من آيات القرآن إلا وجدها جمعت فأوعت.
و الله لو قام به العباد لارتفعوا إلى السما وسادوا
لكنهم قد تركوا القرآن وطلبوا سواه حيث كان
فصار حظهم حضيض الجهل وكثرة القول بدون فعل
واختلط السقيم بالصحيح هل يجدْهم بيان من فصيح
عليك بالقول الصحيح يا فتى فهو الذي عن الصحابة أتى
و أخذ الأئمة الأعلام به على حسب ما يرام
ومخضوا الألفاظ مخضا فبدا لكل واحد طريق الاهتدا
فما أتى عنهم فذاك الدين دين الإله حبْله المتين
فلازم درسه وبادر للعمل وجد في الطلب واحذر الكسل
فعليك أيها العاقل بالعمل في هذه الدار التي هي دار عمل لا دار قعود وكسل، وامش ساعيا في مناكب الأرض وكل مما رزقك ربك، وأحسن إلى عباد الله كما أحسن إليك، ولا تبغ بنعمة الله الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين، قال عز وجل: فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [ الملك: 15]، وقال: ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين [ القصص: 77].
وأعلم أن الآخرة دار جزاء للعالمين، ولا يغرّنّك المغرورون فتترك طاعة ربك وتطيعهم، فإن من يبخل ويشحّ ولا تسمح له نفسه أن يدفع إليك اليوم درهما كيف يمنحك غدا جنّة واسعة الأطراف والمدى؟ فالجنة خلقها الله للعاملين الذين يقول لهم: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ، وأعد لهم عنده م لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرأوا إن شئتم، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ، فالأعمال الحسنة جعلها الله سببا في تطهير النفوس وتزكيتها، والأعمال السيئة بضدّ ذلك: وما تعمل في هذه الدار تجده هنالك، فطهّر نفسك وزكّها بالأعمال الصالحة، قال الله عز وجل: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها أي نجا من الناس وفاز بالجنة من زكى نفسه وطهرها من الشرك والمعاصي، وكمّلها وصفّاها بالإيمان والأعمال الصالحة، وقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة من دسّاها أي دسّ نفسه ونقصها وأخفاها في ظلمات الشرك ودياجير الكفر والمعاصي، فإن الأعمال الصالحة تكميل للنفس، وتزكية لها، وضدّها نقصان وإخفاء لها، جعلني الله وإياكم ممّن أنار الإيمان مشكاة قلوبهم، وألان اليقين من لبّهم، فالتذوا بالطاعة، وعملوا بقدر الاستطاعة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/755)
العلم سبيل النجاة
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
محمد بن منصور
الجزائر
5/6/1354
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سعي الأمم إلى النهوض والرقي 2- غاية المسلم إقامة الدين ولا يتم ذلك إلا بالعلم
3- واجب نشر العلم 4- نداء للفقير والغني بأن يتقوا الله تعالى 5- الوصية بالاقتصاد
في المعيشة 6- الوصية بالعلم والمسالمة
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي بيده الملك والخلق والتدبير، وهو على كل شيء قدير، خلق الخلق، وتكفّل لهم بالرزق، وأمرهم بالسعي في طلبه، والتمسك بسببه، لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ويريد، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تثمر في القلب اليقين، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تعاطوا أسباب النجاة فنجوا، وطلبوا العلو في الكمال فعلَوا.
أما بعد:
فإن كل أمة تأخرت، وعن إدراك ما فيه خيرها وصلاحها عجزت، تجدها لا يقر لها قرار، ولا تهدأ لها أفكار، بل هي آناء الليل وأطراف النهار، تتطلب ضالتها المنشودة، وجوهرتها المفقودة، إلى أن تصل إلى غايتها المطلوبة، ومسألتها المرغوبة، فإن وصلت إلى مناها، ونجحت في مسعاها، كان كل من ساعدها في سبيلها صديقا حميما. وإن شط به المزار، ومن تعرض لها [فهو] بعكس ذلك وإن عد في الجوار.
وإن غايتك المطلوبة، ومسألتك المرغوبة، أيها المسلم، هي أن تعرف ما أمرك به دينك وما نهاك عنه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعلم، والعلم لا تجده إلا عند العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر.
العلم ميراث النبي كذا أتى في النص والعلماء ورّاثه
ما خلّف المختار غير حديثه فينا فذاك متاعه وأثاثه
فخذوا عنهم العلم وكونوا خير آخذ، وعضوا على ما أخذتموه عنهم بالنواجذ، واعلموا أن العلم هو وسيلة لكل خير يطلب، ومغنطيسً لكل ما فيه مرغب، فعلموه أولادكم، وفلذة أكبادكم، فإنكم عنهم يوم القيامة مسؤولون، وعن إهمالهم مناقشون ومن نوقش الحساب عذب.
ولا تقل أيها الفقير: " إني فقير"، إذ لا عذر لك في هذا التقصير، فإنا نراك تبذّر فيما لا يعنيك الشيء الكثير، الذي يكفيك في ضرورياتك وتعليم أبنائك، ونراك تؤثر الملاهي في المقاهي، وتركت فلاحة أرضك التي تصون بها ماء وجهك، وتذب بها عن عرضك، وأصبحت تشتغل بما لا يعنيك وعن طاعة ربك معرض، وإذا دعيت لأن تقرض ربك أقل شيء تأخرت ولم تقرض.
ويا أيها الغني، وأنت في الحقيقة مسكين، طالما دُعيت للتصدق فما تصدقت، وطالما دعيت لأن تقرض ربك فما أقرضت، وأكلت أموال الفقراء والمساكين، وكم طردت أجيرا ولم تعطه عرق الجبين، وإذا دُعيت إلى ما فيه صلاحك ونجاحك تصاممت عن قبول الحق، واسترضيت المخلوق وأغضبت رب الخلق، فهلاّ صالحت مولاك بشيء من دنياك، ونظرت في القرآن، ما أعد الله لأهل الإحسان، في دار الرضا والرضوان، وهلاّ قدمت من مالك، ما تجده هنالك، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا.
واعلموا [أيها المسلمون]: أن الاقتصاد أحسن شيء تمسّك به أهل الصلاح والسداد: وإنه خير معين على دفع عبء الدين، وأسهل وسيلة للغنى، لو كان به يعتنى، وقد أرشدنا إلى ذلك من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى بقوله: ((ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد)).
فعليكم بالاقتصاد، تبلغوا غاية المراد، وإياكم والتبذير، فإن ضرره خطير، وصاحبه بالفقر جدير، وقد نهى الله عنه، وجعل صاحبه من إخوان الشياطين، في قوله وهو أصدق القائلين: ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ، ومما يحسن إنشاده في باب الاقتصاد، قول من أجاد وأفاد، إذ يقول:
ولما رأيت الدهر أنحت صروفه علي وأودت بالذخائر والعقد
حذفت فضول العيش حتى رددته إلى القوت خوفا أن أجيء إلى أحد
و قلت لنفسي أبشري وتوكلي على قاسم الأرزاق والواحد الصمد
فإلا تكن عندي دراهم جمّة فعندي بحمد الله ما شئت من جلد
ألا إن لكل شيء أسبابا، وطرقا وأبوابا، منها لا من غيرها الوصول، ولا ينبغي عنها العدول، وإن الطريق الذي يوصل إلى كل شيء هو العلم، فاتخذوه سبيلا، واعتنوا بنشره وتعليمه، وتلقينه وتفهيمه، حتى تغوص في القلوب بشاشته، وتستولي على المشاعر حلاوته، فعند ذلك تؤتي شجرة العلم أكلها في كل وقت وحين، وعليكم بالمسالمة، والإعراض عن كل من يريد مشاغبة، فما خاب امرؤ جعل العلم دليلا، والمسالمة ظلا ومقيلا، إلا أن تهان كرامته، وتداس مسالمته، فعند ذلك لا يحسن الصبر، إذ لا صبر على الوقوف على الجمر، بل أهون من ذلك الاضطجاع في القبر.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/756)
دور العلماء في محاربة البدع
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
محمد بن منصور
برج أم نايل
1/10/1354
محمد بن منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بنعمه العظيمة , ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل لهداية الناس إلى الصراط
المستقيم 2- بيّن خطورة البدع , وانتشارها بين الناس في ذلك الزمان واستفحال أمرها
3- اختلّت الموازين فأصبحت هذه البدع سُنناً 4- نوّه بجهود العلماء المخلصين في محاربتها
وإطفاء نارها 5- بيّن فضلهم ومنزلتهم , وأمر الناس بالرجوع إليهم وسؤالهم عن أمر دينهم
6- الأمر بتقوى الله عز وجل بامتثال أمره واجتناب نهيه , وأن ذلك هو الطريق إلى جنّات
النعيم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن البدع قبل أن يفتح العلماء أفواههم لدفعها بالحجج، كانت كنار الجحيم تتأجج، وعمّ ضلالها الأقاليم، وما أحد قال فيها: هذا عذاب أليم، بل بعض يحبّذ ويحسّن، وبعض يقول: هذا أمر هيّن، حتى كثر شرّها وظهر ضرها، فقام العلماء الذين هم ورثة الأنبياء حقا فتداركوا الأمر فأطفأوا بنور العلم نارها، وأزالوا بسيف الحجة عن الأمة عارها، وحاربوها في عقر دارها، واقتلعوها من أسّ جدارها، فذهب أهلها يعثرون في أثواب الخجل، ويلوكون ألسنة العجز والفشل، وشعارهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون ، وطالما عد الناس هذه البدع سننا، وحسِبوا نقمتها عليهم مناًّ، إلى أن عم الفساد سائر البلاد، وتوصلوا بذلك إلى ما حرم الله، وصار كل يتبع ما يهواه، ووقعوا في حيرة بعدما عميت منهم البصيرة، ولا ملجأ من الله إلا إليه، ثم أنقذهم بهذه الطائفة التي أخبر بها صاحب الحوض والشفاعة بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)).
وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )) ، وقد جاءكم وفد العلماء، فكونوا لوعظهم سامعين، واسأولهم عن أمر الدين، فالسؤال شفاء من داء الجهل، وقد رزقكم الله بنعمة عظيمة ألا وهي العقل، لتسألوا عن الدين حتى لا يغرّنكم إبليس اللعين، فقد قال خير من علّمه ربه وعلّم: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين )) ، ((وإنما العلم بالتعلم )) ، وإن العلم لا يذهب إلا بذهاب العلماء، وبقاء جهال الرؤساء، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناس رؤوساً جهالا فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا )) ، فشمّروا أيها المؤمنون عن ساعد الجد، تفوزوا مع الفائزين، وامتثلوا أمر ربكم، وانتهوا عما نهاكم عنه تكونوا من المتقين، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/757)
التحذير من البدع والمواسم المحدثة
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
سليمان بن سيدي محمد بن عبد الله
غير محدد
1/1/1355
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الله بالمحافظة على السنة والجماعة 2- أشار إلى حق الراعي على الرعيّة وإلى حقهم...
عليه 3- حال المسلمين الأليم حيث فشت فيهم البدع , وانتشرت بينهم المنكرات 4- التحذير من...
ذلك كله 5- أوصى بلزوم طريق السّنة 6- نهى عن بدع المواسم وحذّر من رؤوس أهل البدع...
وكشف تلبيسهم وتدليسهم على الناس وعلى دينهم
7- أشار إلى بدعة تزويق المساجد والأضرحة...
وأن ذلك ليس من هَدْي السلف 8- حذّر من التقليد الأعمى الذي هو ديْدَن أهل البدع بل دينهم...
9- صوّر الأصل العظيم ألا وهو كمال الدين وتمام الشريعة 10- بيّن الفرق بين الذكر النبوي...
المشروع وبين الذكر المبتدع الممنوع 11- أوصى بالتوبة والاستغفار وحذّر من ترك الأمر...
بالمعروف والنهي عن المنكر 12- بيّن العمل الصالح الذي يتقبّله الله تعالى والذي يَتقرّب به...
الأولياء الصالحون والمتقون المفلحون إلى الله تعالى 13- وجّه نداءً إلى أولياء الأمور أن...
يمنعوا هذه البدع وأن يمنعوا أهلها من الحضور في المساجد 14- بيّن مغبة انتشار البدع والمنكرات 15- الوصية بلزوم السنة والجماعة والحذر من البدعة والفُرقة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، شرح الله لقبول النصيحة صدورَكم، وأصلح بعنايته أمورَكم، واستعمل فيما يرضيه آمرَكم ومأمورَكم، فإن الله قد استرعانا جماعتَكم، وأوجب لنا طاعتَكم، وحذَّرنا إضاعتَكم، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، سِيَما فيما أمر الله به ورسوله، أو هو محرّمٌ بالكتاب والسنة النبوية، وإجماع الأمة المحمدية، ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَآتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [الحج:41].
ولهذا نرثي لغفلتكم أو عدم إحساسِكم، ونغار من استيلاء الشيطان بالبدع على أنواعكم وأجناسِكم، فألقوا لأمر الله آذانَكم، وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانَكم، وطهّروا من دنس البدع إيمانَكم، وأخلصوا لله إسراركم وإعلانَكم، واعلموا أن الله بفضله أوضح لكم طرقَ السنة لتسلُكُوها، وصرَّح بذمّ اللهو والشهوات لتملِكُوها، وكلَّفكم لينظر عملَكم، فاسمعوا قوله في ذلك وأطيعوه، واعرِفوا فضلَه عليكم وعُوه.
اترُكوا عنكم بدعَ المواسم التي أنتم بها متلبّسون، والبدعَ التي يزيّنها أهلُ الأهواء ويلبّسون، وافترقوا أوزاعًا، وانتزعوا الأديان والأموالَ انتزاعًا، بما هو حرامٌ كتابًا وسنة وإجماعًا، وتسمَّوْا فُقرَا، وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرَا، قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لأَخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً (1/758)
الدين أساس التربية والتعليم
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
مصطفى بن حلوش
الجزائر
19/6/1354
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفشّي الجهل في نساء المسلمين 2- الغربة التي يصنعها الغرب لدى أبناءنا تجاه أمّتهم
حين دراستهم لعلومه 3- الانفصام الموجود بين الآباء والأبناء وذلك بسبب انعدام التعليم الديني
العربي , وتوجّه الأبناء إلى التعليم المدني الإفرنجي 4- الدعوة إلى إقامة التعليم الديني للرجال والنساء
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الذي يدخّن وينهى ولده عن التدخين ما أنصفه، وإن الذي يقامر ويضرب ولده على القمار أشهد أنه ظلمه، وإن الذي يكذب ويقول لولده لا تكذب فليعلم أنه غشه وما نصحه، وإن الذي لا يرغب في مطالعة الكتب واكتساب المعرفة لا يرغب أبناؤه في ذلك.
إلا لبواعث من غير جهته، وإن الذي يقضي أوقاته كلها في اللهو والمجون لا يأمن على أولاده أن يكونوا أمعن منه في اللهو والمجون.
إذا كان رب الدار بالطبل ضاربا فلا تلم الصبيان فيها على الرقص
[ثم اعلموا أيها المسلمون] قد يكون الرجل عفّا اليد، طاهر القلب، كريم الخلق، محبا في الخير، وغاباً عن الشر، ثم تشغله الشواغل فيترك أولاده لأنفسهم تعمل فيهم الظروف عملها، ولو كانت المرأة في مثل صلاح هذا الرجل، لما بقي الأولاد لأنفسهم بل لوجدوا من أمهم التي تجمع بين متانة الخلق، وصحة العقل، وحسن التربية، وبين الحنان والعطف خير كفيل يكفل، ومشير يشير.
ومن المؤسف المحزن [أيها المسلمون] أن تكون الأم وهي المدرسة الأولى جاهلة لا تعلم، وناقصة لا تكمل، وآسف من ذلك وأحزن أن يضاف إلى جهلها ونقصانها جهل الرجل ونقصانه، فتبقى مدرسة الأسرة عاطلة، لا من ناحية الرجل، ولا من ناحية المرأة.
وهذا هو السبب في الفرق الكبير الذي نراه بين الأبناء وآبائهم والأمهات وبناتهن، في الخلق والعمل وفهم الحياة.
فالابن الذي يتعلم تعلّماً إفرنجيا محضاً، يفنى في علمه، وينكر أكثر أو كل ما يتصل بقومه وأسرته، وتصير كل صفة خلقية أو عملية من صفاتهم نقصانا في حقه، فلا يجمل به وهو المتعلّم أن يتحلّى بها، أو يبدوَ منه حنانٌ إليها، وغايته الانسلاخ من قوميته، والاندماج في قومية غيره، وذلك شر ما نستعيذ بالله منه.
وإذا حنّ حنينه لقومه، وأراد أن ينفعهم بعلمه تعذّر عليه الوصول إلى قلوبهم، لأنه لا يعرف طريقها، وإلى مشاعرهم لأنه لا يُحسن سلوك السبيل إليها، إذ ليس عنده من دين القوم وآدابهم ولغتهم إلا الانتساب إليهم، ولهذا يندفع للعمل ثم لا يثبت إلا قليلا حتى يستولي عليه القنوط، ويستحوذ عليه الضجر، فيهجر العمل، ويتّهم الأمة ويستنقصها، وما كانت – والله- الأمة ناقصة بل هو الناقص الذي لم يدرك أن الأمة تسلسُ قيادُها لمن يقودها [بشعورها] لا بشعوره، ومن زمام قلبها لا من زمام قلبه.
وهذه هي الصفة التي نشكوها من قادتنا [أيها المسلمون] وهي التي لم يستطيعوا معها أن ينفعوا إلا قليلاً.
وذلك حال الابن الذي لم يجد في الأسرة مربياً ولا في المدرسة من ينشئه تنشئة خُلقية قومية، وفرقٌ بينه وبين من يتعلم تعلّماً عربيا قوميا صحيحا، فأخص مميزات هذا عن الأول أنه نشأ على خلق الصبر، واحتمال المكاره، وبُعد الأمل، وعظيم الرجاء، لأن دراسته العربية لا تخلو من اتصال بالدين، والدين [أيها المسلمون] لا يغني عنه كبر العقل، ولا سعة الفكر، ولا عظيم الخلُق.
لهذا يجب [علينا معاشر المسلمين] إن أردنا حياة هنيئة، وسعاد رضية، أن يكون الدين أساسا للتعليم، وأن يشمل الرجل والمرأة على السواء، وأن يكون التطبيق فيه أكثر من النظر.
[حتى ننقذ] شبابنا من براثن التفرنج والاندماج، و[حتى يفهموا] أن حاجة الحياة لا ينافيها الدين بل هو عليها أعظم معين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/759)
ترشيد التبرعات والنفقات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, الزهد والورع
مبارك بن محمد الميلي
غير محددة
18/6/1354
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية المال 2- السفهاء ومن المقصود بهم ؟ 3- أصحاب الطرق الذين استحوذوا على
عقول الناس فأكلوا أموالهم بالباطل 4- الحث على التبرّع للجمعيات الموثوق بها التي تعمل
على إعلاء كلمة الله تعالى 5- بيّن أن حب المال لا يُنافي الزهد المشروع وأن حب المال
يكون مذموماً إذا كان حُبّاً جمّاً
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيتها الطائفة القائمة بالحق، الداعية إليه باللين والرفق، الناصرة له بالصبر والصدق، فلم يضرها بفضل الله من خالفها من الخلق، فقد قيل: المال قوام الأعمال. وقد نطق بذلك القرآن في آية: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما في قراءة غير نافع وابن عامر، قال البغوي في تفسيره لهذه القراءة: وأصله قواما فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وهو ملاك الأمر وما يقوم به الأمر، وأراد هاهنا قوام عيشكم الذي تعيشون به، قال الضحاك: به يقام الحج والجهاد وأعمال البر، وبه فكاك الرقاب من النار، وجعل ابن كثير في تفسيره من أنواع السفهاء من يكون سيء التصرف لنقص العقل أو الدين.
وقد ابتليت الأمة منذ دهر بأناس ناقصي العقل بالجهل والجمود والغرور، ناقصي الدين بترك الواجبات وفعل المحرمات ودعوى الخصوصيات، فأنفقوا من جهلهم على الأمة ما جعل جمهورها يأنس إلى الجهل وينفر من العلم، وأنفقوا عليها من جمودهم ما جعلها تسرع إلى قبول المحال لاعتيادها سماعه، وتبادر إلى إنكار الواجب الضروري لغرابته عندها وجدّته بزعمها، وأنفقوا عليها من غرورهم ما جعلها تطمئن إلى وعدهم، وتخشى وعيدهم، ولو كان وعدهم بنص القرآن وعيدا، ووعيدهم بنص الكتاب عند الله وعدا أكيدا، وأنفقوا عليها من نقصان دينهم ما جعلها تضيّع الصلوات وتقيم الأوراد، وتأتي بالمنكرات وتتكل على صلاح الشيوخ والأجداد، وهكذا سلبوا الأمة عقلها ودينها، وأفسدوا عليها آخرتها ودنياها.
هل ترون من هو أحق من هؤلاء بالسفاهة وأبعد في الضلالة؟ لا، لا أحق منهم بالسفاهة ولا أبعد منهم في الضلالة إلا من آتاه الله علماً فخدمهم به، ورزقه مالا فآتاهم إياه.
فاتقوا الله أيها العباد، وراجعوا طريق الرشاد، وانظروا لعاقبتكم بعين الحكمة والسداد، فلا تؤتوا أولئك السفهاء أموالكم التي تجهلون أمر مصيرها، ولا تمسكوها عن الجمعيات [الخيرية] التي تحاسبونها على قليلها وكثيرها.
وإن جمعية من الجمعيات التي تطلعكم كل عام على حسابها، وتدعوكم كل سنة إلى الاطلاع على دفتر ماليتها، وقد وثق العدو قبل الصديق بأمانتها المالية، وإن أقامت الضجة حولها مرارا نفوس من الخير خالية، وبالشر عامرة وإليه ساعية، لا تحمي دينها من الإهمال، ولا قوميتها من الإذلال، بل هي تشاغب رجال العمل، وتحاول أن تنزع ما للأمة فيهم من ثقة وأمل، فقولوا لها: شاهت الوجوه، وإنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه.
فأنا أوصيكم بحب المال، ولكن باعتباره وسيلة للسعادتين، وإنما ذم الله حب المال إذا كان حبا جماً يستولي على القلوب فيزيل منها الرحمة، وعلى العاطفة فيأخذ منها الرقة، وعلى المشاعر فينزع منها غريزة الميل إلى السمعة الحسنة.
وإن حب المال على ما أوصيناكم به هو عين الزهد الذي جاءت به شريعتنا، لا ذلك الزهد المكذوب، المتصوّر بالمقلوب، كأغلب تصوّراتنا الدينية والحيوية.
[وتنبّهوا يا عباد الله] وتنبه قارئ كتاب الحياة إلى أن المشاريع العامة تعتمد على عمارة القلوب، أكثر مما تعتمد على امتلاء الجيوب، فإذا عمرت القلوب بالخير، أنتجت من الآثار ما يدهش كل غير.
فسابقوا إلى إعانة [الجمعيات الخيرية] على تنفيذ برنامجها، وسارعوا إلى إمدادها بل ما تتأيد به على مقتضى إيمانكم بحسن برنامجها، لا على حسب ما ليتكم التي لم تضع الطبيعة حداً لها، وكونوا من الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون.
وأختم هذه [الخطبة] بآية عسى أن يرسخ معناها الصحيح في قلوبكم، فتظهر آثارها في أعمالكم، وتنقذوا أمتكم من تهلكتها بالاقتصاد في الإنفاق الخاص، وخفة البذل في الإنفاق العام، قال تعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/760)
دور العلماء في الأمة
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
فرحات بن الدراجي
الجزائر
5/6/1354
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الله على الأمة المحمدية ببقاء العلماء فيها 2- العلماء الربانيون وعلماء السوء
3- غاية كل مسلم هي خدمة الإسلام وإحياء اللغة العربية 4- واجب العلماء على الأمة
5- واجب العلماء على الأمة 6- منزلة العلماء من الأمة منزلة القلب من الجسد
7- جهود العلماء المشكورة
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن من دلائل التوفيق لهذه الأمة التي طال جمودها، واستمر ركودها، أن يُوفّق علماؤها الذين هم خلاصتها وقادتها بحق إلى [دعوة الناس إلى الحق، وتجديد الدين فيهم] رغم ما يحيط [بهم] من عواصف وحروب.
ورغم ما يعترض [طريقهم] من عراقيل وعقبات، وإذا قلنا علماء الأمة في مثل هذا المقام وهذا الموقف، فإنما نعني به نوعا خاصا من العلماء نعني بهم الذين يعملون على ما يرضي الله ورسوله والعلم وأهله والوطن وواجبه.
نعني بهم الذين يقدسون مصلحة الأمة فوق كل مصلحة، ويضحون بأعز ما لديهم في سبيل إعلاء شأنها، ورفع مستواها بين الأمم الناهضة، والشعوب الراقية.
أما أولئك الذين كل همهم من الحياة أن يملأوا بطونهم وجيوبهم، وإن باءوا بغضب من الله، أولئك الذين يؤجرون على تعمية أمتهم وتجهليها وسوقها إلى حيث شقاؤها المؤبد، وتعاستها الدائمة.
فإن العلم والإسلام والإنسانية تبرأ إلى الله منهم ومن أعمالهم المروّعة.
[أيها المسلمون]:
إن غايتنا التي نسعى في الوصول إليها، وهدفنا الذي نرمي إليه، أن ننهض بالإسلام ونعمل على تنقيته مما ألصق به، ولن يكون ذلك إلا بالرجوع لأصوله الأولى ومصادره الصحيحة حتى يرجع إليه جماله وجلاله، وأن نعمل على إحياء لغة القرآن حتى يرجع إليها سالف مجدها، وغابر عزها وحتى تصبح منتشرة في المدن والقرى، وبين الأفراد والجماعات.
هذه هي الغاية التي لها نعمل ما دام فينا عرق ينبض، ولن يصدّنا عنها تهديد ولا وعيد، لنبرهن بأقوالنا وأعمالنا للذين يحاولون أو يعملون بالفعل على قطع كل صلة تربطنا بالإسلام الصحيح، والعربية الفصيحة، لنبرهن لهؤلاء أن الإسلام روح المسلم، والعربية لسانه، وليس في الإمكان أن يعيش إنسان بلا روح ومن غير لسان.
أيتها الأمة المسلمة:
إن لك على العلماء واجبا، وللعلماء عليك واجب.
فواجب العلماء عليك أن تجودي لهم بثقتك، وأن تكوني مطواعة لأمرهم، ذائدة عنهم، مخلصة لهم، مضحية بالنفس والمال إذا دعوك إلى التضحية، وأن تكوني ملبية لندائهم، واعتقدي دائما أنهم لا يدعونك إلا لما فيه صلاحك ورشدك.
وواجب الأمة على العلماء أن يخلصوا لها النصيحة، وأن لا يقصّروا في نشر العلم بين كبارها وصغارها، من أسهل الطرق وأيسرها، وأن يهيئوا لها الوسائل التي تجعلها في صف الأمم الراقية.
فالأمة بالعلماء، والعلماء بالأمة، كلاهما عضو عامل في بناء المجتمع، وكلاهما مسؤول فيما يجب عليه، غير أن المسؤولية على العلماء أكبر، والوزر عليهم أعظم، إذا هم قصّروا فيما عليهم، لأنهم المكلفون بنفخ روح العمل في الأمة وإعدادها لوسائل التقدم والنهوض، ولهذا كانت منزلتهم من الأمة منزلة القلب من الجسد، والعين من الإنسان.
[أيها المسلمون]:
إنه لجدير بنا أن ننوّه بما [للعلماء الربانيين والدعاة المصالحين] من خدمات للإسلام وأمته، والقرآن ولغته، فبنصائحهم الغالية، وإرشاداتهم السامية، أصبحت [الأمة] حريصة على تلقي العلوم الإسلامية، مقبلة على تعلم العربية، مُشْرئبّة إلى الإصلاح الديني، رغم اضطهاد العربية، والتضييق على رجالها.
وما هذا الانقلاب الفكري، والتطوّر العقلي، الذي أصبح مشاهدا ً ملموساً في [ الأمة إلا أثر من آثار هذه النهضة المباركة التي هي نتيجة جهودهم وآثار أعمالهم.
فإلى الأمام إلى الأمام أيها العلماء المخلصون، وإن الله في عونكم ما دمتم في عون الإسلام وأمته والقرآن ولغته.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/761)
نبذة من نبذ الإصلاح
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قضايا دعوية
حمزة بكوشة
الجزائر
5/6/1354
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة المخلوقات إلى الإصلاح حتى الجمادات منها 2- من هو المصلح
3- طريقة الإصلاح وأنها تكون باللين تارة , وبالشدة أخرى وذلك على حسب المدعو
4- نداء إلى العلماء والمصلحين والدعاة والمربّين حثّهم فيه على إيقاظ هذه الأمة
النائمة وتعليمها وإصلاحها وذكّرهم بأن ذلك أمانة في أعناقهم
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: إن الإصلاح ضروري للمخلوقات في أطوارها التي تطرأ عليها بكرّ العصور، ومر الدهور، فالحديقة الغلباء، والروضة الغناء التي تصدح بها البلابل، وتخترقها الجداول، إذا ذهل البستاني عن إبارها، وتقليم أشجارها، تصبح خاوية كأن لم تغن بالأمس.
والقصر المشيد العامر بالسكان إذا انصدع جداره، وأهمل ترميمه، ينقلب أسفله أعلى، وقد يعجز ربه عن بنيانه فيضحى مأوى للبوم والغربان، وهكذا الأشياء التي لم يتداركها المصلح بإصلاحه إذا طال عليها الأمد، تهيج عليها جنود البلى من كل فج، فتمسي في حيز الفناء.
والمصلح أيها المسلمون من اعتنى بإصلاح نفسه قبل سواها، وطهّرها من أدران الإلحاد وزكاها.
المصلح من تحلَّى بالفضائل وتخلَّى عن الرذائل، وأنذر عشيرته وجيرته عملا بقوله تعالى للسيد الأعظم: وأنذر عشيرتك الأقربين.
المصلح أيها المسلمون من ثبت للعقبات التي تعترضه صباح مساء، وضحّى بماله ونفسه في سبيل مبدإٍ أشرب قلبه حبه، وعادى من عاداه، وأحب من أحبه، وبذلك يستطيع إيقاظ أمته من غفوة الجهل، وإنقاذها من كبوة الفساد.
عباد الله إن للإصلاح طرقا عدة، لا تندّ عن اللين والشدة، فاللين يحمد مع من يكون في هدايتهم رجاء، وهؤلاء في غالب الأمر يكونون من العامة التي لم تنكر الإصلاح لذاته، وإنما تنكره جهالة وتقليدا للقدماء من الآباء، ولقد أنزل المولى جل وعلا في الذين على شاكلة هؤلاء من الأمم الأولى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا.
وبما أن النفوس البشرية مجبولة على حب الذات، كان لزاما على المصلح إذا أوقض له بارق أملٍ في إصلاحها أن يلاينها لئلا تنفضّ من حوله، قال تعالى: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.
أما الشدة يا عباد الله فلا تحسن إلا مع من أضله الله على علم، ومن هؤلاء كثير في أمتنا المسكينة التي نسجت عليها عناكب الجهل والتضليل، فضلّت عن سواء السبيل لولا أن تداركها الله ببعض [العلماء الهداة المصلحين، والدعاة الصادقين الذين] صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأرهقوا وأوذوا في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين.
الذين أضلهم الله على علم أيها المسلمون قوم يعرفون الحق وينكرونه، والإصلاح ويذرونه، للبانات في النفوس، كحب الرياسة وجلب الفلوس، يغفرفون هدي محمد كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون، هؤلاء لا ينبغي للمصلح أن تأخذه بهم رأفة أو هوادة، وليقف أمامهم بعزم شديد، وليضرب على أيديهم بمقامع من حديد، عملابقوله تعالى: واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير.
أيها العلماء المصلحون، أيها الدعاة المربون، أيها المعلّمون المرشدون، إن أمتكم نائمة فأيقظوها، وجاهلة فعلموها، وفاسدة فأصلحوها بما تقتضيه القوانين السماوية، والنظم الاجتماعية، لتطرحوا عن عواتقكم تلك المسؤولية، ويالها من مسؤولية، إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/762)
سرّ الضحيّة
سيرة وتاريخ, فقه
الذبائح والأطعمة, القصص
عبد الحميد بن باديس
قسنطينة
10/12/1352
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة الذبيح إسماعيل 2- مشروعية الأضحية والدعوة إليها 3- الحكمة من الأضحية :
دُربة المسلم على التضحية والبذل لدينه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فهذا يوم الحج الأكبر، والموسم الأشهر، جعله الله عيدا للمسلمين، وشرع فيه ما شرع من شعائر الدين، تزكية للنفوس، وتبصرة للعقول، وتحسينا للأعمال، وتذكيرا بعهد إمام الموحدين، وشيخ الأنبياء والمرسلين، إبراهيم الخليل عليه وعليهم الصلاة والسلام أجمعين.
فقد كسر الأصنام، وحارب الوثنية، وحاجّ قومه وما كانوا يدعون من دون الله، وقام يدعو ربه وحده طارحا ما سواه، وحاجّ الملك الجبّار، حتى بهت الذين كفروا، وقذفوا به في النار، فما بالى بهم ولا بها، وثبت وصبر، حتى نجّاه الله، وجعل الذين أرادوا به كيدا هم الأخسرين.
وأوحى الله إليه بذبح ابنه فامتثل، واستشار ابنه إسماعيل فأجاب وقبل، فطرحه للذبح، وأسلما لله في القصد والعمل، ففداه الله بذبح عظيم، وترك عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم، وأبقى سنة الضحيّة في الملة الإبراهيمية، والشريعة المحمدية تذكارا بهذا العمل العظيم، والإسلام الصادق لرب العالمين، ليتعلم المسلمون التضحية لله بالنفس والنفيس، وليعلموا أن المسلم من صدق قولَه فعلُه، ومن إذا جاء أمر الله كان لله كلُّه.
فتدبروا أيها المسلمون في هذا السر العظيم، ومرّنوا أنفسكم على الأضحية في كل وقت في سبيل الخير العام بما تستطيعون، ولاتنقطعوا عن التضحية ولو ببذل القليل، حتى تصير التضحية خلقا فيكم في كل حين، واجعلوا قصة هذا النبي الجليل نصب أعينكم، وتدبروا دائما ما قصّه الله منها في القرآن العظيم عليكم، وأحيوا هذه السنة ما استطعتم، وأسلموا لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/763)
الدين النصيحة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
مصطفى بن سعيد إيتيم
المدينة المنورة
6/2/1416
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية النصيحة ومنزلتها العظيمة في الدين – بيان معنى النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة
المسلمين وعامّتهم – زجر من استبدل النصيحة بالفضيحة – إرشاد الناصح إلى أن يبدأ بنفسه
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس :
إن الله تعالى قد كتب عليكم الذنب والخطيئة، وجبر ذلك بأن شرع لكم الإصلاح والنصيحة، فالحمد لله الذي جعل الأخ مرآة لأخيه، ينظر من خلالها إلى أخطائه ومساويه، فيصلح من حاله، ويحسن من شأنه، فلا عجب بعد ذلك أن تشتمل النصيحة على جميع خصال الإسلام والإيمان والإحسان. روى مسلم في صحيحه عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي قال: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
فهل شيء أدل على عِظم النصيحة بعد حصر الدين كله فيها؟ ثم إن النبي جعلها من الحقوق الواجبة بين المسلمين، وذلك في قوله: ((وإذا استنصحك فانصح له)) ، وكان الصحابة رضي الله عنهم يبايعون رسول الله عليها، فعن جرير بن عبد الله البجلي قال: بايعت رسول الله على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
ثم اعلموا – رحمكم الله – أن للنصيحة مفهوما واسعا، كما بين ذلك الصادق المصدوق.
فإن من النصيحة النصح لله تعالى وذلك بتوحيده، وإخلاص الدين له، ووصفه بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال، وتسبيحه وتنزيهه عن كل ما لا يليق به، والقيام بطاعته ومحابه ، والموالاة فيه والمعاداة فيه ، والحب فيه والبغض فيه.
وإن من النصيحة النصح لكتاب الله تعالى ، وذلك بالإيمان به ، بأنه كلام الله المنزل على قلب محمد غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، حفظه الله في الصدور والسطور ، وبتلاوته حق التلاوة ، والوقوف مع أوامره ونواهيه وتفهّم علومه وأمثاله ، وتدبّر آياته ، ودفع تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين عنه.
وإن من النصيحة النصح لرسول الله وذلك بالإيمان به ، وبما جاء به ، وتوقيره وتبجيله والتمسك بسنته ، وإحيائها بين الناس والتحاكم إليها ، وبمعاداة من عاداه وآذاه في أهله وأصحابه وبالتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه.
وإن من النصيحة النصح لأئمة المسلمين وذلك بمعاونتهم على الحق ، وطاعتهم في المعروف، وجمع الشمل عليهم ، وإسداء النصح لهم ، والدعاء لهم بالتوفيق والسداد ، ومجانبة الوثوب عليهم.
وإن من النصيحة النصح لعامة المسلمين ، وذلك بإرشادهم إلى مصالحهم وتعليمهم أمور دينهم، وستر عوراتهم وسدّ خلاتهم ونصرتهم على أعدائهم ، والذب عن أعراضهم ، ومجانبة الغش والحسد لهم.
وعجبا ثم عجبا لقوم تركوا هذا الركن الركين والأساس المتين ، فراحوا يتفكهون بأخطاء إخوانهم ، ويتمتعون بأعراض أقرانهم ، أسلموا هم من العيوب والخطايا؟ أم تصحّف الحديث عندهم فصار : الدين النميمة والغيبة والفضيحة؟ ألم يعلموا أن من تتبّع عورات المسلمين تتبع الله عوراته ، وفضحه ولو كان في جوف بيته ؟ ألا فليتق الله من ابتلى بشيء من ذلك ، وليتق الله في إخوانه ، فإذا رأى من أخيه ما يكره فلينصح له في السر ، وليخلص في النصيحة ، فإنه لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه من الخير.
ثم عليك أيها الناصح أن تبدأ بنفسك ، فتحملها على معالي الأمور.
فإنك إذا ما تأت ما أنت آمر به تُلف من إياه تأمر آتيا
واعلم أن الدين ثقيل متين ، وأن الأمانة عظيمة كبيرة ، أبت حملها السموات الواسعات ، والأرضون الشاسعات ، والجبال الشامخات الراسيات ، وحملها الإنسان لظلمه العنيد ، وجهله الشديد.
أيها الدعاة إلى الله، أيها الناصحون، أيها المرشدون، أيها المربون، لقد تولّيتم أمرا عظيما جللا، لا يجامع مللا، ولا يقبل منكم كسلا ولا كللا، ولا يغفر الناس لكم فيه زللا، الصغائر فيه كبائر، والكبائر فيه مجازر ومقابر، على حد قول الشاعر.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/764)
أحوال العبد والواجب عليه في كل حال – منكرات الأفراح والأتراح
الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة, التوبة
مصطفى بن سعيد إيتيم
بني مسوس
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأحوال التي يعيشها كل إنسان ثلاثٌ لا ينفك عنها أبداً.2- فإما أن يكون في نعمة وواجبه فيها الشكر. 3- وإما أن يكون في محنة ومصيبة وواجبه فيها الصبر. 4- وإما أن يكون في معصية وذنب وواجبه فيها التوبة والاستغفار. 5- بيان معنى الشكر
6- شروط التوبة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون:
إنه ليس فيكم أحد إلا وله مقام معلوم في أموره وأحواله، ومكان مرسوم في أقواله وأفعاله، وإنها – والله – أطباق ثلاثة، لا ينفصل عبدُ من عباد الله عنها، ولا ينفصم منها.
فنحن دائمو التقلّب بين هذه الأطباق، والتحوّل من طبق إلى طبق، فتنةً من الله واختبارا، وابتلاءً وامتحانا ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم.
عباد الله:
أما الطبق الأول، فهو نعم من الرحمن الرحيم تترى علينا باستمرار، وتترادف آناء الليل وأطراف النهار، لا يأتي عليها الإحصاء والحصر، ولا يبلغها الإحسان والشكر، قال الله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفّار ، وقال أيضا: وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسّكم الضر فإليه تجأرون ، نِعم في المآكل والمشارب، والمراكب والمناكح، والمساكن والمرافق، والزينة والملابس، والصحة والعافية، والعقل والرشد، والسمع والبصر، وغير ذلك، وأتم هذه النعم وأعظمها على الإطلاق نعمة الإسلام والسنة، والهداية والاستقامة، فنجاة العبد بها مأمون، وصلاح دنياه وآخرته بها مرهون، فمن أدى الأمانة فاز وغنم، ومن ضيّعها خاب وندم، ولا يلومنّ المنذَر إلا نفسه.
وأما الطبق الثاني - يا عباد الله - فهو محنُ من الله عز وجل يبتلي بها عباده ويمحّصهم بها، مِحنُ في الأرزاق والأموال، ومحن في الأهل والأولاد، ومحن في الأنفس والأبدان، ومحن في غير ذلك. قال تعالى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين ، وقال تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب.
وقال تعالى: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين.
وإن أعظم المصائب، وأخطر المعايب، المصيبة في الدين، فمن أصيب في دينه بشرك أو بدعة أو كبيرة فقد ضاع من دينه ودنياه بقدر ما أصيب. وأما من أصيب في دنياه بخوف أو جوع أو فقر أو غير ذلك فقد نقص من دنياه ما كتب له، ثم إن هو صبر ورضي عوّضه الله خيرا منه في الأولى والآخرة، وأحسن عاقبته في الأمور كلها، وإن هو جزع وسخط جرى عليه القدر وهو راغم، وفاته من الأجر والمثوبة الشيء الكثير إنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وأما الطبق الثالث فهو - يا عبد الله - ذنوبك ومعاصيك، وشرور نفسك وسيئات أعمالك، فإنه مهما تحصّن العبد واحترز، وتورّع واحترس فلا بد أن يوقعه الشيطان الرجيم في شيء من ذلك، لأن العبد قد بُلي بالغفلة والشهوة والغضب، ودخول الشيطان عليه من هذه الأبواب الثلاثة، قال تعالى: ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ، وقال تعالى: ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين. وقال الصادق المصدوق : ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوّابون)).
واعلموا أن أعظم الذنوب الشرك بالله تعالى، وله صور شتى وشعب عديدة، فمن علّق تميمة فقد أشرك، ومن جعل على بيته عجلة أو شوكا أو شيئا يزعم دفع العين به فقد أشرك، ومن ذبح لغير الله فقد أشرك، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، لا يقبل منه صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا حجّا، قال الله تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ، وقال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما.
ثم اعلموا أيها المسلمون أن عليكم في كل طبق من هذه الأطباق واجبا تؤدونه، ولله عليكم فيه حق توفّونه، فواجبكم وحق الله عليكم في طبق النعم أن تشكروه ولا تكفروه، وأن تعرفوا فضله ولا تنكروه، ولا يتم شكرُ الله تعالى المغدِق علينا بالنعم، والمربّي لنا بجزيل العطايا وعظيم المنن، حتى نعترف بنعمه باطنا، ونتحدث بها ظاهرا، ونصرفها في مرضاته تعالى.
فإن العبد المسلم إذا اعترف قلبه بأن ما به من نعمة فمن الله، وتحدث بها لسان قاله بالحمد، ولسان حاله بظهور الأثر، وصرفتها جوارحه في طاعة الله تعالى، فقد قارب شكره ولن يبلغه، فإن نعم الله تعالى أكثر من أن تحصر، وأكبر من تشكر إلا ما أعان الله عليه، ووفّق إليه.
قال الشاعر:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر
أيها المسلم: إن واجبك وحق الله عليك في طبق المحن أن تصبر وأن ترضى بقضاء الله عز وجل وقدره، واعلم أن الصبر هو حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعاصي كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعر فإن ذلك من أمور الجاهلية، فإذا رضي قلبك بقضاء الله ولم يسخط، ولم يشكُ لسانك لغير الله تعالى، واطمأنت جوارحك واستقامت، كنت من الصابرين الذين تنقلب المحنة في حقّهم منحة، وتستحيل البلية عندهم عطية، ويصير المكروه لديهم محبوبا.
وواجبك يا عبد الله وحق الله عليك في طبق الذنوب والمعاصي أن تستغفره وتتوب إليه، فإن الله تعالى يقبل التوبة من عباده ويفرح بها، ويعفو عن السيئات وهو أرحم الراحمين.
وللتوبة شروط يجب أن تراعى فأولها: الإخلاص لله تعالى، وثانيها: الإقلاع عن الذنب، وثالثها: العزم على عدم العودة، ورابعها: الندم على ما فات، وخامسها: أن تكون في الوقت الذي تقبل فيه أي قبل طلوع الشمس من مغربها وقبل الغرغرة، وسادسها: رد الحقوق إلى أصحابها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعي وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد أشار نبينا إلى تلك الأطباق الثلاثة وواجب العبد فيها، وذلك في خطبة الحاجة التي كان يعلمها أصحابه رضي الله عنهم، فكان يقول في مطلعها: ((الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره)) فالحمد على العطايا والنعم، والاستعانة على البلايا والمحن، والاستغفار من الذنوب والنقم.
إلا أن كثيرا من الناس يخل بهذه الواجبات إما بنوع شبهة وإما بنوع شهوة.
وأنا ضارب لكم مثالين شائعين منتشرين في المجتمع انتشارا ظاهرا، وهما الأفراح والأقراح.
فإن من أعظم نعم الله الكونية والشرعية نعمة الزواج، وكثير من الناس لا يؤدي شكرها بل يبدلها كفرا والعياذ بالله تعالى، وذلك بمعصية الله تعالى بها.
فأنتم يا عباد الله تشاهدون بأعينكم، وتسمعون بآذانكم ما تشتمل عليه الأفراح اليوم من المعاصي، بل من الكبائر بل من الجهر بالكبائر، ومحاربة الله ورسوله بها.
فالأفراح اليوم لا يدعى إليها إلا الأغنياء وأصحاب السيارات الفارهة والمراكب الهنيئة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على سوء النية وخبث الطوية، وكان الأولى أن يكون أول من يدعى إليها هم الفقراء والمساكين، الذين لا يجدون ما يطعمون به أنفسهم وذويهم، خاصة في مثل هذا الزمان العصيب.
والأفراح اليوم أول من يدعى إليها أهل المجون والفساد الذين واكبوا العصر، وسايروا التقدم في زعم الزاعمين، والواجب أن يجعل المسلم معياره في ذلك هو الصلاح، صلاح الدين والخلق، فيدعو إلى فرحه أول ما يدعو من يثق بدينه وخلقه وأمانته، من أهل الصلاة والزكاة، ومن أهل البر والتقوى، ومن أهل الحياء والصدق والخلق الحميد، أما المحاربون لله ورسوله بترك الصلاة والزكاة فلا خير فيهم، ولا يرجى منهم خير ما لم يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، لأن من أضاع الصلاة والزكاة فهو لغيرها من حقوق الله وحقوق عباده أضيع وأضيع.
ومن المعاصي العظيمة أيضا في هذه الأفراح الغناء، فهل يكون شاكرا لله تعالى من أقام فرحه على الغناء الذي دل على تحريمه الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، والنظر الصحيح؟ وهل يكون شاكرا لله تعالى من آذى جيرانه وأهل حيّه بهذا الغناء الماجن؟ أم كيف يكون شاكرا لله تعالى من بذّر ماله وأفنى وقته في هذا الغناء الفاسد؟
ومن المعاصي العظيمة أيضا - يا عباد الله - في هذه الأفراح الاختلاط، اختلاط الرجال بالنساء الذي يدل على قلة الغيرة، وضعف الرجولة، وغلبة النساء وفساد الدين، وتصوروا معي - معاشر المسلمين - تصوروا معي كم يحصل من جراء ذلك من المفاسد الكبيرة، فالمناسبة مناسبة عرس، والحديث كله منصب على موضوع الزواج، والنشوة نشوة فرح، والحاضرون في أحسن الثياب، وأبهى الزينة، وأزكى الرائحة، وقد توفر من الأسباب ما يهيّج الشهوة، ويثير الغريزة من مأكل ومشرب وسماع لغناء ماجن، فكيف تكون - يا أولي الألباب - النتيجة إذا اختلط الرجال والنساء صغارا وكبارا في مثل هذه المناسبة ومثل هذا الظرف؟
ولا يفوتني - معاشر المسلمين - أن أنبهكم إلى أن من المعاصي المنتشرة كذلك في هذه الأفراح التصوير، فاعلموا – رحمكم الله – أنه من كبائر الذنوب، وقد توعد الله عليه بالنار، أسأل الله لي ولكم السلامة والعافية.
وكيف يسوّغ عاقل غيورٌ على محارمه وعوراته أن تؤخذ صور محارمه، صور أخواته وبناته وزوجاته وأمهاته؟
أولا يخشى أن تصير هذه الصور إلى أيدي الذئاب الذين يتمتعون بالنظر إلى محارم الله تعالى.
فالحذر الحذر أيها المسلمون، واتقوا الله في أفراحكم، فإن الزواج الذي يتم بمعصية الله تعالى لا يبارك الله فيه إلا ما رحم.
وأما المثال الثاني فهو المآتم والأتراح، فإن من أعظم المصائب الكونية التي يصاب بها العبد مصيبة الموت، وواجبه فيها كما سبق بيانه هو الصبر، ولكن يدخل الخلل على كثير من الناس في هذا الواجب، إما بسخط القلب، وهذا أكثره في الرجال، وإما بشكوى اللسان وانطلاقه بالصياح والصراخ، واسترسال الجوارح في لطم الخدود، وشق الثياب والجيوب، وهذا أكثره في النساء، فمن فعل شيئا من ذلك فليس بصابر، وفاته أجر الصابرين، ولحقه وزر الساخطين على ربهم وخالقهم.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده الصالحين، الذين إذا أنعم عليهم شكروا، وإذا ابتلاهم صبروا، وإذا أذنبوا استغفروا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/765)
احترام المعلّمين
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, العلم الشرعي
حسين الأعمش
متليلي
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة لاحترام المعلّم وإجلاله 2- التواضع للمعلم 3- حق العالم
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
لاشك في أن كل واحد منا يسعى جهده من أجل أن ينجح ابنه ويفرح به متعلما مجتهدا، وعالماً مرموقاً، ويناله الكمد والحزن، إن لم يسعفه القدر، ولفظته مقاعد الدرس، هذا أمر طبيعي وتصرف راشد، لكن كان ينبغي أن نبدأ من البداية، حتى نوفر – بإذن الله – للنهاية السعيدة أسبابها المعقولة وأول ما ينبغي – في اعتقادي – تعويد التلاميذ والأبناء عليه، احترام معلمهم، وتوقيره، والقيام بحقه لا سيما إذا كان هذا المعلم صالحاً فاضلاً، هذا السلوك مبدأ إسلامي ثابت أكده نص الشرع وثبته، جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في أوسطه: ((تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والوقار وتواضعوا لمن تتعلموا منه )). فالتكبر على المعلم خلق لئيم، لا يمكن للمتعلم معه أن ينجح أو يفلح؛ وإلاستخفاف بالمعلم والاستهزاء به واحتقاره من خصال المنافقين – والعياذ بالله – جاء في الحديث الذي رواه البطراني كذلك في كبيره: ((ثلاث لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم، وإمام مقسط)).
أيها المسلمون:
إن التواضع للمعلم باب من أبواب الفلاح، وسبب من أسباب التحصيل، هكذا يربينا الإسلام، وهكذا يرشدنا، وهو حق من حقوق المعلم على المتعلم، وعلى المجتمع كله أداء هذا الواجب إزاء العالم، أما إن قهر المعلم العالم، وهمش وأخر، فذلك لا يكون إلا في زمان ملعون أو في مكان ملعون وقد استعاذ النبي من زمان لا يحترم فيه المعلم، ودعا الله أن لا يدركه مثل هذا الزمان الذي يقع فيه مثل هذا المنكر؟ روى الإمام أحمد عن سهل بن سعد الساعدي: أن الرسول قال: ((اللهم لا يدركني زمان لا يتبع فيه العليم، ولا يستحيا فيه من الحليم)). وتأملوا – يرحكم الله – تواضع سيدنا موسى – وهو نبي من أولي العزم – عليهم السلام مع معلمه الخضر عليه السلام كما قص القرآن الكريم علينا في سورة الكهف: قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً وهكذا هو سمت المتعلم، أن يعلم أن ذلّه لمعلمه هو عزّ له، وأن خضوعه فخر، وأن تواضعه رفعة، ورحم الله الشافعي القائل:
أهين لهم نفسي فهم يكرمونها ولن تكرم النفس التي لا تهينها
وقال أبو حامد الغزالي – رحمه الله -: لا يُنال العلم إلا بالتواضع.
وعلى هذا فقد قرر العلماء آداباً للمتعلم، منها ألا ينادي معلماً إلا نداء مقروناً بما يشعر بالاحترام والإجلال: كنداء سيدي أو يا معلمي، أو يا شيخي، أو يا أستاذي، ورحم الله شوقي حين يقول :
أعلمت أشرف أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفسناً وعقولا
أيها المسلمون:
نؤكد على هذا لأننا سمعنا عن بعض منا يهينون المعلمين أمام أبنائهم، ويحتقرونهم، وربما يسبونهم، ويلحقون به كل المعايب ثم بعد ذلك ينتظر هؤلاء الآباء نجاحاً لأبنائهم، إن هذا لن يكون أبداً وقديما قال الشاعر:
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يُكرما
فاصبر لدائك إن جفوت طبيبه واصبر لجهلك إن جوفت معلما
أقول قولي هذا وأستغفر الله الكريم العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويزيد، سبحانه لا أحصي ثناءُ عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
مما قاله علي رضي الله عنه في تبيان حق العالم على المتعلم، في وصية جامعة مانعة: ((ومن حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن عنده بيديك، ولا تغمز بعينيك غيره، ولا تقولن قال فلانٌ خلاف قوله، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، عليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسارر أحداً في مجلسه، ولا تأخذه بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة ينتظر أن يسقط عليك منها شيء)).
رضي الله عن الإمام، لقد جمع في وصيته هذه ما فيه الكافية وما يشفي به الغليل، فهل نحن واعون.
اللهم احفظنا بما تحفظ به عبادك الصالحين، اللهم إننا نعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات، اللهم إنا نعوذ بك من المأثم والمغرم، وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.
(1/766)
الأخوة الإسلامية
الإيمان
الولاء والبراء
حسين الأعمش
متليلي
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأخوة من شعائر الإسلام 2- مفهوم الأخوة الإسلامية 3- اختيار الأخ الصالح
4- التحذير من تضييع الإخوان 5- الإحساس بالفقراء والمساكين من لوازم الأخوة
6- مثال للأخوة عند السلف
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
إن الأمة الإسلامية لا يلتئم شملها، ولا يستقيم حالها إلا إذا نظر كل واحد إلى نفسه أنه مسؤول مسؤولية مباشرة عن سعادة الجميع، ولن يتأتى ذلك حقاً إلا إذا نبذ الأنانية وانتزعها من قلبه وشعر بحواسه أنه المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا)) إن الأخوة جعلها الله شعار المسلمين، إنما المؤمنون إخوة بهذا الأسلوب القوي وهو أسلوب الحصر، وكأن المستفاد من الآية أنه لا يمكن أن يكون المسلم سوى أخٍ للمسلم، هذا الشعار وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)).
أيها المسلمون:
ليست الأخوة شعاراً يرفع، بل هي سلوك ينتظم الحياة، ألخصه في أن المسلم يسعى جاداً إلى إفادة غيره، تصوروا – ونحن في موسم الهجرة – ذلك الاستقبال الرائع المثالي الذي أولاه الأنصار – رضي الله عنهم – للمهاجرين، حين خلع كل أنصاري رداء الأنانية عن نفسه، وألقاه جانبا، وضرب مثلا في السمو والرفعة لم يعرف له التاريخ مثلا في القديم ولا في الحديث ولن يعرفه حتى يرث الله الأرض ومن عليها تنازل الأنصاري عن جزء من ماله وما يملك لأخيه المهاجر، بل رضي أن يطلق زوجته – إن كانت له أخرى – ليتزوجها المهاجر بدينه بعد انقضاء عدتها، إنها أخوة الروح قبل أن تكون أخوة الجسد عدّها الله نعمة من جلائل النعم.
أيها المسلم:
إنه لابد لك في هذه الحياة من أخ تبثه شكواك، ويعينك على بلواك، فأختره أخاً لك من أهل الدين والعلم والصدق والمروءة من مثل الذين عناهم الشاعر الحكيم بقوله :
إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك تشتت فيه شمله ليجمعك
فإذا ظفرت بمثل هذا الأخ فحافظ عليه حفاظك على الثمين العزيز، واحذر أن يفلت منك فقديما قيل: أعجز الناس من فرط في طلب الإخوان الأوفياء الأخلاء، وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم، والرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال، لله در الناصح.
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ولكن إخوان الصلاح الذخائر
وإذا تطلعت نفسك – أيها المسلم – إلى مثل أعلى للصديق فتصور قول أحد علماء الإسلام لأصحابه: أيدخل أحدكم يده في كمّ صاحبه فيأخذ حاجته؟ قالوا: لا. قال: فلستم إذن بإخوان.
أيها المسلمون:
ليس من الأخوة في شيء أن يبيت أقوام يتنعمون بأطايب الطعام والشراب ووثير الفراش، يتقلب في أنواع النعم، ولا يتألم لإخوان له في الدين والوطن أقعدتهم الحاجة أو لزمهم المرض، أفلا يذكر هؤلاء المترفون قول النبي للذين آمنوا به: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، فلا يحسن بنا أيها الإخوة المسلمون أن نقوم بواجب الجسد فقط، فذلك حظ الأنعام وحظ الذين كفروا بالله: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم.
اللهم إنا نسألك سحائب نعمك فامنن بها علينا حتى نوحدك حق التوحيد ونتوحد بك حق الوحدة، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيرا مباركا فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
إن الأخوة التي نحرص على توثيقها ينبغي أن تفجر في النفوس معاني الرحمة وينابيع الحب والتوادد، وإلا فهي مجرد كلام يقال وتذروه الرياح لا يؤثر في واقع ولا ينهض بأمة، ومن أجل هذه الأخوة العملية كان سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقف في السوق فمن رآه يشتري اللحم يومين متواليين ضربه بدرته وقال في غضب: هلاً طويت بطنك لجارك وابن عمك.
اللهم إنا نسألك رحمة عامة وأخوة صادقة تدفعها القلوب قبل الأجسام، اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت وقنا شر ما قضيت، وصلي اللهم وسلم على أفضل خلقك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
(1/767)
مسؤولية الكلمة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
حسين الأعمش
متليلي
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الكلمة وخطورتها 2- حال المسلمين بالنسبة للكلام 3- صلاح اللسان
4- خوف السلف من اللسان
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
إن الكلمة مسؤولية لابد أن نعي كيف نتعامل معها، فرب كلمة نابية أدت إلى خصومة، ورب كلمة جافية فرقت شمل أسرة، ورب كلمة طاغية أخرجت الإنسان من دينه، والعياذ بالله، ولكن رب كلمة حانية أنقذت حياة، ورب كلمة طيبة جمعت شملا ً، ورب كلمة صادقة أدخلت إلى الجنة، جعلني الله وإياكم من أهلها، ولأهمية الكلمة وأثرها قال رسول الله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) ، هذا حديث شريف لو فقهه الناس، وصدقوا النية في التعامل معه، لتجنبوا الكثير من المآسي، وكثيرا ما يفسد الود بين الناس كلمة نابية مؤذية ليست في محلها، تنفذ كما ينفذ السهم المسموم، فتفرق ما كان مجتمعا وتفسد ما كان صالحاً.
أيها المسلمون:
إن حالنا في كثير من وجوهه مريض، لأن الكثير منا إذا تكلم لا يتكلم إلا في سوء، لا يتكلم إلا في اللغو والزور، لا يتكلم إلا في الكذب والنفاق والتملق، لا يتكلم إلا مغتابا أو نمّاماً، أو همّازاً أو لمّازاً، أو داعياً إلى فتنة أو بغضاء، ولا يسكت حين يسكت إلا عن خير يسكت عن المنكر، يسكت عن الشر، يسكت عن الظلم والآثام، وإن البغي والانحراف والفساد والبدع والفجور ما قوي واشتد عودها إلا حين سكت أهل الإصلاح وأخرس صوت الحق.
غير أن صلاح اللسان في عرف فقهاء الأمة وأطبائها إنما هو ولد صلاح النفوس والقلوب، فهيهات هيهات أن تصلح الألسنة والقلوب مريضة، ومتى يستقيم الظل والعود أعوج، وما اللسان إلا ترجمان القلوب.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا
وما أروع ابن المعتز في حكمته القائلة: (الحكمة شجرة تنبت في القلب وتثمر في اللسان)، وهذا الربط بين القلب واللسان هو المقصود لا محالة.
في الحديث الشريف: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)).
أيها المسلمون:
إن صلاح اللسان لا يقصد به أبداً القدرة على النطق الفصيح والتعبير الجميل، فذلك قد يتأتى حتى لأصحاب النفوس المريضة والسلوكيات المعوجة الذين لا تطابق أقوالهم أفعالهم، والذين شنّع عليهم ربنا – عز وجل – في قوله: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.
والمسلم في صلاح لسانه مكلف شرعاً بأن يسكت عن كل ما لا يرتضيه الشرع، وأن يجتهد في الصدع بكلمة الحق، وإصلاح ذات البين، وهكذا يكون لسانه كسّاباً للأجر نفاعاً للبشر، أما الثرثرة وإطلاق الكلام دون إدراك مراميه ومخاطره فإنه مهلك لصاحبه، قال : ((إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه)) ، ((وكلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الله عز وجل )).
كما ورد في حديث آخر عن سيد المرسلين.
أيها المسلمون:
أعود وأكرر، إنه بكلمة قد تخرب جماعة بعد بناء، ويفسد حال أسرة بعد توادد وتعاطف، ويتخاصم الإخوة ويتعادى الأحبة، وقد يهجر الأب ابنه بسبب كلمة تصدر من فاسق منحرف، وهكذا فالكلمة الخبيثة سلاح من أسلحة إبليس ينطق بها فم ملعون رجيم، وصلى الله على سيدنا محمد القائل: ((من صمت نجا)) والصمت المحقق للنجاة – بداهة – هو الصمت عمّا هو معصية أو مؤد إلى معصية.
أقولي قولي هذا وأستغفر الله الكريم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، فصلى الله وسلم على النبي الكريم صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
أثر عن الصديق أبي بكر أنه كان كثيراً ما يمسك بطرف لسانه ويقول: ((هذا الذي أوردني الموارد))، فإذا كان أبو بكر وهو من هو في تقواه وورعه وتمسكه بدين الله عز وجل فماذا نقول نحن الذين ظلت ألسنتنا تحصد القليل القليل من الخير الذي تدمره جوارحنا، إنها القساوة في قلوبنا حيث تراكمت فينا الآثام والمعاصي، ألا فلنراقب الله تعالى ولنحترس من ألسنتنا ولنهذبها تهذيبنا لأخلاقنا لنعرض عن السفهاء وكلامهم حتى لا نكون مثلهم وقديماً قال الشاعر:
إذا جاريت في خلق سفيهاً فأنت ومن تجاريه سواء
وليكن قدوتنا في مثل هذا أبو بكر الصديق لما قال له بعض السفهاء: (والله لأسبنك سباً يدخل معك قبرك)، قال الصديق في عزة المؤمن وفي تقوى الصالح: (يدخل معك قبرك وحدك).
وصدق الله العظيم الواصف لعباده الصالحين: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.
اللهم إنها نسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وفي الجد والهزل، اللهم إنا نسألك الخير كله عاجله وآجله ونستعيذ بك من الشر كله عاجله وآجله، اللهم صلي على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.
(1/768)
كيف تعالج المشاكل الزوجية
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
حسين الأعمش
متليلي
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع المشاكل الزوجية 2- النكاح ميثاق غليظ 3- طرق معالجة النزاعات بين الزوجين :
أ- العظة والنصيحة ب- الهجران في المضجع ج- الضرب د- جلسة الصلح و- الطلاق
4- كيفية الطلاق وقيده 5- الإحسان في الطلاق
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
قد تعتري الحياة الزوجية أزمات ومنازعات، وخصومات، وقد تكون النزاعات والخصومات بسبب ذاتي، أي بتقصير من الزوجة أو الزوج وقد تكون بسبب طرف خارجي سواء من محيط الأسرة أو من خارجه، وأمام هذه الحال يطيش لب الزوج فيسارع إلى أبغض الحلال إلى الله وهو الطلاق، وقد يطيش لب الزوجة فتطالب بالطلاق وربما استجاب الرجل فشردت العائلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن مثل هذه التصرفات السخيفة البليدة لا يقرها الشرع - أيها المسلمون - وإنما سطر مسالك أخرى للعلاج، لو طبقت لوُسع الأمر بعد ضيق ولكن الناس يستعجلون.
إن الإسلام أحاط الأسرة بسياج الكرامة، واعتبر العقد ميثاقاً غليظاً قال سبحانه وتعالى: وقد أفضى بعضكم إلى بعض، وأخذن منك ميثاقا غليظا وقال صلى الله عليه وسلم: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)). وقال عليه الصلاة والسلام، أيضا: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي آخر)).
ولقد شدد الإسلام – أيها المسلمون – النكير على دعاة السوء الراغبين في تفريق الأسر، كيفما كان موقعهم ولو كانوا والدين لأن الظلم ظلمات، وليس للولد أن يطيع والديه في طلاقه زوجته إن كانت صالحة طيبة، قال : ((من خبب – أي أفسد – زوجة امرئ، فليس منا)).
أيها المسلمون:
قد يتخذ المسلم كل هذه الوقاية الشرعية، ويحتاط كل الاحتياط، ولكنها الحياة، فقد لا تستقيم الأمور، فهل يعجل بالطلاق؟ مسلك الإسلام ليس كذلك، ولكنه خطط لعلاج هذا المرض على المراحل التالية:
أولاً: العظة والنصيحة:
فعلى الزوج أن ينصح نفسه أولاً، فليراقب تصرفاته، وليزنها، فإن تبين له بعد التجرد من الذاتية، وبعد الاستنصاح وعرض قضيته على أهل الرأي والمشورة فإن بينوا له أن الخطأ منه تاب إلى الله عز وجل، وأرضى زوجته بالهدية البسيطة، أو بالكلمة الحانية، أو بالبسمة الصادقة، وإن تبين له أن الخطأ منها، فليذكرها بالله ويخوفها بما ينتظرها من عقابه لتقصيرها وسوء تدبيرها فإن تابت وعادت فهو المطلوب وإلا انتقل إلى الخطوة الثانية.
ثانياً: الهجر في المضجع:
إنه تأديب مشروع يظهر فيه الزوج عدم رضاه عن زوجته الناشز، مدة تكفي لردعها، ولكن دون شتم ولا تقبيح، وهو هجران في المضجع لا يطلع عليه الأهل ولا الأولاد، ولا يعني الصوم على الكلام بحيث لا يكلمها ولا تكلمه إطلاقا، لا سيما إذا تجاوز الأمر ثلاثة أيام، قال الرسول : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)).
فإن لم يكف هذا العلاج انتقل إلى الخطوة الثالثة:
ثالثاً: الضرب:
والضرب الذي يعنيه الشرع هو ضرب غير مبرّح، وإنما هو إعلان عن الغضب، بحيث يكون باليد وحدها، دون وسائل أخرى كالعصا والسوط وما إليها، فهذا لا يجوز، وإياك إياك، - أخي المسلم – أن تمس الوجه أو الرأس، فذلك محرم، والضرب كما هو معلوم رخصة لتأديب الزوجة – ولا يضرب كريم – ولم يكن أبدا إظهاراً للقوة أو السطوة، فذلك حرام حرام؛ قال رسول الله : ((لا تضربوا إماء الله)) ، وقال: ((لا يضرب النساء إلا شرار الرجال)) إن نفع هذا فذلك المرتجى وإلا فهناك المرحلة الرابعة وهي:
رابعاً: جلسة الصلح:
ينبغي أن يجتمع بعض من أهل الزوج وبعض من أهل الزوجة من أهل الحكمة والدراية والصلاح، لا من السفهاء والطائشين، يجتمعون على نية الخير، فينظرون في القضية ويقلبون وجوهها، ويفصلون فيها بعدل وحكمة، وصواب، إما بالتوفيق وإما بالتفريق.
هذه المراحل – أيها المسلمون – جمعت في قوله تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا.
أيها المسلمون:
قد لا تثمر هذه المحاولات، ويستعصي الحل، وتتنافر القلوب، والقلوب إذا تنافر ودُّها فهي كالزجاجة كسرها لا يجبر، وقد تستحيل العشرة، هنا يشرع الطلاق، وآخر العلاج الكي كما قيل، يشرع الطلاق رخصة شرعية للضرورة ورفعاً للحرج، والحديث الصحيح يقول: ((لا ضرر ولا ضرار )). ولكن دائماً على أساس أنه أبغض الحلال إلى الله، وعلى أساس قوله : ((تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له العرش)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله الغفور الكريم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيرا طيبا مباركا فيه نحمده حمد الشاكرين لأنعمه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، نصلي ونسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون :
علمنا أن الطلاق هو آخر ما يلجأ إليه ولكن كيف يكون هذا الطلاق؟ وما قيده؟ قيده الإحسان، هكذا جاء في القرآن: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، ومن الإحسان في الطلاق اتباع السنة، فلا تطلق المرأة وهي حائض ولا يُوالى في التطليق وإنما يكون طلقة واحدة، ولا يسارع إلى التحريم والتثليث، فإن من أشنع الكلام وأبشعه هذه الكلمات: هي عليه حرام هي مطلقة ثلاث في ثلاث.. الخ.
فاللهم اغفر خطايانا وذنوبنا، اللهم اهدنا إلى صالح الأعمال والأخلاق اللهم اجعلنا من أوجه من توجه إليك، ومن أقرب من تقرب إليك، ومن أفضل من سألك ورغب إليك، وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(1/769)
الظلم ظلمات يوم القيامة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد القادر ابن رحال
غرداية
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الظلم 2- تعريف الظلم 3- النوع الأول من أنواع الظلم : ظلم النفس
4- النوع الثاني : ظلم الغير 5- عموم تحريم الظلم 6- عواقب الظلم وخيمة 7- الظلم مُزيل
للملك 8- طرق إزالة الظلم 9- توبة الظالم
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين: يقول ربكم تعالى ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ، وقال: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، وهذه الآية الكريمة أعظم تهديد وتحذير للمجتمعات التي تظلم وتدعوا إلى الظلم والله تعلى سريع الحساب.
وقال: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ، فحمد الله تعالى نفسه لما أهلك الظالمين وطهّر منهم الأرض.
وقال: وما للظالمين من نصير ، وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) [1].
ومعنى اتقوا الظلم أي اجتنبوه، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمامٌ ظلوم غشوم، وكل غالٍ مارق )) [2]. وعن أبي موسى قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )) [3].
عن أبي ذر الغفاري في الحديث القدسي الطويل وفيه ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا.. )) [4].
أيها المسلمون: إن الظلم ظلمات يوم القيامة كما أن العدل المأمور به الذي هو ضد الظلم نور يوم القيامة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله : ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا )) [5]. فإذن ما هو تعريف الظلم قال الإمام العييني: الظلم أصله الجور ومجاوزة الحد، وهو وضع الشيء في غير مكانه ومعناه في الشرع: وضع الشيء في غير موضعه الشرعي، والظلم نوعان اثنان :
النوع الأول: ظلم العبد لنفسه، وأعظمه الشرك بالله تعالى، قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به وقال: إن الشرك لظلم عظيم وإنما سمي الشرك ظلماً لأن المشرك المسكين وضع العبادة في غير موضعها المختص بها المستحق لها وهو الله تعالى، وجميع الكبائر والمعاصي تسمى ظلماً لأنها من جنس الشرك وليست بشرك، ولأن المعاصي تعدٍّ لحدود الله، قال تعالى: ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ، وقد سمى الله المذنبين بالظالمين فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون.
فإذن الشرك ظلم، والقتل ظلم والفواحش ظلم والربا ظلم، والسحر ظلم وعقوق الوالدين ظلم إلى غير ذلك من كبائر الذنوب.
النوع الثاني من أنواع الظلم: ظلم العبد والإنسان لأخيه الإنسان وهو من أعظم الظلم لأن له تعلق بحقوق الإنسان وقد شدد الله على هذا الظلم في الدنيا والآخرة، ولا يترك منه شيئا، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه الله من سبع أرضين)) [6].
أيها المسلمون: إن الظلم محرّم في كل شيء ولكل إنسان، قال شيخ الإسلام ابن تيميه: ((ولهذا كان العدل أمرا واجبا في كل شيء، وعلى كل أحد والظلم محرما في كل شيء ولكل أحد فلا يحل ظلم أحد أصلاً سوءاّ كان مسلما أو كافرا أو كان ظالما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.. أ.هـ. ويكفي في تحريم الظلم أن الله تعالى ملك الملوك الجبار القاهر حرّم الظلم على نفسه المقدسة عن الظلم، جاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا...)).
أيها المسلمون: إن عاقبة الظلم الخسران وعدم الفلاح في الدنيا والآخرة والله يعاقب على الظلم بأنواع العقوبات، قال تعالى: إنه لا يفلح الظالمون وقال: إنه لا يحب الظالمين وقد أهلك الله أقواما وقرونا من الناس قبلنا وما زال يهلك الأمم لوجود الظلم في الأرض فصار هذا الأمر سنة كونية، كلما كثر الظلم والفساد في الأرض نزل العقاب الأليم، اسمعوا لقوله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وقال: وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين وقال: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا والله تعالى لم يظلم هذه القرى وهذه الأمم ولكن كانت هي الظالمة ظلمت نفسها وظلمت غيرها فحق عليها عقاب ربها قال تعالى: وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، وقال تعالى: ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
يقول الإمام ابن كثير في هذه الآية: يقول تعالى وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بأشباههم.
أيها المسلمون: إن الظلم شين لا يبقى معه ملك ولا تبقى معه حضارة والعدل زين يدوم معه الملك ولو كان الملك كافرا، قال تعالى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
يقول الإمام الرازي: والمعنى أن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات. أ.هـ. وقال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة. أ.هـ. ولهذا قيل: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام.
[1] رواه مسلم.
[2] حديث حسن رواه الطبراني.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] رواه مسلم.
[5] رواه مسلم.
[6] متفق عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا معاشر المسلمين إذا عرفنا أن الظلم حرام وأنه لا يفلح الظالمون فلابد من إزالة الظلم والتقليل منه فما هي طرق إزالة الظلم؟
1- من أعظم وسائل إزالة الظلم هي الدعوة إلى العدل بالحكمة والموعظة الحسنة واللين في القول والفعل قال تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وقال : ((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)) [1].
وهكذا كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدعون أقوامهم إلى العدل وهو التوحيد بالحكمة والرفق، مهما ظلم وعتا أقوامهم، فهذا فرعون يطغى ويتجبر ويقتل بني إسرائيل بأنواع القتل قال تعالى: وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون لكن موسى وقومه قابلوا ذلك بالصبر الجميل حيث قال تعالى: قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين نعم إنها دعوة سامية فيها النور والحكمة وفيها الصبر مع القوة والأمل في الله تعالى.
2- من الوسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشرط الاستطاعة لقوله : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) وإنما التغيير باليد يكون خاص بالدرجة الأولى للحاكم ويجوز لغيره إذا كان لا يؤدي إلى ضرر أكبر ولهذا قرر أهل العلم أن الأمر بالمعروف لا يكون إلا بالمعروف، والنهي عن المنكر لا يكون بالمنكر، وقالوا كذلك: من نهى عن منكر فعلم أنه سيؤدي إلى منكر أكبر منه فلا يجوز له النهي عن المنكر، وهذا يرجع إلى قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد.
3- من الوسائل عدم الركون إلى الظالم لأنه سبب في انتشار الظلم قال تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ولأن الركون إلى الظالم سكوت عن ظلمه.
4- هجر الظالم وعدم إعانته على ظلمه قال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
5- الدعاء على الظالم والظلم بالزوال قال : ((ليس بين الله ودعوة المظلوم حجاب)) وكان الأنبياء إذا يئسوا من ظلم الظالمين دعوا الله قال تعالى على لسان نوح: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا وهذا موسى يدعو على آل فرعون قال تعالى: ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وكان النبي يدعو على المشركين من قومه كما في غزوة بدر الكبرى: ((اللهم عليك بقريش ثلاثاً.. )).
وختاما فلابد لكل إنسان من التوبة من الظلم كل الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة وأعظم الظلم الشرك بالله وبعده ظلم العبد لأخيه الإنسان وقرر العلماء أنها لا تصح توبة حتى يرجع الحقوق إلى أصحابها، فإن لم يؤدها في الدنيا أداها في يوم القيامة بالحسنات لا بالدراهم والدولارات قال : ((أتدرون من المفلس؟، قال:المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة ونسك ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وضرب هذا وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئات المظلومين فطرحت عليه ثم طرح في النار)) [2].
[1] متفق عليه.
[2] رواه مسلم.
(1/770)
انتصاف رمضان
فقه
الصوم
عز الدين عوير
الجزائر
11/9/1413
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إذا خسرنا في رمضان فمتى نربح ؟ 2- العبد مسئول عن عمره وعلمه وماله وجسمه
3- التحذير من تضييع الوقت في رمضان 4- اغتنام الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى
5- حال المسلمين المزري في رمضان 6- نعمتا الصحة والفارغ 7- حرص السلف الصالح
على اغتنام أوقاتهم 8- الحث على صيام رمضان وقيامه وإخلاص النية في ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن شهر رمضان قد اقترب أن ينتصف، فهل فينا من قهر نفسه وانتصف؟ وهل فينا من قام فيه بما عرف؟ وهل تشوقت أنفسنا لنيل الشرف؟ أيها المحسن فيما مضى منه دم على طاعتك وإحسانك، وأيها المسيء وبخ نفسك على التفريط ولمها، إذا خسرنا في هذا الشهر متى نربح؟ وإذا لم نسافر فيه نحو الفوائد متى نبرح؟
كان قتادة رحمه الله يقول: كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له؛ لما في هذا الشهر المبارك من أسباب المغفرة والرحمة.
فلنستدرك باقي الشهر، فإنه أشرف أوقات الدهر، هذه أيام يحافظ عليها وتصان، هي كالتاج على رأس الزمان، ولنعلم أننا مسؤولون عما نضيعه من أوقات وأحيان، فعن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه)) [1].
نعم إننا مسؤولون عن هذه الأوقات من أعمارنا، في أي مصلحة قضيناها؟ أفي طاعة الله وذكره، وتلاوة كتابه وتعلم دينه، أم قضيناها في المقاهي وأمام التلفزيون وفي لعب الكرة أو في غير ذلك مما لا يعود علينا بكبير فائدة، بل قد يباعدنا عن الله تعالى وعن مرضاته، ويقربنا مما يسخطه والعياذ بالله تعالى؟
فالعجب لنا، نعرف ما في هذا الشهر من الخيرات والبركات، ثم لا تطمئن أنفسنا إلا بتضييع أوقاتنا فيما لا يزيدنا إلا بعداً عن الله تبارك وتعالى، وكأن صحفنا قد ملئت بالحسنات، وضمنا دخول الجنات، إلى متى نرضى بالنزول في منازل الهوان؟ هل مضى من أيامنا يوم صالح سلمنا فيه من الجرائم والقبائح؟ تالله لقد سبق المتقون الرابحون، ونحن راضون بالخسران، أعيننا مطلقة في الحرام، وألسنتنا منبسطة في الآثام، ولأقدامنا على الذنوب إقدام، ونغفل أن الكل مثبت عند الملك الديّان.
عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا إلى النبي أنه قال: ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)) [2].
فالرؤوف الرحيم يوصينا بمبادرة خمسة أشياء قبل حصول خمسة أخرى، نغتنم حال حياتنا قبل موتنا، وحال صحتنا قبل مرضنا، وحال فراغنا قبل انشغالنا، وحال شبابنا قبل كبرنا، وحال غنانا قبل فقرنا، نغتنمها في طاعة الله والتقرب إليه قبل أن يحل بنا ما يمنعنا من ذلك فنندم على ما فرّطنا في جنب الله ولا ينفع يومئذ الندم.
عباد الله، إننا لا نعرف قدر وقيمة نعمة الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى إلا بعد زوالها وفقدها، فلنغتنم فرصة وجودها، ولنسخرها في كل ما يوصلنا إلى جنات ربنا عز وجل ويباعدنا عن عذابه. هذا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهرنا، ويتردد في أسماعنا، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيناه خاشعا يتصدع، ومع هذا فلا قلوبنا تخشع، ولا عيوننا تدمع، ولا صيامنا يبعد عن الحرام فينفع، ولا قيامنا استقام، فقلوبنا خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا من رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم وزادتهم إيمانا، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار؟! أوليس لنا فيهم اقتداء وأسوة؟! كلما حسنت منا الأقوال ساءت منا الأعمال، سيشهد علينا رمضان، وسيشار لكل واحد منا يوم القيامة: شقي فلان وسعيد فلان، اللهم لا تجعلنا من أهل الشقاء، واجعلنا من أهل السعادة والرضوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[1] أخرجه الترمذي وهو صحيح.
[2] أخرجه الحاكم وهو صحيح ، صحيح الجامع [1077].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )). شبّه النبي في هذا الحديث الإنسان بالتاجر، والصحة والفراغ أي: عدم الشواغل برأس المال لكونهما من أسباب الأرباح ومقدمات النجاح، فمن استعمل صحته وقوته وفراغه ووقته في طاعة الله تعالى ربح في تجارته مع الله عز وجل، ومن استعمل صحته وفراغه ووقته في معصية الله تعالى خسر رأس ماله، فهو مغبون لا يحسن تدبير أموره.
لأجل هذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أشد الناس حرصًا على اغتنام أوقاتهم في ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وتعلّم دينه والإحسان إلى خلقه، فمن ذلك عامر بن عبد قيس إذ قال له رجل: قف أكلمك، قال: أمسك الشمس، أي إن استطعت أن تمسك الوقت فلا يمر فسأقف، وكان داود الطائي يستف الفتيت، يأكل فتات الطعام، ويقول: بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية، وكان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى، فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر. وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدّثتم.
هكذا كانوا عليهم رحمه الله، كانوا أشد الناس بخلا فأوقاتهم، فماذا يقولون لو اطلعوا علينا ورأوا كيف نضيع أوقاتنا، في هذا الشهر المبارك خاصة، وفي سائر أيام السنة عامة؟ فكثير منا من يلهي نفسه في رمضان باللعب واللغو، ويقول: نقتل الوقت حتى يصل الإفطار. وما ندري أننا بتضييع أوقاتنا فيما لا يرضي الله تعالى نقتل أنفسنا، وليس الوقت لأن الوقت محسوب من أعمارنا وحياتنا.
فلنستيقظ من غفلتنا أيها المسلمون، ولنستدرك ما فاتنا من رمضان، ولنجعل ما بقي من شهرنا أحسن مما فات، ولنتذكر قوله : ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [1] ، وقوله أيضا: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [2].
فمن صام رمضان لله تعالى، وطاعة له ليس لأجل أنه رأى الناس صاموا فصام، ورجاء ثوابه، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام لياليه مصليا مخلصا لله تعالى ورغبة في مثوبته غفر له ما تقدم من ذنبه وخرج من رمضان كيوم ولدته أمه، بل لقد قال : ((إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) [3] ، فمن صلى صلاة التراويح مع الإمام حتى ينتهي من آخر ركعة منها، كتب له أجر قيام ليلة بأكملها، هذا من فضل الله على عباده المؤمنين، ولكن أكثر الناس عن شكر هذه النعمة غافلون.
فمن أراد الفوز بالجنة والنجاة من النار، فما عليه إلا اغتنام وقته وصحته وماله في هذا الشهر المبارك خاصة، في طاعة الله تعالى والتقرب إليه، فلعل الواحد منا يكون هذا الشهر آخر رمضان يعيشه، فيكون ممّن أعتق فيه من النار.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
[1] متفق عليه عن أبي هريرة.
[2] مسلم عن أبي هريرة.
[3] الأربعة عن أبي ذر وهو صحيح.
(1/771)
لا بأس بالغنى لمن اتقى
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عز الدين عوير
الجزائر
13/5/1414
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرح حديث " لا بأس بالغنى لمن اتقى والصحة لمن اتقى خير من الغنى وطِيب النفس
من النعيم " 2- الحث على طلب الرزق الحلال 3- التحذير من فتنة المال 4- نِعم المال
الصالح للرجل الصالح 5- التوفيق بين طلب الرزق والتفقه في الدين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد أخرج ابن ماجه والحاكم وأحمد عن يسار بن عبيد قال: كنا في مجلس فجاء النبي وعلى رأسه أثر الماء، فقال له بعضنا: نراك اليوم طيّب النفس، فقال: ((أجل، والحمد لله)) ثم أفاض القوم في ذكر الغنى. قال: (( لا بأس بالغنى لمن اتقى، والصحة لمن اتقى خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم)).
فالغنى – يا عباد الله – بغير تقوى هلكة لصاحبه، يجمع المال من غير حقه، ويضعه في غير أهله، ويمنعه من مستحقه، أما إذا كان مع صاحبه تقوى فقد ذهب البأس وجاء الخير، قال محمد بن كعب: الغني إذا اتقى آتاه الله أجره مرتين، لأنه امتحنه فوجده صادقا، وليس من امتحن كمن لم يمتحن.
((والصحة لمن اتقى خير من الغنى)) ، فإن صحة البدن عون على العبادة، فالصحة مال ممدود، والسقيم عاجز طريقه مسدود، والصحة مع الفقر خير من الغنى مع العجز، لأن العاجز كالميت.
((وطيب النفس من النعيم)) لأن طيبها من روح اليقين وهو النور الوارد الذي أشرق على الصدر ضياؤه، فإذا استنار القلب ارتاحت النفس من الظلمة والضيق والضنك فعن البراء بن عازب أن رسول الله أتاهم إلى البقيع فقال: ((يا معشر التجار حتى إذا اشرأبوا قال: إن التجار يحشرون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى وبر وصدق )).
وهذا مما يبين لنا – أيها المسلمون – أن ديننا لا ينهى المتمسكين به عن طلب الرزق، وعن الاستغناء، وإنما ينهانا أن نجمع هذا المال بغير حقه، وأن نصرفه في غير حقه، وذلك لأن المال فتنة لابن آدم إذا لم يرزق القناعة، صح عند الترمذي عن كعب بن عياض مرفوعا: ((إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال )).
نعم، فتنتنا المال – أيها المسلمون – ألم يحملنا جمع المال على الغش؟ ألم يحملنا جمع المال على الكذب [وشهادة الزور]؟ ألم يحملنا جمع المال على التزوير؟ ألم يحملنا جمع المال على إعطاء الرشوة؟ ألم يحملنا جمع المال على إخلاف المواعيد ونقض العهود؟ ألم يحملنا جمع المال على أكل أموال بعضنا بالباطل؟
نعم هذه هي فتنة جمع المال حتى صار الصديقان المتحابان أعداء لأجل معاملة تجارية بينهما حملت أحدهما على التعدي على الآخر، فإذا هما في أشد العداوة، بعد ما كانا في أعلى مراتب الصداقة.
[واعلموا عباد الله] أن المال كما يكون سببا في طغيان العبد في الدنيا وخسارته في الآخرة، فقد يكون كذلك سببا في سعادته في الدنيا ونجاته يوم القيامة، وذلك إذا طلبه بحقه وأنفقه في مستحقه، ولا يكون ذلك إلا إذا رزق تقوى في قلبه، وقناعة في نفسه، قال : ((نعم المال الصالح للمرء الصالح )). وقال لعثمان بن عفان لما جهز جيش العسرة: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: روى البخاري عن عمر بن الخطاب قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله ، ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك.
فلم يمنع الفاروق عمر بن الخطاب ولا جاره طلب الرزق من تعلّم العلم والتفقه في الدين، لأنهم رضي الله عنهم عرفوا كيف يعطون لهذه الدنيا ما تستحق من الوقت، وعرفوا كيف يعطون للآخرة ما تستحق من الوقت، فسعدوا في الدنيا وفازوا في الآخرة.
وعلى نهجهم سار كثير من الصالحين، فوفّقوا بين طلب الرزق في الدنيا وبين التفقه في الدين، والعمل للآخرة، فلقد كان الليث بن سعد إمام أهل مصر في زمانه من الأغنياء، وكان عبد الله بن المبارك من كبار التجار، وكذلك كان أبو حنيفة عليهم رحمه الله، فلم تغوهم تجارتهم حتى ينسوا أخراهم، بل كانت تجارتهم عونا لهم على الآخرة.
فمن منّا اليوم حاله كحالهم، فالواحد منا يخرج صباحا لا يفكّر إلا في كيفية الحصول على المال، لا يهمه كيف يجمعه؟ من حلال أم من حرام، ثم إذا سئل عن الصلاة هل صلاها في وقتها؟ يقول: العمل عبادة والصلاة لها وقتها في آخر النهار. وأما أن يحضر حلق الذكر في المسجد، أو مجالس العلم والتفقه في الدين فهذا يكاد ينعدم فهو أعز من الكبريت الأحمر.
فلنراجع أنفسنا وأعمالنا، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
(1/772)
حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الاتباع
محمد حموش
تامنفوست
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلق الإنس والجن 2- نعمة بِعثة الرسل 3- فضل نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم 4- وجوب مراعاة حقوق النبي صلى الله عليه وسلم 5- محبة النبي صلى الله عليه وسلم
بين الإفراط والتفريط 6- حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم 7- التحذير من الغلو في النبي
ومن الابتداع في الدين 8- علامات حب النبي : - طاعته واتباعه – تعلُّم الكتاب
والسّنة – محبة أصحابه رضي الله عنهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيتها المسلمات، اعلموا أن الله عز وجل لم يخلق الخلق عبثاً، بل خلقهم لغاية ذكرها في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين وقال أيضا:ً الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور.
فالحكمة من خلقه سبحانه وتعالى للخلق عبادته، واختبارهم وابتلاؤهم ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذلك لم يتركهم هملاً وسدى، بل أرسل إليهم رسله عليهم السلام، فكان من سنة الله تبارك وتعالى إرسال الرسل وتعميم الخلق بهم ليقيم هداه وحجته على عباده، قال الله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير. فكانت أعظم منة وأكبر نعمة من الله على عباده أن بعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين وواسطة بينه وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه وتعاليم دينه، وكان أعظم الأنبياء قدراً وأبلغهم أثراً وأعمهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بهداية الخلق أجمعين، فختم به النبيين، وبعثه على حين فترة من الرسل وظهور الكفر وانطماس السبل، فأحيا به ما اندرس من معالم الإيمان، وقمع به أهل الشرك والكفر وعباد الأوثان، فأقام منار دينه الذي ارتضاه، فكان بحق كما وصفه ربه عز وجل بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فكمل الله به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وألف به بعد الفرقة، وأغنى به بعد العيلة، فأصبح الناس بنعمة الله عز وجل إخوانا وفي دين الله أعوانا، قال الله عزوجل: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال أيضا لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فكان مبعثه النبأ العظيم والحدث الجلل ليرد عليه الصلاة والسلام كل شيء إلى أصله، وكل أمر إلى حقيقته، فملأ القلب إيمانا والعقل حكمة والنفس يقينا والكون عدلا والدنيا رحمة والأيام سلاما والليالي أمنا، فاستحق المقام المحمود، وعلى عباد الله جميع الحقوق التي تضمنتها الشهادة التي تنجي صاحبها من العذاب في ذلك اليوم المشهود: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لذا فقد كان لزاما على كل من ينطق بهذه الشهادة ويدين الله بهذا الدين أن يحيط بتلك الحقوق معرفة، ويلتزم بها اعتقادا وقولا وعملا.
ولكن مما يؤسف له أن كثيرا من المسلمين اليوم على درجة كبيرة من الجهل بهذه الحقوق، فهم بين طرفي نقيض في هذا المقام؛ فإما مقصر لا يقيم لها وزنا ولا يلقي لها بالا، وإما غالٍ حاد عن الصراط، وأخطأ في فهم الصواب، تراه يقوم بأمور ما كان عليها سلفنا الصالح ويظن أنه يحسن صنعا ومؤد لما أوجبه الله من حق نبينا ، وكلا الطرفين صاحب حال مذموم، فكان لزاما علينا أن نبين في هذا المقام حقيقة المحبة للنبي التي أوجبها الله علينا في كتابه حينما قال: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين فكفى بهذه الآية حضا وتنبيها ودلالة وحجة على لزوم محبة النبي ووجوبها وفرضها وأن تكون مقدمة على كل محبوب سوى الله عز وجل، فمحبته دين يدين به الله كل مسلم، وأن يكون حبه يفوق حب المال والنفس والولد جاء في حديث عمر بن الخطاب أنه قال للنبي : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي : ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)) فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي : ((الآن يا عمر)) الآن حققت المحبة الحقيقية.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) ولكن أين هذه المحبة في قلوب المسلمين؟ شتان بين المحبة الصادقة والمحبة المزيفة المزعومة، فالمحبة الصادقة تقتضي تحقيق المتابعة له وموافقته في حب ما يحب وبغض ما يبغض، فمن أحب الرسول محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الرسول ويكره ما يكره، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الرسول أو ترك بعض ما يحبه مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة عليه، فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وبهذا وصف الله المشركين في كتابه فقال عز وجل: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله فالمحبة الصادقة للنبي هي التي تجعل العبد يحقق الأولوية في قوله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم هذه الأولية التي توجب على المؤمن أن يكون النبي أحب إليه من نفسه وتستلزم منه كمال الانقياد والطاعة والرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه، قال سبحانه وتعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ومن العجب أن يدعي حصول هذه الأولوية والمحبة التامة للنبي أناس بالغوا في محبته بابتداعهم أمور لم يشرعها الله ورسوله ظنا منهم أن فعل هذه الأمور هو علامة المحبة، حتى صرف بعضهم أنواعا من العبادات له كالدعاء والتوسل به والتمسح بالحجرة التي فيها قبره إلى غير ذلك من البدعيات كالاحتفال بمولده والشركيات التي تفعل بدعوى المحبة للرسول وهي أمور لم يشرعها الله ورسوله ولم يفعلها الصحابة رضوان الله عليهم، بل وقفوا مع الدليل وساروا على الجادة وأخذوا بالحجة وتعبدوا بالأثر، هجروا التنطّع لأن المعلم بين أظهرهم فيا ترى أي محبة هذه التي يخالف أصحابها شرع بينهم؟ كيف تكون لهؤلاء محبة وهم قد ابتدعوا ما ابتدعوه من أمور لم تشرع في الدين؟ فيجب على هؤلاء أن يعلموا أن محبة الرسول وتعظيمه إنما تكون بتصديقه فيما أخبر به عن الله عز وجل وطاعته فيما أمر به ولزوم هديه واقتفاء أثره، إلا الإشراك به والغلو فيه، لذلك ينبغي على كل مسلم أن يعلم أن محبة النبي ليست مجرد دعوى تتحقق بنطق اللسان بها، بل لابد لهذه الدعوى من البرهان الذي يثبت صدقها قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الله سبحانه وتعالى وضع علامات ودلائل يتسنى من خلالها معرفة من يصدق في دعوى محبته للنبي ، فكل دعوة لابد لها من برهان يدل على صدقها، قال تعالى: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين وكلما كان التحقيق لهذه العلامات أكبر كانت درجة المحبة أرفع وأعظم، وأول هذه العلامات ما نبهنا عليه آنفا:
1) محبة اتباعه والأخذ بسنته: فالاقتداء بالنبي واتباعه والسير على نهجه في الدعوة إلى الله، هو أول علامات محبته ، فالصادق في حب النبي هو من تظهر عليه هذه العلامة في عبادته لله، فيحرص على أن تكون صلاته كصلاة النبي وصيامه كصيام النبي ، وكذا معاملته مع الناس، المحب للرسول هو من يحرص على التمسك بسنته وإحيائها وتقديمها على هوى النفس فلا يتصور أن يكون شخص محبا لرسول الله وهو معرض عن اتباع سنته مستهزئ بمن أقامها.
2) من علامات محبته تعلم القرآن والمداومة على تلاوته وفهم معانيه وكذا تعلم سنته وتعليمها ومحبة أهلها فعن ابن مسعود قال: لا يسأل أحد عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله.
3) محبة من أحبهم النبي من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم، فمن واجب الأمة نحو أصحاب رسول الله محبتهم والترضي عنه فهم قوم اختارهم الله وشرفهم بصحبة نبيه وخصهم في الحياة الدنيا بالنضر إليه وسماع حديثه ونصرته والذب عنه وبعد وفاته كانوا هم الواسطة بينه وبين الأمة، فقد بلغوا عن الرسول ما بعثه الله به من النور والهدى وذبوا عن هذا الدين بسنانهم ولسانهم، ومما يدل على عظم فضل الصحابة ما جاء في حديث أبي سعيد الخذري قال رسول الله : ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل حد ذهاب ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه )).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغضهم)).
فلما كان الصحابة بهذه المنزلة الرفيعة، فعلينا أيها المسلمون أن نتبعهم في محبتنا للنبي وأن نسير على نهجهم دون أن نغالي أو نبتدع، فهم الذين حققوا إيمانهم بالمحبة حكما وقاموا بمقتضاها اعتقادا وقولا وعملا، فآمنوا وصدقوا بنبوته ورسالته وقاموا بما يلزم من طاعته والانقياد لأمره والتأسي بفعله وهم مع قيامهم بهذا لم يتجاوزوا ما أمروا به من المحبة فلم يغالوا ولم يبالغوا، لأنهم علموا أنه ليس من المحبة في شيء الغلو في حقه وقدره، بل هذه المحبة تحكمها قواعد الكتاب والسنة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يحبه ويحب نبيه وأن يوفقنا لكل عمل يقربنا إلى حبه وحب نبيه هو ولي ذلك والقادر عليه وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/773)
عقوبة المعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد حموش
تامنفوست
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذنوب والمعاصي سبب هلاك الأمم 2- التحذير من استدراج الله تعالى
3- المعاصي سبب زوال النعم 4- المعاصي تنقص الإيمان والرزق والأمن
5- المعاصي سبب الخسران في الدنيا والشقاء في الآخرة 6- ضرر المعاصي على الحيوانات
والجمادات 7- إفساد المعاصي للقلوب 8- أقسام القلوب 9- علامات القلب السليم
10- آثار المعاصي على القلوب
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيتها المسلمات: إن للذنوب والآثام عواقب جسيمة لا يعلمها إلا الملك العلام، فكم أهلكت من أمم ماضية وشعوب كانت قائمة فهل ترى لهم من باقية، ولا تزال تهدم في بناء أمتنا حتى تحقق فيها سنة الله الجارية، قال جل وعلا: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
وقال سبحانه: وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا. فترى الأمم السالفة من عهد نوح إلى هذا الزمان كلما عصت أمة الله عز وجل، أجّلها مدة من الزمان لعلهم يتوبون ويرجعون، بل إن مع عصيانهم لله عز وجل قد يفتح عليهم بالنعم ولكنها استدراج، قال تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبسلون فبيّن تعالى أن الناس إذا تركوا ما أمرتهم به رسله عليهم السلام فلم يأتمروا بأوامره ولم ينتهوا عن نواهيه فإنه تعالى قد يفتح عليهم الخيرات من سعة في الرزق ووفرة في الأموال وصحة في الأجسام وغيرها حتى إذا فرحوا بها واطمأنوا أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ولنا في الأمم السالفة العبر والعظات في بيان عقوبة المعاصي.
ما السبب في إخراج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ أليست المعاصي؟.
ما الذي أخرج إبليس عليه لعنة الله من ملكوت السماء وطرده من رحمة الله؟ أليست معصية الكبر والحسد؟، فبدل بالقرب بعدا وبالرحمة لعنة وبالجنة نارا تلظى.
ما الذي جعل الماء يعلو الجبال الراسية في عهد نوح ويغرق قومه إلا من نجاه الله عز وجل؟ أليس المعاصي والشرك؟.
إهلاك قوم عاد بالريح العقيم فما الذي أرسلها عليهم حتى أصبحوا وكأنهم أعجاز نخل خاوية وعبرة للمعتبرين؟ أليست المعاصي؟.
ما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وما الذي بعث على بني إسرائيل قوما أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال وسبوا الذرية والنساء ونهبوا الأموال إنها المعاصي والذنوب قال عز وجل: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
وتتجلى عقوبة الله على المجتمعات بسبب الذنوب والمعاصي في عقوبتين عظيمتين:
1) زوال النعم بمختلف أنواعها وأشكالها وحلول النقم والمحن والفتن مكانها ولقد بين الله تعالى ذلك فقال: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له.
2) فالله تعالى لا يسلب نعمة أنعمها على قوم أو أمة حتى يحدثوا تغييرا لما هم عليه من الخير والهداية إلى الشر والضلالة، وكذلك لا يغير ما حل بقوم جزاء عصيانهم من عذاب ونكال وذل وخذلان إلى نعمة ورخاء وسلامة وإخاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من الشرور والآثام إلى توبة خالصة وطاعة ترفعهم من رذائل الأخلاق وحضيض الفساد إلى الهداية والصلاح.
وهكذا تقتضى سنة الله وعدله أن يجزي بالإحسان إحسانا وبالسوء عقابا وعذابا، فإن أحسن الناس من كان إحسانهم لأنفسهم لأنه يجنون ثماره نعمة ورحمة وإن أساؤا فعواقب إساءتهم راجعة إليهم لا يضرون إلا أنفسهم، ومن النعم الكثيرة التي تؤثر فيها المعاصي بالنقص أو الزوال :
- نعمة الإيمان: إن بها سعادة العبد في دار الدنيا الآخرة قال تعالى: لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون فالمعاصي تؤثر على إيمان العبد بالنقص أو الزوال حتى تجره إلى الكفر، وتتراكم على قلب العبد حتى يألفها ويصبح لا يأنس ولا يظمئن إلا بها، قال تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فكذلك المجتمع فلا يزال يفعل المعاصي حتى تتغير القلوب ويعلوها الران وهناك تتغير الأعمال وتسوء الأحوال فينزل عذاب الله عز وجل.
- نعمة الرزق والمال: فارتكاب المعاصي يؤدي إلى زوال هذه النعمة قال جل وعلا: وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون فهذا مثل ضربه الله عز وجل لكل قرية أو بلدة تأتيها الخيرات من جميع الأماكن فإنها لما تكفر بهذه النعم وتخالف أمر الله عز وجل وتفعل أنواعا من المعاصي فإنه يحل بها ما حل بتلك القرية من الجوع والخوف جزاء وفاقا إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وإن ارتكاب المعاصي كما يزيل نعمة الإيمان من القلوب ونعمة الرزق والمال يزيل نعمة الأمن في الأوطان: فإن نعمة الأمن والاستقرار لمن أعظم النعم التي يتمناها كل إنسان، كل منا يريد أن يكون آمنا على دينه وعلى نفسه وعى ماله وولده وهذا إلا بتحقيق الإيمان، والابتعاد عن العصيان، قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون فإنه من آمن بالله تعالى وراقبه ولم يشرك به شيئا فله الأمن والأمان في الدنيا والآخرة ومن أعرض عن هذا كانت له الحياة الضنكة قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى.
العقوبة الثانية: هي الخسران في الدنيا والشقاء في الآخرة فالمعاصي أيها الناس سبب لخسارة الدنيا والآخرة فهي تنسي العبد ذكر ربه والإنابة إليه، قال تعالى متوعدا من كان هذا شأنه: ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الخاسرون ، على العكس من ذك أهل الصلاح والاستقامة الذين قال فيهم الله عز وجل: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
وقد أخبر النبي أن من جعل همه الآخرة فإنه يحصل على راحة وطمأنينة في قلبه ودنياه أما من كانت دنياه أكبر همه لم يأخذ منها إلا ما قدر له وكان في شقاء وعناء، فعن ثابت بن زيد قال: سمعت رسول الله يقول: ((من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة)).
فبسبب المعاصي يخسر الإنسان حياته وآخرته، والمعاصي لا يقتصر أثرها وضررها على الإنسان بل تتعدى إلى الأرض والحيوان، فهذا الحجر الأسود خير مثال، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم )) ، ومر النبي وأصحابه بديار ثمود قوم صالح فأمرهم أن لا يدخلوها إلا وهم باكون حتى لا يصيبهم ما أصابهم ولا يشربوا ماءها لأنها ديار الظالمين، فقد أصاب الأرض والماء ما أصاب القوم من العذاب بسبب المعاصي، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، أيتها المسلمات: إن للمعاصي آثارا وخيمة على مرتكبها أو على أسرته أو مجتمعه وعلى الأرض والسماء والدواب، قال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ، وقال أيضا: وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا أي انتشرت المعاصي في البر والبحر وتبعها الشر والفساد فعبد غير الله تعالى واستبيحت محارمه وأوذي الناس في أموالهم وأبدانهم وأعراضهم نتيجة الإعراض عن دين الله وإهمال شريعته وعدم تنفيذ أحكامه وهذا كله بما كسبت أيدي الناس أي بظلمهم وكفرهم وفجورهم فأصابهم ما أصابهم من جدْب وقحط وفتن ليذيقهم الله بعض الذي عملوا من المعاصي لا بكل ما فعلوا، إذ لو أصابهم بكل ذنوبهم لأنهى حياتهم وقضى على وجودهم ولكنه الرحمن الرحيم بعباده حيث قال: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا.
وعن أبي قتادة بن ربعي أنه كان يحدّث أن رسول الله مر عليه بجنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله من المستريح والمستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله عز وجل والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب )).
فالمعاصي إذا فعلت أيها الناس أفسدت على العاصي كثيرا من أموره وإن آثار المعاصي أول ما تظهر إنما تظهر في القلوب، فالقلب هو لب الإنسان وبحياته تكون الحياة السعيدة وبموته تكون الحياة الشقية التعيسة، قال ابن القيم رحمه الله: إن مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر ولابد وأن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا بسبب الذنوب والمعاصي.
فبارتكاب المعاصي يكون فساد القلوب وضلالها وزيغها وذلها وهوانها، ولهذا نجد أن القرآن الكريم يعالج هذا الداء والبلاء، وهو فساد القلوب في كثير من آياته الكونية، ولقد ذكر الله عز وجل في القرآن أمراض القلوب وصحتها في أكثر من مئة وخمسة وعشرين موضعا وهو ما يدل على أهمية الأمر وعظمه وذلك أن الإسلام مبناه على أصول ثلاثة :أقوال وأفعال واعتقاد والقلب هو محل الاعتقاد كما جاء في حديث عمر بن الخطاب أن رسول الله قال: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.. )) ، وحديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله : ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب)) وقد قسم الله عز وجل القلوب في كتابه إلى ثلاثة أقسام فقال سبحانه: ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين آوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ، فالقلوب ثلاثة أنواع: القلب المريض، والقلب القاسي، والقلب المخبت الطائع، فالقلبان الأولان مفتونان وفيهما دخن وبلاء والثالث هو الفائز بخير الدارين قال تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وللقلب السليم علامات يظهر من خلالها وكذا الميت والمريض قال ابن القيم رحمه الله: القلب الصحيح السليم ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق تام الانقياد والقبول له والقلب الميت لا يقبله ولا ينقاد له والقلب المريض إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم، ومن الآثار التي تظهر على القلب بسبب المعاصي والذنوب:
1) أن المعاصي تضعف في القلب تعظيم الرب جل وعلا ويصيبه كبرياءه فتجرّأ العبد على المعاصي يدل على عدم خوفه وتعظيمه وإجلاله لله تعالى، بل استخفافه بحق الله وآياته وأوامره ونواهيه يصل به إلى درجة أنه يكره ما يقربه إلى الله تعالى ويحب ما يباعده عنه عز وجل، قال تعالى عن مثل هذا الصنف: وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون فلو كان العبد يخاف الله ويعظمه لما تجرأ على محارمه.
2) أن المعاصي تذهب حياء القلب وغيرته بل يصبح الإنسان لا يبالي بإخبار الناس عن سوء فعله أو قبيح قوله، ولقد بين الرسول ذلك فعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) ومعناه أن الذي لا يستحي فإنه يصنع ما يشاء من المعاصي إذ الحامل على تركها هو الحياء، فإذا لم يكن هناك في قلبه حياء يردعه عن القبائح فإنه يفعلها ومن ذهاب الحياء من القلب أن يجهر الإنسان بمعاصيه فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من الجهر أن يعمل العبد بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره ربه فيقول: يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا)).
3) ومن آثار المعاصي على القلب أنها تنكس القلب وتزيغه فلا يطمئن إلا بها فالقلب إذا غرق في أوحال المعاصي والآثام وركن إليها واطمأن بها فإن القبيح يكون لديه حسنا والحسن قبيحا والمعروف منكرا والمنكر معروفا، فما وافق هواه فهو الصواب الحلال وما خالفه فهو الخطأ الحرام وحينئذ تضعف عنده إرادة التقوى بل قد تموت لاستمراره على ما حرم الله كما جاء في حديث حذيفة قال: سمعت رسول الله يقول: ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء)) فالمداومة على العصيان والبعد عن طريق الإيمان تسبب انتكاس القلب والختم عليه والزيغ والضلال والانقلاب إلى الباطل عن الحق قال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.
4) ومن آثار المعاصي أنها تورث الوحشة في قلب العبد وضيق صدره قال ابن القيم رحمه الله: ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن ذكر الله وتعلق القلب بغيره والغفلة عن ذكره ومحبة سواه فإن من أحب شيئا غير الله عُذّب به وسجن قلبه في محبة ذلك الغير.
5) ومن آثار المعاصي أنها توجب حرمان العلم وتوهن القلب وتجعله يستصغر الذنب الذي يرتكبه.
وإذا حرم الإنسان العلم فمن الذي يقوده إلى نور الله ويبين له الحق من الباطل فيعيش الإنسان في عمى والعياذ بالله، نعوذ بالله من العمى بعد البصيرة ومن الضلال بعد الهدى، جعلني الله وإياكم من المهتدين وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/774)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من قطع الرحم التي أمر الله بوصلها. 2- بركة العمل في صلة الرحم. 3- الفرق
بين المكافئ والواصل. 4- شؤم قطيعة الرحم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً [النساء:1].
يقول الله تعالى آمرا خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومنبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، وهي آدم: وخلق منها زوجها وهي حواء خلقت من ضلعه الأيسر، وقوله: وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء أي ذرأ منهما أي من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وألوانهم ولغاتهم، ثم قال تعالى: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أي اتقوا الله بطاعتكم إياه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ولكن بروها وصلوها، وقوله: تساءلون أي كما يقال: أسألك بالله وبالرحم، وقيل: تتعاقدون وتتعاهدون به.
وقال تعالى: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم [محمد:22-23].
قال ابن جريج: المعنى فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام.
وقال أبو العالية: المعنى فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاما، أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)) ثم قال رسول الله : ((اقرءوا إن شئتم)) : فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [محمد:22-24].
والرحم هم قرابة الرجل من طرفي أبيه وأمه فتجب لهم الحقوق الخاصة، من المحبة والنصرة وعدم القطيعة، والقيام بحقوقهم كتمريض المرضى، وحقوق الموتى، من غسلهم والصلاة عليهم، وغير ذلك من حقوق المسلمين، وزيادة على ذلك النفقة على المحتاج منهم، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، حتى إذا تزاحمت الحقوق، بدأ بالأقرب فالأقرب.
وقد وردت السنة بتأكيد أهمية هذه العبادة، فمن ذلك ما رواه في الصحيح عن أبي أيوب الأنصاري أن رجلا قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال القوم: ما له؟ فقال رسول الله : ((أرب ما له فقال النبي : تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)) ( [1] ).
وفي الصحيح كذلك من حديث أنس: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) ( [2] ).
وقوله : ((ينسأ له في أثره)) أي يؤخر أجله وسمي الأجل أثرا لأنه يتبع العمر.
قال زهير:
والمرء ممدود له أمل لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أثر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة، فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر.
قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [النحل:61] والجمع بينهما من وجهين: أحدهما: أن الزيادة كناية عن البركة في العمر، بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، مثل هذا ما جاء أن النبي تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم، فأعطاه الله ليلة القدر، وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة، والصيانة عن المعصية، فيبقى بعده الذكر الجميل فكأنه لم يمت.
ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك: إن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم أو يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي فيه الزيادة أو النقصان، وإليه الإشارة بقوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب [الرعد:39]. فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك.
وقيل فيه جواب ثالث: وهو أن واصل رحمه تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده.
وورد كذلك أن من وصل رحمه وصله الله.
ففي الصحيح عن أبي هريرة قال: ((إن الرحم شجنة من الرحمن)) ، فقال: (( من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته )) ( [3] ).
قيل وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، وقوله ((من الرحمن)) أي أخذ اسمها من هذا الاسم، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعا: ((أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي)) ( [4] ).
قال الإسماعيلي: معنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن، فلها به علاقة وليس معناه أنها من ذات الله تعالى الله عن ذلك.
والمعنى الجامع لصلة الرحم إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارا أو فجارا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى.
وقوله: ((من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)) الوصل هو أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه، وهو التقرب منه، وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه، وهو كما يليق بالله عز وجل وعظمته.
روى مسلم وأحمد عن أبي هريرة قال: أتى رجل للنبي فقال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، ويجهلون علي وأحلم عنهم قال: ((لئن كان كما تقول كأنما تسفّهم بالملّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) ( [5] ).
قال النووي: كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم ولا شيء على هذا المحسن بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته، وإدخالهم الأذى عليه.
وقيل إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم، لكثرة إحسانك، ولكنه من يقابل الإساءة منهم بالإحسان إليهم.
ففي الصحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)) ( [6] ).
قال الطيبي: المعنى ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه بمثل فعله، ولكنه من يتفضل على صاحبه.
وقال البلقيني: المراد بالواصل في هذا الحديث الكامل، فإن في المكافأة نوع صلة بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه، فإن فيه قطعا بإعراضه عن ذلك، وهو من قبيل ((ليس الشديد بالصرعة)) و((ليس الغنى عن كثرة العرض)) انتهى.
وقال ابن حجر: لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع، فهم ثلاث درجات مواصل ومكافئ وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل، وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا.
وقد وردت الأحاديث كذلك بالوعيد الشديد لقاطع الرحم ففي الصحيحين أن جبير بن مطعم أخبر أنه سمع رسول الله يقول: ((لا يدخل الجنة قاطع)) ( [7] ).
عن أبي بكرة عن النبي قال: ((ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) ( [8] ).
قال الحجاوي: وقطيعة الرحم من الكبائر.
قال البلباني في آدابه: اعلم أنه يجب عليك أن تصل بقية رحمك، وهم كل قرابة لك من النسب، وقد قرن الله سبحانه الأرحام باسمه الكريم في قوله جل من قائل: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً [النساء:1].
وذلك تنبيه عظيم على أن صلتها بمكان منه سبحانه ومقرب إليه، وقطعها خطر عظيم عنده ومبعد عنه سبحانه.
أخرج الطبراني عن الأعمش قال: كان ابن مسعود جالسا بعد الصبح في حلقة فقال: (أنشد الله قاطع رحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجّة دون قاطع رحم) ( [9] ).
وروي كذلك في الآثار (أن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم، وأن الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم) ( [10] ).
قال الحافظ في الفتح: قال الطيبي يحتمل أن يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم ولا ينكرون عليه ويحتمل أن يراد بالرحمة المطر وأنه يحبسه عن الناس عموما بشؤم التقاطع.
وقال كذلك واعلم أن المراد بصلة الرحم موالاتهم ومحبتهم أكثر من غيرهم لأجل قرابتهم، وتأكيد المبادرة إلى صلحهم عند عداوتهم، والاجتهاد في إيصالهم كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم، والإسراع إلى مساعدتهم ومعاونتهم عند حاجتهم ومراعاة جبر خاطرهم، مع التعطف والتلطف بهم، وتقديمهم في إجابة دعوتهم، والتواضع معهم مع غناه وفقرهم وقوته وضعفهم ومداومة مودتهم ونصحهم في كل شؤونهم، والبداءة بهم في الدعوة الضيافة قبل غيرهم وإيثارهم في الصدقة والإحسان والهداية ونحوها، ويتأكد فعل ذلك مع الرحم الكاشح المبغض، عساه أن يرجع عن بغضه إلى مودة قريبه ومحبته.
وفي الحديث: ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة)) ( [11] ) ، انتهى.
قال السفاريني: واعلم أن هذا كله ليس بواجب أكثره مندوب كما يعلم ،.
وينبغي على العاقل كذلك عباد الله أن يبادر إلى صلة ذي الرحم الكاشح، وأن يدفع ما عنده من الضغن والبغضاء بالإحسان والإغضاء، كما قال تعالى: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [فصلت:34].
فيصبح كالحميم الذي هو القريب.
فصل رحمك رَحمك مولاك، وخالف بذلك نفسك وهواك، واصبر على أذاهم فإن بذلك نبيك أوصاك، وبالغ في الإحسان إلى من أساء إليك منهم تحمد بذلك عقباك، وحسن أخلاقك معهم ترضي خلاقك، وتنل راحتك ويطيب مثواك.
والله المسؤول أن يوفقني وإياكم وجميع المسلمين والمسلمات لما فيه السعادة، وأن يرزقنا الحسنى وزيادة، وصلى الله وسلم على النبي الأواب من جاء بالسنة والكتاب، وعلى آله وصحبه ما دجت الأحلاك ودارت الأفلاك.
( [1] ) رواه مسلم (1/172،173) الإيمان : باب بيان الإيمان الذي يدخل الجنة ومعنى (( أرب ماله)) أي حاجة جاءت به فدعوه.
( [2] ) البخاري (10/415) الأدب : باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم ، ومسلم (16/114) البر والصلة : باب صلة الرحم وتحريم قطعها ورواه أحمد والبخاري عن أبي هريرة.
( [3] ) البخاري (10/417) الأدب : باب من وصل وصله الله ورواه أحمد وابن أبي عاصم (538) بمعناه.
( [4] ) الترمذي (8/100) أبواب البر والصلة وقال الترمذي صحيح.
( [5] ) مسلم (16/115) البر والصلة : صلة الرحم وتحريم قطعها.
( [6] ) رواه البخاري (4/113) وفي الأدب المفرد (68) وكذا الترمذي (1/348) وأحمد (2/163،190،193) غاية المرام (232) رقم 408.
( [7] ) رواه البخاري (10/415) الأدب : باب إثم القاطع ، ومسلم (16/114) البر والصلة : صلة الرحم وتحريم قطعها.
( [8] ) رواه ابن المبارك في الزهد (724) والبخاري في الأدب المفرد (12) وأبو داود (2/301،302) والترمذي (2/83) وابن ماجة (2/552) والحاكم وأحمد وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحاكم صحيح الإسناد وقال الألباني : وهو كما قال فإن رجال إسناده ثقات كلهم (الصحيحة – 2/623/917).
( [9] ) قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود – مجمع الزوائد (8/151) كتاب البر والصلة.
( [10] ) رواه البخاري في الأدب المفرد عن ابن أبي أوفي ، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم 463.
( [11] ) رواه أحمد والترمذي وقال : حديث حسن ، والنسائي وابن ماجة الحاكم والمستدرك عن سلمان بن عامر وصححه الألباني – صحيح الجامع رقم 3572.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/775)
أهمية التربية في عودة الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البشارة بنصر الإسلام. 2- الديمقراطية ليست سبيل نصر الإسلام. 3- العمل المسلح
ونصر الإسلام. 4- طريق التربية هو طريق الرسل الكرام. 5- صورة التربية في المرحلة
المكية والمدنية. 6- ضرورة تكامل مجالات التربية للوصول إلى نصر الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
بشر الله عز وجل هذه الأمة بالرفعة والسناء والانتصار على الأعداء فقال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً [الفتح:28].
وقال عز وجل: وإن جندنا لهم الغالبون [الصافات:173].
وقال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر:51].
وقال النبي : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها )) ( [1] ).
وقال : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل به الكفر)) ( [2] ).
فكيف يصل المسلمون إلى الوعد الموعود والأمل المنشود؟ هل الطريق هو طريق البرلمان؟ عرض على النبي أن يجمعوا له من المال حتى يكون أكثرهم مالا، أو يؤمروه على أنفسهم فلم يقبل النبي هذه العروض والمساومات السياسية لأنه يعلم أن في مقابل ذلك لابد أن تكون هناك مداهنة في قضية التوحيد، ودخول البرلمان فيه مداهنة في قضية التوحيد لأن من التوحيد الكفر بالطاغوت، والبرلمان طاغوت لأنه مجلس تشرعي ينازع الله عز وجل حق التشريع، ومن التوحيد البراءة من الشرك واعتقاد أن غير الله عز وجل يجوز أن يشرع مع الله شرك في الربوبية.
ثم هو طريق مسدود لا يوصل إلى المقصود، وتجربة الجزائر أكبر شاهد، وكذا لم يسلك مثله الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات.
فما هو الطريق إذن؟ هل الطريق أن نجمع الأموال، ونقيم المؤسسات الإسلامية، ونتحكم في اقتصاد البلاد؟
نظر أناس إلى الساحة العالمية فوجدوا أن اليهود عليهم لعائن الله يتحكمون في بعض البلاد، نتيجة تحكمهم في اقتصاد تلك البلاد، فظنوا أن المسلمين يمكنهم كذلك التحكم في البلاد بعد تحكمهم في اقتصادها، ولا شك في أنه قياس مع الفارق بل هو قياس في مقابلة النص قال تعالى: لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون [الأنبياء:10].
فهذه الأمة تصير عزيزة إذا أقامت كتاب الله وحكمت شرع الله عز وجل.
وقال : ((واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)) ( [3] ).
وقال عمر : ((كنا أذل الناس فأعزنا الله برسوله، فمهما طلبنا العزة بغيره أذلنا الله عز وجل)).
وقال : ((ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)) ( [4] ).
فأين الطريق إذن هل هو في الصدام المسلح والاغتيالات والغدر بالأفراد؟ قال الأنصار لرسول الله بعد بيعة العقبة الثانية : ((لو شئت أن نميل على أهل الوادي – أي وادي منى – فنبيتهم – أي نقتلهم ليلا – لفعلنا، فقال : إني لم أؤمر بذلك)).
قال الله عز وجل: قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله [الجاثية :14].
وقال عز وجل: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [النساء:77].
الطريق إذن عباد الله هو طريق الرسل الكرام.
قال تعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [الأنعام:90].
وقال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً [الأحزاب:21].
ربى النبي الصحابة الكرام، وسقاهم القرآن وتعهدهم بالقيام والصيام، حتى صاروا قمما شامخة في سماء المجد والرفعة، وكان القرآن المكي يقرر ويكرر أمور الآخرة على قلوبهم، حتى صاروا كأنهم يعاينون الآخرة بعيني رؤوسهم، فتارة يخبر الله عز وجل بها إخبارا مؤكدا كما قال تعالى: إن الساعة آتية أكاد أخفيها [طه:15]، وتارة يقسم الله عز وجل بوقوعها كما قال تعالى: والذاريات ذرواً فالحاملات وقراً فالجاريات يسراً فالمقسمات أمراً إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع [الذاريات:1-6].
وتارة يأمر نبيه بالإقسام على وقوعها كما قال تعالى: وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم [سبأ:3].
وتارة يذم الله عز وجل المكذبين بها كما قال تعالى: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون [الأنعام:31].
وتارة يمدح المؤمنين بها كما قال تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر [البقرة:177].
وتارة يخبر الله عز وجل بقرب القيامة كما قال تعالى: إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً [المعارج:6-7].
فكان القرآن الكريم يقرر ويكرر أمور الآخرة حتى يقوى الإيمان بها فيكفّ العبد قلبه وجوارحه عن معصية الله عز وجل ويحبسها على طاعة الله، ثم نزلت بعد ذلك الفرائض والأحكام.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما نزل من القرآن سورة فيها ذكر الجنة والنار، تعني رضي الله عنها سورة المدثر وهي ثاني سورة نزولا، وفيها يقول الله عز وجل: فإذا نقر في الناقور [المدثر:8]. وقوله عز وجل: وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة [المدثر:31]. وقوله جل وعلا: كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين [المدثر:38-41]. حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل من أول الأمر: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، ولو نزل: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا.
أنزل على النبي وأنا جارية ألعب: بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر [القمر:46]، وما نزلت البقرة والنساء إلا وأنا عنده بالمدينة.
ومما ربى الله عز وجل به الإيمان كذلك في قلوب الصحابة بمكة فرض قيام الليل في ابتداء الدعوة.
روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: فرض الله عز وجل على نبيه قيام الليل، فقام النبي وقام الصحابة معه حولا كاملا، واحتجز الله عز وجل خاتمة السورة اثنا عشر شهرا، ثم نزل بعد ذلك التخفيف ( [5] ).
وإنما قصدت رضي الله عنها الأمر بقيام الليل في قوله تعالى: يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً [المزمل:1-4]. وقصدت بالتخفيف الآية الأخيرة من السورة، وهي قوله تعالى: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن [المزمل:20]. أليس من الغريب العجيب أن يفرض قيام الليل قبل أن تفرض الصلوات الخمس، وقبل أن تنزل الحدود، وإنما كان ذلك كذلك تربية لهذه الأمة ورفعا لمستواها الإيماني، ولئن قال البخاري: العلم قبل القول والعمل، فلقد قال الصحابة ما هو أبلغ من ذلك وهو: أن الإيمان قبل العلم.
روى الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين عن ابن عمر قال: عشنا برهة من الدهر وكان أحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن. فبقيام الليل وصيام النهار سادوا الدنيا وحكموا العالم وفتحوا البلاد وقلوب العباد.
قال علي : رأيت أصحاب رسول الله فلم أر اليوم شيئا يشبههم، كانوا يصبحون صفرا شعثا غبرا، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا سجدا وقياما، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا تمادوا كما يميد الشجر يوم الريح، وهملت أعينهم بالدموع، فوالله لكأنى بالقوم باتوا غافلين.
كان أبو هريرة يقسم الليل أثلاثا بينه وبين جاريته وبين أمه، وكان الحسن بن صالح - أحد عباد التابعين – يقسم الليل بينه وبين أمه وبن أخيه علي، فلما ماتت أمه صار يقسم الليل بينه وبين أخيه، فلما مات أخوه صار يقوم الليل كله.
باع الحسن بن صالح جارية إلى قوم، فقامت في منتصف الليل تقول: الصلاة يا أهل الديار، فقالوا: أأصبحنا، فقالت: ألا تصلون إلا المكتوبة، فلما كان الصباح ذهبت إلى الحسن بن صالح تقول له: بعتني إلى قوم لا يصلون إلا المكتوبة، ردني فردها.
تزوج رياح القيسى امرأة وكانت من العابدات فرآها تعجن بالنهار فقال لها: أحضر لك أمة، فقالت: لقد تزوجت رياحا ولم أتزوج جبارا عنيدا، فلما كان الليل أراد أن يختبر زوجته فتناوم الرجل، فقامت المرأة ثلث الليل، ثم أرادت أن توقظه فقال: سأقوم. فقامت المرأة الثلث الثاني ثم أرادت أن توقظه فقال: سأقوم. فقالت: ليت شعري من غرّني بك يا رياح.
والنساء اليوم يقولون لمن لم يحضر لهن الدنيا بحذافيرها،: ليث شعري من غرّني بك؟
أين التربية فينا عباد الله؟ من منا ربى نفسه بقيام الليل وصيام النهار؟ لقد صار الصحابة الكرام ببركة تربية النبي قمما شامخة، وضربوا أروع الأمثلة في الجهاد والصبر، والبذل، والدعوة، وسائر ما تمتدح به الأفراد والشعوب.
جعل أبو طلحة الأنصاري ظهره ترسا لرسول الله يوم أحد، ووقاه طلحة بن عبيد الله بيده فشلت يده، وقتل يوم أحد زوج امرأة وأبوها وأخوها فقالت: كيف رسول الله ؟ فقيل لها: هو على خير ما تحبين فقالت: ما أبالي يا رسول الله إذا سلمت من عطب.
هذه التربية التي يستهين بها الناس، ويظنون أنها لا فائدة فيها ولا عائدة، وأن الإسلام يمكن أن يقوم بغيرها، وأنها تضييع للأوقات والأنفاس، فطريق عز الإسلام والمسلمين أن يتربى الناس على ما ربى عليه رسول الله الصحابة الكرام، لا نربيهم على البدع والخرافات ونظن أننا نربيهم على الحق الواضح، فلا بد من تصفية كتب العقائد من العقائد الباطلة المخالفة لعقيدة السلف الصالح رضي الله عنهم، وتصفية كتب الفقه من الاجتهادات الخاطئة والأقوال المخالفة للسنن الصحيحة الثابتة، وكذا كتب التفسير من الإسرائيليات والأخبار الواهيات، ثم تربية الناس على الإسلام الصحيح الخالي من الاعتقادات الباطلة والبدع المنكرة، والاجتهادات المخالفة للنصوص الصحيحة.
لابد من التربية العقائدية وتعريف الناس بربهم عز وجل الذي خلقهم ورزقهم كما عرفنا الله عز وجل بنفسه، وكما عرّفنا به أعلم الناس به رسوله وعقيدة الصحابة رضي الله عنهم هي المقياس للعقيدة الصحيحة.
قال الله تعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا [البقرة:137].
ينبغي أن يتربى الناس على الفكر الإسلامي الصحيح، على تقديم المنقول على المعقول، والنص الشرعي على النظر العقلي، ينبغي أن يتربوا على ترك التعصب المذهبي، ينبغي أن يتربى المسلمون على الأخلاق النبوية والشيم المصطفوية، فنربيهم على الكرم، والحياء، والسخاء، والبذل، والفداء، واحترام العلماء.
ينبغي أن يتربى المسلمون على محبة الجهاد في سبيل الله عز وجل والتشوق إلى منازل الشهداء، فقد قال النبي : ((من مات ولم يغز ولم تحدثه نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)) ( [6] ).
ينبغي أن يتربى الناس على بر الوالدين، وصلة الأرحام ومعرفة حقوق الجيران والضيفان.
ينبغي أن يتعرف المسلمون على الواقع من حولهم، وما يكيده اليهود والنصارى والعلمانيون للإسلام وأهله، حتى يكونوا على بصيرة بالواقع من حولهم، ويعرفوا عدوهم.
والله عز وجل يقول: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [محمد:7].
ويقول تعالى: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [الحج:40].
ونصر دين الله عز وجل ليس بالهتافات ولا بالشعارات، نصر دين الله عز وجل بتطبيق شرعه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، وإذا كان أصحاب المذاهب الباطلة يتعصبون لمذاهبهم الباطلة فيقولون: لا يبنى المجتمع الاشتراكي إلا الاشتراكيون، فأولى بنا أن نقول: لا يقيم الدولة الإسلامية إلا الإسلاميون أي الذين طبقوا الإسلام على أنفسهم، وأهليهم وما ولوا، فلابد من تربية جيل على نهج الجيل الأول، وبدماء أهل الجيل وجهده وجهاده ترتفع راية الإسلام، ويعلو دين الملك العلام.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.
اللهم أعزنا بالإسلام قائمين، وأعزنا بالإسلام قاعدين ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين.
( [1] ) رواه مسلم (16/13) الفتن وأشراط الساعة ، والترمذي (9/22) الفتن ، وأبو داود (4232) الفتن والملاحم.
( [2] ) رواه أحمد (4/103) الحاكم (4/430-431) وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وابن حبان (1631 موارد) وصححه الألباني على شرط مسلم في الصحيحة رقم (3).
( [3] ) أخرجه العقيلي في الضعفاء ص (127) وأعله بأن داود حدث عن الأوزاعي وغيره بالبواطيل ، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ، قال الألباني : لكن للحديث شواهد مرفوعة يرتقى بها الحديث بها إلى درجة الحسن إلى شاء الله – الصحيحة رقم (1903).
( [4] ) رواه البخاري (11/248) ، الرقاق ، والترمذي (9/286، 287 عارضة) صفة القيامة.
( [5] ) جزء من حديث رواه مسلم (6/26) صلاة المسافرين ، وأحمد (6/54) ، وأبو داود (8/13) قيام الليل ، والنسائي (4/199) قيام الليل.
( [6] ) رواه مسلم (13/56) الإمارة ، وأبو داود (2485) الجهاد ، والنسائي (6/8) الجهاد قال ابن المبارك : فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله.
وقال النووي : هذا الذي قاله ابن المبارك محتمل ، وقد قال غيره : إنه عام والمراد من فعل هذا أشبه بالمنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف فإن ترك الجهاد أحد شعب النفاق.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/776)
أولئك آبائي
سيرة وتاريخ
القصص
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى , لنا اليوم مع تاريخنا وقفة نَعْرِضُ فيها لمواقف شتى , مرت عبر القرون الإسلامية الماضية , نستلهم من هذه المواقف العبر فإنني أرى حالنا اليوم وقد تكالبت علينا الأمم والمصائب ,ولا يرفعه إلا أن نرجع إلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين , وإنَّ التاريخ يعيد نفسه فأحداث الأمس هي نفسها أحداث اليوم , والمواقف المنتظرة من رجال اليوم هي المواقف التي كان يفعلها رجال الأمس والأمة تمر بها أزمات متكررة في عصورها تحتاج فيها إلى أن ترجع إلى ماضيها وتعيد النظر فيه.
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه
وانزل دمشق وساءل صخر مسجدها عمن بناه لعلّ الصخر ينعاه
هذي معالم خُرْصٌ كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه
والله يعلم ما قلَّبْتُ سيرتهم يوماً وأخطأ وقْعُ العين مجراه
واسترشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه
إذاً فيجب أن نعود إلى ماضينا وتاريخنا وآبائنا نستلهم منه الدروس والقوة , وهي وقفات لا أدعي أنها الوحيدة وإنما هي مختارات وثمار نقطفها من حديقة تاريخ أمتنا الغنَّاء , والوقفة الأولى نقفها مع ثاني الخلفاء الراشدين , عمر الفاروق رضي الله عنه , حيث رُوي عنه في خلافته عن أسلمَ مولاه , أنّه قال: " خرجت مع عمر في ليلة باردة إلى الحرّة حتى رأينا ناراً صغيرة؛ فقال لي: يا أسلم إني لأرى هاهنا ركباً قد قصّر بهم الليل والبرد , انطلق بنا؛ فهرولنا حتى دنونا , فإذا امرأة معها صبيان صغار وقِدْرٌ منصوبة على النار , وهم يتضاغون من الجوع؛ فقال عمر: السلام عليكم فقالت المرأة: وعليك السلام , فقال: أَدْنُ؟ قالت: إدن بخير؛ ثم دنا فقال: ما بالكم ومال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ فقالت: قصّرَ بنا الليل والبرد وأبكاهم الجوع؛ قال: فأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ماء أسكِّتُهم به حتى يناموا , والله بيننا وبين عمر؛ قال: أي رحمكِ الله وما يُدري عمر بكم؟ قالت: أيتولى أمرنا ثم يغفل عنّا؛ فانطلق عمر وانطلقت معه يهرول حتى أتينا دار الدقيق , فأخرج عِدلاً من دقيق وكبة من شحم؛ فقال: احمله عليّ فقلت: أنا أحمله عنك , فلما كرّرت عليه غضب , وقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة لا أمّ لك, احمله عليّ فحملته عليه وهرولنا حتى وصلنا إليهم فألقى ذلك عندها ثم يذرّ الدقيق وينفخ تحت القدر, ثم وضعه في صَحْفة لهم , فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك, وقام وقمت معه, فجعلت تقول: جزاك الله خيراً كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين, فقال: قولي خيراً؛ ثم تنحَّى عنها وابتعدنا قليلاً عنهم , وجلس يتربص بهم , ثم قلت: لك شأن بهذا؟ فقال: ما كلّمني حتى رأى الصبية يصطرعون ثم ناموا؛ فقال يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت ألا أنصرف حتى أرى أنهم ناموا ".
موقف رائع, وصورة جميلة, من صور الرعاية يكفينا من التعليق عليها أننا أوردناها كما هي , وأما وقفتنا الثانية مع مجتمع عظيم , وخليفة عظيم , وخلافة حُكمُها رحمة وعدل ونعمة , فقد كان قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله في شرق الكرة الأرضية يفتح المدن والقرى ينشر دين الله في الأرض , ويفتح الله على يديه مدينة سمرقند , افتتحها بدون أن يدعوَ أهلها للإسلام أو الجزية , ثم يمهلهم ثلاثاً كعادة المسلمين , ثم يبدأ القتال فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر مخالف للإسلام كتب كهنتها رسالة إلى سلطان المسلمين في ذلك الوقت وهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله , أرسلوا بهذه الرسالة أحد أهل سمرقند يقول هذا الرسول: أخذت أتنقّل من بلد إلى بلد أشهراً حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها وأُحدِّث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان , فأخذت على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أؤخذ أخذاً فلما رأيت أعظم بناءٍ في المدينة , دخلت إليه وإذا أناس يدخلون ويخرجون ويركعون ويسجدون , وإذا بحلقات هذا البناء , فقلت لأحدهم أهذه دار الوالي؟ قال: لا , بل هذا هو المسجد؛ قال: صليت؟ قال: قلت: وما صليت؟ قال: وما دينك؟ قال: على دين أهل سمرقند , فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته وشهدت بالشهادتين ,ثم قلت له: أنا رجل غريب أريد السلطان دلّني عليه يرحمك الله؟ قال أتعني أمير المؤمنين؟ قلت: نعم , قال: اسلك ذلك الطريق حتى تصل إلى تلك الدار وأشار إلى دار من طين , فقلت: أتهزأ بي؟ قال: لا ولكن اسلك هذا الطريق فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده , قال: فذهبت واقتربت وإذا برجل يأخذ طيناً ويسدّ به ثُلمة في الدار وامرأة تناوله الطين , قال: فرجعت إلى الذي دلّني وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين وتدلّني على طيّان! فقال: هو ذاك أمير المؤمنين , قال: فطرقت الباب وذهبت المرأة وخرج الرجل فسلّم علي ورحّب بي وغسّل يديه, وقال: ما تريد؟ قلت: هذه رسالة من كهنة سمرقند فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها, من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله في سمرقند أن انصب قاضياً ينظر فيما ذكروا ثم ختمها وناولنيها, فانطلقت أقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق ماذا تفعل هذه الورقة وهذه الكلمات في إخراج هذه الجيوش العرمرم وذلك القائد الذي دوّخ شرق الأرض برمتها – يعني قتيبة بن مسلم – قال: وعدت بفضل الله مسلماً كلما دخلت بلداً صليت بمسجده وأكرمني أهله , فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة الرسالة أظلمت عليهم الأرض وضاقت عليهم بما رحبت ذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند فنصّب لهم القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي لينظر في شكواهم ,ثم اجتمعوا في يوم وسألناه دعوانا فقلنا اجتاحنا قتيبة, ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا لننظر في أمرنا فقال القاضي: لخليفة قتيبة وقد مات قتيبة – رحمه الله – :أنت ما تقول؟ قال: لقد كانت أرضهم خصبة وواسعة فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه , قال القاضي: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً , ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقاً للمبادئ الإسلامية.
ما ظنّّ أهل سمرقند أنّ تلك الكلمات ستفعل فعلها ما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند , خرج الجيش كله ودعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال , فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها , قالوا: هذه أمة حُكمُها رحمة ونعمة , فدخل أغلبهم في دين الله وفُرضت الجزية على الباقين.
ربما أنّ نفسك تحدثك الآن أخي المؤمن أنّ مثل هذه القصة ضَرب من الخيال , ولكن المبادئ الإسلامية التي تمكنت في نفوس هؤلاء حملتهم على ذلك فحوّلوها إلى واقع صحيح منفّذ لا مبادئ تُحفظ وتُقرأ وتُدّعى.
وموقف آخر مع إحدى نساء هذه الأمة المباركة , وكيف كانت تضحيتهنّ للدين وتربيتهنّ للأبناء , قال ابن قُدامة الشامي: " كنت أميراً على الجيش في بعض الغزوات فدعوت الناس إلى الجهاد ورغّبتهم فيه ثم سِرت إلى منزلي , فإذا بامرأة من أحسن الناس تناديني فوقفت لها فجاءت ودفعت إلي رُقعة وخرقة مشدودة , ثم انصرفت وهي تبكي فنظرت إلى الورقة وإذا مكتوب فيها دعوتَ الناس إلى الجهاد وذكرتَ ثوابه وأنا امرأة لا قدرة لي على الجهاد , وقد قطعتُ أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأتيتك بهما لتجعلهما قيداً لفَرَسك لعلّ الله أن يغفر لي فلما كان القتال أخرجتُ الضفيرتين فقيدت بهما فرسي ثم إذا أنا بغلام حسن الوجه , صبور على الشدائد في مقدمة القتال , فقلت له: يا فتى أنت راجلٌ ولا آمن أن تجول الخيل فتَطَأك بأرجلها فارجع إلى موضعك , فالتفت إليّ وقال: كيف أرجع والله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار قال: فأعطيته ترساً كان معي ثم قال: يا أبا قُدامة أتُرضني ثلاثة أسهم؟ فقلت: ما هذا وقت ترضى , فقال: بالله عليك أتُرضني؟ فأعطيته سهماً فوضعه في قوسه فقتل به رومياً , فقلت: أنا شريكك في الثواب , قال: نعم ثم أعطيته سهماً آخر فقتل به رومياً أيضاً ثم ناولته الثالث فرمى به أيضاً ثم جاءه سهم بين عينيه فخرّ صريعاً فقال: لي إليك حاجة إذا دخلت المدينة فأْتِ والدتي وسلِّم عليها وناولها هذا الخرْج , فقلت: ومن والدتك؟ قال: التي قطعت لك شعرها.
ثم مضى نحبه ودفنته فلما انقضى القتال وعدتُ إلى قبره رأيته على وجه الأرض قد قذفته ثم دفنّاه مرة أخرى فقذفته الأرض ولم نستطع على دفنه فنزلَت طيور فأكلته فلما أتيت المدينة ذهبت إلى بيت والدته فطرقت الباب فخرجت طفلة صغيرة فلما رأت الخُرْج رجعت ونادت يا أماه جاء أبو قُدامة بخرج أخي وما أرى أخي معه , واحسرتاه في العام الأول أصبنا بأبي , وفي الثاني بأخي وفي هذا بأخي , قال: قال فكدت أتلق من البكاء فخرجت تلك المرأة وهي تقول: أمهنئاً جئت أم معزياً؟ إن كان ولدي قد مات فعزّني وإن استشهد فهنئني , فقلت: لا والله بل استشهد قالت: وما علامة ذلك قلت قُتِل , قالت: قبلته الأرض أم لا؟ قلت: لا فقالت: الحمد لله ثم فتحت الخرج وأخرجت مسحاً أسود وغلاً من حديد , وقالت: إنه كان إذا جنّ الليل يلبس هذا المسح ويدخل يده في الغل ويقول: إلهي احشرني من حواصل الطير وبطون السباع وقد استجاب الله منه ذلك ".
هذه هي ذات العقال وولدها , همم تعانق الجبال وتطاول أعناق الجمال , ووقفة أخرى مع ليث الإسلام , السلطان الشهيد نور الدين محمود الذي حمل راية العدل والجهاد وبنى المدارس وحصّنَ دمشق , وكان بطلاً شجاعاً عمل كثيراُ من الإصلاحات ومن أهمها وقوفه في وجه الصليبيين في معركة حارم , وهو الذي جهّز الجيوش فافتتح مصر , وقهر دولتها الرافضية , وهربت منه الفرنج , ثم جاء صلاح الدين فأباد العبيديين واستأصلهم , ومما يُروى عن هذا الملك الزاهد المجاهد , الذي اتخذ من أماكن الجهاد قيادة له أنّ رجلاً من أتباعه حدّث فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول: يا يحيى بشِّر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط , فقلت: يا رسول الله ربما لا يصدقني؟ قال: قل له: بعلامة يوم حارم فذهبت من صلاة الصبح إلى نور الدين فقال لي: يا يحيى تحدثني أو أحدثك؟ فارتعدت وسكتّ فقال: أنا أحدثك ثم ذكر ما رأيت , قلت: نعم , فبالله ما معنى قوله بعلامة يوم حارم؟ فقال: لما التقينا مع العدو خِفت على الإسلام فانفردت ونزلت ومرّغت وجهي على التراب , وقلت: يا رب: ومن هو محمود الكلب؟ الدين دينك والجند جندك وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك قال: فنصرنا الله عليهم.
وأما الوقفة الأخرى لنا فهي مع سلطان العلماء العز بن عبد السلام وهو من عُرِف بوقفاته وقوته فلما أن أراد سلطان مصر , أن يقاتل التتار وقد استفحل أمرهم فرأى أن أموال الخزينة لا تكفي فلا بدّ أن يأخذ من الناس فجمع العلماء وشاورهم في هذا الأمر العام أنّ هذه الأموال للجهاد ولكن العز بن عبد السلام لم يوافق , وقال: هذا لا يمكن إلا أن نأخذ كل ما عندكم أنتم وبقية سلاطين المماليك وأمرائهم , كل ما عندكم من الخوائض المذهّبة والامتيازات والخصائص , فإذا كفت أموالكم وإلا نجمع من الناس فوافق السلطان مضطراً فجمعوا بعضاً من أموالهم فكفت الجيش وزادت وهذا يبين لنا كيف كان حرصهم على مصالح الناس العامة والخاصة.
هذه هي مواقف آبائكم ورجال أمتكم , لم نقصد من ذكرها المتعة وإنما نذكرها لحاجة الأمة في واقعها إلى أمثال هؤلاء وغيرهم ولكن على الأمة أن تعي دورها وأن تبدأ بإعداد نفسها.
أسأل الله العلي العظيم أن يحمي حوزة الإسلام والمسلمين , وأن ينصر إسلامنا , ودعاتنا , وجميع من أخلص للدين وأهله , بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين يمنّ على عباده بالأرزاق , ويأمرهم أن ينفقوا مما أعطاهم ليجدوه يوم التلاق , وأشهد أن لا إله الله الملك الخلاّق , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , أفضل خلق على الإطلاق , بعثه ليتمّم مكارم الأخلاق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة السُّبّاق وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)) ولقد أقسم الله بالعصر وهو الوقت وذلك لأهميته في حياة الناس , وحيث أننا مُقبِلون على إجازة نصف العام , حيث يتفرغ أبناؤنا الطلاب وبناتنا الطالبات وغيرهم , فيجب عليكم حثّهم على استغلال هذه الإجازة بما ينفعهم ويفيدهم ولا يضرهم فهناك السفر للحرمين وما في ذلك من أجر عظيم وفائدة كبيرة , أو السفر لزيارة الأقارب داخل البلاد , وهناك المخيمات العائلية والشبابية وهي لا بأس بها إن شاء الله , ولكننا نلاحظ مع الأسف أنّ بعض هذه المخيمات أصبحت تشتمل على بعض المنكرات من السهر والتدخين ومشاهدة الأشياء المُحرّمة , والتهاون في أداء الصلاة فينبغي لنا أن ننتبه لذلك وأن نعالج مثل هذه المنكرات , وأُوجّه حديثي إلى أولياء الأمور بأن ينتبهوا لأبنائهم ومشاركتهم في المخيمات الشبابية مع من يذهبون؟ وكيف يقضون أوقاتهم؟ ولا أرى مانعاً من أن تقوم أخي ولي الأمر بزيارة ابنك في مُخيمه مع زملائه , لترى حاله وحال أصدقائه , وتنفعهم بخبرتك , وتجربتك, وزيارتك.
ولا أنسى الشكر, إخوة الإيمان لمن قام على مخيم عنيزة للخدمات , والذي يقدم عدداً من الخدمات لأصحاب المخيمات وترفيه أطفالهم , وكذلك الفترات الدعوية والثقافية والرياضية والمسلية , وفي مقدمة هؤلاء بلدية مدينة عنيزة , ومركز الدعوة والإرشاد بعنيزة , وغيرهم من المؤسسات والدوائر.
فنسأل الله أن يَأجُر الجميع وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم إنه سميع مجيب..
(1/777)
فضل وأهمية الجمعة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن سعيد أعياش
غير محدد
14/10/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يوم الجمعة من مواسم الطاعات. 2- اختصاص المسلمين بيوم الجمعة دون سائر والملل. 3- خير يوم طلعت عليه الشمس. 4- سنن وآداب يوم الجمعة. 5- شروط في خطب الجمعة. 6- خصائص خطبة الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
عباد الله: اعملوا رحمني الله وإياكم أن الله بمحض منِّه وكرمه سبحانه، جعل لعباده مواسم خير، يتاجرون فيها معه سبحانه، فيتقربون إليه جل جلاله بما شرع لهم في هذه المواسم من مختلف الطاعات، ويتعرضون لما يفيضه عليهم فيها أكرم الأكرمين من النفحات، فيحيون في هذه الدنيا طيبين من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ، ويموتون طيبين كذلك يجزي الله المتقين الذي تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ، ولا يرون في آخرتهم إلا كل أمر طيب جزاء من ربك عطاء حسابا ، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، والجزاء من جنس العمل، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
عباد الله: اعلموا وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه، أن الله بحكمته البالغة أضل الأمم السابقة عن أعظم يوم طلعت عليه الشمس، وهدى إليه أمة الإسلام ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم الله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما.
في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد))
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق)).
وفي مسند الإمام أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق الله آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يعني قد بليت، قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )).
وفي صحيح مسلم، وسنن الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق الله آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)).
وفي موطأ مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح، حتى تطلع الشمس، شفقا من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا، إلا أعطاه إياه)) الحديث.
واعلموا عباد الله أنه كان من هدي نبيكم عليه الصلاة والسلام، تعظيم شأن هذا اليوم، وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره من الأيام، ومنها:
1. أن النبي كان يقرأ في فجره بسورتي آلم السجدة، وهل أتى على الانسان، رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد.
2. استحباب كثرة الصلاة على النبي فيه وفي ليلته، لقوله : ((أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة)) حديث حسن رواه البيهقي.
3. أن فيه صلاة الجمعة التي هي آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، ومن تركها تهاونا بها طبع الله على قلبه.
4. الأمر بالاغتسال في يومها وهو أمر مؤكد جدا.
5. التطيب فيه، وهو أفضل من التطيب في غيره من سائر أيام الأسبوع.
6. السواك فيه وله مزية على السواك في غيره من سائر الأيام.
7. فيه فضيلة التبكير للصلاة فيه.
8. الاشتغال فيه بالصلاة والذكر والدعاء والقراءة حتى يخرج الإمام.
9. وجوب الإنصات للخطبة إذا سمعها، فإن تركه كان لاغيا، ومن لغا، فلا جمعة له، روى البخاري ومسلم ومالك وأبو داود أن النبي قال: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت)).
10. قراءة سورة الكهف في يومها، فقد روي عن النبي أنه قال: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين)) حديث صحيح رواه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في سننه، والدارمي في مسنده.
11. قراءة سورة الجمعة والمنافقين، أو سبح والغاشية في صلاة الجمعة، فقد كان رسول الله يقرأ بهن في الجمعة. رواه مسلم والترمذي وابن ماجة.
12. أنه العيد الأسبوعي للمسلمين، كما في مسند أحمد ومستدرك الحاكم وغيرهما من كتب السنة.
13. أنه يستحب للمسلم أن يلبس فيه أحسن ثيابه، فقد ثبت أن النبي قال: ((من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيب إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه، خرج وعليه السكينة، حتى يأتي المسجد، ثم يركع إن بدا له، ولم يؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامه، حتى يصلي، كانت كفارة لما بينهما)) رواه أحمد في المسند وصححه ابن خزيمة.
14. أنه لا يجوز السفر في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها.
15. أنه يستحب فيها تجمير المسجد لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن يجمر مسجد المدينة كل يوم جمعة عند منتصف النهار.
16. أن للماشي إلى الجمعة بكل خطوة أجر صيام سنة وقيامها، فقد ثبت أن رسول الله قال: ((من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر، ودنا من الإمام، فأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها أجر صيام سنة وقيامها، وذلك على الله يسير)) رواه عبد الرزاق في المصنف، وأحمد في المسند، وأصحاب السنن، وصححه ابن خزيمة.
17. أنه يوم تكفير السيئات، ففي الحديث الصحيح أن الجمعة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر.
18. أن جهنم تسجر كل يوم، ما عدا يوم الجمعة.
19. أن فيه ساعة الإجابة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، وقد سبق ذكر الحديث في ذلك وهو في الصحيحين.
20. أن صلاة الجمعة خصت من بين سائر الفروض بأحكام لم يشركها فيها غيرها، كالإقامة والاستيطان، والخطبة، وغير ذلك.
21. أن الصدقة في هذا اليوم العظيم، لها مزية على الصدقة في غيره من سائر الأيام.
22. أنه اليوم الذي يتجلى فيه الرب تبارك وتعالى لأولياءه المؤمنين في الجنة وزيارتهم له.
23. أنه خيرة الله من أيام الأسبوع، كما أن رمضان خيرته من الشهور، وليلة القدر خيرته من الليالي، ومحمد خيرته من خلقه.
24. أنه يكره إفراده بالصوم، كما صحت بذلك الأحاديث الكثيرة.
25. أن الأصل في خطبة الجمعة، أن تتضمن تقرير أصول الإيمان، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وذكر الجنة والنار وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من الكرامة والنعيم المقيم وما أعد لأعدائه وأهل معصيته من النكال والخلود في الجحيم.
وقد تحدث العلماء قديما وحديثا عن أهمية منبر الجمعة، وأثره في الدعوة إلى الله عز وجل، إذا وظف التوظيف الصحيح، وتوفرت فيمن يعتلي أعواده الشروط المعتبرة شرعا، ومن أهمها:
1- الإخلاص لله تعالى، الذي هو أساس قبول الأعمال، وإيتاؤها ثمرتها؛ فالخطبة التي لا يراد بها ما عند الله من الأجر والمثوبة، لقاء توجيه المسلمين إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما أنها لا تجاوز حنجرة ملقيها، كذلك لا تجاوز آذان سامعيها. بخلاف ما ألقي من القلب، فإنه ينفذ تلقائياً إلى القلب.
2- المتابعة لرسول الله في منهجه وهديه عامة، وفي منهجه وهديه في خطبة الجمعة خاصة، لعموم قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم وقوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم فيكون ظهرا للسنن باذلا وسعه في إحيائها، محاربا للبدع والمحدثات، مستفرغا طاقته في إماتتها والقاء عليها.
3- الكفاءة العلمية، وذلك بالفقه في الدين وسعة الاطلاع، حتى يتمكن الخطيب من تقديم شيء نافع للمسلمين المستمعين لخطبته، وإلا ففاقد الشيء لا يعطيه كما يقال.
4- القدوة الحسنة لعموم قوله تعالى: واجعلنا للمتقين إماما أي: قدوة وأسوة، ولكون خطبة الجمعة إنما شرعت ضمن ما شرعت له، لعظة القلوب، وملامسة المشاعر، ولا يتأتى ذلك إلا أن يكون الواعظ قد اتعظ والآمر قد ائتمر، لقوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وقول القائل:
مواعظ الواعظ لن تقبلا حتى يعيها قلبه أولا
ودائما فاقد الشيء لا يعطيه، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يعنون بهذا الأمر أشد العناية، ولهم في ذلك مواقف وطرائف، فهذا الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، يأتيه عبيد المدينة مشتكين ثقل الرق عليهم، سائلين إياه تخصيص خطبة لترغيب الناس في عتق الرقاب، وبيان ما في ذلك من الفضل، فوعدهم خيرا، وتمهل في الأمر، فلم يخطب في موضوعهم إلا بعد شهر تقريبا، فلما خطب، رغّب الناس في عتق الرقاب، وبين لهم ما أعده الله لمن أعتق رقبة يبتغي بذلك الأجر والمثوبة من الله، فحصل لكلامه قبول عجيب، حيث خرج الناس من خطبته، فأعتقوا من الأرقاء ما شاء الله أن يعتقوا فجاءه المعتقون عاتبين وشاكرين، فأما العتاب تأخيره الخطبة في موضوعهم هذه المدة، وأما الشكر فعلى ما حصل لهم بسبب خطبته من العتق، فأجابهم رحمه الله على عتابهم بما يدل على أهمية القدوة الحسنة وأثرها في وعظ الواعظ، ودعوة الداعية، إذ قال: أما تأخير الحديث في موضوعكم، فسببه أنه لما طلبتم مني ما طلبتم، نظرت فلم أجد عبداً عندي أعتقه قبل أن أتحدث في العتق وفضله، فذهبت وعملت حتى تهيأ لي ما اشتريت به عبدا وأعتقته، ثم خطبت في الناس، فكان للخطبة أثرها في نفوسهم، فالحمد لله ولي كل نعمة.
5- معرفة الخطيب بحال المخاطبين، فيسير بهم بسير العلماء الربانيين، الذين قال الله تعالى فيهم ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون والرباني هو العالم الفقيه البصير بسياسة الناس، فيربيهم بصغار العلم قبل كباره، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: والمراد بصغار العلم، ما وضح من مسائله، وبكباره، ما دق منها، وقيل: جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده [1].
6- التفاعل مع الخطبة بما يشعر بارتباط الخطيب بالقضايا التي يطرقها في خطبه، مما له علاقة بآمال الأمة وآلامها؛ الأمر الذي يجعل المصلي مشدودا إلى خطيبه، متفاعلا معه، وهذا هو الهدي النبوي الشريف. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب، احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم، رواه مسلم. وأما ما عليه بعض الخطباء من التخاشع والتماوت أثناء إلقاء خطبهم إلى حد تنويم المصلين، فإنه خلاف الهدي بلا مراء.
ألا فاتقوا الله - عباد الله - واشكروا نعمته عليكم بما خصكم به من فضائل هذا اليوم، من بين سائر الأمم، وقوموا لله سبحانه بما أوجب عليكم فيه، وفي غيره من سائر الأيام، تسعدوا في الدنيا، وتفوزوا برضوان ربكم في الأخرى، اللهم أوزعنا شكر آلائك ونعمك علينا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
[1] الفتح (1/162)
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، ودعا بدعوة الإسلام إلى يوم الدين ،وعنا معهم بفضلك وجودك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين يا رب العالمين، آمين، ثم أما بعد عباد الله:
كانت تلك بعض خصائص يوم الجمعة، وتلك بعض خصائص الخطيب الجدير بالخطابة، وإليكم بعض خصائص الخطبة نفسها، ومنها:
1- اشتمالها على حمد الله والثناء عليه بما هو أهله، وتعليم قواعد الإسلام، وشرائعه وآدابه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقد كان النبي يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: ((من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله)) وكان يقول بعد حمد الله والثناء عليه، والتشهد: ((أما بعد)) ، وكان يأمر أصحابه وينهاهم إذا عرض له أمر أو نهي، حتى وهو يخطب، كما أمر الداخل أن يصلي ركعتين، رواه البخاري.
2- أن يتحرى في الخطبة إفادة المسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وذلك بتذكيرهم بعظيم منة الله عليهم بهذا الدين، وببعثة هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فيهم؛ وكذا تذكيرهم بأيام الله سبحانه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، وتوصيتهم بتقواه وما يقربهم إليه وإلى جنانه ومرضاته، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره. وألا تتخذ الخطبة وسيلة للثناء على أشخاص بأعيانهم، أو النيل من أشخاص بأعيانهم كذلك.
قال الشيخ العلامة عبد الله بن قعود حفظه الله، في غضون حديثه عما ينبغي أن يكون عليه منهج الخطابة والوعظ: ومن هنا يعلم أن ما بدأ يظهر في خطب الجمعة في عالمنا المعاصر، من تقليل الثناء على الله فيها، بحيث يقف القول فيه في بعض الأحيان عند أقل ما يجب، بل ومن جعلها في بعض الأحيان، مادة للثناء على أقوام بأعيانهم، أو النيل من أقوام كذلك بأعيانهم، أمر مخالف لما كان عليه صلوات الله وسلامه عليه، وما كان عليه أتباعه بإحسان، رضي الله عنهم، وعلى من سار على نهجهم إلى يوم الدين، فلنأخذ بهذا المنهج، مخلصين متبعين، عسى أن يتقبل الله منا هذه الطاعة وغيرها، وأن يحقق بذلك المعنى العظيم، الذي شرعت له الخطبة، من تعاهد الناس بين الفينة والأخرى، بالتذكير والتبصير، بل والتعرف على مشاكلهم وأمراضهم، أمراض الشهوة أو الشبهة لمحاولة علاجها، بما جعله الله دواء لها، في قوله تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [1]
قصر الخطبة في غير إخلال مع انتقاء الكلمات الجوامع، وتجنب الكلمات والمصطلحات الصعبة والغريبة التي لا يفهمها عامة الناس، وطول الصلاة في غير إضجار أو إملال لقوله : ((إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنة من فقهه)) رواه مسلم وأحمد.
قال ابن القيم رحمه الله: ومن تأمل خطب النبي ، وخطب أصحاب، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى، التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره، الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمته وصفاته وأسمائه، ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه، وأحبهم، ثم طال العهد، وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسوما تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سننا لا ينبغي الاخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الاخلال بها، فرصعوا الخطب بالتسجيع وعلم البديع، فنقص، بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها.
[1] أحاديث الجمعة 7 – 9.
(1/778)
الإيمان بالرسل عليهم السلام
الإيمان
الإيمان بالرسل
محمد الحكمي
الطائف
11/7/1414
جامع الجفالي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- احتياج الناس لإرسال الرسل 2- ما يتضمّنه الإيمان بالرسل 3- بعض افتراءات اليهود
والنصارى على الأنبياء 4- بعض فضائل نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم
5- حُرمة موالاة الكفار وحرمة مشاركتهم وتهنئتهم بأعيادهم وفتوى العلماء في ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته حتى نكون ممن قال الله فيهم ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ويحدونا المسير وتتلاحق الخُطا مع أركان الإيمان ودعائمه فإذا بها اليوم أمام بوابة ذلك القصر المنيف الذي وصفه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيه موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة فأنا في النبيين، موضع تلك اللبنة)).
نعم إنه موكب الإيمان وسفينة النجاة في بحر تلاطمت أمواجه وزمان كثرت فتنه وأصبح الإسلام فيه غريباً، فكيف السبيل؟؟ وأين المفر؟؟ إن المستقر إلى مثل قول مليك مقتدر أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.
أخي يا رعاك الله
إن عيشَك اليوم مع شموس الرسالة وإشراقات النبوة رسلٌ أخيار وأنبياء أبرار ضرورتنا إليهم، كما قال ابن القيم رحمه الله:[أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها والروح إلى حياتها] أ.هـ.
هم سفراء الله إلى عباده وحجته عليهم مبشرين ومنذرين دعوتهم واحدة وشرائعهم شتى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.
فمن آمن بهم وصدق لزمه في ذلك الإيمان بمتضمّنات أربع وهي:
1- الإيمان بأن رسالتهم حق من عند الله تعالى فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بهم جميعا ودليل ذلك قوله تعالى: كذّبت قوم نوح المرسلين.
2- الإيمان بمن علمنا اسمه منهم تفصيلا كآدم ونوح وإبراهيم عليهم صلوات الله وسلامه وبمن لم نعلمه إجمالاً ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك، وكلّم الله موسى تكليماً.
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله كم وفاءُ عِدّة الأنبياء؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا)) وبناء على هذا الحديث يكون عدد الأنبياء عليهم وعلى رسل الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم أضعاف أضعاف عدد الرسل أي أنهم مائة وثلاثة وعشرون ألفا وستمائة وخمسة وثمانون رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما.
ولا تستكثر أخي مثل هذا العدد مائة وأربعة وعشرون ألفا، إذا علمت أن الله عز في علاه يقول: وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا بل إن الله من رحمته سبحانه بعباده كان يرسل أحيانا إلى الأمة الواحدة أنبياء يتعاقبون فيهم بل قد يجتمعون واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون.
3- ومن الإيمان بالرسل عليهم صلوات الله تصديق ما صح من أخبارهم ورفض كل ما عداه من أكاذيب اليهود المختلقة عليهم وافتراءات النصارى المنسوبة إليهم في توراتهم وأناجيلهم وليس هذا بغريب على أمة هم قتلة أنبياء وسفّاكوا دماء ولكن الغريب أن يوجد من بين المسلمين من يتعامون عن مثل هذه الحقائق فتجدهم يتلمسّون ودّ هؤلاء ويسعون في إرضاء أولئك والله يقول وقوله الحق: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
وصدق الله حين قال: ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوّا عليكم الأنامل من الغيظ.
وإليك أخي يا من تعلق قلبك بأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله إليك طرفا من أكاذيبهم ونزراً من تحريفاتهم.
أما اليهود:
فقد زعموا أن نبي الله هارون عليه الصلاة والسلام صنع عجلاً وعبده مع بني إسرائيل وقالوا عن يعقوب عليه السلام أنه سرق مواشٍ من حميّه، وخرج بأهله خلسة دون أن يعلمه.
وأن سليمان عليه السلام ارتدّ في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها معبداً، وزعموا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قدّم زوجته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها، أما لوط عليه الصلاة والسلام فبهتوه بقولهم أنه شرب الخمر ثم قام على ابنتيه فزنى بهما الواحدة بعد الأخرى.
أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً.
أما النصارى:
فيكفي في شأنهم قولهم إن يسوع أي المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام قد شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل هم سرّاقٌ ولصوصٌ. وقد زعموا أنه أهان أمه مريم عليها السلام في وسط جمع من الناس، مع أن الله يقول عنه وبرا بوالدتي ومن أراد مزيد أمثلة على ذلك فليراجع كتاباً اسمه [محمد نبي الإسلام] عليه صلوات الله وسلامه.
أيها المؤمنون:
إذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن حكم من سب أصحابه رضي الله عنهم بقوله: ((من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) أفلا يكون من باب أولى تنزيل هذا اللعن والحكم على من سب الأنبياء بل ووصمهم واتهمهم بما لا يليق بهم من الفواحش والموبقات؟
أخي يا رعاك الله:
وبضدّها تتميز الأشياء فكما أن اليهود والنصارى ومن شايعهم فرّطوا في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونعوذ بالله مما صنعوا فإنا نبرأ كذلك ممن أفرطوا وغلوا فيهم فنسبوا إليهم شيئا من خصائص خالقهم ورازقهم، فاتخذوهم أنداداً وتوّسلوا بهم وطافوا حول قبورهم وقدّموا لهم القرابين كما يفعلوا بقبور الأولياء والصالحين ورجوهم ودعوهم واستغاثوا بهم من دون الله، كالصوفية ومن سار على طرائقهم وترقّى في طبقاتهم، وللعلم فاليهود والنصارى جمعوا بين السوأتين ومزجوا بين الخطيئتين وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح بن الله.
ولقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أيما تحذير فها هو يعالج سكرات الموت عليه السلام وعلى وجهه خميصة إذا اغتم كشفها، وكان يقول: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا. والرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام بشرٌ لا يملكون من خصائص الربوبية ولا الألوهية شيء. قال تعالى مخبراً عن أعظمهم جاهاً وأجلّهم منزلة قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ، فهل يعي ذلك أصحاب الموالد والحضرات النبوية وغيرها؟
ومع ذلك كله فلقد خص الله أنبياءه ورسله بخصائص وفضائل تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات الآية.
فأشرفهم أولوا العزم الخمسة الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذين أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه. وأشرف هؤلاء جميعا نبينا صلى الله عليه وعليهم جميعا وكيف لا يكون كذلك وقد أم بهم في بيت المقدس وهو شفيع الخلق يوم القيامة وأكثرهم تبعا وأول من يفتح له باب الجنة وأوتي خمسا لم يؤتهن نبي قبله فقال عليه الصلاة والسلام: ((نُصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة)).
ومن مزاياه صلى الله عليه وسلم قوله: ((أعطيت سبعين ألفا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل فزادني مع كل واحد سبعين ألفا)) وفي رواية: ((وثلاث حثيات من حثيات ربي)).
وأعطي فواتح الكلام وجوامعه وخواتمه، وهو القائل : ((بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه)) ما لاح نجم وأشرقت شمس ورزقنا شفاعته والشرب من حوضه والأنس بلقياه هو سيد آدم ولا فخر فما أظلت السماء ولا أقلّت الغبراء بأفضل منه.
ومع ذلك الفضل كله يذكر اسمه في كل أذان ويصلي عليه في كل تشهد هل عظم في نفسه أو اختال في مشيته أو استكبر على صحبه أو ترفع عن حاجات الناس؟ كلاّ، لقد سئلت عائشة رضي الله عنها عنه فقالت: كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته وكان بشراً من البشر يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه صلى الله عليه وسلم. بل كان عليه الصلاة والسلام يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة من دعاه ويجلس في أصحابه كأحدهم ويمنع من القيام له كما تقوم الأعاجم لملوكها عليه الصلاة والسلام.
يدل على الرحمن من يقتدي به وينقذ من هول الخزايا ويرشد
إمام لهم يهديهم الحق جاهدا معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا
عفو عن الزلات يقبل عذرهم وإن يحسنوا فالله بالخير أجود
ومع كل ما ذكر أذكر بقوله تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودو وقد كفروا بما جاءكم من الحق.
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين الذي لما جاءه جرير وهو يبايع قال: يا رسول الله ابسط يدك حتى أبايعك واشترط علي فأنت أعلم قال: ((أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين)) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله :
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره: إن من يوال الكفار من دون المؤمنين ويسر إليهم بالمودة فهو كافر مرتد لقوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء. إلا ما استثنى الله ممن يكره إكراها ملجئاً.
وها هو عيد الكرسيمس أقبل وتعلمون أن من بين عمال الشركات وأطباء المستشفيات وبعض الإدارات والمؤسسات من يحتفلون بذلك ولو سرا فليعلم أنه لا يصح قبول هديتهم ولا أكل طعامهم ولا مشاركتهم فرحتهم، كما ورد ذلك في فتوى سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله حيث قال: لا يجوزللمسلم أن يشارك الكفار في أعيادهم ويظهر الفرح والسرور بهذه المناسبة ويعطل الأعمال سواء كانت دينية أو دنيوية لأن هذا من مشابهة أعداء الله المحرمة ومن التعاون معهم على الباطل، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) ، والله سبحانه وتعالى يقول: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
(1/779)
زينة المرأة المسلمة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, المرأة
محمد الحكمي
الطائف
15/3/1419
جامع الجفالي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أول فتنة بني إسرائيل في النساء 2- فضل من حرص على تربية البنات والإحسان إليهنّ
أن حب الزينة والتجمّل من عادات النساء فلا يُلَمْن على هذا 4- بعض أساليب أهل الضلال
لإفساد المرأة 5- الضوابط الشرعية التي يُعرف بها ما يصح ومالا يصح من الزينة
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله ولنكن على ذكر دوما من حديث حبيبنا عليه الصلاة والسلام حين قال: ((من عال جاريتين حتى يدركا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين)) وفي رواية: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن، كن له ستراً من النار)).
وإن من أعظم الإحسان إليهن عدم الإذن لهن بالتبرج والسفور والاختلاط وتقليد من لا خلاق لهن في زيهن أو طباعهن حتى ينشأن طاهرات عفيفات قد أرخين عليهن الستور واحتجبن حياء عن أهل الفجور فكن من ذوات الخدور.
أيها المؤمنون
حديث اليوم بإذن الله إلى كل عائل قوّام على المرأة أختاً كانت أو زوجة أو ابنة أو يتيمة أو محرماً من محارمه نتأمل فيه ما يتعلّق بزينة المرأة بين المشروع والممنوع والجائز والمحرم لأنهن أمانة في أعناقنا وعنهن سنسأل يوم العرض الأكبر، وقبل الشروع في قضايا هذا الموضوع ليعلم أخي السامع أنني توخّيت قدر الإمكان عرض الراجح من الأقوال في المسائل المعروضة لا بترجيحي ولكن بترجيح العلماء الأثبات من أهل العلم وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
أخي في الله:
بادئ ذي بدء ينبغي أن يعلم أن المرأة لا تلام على حب التجمّل والزينة اومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين قال ابن كثير رحمه الله: أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة.
وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصّرا
و أما إذا كان الجمال موفراً كحسنك لم يحتج إلى أن يزوّر
بل إن ذلك مطلوب منها شرعاً وهي مأمورة به بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((خير النساء التي تسرّه إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره)) ، وفي رواية: ((المرأة الصالحة تراها فتعجبك)).
بل إن الحبيب المؤدم بين الأزواج الباعث على توثيق الرباط وزيادة الألفة والمودة بين شريكي الحياة قد نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً من أجل أن تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة إذ المرأة في الغالب حال غياب زوجها لا تعتني بزينتها وتطيبها كما لو كان موجودا فخشية أن يفاجأها الزوج بمقدمه فيرى منها ما يكره ورد هذا النهي، والحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً، فإذا ما اتصل الرجل على أهله وأعلمهم بمجيئه ارتفع النهي.
أخي شريف العرض زكي الجناب:
((قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)).
إننا في زمن نواجه فيه هجمة شرسة ورماحاً مسددّة حاكها ودبّرها يهود وأذنابهم، يقول الدكتور الخائب أوسكار ليفي: نحن اليهود لسنا إلا سادة العالم ومفسديه ومحركي الفتن فيه وجلاديه.
إنها بيوت أزياء ودكاكين تجميل ومحلات مساحيق ومناكير وكوفيرات نمص وقص ونتف وحلق وصرخات موضات من باب، إن أردت الرشاقة وخفّة الحركة فعليك بلبس كذا أما إن أحببت أن تكوني خفيفة الظل جذّابة ناعمة فصففي شعرك وقصيه على طريقة كذا، وهكذا شعارات برّاقة ومجلات فاتنة ودعايات زائفة حتى صدق فينا قول ربنا وفيكم سمّاعون لهم واستبانت في حقنا معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم: ((حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)).
تقليد أعمى وتشبه مقيت وهوان مستحكم فهل من عودة إلى شرع حنيف وزينة مباحة وتجمّل جائز؟ وقبل الحديث عن بعض أحكام الزينة للنساء يحسن ذكر ضوابط عامة وسياجات شرعية يعرف بها ما يصح وما لا يصح من هذه الزينة وذلكم التجمّل:
1- عدم جواز التزين بما هو محرم:
كوصل للشعر أو نتف للحواجب أو لبس لما يحسر عن شيء من الجسد ويبديه.
2- ألا تتزين المرأة بما يشبهها بالرجل:
سواءً باتخاذ مشية كمشيتهم أو ارتداء حللهم أو قص للشعر كقصهم أو نحو ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء)) وفي رواية: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال)) وفي رواية: ((ليس منا)) وفي أخرى ((ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء)).
إنه التمايز المطلوب والتباعد الطبيعي بين ما يليق بالمرأة وما يختص بالرجل، يتملك العجب عندما تدخل إلى بعض المحلات فتسأل عن بعض الألبسة أنسائية هي أم رجالية؟ فيكون الجواب: كما تشتهي هي صالحة لكل من الجنسين أبلغ بنا الحال هذا المبلغ؟ أما الجنس الثالث فشر بدأ منذ زمن ليس بالبعيد انتشاره ولا حول ولا قوة إلا بالله.
3- عدم جواز التزين بما فيه تغيير لخلق الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمّصات والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله)) وفي رواية: ((والواصلة والمستوصلة)).
الوشم: هو غرز الإبرة في الجلد ثم حشو ذلك المكان أو نثر الحناء عليه وفيه ليزرق الجلد أو يخضّر.
النمص: نتف شعر الحواجب أو الوجه.
أما التفلّج: فهو توسيع ما بين الأسنان لتظهر فيه المرأة المسنة أنها لا زالت في ريعان الشباب وقد تفعله غيرها يردن بذلك الحسن.
الواصلة: وهي التي تصل شعرها بشعر غيرها أو تلبس ما يسمى بالباروكة الشعر المستعار الصناعي.
وصدق الله يوم أن أخبر عن مكر وكيد الشيطان فقال: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله.
4- ألا يكون في ذلكم التزين تشبه بالكافرات.
فمن تشبه بقوم فهو منهم قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من تشبه بغيرنا ولا تشبهوا باليهود ولا النصارى)).
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على علي رضي الله عنه ثوبين معصفرين [أي مصبوغين بصبغ أصفر اللون] فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها)).
تعرّضت إحدى النساء للنظرات المتعجّبة من زميلاتها عندما جاءت إليهن وقد لبست ثوبا بكم واحد، فلما سألنها عن الكم الآخر وقد شعرن أن الثوب حتماً لم تكتمل بعد خياطته قالت لهن: إن هذه إحدى آخر الموضات في بلد أوروبي.
((حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)).
بل لقد رأيت في بعض أسواقنا من الألبسة النسائية المعروضة ما لو ارتدته المرأة لكان لها فوق الركبة والعياذ بالله، فعلام هذه التبعية والإمعية الحرفيّة ونحن أمة قائدة لا مقودة ومتبوعة لا تابعة لنا شخصيتنا المتميزة وهدينا الأسنى والأسمى، صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون.
فيا عجباً أن تتشبه المؤمنة بالكافرات فتدمم أظفارها أو تلبس الصليب أو ما يسمونه بمفتاح الحياة فالتشبه في الظاهر بهن مظهرا وسلوكاً جالب ومورث ومشعر في الباطن بلون تقارب ومودّة وتناسب وتشاكل كل يقود إلى الموالاة المنهي عنها الفاصمة لأوثق عرى الإيمان الآتية على بنيانه من القواعد.
5- ألاّ تتزين المرأة المسلمة بما يكشف شيئا من العورات ونهتك بذلك ستر حيائها وجلباب حشمتها فتصبح نهشاً لذئاب ضارية وفريسة لأعين آثمة ومعاكسات جارحة.
إن عز المسلمة وسؤددها في حيائها واستحيائها فإذا تجمّلت أو تزينت بما يخدش هذا المعنى أو يخل به فقد أزرت بنفسها وأنقصت من قدرها وتعرضت بعد ذلك لما يشينها عندها تندم حيث لا ينفع الندم.
6- ومن بدع الزينة لبس ملابس معينة في أحوال محددة كالتزام لبس السواد فترة الحداد أو في يوم عاشوراء كما تفعله الشيعة الرافضة أو نحو ذلك مما لم تشهد به آية أو تنطق به سنة ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
7- ألا يكون تزين المرأة بما فيه إسراف ومخيلة وشهرة فليس صحيحاً أن تستنزف أموالنا جرياً وراء كل جديد أو لهاثاً خلف كل صيحة أو تقليعة مع أن المرأة في المقابل مطلوب منها على وجه الخصوص الإسراع إلى النفقة في وجوه الخير.
ومن الإسراف تبديد الأوقات وتضييع الساعات الطوال والوقوف طويلاً أما المرآة من أجل تحسين الهيئة وتعديل الشكل مما يفوّت على المرأة المسلمة حظها من العلم النافع والعمل الصالح والتربية المثلى لأبنائها بل قد يفوّت عليها ذلك الاهتمام الزائد والسرف المخلّ أداء حقوقٍ كثيرة للزوج إذ تزيّنها في الغالب لغيره.
أما إن كان في لباس المرأة وزينتها ما ينفخ في منخريها إزدراء الآخرين وتكبرها عليهن ورؤيتها لنفسها فذاك والله عين صغارها واحتقارها إذْ ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)).
أما إن كان لبس المرأة وزينتها سبب شهرة بين النساء مما يميزها عنهن ولم يعتدن لُبس مثله فهذا محرم لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من لبس ثوب شهرة ألبسه الله إياه يوم القيامة ثم ألهب في النار)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على نعه السابغة وامتنانه القائل سبحانه: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون وقال عز في علاه ناهيا محذراً ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
والصلاة والسلام على رسولنا ومصطفانا القائل: ((صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون:
ومن ضوابط الزينة وشروطها المعتبرة شرعا اللازمة حكما وعملاً:
1- ألا يكون في زينة المرأة ما يمنع من إتمام طهارتها من الحدث الأصغر كالذي يكون مانعاً من وصول الماء إلى بشرتها كبعض المناكير والمكاييج وما قد تخشى معه المرأة لو غسلت وجهها، لأذهب وأفسد عليها كثيراً مما تجملت به وصبغت به محياها أو وضعته عل عينيها.
أو كأن تلبس ثياباً كثياب العروسة ليلة زواجها وهو ما يسمى بالشرعة مما يتعذر معه أداءها لوضوئها أو صلاتها بالصورة المطلوبة شرعاً خصوصاً إذا كانت قد خرجت من عند الكوفيرة مع المغرب أو قبله أو نحو ذلك مما قد يؤدي إلى ترك الفريضة بالكلية أو جمعها مع غيرها بدون موجب شرعي للجمع.
2- ألا يكون في تزينها وتجملها ما يضر بها صحيا أو جسديا على المدى القريب أو البعيد فهذه الأخلاط من المساحيق والبودرات وأدوات التجميل ذات الألوان المتعددة والمواد المختلفة قد ثبت طبياً ومن خلال الواقع المشاهد ما لها من أضرار على البشرة كذا الحال لمن تلبس الكعب العالي إلى غير ما هنالك مما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى في موضعه.
3- ألا يكون إبداؤها لزينتها الا لمحارمها كل بحسبه فما يظهر للزوج ليس كالذي يظهر للأب وليس كالذي يظهر للأخ من الرضاع وما قد يظهر من زينتها أمام المرأة المسلمة ليس كالذي يظهر أمام الكافرة أو الكتابية وهكذا ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها.
أما الطبيب والسائق والبائع والخادم والخياط وغيرهم فلا يصح أبداً إبداء الزينة لهم ولا كشف الوجه لديهم أو إبراز شيء من الجسد عندهم.
ولا يخدعنا الواقع المرّ أو ننجرف وراء من قلّ حياؤهنّ فكشفن المستور وحسرن عن المخبؤ.
(1/780)
عالم الملائكة الأبرار (2)
الإيمان
الملائكة
محمد الحكمي
الطائف
13/6/1414
جامع الجفالي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر الشيخ بعض أعمال الملائكة ووظائفهم 2- وأشار إلى فضل دعاء المسلم لأخيه
بظهر الغيب
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون
ذكرنا في الخطبة الماضية أن الإيمان بالملائكة عليهم صلوات الله وسلامه يتضمن الإيمان بوجودهم وبأسمائهم جملة وتفصيلاً وبأوصافهم الخَلقية والخُلقية، ورابعاً الإيمان بأعمالهم الموكلة إليهم، وهو حديث اليوم أسأل الله لي ولكم السداد والتوفيق.
أولاً/ عبادة الملائكة عليهم السلام
لقد فطر الله الملائكة على الخشية والخوف منه وديمومة الركوع والسجود له والتسبيح والإجلال لعظمته.. فإلى تلك الرحاب الطاهرة... والصور المشرقة الشاحذة للهمم... والمستنهضة للعزائم ذلاً وانكساراً بين يدي خالقنا وبارئنا...
فأما تقديسهم وتنزيههم لبارئهم فهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون قال : ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف)). فهل صفوف صلاتنا كصفوف الملائكة؟ والرسول يقول: ((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدّوا الخلل، ولينوا في يد إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله)) وفي رواية تبين حال الصحابة رضي الله عنهم جاء فيها: فكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه. وبشراكم فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف)) وفي رواية أخرى ((من سدَّ فرجة رفعه الله بها درجة، وبنى له بيتاً في الجنة)).
وللملائكة حجهم فهم يطوفون بالبيت المعمور كما يطوف المؤمنون بالكعبة، وهم من خشيته مشفقون.
قال : ((مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحِلس البالي (أي الكساء يُبسط في أرض البيت) من خشية الله تعالى)).
فسبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.
وللملائكة – عليهم السلام – ألوان أخر من العبادات، لا نعلمها، الله يعلمها وهو العليم الحكيم.
ثانياً/ الملائكة وعموم بني آدم
فقد أمرهم الله بالسجود له فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه
وهم بالنطفة موكولون، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله تعالى إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها، ثم قال: أي رب ذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك)) أي يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
وهم الذين قاموا عند وفاة آدم عليه الصلاة والسلام بما يلزمه فقال : ((لما توفي آدم غسلته الملائكة بالماء وتراً، وألحدوا له، وقالوا: هذه سنة آدم في ولده)). وليس هذا بغريب، فهاهو حنظلة بن عامر يخرج مسرعاً ليلة عرسه من عند زوجته ولمّا يغتسل لما سمع منادي النبي للجهاد، فإذا به ينال الشهادة، فيراه النبي تغسله الملائكة بين السماء والأرض.
ومن أعمال الملائكة حراستهم لبني آدم حتى إذا ما جاء قدر الله المقدر تخلوا عنه له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله
أخي المبارك...
ومن نعمة الله علينا أن من وظائف الملائكة تحريك بواعث الخير في نفوسنا، قال : ((إذا أوى الإنسان إلى فراشه ابتدره ملك وشيطان، فيقول الملك: اختم بخير. ويقول الشيطان: اختم بشر. فإذا ذكر الله حتى يغلبه – أي النوم – طرد الملك الشيطان وبات يكلؤه، فإذا استيقظ ابتدره ملك وشيطان، فيقول الملك: افتح بخير. ويقول الشيطان: افتح بشر. فإن قال: الحمد لله الذي أحيا نفسي بعدما أماتها، ولم يمتها في منامها، الحمد لله الذي يمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، الحمد لله الذي يمسك السماء والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. طرد الملك الشيطان وظل يكلؤه)). فإن شق عليك أخي المسلم حديث الاستيقاظ هذا أن تحفظه فعليك بالآخر، والذي كان يقول فيه : ((الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور)) أو غيره من الأحاديث التي صحت عنه في ذلك.
فيا عجباً من أناس يغلبهم النوم أمام الأفلام والغناء، ويختم لهم بالسهر الحرام، فإذا استيقضوا كانوا ممن بال الشيطان في آذانهم لأنهم لا يشهدون مع المسلمين صلاة الفجر، أما علم أولئك أن لله ملائكة يحصون عليهم كل شيء ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد فهل يتوبون ويستغفرون، فقد قال : ((إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطيء، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة)).
فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوارحي ولساني
ولقد مننت علي رب بأنعم مالي بشكر أقلهن يدان
ومما أوكله الله إليهم ابتلاء بني آدم، كما جاء في حديث الأبرص والأقرع والأعمى، وهو معروف، لذا فإن الله منح الملائكة قدرة في التشكل على هيئة البشر، كما في قصة ضيف إبراهيم المكرمين ولوط عليهم الصلاة والسلام، وكما في قصة مريم، وحديث جبريل: بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر...
والملائكة ممن يبشر بالخير، فها هي تطمئن المؤمن عند وفاته وتبشره بالجنة إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ، وفي المقابل تبشر الكافر بالنار، وغضب الجبار، وتقول لهم: أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون أجارنا الله وإياكم من ذلك.
ثالثاً/ وللملائكة مع المؤمنين شأن آخر، فهي تحبهم في الله كما قال : ((إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله قد أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض)). وعلى النقيض منه من أبغضهم الله.
وهم فوق ذلك يسددون المؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام: ((من سأل القضاء وكل إلى نفسه، ومن أجبر عليه ينزل الله إليه ملكاً فيسدده)) وقس على ذلك سائر الأعمال التي يتوكل فيها المرء على الله.
ومما صح عنه عليه الصلاة والسلام أن الملائكة تصلي على المؤمن، بمعنى تدعوا له وتستغفر وترجوا له من الله الرحمة في أكثر من موضع، فمن ذلك:
الذين يصلون الصفوف، ويسدون فيها الفرج، ومن يصلون في الصف الأول وفي الصفوف الأوُل، ومن يمكثون في مصلاهم فلا تزال الملائكة تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث فيه أو يقوم، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين)). وكذا تصلي على من يصلون على النبي.
أما من يعود المرضى فقد قال في حقهم رسول الله : ((ما من امريء مسلم يعود مسلماً إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وأي ساعات الليل كان حتى يصبح)).
وهنيئاً لمن حمل للدعوة هماً وبلّغ آية أو سنة، فها هو الحبيب يكرمه بقوله: ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلمي الناس الخير)).
أرأيت أخي المسلم كم لك من الخير إن أنت قمت بواجبك تجاه أسرتك وأقاربك وزملائك فعلمتهم الخير، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، ورب كلمة يقولها العبد لا يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة.
هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً
أخي المطمئن فؤاده بذكر الله
سائل نفسك هل أنت ممن يدعو لإخوانه بظهر الغيب؟ فإن كنت كذلك فيا فرحتك بقوله عليه الصلاة والسلام: ((دعوة المرء مستجابة لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك يؤمن على دعائه كلما دعا له بخير قال: آمين ولك بمثله)).
حدثني أحد الإخوة الأفاضل أن أحدهم سأل شيخاً عن قسوة بدأ يجدها في قلبه، ووحشة تخالط نفسه، فمما ذاك؟ فقال له الشيخ وكله نظر ثاقب: يا بني لربما كنت تدعو لبعض إخوانك فانقطعت عن ذلك، لذا قسى قلبك.
لذا قيل أن الإمام الشافعي كان يدعو لأربعين من أصحابه، وكان أحمد رحمه الله يفرد ستة عند السحر بالدعاء، أما أبوحمدون – وهو أحد القراء المشهورين – كانت له صحيفة مكتوب فيها اسم ثلاثمائة من أصحابه وإخوانه، وكان يدعو لهم كل ليلة، فتركهم ليلة فنام، فقيل له في نومه: يا أبا حمدون لم تسرج مصابيحك الليلة، قال: فقعد فأسرج وأخذ الصحيفة فدعا لهم واحداً بعد الآخر.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
2
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله سخر لعباده المؤمنين ما لا يسعهم شكره عليه، حتى ملائكته جعلهم يدعون ويستغفرون لهم، بل ويسددونهم وينصرونهم، والصلاة على الرسول المصطفى القائل: ((إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤا يستمعون الذكر)). صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
عباد الله
وتشهد الملائكة صلاة الفجر، فهل أنت أخي العزيز ممن يؤلمك فوات ذلك الجمع الكريم؟ وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً
وإن الملائكة تفرح لما يفرح له المؤمن، فها هي تبشر زكريا بيحيى عليهما الصلاة والسلام، وها هو المصطفى يقول: ((أتاني جبريل فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)).
قال تعالى: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ، ومن البشارات قوله عليه الصلاة والسلام: ((أتاني جبريل فبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)).
أيها المؤمنون
وبأمر من الله تقوم الملائكة بعون المؤمن حتى ينفرج كربه، وتزول شدته، فها هي أمنا هاجر – رحمها الله – وابنها إسماعيل عليه الصلاة والسلام لما كانا بواد غير ذي زرع أخبر المصطفى بقوله: ((إن جبريل لما ركض زمزم بعقبه – وفي رواية بجناحه – جعلت أم إسماعيل تجمع البطحاء، رحم الله أم إسماعيل لو تركتها لكانت زمزم عيناً معيناً)).
وللملائكة عند احتضار المؤمن شأن، فهي تفرح بقدومه، وتنزل حتى تكون أمامه مدّ بصره، معها حنوط من حنوط الجنة وكفن من أكفانها، فيصعدوا بها إلى الملكوت الأعلى، ولها من الكرامة والإجلال ما الله به عليم. يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.
ولما أصيب أكحل سعد بن معاذ فثقل، وحان رحيله من الدنيا احتمله قومه إلى منازلهم، وجاء رسول الله ، فقيل: انطلقوا به، فخرجوا ومعهم رسول الله وأسرع حتى تقطعت شسوع نعالهم، وسقطت أرديتهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله فقال: ((إني أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة)) فانتهى إلى البيت وهو يغسل.
(1/781)
عالم الملائكة الأبرار (3)
الإيمان
الملائكة
محمد الحكمي
الطائف
12/6/1414
جامع الجفالي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر الشيخ بعض وظائف الملائكة الكرام كنصر المؤمنين وحماية مكة والمدينة من الدّجال
2- ثم نبّه إلى الأسباب التي تمنع دخول الملائكة إلى البيوت 3- ثم حذّر من الوقوع في
أسباب لعن الملائكة 4- ثم نبّه إلى بعض ثمرات الإيمان بالملائكة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل ومحاسبة النفس قبل وضع الميزان ونصب الصراط وتطاير الصحف واشتداد الكرب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيها المؤمنون:
وتتنزل الملائكة بإذن ربها لتقاتل مع الصحابة رضي الله عنهم في بدر وتلك هي البشرى وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم.
ولقد قامت بتثبيت المؤمنين في بدر كما كانوا مدداً يوم الأحزاب يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها أي الملائكة عليهم السلام.
فما إن رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وكان يغتسل إلا وجبريل عليه الصلاة والسلام قادمٌ على ثناياه النقع [الغبار] فقال للنبي صلوات الله وسلامه عليه: ((أوضعتم أسلحتكم؟ فإنا لم نضع سلاحنا بعد [أي الملائكة] فقال إلى أين؟ فأشار إلى بني قريظة)).
ألا فليزهوا أعداء الله من اليهود والنصارى بقوّاتهم وليفاخروا بأسلحتهم وليرهبوا بها ضعاف الإيمان، أما المؤمنون الصادقون فإنهم بعد توكلهم على الله واستمطارهم لنصره وأخذهم العدة وبذلهم للأسباب من قوة ورباط للخيل يعلمون ويوقنون بأن الله هو القائل سبحانه إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين وفي سورة آل عمران ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين.
بينما رجل من المسلمين يومئذ [اي يوم بدر] يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم [اسم فرس الملك] فنظر الصحابي رضي الله عنه إلى المشرك أمامه فخرّ مستلقيا فنظر إليه فإذا بالملك قد خطم أنفه وشق وجهه فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت ذلك مدد من السماء الثالثة.
ولقد كان على الزبير بن العوام رضي الله عنه يومها عمامة صفراء معتجر بها فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وينهونني والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني فجعلت عمتي فاطمة تبكي فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه)).
أخي المؤمن:
وللبقاع المقدسة حرمتها وحمايتها فقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه: ((على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)).
وفي رواية: ((ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج الله كل كافر ومنافق)).
أخي يا رعاك الله، هل ساءلت نفسك يوماُ هل بيتك من البيوت التي لا تدخلها الملائكة أم لا؟ إذن فلتتأمل معي الأسباب المانعة من ذلك ملخّصة من أحاديث عدة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي: البيت الذي فيه كلب أو صورة أو تمثال لذي روح أو تسمع فيه الأغاني لأنها مزامير الشياطين، واعلم أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم فكيف ببيت قد عمّت أرجاءه رائحة الدخان أو الشيشة أو غيرهما مما حرّم الله، وهي كذلك لا تدخل بيتا به بول منتقع أكرمكم الله لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينقّّع بول في طست في البيت فإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه بول منتقع)) وهي كذلك لا تصحب رفقة معها جرس ولا بيت به جرس وبعد السؤال علم أن المراد بالجرس ما كان على هيئة نغمة الموسيقى أو مشابها لصوت نواقيس الكنائس، فلنحذر من ذلك كله ومما فيه معصية لله تعالى إذ البيت الذي لا تدخله الملائكة لا خير فيه.
قال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا تقربهم الملائكة: السكران والمتضمّخ بالزعفران والجنب إلا أن يتوضأ)).
وللملائكة مع الكفرة والفسقة شأن آخر فهي تنزل بهم العقوبة فمن ذلك إهلاكهم لقوم لوط عليه الصلاة والسلام، وهي في الوقت نفسه تلعنهم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وليس بخافٍ أن تعلم أخي الكريم أن هذا اللعن قد يقع على بعض عصاة المؤمنين فها هو الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول محذّراً: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبانا لعنتها الملائكة حتى تصبح)) ، فاحرص يرحمك الله ألا تبيت يوما على زوجتك غاضباً حتى لا تتسبب في لعن الملائكة لها وفي المقابل لا تغضب المرأة زوجها فتمتنع عن فراشه.
وممن تلعنه الملائكة الذي يُشير إلى أخيه بحديدة أو سلاح قال صلى الله عليه وسلم: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) ، وما ذاك إلا لأن فيه ترويع لأخيه المسلم، ولأن الشيطان قد يوقعه مازحاً أو عامداً أو مستهيناً في قتل نفس مؤمنة وقد وقعت حوادث كثيرة تدل على ذلك لذا نهى صلى الله عليه وسلم عن تعاطي السيف مسلولاً.
فكيف بمن يمزحون بالسيارات أو يروّعون بها أما زملاءهم وإما الآمنين من المارة والمشاة، أما يكفيهم رادعا هذا الحديث وغيره.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)).
وهنا سؤال حول قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا أشار رجل على أخيه بالسلاح فهما على جرف جهنم فإذا قتله وقعا فيه جميعاً )).
فما ذنب المقتول مع العلم أنه لم يشهر على أخيه السلاح إذ لم يكن معه سلاح وإنما كان مع الآخر؟ والسبب والله أعلم أنه لم يذكّر أخاه بصرف السلاح عنه ولم يحذّره مكيدة الشيطان بل لربما تحدّاه أو كلمة نحوها فإن قتله كانا في النار والعياذ بالله.
وكذا تلعن الملائكة من أخبر عنهم المصطفى بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)).
فيا عجباً لأقوام جعلوا سب أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ديناً لهم يتقربون به إلى الله فمن ذلك قولهم في الدعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد والعن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وابنتيهما يقصدون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وحفصة وعائشة ابنتيهما أمهات المؤمنين رضي الله عنهم جميعا.
بل ويكفرون الصحابة جميعهم إلا خمسة وهم علي والمقداد وأبو ذر وسلمان وعمار، ومن لم يكفرهم فهو عندهم كافر، أتدرون من هؤلاء عباد الله؟ إنهم الرافضة الشيعة الذين لم ندرك بعد عظيم خطرهم ولم نتفطن كما ينبغي لفساد نياتهم وغور حقدهم الدفين على أهل السنة والجماعة إن لهم دوراً مجوسيا منتظراً يحيون به سنن أجدادهم القرامطة والعبيديين الفاطميين الذين سفكوا الدماء في الطواف حتى أحمر ماء زمزم وخلعوا الحجر الأسود وسرقوا الكسوة وروّعوا العباد والبلاد قاتلهم الله. فاللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
أخي المبارك:
وممن تلعنهم الملائكة الذين يحولون دون تنفيذ شرع الله تعالى فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من قتل عمداً فقود يديه، فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) وكذلك من أحدث حدثا أوآوى محدثا، ويزيد الإثم فيما لو كان ذلك بمكة أو المدينة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريم المنان والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام القائل عليه الصلاة والسلام لذلك الرجل - الذي قال بعد رفعه من الركوع: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى. فقال : ((من المتكلم آنفاً))؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: ((لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً)).
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
ومن رحمة الله علينا أن العبد إذا صلى في الفلاة إذا كان مسافراً أو خرج بعيداً عن البنيان أن يناله من الأجر ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إذا كان الرجل بأرض فلاة [أي الصحراء] فحانت الصلاة فليتوضأ فإن لم يجد ماء فليتيمم، فإن أقام صلى معه ملكاه، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه)).
زد على ذلك أنها كما في رواية أخرى تكتب صلاته بخمسين درجة.
فأي إنعام وجود وكرم ومنّ وفضل وعطاء أوسع من هذا، فلك الحمد والثناء ربنا كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
أخي المؤمن:
إذا صليت خلف إمام فقال: ولا الضالين فلا تعجل بقولك: آمين، واحرص أن يكون تأمينك موافقاً لتأمين الإمام فتوافق تأمين الملائكة فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الإمام: آمين فإن الملائكة تقول في السماء: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)). وبلا شك ما عدا الكبائر إذ لابد فيها من التوبة.
أخي المزاور لإخوانه لله وفي الله هل علمت أن الله ينزل على مدرجتك ملكاُ يعلمك أن الله يحبك كما أحببت فلاناً فيه؟ فإذا ما أردت ملكاً يبيت في شعارك - أي ما بين جسدك وثيابك- فبت طاهرا فإنه لا يزال يستغفر لك حتى تصبح لأنك نمت على طاهرة، بل وملك يحفظك إذا ختمت يومك قبل نومك بآية الكرسي ولا يقربك فيها شيطان.
وختاماً فثمرات الإيمان بالملائكة تطول ولكن يكفي منها:
1- العلم بعظمة الله تعالى وقوته وسلطانه فإن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق الكريم سبحانه.
2- شكر نعمة الله علينا لعنايته ببني آدم حيث أوكل بهم ملائكة يحفظونهم ويكتبون أعمالهم ويسعون في مصالحهم بل ويدعون الله لهم.
3- محبتهم والتخلق بأخلاقهم من كرم وحياء وبر وإحسان وعبادة.
(1/782)
من ركائز الإيمان – عالم الملائكة الأبرار (3)
الإيمان
الملائكة
محمد الحكمي
الطائف
27/5/1414
جامع الجفالي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الإيمان بالملائكة من أركان الإيمان 2- ثم ذكر ركائز الإيمان بالملائكة وهي :
أ- الإيمان بوجودهم ب- الإيمان بأسمائهم جملة وتفصيلاً ج- الإيمان بأوصافهم الخُلُقية
والخَلقية د- الإيمان بأعمالهم الموكلة إليهم , وبيّن ذلك ووضّحه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وأن تؤمنوا بالقدر خيره وشره.
أيها المؤمنون:
عالم الملائكة الأبرار أحد أركان الإيمان الستة والذي لا يصح إيمان العبد إلا إذا استقر في فؤاده الإيمان بوجودهم لاكمن يقولون: هم قوى الخير الكامنة في الإنسان وأن الشياطين قوى الشر الكامنة في النفس البشرية منكرين بذلك وجودهم وحقيقتهم، وما أولئك بالمؤمنين لأن الله عز وجل قد نبأنا في كتابه طرفاً من أخبارهم وحكى لنا رسوله الكريم شيئا من أعمالهم ووظائفهم آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
أخي المبارك خلقه المطمئن بالإيمان قلبه:
إن للإيمان بالملائكة متضمّنات أربعة هي في مجموعها ركائز ذلك الإيمان وهي الإيمان.
1- بوجودهم. 2- وبأسمائهم جملة وتفصيلاً. 3- وبأوصافهم الخلقية والخُلقية. 4- وبأعمالهم الموكلة إليهم.
وإليك تفصيل شيء من ذلك سائلاُ المولى الإخلاص والسداد.
فأما وجودهم فلا يجادل في ذلك إلا ملحد أومكابر لتوافر النصوص على خلقهم وللمشاهد المحسوس في حياتنا، قال سبحانه ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداُ.
ولنعلم أن الملائكة عليهم صلوات الله وسلامه خلق لا يحصون كثرة فها هو المصطفى صلى الله عليه وسلم يسأل جبريل عليه السلام في حادثة الإسراء والمعراج عن البيت المعمور والذي هو في السماء والسابعة وهو بمحاذاة الكعبة لو خر لخر عليها فقال له: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم.
فلا إله إلا الله كم عددهم؟؟ وما يعلم جنود ربك إلا هو. وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك)) وعليه فإن محصلة هؤلاء فقط أربعة آلاف وتسعمائة مليون ملك. وقال صلى الله عليه وسلم: ((أطت السماء وحق لها أن تئط والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا وفيه جبهة ملك ساجد يسبح الله بحمده )).
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين.
أما عن الإيمان بأسمائهم فمنهم من قص الله علينا ومنهم من لم يقصص فمما صح وثبت من أسمائهم جبريل عليه الصلاة والسلام وهو الموكل بالوحي يتنزل به من عند الله على من يشاء من عباده المصطفين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين. وقد يقوم بغير ذلك من الأعمال تنفيذا لأمر الله، وهو أجلّ الملائكة وأشرفهم ثم ميكائيل عليه السلام وهو موكل بإنزال القطر من السماء وإخراج النبات من الأرض وله أعوان من الملائكة يصرّفون الرياح والسحاب كما يشاء الرب جل في علاه فها هو الحبيب يبين لنا ذلك بقوله الرعد ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث يشاء الله.
ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من بردٍ فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكادسنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
ومن أسمائهم إسرافيل عليه الصلاة والسلام وهو الموكل بنفخ الصور كان صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من الليل استفتح بقوله : ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).
ومنهم كذلك مالك عليه السلام خازن النار ونادوا يا مالك ليقضِ علينا ربك قال إنكم ماكثون.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: مكث ألف سنة ثم قال لهم: إنكم ماكثون، فما أشد البكاء وما أطول النحيب.
ومالك عليه السلام لم يضحك قط منذ أن خلق الله النار، فقد رآه النبي عليه الصلاة والسلام على صورة كريهة المرآة وإذا عنده نار يحثها ويسعى حولها فقال جبريل وميكائيل لنبينا عليهم جميعاً الصلاة والسلام لما سألهما عنه: إنه مالك خازن جهنم أجارنا الله وإياكم منها.
ومنهم رضوان خازن الجنة.
ومنهم منكر ونكير وهما اللذان يسألان العبد في قبره.
أما غير هؤلاء الذين سبق ذكرهم من الملائكة فلم يثبت فيهم شيء سوى آثارٌ متفرقة لا يعتمد عليها.
كتسمية ملك الموت بعزرائيل وهذا لم يثبت وهاروت وماروت وأما رقيب وعتيد فالصحيح أن هذا وصف لهما فهما حاضران شاهدان يسجلان أعمال العبد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.
أخي الكريم:
أما عن أوصاف الملائكة عليهم الصلاة والسلام الخلقية فيما يتعلق بخلقهم فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ((خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم)).
وقد أعظم الله خلقهم فهذا جبريل عليه الصلاة والسلام يروى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسولنا صلى الله عليه وسلم رآه في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق يسقط من جناحه التهاويل [أي الأشياء المختلفة الألوان] من الدر واليواقيت.
وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه رآه منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض ، ولك أن تعلم أنه عليه الصلاة والسلام أدخل طرف جناح من أجنحته الستمائة تحت قرى قوم لوط الخمس فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها حتى سمع أهل السماء نهيق حميرهم وصياح ديكتهم ، ولم تنكفيء لهم جرة ، ولم ينكسر لهم إناء ثم نكسوا على رؤوسهم وأتبعوا الحجارة من سجيل مسوّمة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد. وهنا وقفة لابد منها.
إننا عباد الله في زمان كثرت فيه المصائب وعمت فيه الفتن إلا ما رحم الله والموفق فيه من وفق لتربية أبنائه وحفظ بناته ، قبل أن يحل بنا ما حل بقوم لوط عليه الصلاة والسلام من العقوبة فكم من ألفاظ بذيئة بين الشباب تسمع وكم من حركات خبيثة تشاهد وكم من كتابات على الحيطان والكتب تقرأ مما يشعر بعظم المصيبة وفداحة الخطب إن لم يتداركنا الله برحمته ونقوم بواجبنا تجاه هؤلاء الصبية والشباب وما هي من الظلمين ببعيد.
أولادكم لا شيء أغلى منهم لا شيء يعدلهم من الأشياء
لا تتركوهم للضياع فريسة ترك الشباب أساس كل الداء
كونوا لهم نعم المعين وراقبوا أعمالهم في مصبح ومساء
الابن إن يهمل يضع في عصرنا إذ لا مكان اليوم للضعفاء
أخي الكريم:
إذا كان جبريل عليه الصلاة والسلام له ستمائة جناح الحمد فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
فكيف لو علمت أن أحد حملة العرش قال عنه صلى الله عليه وسلم: ((أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش وبين شحمة أذنيه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام يقول: (أي الملك) سبحانك حيث كنت )).
فلا إله إلا الله إن عظم الخلق يدل على عظم الخالق وهنا ينبغي أن نعلم أن الملائكة عالم غيبي نؤمن به كما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا نظن أنهم كهيئاتنا لأنهم مخلوقون من نور لا يوصفون بالذكورة ولا الأنوثة لا يأكلون ولا يشربون ولا يتزاوجون ولا يملّون ولا يتعبون يسبحون له بالليل والنهار لا يسأمون وقد جعلهم الله في أبهى صورة وكيف لا يكونون كذلك وهم مخلوقون من نور.
قال ابن عباس رضي الله عنهما عند قوله تعالى ذو مرة فاستوى أي ذو منظر حسن.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والصلاة والسلام على الرسول المصطفى والنبي المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على هديهم واقتفى.
أيها المؤمنون:
أما عن صفات الملائكة الخلقية فهم كما وصف الله بأيدي سفرة كرام بررة فهنيئاً لمن يقرأ القرآن وهو ماهر به فإنه يكون معهم.
وهم محل للحياء فعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مضطجعاً في بيتها كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وسوّى عليه ثيابه فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ، ثم دخل عثمان فجلست وسوّيت ثيابك فقال : ((ألا استحيي من رجل تستحي منه الملائكة)).
فهل نستحي كما تستحي الملائكة لذا فهي تفارقه عند دخول الخلاء وعند إتيان الرجل أهله وهذا لا يعني أنها لا تحصي عليه أعماله فإن الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
والملائكة منظمّون حتى في صفوفهم وأعمالهم ، يقول صلى الله عليه وسلم : ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف يصفون عند ربهم؟ قال: يكملون الصف الأول فالأول يتراصون في الصف)).
(1/783)
سدّ ذرائع الفاحشة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد الحكمي
الطائف
29/2/1415
جامع الجفالي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قاعدة سد الذرائع في إقفال الأبواب المؤديّة إلى الزنا 2- الترغيب في النكاح
3- أنواع من النكاح حرّمتها الشريعة سداً للذريعة 4- مشروعية التعدد 5- تحريم الاختلاط
6- تحريم الخلوة والمصافحة 7- الاستئذان عند دخول البيوت 8- النهي عن سماع الغناء
9- التفريق في المضاجع 10- إفشاء أسرار الزوجية 11- الجلوس في الطُرقات
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله
ويتواصل الحديث عن فاحشة الزنا خصوصاً، ويلحق بها ضمناً سائر الفواحش الأخرى، فليست العبرة بخصوص السبب ولكن بعموم اللفظ.
لذا كان من رحمة الله عزّ في علاه أن أغلق على عباده منافذ الشر وأرخى لهم ستر الوقاية، فمن فتحها أو خترها وقع في الإثم والمعصية.
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرّد عرياناً وإن كان كاسياً
و خير خصال المرء طاعة ربه ولاخير فيمن كان لله عاصياً
وهذا الباب عند أهل العلم يُسمى: "باب سد الذرائع"، ويمثل له العامة بقولهم: "الباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح"، والذريعة في اللغة هي: السبب الموصل إلى الشيء والطريق والوسيلة إليه. فإن كانت الغاية مصلحة شرعية يفتح لها باب الذرائع، وإن كانت مفسدة فيوصد دونها باب الذريعة ويغلق.
فالخمر مثلاً محرمة ولذلك جاء الشارع الحكيم فيما أخبر به البشير النذير بقوله: ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها)).
لماذا؟؟ لأنها طرق وأسباب مؤداها في النهاية الوقوع في شربها، وقل مثل ذلك في سد ذرائع الربا؛ حيث يقول المصطفى : ((لعن الله الربا، وآكله، وكاتبه، وشاهده، وهم يعلمون)) وفي رواية ((هم فيه سواء)).
وفي المقابل تفتح الذريعة للمباح والمستحب والواجب، فالجهاد في سبيل الله لإعلاء "لا إله إلا الله" لا لقومية ولا حزبية ولا وطنية ونحو ذلك ذروة سنام الإسلام، لذلك تُعد له العدة والقوة ورباط الخيل وتعلم الرمي والمصابرة كل هذه وسائل يفتحها الإسلام لتحقيق تلك الغاية السامية.
وقل مثل ذلك في الزواج، من الإعانة عليه، وتخفيف المهور، وتيسير أسبابه كلها ذرائع مباركة تخدم في تمامها إكمال العبد لنصف دينه وقطع دابر الفواحش والآثام، ونحو ذلك.
لكن الغاية لا تبرر الوسيلة، فلا يسرق المرء لكي يتصدق، ولا يأخذ فوائد الربا ليبني بها مسجداً، ولا يشهد شهادة زور ليرفع الظلم عن المظلوم، وهلم جرا...
أيها المؤمنون
ولأن فاحشة الزنا من أعظم الكبائر لما مر من ذكر آثارها المترتبة على الأفراد والمجتمعات من أمراض فتاكة وموت عام وتفكك لأسر واختلاط لأنساب، حرص الإسلام على البعد بالعبد عنها والنأي به عن سبلها المفضية إليها.
لذا تجد المولى سبحانه وتعالى يقول في تحريم القتل: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق وفي الربا يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة وفي الغيبة ولا يغتب بعضكم بعضاً إنها أوامر مباشرة: لا تقتلوا – لا تأكلوا – ولا يغتب بعضكم بعضاً – ولا يشهدون الزور، وقبل ذلك كله وأهمه: لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ، أما في الزنا فالأمر فيه بعدم القرب ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً
أخي المجانب لما حرم الله: علينا المسارعةَ في طاعة الله.
وإليك طرفاً من هذه الذرائع التي جاءت الشريعة إما بتحريمها لأنها داعية إلى الفاحشة موقعة لمن لم يعصمه الله في المنكر، وإما بتحليلها وتجويزها لما يترتب عليها من المصالح الشرعية، وهي على أوجه أربعة: فمنها ما يتعلق بالرجل، ومنها ما يرتبط بالمرأة، ومنها ماهو مشترك بينهما، ورابع مرده إلى المجتمع والسلطة الحاكمة فيه من علماء وحكام.
فمما هو مشترك بين الرجل والمرأة:
1) الترغيب في النكاح: كما قال : ((يا علي!! ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم (المرأة) إذا وجدت لها كفؤاً)).
وعن الحسن قال: قال لي معاذ في مرضه الذي مات فيه: زوجوني فإني أكره أن ألقى الله أعزباً" والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة قد مر ذكرها
2) حرم الشارع الحكيم بعض المناكح سداً لذريعة الزنا، فمن ذلك:
أ)قوله فيمن تزوج نفسها بنفسها أو بغير إذن وليها من الناس ((من نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا (أي تخاصموا) فالسلطان ولي من لا ولي له)).
وعن عكرمة بن خالد أن الطريق جمعت ركباً فجعلت امرأة ثيب أمرها إلى رجل من القوم غير ولي فأنكحها رجلا ً فبلغ ذلك عمر فجلد الناكح والمنكح ورد نكاحها.
ب)وحرّم زواج المتعة، وهو النكاح المنقطع بأجل... قال عليه الصلاة والسلام عن المتعة: ((ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة، ومن كان أعطي شيئاً فلا يأخذه)).
ج)ومن ذلك نكاح التحليل، وهو ما يسمى فاعله بـ "التيس المستعار"، قال : ((لعن الله المحلِّل والمحلَّل له)).
وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً قال له – عن امرأة – تزوجتها أحلّها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم. قال: لا إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها. قال ابن عمر رضي الله عنهما: وإن كنا نعدّ هذا على عهد رسول الله سفاحاً. قال: ولا يزالا زانيين وإن مكثا عشرين سنة.
3) وشرع الإسلام التعدد ولكن مع العدل فيما يملك فانكحوا ماطاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أنى ألا تعولوا أي تجوروا وتظلموا.
4) وحرم الاختلاط بين الجنسين. خرج الرسول يوماُ بعد الصلاة من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء، وهن متلفعات بمروطهن عليهن حجابهن رضي الله عنهم أجمعين رجالاً ونساءً، قال لهن المصطفى الله : ((أستأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق (أي تتوسطن فيه) عليكن بحافات الطريق)) فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
5) وحرمت الخلوة كذلك.
قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يبيتن رجل عند امرأة في بيت إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم)) وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن الشيطان ثالثهما)).
6) ويدخل في ذلك تبعاً المصافحة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)) قال العلماء: سواءً كان بحائل أو بدون حائل، وقدوتنا في ذلك المصطفى ، فهاهي عائشة رضي الله عنها تخبر عنه أنه "ما مست يده يد امرأة إلا امرأة يملكها" فهل يعي ذلك مدعو الحضارة والتقليد الأعمى.
7) لذا لزم الاستئذان عند دخول البيوت من الرجل والمرأة، قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون لذا جاءت آيات الاستئذان في سورة النور بعد التفصيل في أحكام الزنى والقذف سدّاً للذريعة.
والبيوت عورات، روى الإمام مسلم – رحمه الله – عن سهل بن سعد الساعدي : أن رجلاً اطلع من جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله مدريّ يرجّل به رأسه، فلما رآه المصطفى قال: ((لو أعلم أنك تنظر طعنت في عينك، إنما جعل الإذن من أجل البصر)). وقد أحل عليه الصلاة والسلام لأهل البيت أن يفقؤا عين من ينظر إليهم بغير إذنهم، وهذا أدب يلزمنا تعلمه وتعليمه لأبنائنا سواء أكان النظر من الخروق أو من تحت الأبواب أو من الشرفات والأسطحة.
8) لذا لم تأت الشريعة بتحريم النظر في بيوت الناس فحسب بل حرمت كل وسيلة تؤدي إلى ذلك، كاللعب بالحمام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام – حين رأى رجلاً يتبع حمامة -: ((شيطان يتبع شيطانة)).
لماذا؟؟ لأن اللعب بها مدعاة لملاحقتها فوق الأسطحة وعلو المنازل، وهذا يعني أن من يفعل ذلك ويلهو بهذه الطيور قد يطلع على بيوتات وعورات الآخرين.
فيا سبحان الله ما أكمل هذا الدين وما أعظم قدره.
قال الحسن: سمعت عثمان يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح الحمام.
9) نهى الشرع عن سماع الغناء لأنه رقية الزنا وبريده، والمتأمل لكلماته سواءً أكان المغني رجلاً أو امرأة يجدها في الغالب حول الحب والغرام والعلاقات بين الجنسين ولا حول ولا قوة إلا بالله، لذا حُرمت آلاته وأشرطته سماعاً وبيعاً وتأجيراً لمحلاته.
10) وقد حذّر المصطفى من النظر إلى العورات فقال: ((لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة)) وفي رواية ((ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب)).
قال المسور بن مخرمة: حملت حجراً ثقيلاً، فبينا أنا أمشي سقط عني ثوبي، فقال لي رسول الله: ((خذ عليك ثوبك ولا تمشوا عراة)).
11) التفريق في المضاجع
وهو هدي نبوي يشمل التفريق بين الجنسين من الذكور والإناث، وبين كل جنس على حدة,
12) ومن الأمور المشتركة بين الرجل والمرأة مما سدت به ذريعته الهاتف والمراسلة ونحو ذلك مما يفضي إلى الفاحشة في الغالب.
كل هذا وغيره كثير من الذرائع جاء الإسلام بتحريمها إن كانت مفضية إلى الحرام أو بتحليلها إن كانت في مؤداها حلالاً، وكلٌ بحسبه.
وإن في الإشارة ما يغني عن العبارة، والحر بالإشارة يفهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أكمل الملة، وأتم النعمة، وأقام الحجة، والصلاة والسلام على الرسول المصطفى تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله
ومن الأبواب التي سدّ شرعنا المطهر ذرائعها أو فتحها ما يتعلق بالرجل، وقد تشترك في بعضها معه المرأة، مثل:
13) إفشاء أسرار الفراش لأنه مدعاة إلى الفاحشة، قال : ((إن من شر الناس منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)).
وقد يتشهى بمثل هذه الأحاديث أناس في مجالسهم – والعياذ بالله – وكذا النساء، أجارنا الله، فكيف بالقصص الماجنة وأفلام الغرام، وقنوات الدش الآثمة.
14) ورد النهي عن الجلوس في الطرقات صيانة للأعراض؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) فقالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا بدّ نتحدث فيها. فقال رسول الله: ((فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)) قالوا: فما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).
فالجلوس على الطرقات قد يكون سبباً في الدعوة إلى المعصية، فربما نظر إلى الأعراض، فكم رأينا من شباب يجلسون على طرق مدارس البنات من أجل إيذائهن، وكم تعرضوا لغيرهم إما بالسب أو الضرب، فلذا لابد أن يسد هذا الباب ولا يُفتح إلا بالضوابط التي ذكرها النبي.
(1/784)
شهادة الزور
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد الحكمي
الطائف
10/6/1418
جامع الجفالي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر شهادة الزور وأنها خطر على الأفراد والجماعات 2- ثم ذكر تعريف شهادة الزور
وذكر بعض صورها 3- ثم حذّر مما يفعله بعض الناس من التعرّض لشهادة الزور
4- ثم بيّن أن من شهِد شهادة الزور فهو آثِم وكذلك من كتم الشهادة فهو آثم
5- ثم بين أن رسول الله حذّر من قول الزور كما حذّر من فعل الزور
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون
وللحديث عن آفات اللسان تتمة واتصال.
بينما الحبيب جالس بين أصحابه يوماً إذ به يقول لهم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر))؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) وكان متكئاً فجلس ثم قال: ((ألا وشهادة الزور وقول الزور)) فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
وكيف لا تكون شهادة الزور كذلك وهي من أفحش الأقوال، وأقبح الأفعال، وأخطر الظواهر على المجتمعات والأفراد، فكم بها – ظلماً – أكلت أموال، وانتزعت أملاك، وانتهبت حقوق، كم برّيء بسببها متهم، واتُهم بريء، بل كم زورت بها قضايا، وانتُقضت أحكام، ونيل من مظلومين، وأودع السجن أبرياء، وعُذب صلحاء.
عن أنس بن مالك قال: ذكر رسول الله الكبائر فقال: ((الشرك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس)) وقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور)) أو قال: ((شهادة الزور)).
والزور: مأخوذ من الإزورار، وأصله تحسين الشيء، ووصفه على خلاف حقيقته، ويأتي بمعنى الميل ومنه قوله تعالى: وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً.
وكما هو في الأقوال فينجرّ كذلك على الأفعال، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور)).
ولأن الزور عموماً يُضلل به على الناس فقد قدم معاوية المدينة فخطب في أهلها، وأخذ كُبّة من الشعر فقال: ما كنت أرى أحداً يفعله إلا اليهود وإن رسول الله بلغه فسماه "الزور".
معاشر المسلمين
ويخطيء كثير من الناس عندما يظنون أن شهادة الزور قاصرة على التي هي في المحاكم فحسب، بل إن أماكن وجودها منتشرة في الإدارات والأسواق والمناسبات وحال الشهادة لأحد أو عليه بأنه على خير أو سوء عند إرادة خطبة أو نكاح أو مجاورة أو شفاعة له في وظيفة أو دراسة أو نحو ذلك.
ولئن حذر النبي أصحابه رضي الله عنهم من الوقوع فيها، فلقد جعل لهم من نفسه قدوة وأسوة كما هو الشأن في سائر أحواله وأخلاقه صلوات ربي وسلامه عليه، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سألتْ أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله، ثم بدا له فوهبها لي، فقالت: لا أرضى حتى تشهد النبي ، فأخذ بيدي وأنا غلام فأتى بي النبي ، فقال: إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا. قال: ((ألك ولد سواه)) ؟ قال: نعم قال: فأراه قال: ((لا تُشهدني على جور)) وفي رواية: ((لا أشهد على جور)).
فكيف بأناس يرضون لذممهم أن تُشترى بشهادة يشهدها من ورائها طمع مال يتحصله أو عوض دنيوي يأكله، بل بعضهم يعرض نفسه عند أبواب المحاكم: تريد شهادة، تريد أحداً يشهد معك.
فأين خوف أولئك من الله وخشيتهم من عذابه وعقابه فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور.
ولقطع دابر هذا التساهل المقيت في الإقدام سراعاً على الشهادة جاء في الحديث الحسن المرفوع للنبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا زانٍ ولا زانية)). وذو الغمر: الحاقد المبغض. وقد رد رسول الله شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم. والقانع: هو من كان في نفقة قوم كالخادم والتابع لم تقبل شهادته لهم، وقال بعضهم: الأجير.
عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه – وهو من الصحابة – أن النبي ابتاع فرساً من أعرابي، فاستتبعه النبي ليقضيه ثمن فرسه – أي قال: له اتبعني – فأسرع رسول الله المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي ابتاعه – أي لم يكونوا يعلمون بذلك – فنادى الأعرابي رسول الله فقال: إن كنت مبتاعاً هذا الفرس وإلا بعته. فقام النبي حين سمع نداء الأعرابي. فقال: ((أو ليس قد ابتعته منك))؟ فقال الأعرابي: لا والله ما بعتكه. فقال النبي : ((بلى قد ابتعته منك)) فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً. فقال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي على خزيمة فقال: ((بم تشهد))؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله.-مع أنه ما حضر المبايعة- فجعل رسول الله شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
أخي الشاهد بالخير
وكما أن من أظهر الشهادة زوراً قد اقترف كبيرة من الكبائر، فكذلك من كتمها وهو يعلمها لغرضٍ من الأغراض ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون
والساكت عن الحق شيطان أخرس.
قال : ((ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها)). رواه مسلم
وهذا الحديث لا يتعارض مع قوله : ((إن بعدكم قوماً يخونون ولا يُؤتمنون، ويشهدون ولا ُيستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله.
قال الإمام النووي –رحمه الله-: وقد ذُكر عدة تأويلات منها:-وهو أشهرها-: الجمع بينهما: أن الذم في ذلك لمن بادر بالشهادة في حقٍ لآدمي هو عالم بها قبل أن يسألها صاحبها، أما المدح فهو لمن كانت عنده شهادة لآدمي ولا يعلم صاحبها، فيخبره بها ليستشهده بها عند القاضي إن أراد.
جاء أحدهم فقال: إن لي حقاً عند فلان ولم يعطنيه، فتوسطت عنده بفلان من الناس – وأحسبه قال إن الوسيط كان قريباً لمن كان عنده الحق، فلم تجدِ وساطته شيئاً في استرداد حق المظلوم. قال له المغلوب على أمره: اشهد معي في المحكمة. فقال الوسيط: ولكنه عيب عندنا أن يشهد أحدنا على أحد قرابته.
يا سبحان الله!!!!
فأين نحن من قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون.
إنه بناء متكامل للعدل المحض في كيان كل مسلم شهادة وحكماً قضاءً وعدلاً... وبذلك تحفظ الحقوق فلا تُهدر، وتصان الحرمات فلا تُسلب، وتُوفى الذمم فلا تُخفر..
ذكر ابن القيم – رحمه الله – في "الطرق الحكمية" أن علياً سمع يوماً وهو جالس في مجلسه ضجة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجل سرق ومعه من يشهد عليه فأمر بإحضارهم فدخلوا، فشهد شاهدان عليه أنه سرق درعاً، فجعل الرجل يبكي ويناشد علياً أن يتثبت في أمره، فخرج علي إلى مجمع الناس بالسوق فدعا بالشاهدين، فأشهدهما الله وخوفهما، فأقاما على شهادتهما، لما رآهما لا يرجعان أمر بالسكين وقال ليمسك أحدكما يده ويقطع الآخر، فتقدما ليقطعا، فهاج الناس واختلط بعضهم ببعض، وقام علي عن الموضع، فأرسل الشاهدان يد الرجل وهربا، فقال علي: من يدلني على الشاهدين الكاذبين؟ فلم يقف أحد على خبر، فخلى سبيل الرجل.
وكان عمر يتحرز كثيراً في قبول شهادة أو تزكية أحد حتى يتثبت، أُتي إليه بشاهدين. فقال لهما: لست أعرفكما ولايضركما إن لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما. فأتيا برجل فقال له عمر: تعرفهما؟ قال: نعم. فقال عمر: صحبتهما في السفر الذي تبيّن فيه جواهر الناس. قال: لا. قال: كنت جاراً لهما تعرف صباحهما ومساءهما. قال: لا. قال: يا ابن أخي لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما.
ألا فلنتق الله عباد الله، ولنحاذر شهادة الزور، ولا نقدم على شهادة في شيء إلا إذا كان كالشمس في رابعة النهار، ولا نتأكل من ورائها فهي ظلم للنفس وللمشهود له وللمشهود عليه فهي قرينة الشرك وعقوق الوالدين وقتل النفس.
وقد كان القاضي شريح إذا أتي بشاهد زور أمر به فيُطاف به في أهل المسجد وسوقه، ويقول: إنا قد دفعنا شهادته. وقد ضرب مرة تعزيراً شاهد زور عشرين سوطاً.
اللهم اجعلنا ممن يشهد بالصدق والحق، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وخذ بأيدينا إلى أن نكون ممن قلت فيهم مادحاً ومكرماً والذين هم بشهاداتهم قائمون
ونعوذ بك من أن نكتمها أو تخرس ألسنتنا عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يمحو الزلل ويصفح، ويغفر الخطل لمن تاب ويسمح، القائل وأقيموا الشهادة لله.
والصلاة والسلام على جاد من بنفسه وماله وأبان الحق وأوضح القائل: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
صلى الله عليه وعلى أله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون
وكما حذر المصطفى من شهادة الزور فقد حذر من قول الزور، وهو شامل لكل قول وفعل حاد فيه صاحبه عن الحق إلى الباطل؛ من غيبة ونميمة وكذب وقذف وغناء ولعن وفحش قول وبذاءة لسان والقول على الله بغير علم والتنابز بالألقاب والسخرية والاستهزاء والتعيير إلى غير ذلك مما هو معلوم.
وكما أن الزور يكون في الأقوال فكذا الأفعال، فمن الزور فعلاً وعملاً حضور مواطنه التي تُرتكب فيها المحرمات، وتُشاهد فيها الموبقات، ويُسهر فيها على حرام من مشروبات ومسموعات. والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأُ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم فلا يحضرون مجالس أهل السوء ولا يكثرون سوادهم، بل يفارقونهم وينصحون لهم.
يقول المصطفى - مؤكداً هذا المعنى – ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة تدار عليها الخمر)).
والذين لا يشهدون الزور ذكر بعض أهل العلم أن الزور المراد به: الشعانين. قال مجاهد: هو أعياد المشركين.
وقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله- كاشفاً الأستار عن أهل البوار- :ما في أهل الأهواء قوم أشهد بالزور من الرافضة.
فكيف إليهم نطمئن، وبعهودهم نثق، وبمعسول قولهم نخدع، وبوعودهم الكاذبة نطمع، وهم من هم في عقيدتهم المنحرفة وإيمانهم الباطل؟
أخي في الله
وتكثر شهادة الزور وقوله عند إثبات الأملاك، وتحديد الأراضي، والمزارع، وعند إقرار الوصايا والحقوق، وعند المخاصمات والمنازعات، وقد تغلب على الإنسان نفسه وهواه فيشهد بزور نتيجة لحسد أو عداوة أو مراعاة لصداقة أو قرابة أو ثقة دون تثبت أو رحمة بمن شهد له بغير علم، وهذا من أكبر الكبائر وأبشع الموبقات.
فهل لنا من إيماننا ما يردع وبكلمة الحق والعدل نصدع، ولمن بغى وظلم ممن ينهى ويردع...
اللهم إنا نسألك ذلك يا حي يا قيوم.
(1/785)
زينة المرأة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, المرأة
محمد الحكمي
الطائف
14/4/1419
جامع الجفالي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صيانة الإسلام للمرأة 2- حرص أهل الشر على إفساد المرأة 3- الأضرار الصحية
الناتجة عن لبس الملابس الضيّقة 4- الشروط الشرعية للباس المرأة
5- بعض المظاهر السيّئة المنتشرة لبعض الملبوسات
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون:
لقد أحاط الإسلام المرأة بالصيانة والستر، والعفاف والطهر، في لباسها وزينتها، وحرم عليها مع الرجال خلوتها، وصانها عن الإزراء بالقول والإشارة وقاية لحيائها وألا تمس أو تخدش كرامتها، وأمرها بالقرار في مملكتها أداء لواجبها ورعاية لزوجها وقياماً على تربية أبنائها كل ذلك لتبقى درّة مصونة، عزيزة كريمة لا تطمح فيها أعين الناظرين، ولا تمد إليها أيد العابثين، ولا يدنس عرضها وشرفها من لا خلاق له ولا دين.
وقد مرت أحاديث عن زينة المرأة حول ضوابط شرعية لزينتها ثم كان الحديث عن أدوات التجميل ومساحيق التلوين وأحكام الشعر ونحو ذلك، وحديث اليوم عن حجاب المرأة ولباسها.
ولئن عدنا متأملين مكيدة الشيطان الأولى بإغرائه أبوينا وتسويله لهما حتى أكلا من الشجرة، لنجد أنه بدأ أول ما بدأ بما ذكره الله في محكم تنزيله ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما وصدق الله فها هو النزع متوارد متصل على تعاقب الدهور ومر الأزمان بأساليب ماكرة وإغراءات فاتنة ونظرة فاحصة لواقع البشرية اليوم تغنيك عن كثير من الشواهد فما واقع الملابس الرياضية لكثير من الألعاب بخاف علينا لمصارعين وسبّاحين ولاعبي كرة فكيف لو ملت بطرفك إلى ما خدعت به المرأة ولبّس عليها به فكم هي أزياء وموضات تحسر كل يوم وفي كل صرخة عن شيء من مفاتنها عبر مجلات البردة وعارضات الأزياء ولقد قال أعداء الله " أكسبوا النساء أولاً والبقية تتلو " وها هي إحدى الكافرات تقول: " ليس هناك طريق أقصر لهدم الإسلام من إبعاد المرأة المسلمة والفتاة المسلمة عن آداب الإسلام وشرائعه.
أخي الغيور على محارمه:
لقد تفنن أباطرة الشر والإفساد في استحداث ألبسة نسائية إن لم تكن ضيقة فعارية وإن لم تكن عارية فمشققة الجوانب لها فتحات جانبية وخلفية فإن لم تكن كذلك فمتشبه فيها بالكافرات وقد يجمع ذلك كله فتنة وإغراء في كثير من الأزياء.
لقد ذكر الأطباء أن اللباس الضيق تعذيب لحرية الجسد، وضرر صحي محض للأنسجة والخلايا والأجهزة الجسمية المختلفة وخاصة الجهاز التناسلي وجهاز الدوران والحركة، وقد أدّى اللباس الضيق المحزّق عند كثير من النساء إلى العقم أو الولادة المقعدية (غير الطبيعية) غير إصابة من ترتديه وبشكل متكرر بتمزق في عنق الرحم ناهيك عن كونه يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم نتيجة تضيّق مقطع العروق.
أما الملابس العارية فيحذر الأطباء منها لأنها تكشف الجسد فلا تغطي منه إلا أجزاء يسيرة يفقدها نضارتها ويصيبها بالشيخوخة المبكرة هذا غير توقع إصابتها بسرطان الجلد وقد أثبتت بعض الدراسات في أوروبا أن النسبة الكبرى من النساء المصابات بسرطان الجلد كن يعرضن أجسادهن لأشعة الشمس من أجل الحصول على اللون البرونزي.
أما العلماء الأجلاء فقد سئل سماحة الشيخ محمد العيثمين وفقه الله عن حكم اللباس الضيق والمفتوح فقال: "هذا اللباس لباس أهل النار" وذكر حديث مائلات مميلات وقال: "فالتي تلبس هذا اللباس كاسية عارية لأن اللباس الضيق يصف حجم البدن ويبين مقاطعه وكذلك إذا كان مفتوحاً فإنه يبين ما تحته لأنه ينفتح وأفتى أنه حتى بين محارمها من الرجال يجب عليها أن تستر عورتها والضيق لا يجوز لا عند المحارم ولا عند النساء إذا كان الضيق شديداً يبين مفاتن المرأة".
فكيف لو رأى الشيخ ما يلبسه النساء في مناسبات الأفراح والأعياد ونحوها. وحجتهن أنهن بين نساء قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب أو الصبغ)) أو قال: ((من الصيغة ما تكلف امرأة الغني)).
وهذا واقع في زماننا تباهيا ولفتا للأنظار وحيازة على الإعجاب ورغبة في المديح.
إن حياء المرأة هو منار عزّها وموئل سؤددها فإذا ما تلاشى عُدمت الحياة معناها، وتهاوت بعده القيم وانحلت العُرى.
كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تضع ثيابها إذا دخلت البيت الذي فيه دُفن رسول الله وأبوها رضي الله عنه فلما دُفن عمر رضي الله عنه بجوارهما قالت: "والله ما دخلته إلا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر رضي الله عنه".
أخي القائم على أهله بما يصونهم:
وقد ذكر بعض أهل العلم شروطا للباس المرأة مستوحاة ومستفادة من القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فمن ذلك :
1- أن يكون ساترا لجميع البدن.
قال تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما.
عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: حين ذكر الإزار، فالمرأة يا رسول الله قال: ((ترخي شبراً))، قال إذا ينكشف عنها قال: ((فذراعاً لا تزيد عليه)) وفي رواية : ((أن أمهات المؤمنين رخّص لهن رسول الله عليه الصلاة والسلام في الذيل شبراً ثم استزدنه فزادهن شبراً فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعاً)).
وانعكست الآية وانقلبت الموازين وانتكست الأفهام فأصبح الرجال يرخون شبراً والمرأة تحسر عن القدم وتلبس القصير إلى نصف الساق أو يزيد قليلاً.
2- ومن الشروط ألا تُظهر زينة ثيابها أمام غير المحارم والنساء مع لزوم الحشمة والاستتار.
قال تعالى: ولا يبدين زينتهن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن تفلات)) هذا وهي خارجة للعبادة والمسجد فكيف الحال وهي ذاهبة إلى الإسواق والمنتزهات قال ابن المبارك رحمه الله: ((إن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن زوجها أن تخرج [أي إلى الصلاة] في أطمارها الخلقان ولا تتزين)).
ومن الكبائر ما أخبر عنه المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله: ((ثلاثة لا تسأل عنهم)) وذكر منهم: ((وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤنة الدنيا فتبرجت بعده )). وعدم التبرج مما كان يبايع عليه النبي عليه الصلاة والسلام النساء.
3- ألا يكون ضيقا يصف شيئا من جسمها أو رقيقا يبدي ما تحته. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطيّة كثيفة كانت مما أهداها دِحية الكلبي رضي الله عن فكسوتها امرأتي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مالك لم تلبس القبطية)) قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي فقال لي رسول الله : ((مرها فلتجعل تحتها غلالة إني أخاف أن تصف حجم عظامها)).
ودخلت حفصة بنت عبد الرحمن على عائشة رضي الله عنهم وعليها خمار رقيق فشقته عائشة رضي الله عنها وكستها خماراً كثيفاً.
4- ألا يشبه لباس الرجال.
وقد مر ذكر النهي عن ذلك وعن لبس ثوب الشهرة وما فيه إسراف ومخيلة وما فيه تشبّه بالكافرات.
5- ورود النهي عن لبس جلود النمور والسباع.
سواء في الانتعال أو التدفيء بها أو لبس المعاطف المصنوعة منها قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تركبوا الخزّ ولا النمار)) أي جلود النمور وهي من السباع.
وتشمل السباع الأسد والذئب والنمر والفهد أما الثعلب فلا وإن كان له ناب فليس بسبع.
قال ابن الأثر رحمه الله:
"إنما نُهي عن استعمالها لما فيها من الزينة والخيلاء ولأنه من زيّ الأعاجم".
6- ألا تلتزم المرأة لبس شيء بعينه في مناسبات معينة كما ذُكر سابقا كلبس السواد حال الحداد.
قال الشيخ العثيمين وفقه الله: لبس السواد عند المصائب شعار باطل لا أصل له.
أخي في الله:
وهنا قضايا لابد من لفت النظر إليها والتعريج عليها:
1- انتشر في الأونة الأخرة لبس بعض النساء لحجاب يسمى الكاب وهو مفصل هيئة الثوب مما تظهر معه مفاتن المرأة من تقاسيم جسدها ونحو ذلك وهذ مما لا ينبغي لها فلابد من لبسها للعباءة من فوق الرأس فإن كان لابد من لبسها الكاب فلتلبس من فوقه حجاباً ينزل إلى ما يستر اليدين.
2- ومما يسوء ويؤلم ظاهرة لبس نسائنا البنطال أو البنطلون مما أفتى فيه العلماء بحرمته لما فيه من تشبه بالرجال من وجه وبالكافرات من وجه آخر زدْ على ذلك أن غالبه ضيق وحتى لو كان واسعاً فقد أفتى الشيخ العثيمين بعدم جوازه.
3- البراقع مظهر سيء إذ ترى من وراء فتحاته عينان كحيلتان وشيء من أطراف الوجه وهكذا يتسع رويداً رويدا إلى ما لا تحمد عقباه وقد حصل، فلا يجوز كما أفتى العلماء.
4- الصغيرات من بناتنا لا نتساهل في إبداء زينتهن وخروجهن بلباس قصير وضيّق وشفّاف فإنهن ينشأن على ما عودن عليه فيكبرن على ذلك ويتطاول بها الزمن وهي كذلك.
5- ومما استهان به الناس حتى ذاع وتفشى فاصبحوا غير مكترثين به ولا مبالين بإنكاره ومقاطعته مع خطورته هو ما يلحظه الجميع من شعارات وكتابات وصور مطبوعة على كثير من الملابس النسائية والرجالية وملابس الأطفال مما بعضه قادح في أصل العقيدة ومخل بها وبعضه مفسد للأخلاق آت على هدم الحشمة والحياء من القواعد، ناهيك عن تشبه فيه بالكفار.
والأدهى من ذلك والأمر أن كثيرا ممن يلبسون مثل هذه الملبوسات أو يُلبسونها لأسرهم قد لا يعلمون ترجمة ما تحمله تلك العبارات ولا من تمثلهم تلك الصور المحمولة على صدور ذويهم وأبنائهم وبناتهم غفلة منهم أو تغافلاً.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
فمن ذلك:
ما عليه رسم الصليب وقد كان الحبيب عليه الصلاة والسلام وهو الآمر بطمسه يحكه وينبشه وكيف لا يفعل ذلك وهو شعار النصرانية الثالوث.
ومما يناقض ركن الغيب مثل (حب نسيم الجنة) أو عبارة (تذوّق طعم الجنة)، ونحو ذلك زدْ على ذلك كلمات ممجّدة للكفرة الملاحدة وصور أعلام بلدانهم يحملها البعض على صدورهم بزهو وإعجاب، مما يناقض ركن الولاء والبراء.
أما العبارات والصور المخّلة بالأخلاق الداعية إلى الرذيلة فمن مثل "انظر إلى هذه الجميلة ماذا تفعل" وعبارة أخرى معناها "إلى الغرفة الحمراء" وعبارة "كيف تحصل على غاية الشهوة ومنتهاها" وأخرى "الولد الشاذ جنسياً" وعبارة "هو يمارس الجنس" بضمير المتكلم، وبضمير المتكلم أيضا "قبلها أو المسها" وعبارة "أنا لست رجلاً ولا امرأة" وعبارة "طفل للبيع" وغيرها كثير فمن تتبع واستقرأ رأى ما يندى له الجبين حزناً وألماً.
ألا إننا جميعاً من هذا المكان الطاهر وفي هذا اليوم الفضيل نبعثها رسالة نصح وتذكير إلى كل تاجر ألاْ يدخل ويستورد مثل هذه المخازي وفي الحلال غنية وإلى كل راع عن أسرته ومن يعول ألا فليتق الله ألا يجعل من صدور أبنائه وبناته معارض دعائية متنقّلة ورسالة نبعثها قبل ذلك إلى القائمين على الجمارك ومن ولاّهم الله تحمّل هذه المسؤوليات وغيرها ألا يأذنوا بإدخالها ولا السماح باستيرادها تعاوناً على البر والتقوى وتناهيا عن الإثم والمنكر.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/786)
أدعية الأنبياء عليهم السلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
محمد الحكمي
الطائف
3/8/1414
جامع الجفالي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة الدعاء وفضله 2- أمثلة لدعوات الأنبياء عليهم السلام وأدبهم في دعائهم وتواضعهم
لربهم 3- حث الناس على الاهتمام بشهر شعبان والحرص على الصيام فيه لما ورد في فضله
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بعد تقوى الله عز وجل بالإلحاح عليه بالدعاء فإنه من لم يسأله يغضب عليه وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين.
أيها المؤمنون:
ويلهج الأنبياء عليهم السلام ألسناً بالدعاء ويكسر القلوب منهم الرجاء، وتشرئب الأعناق وترتفع الأكف ضارعة إلى خالقها ومولاها، تستمطر رحمته، وتستنزل نصرته، إنه الدعاء باب الذل والخضوع إذا أغلقت الأبواب، ومعقد الأفئدة والأبصار إذا أوصدت الدروب، أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون.
وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع الدعاء منازل عبودية مدارج السالكين فيها الإخبات والإنابة والخوف والمراقبة والإجلال والمحبة والشكر والرضى، إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين.
يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا وأنت يا حي يا قيوم لم تنم
إن كان جودك لا يرجوه ذو سفه فمن يجود على العاصين بالكرم
أخي المبارك:
ومع أن الأنبياء عليهم السلام صفوة البشر وخيرة الخلق إلا أنهم كانوا يرجون من الله غفران ذنوبهم ومحو خطيئاتهم.
فها هو آدم وحواء عليهما السلام قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
وكذا نوح أول الرسل عليهم السلام قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين.
أما موسى عليه الصلاة والسلام قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم.
وبين يدي الركوع والإنابة يستغفر داود عليه السلام ربه وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ويحذو الابن حذو أبيه ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب.
أما أكرم الخلق وأحبهم إلى الله، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، ومن دعائه: ((اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير)).
أيها المؤمنون:
وتدلهم الخطوب وتبلغ القلوب الحناجر ويحيط بالأنبياء، عليهم السلام وعيد الكفار وتهديدهم ومكرهم وكيدهم عندها تفتح أبواب السماء ليعرج من خلالها دعاء واستغاثة ممن كذبوا وأوذوا بهلاك الظالمين ونجاة المؤمنين.
فأما نوح وصالح عليهما السلام فقد دعوا ربهما بدعاء واحد على تباعد ما بينهما من الزمن قال رب انصرني بما كذبون ، فأخذت هؤلاء الصيحة وحل بأولئك الطوفان والغرق.
وللجريمة الخلقية عقوبة ونكال أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فما كان من لوط إلا أن استغاث بخالقه ولجأ إلى مولاه قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين وفي آية قال رب انصرني على القوم المفسدين ويخشى الأنبياء عليهم السلام أن يفتنوا في دينهم على عظم إيمانهم وسمو يقينهم وهذا درس لنا إذ البعض يمني نفسه لو ابتلي أو فتن في دينه أن يثبت ثبات الجبال وما علم أن النبي قال: ((لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموه فاصبروا )).
فها هو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام يدعوهو ومن آمن معه ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم وما طلب النجاة من الله إلا خروجا من البلاء وبعداً عن العقوبة قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين.
وكان يستعيذ بالله من الفتن، فلقد علّمنا أن ندعوا فيما ندعوا به في صلاة الجنازة ((اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده)).
إذ المال فتنة والأزواج والبنون فتنة كذا النساء والدجال والمناصب وغيرها كثير، فتن كقطع الليل المظلم يوصينا في مثلها بالدعاء ((اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن)).
أخي يا من إلى الله بالدعاء أنبت:
ما أجمل أدب الأنبياء في الدعاء وما أزكاه وما أكرمه إن تأملك لأدعية بعضهم يشعرك بالأخوة الإيمانية والخلوص من الأنانية، فإذا ما دعوا نال والديهم وإخوانهم من دعائهم أوفر الحظ والنصيب.
فنوح عليه السلام يقول: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً.
وإبراهيم الخليل عليه السلام يدعو رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبّل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
وهل أحدٌ أكرم أخاه بمثل ما أكرم موسى أخاه عليهما الصلاة والسلام واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي.
ثم ماذا؟ لقد عبد قومه العجل، فدعا ربه قال: رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين.
أما نبينا العزيز عليه ما يشق علينا الرؤوف الرحيم فقد دعا لأهل بيته وأصحابه بل وأمته جمعاء فمن ذلك سؤاله الله ألا يعذبهم بسنة ٍ بعامة وألايهلكهم بالغرق وقبل ذلك الشفاعة ((فقال له سبحانه: لك سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قلت: رب زدني فحثا لي بيديه مرتين)) وفي رواية: ((ومع كل واحد سبعون ألفاً)).
اللهم فاجعلنا منهم يا حي يا قيوم فإنه لا يتعاظمك شيء وقد دعا لأمته أن يبارك لها في بكورها.. الخ.
ولذا فإن البشرى تزف إليك أخي المؤمن حين تسمع قوله عليه الصلاة والسلام: ((دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابة، وملك عند رأسه يقول: آمين ولك بمثل ذلك)).
وللذرية الصالحة من الدعاء نصيب فكم من نبي سأل الله ذرية مباركة، هنا لك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء.
وهاك دعاء آخر يتعاقب في الذرية جيلاً بعد جيل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا منا سكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
وهنيئا للأنصار رضي الله عنهم فلقد دعا النبي لهم بدعاء كريم فقال: ((اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)).
ومن هنا يخاطب كل أب منا ووالدة ألا يدعوا على أبنائهم إلا بخير مهما وقع منهم من خطأ أو عصيان أو عقوق لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجاب لكم)) وفي الحديث الآخر: ((ثلاثة تستجاب دعوتهم الوالد والمسافر والمظلوم)).
عباد الله:
ويتواضع الأنبياء عليهم السلام في دعائهم ولا يمنون على الله جهادهم ودعوتهم وابتلاءهم وهم من هم في علو الإيمان وذروة اليقين.
وما دعاء إبراهيم عليه السلام إلا من ذلك رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين إلى أن قال ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
إنه إبراهيم الأمة القانت الحليم الأواه المنيب، يسأل الله أن يلحقه بالصالحين، تأمل معنى ألحقني، فاللحاق هو إدراك القوم بعد مضيهم، وهذا يذكرنا بقول الإمام العلامة الشافعي رحمه الله، إذ يقول تواضعاً :
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سوياً في البضاعة
وللكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم دعاء كدعاء جده رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين وكذا نبينا عليه السلام يقول: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)).
أخي الحبيب:
وويل للظلمة والمجرمين من دعاء الأولياء والصالحين، فها هم الأنبياء عليهم السلام يتوجهون إلى الجبار المنتقم بهلاكهم وإنزال العذاب بهم.
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفاراً.
أما موسى عليه السلام فيستفتح بقوله: وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم حتى يروا العذاب الأليم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جعل الدعاء هو العبادة وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون.
والصلاة على الرسول المصطفى القائل: ((أعجزا الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)).
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله
وإلى كل مريض نسأل الله له الشفاء، يذكّر بقضية أيوب عليه السلام ودعائه وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين.
ألا أيها المقصود في كل حاجة شكوت إليك الضر فارحم شكايتي
ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي فهب لي ذنوبي كلها واقضي حاجتي
أيها المؤمنون:
وأظل شعبان بإشراقته القائل فيه صلى الله عليه وسلم: ((ذاك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم )).
وقالت عائشة رضي الله عنها: ((ما رأيته في شهر أكثر صياما في شعبان)) وفي رواية: ((كان يصومه إلا قليلا، بل كان يصومه كله)) وكان من أحب الشهور إليه.
(1/787)
كفى بالموت واعظاً
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
خالد بن أحمد المسيطير
الرياض
جامع القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت الواعظ الصامت 2- عظم سكرات الموت , ومرارة طعم الموت 3- قصص موت
بعض الصالحين 4- قصص في حسن وسوء الخاتمة 5- نماذج من احتضار بعض الصالحين
6- مواقف يوم القيامة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اتقوا الله عباد الله واتقوا يوماً تُرجَعون فيه إلى الله. يوم يُنفَخُ في الصور ويُبعَثُ من في القبور. ويظهرُ المستور. يوم تُبلى السرائر. وتُكشف الضمائر. ويتميَّز البَرُّ من الفاجر.
ثم اعلموا أن هناك حقيقة وأي حقيقة. حقيقة طالما غَفَل عنها الإنسان ولحظةٌ حاسمةٌ ومصيرٌ ومآل. إنها لحظة لا بد أن تلاقيكم. إلى أين من هذه اللحظة المَهربُ وإلى أين منها المَفرُّ, إلى الأمام تلاقيكم إلى اليمين تلاقيكم والشمال تلاقيكم إلى أعلى إلى أسفل تلاقيكم, إلى الوراء تلاقيكم لا تَمنع منه جنود, ولا يُتَحصن منه في حصون, مُدرككم أينما كنتم, إنه واعظ لا ينطق. واعظ صامت يأخذ الغني والفقير والصحيح والسقيم والشريف والوضيع. والمُقِرَّ والجاحد والزاهد والعابد والصغير والكبير والذكر والأنثى. كلّ نفس ستذوقُه شاءت أم أبَت. لعلَّكم عرفتموه؟ لا أظن أحداً يجهله. أما حقيقته فالكلّ يجهلها. إنه الموت كلّ نفس ذائقة الموت وإنما تُوَفَّوْن أجوركم يوم القيامة. فمن زُحزِح عن النار وأُدخِل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. الموت. ما الموت؟ أمرٌ كُبَّار, وكاس يُدار فيمن أقام وسار. يخرج بصاحبه إلى الجنةِ أو إلى النار.
ما زال لأهل اللذات مكدرا ولأصحاب العقول مغيِّراً ومُحيِّرا ولأرباب القلوب عن الرغبةِ فيما سوى الله زاجراً. كيف ووراءه قبر وحساب. وسؤال وجواب. ومِن بعده يومٌ تُدهش فيه الألباب فيُعدم فيه الجواب.
السَكَرات. ما أدراكم ما السكرات؟ عانى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: لا إله إلا الله إن للموت لسَكرات. اللهم هوِّن علينا سكرات الموت. سكراتٍ وأيُ سكرات, يقول العلماء: كل سكرة منها أشدّ من ألف ضربة بالسيف.
ملَك الموت. ما ملك الموت؟ الدنيا بين يديه كالمائدة بين يدي الرجل يَمُد يده إلى ما شاء منها بأمر الله فيأكله. وإن له لأعواناً ما يعلم عددهم إلا الله ليس منهم ملَكٌ إلا لو أذن اللهُ له أن يَلْتَقِمَ السماوات السبع والأرَضين في لقمةٍ واحدة لفعل فلا إله إلا الله من لحظة حاسمة لو لم تُعتَقل الألسنة وتُخدَّر الأجسام وقت الاحتضار لما مات أحدٌ إلا في شَعَف الجبال ألماً, ولصاح الميت من شدة ما يُعاني حتى تَنّدك عليه جدران الغرفة التي هو فيها. ولما استطاع أن يحضرَ ميتاً أحد. فنسأل الله العافية والسلامة وأن يُهوِّن علينا السكرات.
رُوي عن الحسن أنه قال: رُؤي أحد الصالحين بعد موته فقيل له: كيف وجدت طعم الموت؟ قال: أوّاه أوّاه وجدته والله شديداً والذي لا إله إلا هو لهُو أشد من الطبخ في القدور والقطع بالمناشير, أقبل ملك الموت نَحْوي حتى استلَّ الروح من كل عضو منّي فلو أني طُبختُ في القدور سبعين مرة لكان أهون عليَّ. كفى بالموت طامَّة وما بعد الموت أطمّ وأعظم. ويُرى آخَر في المنام فيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟ قال: كعصفور في مقلاةٍ لا يموت فيستريح, ولا ينجو فيطير. فالله المستعان على تلك اللحظات واللهم هوِّن علينا السكرات. واجعلها لنا كفَّارات وآخِر المعاناة, وهي كذلك بإذن الله للمؤمنين والمؤمنات, ولغيرهم بداية المعاناة.
عباد الله وفي تلك اللحظات الحرِجة ينقسم الناس إلى فريقين: شقيٌ وسعيد. فريق السعداء: تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياءكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعون نُزلاً من غفور رحيم.
ها هي أسماء بنت عميس رضي الله عنها تقول كما روى عنها: إنّا لعند علي رضي الله عنه بعدما ضربه ابن ملجم عليه من الله ما يستحق، إذ بعلي يشهق شهقةً فيغمى عليه، ثم يفيق وهو يقول: مرحباً مرحبا، الحمد الله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الجنة، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن لمثل هذا فليعمل العاملون، وليتنافس المتنافسون، فيا لها من موعظة ومصير، لو وافقت من القلوب حياة، من ظفر بثواب الله فكأنه لم يصب في دنياه.
واسمع معي لسعيد بن جبير رضي الله عنه، يوم يروي لنا قصة صحيحة متواترة، كما قال الذهبي في سيره، فيقول: لما مات ابن عباس رضي الله عنه بالطائف، جاء طائر لم يرَ على خلقته مثله فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دفن إذا على شفير القبر، تليٍ يتلو، لا يٌرى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ، فيا لها من خاتمة، ويالهٌُ من مصير.
والخير في الأمة يستمر، ولن تعدم الأمة خيّر.
فاسمع ثالثةً إلى هذا الحدث الذي ذكره صاحب كتاب "يا ليت قومي يعلمون" يقول حفظه الله وعافاه: كان هناك رجلٌ صالحٌ من أهل الطائف، عابد فاضل، نزل مع بعض أصحابه إلى مكة محرماً، ودخلوا الحرم بعد أن انتهت صلاة العشاء، فتقدم ليصلي بهم وهو محرم قد خرج لله جل وعلا، قرأ سورة الضحى، فلما بلغ قول الله عز وجل وللآخرة خير لك من الأولى شهق وبكى وأبكى، فلما قرأ ولسوف يعطيك ربك فترضى ترنح قليلاً ثم سقط ميتاً فعليه رحمة الله.
ليبعث يوم القيامة، بإذن الله مصليا، فمن مات على شيء بُعث عليه، كما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وآخر يقضي حياته مؤذناً يهتف بالتوحيد كل يوم وليلة خمس مرات، ويؤذن يوماً من الأيام، ثم يشرع ليقيم الصلاة، ولما انتصف في إقامه الصلاة سقط ميتاً، فعليه رحمة الله.
سنواتٌ يؤذن ثم يجيب داعي الله مؤذناً ليبعث يوم القيامة من أطول الناس أعناقاً، فرحمت الله عليه، يالها من خواتم طيبة، ملائكة بيض الوجوه يتقدمهم ملك الموت يخاطب تلك الأرواح الطيبة: اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راضٍ غير غضبان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فم السقاء، وتفتح لها أبواب السماء وتحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح وتقول: قدموني قدموني. تُسأل فتجيب وتثبت، فيفرش لها من الجنة ويفتح لها باب إلى الجنة، قد استراحت من تعب هذه الدار وإلى راحة أبدية في دار القرار.
وفريقٌ آخر في تلك الساعة يشقى حسب أن الحياة عبث ولهوٌ ولعب وإذا به يعاني أول المعاناة، نزلت عليه ملائكة سود الوجوه، يقدمهم ملك الموت، نعوذ بالله من ختام السوء، وساعة السوء، يقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتنزع نزعاً بعد أن تتفرق في الجسد ثم ترفع فلا تفتح لها أبواب السماء، تحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح: يا ويلها أين تذهبون بها، ثم تُسأل فلا تجيب فيفرش لها من النار ويفتح لها بابٌ إلى النار، فنعوذ بالله من النار ومن سوء الختام ومن غضب الجبار.
ذكر صاحب " قصص السعداء والأشقياء " أنه وقع حادثٌ في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب كانوا يستقلون سيارة واحدة، توفي اثنان منهما في الحال وبقي الثالث في آخر رمق، يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث قل: لا إله إلا الله، فأخذ يحكي عنه نفسه ويقول: أنا في سقر، أنا في سقر، أنا في سقر. حتى مات على ذلك، فلا إله إلا الله، رجل المرور يسأل ويقول: ما هي سقر؟ فوجد الجواب في كتاب الله عز وجل: ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين.
سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر، نسأل الله العافية والسلامة.
عباد الله: فريقان لا ثالث لهما: شقي وسعيد، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
إلا ترون ألا تتفكرون ألا تنظرون، تشيعون في كل يوم غادياً إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صدع من الأرض خلع الأسباب، وترك الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، وانتهى أمله وأجله، تبعه أهله وماله وعمله، فرجع الأهل والمال وبقي العمل.
فارق الأحبة والجيران، هجره الأصحاب والخلان ما كأنه برح يوماً ولا ضحك ولا أنس يوماً ما، ارتهن بعمله فصار فقيراً إلى ما قدم، غنياً عما ترك.
جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا وبنوا مساكنهم وما سكنوا
فكأنهم كانوا بها ضعنا لما استراحوا ساعة ضعنوا
ولذلك كان الرسول أرحم الناس بالأموات، يقول عوف بن مالك صلى بنا رسول الله على جنازة رجل من الأنصار، يقول فتخطيت الصفوف، حتى اقتربت منه فسمعته يبكي، ويقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، يقول عوف: والذي لا إله إلا هو: لوددتُ أني أنا الميت من حُسن دعائه له.
ومن رحمته بالأموات ، كان يذهب بالليل ليقف على مقبرة البقيع، فيدعوا لهم طويلا، ويترحم عليهم طويلا.
صلوات الله وسلامه عليه فما أرسله الله إلا رحمة للعالمين.
وأصحابه كذلك، ابن عمر كان إذا قرأ قوله تعالى: وحيل بينهم وبين ما يشتهون بكى وأبكى ودعا للأموات، وقال: اللهم لا تحل بيني وبين ما أشتهي. قالوا: ما تشتهي؟ قال: أن أقول: لا إله إلا الله. فلا إله إلا الله، ما من ميت إلا ويود أن يسجل في صحيفته لا إله إلا الله، ولكن هيهات حيل بينهم وبينها، وبقي، الجزاء والحساب.
فرحم الله امرءً قدّم من الصالحات لتلك الحُفر، ورحم الله امرءً حاسب نفسه قبل ذلك اللحد الذي لا أنيس فيه، ولا صاحب إلا العمل، وكفى بالموت واعظا.
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى فلم تُخلقي عبثاً
كفى بالموت واعظا، لمن كان له قلب، أو ألقى السمع.
يمر عمرو بن العاص رضي الله عنه بالمقبرة فيبكي ثم يرجع، فيتوضأ ثم يصلي ركعتين، فيقول: أصحابه لما فعلت ذلك؟ قال: تذكرت قول الله وحيل بينهم وبين ما يشتهون وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يحال بيني وبينها.
عمرو الذي حضرته الوفاة فبكى، فقال ابنه: يا أبتاه صف لنا الموت، قال يا بني: الموت أعظم من أن يوصف، لكأن على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما.
ثم حول وجهه إلى الحائط ليبكي بكاءً مراً مريرا، فيقول ابنه محسناً ظنه: أنت من أصحاب رسول الله ، أما فتحت مصر؟ أما جاهدت في سبيل الله؟ فيقول: يا بني لقد عشت مراحل ثلاث، لقد كنت أحرض الناس على قتل رسول الله ، فيا ويلتاه لو مت في ذلك الوقت، ثم هداني الله فكان رسول الله أحب الناس إليّ، والله ما كنت أستطيع أملأ عينيّ من وجهه حياءً منه والله لو سألتموني أن أصفه الآن ما استطعت، والله ما كنت أملأ عينيّ منه إجلالاً له، فيا ليتني مت في ذلك الوقت لأنال دعاء النبي وصلاته عليّ.
يقول ثم تخلفت بعد رسول الله ، فلعبت بنا الدنيا ظهراً لبطن، فما أدري أيؤمر بي إلى الجنة أو إلى النار؟ لكن عندي كلمة أحاج لنفسي بها عند الله هي: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، ثم قبض على لا إله إلا الله، يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
كفى بالموت واعظا، يقول ابن عوف: خرجت مع عمر إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها ارتعد واختلس يده من يدي ثم وضع نفسه على الأرض وبكى بكاءُ طويلاً. فقلت: ما بك؟ قال: يا ابن عوف ثكلتك أمك، أنسيت هذه الحفرة؟ حاله يقول: لمثل هذا فأعد.
شُد حيازيمك للموت فإن الموت لا قيك لئلا تجزع للموت إذا حل بواديك
كفى بالموت واعظا.
تحل السكرات بمحمد بن أسلم، فيقول لخادمه، وقد أصابته رعِدة، يقول: ما لي وللناس, والذي لا إله إلا هو لو استطعت أن أتطوع لله وحدي حيث لا يراني ملكايّ لفعلت، خوفاً من الرياء، ولكن لا أستطيع. كان يدخل بيته ومعه كوز ماء، ويغلق بابه فيقرأ القرآن ويبكي وينشج، فيسمعه ابن له صغير، فيقلده في البكاء، فإذا خرج من بيته غسل وجهه واكتحل لئلا يُرى أثر البكاء عليه، يقول خادمه: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام فقال: يا أبا عبد الله أبشر فقد نزل بي الموت، وقد منّ الله علي أن ليس عندي درهمٌ يحاسبني الله عليه، فقد علم ضعفي، فإني والله لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيء يحاسبي الله عليه.
فله الحمد، ثم قال لخادمه: أغلق علي الباب ولا تأذن لأحد علي حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا ليس عندي ميراث غير كسائي، وإنائي الذي أتوضأ فيه، ثم لفظ روحه في اليوم الرابع، ليلقى الله ليس معه من الدنيا شيء، فرحمه الله رحمةً واسعة.
خذ القناعة من دنياك وارضَ بها لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الحنوط والكفن
كفى بالموت واعظا.
والله لو كان الأمر سينتهي بالموت لكان هينا سهلا، لكنه مع شدته وهوله، أهون مما يليه، والقبر مع ظلمته أهون مما يليه، كل ذلك هين، إذا قورن بالوقوف بين يدي الله الكبير المتعال، تلفت المرء يمينا فلم يرى إلا ما قدم، وشمالاً فلم يرى إلا ما قدم، ونظر تلقاء وجهه فلم يرى إلا النار، فيا له من موقف، ويالها من خطوب، تذهل المرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، يبلغ العرق أن يلجم الناس إلجاما، والشمس تدنوا منهم قدر ميل، فيا لها من أحداث مجرد تصورها، يخلع ويذيب القلوب، روي عن الحسن أن رسول الله كان رأسه ذات يوم في حجر عائشة فنعس، فتذكرت الآخرة (عائشة رضي الله عنها) فسالت دموعها على خد رسول الله فاستيقظ بدموعها، ورفع رأسه وقال: ((ما يبكيك))؟ قالت: يا رسول الله ذكرت الآخرة، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال : ((والذي نفسي بيده في ثلاثة مواطن، فإن أحدا لا يذكر إلا نفسه: إذا وضعت الموازين حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الصحف، حتى ينظر أبيمينه يأخذه أم بشماله، وعند الصراط، نعم عند الصراط، أيمر أم يكردس على وجهه في جهنم)).
يؤتى بابن آدم حتى يوقف بين كفتي الميزان، فتصور نفسك يا عبد الله، وأنت واقف بين الخلائق، إذ نودي باسمك: هلّم إلى العرض على الله الكبير المتعال، قمت ولم يقم غيرك، ترتعد فرائصك، تضطرب رجلاك، وجميع جوارحك. قلبك لدى حنجرتك، خوف وذل وانهيار أعصاب.
شبابك فيما أبليته؟ عمرك فيما أفنيته؟ مالك من أين إكتسبته؟ وفيما أنفقته؟ علمك ماذا عملت به؟ هذ الأسئلة فما الإجابة.
كم من كبيرة قد نسيتها قد أثبتها عليك الملك، كم من سريرة كتمتها ظهرت وبدت أمام عينيك، أعظم به من موقف، وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية، فإما أن يقول الله: يا عبدي، أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم.
فيا لسرورك، واطمئنان قلبك، والمنادي ينادي، سعد فلان بن فلان، سعادةً لا يشقى بعدها أبدا، وإما أن يقول الله (عافاك الله وسلمك الله) إما أن يقول: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، فيذهب بك إلى جهنم مسوّد الوجهه كتابك في شمالك من وراء ظهرك، قد غلت ناصيتك إلى قدمك، أي خزيٍ وأي عار، على رؤوس الخلائق ينادى، شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا.
عبد الله الأمر خطيرٌ جد خطير، إبليس قد قطع العهد على نفسه ليغوينكم أجمعين، فقال: وعزتك وجلالك يا رب لا أزال أغويهم ما زالت أرواحهم في أجسادهم والله برحمته ومنّه يقول: وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
فالبدار البدار، والتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي.
أكثروا من ذكر هادم اللذات، زوروا المقابر فإنها تذكركم الآخرة، احضروا المحتضرين معتبرين.
اصدقوا الله يصدقكم، احفظوه يحفظكم.
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
نفعني الله وإياكم بالقرآن وبسنة سيد الأنام، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً حمدا، والشكر لله شكراً شكرا، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، والهادي إلى رضوان ربه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعه إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله واعلموا أن الآمال تطوى والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى، والليل والنهار يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، وفي ذلك والله ما يلهي عن الشهوات ويُسلي عن اللذات، ويرغب في الباقيات الصالحات.
يا شاباً عكف على القرآن، وعلى مسجده ومصلاه، والسنة مظهره ومخبره، سل الله الثبات وازدد من الحسنات، واجعل الآخرة همّك يجعل الله غناك في قلبك، ويجمع لك شملك، وتأتيك الدنيا راغمة فجُد وسارع واغتنم زمن الصبا.
في الأمس القريب ودعنا شاباً توفي إثر حادث مروري وهو في العشرين من عمره ولكن عزاؤنا فيه أنه من الشباب الصالح المستقيم على أمر الله تعالى، عزاؤنا فيه أنه كان صاحباً للقرآن، وكان القرآن صاحبه، والرسول يقول: ((اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)).
فنسأل الله عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته وأن يتجاوز عنّا وعنه بفضله ومنته.
ويا شاباً هجر القرآن، وأعطى نفسه هواها، فدساها، لتقفنّ موقفاً ينسى الخليل به الخليل، وليركبن عليك من الثرى ثقل ثقيل، ولتسألن عن النقير والقطمير والصغير والكبير، فعد، فالعود أحمد، قبل أن تقول: رب ارجعون فلا رجوع، ذهب العمر وفات، يا أسير الشهوات، ومضى وقتك في لهو وسهو وسبات.
ويا شيخاً اقترب من القبر، عرف أنه على قاب قوسين أو أدنى، فأكثر من الاستغفار، وحبس لسانه عن الزور ورعى رعيته كما ينبغي، وعرف قدر يومه وليلته بشراك بشراك، ضاعف العمل فإن الخيل إذا وصلت إلى نهاية السباق، قدمت كل ما لديها من قوة لتفوز بالجائزة.
ويا شيخا نسي الله في شيخوخته، بعد شبابه، فارتكب الجرائم، وقارف الكبائر، ووقف على عتبة الموت، أين الهوى والشهوات، ذهبت وبقيت التبعات، تتمنى بعد يبس العود، العَود، وهيهات يا من شاب رأسه فما استحيا من الله، يا من شاب رأسه فانتهك حدود الله، وأعرض عن منهج الله، تب إلى الله، قبل أن تكون ممن لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
عباد الله: لابد أن نعلم أن الموت الذي تخطانا إلى غيرنا سيتخطى غيرنا إلينا، فلنأخذ حذرنا، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها.
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونبغي نتاجها وعلَّ الردى عمَّ نرجيه أقرب
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
(1/788)
قوافل الحجيج
فقه
الحج والعمرة
خالد بن أحمد المسيطير
الرياض
جامع القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحج والعمرة من صالح الأعمال التي يقوم بها المسلم 2- الحج من مكفّرات الذنوب
3- علامة الحج المبرور المقبول 4- المعاني التي ينبه إليها الحج 5- العمل الصالح في أيام
ذي الحجة العشر
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وسن سننا فلا تتركوها، وإن الله تبارك وتعالى قد فرض على عباده الحج فريضة من أكبر وأعظم الفرائض الحج هو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار والرحلات ينتقل المسلم فيها بروحه وبدنه وقلبه إلى البلد الأمين لمناجاة رب العالمين.
ما أروعها من رحلة وما أعظمه من منظر يأخذ الألباب فهل شممت عبيراً أزكى من غبار المحرمين؟
وهل رأيت لباساً قط أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟ هل رأيت رؤوساً أعز وأكرم من رؤوس المحلقين والمقصرين؟ وهل مر بك ركبٌ أشرف من ركب الطائفين؟ وهل سمعت نظماً أروع وأعذب من تلبية الملبين، وأنين التائبين، وتأوه الخاشعين، ومناجاة المنكسرين؟
فأُجيبوا إجابة لم تقع في المسامع
ليس ما تصفونه ووليائي بضائع
تاجروني بطاعتي تربحوا في البضائع
وابذلوا لي نفوسكم إنها في ودائعي
فكان في إيجابه تذكير ليوم الحشر، بمفارقة المال والأهل، وخضوع العزيز والذليل، في الوقوف بين يديه، واجتماع المطيع والعاصي، في الرهبة منه والرغبة إليه، مرة في العمر، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، إن الله بين ذلك في كتابه وفي سنة رسوله ووضع الأجر العظيم والكبير لمن فعله مخلصاً لله وحده، ومن تركه تهاوناً وهو قادر فعليه الوعيد الشديد فبادر يا من أنت مقتدر قبل انقطاع العمر والعمل.
عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور)) متفق عليه.
وعنه قال: قال رسول الله : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه قال: إن النبي قال - في الحديث الطويل -: ((والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) متفق عليه.
أحبتي في الله وننقل السياق الآن إلى مواكب الحجيج وإقلاع أهل المعاصي عما اجترحوه، وندم المذنبين على ما أسلفوه، فقل من حج إلا وأحدث توبة من ذنب، وإقلاعاً من معصية، ولذلك قال بعض السلف: (من علامة الحجة المبرورة أن يكون صاحبها بعدها خيرا منه قبلها)
وهذا صحيح لأن الندم على الذنوب مانع من الإقدام عليها.
يالجلال الموقف، وياللروعة والعظمة، السماء هناك في مهرجان نوراني يتنزل فيه الروح والملك سبحانك ربي ما أعظمك وأعدلك حين شرعت لنا هذا المنسك العظيم الذي تتجلى فيه روح المساواة والوحدة والسلام والمساواة واضحة جلية فالجميع قد طرحوا الملابس والأزياء وظهروا في زي واحد الغني والفقير والأمير والحقير والطائع والعاصي.
والوحدة ترى معناها في الحج واضحاً جلياً كالشمس ناصعا كالبدر، وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر، لا عنصرية ولا عصبية للون أو جنس أو طبق.
إنها مرفوضة في الإسلام، الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى.
أرى الناس أصنافاً ومن كل بقعة إليك انتهوا من غربة وشتات
تساووا فلا أنساب فيها تفاوتٌ لديك ولا الأقدار مختلفات
ولابد للمسلمين أن يحققوا معنى التوحيد والوحدة.
التوحيد حق لله عز وجل، والوحدة حق الجماعة المسلمة إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً.
ومن دروس الحج أنه يذكر الإنسان باليوم الآخر.
فالإنسان منذ أن يخلع ملابسه ويلبس ملابس الإحرام البيضاء فإن ذلك يذكره باليوم الآخر والذي يجرد فيه ملابسه بعد موته ويكفن في قطعة من القماش الأبيض وقبل ذلك سفره عن الأوطان ووداعه الأهل والأبناء والأقارب راحلاً للحج، فينبغي أن يذكره بسفره الأخير إلى الدار الآخرة، على المسلم أن يتذكر بزحمة الطواف والسعي والرمي ذلك الزحام الرهيب يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، وأن يتذكر بحرارة الشمس في مكة يوماً تدنوا الشمس فيه على رؤوس الخلائق قدر ميل وأن يتذكر بالتعب والضنك والعرق المتصبب من على جسده وأجساد الناس من حوله، ذلك اليوم الرهيب والموقف المهول يوم يبلغ الناس في العرق مبلغاً عظيماً يختلفون فيه بحسب أعمالهم وإيمانهم.
وعلى المسلم أن يتذكر بوقوفه يوم عرفة وقوفه بين يدي الله عز وجل.
أيها الإخوة المسلمون: لنتذكر جميعاً أطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت، وأفضل قدم طافت وسعت، وأعذب شفة نطقت وكبّرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت، هنا تترآى لنا تلك الروعة حيث ينقل خطاه في المشاعر، ينتقل مع أصحابه ومحبيه مرددين تلك النغمة الرائعة ومترنمين بتلك العبارات الناصعة "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" يتقدم في إحرامه الطاهر وقلبه الخاشع يتقدم في قولبه الباصر وخلقه المتواضع، يتقدم إلى حيث ذكريات جده أبو الحنيفية، ومرسي دعائم هذا البيت العتيق، وجنبات الحرم تدوي بالتهليل والتكبير ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم كلمات التلبية وعبارات التوحيد تملأ المكان وتطرب الزمان، وتتصاعد في إخلاصها إلى الواحد الديان، هنا يقترب الرسول من الحجر الأسود ليقبله قبلة ترتسم على جبينه درة مضيئة على مر السنين لم يتمالك نفسه صاحب النفس الخاشعة والعين الدامعة، فينثر دموعه مدراراً وتتحدر على خده الشرف المشرق هنا كان عمر بن الخطاب يتابع الموقف بلهفة وتعجب: يا رسول الله لماذا تبكي؟ يكفكف دموعه الطاهرة ويجيب صاحبه الوفي بعبارات هادئة خاشعة باكية قائلاً: ((هنا تسكب العبرات يا عمر)).
أسأل الله تبارك وتعالى أن يصحبني وإياكم ظاهراً وباطناً، سراً وعلانية وأن يجعلنا من المتقين المهتدين، الذين سلك بهم صراطه المستقيم وهداهم إلى البر العميم والأجر العظيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى، لك الحمد عدد الكائنات وملء الأرض والسموات.
اللهم صل وسلم وبارك على النعمة المهداه والمنة المسداة على من بعثته رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين وإماماً للمتقين وخاتماً للمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الناس: خرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام – يعني أيام العشر – قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)).
فالغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة فما منها عوض ولا لها قيمة، المبادرة المبادرة بالعمل والعجل العجل قبل هجوم الأجل، قبل أن يندم المفرط على ما فعل قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحاً فلا يجاب إلى ما سأل قبل أن يحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل قبل أن يصير المرء مرتهناً في حفرته بما قدم من عمل.
أيها الناس وصلوا وسلموا على من أمركم بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من صلى علي صلاة واحد صلى الله عليه بها عشراً)) اللهم صلي على نبيك وحبيبك محمد.
عباد الله: إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه وآلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/789)
مرض الغيبة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
خالد بن أحمد المسيطير
الرياض
جامع القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغيبة تملئ المجالس 2- اعتياد بعض الناس غيبة الآخرين حتى أصبح ذلك ديدنهم
3- نصوص شرعية تحذر من الغيبة 4- دوافع الغيبة 5- الموقف من المغتاب عند سماعنا
غيبته 6- حالات تجوز فيها الغيبة
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله هادي القلوب، ومصلح النفوس ومهذب الأرواح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القويُ القديرُ العزيزُ الجبارُ الكريمُ الحنّان، يهدي من يشاء، ويكرم من يريد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وحافظ على دين الله والعبادة صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وكافة الصحابة، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون لعلكم تُفلحون، معشر المسلمين، حديثُنا في هذا اليوم عن مرضٍ خطير قد تفشّى في هذا العصر ذلك هو داء الغيبة والسخرية الذي لم يَعُد مُقتصراً على فئة الرجال دون النساء أو العكس، ولم يعد مقتصراً على طبقة العوام دون المتعلمين أو العكس، ولم يعد مقتصراً على الكبار دون الصغار أو العكس بل اشترك في اقترافه الجميع إلا من رحم الله، فلو نظرت فيما يشغلُ الناسُ به مجالسهم وقت فراغهم واستجمامهم لرأيت ما يَروعُ من لغو الحديث، غيبة وازدراء وسخرية وتقعُّراً في الكلام وتشدُّقاً به، من أجل التعالي أو استدرار المديح أو غيرهما، وهذا ليس في كل المجالس، وإنما في بعضها، ففي الناس من يعيش صفيق الوجه، شرِس الطبع، لا تحجزه مروءة ولا يردعه دينٌ أو أدب جرّدَ لسانه مِقراضاً للأعراض، بكلمات تنضُح فحشاً وألفاظ تنهش نهشا، يسرف في التجنِّي على عباد الله سخريةً ولمزاً، فهذا طويل وذاك قصير وهذا أحمق وذاك جَهول، وهذا ثقيل وذاك خفيف، وهذا كريم وذاك بخيل، وكأنّه قد وُكِّلَ إليه القدح والتجريح، وقد غَفَلَ عن قوله سبحانه : سنكتب ما قالوا وعن قوله سبحانه: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ، ويزدادُ الأمر وتعظمُ البَلَية حين ترى مَن عليه علامات الوقار، وملامح الاحتشام، وسيما الوجاهة، يُسفِر عن بذاءة وثرثرة، يَصِمُ بالخوض بالباطل أُذني جليسه، ولا يدَع لأصحاب فضلٍ فضلا، يحمل عليهم الحملات الشعواء أحياءً أو أمواتاً من جرَّاءِ زلةِ لسانٍ أو سبْقِ قلم، فلا تطمئنُّ له نفس، ولا يهدأ له بال حتى يتكلَّم في فلان، أو يسخر بفلان، فَديْدنُهُ في المجالس الحديث في الآخرين سبّاً وازدراء، وكذلك شأنه في مكتبه وفي سوقه وفي سائر اجتماعاته، فلا يرى أنّ الغيبة ممقوتة ولا يرى أنها مُحبطةٌ لما لديه من عمل صالح، كان اكتسبه من صومٍ وصلاةٍ ونحوهما، والغريب في الأمر أنه مع ما هو فيه من نهش لأعراض الأبرياء سواءً كان الكلام فيهم حقاً أم كذباَ، الغريب في ذلك أنّ مَن هذا شأنه، لو سمِع مقالة من آخر، تُفيد الذمّ له لاحمرّ وجهه وانتفخت أوداجه، وتأبط الشرّ لمن تحدث فيه ونال منه، فلا ندري حقيقة لما يغضب لنفسه من جرّاءِ سهم واحد وُجِّه إليه، وهو الذي يوجه سهاماً عديدة في كل يومٍ بل في كلِّ ساعة أحياناً؟ أيعتقدُ من هذهِ شاكلتُه أنّ عرضه يختلف عن أعراض غيره من المسلمين؟ أم يرى أن الوعيد في الغيبة يشملُ غيرَه ولا يشملهُ، فغيره مأخوذون ومحاسبون وهو لوحده قد سقطت عنه التكاليف، فلا يحاسَب على ما يُصدره لسانه من سوء، فإلى كل من أرخى العِنان للسانه ليقول ما يشاء وليتحرّك كما يشاء فيكذب عندما يريدُ الكذب ويَشِي عندما يهوى الوشاية، ويسخر عندما تحلو له المجالس , إلى كل مسلم قد ابتلي بهذا الداء، أوجهُ إليه هذه الآيات والأحاديث الزاجرة لتكون منقذةً له من موبقات اللسان يقول جلّ وعلا : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساء عسى أن يكنَّ خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظن إثم ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إنّ الله تواب رحيم
وأما الأحاديث فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون من المُفلِس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: المُفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار)) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله
يقول ابن حجر الهيتمي عن الغيبة: إنّ فيها أعظمُ العذاب وأشدُّ النّكال فقد صح فيها أنها أربى الربا وأنها لو مُزجت بماء البحر لأنتنته وغيّرت ريحه وأن أهلها يأكلون الجِيَف في النار وأن لهم رائحة منتنة فيها وأنهم يعذبون في قبورهم ,وبعض هذه كافية في كون الغيبة من الكبائر فكيف إذا اجتمعت وكلُّ هذا في الأحاديث الصحيحة ويقول ابن حجر في تعريفها: وجدتُ بخط الإمامِ تقي الدين ابن دقيق العيد أنه روى بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما كرهت أن تواجه به أخاك فهو غيبة)) ولمعاذ بن أنس الجُهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكاً يحمى لحمه يوم القيامة من نار جهنم ومن رمى مؤمناً بشيء يريد سبّه حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال)) رواه أحمد في مسنده،
ولقد ذكرت امرأةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكرت بكثرة صلاحها وصومها , ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال: ((هي في النار)).
قالت عائشة رضي الله عنها قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة: (تعني قصيرة) فقال صلوات الله وسلامه عليه: ((لقد قلت كلمة لو مُزِجت بماء البحر لمزجته)) (أي لأنتنته وغيّرت ريحه) وعن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: ((إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت)).
فهذه الآيات والأحاديث وغيرُها كثير كلها تأتي محذرة عن الغيبة وعن الوقوع في أعراض المسلمين والمسلمات ليعيش أفراد الأمة المسلمة حياة تعلوها المحبة وتكسوها المودة وليكونوا إخوة تجمعهم رابطة الأخوة في الدين يتحلّون بحفظ ألسنتهم عن إخوانهم فكلما رأوا عيباً في أحدهم دفنوه رهبة من الله ورغبة في أن يعيش كل فرد منهم حياة الأنس والرخاء والطمأنينة فالألسن مشتغلة بذكر المحاسن عن المساوئ, شغلتهم عيوبهم عن عيوب غيرهم هكذا يريد منا الإسلام، فهذا هو ديننا وهذه تعاليمه.
ولكنّ ناساً يأبون أن تسير الأمة على هذا المنوال بأعراضٍ مصونة وبكرامة محفوظة وبعيوب مستورة، يأبون ذلك فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقد يتساءل المسلم عن كُنْهِ الدوافع وماهية الدوافع للغيبة , فأُلخصها جواباً لسؤاله بهذه النِقاط الموجزة: أولها: إشفاء الغيظ فقد يغضب الإنسان من أخيه لسوء تصرف صدر منه، فلا يجد ذلك الإنسان مجالاً للانتقام أخصب من مجال الغيبة.
ومن الدوافع أيضاً: قصد الرفعة والاستعلاء على الغير ومحاولة الصعود على أكتاف الآخرين فيرمي بالكلمة على فلان من الناس ليوهم من حوله بأنه على خلافها فتارة يتهم زيداً بالبخل والشح ليعتقد من حوله أنه كريم وتارةً يتهم عمرواً بالجهل ليُفهِم من حوله أنه عالم أو طالب علم.
ومن المؤسف حقاً أن هذا الدافع له وجود عند بعض طلاب العلم هداهم الله فتسمع في المجالس أحياناً ممن يُنتظر منه الخير ويُؤمن منه الشر من ينتقد الخطيب الفلاني أو المُحاضر الفلاني ويسِمُ ذاك بكذا والآخر بكذا فالخطيب الفلاني يَلْحَن والآخر أسلوبه ركيك والثالث لا يُشبِع الموضوع والرابع فيه كذا وكأنه الرقيب عليهم بل ويعتقد أن ما يقوله داخلٌ ضِمن إطار النقد الهادف والبنَّاء وأنّى له ذلك فالمقصود بالنقد الهادف والبنّاء أن يكون في وجه المنتقَد نفسه من أجل أن يستفيد ويستقيم وأما في حالة غياب المنتقَد فإن هذا من باب الغيبة، والدافع له في أغلب الأحيان إيهام من حوله بأنّه هو الخطيب أو الداعية المثالي مع أن من هذا دأبه في الغالب لا يستطيع أن يقف مجرد وقفة أمام الجموع فضلاً عن حسن اختيار الموضوع وجميل طرحه.
ومن الدوافع أيضاً الحسد على الغيْر فمن الناس من تثور ثائرته وتشمئزّ نفسه ويزداد صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء عند سماعه الثناء على أحد من الناس فلا يجد مُتنفّساً لذلك الضيق إلا بالقدح فيه مُحاولاً أن يثنيهم عن المدح والثناء حبّاً لزوال تلك النعمة من ذلك الممدوح فإذا لم يجد قدحاً أورد كلمات للتشكيك في أمره فتارة يقول: لا تبالغوا في المدح , وتارة يقول: الإخلاص صعب جداً وتارة يقول: قُلتُم فيه ما لا يستحق إلى غير ذلك من الكلمات والعجيب في الأمر أنهم لو قدحوا فيه لما نَهَرهُم مع أنهم يأثمون في القدح ويُؤجرون في المدح إذا كان ذلك في غياب الممدوح.
ومن الدوافع أيضاً إرادة السخرية والاستهزاء به من باب إضحاك الآخرين فأحياناً يُقلِّد فلاناً في مشيته وأحياناً يقلد كلامه وأحياناً يأتي بكل حركة من الحركات المضحكة فيه طمعاً في إضحاك من حوله , دون مبالاة بذلك العرض النفيس المهدر.
أيها الإخوة المؤمنون يقول ابن عباس رضي الله عنه: "إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك" ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: "يُبصِر أحدكم القذاة في عين أخيه ولا يبصر الجذع في نفسه".
اللّهم طهر ألسنتنا من الغيبة واجعلنا ممن يتبعون الصالح من القول والعمل , بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يهدي إلى الطيب من القول ويهدي إلى صراط الحميد , نحمده سبحانه ونشكره ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهدُ أن سيدنا محمداً عبدهُ ورسوله أدّبهُ ربهُ فأحسن تأديبه , صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهُم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فاتقوا الله أيها المسلمون واحفظوا جوارحكم وصونوا أنفسكم عن سفيه الأقوال والأفعال،
أيها المسلمون ما هو موقفُنا تجاه الغيبة وأهلها , وإلى متى سنظلّ تحت جحيمها، إننا إذا لم نتخذ موقفاً قوياً صارماً في وجوه المُغتابين , وقبل ذلك موقفاً قوياً مع ألسنتنا نحن , إذا لم نقُم بذلك فإن الخطر لا أقول علينا فقط بل وعلى أجيالنا من بعدنا , وإنني أرى أنّ أقْوى موقفٍ يُتخَذ تجاه الغيبة في المجالس , الذّبُّ مباشرة عن أعراض الغائبين , والوقوف بقوةٍ في وجوه المُغتابين , فإن لم تكن هذه فلا أقلّ من الثانية , وهي مفارقة المجلس , امتثالاً لأمر رب العالمين حيث قال ربنا سبحانه: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإمّا يُنسينَّك الشيطان فلا قعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
أخي المسلم لِيَكن لك في الذب عن أخيك معياران , المِعيار الأول :أن تُقدِّر أن الذي فيه لو قيل فيك ماذا كنت تُحبُ أن يقوله أخوك فيك؟ ألست تحب منه أن يُدافع عنك؟ فكذلك هو يعيش بهذا الشعور.
المعيار الثاني :أن تتصور أنه حاضرٌ يسمع الكلام من وراء جِدار , أفلا تحب أن يسمعك وأنت تدافع عنه؟ أو تُثني عليه، قال بعض السلف: ما ذُكِر أخٌ لي بغيب إلا تصورته جالساً بيننا فقلت فيه ما يحب أن يسمعه لو حضر.
وأخيراً، أيها الإخوة في الله اعلموا أن الغيبة محرمةٌ في كتاب الله سواء كان الكلام في الآخَر حقاً أم باطلاً إلا أن يكون مدحاً وثناءً , وأما ذم المسلم أثناء غيابه فلا يجوز بحالٍ من الأحوال إلا في هذه الحالات الآتية:
أولاً: المظلوم يشكوا لمن يَظنُّ أن له قدرة على إزالة ظلمه.
ثانياً: الاستعانة على تغيير منكر مُجَاهَرٍ فيه ,وذلك بقصد التوصل إلى إزالة ذلك المنكر , كأن تأتي إلى طالب علم تستعين به بعد الله ليذهب معك أو ليذهب وحده لِمناصحة مُرابٍ أو مجاهر بفسق.
ثالثاً: الاستفتاء، كقولك للمُفتي: ظلمني فلانٌ بكذا مع أن الأولى إبهامُ الظالم وعدم التصريح بالاسم , إلا إذا كان في ذلك مصلحة.
رابعاً: تحذيرُ المسلم من الشر، كفاسقٍ أو مبتدعٍ يريدُ أن يخالط المسلمين في أمور دُنياهم أو أن يتزوج منهم بل إنّه أحياناً يتحتَّمُ عليك أن تُخبر بذلك , إنقاذاً للأبرياء من المسلمين.
خامساً: إذا كان المسلم معروفاً بِلَقَب وقد رضِي به فلا بأس في ذلك كالأعرج والأعمش, بشرط أن يكون ذلك من باب التعريف , وليس من باب الذم والتنقيص.
عباد الله صلّوا وسلِّموا على خير عباد الله فقد أمركم الله بذلك فقال: إن الله وملائكته يُصلُّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلِّموا تسليماً اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد: وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم طهّر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة وأعيننا من الخيانة إنّك تعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، اللهم أصلح فساد قلوبنا, اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقرِّبنا إلى حُبِّك، اللهم صل وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين اللهم عليك بأعدائهم اللهم فرِّق جمعهم وشتّت شملهم وأضعف شوكتهم واقذف الرعب في قلوبهم اللهم اجعل شأنهم في سِفال وأمرهم في وبال، اللهم لا ترفع لهم راية واجعلهم لمن خلفهم آية اللهم فرّج هم المهمومين ونفِّس كرب المكروبين, عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلَّكم تذكَّرون فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يَزِدكُم ولَذكرُ الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/790)
وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
خالد بن أحمد المسيطير
الرياض
18/10/1416
جامع القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الإعراض عن صلاة الفجر 2- صلاة الفجر مشهودة من الملائكة 3- الحث على
المحافظة على صلاة الفجر 4- حرص السلف على الصلاة 5- تضييع بعضنا لصلاة الفجر
6- الأسباب المعينة على صلاة الفجر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون والمسلمات حياة المسلم تعتريها حالات نقص وقصور وقد يكون ذلك في فضائل الأعمال وسنن الإسلام، وقد يتعدى إلى واجبات الدين ودعائم الإيمان، وزمننا المعاصر ووقتنا الحالي مليئان بمثبطات الإيمان ومعوقات الطاعات، شبه وشهوات، شبه تجعل الحليم حيرانا وتقوّض قواعد الإيمان، وشهوات من لم يقع فيها ناله من ذكائها وقشبها ما يؤثر على إيمانه وأخلاقه وسلوكه.
عباد الله: مظاهر التقصير في الطاعات في أمتنا كثيرة وصورها متعددة، واليوم نقف على إحدى هذه المظاهر وتلك الصور وقد انتشرت واشتهرت اشتهاراً لا يمكن معه الإنكار وعمّت حتى لحقت بعض الأخيار مع أنها سمة للمنافقين، نعوذ بالله من حالهم وحال أهل النار.
هذه الصورة مستقبحة شرعا وممقوتة فطرة وحساً وعرفا، من قامت به قامت به الأدواء ومن وقع فيها وقع أسيراً للأهواء إنها الإعراض عن صلاة الفجر، الإعراض عنها إعراض عن الخير، إعراض عن الجنة، إعراض عن ذمة الله وجواره، يقول الله تعالى وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا قال ابن مسعود رضي الله عنه: وقرآن الفجر : صلاة الصبح، ومعنى مشهودا تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار.
وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر)) ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: إقرؤا إن شئتم وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا.
قال ابن العربي في أحكام القرآن ثبت عن النبي من رواية الأئمة أنه قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم ويسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون)).
ثم قال ابن العربي: وبهذا فضّلت صلاة الصبح على سائر الصلوات ويشاركها في ذلك العصر فتكونان جميعاً أفضل الصلوات ويتميز عليها الصبح بزيادة فضل.
وقال قتادة: كنا نتحدث أن عندها يجتمع الحرسان من الملائكة حرس الليل وحرس النهار، وعن أبي محمد الحضرمي قال حدثنا كعب في هذا المسجد قال: والذي نفس كعب بيده إن هذه الآية وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا قال: إنها لصلاة الفجر إنها لمشهودة.
فكيف تطيب لك نفس أيها الأخ وقد حرمت شهود الملائكة وكيف تطلب السعادة في يومك وقد استفتحته بالنوم عن قرآن الفجر.
قال علي بن أبي طالب وأبيّ بن كعب رضي الله عنهما: ما نعلم صلاة يفضل عن مثلها، هي أفضل الصلوات.
قال : ((أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة في جماعة)).
وقال لفضاله: ((حافظ على العصرين صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها)) وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من صلى البردين دخل الجنة)) رواه البخاري ومسلم والبردان هما الصبح والعصر.
وقال في الحديث الذي أخرجه مسلم: ((لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)) يعني الفجر والعصر.
وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يبه على وجهه في نار جهنم)) ، وعن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله يقول: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله)).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة)) ، قال: قال رسول الله : ((تامة تامة تامة)).
أمة الإسلام: إن قلوب المؤمنين تحيا بذكر الله وتستفيد من قول رسول الله فيا عجباً كيف نغفل عن هذا الفضل؟ كيف نزهد بجنة عرضها السموات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟ وكيف نرضى لأنفسنا أن تقوم بها صفات أهل النفاق والشقاق والعياذ بالله فقد قال : ((إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)). رواه البخاري ومسلم.
سبحان الله أرحم خلق الله بخلق الله محمد بن عبد الله الذي قال الله عنه وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال عنه بالمؤمنين رؤوف رحيم هذا الرجل يهم بإحراق البيوت على المتخلفين عن الصلاة لولا ما فيها من النساء والصبية لماذا؟ لخطورة التخلف عن الصلاة يا عباد الله.
عن أبيّ بن كعب قال: صلى بنا رسول الله يوما الصبح فقال: ((أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الركب)).
وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح وأن عمر غدا إلى السوق ومسكن سليمان بين المسجد والسوق فمر بأم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه.
قال عمر : لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة.
رحمك الله يا عمر ورحمك الله يا سليمان بت تصلي فغلبتك عيناك.
فكيف بالذين يغلبهم النوم وهم أمام القنوات الفضائية ينتقلون من قناة إلى أخرى.
وكيف بالذين لا يغلبهم النوم، ولكن تغلبهم الشهوة واللذة أمام القناة الفضائية فلسِحرها لا يقومون عنها حتى لعشر دقائق لنقر صلاة الفجر، فإذا ما انتهى ذلك البرنامج قاموا إن كان فيهم بقية إيمان في أي ساعة وأدّوا صلاة الفجر.
كيف بالذين يسهرون على الأرصفة أو في بطون الأودية والشعاب لا يرجون لله وقارا.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن.
وقال إبراهيم التميمي: إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه.
أما عامر بن عبد الله فقال عنه مصعب: سمِع عامرٌ المؤذّن يؤذن وهو يجود بنفسه – يصارع سكرات الموت – فلما سمع المؤذن قال: خذوا بيدي فقيل له: إنك عليل. فقال: أسمع داعي الله فلا أجيبه، فدخل مع الإمام في المغرب فركع ركعة ثم مات، نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة.
وهذا سعيد بن عبد العزيز الإمام القدوة مفتي دمشق قال عنه محمد بن المبارك الصوري: كان سعيد إذا فاتته صلاة الجماعة بكى.
أما المحدّث الثقة بشر بن الحسن فقد كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة فسمى الصفي.
قال ابن مسعود رضي الله عنه في أهمية صلاة الجماعة في الفجر وغيرها: ولقد رأيتنا وما يتخلّف عنها - أي صلاة الجماعة - إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.
وقال أبو هريرة : لأن تمتليء أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يسمع النداء ولا يجيب.
وقال سعيد بن المسيب - الذي ما أذن المؤذن أربعين سنة إلا وهو في المسجد - قال في قوله تعالى: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون قال سعيد: كانوا يسمعون (حي على الصلاة) (حي على الفلاح) فلا يجيبون وهم أصحاء سالمون.
وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين تخلّفوا عن الجماعة.
أمة الإسلام، عباد الله إن هذا الكم الهائل من النصوص والآثار في صلاة الفجر والجماعة لهو رسالة موجهة إلى النفس التي حجبتها الشهوات والشبهات عن طاعة الله فتقاعست عن صلاة الفجر، وهي الشعار الصريح والفيصل الواضح بين الصالح والمنافق.
إخوة الإسلام: حتى أعداء الدين يعرفون قدر هذه الصلاة، فهذا يهودي يقول لأحد المسلمين: إنكم لن تستطيعوا إرجاع المسجد الأقصى حتى تكونوا في صلاة الفجر مثل صلاة الجمعة حتى تزدحموا في صلاة الفجر كما تزدحمون في صلاة الجمعة.
فهل من عودة إلى الله.
هل من محاسبة للنفس قبل أن تحاسب، هل تأملنا قول المؤذن [الله أكبر] وتساءلنا، هل الله أكبر من كل شيء، أكبر من السهر على المعصية، أكبر من متعة الفراش، أكبر من البيع والشراء، أكبر من الدنيا بأسرها ومشاغلها الفانية.
يا عبد الله، يا عبد الله ربما تصلي الفجر في جماعة فيصلى عليك في الظهر فكن في ذمة الله وجواره ولا تنقض العهد، فكم من نفس أصبحت في الدنيا وأمست في القبر، وكم من نفس أمست بفرح وأصبحت بحزن، اغتنم صحتك قبل مرضك، قيل لأحد المقعدين المشلولين نتيجة حادث، لا يستطيع حولاً ولا قوة في أي جزء من جسده حتى قضاء الحاجة لا يتم إلا بالطرق الطبية، قيل له وهو في مرضه: ماذا تتمنى؟ قال: صلاة الجماعة.
فاحمد الله يا عبد الله واعمل قبل أن يحال بينك وبين العمل، إن العاقل يصاب بالحسرة والألم عندما يجلس مع إخوانه أئمة المساجد فيتشاكون قلة المصلين في صلاة الفجر ولقد ذهلت عندما قال أحد الأئمة: لا يصلي الفجر في مسجدنا إلا ثلاثة أنا والمؤذن والفراش، فاللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا يارب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على هديه واستن بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد عباد الله: فإننا نؤمن جميعاً أن هذه الظاهرة في مجتمعنا ظاهرة مرضيّة خطيرة تستوجب الحلول العاجلة السريعة، والحلول كثيرة منها ما يتعلق بالشخص ذاته ومنها ما يتعلق بالآخرين.
أما ما يتعلق بالآخرين وهم حملة الرسالة من الدعاة وطلبة العلم وأئمة المساجد فعليهم مسؤولية البيان والتذكير والذكرى تنفع المؤمنين، فإن النفس تغفل وتذهل وتشرد أحياناً ولا يردّها إلا البلاغ المبين والشرع الحكيم، فلو قوبل زهم الباطل ونتن العلمنة بعبير الحق ونسيم العدل، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه والله المستعان، فيا حملة الرسالة ادعوا إلى سبيل ربكم بالحكمة والموعظة الحسنة.
أما إمام المسجد فله مع هذه الصولة جولة وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن فمن استجاب فالحمد لله ومن لم يستجب فالأمانة تقتضي رفع أمره إلى جهة الإختصاص كما نصت على ذلك تعليمات ولاة الأمر وفّقهم الله لما يحبه ويرضاه.
أما ما يتعلق بالشخص ذاته فلو عددنا الوسائل التي تعين على أداء صلاة الفجر، وفصلنا القول فيها، لطال بنا المقام، ولكن نقول رأس الأمر وعموده في ذلك العزيمة الصادقة المؤسسة على الإخلاص لله تعالى، فإذا توفرت العزيمة لحقتها الأسباب الأخرى والتي منها:
1- البعد عن الذنوب والمعاصي فقد اشتكى أحدهم إلى أحد العلماء قلة قيامه بالليل فرد عليه ذاك قائلاً: قيدتك الذنوب، فالذنوب لها آثار على النفس ومنها الحرمان من الطاعات واسقاط الواجبات ولا تحقر أي ذنب وإن كان صغيراً.
2- ومن الأسباب المعينة على صلاة الفجر قراءة الأوراد عند النوم.
3- ومنها تطبيق سنن النوم الفعلية.
4- ومنها التبكير في النوم وعدم السهر.
5- ومنها إذا ما استيقظت فلا تنم مرة أخرى فإن الشيطان يقول لك: ارقد عليك ليلٌ طويل.
6- استخدام الوسائل المساعدة كالساعة المنبهة والهاتف وجرس المنزل وغيرها.
7- صحبة الأخيار.
8- الإتفاق مع جارك لإيقاظك للصلاة.
عباد الله: هذه الكلمات وهذه الخطبة سقتها وقلتها لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أدركوا أنفسكم ما دمتم على ظهر هذه الأرض، أدركوا أنفسكم قبل غرغرة الروح وحشرجة الصدر، أدركوا أنفسكم قبل أن تندموا ولات ساعة مندم، أعدوا لأنفسكم زاداً ليومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم إني من على هذا المنبر قد نصحت وذكّرت وبلّغت، اللهم فاشهد اللهم فاشهد، اللهم فاشهد.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه فقد قال الله تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما اللهم صلِ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(1/791)
العقيدة في حياة الأنبياء عليهم السلام
التوحيد
أهمية التوحيد
محمد الحكمي
الطائف
16/7/1414
جامع الجفالي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيّن الشيخ أن العقيدة مهمة وأنه ما من نبي إلا جاء يدعو إليها ويحذر من خلافها
2- ثم ذكر بعض الصور من حياة الأنبياء تدل على اهتمامهم بالعقيدة وعملِهم بمقتضاها
والصبر على الأذى في سبيل الدعوة إليها
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله
أوصيكم ونفسي بعد تقوى الله بتحرير القلوب وتجريدها لبارئها ذلاً وخضوعاً وتسليماً وانقياداً، وتوكلاً واعتماداً، فلا والله لا ملجأ منه إلا إليه، هو الحكيم والحليم هو الحميد والخبير هو الحي القيوم، كل شيء هالك إلا وجهه، هو العليم والقدير هو القريب واللطيف هو المحيط والكريم، كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام هو المقتدر والمقين والملك والمليك هو الودود والوكيل هو الولي والنصير هو السميع والبصير هو القهار والمتكبر سبحانه وتعالى عمّا يشركون.
كان الحديث في الخطب الماضية عن أمور مهمة في العقيدة ولا شك إننا نحتاج إلى قدوة في عقيدتنا نقتفي أثرها ونسير على هداها وهل هناك قدوة وأسوة أعظم من الأنبياء عليهم السلام فما شأنهم مع العقيدة.
أيها المؤمنون:
إن جوانب العقيدة في حياة أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم مترامية الأطراف ذات غور عميق وقمة سامقة، هي منطلق دعوتهم وركيزة بنيانهم، العقيدة أولا لو كانوا يعلمون.
لقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم كما بعث الأنبياء من قبل عليهم الصلاة والسلام وجميعهم ينادي أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.
ويدعون الناس بقولهم إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه.
وعليه استمرت الدعوة بمكة ثلاث عشرة سنة لا يخاطب الناس فيها إلا بالعقيدة وما يرتبط بها، إعلاناً لوحدانية الله في كل شؤون الحياة.
لقد كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يثيرها ويبتدأها بإذن ربه قومية عربية فالروم يملكون بلاد الشام حينئذٍ ويحكمونها والفرس يسيطرون على بقاع أخرى مجاورة ويديرونها، ولو دعا يومها إلى ذلك لاستجابت له العرب قاطبة خروجاً بها من الذل والهوان، بل لو أراد الملك لملكوه عليهم.
ولو أرادها صلى الله عليه وسلم دعوة مبدؤها إصلاح أوضاع المجتمعات التي عم فيها ربا الجاهلية وتجارات الغش والخداع لوجد على أقل تقدير آذاناً صاغية من فئات كثيرة من قومه وقبائل من العرب عاشت الفقر والعوز وتحكم الأغنياء في أموالهم.
ولو أرادها دعوة أخلاقية تزكى فيها النفوس وتقوّم فيها المثل والآداب لكان لذلك قبولاً واستجابة لنداء الفطرة إذ الخمور تشرب والزنا يظهر ويعلن والظلم والجور يتفشّى فالقوي يأكل الضعيف.
ولكن، كل ذلك لا يحسن به أن يسبق العقيدة تقريراً في النفوس وتطهيراً للأرواح.
إن دعوة لا تنطلق من العقيدة خاسرة، وإن نظاماً لا يرتكز على العقيدة منهار، وكل كيان لا ينشأ على العقيدة متمزّق، هي العقيدة أولاً لو كانوا يعلمون.
أخي يا رعاك الله:
وإليك صوراً عجلى، ولمحات خاطفة من حياة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه تؤكد ما ذكر، وتقرر ما تقدّم عسى أن تكون لنا عبرة ومدكراً في تصحيح ما طرأ على عقيدتنا من انحراف، فمن ذلك:
أولاً: البراءة من الشرك وأهله أصناماً وأوثاناً طواغيتاً وآلهة، فها هو هود عليه الصلاة والسلام يخاطب قومه بقوله: قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون.
كما أن إبراهيم أبا الأنبياء عليه السلام يعلنها مدوّية، فيحكها ربه عز في علاه قرأنا يتلى إلى يوم القيامة قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده.
إنها المفاصلة على العقيدة التي اتسقاها محمد صلى الله عليه وسلم من منهج الأنبياء قبله قائلاً له ربه وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم وأنا بريء مما تعملون.
إنها الشخصية المتميزة، والمنهج الواضح المتمثل في سياق مخاطبة أبي الأنبياء لقومه فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذين هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين.
فهل هذا الركن حي في حياتنا ونابض في عروقنا تجاه أعداء الله أياً كانوا؟ يقول ابن القيم رحمه الله:
فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له، وموافقته فيها من كمال العبودية، فمن تعبّد لله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، ولأجل هذه المارغمة حُمد التبختر بين الصفين. أ.هـ.
كل العداوت قد ترجى مودتها إلا عداوة من عاداك في الدين
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون.
ويتجلى هذا الموقف السامي في حياة نوح عليه الصلاة والسلام حين ركب السفينة مع من آمن وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن من الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.
إن الأواصر تتقطع وإن الأرحام تنفصم من أجل لا إله إلا الله فلا حسب ولا نسب يجدي وقتئذ، وتأخذ نوح عاطفة الأبوة فيسأل ربه ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ولأن روابط الإيمان تعلوكل مودة ووشيجة، فقد رد عليه المولى بقوله قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح.
ثانيا: أن هذه العقيدة هي مبدأ الدعوة ومنتهاها في حياة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه.
فها هو إلياس عليه السلام يخاطب قومه قائلاً ألا تتقون أتدعون بعلاً [وكان صنما لهم يعبدونه] وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين.
إنه إعلان للعبودية الخالصة لله دون سواه، حتى قال إبراهيم مناصحاً والده مشفقا عليه إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فهل يدرك ذلك الطوّاف بالقبور والأضرحة والأولياء؟
إن العجب ليتملك كل مؤمن غيور من علماء في بلاد إسلامية لهم صيتهم بين الناس، وقبولهم ودروسهم وحلق ذكرهم ولكن أين تقام وأين تلقى؟ إنها تقدم وتنقل عبر الإذاعات والشاشات من مساجد بها وحولها قبور ترجى وتدعى ويستغاث بها، فهل يفيد حديث عن الأخلاق أو المعاملات أو غيرها وفي القلوب تعلق بغير الله رجاء وخوفا؟ العقيدة أولا لو كان يعلمون.
يوسف وما أدراك ما يوسف عليه الصلاة والسلام إن في سيرته في السجن وخارجه لمنهج أصيل وصراط مستقيم لكل داعية ومدعو، فها هو عليه السلام يبتدئ بحكمة وحسن أسلوب صاحبيه في السجن بدعوتهم إلى التوحيد والإخلاص لله.
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ثالثاً: التوكل على الله والثقة في نصره فنوح عليه الصلاة والسلام يتمثّل ذلك في قوله تعالى: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبير عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعل الله توكلت.
وها هو هود عليه السلام لا يبالي ما فعل قومه به فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم.
وشعيب عليه السلام يوضح مقصد دعوته وغاية رسالته قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
أيها المؤمنون:
القتل، السجن، النفي والإبعاد، والرمي بالحجارة والحصار، والتعذيب، والسخرية والاستهزاء والجراحات والآلام.
كل هذه صور مأساوية، لاقاها الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه من أقوامهم كما هي سنة جارية فيمن صدّق وآمن وبلّغ من أتباعهم من العلماء والدعاة إلى الله.
وتبرز العقيدة من بين جوانح البلاء وعمق الكرب والابتلاء فإذا بها توكل لا خور فيه واستغاثة تستنزل المدد من السماء، ورجاء معلق بالواحد الديان، وثقة في نصر الله لا شك فيه.
إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد والحق ما شهدت به الأعداء فها هو قيصر ملك الروم في مساءلته لأبي سفيان رضي الله عنه - وكان يومئذ مشركاً - عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فقال فيما قال: فهل قاتلتموه أوقاتلكم؟ قلت: نعم، قال فكيف كانت حربه وحربكم؟ قلت: دولا وسجالاً يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى، قال قيصر: وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة.
قال المولى سبحانه: ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون وفي آية أخرى فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب.
ويواجه الأنبياء كيد الكائدين ومكر الظالمين، بصبر الواثق، وجلد المطمئن، لأنهم أمام أمم ترسخت في قلوبهم عادات وموروثات عن آبائهم قد أخذوها وفي حياتهم قد أشربوها وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون من عبادة أصنام، وظلم وعدوان، وكم من عادات وتقاليد تأصلت في قلوب بعض الناس مخالفة لشرع الله كالتحاكم إلى شيوخ القبائل بدلاً من القضاء وكعدم توريث المرأة، وكنكاح البدل والشغار، وكغرض الحق على من أخطأ أو لم يحضر مناسبة أو تأخر في أمر، وكسبّ الرب والدين كما هو جار على ألسنة البعض عند غضبه على أحد وكالحلف بغير الله سواءاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أو حياته أو الأمانة وكالطلاق والحرام.. فإذا ما نصح أهلها قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون.
ويواجه الأنبياء البلاء عليهم السلام لأنهم أمام ركام ضخم من التضليل الإعلامي والتشويه الكيدي الذي يغرر به الناس ويخادعون به فمن ذلك قولهم إنا لنراك في ضلال مبين قالوا ساحر مجنون إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين إنهم أعداء الدعوة وخصوم الملة الذين يعلنون دائماً أن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام إنما ينطلقون في دعوتهم من خلل في العقول، وبدائية في التفكير ألا ترون أن أتباعهم شرذمة قليلون، وأنهم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لهم علينا من فضل، وها هي التصريحات تنطلق من هنا وهناك عبر وسائل شتى وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين.
قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين.
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين.
ثم بعد أن دعاهم وبين لهم ما هم فيه من الباطل يقول عليه الصلاة والسلام: فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين.
نعم كم من عطايا اشتريت بها دامم، وسكت بسببها عن حق، وأصبح مثل بعضهم كمن قال الله فيهم: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
أيها المؤمنون :
, وفي خضّم المعاناة، وشدة الكرب، وانتفاشة الباطل، يضع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لمن بعدهم معالم في الطريق منها عدم اليأس والقنوط، استبصارا بقول المولى: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين.
ومن معالمهم عليهم الصلاة والسلام: أن فرج الله قريب وأن الأرض ملك لله يهبها من يشاء، قال موسى لقومه: استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج
أبشر بخير فإن الكاشف الله
اليأس يعقد أحيانا بصاحبه
لا تيأسن فإن الكافي الله
إذا بليت فثق بالله وارض به
إن الذي يكشف البلوى هو الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة
لا تجزعن فإن المانع الله
و الله مالك غير الله من أحد
محبك الله في كل لك الله
ومن أبرز هذه المعالم الثقة في نصر الله، ولك أن تلمح ذلك وتستبصره في ثنايا النجاة للأنبياء وأتباعهم، فها هو العزيز والمقتدر يقول سبحانه: ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وفي حق صالح عليه السلام: فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ، وفي حق شعيب عليه السلام: ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
وفي حق لوط عليه السلام: ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث وهكذا يسدل الستار على نهايات الأقوام من المكذبين بنجاة المؤمنين وهلاك الظالمين والعاقبة للتقوى.
عباد الله
أوصيكم ونفسي بعد تقوى الله بتحرير القلوب وتجريدها لبارئها ذلاً وخضوعاً وتسليماً وانقياداً، وتوكلاً واعتماداً، فلا والله لا ملجأ منه إلا إليه، هو الحكيم والحليم هو الحميد والخبير هو الحي القيوم، كل شيء هالك إلا وجهه، هو العليم والقدير هو القريب واللطيف هو المحيط والكريم، كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام هو المقتدر والمقين والملك والمليك هو الودود والوكيل هو الولي والنصير هو السميع والبصير هو القهار والمتكبر سبحانه وتعالى عمّا يشركون.
كان الحديث في الخطب الماضية عن أمور مهمة في العقيدة ولا شك إننا نحتاج إلى قدوة في عقيدتنا نقتفي أثرها ونسير على هداها وهل هناك قدوة وأسوة أعظم من الأنبياء عليهم السلام فما شأنهم مع العقيدة.
أيها المؤمنون:
إن جوانب العقيدة في حياة أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم مترامية الأطراف ذات غور عميق وقمة سامقة، هي منطلق دعوتهم وركيزة بنيانهم، العقيدة أولا لو كانوا يعلمون.
لقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم كما بعث الأنبياء من قبل عليهم الصلاة والسلام وجميعهم ينادي أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.
ويدعون الناس بقولهم إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه.
وعليه استمرت الدعوة بمكة ثلاث عشرة سنة لا يخاطب الناس فيها إلا بالعقيدة وما يرتبط بها، إعلاناً لوحدانية الله في كل شؤون الحياة.
لقد كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يثيرها ويبتدأها بإذن ربه قومية عربية فالروم يملكون بلاد الشام حينئذٍ ويحكمونها والفرس يسيطرون على بقاع أخرى مجاورة ويديرونها، ولو دعا يومها إلى ذلك لاستجابت له العرب قاطبة خروجاً بها من الذل والهوان، بل لو أراد الملك لملكوه عليهم.
ولو أرادها صلى الله عليه وسلم دعوة مبدؤها إصلاح أوضاع المجتمعات التي عم فيها ربا الجاهلية وتجارات الغش والخداع لوجد على أقل تقدير آذاناً صاغية من فئات كثيرة من قومه وقبائل من العرب عاشت الفقر والعوز وتحكم الأغنياء في أموالهم.
ولو أرادها دعوة أخلاقية تزكى فيها النفوس وتقوّم فيها المثل والآداب لكان لذلك قبولاً واستجابة لنداء الفطرة إذ الخمور تشرب والزنا يظهر ويعلن والظلم والجور يتفشّى فالقوي يأكل الضعيف.
ولكن، كل ذلك لا يحسن به أن يسبق العقيدة تقريراً في النفوس وتطهيراً للأرواح.
إن دعوة لا تنطلق من العقيدة خاسرة، وإن نظاماً لا يرتكز على العقيدة منهار، وكل كيان لا ينشأ على العقيدة متمزّق، هي العقيدة أولاً لو كانوا يعلمون.
أخي يا رعاك الله:
وإليك صوراً عجلى، ولمحات خاطفة من حياة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه تؤكد ما ذكر، وتقرر ما تقدّم عسى أن تكون لنا عبرة ومدكراً في تصحيح ما طرأ على عقيدتنا من انحراف، فمن ذلك:
أولاً: البراءة من الشرك وأهله أصناماً وأوثاناً طواغيتاً وآلهة، فها هو هود عليه الصلاة والسلام يخاطب قومه بقوله: قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون.
كما أن إبراهيم أبا الأنبياء عليه السلام يعلنها مدوّية، فيحكها ربه عز في علاه قرأنا يتلى إلى يوم القيامة قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده.
إنها المفاصلة على العقيدة التي اتسقاها محمد صلى الله عليه وسلم من منهج الأنبياء قبله قائلاً له ربه وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم وأنا بريء مما تعملون.
إنها الشخصية المتميزة، والمنهج الواضح المتمثل في سياق مخاطبة أبي الأنبياء لقومه فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذين هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين.
فهل هذا الركن حي في حياتنا ونابض في عروقنا تجاه أعداء الله أياً كانوا؟ يقول ابن القيم رحمه الله:
فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له، وموافقته فيها من كمال العبودية، فمن تعبّد لله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، ولأجل هذه المارغمة حُمد التبختر بين الصفين. أ.هـ.
كل العداوت قد ترجى مودتها إلا عداوة من عاداك في الدين
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون.
ويتجلى هذا الموقف السامي في حياة نوح عليه الصلاة والسلام حين ركب السفينة مع من آمن وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن من الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.
إن الأواصر تتقطع وإن الأرحام تنفصم من أجل لا إله إلا الله فلا حسب ولا نسب يجدي وقتئذ، وتأخذ نوح عاطفة الأبوة فيسأل ربه ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ولأن روابط الإيمان تعلوكل مودة ووشيجة، فقد رد عليه المولى بقوله قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح.
ثانيا: أن هذه العقيدة هي مبدأ الدعوة ومنتهاها في حياة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه.
فها هو إلياس عليه السلام يخاطب قومه قائلاً ألا تتقون أتدعون بعلاً [وكان صنما لهم يعبدونه] وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين.
إنه إعلان للعبودية الخالصة لله دون سواه، حتى قال إبراهيم مناصحاً والده مشفقا عليه إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فهل يدرك ذلك الطوّاف بالقبور والأضرحة والأولياء؟
إن العجب ليتملك كل مؤمن غيور من علماء في بلاد إسلامية لهم صيتهم بين الناس، وقبولهم ودروسهم وحلق ذكرهم ولكن أين تقام وأين تلقى؟ إنها تقدم وتنقل عبر الإذاعات والشاشات من مساجد بها وحولها قبور ترجى وتدعى ويستغاث بها، فهل يفيد حديث عن الأخلاق أو المعاملات أو غيرها وفي القلوب تعلق بغير الله رجاء وخوفا؟ العقيدة أولا لو كان يعلمون.
يوسف وما أدراك ما يوسف عليه الصلاة والسلام إن في سيرته في السجن وخارجه لمنهج أصيل وصراط مستقيم لكل داعية ومدعو، فها هو عليه السلام يبتدئ بحكمة وحسن أسلوب صاحبيه في السجن بدعوتهم إلى التوحيد والإخلاص لله.
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ثالثاً: التوكل على الله والثقة في نصره فنوح عليه الصلاة والسلام يتمثّل ذلك في قوله تعالى: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبير عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعل الله توكلت.
وها هو هود عليه السلام لا يبالي ما فعل قومه به فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم.
وشعيب عليه السلام يوضح مقصد دعوته وغاية رسالته قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
أيها المؤمنون:
القتل، السجن، النفي والإبعاد، والرمي بالحجارة والحصار، والتعذيب، والسخرية والاستهزاء والجراحات والآلام.
كل هذه صور مأساوية، لاقاها الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه من أقوامهم كما هي سنة جارية فيمن صدّق وآمن وبلّغ من أتباعهم من العلماء والدعاة إلى الله.
وتبرز العقيدة من بين جوانح البلاء وعمق الكرب والابتلاء فإذا بها توكل لا خور فيه واستغاثة تستنزل المدد من السماء، ورجاء معلق بالواحد الديان، وثقة في نصر الله لا شك فيه.
إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد والحق ما شهدت به الأعداء فها هو قيصر ملك الروم في مساءلته لأبي سفيان رضي الله عنه - وكان يومئذ مشركاً - عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فقال فيما قال: فهل قاتلتموه أوقاتلكم؟ قلت: نعم، قال فكيف كانت حربه وحربكم؟ قلت: دولا وسجالاً يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى، قال قيصر: وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة.
قال المولى سبحانه: ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون وفي آية أخرى فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب.
ويواجه الأنبياء كيد الكائدين ومكر الظالمين، بصبر الواثق، وجلد المطمئن، لأنهم أمام أمم ترسخت في قلوبهم عادات وموروثات عن آبائهم قد أخذوها وفي حياتهم قد أشربوها وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون من عبادة أصنام، وظلم وعدوان، وكم من عادات وتقاليد تأصلت في قلوب بعض الناس مخالفة لشرع الله كالتحاكم إلى شيوخ القبائل بدلاً من القضاء وكعدم توريث المرأة، وكنكاح البدل والشغار، وكغرض الحق على من أخطأ أو لم يحضر مناسبة أو تأخر في أمر، وكسبّ الرب والدين كما هو جار على ألسنة البعض عند غضبه على أحد وكالحلف بغير الله سواءاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أو حياته أو الأمانة وكالطلاق والحرام.. فإذا ما نصح أهلها قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون.
ويواجه الأنبياء البلاء عليهم السلام لأنهم أمام ركام ضخم من التضليل الإعلامي والتشويه الكيدي الذي يغرر به الناس ويخادعون به فمن ذلك قولهم إنا لنراك في ضلال مبين قالوا ساحر مجنون إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين إنهم أعداء الدعوة وخصوم الملة الذين يعلنون دائماً أن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام إنما ينطلقون في دعوتهم من خلل في العقول، وبدائية في التفكير ألا ترون أن أتباعهم شرذمة قليلون، وأنهم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لهم علينا من فضل، وها هي التصريحات تنطلق من هنا وهناك عبر وسائل شتى وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين.
قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين.
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين.
ثم بعد أن دعاهم وبين لهم ما هم فيه من الباطل يقول عليه الصلاة والسلام: فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين.
نعم كم من عطايا اشتريت بها دامم، وسكت بسببها عن حق، وأصبح مثل بعضهم كمن قال الله فيهم: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
أيها المؤمنون :
, وفي خضّم المعاناة، وشدة الكرب، وانتفاشة الباطل، يضع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لمن بعدهم معالم في الطريق منها عدم اليأس والقنوط، استبصارا بقول المولى: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين.
ومن معالمهم عليهم الصلاة والسلام: أن فرج الله قريب وأن الأرض ملك لله يهبها من يشاء، قال موسى لقومه: استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج
أبشر بخير فإن الكاشف الله
اليأس يعقد أحيانا بصاحبه
لا تيأسن فإن الكافي الله
إذا بليت فثق بالله وارض به
إن الذي يكشف البلوى هو الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة
لا تجزعن فإن المانع الله
و الله مالك غير الله من أحد
محبك الله في كل لك الله
ومن أبرز هذه المعالم الثقة في نصر الله، ولك أن تلمح ذلك وتستبصره في ثنايا النجاة للأنبياء وأتباعهم، فها هو العزيز والمقتدر يقول سبحانه: ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وفي حق صالح عليه السلام: فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ، وفي حق شعيب عليه السلام: ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
وفي حق لوط عليه السلام: ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث وهكذا يسدل الستار على نهايات الأقوام من المكذبين بنجاة المؤمنين وهلاك الظالمين والعاقبة للتقوى.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عليه يتوكل المتوكلون ويلجأ المستغيثون، فلا ناصر لهم إلا هو، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
عباد الله:
وتتوالى دروس وعبر الأحداث في تأريخ الأنبياء عليهم السلام من خلال الابتلاء.
قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين.
إنها الثقة والطمأنينة الممزوجة بصدق الإيمان وذروة الإخلاص، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ((يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما))
أخي يا من إلى الله دعوت:
اعلم أن الطريق محفوفة بالمكاره، ومزروعة بالأشواك ومحاطة بالغصص والآلام، فهل ثبات كثبات الأخيار من الصفوة الأبرار؟ وهل خضوع وذل وانكسار بين يدي الجبار؟
إذا كنت بالله مستعصماً فماذا يضرك كيد العبيد
فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين
(1/792)
الرشوة والشهادة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله والقيام بواجب أداء الأمانة. 2- مكانة الأمانة وخطورتها. 3- الرشوة من
أسباب ضياع الأمانة ونقصها. 4- خطورة الرشوة والتحذير منها وآثارها ومفاسدها الدنيوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من أداء الأمانة في الأمور كلها قوموا بذلك مخلصين لله متبعين لأمره قاصدين بذلك إبراء ذمتكم وإصلاح مجتمعكم: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم.
أيها المؤمنون إن الأمانة ليست بالأمر الهين إنها دين وذمة ومنهج وطريقة إنها حمل ثقيل وعبء جسيم ومسؤولية عظيمة إنها عرضت على السماوات والأرض والجبال وما أعظمها قوة وصلابة فأبين أن يحملنها أنت أيها الإنسان تحملتها بما أنعم الله به عليك من العقل والفهم وبما أنزل إليك من الوحي والعلم فبالعقل والفهم تدركون وتميزون وبالوحي والعلم تستنيرون وتهتدون وبذلك كنتم أهلا لتحمل مسؤولية الأمانة والقيام بأعبائها فأدوا الأمانة كما حملتموها أدوها على الوجه الأكمل المطلوب منكم لتنالوا بذلك رضا ربكم وصلاح مجتمعكم فإن بضياع الأمانة فساد المجتمع واختلال نظامه وتفكك أواصره.
أيها المسلمون إن من حماية الله لهذه الأمانة أن حرم على عباده كل ما يكون سببا لضياعها أو نقصها فحرم الرشوة وهي بذل المال للتوصل به إلى الباطل إما بإعطاء الباذل ما ليس من حقه أو إعفائه مما هو حق عليه يقول الله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ويقول سبحانه في ذم اليهود: سماعون للكذب أكالون للسحت والرشوة من السحت كما فسر الآية به ابن مسعود وغيره وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله الراشي والمرتشي)) وفي لفظ: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)). وهذا إما خبر من النبي أو دعاء على الراشي والمرتشي بلعنة الله وهي الطرد والإبعاد عن رحمة الله كما لعن الشيطان فطرد وأبعد عن رحمة الله عز وجل أيها المسلمون إن لعنة الله ورسوله لا تكون إلا على أمر عظيم ومنكر كبير وإن الرشوة لمن أكبر الفساد في الأرض لأنها بها تغيير حكم الله وتضييع حقوق عباد الله وإثبات ما هو باطل ونفي ما هو حق. إن الرشوة فساد في المجتمع وتضييع للأمانة وظلم للنفس يظلم الراشي نفسه ببذل المال لنيل الباطل ويظلم المرتشي نفسه بالمحاباة في أحكام الله يأكل كل منهما ما ليس من حقه ويكتسب حراما لا ينفعه بل يضره ويسحت ماله أو بركة ماله إن بقي المال.
إن الرشوة تكون في الحكم فيقضي من أجلها لمن لا يستحق أو يمنع من يستحق أو يقدم من غيره أحق بالتقديم وتكون الرشوة في تنفيذ الحكم فيتهاون من عليه تنفيذه بتنفيذه من أجل الرشوة سواء كان ذلك بالتراخي في التنفيذ أو بعمل ما يحول بين المحكوم عليه وألم العقوبة إن كان الحكم عقوبة.
إن الرشوة تكون في الوظائف والمسابقة فيها فيقدم من أجلها من لا ينجح أو تعطى له أسئلة المسابقة قبل الامتحان فيولى الوظيفة من غيره أحق منه وفي الحديث عن رسول الله أنه قال: ((من استعمل رجلا من عصابة - أي من طائفة - وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)). وإن الرشوة تكون في تنفيذ المشاريع ينزل مشروع عمل في المناقصة فيبذل أحد المتقدمين رشوة فيرسو المشروع عليه مع أن غيره أنصح قصدا وأتقن عملا ولكن الرشوة عملت عملها. وإن الرشوة تكون في التحقيقات الجنائية أو الحوادث أو غيرها فيتساهل المحققون في التحقيق من أجل الرشوة وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)). والغلول إثمه عظيم فقد جاء رجل إلى النبي فقال: ((استشهد مولاك اوقال: غلامك فلان. قال: بل يجر إلى النار في عباءة غلها)). وأغرب من ذلك أن تدخل الرشوة في التعليم والثقافة فينجح من أجلها من لا يستحق النجاح أو تقدم له أسئلة الامتحان أو يشار إلى أماكنها من المقررات أو يتساهل المراقب في مراقبة الطالب من أجلها فيتقدم هذا الطالب مع ضعف مستواه العلمي ويتأخر من هو أحق منه مع قوة مستواه العلمي.
عباد الله لقد سمعتم عقوبة الراشي والمرتشي في الآخرة وهي اللعن والطرد من رحمة الله وسمعتم شيئا من مفاسدها في المجتمع أفلا يكون في ذلك رادع عنها لكل مؤمن يخشى الله ويخاف عقابه ولكل مخلص يحافظ على دينه ومجتمعه كيف يرضى أن يعرض نفسه لعقوبة الله كيف يرضى أن يذهب دينه وأمانته من أجل حطام من الدنيا لا يدري لعله لا يأكله فيموت قبل أن ينعم به كيف يليق بالعاقل أن يسعى في فساد المجتمع وهلاكه. إن الأعمال أيها المسلمون دروس يأخذها الناس بعضهم من بعض فإذا فشت الرشوة في جهة من جهاته انتشرت في بقية الجهات وصار على من عمل بها أولاً وزرها ووزر من عمل بها مقتديا به إلى يوم القيامة.
فاتقوا الله عباد الله: وحافظوا على دينكم وأمانتكم وفكروا قليلا أيما خير لكم أن تكونوا قائمين بالعدل بعيدين عن الدناءة حائزين لرضا الله ومثوبته أم تكونوا جائرين مخلدين إلى الأرض متعرضين لسخط الله وعقوبته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/793)
الفتن قبل قيام الساعة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله والحذر من الفتن بكافة أشكالها وصورها. 2- تحذيره أمته من فتن آخر
الزمان وإخباره بشيء من ذلك (الشح – ضياع الأمانة – المال). 3- كيفية النجاة من الفتن
والوقوع فيها. 4- كثرة الوقوع في الفتن هذه الأيام وصور ذلك وأسبابه. 5- وجوب الحذر
من الفتنة ورعاتها وأسبابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن احذروا كل ما يصدكم عن دينكم من مال وأهل وولد: واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم احذروا فتنة القول وفتنة العمل وفتنة العقيدة والآراء الهدامة والمشاهدات السيئة فإن ذلك كله يصدكم عن دينكم ويوجب هلاككم انظروا إلى سلفكم الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان واسلكوا طريقهم فإنكم بذلك أمرتم وبذلك تفلحون إن تمسكتم. ولقد أخبر النبي أمته بما سيكون إلى قيام الساعة فأخبر النبي أمته بفتن في آخر الزمان لعلهم يحذرون ويتقون ويرجعون إلى ما كان أسلافهم ويتمسكون. أخبر النبي عن فتن الدين بما يحدث من المغريات المادية والفكرية فقال : (( بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا)) [رواه مسلم]. وأخبر النبي عن فتنة الجهل والطمع والفوضى فقال : ((يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قالوا: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: القتل)) [متفق عليه]. لقد قبض العلم وقل العلماء قل العلماء الربانيون قل العلماء أهل الخشية لله وأهل الهداية إن العلم حقيقة هو العلم النافع الذي يكون صاحبه قدوة في الخير والصلاح والزهد والورع واتباع سنة رسول الله وخلفائه الراشدين ولقد ظهرت الفتن شتى من كل نوع ومن كل وجه ظهر الطعن في الإسلام والتشكيك في الدين وتزهيد الناس فيه وسلب محبته من قلوب الناشئين تصاعدت الفتنة من جزيئات الدين وفرعياته إلى أصوله وأركانه وتطورت الفتنة من الأفراد والأقليات إلى أن نسبت إلى الزعماء والرؤساء وتلك طامة كبرى ومصيبة عظمى أن تتدرج الفتن هذا التدرج وتتوسع هذا التوسع في حجمها وشكلها نسأل الله الثبات والسلامة. سأل حذيفة بن اليمان رسول الله : هل بعد الخير الذي جاء به من شر؟ قال: ((نعم قال: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال رسول الله : نعم وفيه دخن قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت: فهل بعد ذلك من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها قلت: يا رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)). ولقد ألقي الشح والطمع في قلوب العباد حتى منعت الزكاة المفروضة والنفقات الواجبة وطمع الإنسان فيما ليس له به حق وكثرت الفوضى والقتل. لقد أخبر رسول الله عن فتنة الأمانة وأنها سترفع فلا تكاد ترى أمينا يقول النبي : ((ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه قال: ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال: إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)) [متفق عليه]. ولقد صدق رسول الله لقد قبضت الأمانة فلا تكاد ترى أمينا ولقد صار الأمناء يعدون بالأصابع فترى القبيلة ليس فيها إلا أمين واحد وترى الرجل يعجبك في عقله وظرفه وجلده لكن ليس في قلبه إيمان لأن الأمانة نزعت منه: ((جاء أعرابي إلى رسول الله فقال: متى الساعة؟ فقال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) [رواه البخاري].
ألا وإن من الفتن الكبيرة العظيمة فتنة المال التي قل من يسلم منها قل من يأخذ المال من وجهه ويصرفه في وجهه فكان الحلال عند كثير من الناس ما حل في يده بأي طريق كان والمصروف منه ما صرفه في هواه ولو في الحرام. قال النبي : ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن الحلال أم من الحرام)) [رواه البخاري]. ولقد صدق رسول الله فإن الكثير من الناس لا يبالون بالمال من أي وجه اكتسبوه كأنما خلقوا للمال والدنيا ولا حساب عليهم في ذلك ولا عقوبة يكسبون المال بالغش وبالكذب وبالرشوة وبالربا صريحا أو خداعا وحيلة ويكتسبون المال بالدعاوي الباطلة فيدعون ما ليس لهم أو يجحدون ما كان عليهم ولا خير في مال عاقبته العذاب والنكال. فاحذروا أيها المسلمون هذه الفتن واجتنبوها فإنها إذا ظهرت عمت المجتمع كله وأصابت الصالح والفاسد قال الله تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب. وقالت زينب أم المؤمنين رضي الله عنها: ((استيقظ النبي من النوم محمرا وجهه يقول: لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)) [رواه البخاري]. ولقد أخبر النبي أن الفرار من الفتن خير للعبد ولو أن يكون صاحب غنم فقال: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)) [رواه البخاري]. وأمر النبي أمته أن يستعيذوا من الفتن في كل صلاة فقال : ((إذا تشهد أحدكم أي قرأ التحيات فليستعذ بالله من أربع يقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال)) وأمر بالصلاة لمدافعة الفتن كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي ليلة فزعا يقول: ((سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل الله من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات يعني زوجاته لكي يصلين رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/794)
في التوبة وشروطها (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله والتوبة إليه. 2- مفهوم خاطئ للتوبة. 3- وجوب المبادرة بالتوبة.
4- التحذير من كفران النعم بالتمادي في المعاصي والاغترار بإمهال الله. 5- قسوة القلوب من
أعظم العقوبات ومظاهر ذلك. 6- نواقض التوبة ونواقصها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا ربكم وتوبوا إليه فإن الله يحب التوابين واستغفروه من ذنوبكم فإنه خير الغافرين توبوا إلى ربكم مخلصين له بالإقلاع عن المعاصي والندم على فعلها والعزم على أن لا تعودوا إليها فهذه هي التوبة النصوح التي أمرتم بها: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ليست التوبة أن يقول الإنسان بلسانه: أتوب إلى الله أو اللهم تب علي وهو مصر على معصية الله. وليست التوبة أن يقول ذلك وهو متهاون غير مبال بما جرى منه من معصية وليست التوبة أن يقول ذلك وهو عازم على أن يعود إلى معصية ربه ومخالفته.
أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل غلق باب التوبة عنكم فإن الله يقبل التوبة من عبده ما لم يغرغر بروحه فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما.
فبادروا أيها المسلمون بالتوبة فإنكم لا تدرون متى يفاجئكم الموت ولا تدرون متى يفاجئكم عذاب الله: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ، عباد الله هل أمنتم مكر الله يمدكم بالنعم المتنوعة وأنتم تبارزونه بالمعاصي، أما ترون ما وقع بالعالم في كثير منهم من الضيق في العيش والمحن، إن المجاعة والطوفان ونقص المحاصيل والقحط أحاطت بكثير.
من البلاد ولا يزال المفكرون يبحثون في تأمين الغذاء للعالم أفلا تخافون أن يحل ذلك بكم، إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
إن من أعظم العقوبات قسوة القلوب ومرضها وإن الكثير الآن قلوبهم قاسية يسمعون المواعظ والزواجر ويقرؤونها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله وكأنهم لا يسمعون الجيد منهم إذا سمع الموعظة وعاها حين سماعها فقط فإذا فارقها خمدت نار حماسه واستولت الغفلة على قلبه وعاد إلى ما كان عليه من عمل يسمع المواعظ تقرع أذنيه في عقوبة ترك الصلاة وإضاعتها: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب ولكنه لا يتوب وكأنه لا يسمع، يسمع المواعظ في عقوبة مانع الزكاة ومن يتبع الرديء من ماله فيزكى به: وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة زكاة النفس بالبراءة من الشرك وزكاة المال حيث قدموا الشح عن البذل في طاعة الله: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد. يسمعون هذا كله وهم مصرون على منع الزكاة يحرمون أنفسهم خيرات أموالهم ويدخرونها لغيرهم وفي الحديث: ((ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى إلا جعل بأسهم بينهم)).
أيها الناس إنه لا توبة مع الإصرار كيف يكون الإنسان تائبا من ذنب وهو يصر عليه؟ وكيف يكون تائبا من الغش وهو لا يزال يغش في بيعه وإجارته وجميع معاملاته؟ كيف يكون تائبا من الغيبة أكل لحوم الناس وهو يغتابهم في كل مجلس سنحت له الفرصة فيه؟ كيف يكون تائبا من أكل أموال الناس بغير حق وهو يأكلها تارة بدعوى ما ليس له وتارة بإنكار ما عليه وتارة بالكذب في البيع وغيره وتارة بالبقاء في ملك غيره بغير رضاه وتارة بالربا الصريح أو التحيل عليه؟ يقول النبي : ((من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات)).
أيها المسلمون إن التوبة الكاملة كما تتضمن الإقلاع عن الذنب والندم على فعله والعزم على ألا يعود إليه تتضمن كذلك العزم على القيام بالمأمورات ما استطاع العبد فبذلك يكون من التوابين الذين استحقوا محبة الله ورضاه: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فتوبوا أيها المسلمون إلى ربكم واستغفروه بطلب المغفرة منه بألسنتكم وقلوبكم: وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون بادروا بالتوبة قبل أن يأخذكم الموت فيحال بينكم وبينها وتموتون على معصية الله. إن بعض الناس تغره الأماني ويغره الشيطان فيسوف بالتوبة ويؤخرها حتى يقسو قلبه بالمعصية والإصرار عليها فتغلق دونه الأبواب أو يأخذه الموت قبل المهلة في وقت الشباب.
اللهم وفقنا للمبادرة بالتوبة من الذنوب والرجوع إلى ما يرضيك عنا في السر والعلانية فإنك علام الغيوب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/795)
في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصور العقل البشري وعجزه عن معرفة الخالق تفصيلاً بدون الرسل. 2- مولد النبي ونشأته ومكانته في قومه. 3- إرسال النبي وإرهاصات نبوته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به على عباده من إرسال الرسل وإنزال الكتب ونشر الحق بين الخلق فإن العقل البشري لا يمكن أن يهتدي إلى معرفة الخالق تفصيلا ولا يمكنه أن يعبد الله بما لا يدركه تحصيلا ولا يمكنه أن يعامل غيره بطريق الحق والعدل إلا بالوحي الذي بين الله به كيف يعرف العبد ربه وكيف يقيم عبادته وكيف يعامل غيره فكان الرسل عليهم الصلاة والسلام مبينين لعبادة الخلاق ومتممين لمكارم الأخلاق.
كان الناس على ملة واحدة دين أبيهم آدم فلما كثروا تفرقت كلمتهم واختلفت آراؤهم فبعث الله إليهم رسله ليقوم الناس بالقسط فبدأ الله الرسالة بنوح عليه الصلاة والسلام وختمها بمحمد. فمحمد خاتم النبيين وأفضلهم أرسله الله تعالى على حين فترة من الرسل فقد انقطعت الرسالة منذ زمن عيسى حتى زمن محمد. أنشأه الله تعالى من سلالة إسماعيل بن إبراهيم من صميم العرب فكان أكرم الناس نسبا وأطيبهم مولدا فولد بمكة في يوم الاثنين في الثاني من شهر ربيع الأول وقيل: في الثامن وقيل: في التاسع وقيل: في العاشر وقيل: في الثاني عشر وقيل: في السابع عشر وقيل: في الثاني والعشرين في العام الذي أهلك الله به أصحاب الفيل الذين أرادوا هدم الكعبة فأنزل الله فيهم سورة من القرآن.
ولدته أمه آمنة من أبيه عبد الله بن عبد المطلب وقد رأت أمه قبل ولادته أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام فمات أبوه في المدينة قبل أن يولد وماتت أمه بالأبواء في طريق المدينة وهو في السادسة من عمره فكفله جده عبد المطلب ثم مات ورسول الله في الثامنة من عمره فنشأ يتيم الأبوين والجد ولكن الله تعالى آواه وهو نعم المولى ونعم النصير فيسر الله له عمه أبا طالب شقيق أبيه فضمه إلى عياله وأحسن كفالته وأحبه حبا شديدا وبارك الله له بسبب النبي في ماله وحاله. ولقد اشتغل بما اشتغل به الأنبياء من قبل، اشتغل برعي الغنم وما من نبي إلا رعى الغنم ليعتاد بذلك حسن الرعاية والتصريف فيما يكون راعيا له في المستقبل ثم اشتغل بالتجارة فاشتهر عند الناس بالصدق والأمانة وحسن المعاملة ثم لما بلغ الخامسة والعشرين من عمره تزوج خديجة رضي الله عنها ولها أربعون سنة وقد تزوجت قبله برجلين وكانت رضي الله عنها من شريفات نساء العرب موصوفة بالعقل والحزم والذكاء ورزقها الله منها ابنين وبنات أربع وكان أولاده كلهم منها إلا إبراهيم فإنه من أم ولده مارية القبطية وكلهم ماتوا في حياته إلا فاطمة. ولم يتزوج عليها حتى ماتت رضي الله عنها في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين فتزوج بعدها عائشة.
وكان معظما في قومه محترما يحضر معهم في مهمات الأمور فحضر حلف الفضول الذي تعاقدوا به على درء المظالم ورد الحقوق إلى أهلها وكان حكما في قريش عند نزاعها في وضع الحجر الأسود في مكانه حين هدمت الكعبة فتنازعوا أيهم يضع الحجر في مكانه فقيض الله لهم رسول الله فحكموه بينهم وانقادوا لقضائه فبسط رداءه ووضع الحجر فيه ثم قال لأربعة من رؤساء قريش ليأخذ كل واحد منكم بجانب من هذا الرداء فحملوه حتى إذا أدنوه من موضعه أخذه بيده الكريمة فوضعه في مكانه فكان له بهذا الحكم العادل شرف كبير ونبأ عظيم وكان صلوات الله وسلامه عليه محفوظا من عبادة الأوثان وشرب الخمور وعمل الميسر. ولما بلغ الأربعين من عمره جاءه الوحي من الله تعالى فكان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب الله إليه الخلاء وهو الانفراد عن ذلك المجتمع الفوضوي في عقيدته وعبادته فكان يخلو بغار حراء وهو الجبل الذي عن يمين الداخل إلى مكة من طريق الشرائع ويتعبد فيه حتى نزل عليه الوحي هناك فجاء جبريل فقال: اقرأ فقال: ((ما أنا بقارئ)) - أي لا أحسن القراءة - وفي الثالثة قال له جبريل: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق (1/796)
الهجرة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعرضه للإيذاء من قريش وإعراضهم عن دعوته. 2- مؤامرة الكفار لقتل النبي.
3- خروجه مع أبي بكر وتخفيه عن الكفار ومعية الله له. 4- استقبال أهل المدينة للرسول. 5- موقف اليهود من النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ففي هذا الشهر شهر ربيع الأول من العام الثالث عشر من البعثة وصل النبي إلى المدينة مهاجرا من مكة البلد الأول للوحي وأحب البلاد إلى الله ورسوله خرج من مكة مهاجرا بإذن ربه بعد أن أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يبلغ رسالة ربه ويدعو إليه على بصيرة فلم يجد من أكثر قريش وأكابرهم سوى الرفض لدعوته والإعراض عنها والإيذاء الشديد للرسول ومن آمن به حتى آل الأمر بهم إلى تنفيذ خطة المكر والخداع لقتل النبي حيث اجتمع كبراؤهم في دار الندوة وتشاوروا ماذا يفعلون برسول الله حين رأوا أصحابه يهاجرون إلى المدينة وأنه لا بد أن يلحق بهم ويجد النصرة والعون من الأنصار الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم وحينئذ تكون له الدولة على قريش فقال عدو الله أبو جهل: الرأي أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جلدا ثم نعطي كل واحد سيفا صارما ثم يعمدوا إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه فيتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع بنو عبد مناف - يعني عشيرة النبي - أن يحاربوا قومهم جميعا فيرضون بالدية فنعطيهم إياها.
الله أكبر هكذا يخطط أعداء الله للقضاء على رسول الله وبهذا القدر من المكر والخديعة ولكنهم يمكرون ويمكر الله كما قال الله عز وجل: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. فأعلم الله نبيه بما أراد المشركون وأذن له بالهجرة وكان أبو بكر قد تجهز من قبل للهجرة إلى المدينة فقال له النبي : (( على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي)) فتأخر أبو بكر ليصحب النبي. قالت عائشة رضي الله عنها: فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار إذا برسول الله على الباب متقنعا فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر فدخل النبي وقال لأبي بكر: ((أخرج من عندك)) فقال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي فقال النبي : ((قد أذن لي في الخروج)) فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله قال: ((نعم)) فقال يا رسول الله: فخذ إحدى راحلتي هاتين فقال النبي : ((بالثمن)) ثم خرجا رسول الله وأبو بكر فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وكان غلاما شابا ذكيا واعيا فينطلق في آخر الليل إلى مكة فيصبح مع قريش فلا يسمع بخبر حول النبي وصاحبه إلا وعاه حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام فجعلت قريش تطلب النبي من كل وجه وتسعى بكل وسيلة ليدركوا النبي حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مائة من الإبل ولكن الله كان معهما يحفظهما بعنايته ويرعاهما برعايته حتى إن قريشا ليقفون على باب الغار فلا يرونهما. قال أبو بكر قلت للنبي ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال: ((لا تحزن إن الله معنا ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)). حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلا خرجا من الغار بعد ثلاث ليال متجهين إلى المدينة على طريق الساحل فلحقهما سراقة بن مالك المدلجي على فرس له فالتفت أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال النبي : ((لا تحزن إن الله معنا)) فدنا سراقة منهما حتى إذا سمع قراءة رسول الله غاصت يدا فرسه في الأرض حتى مس بطنها الأرض وكانت أرضا صلبة فنزل سراقة وزجرها فنهضت فلما أخرجت يديها صار لأثرهما عثان ساطع في السماء مثل الدخان قال سراقة: فوقع في نفسي أن سيظهر أمر رسول الله فناديتهم بالأمان فوقف رسول الله ومن معه فركبت فرسي حتى جئتهم وأخبرتهم بما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع وقال للنبي : إنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا فخذ منها حاجتك. فقال: ((لا حاجة لي في ذلك)) وقال: ((أخف عنا)). فرجع سراقة وجعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده وقال: كفيتم هذه الجهة فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر رجل ينطلق على فرسه طالبا للنبي وصاحبه ليظفر بهما فيفخر بتسليمهما إلى أعدائهما من الكفار فلم ينقلب حتى عاد ناصرا معينا مدافعا يعرض عليهما الزاد والمتاع وما يريدان من إبله وغنمه ويرد عن جهتهما كل من أقبل نحوها وهكذا كل من كان الله معه فلن يضره أحد وتكون العاقبة له.
ولما سمع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار بخروج رسول الله إليهم كانوا يخرجون صباح كل يوم إلى الحرة ينتظرون قدوم رسول الله وصحبه حتى يطردهم حر الشمس فلما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله وتعالى النهار واشتد الحر رجعوا إلى بيوتهم وإذا رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة ينظر لحاجة له فأبصر رسول الله وأصحابه مقبلين يزول بهم السراب فلم يملك أن نادى بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم يعني هذا حظكم وعزكم الذي تنتظرون فهب المسلمون للقاء رسول الله معهم السلاح تعظيما وإجلالا لرسول الله وإيذانا باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه رضي الله عنهم فتلقوه بظاهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين ونزل في بني عمرو بن عوف في قباء وأقام فيهم بضع ليال وأسس المسجد ثم ارتحل إلى المدينة والناس معه وآخرون يتلقونه في الطرقات قال أبو بكر : خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر جاء رسول الله الله أكبر جاء محمد. وقال أنس بن مالك : إني لأسعى بين الغلمان وأنا يومئذ غلام والناس يقولون: جاء محمد جاء محمد. هكذا يردد الناس هذه الكلمات فرحا بمقدم رسول الله الذي هو أحب الناس إليهم. فيا له من مقدم ملأ القلوب فرحا وسرورا وملأ الآفاق بهجة ونورا.
فقدم رسول الله المدينة وكل قبيلة من الأنصار تنازع الأخرى زمام ناقته النزول وكل يقول: عندنا يا رسول الله في العدد والعدة والمنعة ورسول الله يقول: دعوها فإنها مأمورة وإنما أنزل حيث أنزلني الله عز وجل. فلما انتهت به إلى مكان مسجده بركت فلم ينزل عنها رسول الله حتى وثبت ورسول الله قد أطلق لها الزمام فسارت غير بعيد ثم التفتت خلفها فعادت إلى مكانها الأول فبركت فقال النبي : ((هذا إن شاء الله المنزل)) وكان هذا المكان لغلامين يتيمين فدعاهما رسول الله فساومهما ليشتريه منهما فيتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما وقال: ((أي بيوتنا أقرب))؟ قال أبو أيوب: أنا يا رسول الله هذه داري وهذا بأبي قال: ((فانطلق فهيئ لنا مقيلا)) ففعل ثم جاء فقال: قوما على بركة الله. ثم جاء عبد الله بن سلام وكان حبرا من أحبار اليهود فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بالحق وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت فإنهم إن علموا به قالوا فيّ ما ليس فيّ فأرسل النبي إلى اليهود فأتوا إليه فقال النبي : ((يا معشر يهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق)) قالوا: ما نعلم ذلك قال: ((فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام))؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا قال: ((أرأيتم إن أسلم))؟ قالوا حاش لله ما كان ليسلم فأعاد فأعادوا وكان عبد الله بن سلام قد اختبأ لينظر ما يقولون فقال النبي : ((يا ابن سلام اخرج عليهم)) فخرج فقال: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق فقالوا له: كذبت. فأخرجهم النبي فقال عبد الله للنبي : ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور. هذه أيها المسلمون هجرة رسول الله خرج من بلدة ليقيم دعوة الله ويصلح بها عباد الله.
فاتقوا الله عباد الله واهجروا المعاصي لتقوموا بإحدى الهجرتين ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ومن اتقى وأحسن كان الله معه: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/797)
في ذكر شيء من آيات النبي صلى الله عليه وسلم
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, معجزات وكرامات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- تأييده صلى الله عليه وسلم بالآيات والمعجزات أبلغها القرآن – سيرته صلى الله عليه وسلم
وما فيها من دلائل نبوّته
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما أيد الله به نبيكم من الآيات والمعجزات فإن الله أعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر وأبلغ ما أوتيه هذا القرآن العظيم ففيه عبرة لمن اعتبر، فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم اشتمل على ذكر أخبار الأولين والآخرين وعلى الفصاحة والبلاغة اللتين عجزت عنهما مدارك الجن والإنس السابقين منهم واللاحقين: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا أي معاونا. ألا وإن من أعظم آياته سيرته في عبادته ومعاملاته وأخلاقه كان أتقى الناس لله تعالى وأجود الناس وأشجعهم وأصبرهم وأحسنهم مجالسة وألطفهم مكالمة وألينهم جانبا وأبلغهم في جميع صفات الكمال، ألا وإن من آياته انشقاق هذا القمر فرقتين كل فرقة منهما على جبل حين طلب أهل مكة من النبي آية، ألا وإن من آياته إجابة دعائه في استسقائه واستصحائه وغير ذلك ففي صحيح البخاري عن أنس قال: ((بينما النبي يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة يعني قطعة غيم فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته حتى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو قال: غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا. فما يشير إلى ناحية من السماء إلا انفرجت وصارت المدينة في مثل الجوبة)). يعني أن ما فوقها صحوا وما على جوانبها ليس بصحو وإنما يمطر، ومن آياته أنه حضرت الصلاة ذات يوم وهو في أصحابه وليس عندهم ما يتوضؤن به فجيء بقدح فيه ماء يسير فأخذه نبي الله فتوضأ منه ثم مد أصابعه الأربع على القدح فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضأ القوم أجمعون وكانوا ثمانين رجلا. وأتى بإناء فيه ماء يسير لا يغطي أصابعه فوضع يده فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم أجمعون وكانوا ثلاثمائة رجل ومن آياته أنه أراد ذات يوم أن يقضي حاجته فنظر فلم ير شيئا يستتر به فإذا بشجرتين بشاطئ الوادي فانطلق إلى أحدهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي علي بإذن الله فانقادت عليه كالبعير الذي يصانع قائده ثم فعل بالأخرى مثلها ثم جمعهما فقال التئما علي بإذن الله فالتأمتا عليه فلما فرغ رسول الله افترقتا وقامت كل واحدة منهما على ساق، وقال له جبريل: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: ادع تلك الشجرة فدعاها فجاءت تمشي حتى وقفت بين يديه فقال جبريل: مرها فلترجع فأمرها فرجعت إلى مكانها. وعن علي بن أبي طالب قال كنت مع النبي بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. وجاء قوم إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله إن لنا بعيرا قد ند في حائط فجاء رسول الله إلى البعير فقال: ((تعال)) فجاء البعير مطأطئا رأسه حتى خطمه وأعطاه أصحابه فقال أبو بكر: يا رسول الله كأنه علم أنك نبي. فقال رسول الله : ((ما بين لابتيها أحد لا يعلم أني نبي الله إلا كفرة الجن والإنس)). وآياته الدالة على أنه رسول الله كثيرة جدا. فسبحان من أيد هذا النبي بأنواع الآيات البينات ورفع له ذكره بين جميع المخلوقات اللهم فأحينا على سنته وتوفنا على ملته وأوردنا حوضه واسقنا منه إنك جواد كريم رؤوف رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/798)
في آداب إسلامية
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أخلاق عامة, الزكاة والصدقة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصدقات غير المالية التي على الإنسان بذلها. ( العدل - صناعة المعروف – الكلمة الطيبة)
إماطة الأذى عن الطريق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله واعلموا أن الإنسان إذا أصبح كان عليه لكل عظم من عظامه صدقة لكنها صدقة لا تختص بالمال بل تعم جميع ما يقرب إلى الله من الأقوال والأعمال ففي الصحيحين عن النبي أنه قال: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس)) ثم بين النبي نوع هذه الصدقة فقال: ((تعدل بين اثنين صدقة وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) فجعل النبي العدل بين اثنين صدقة فمن عدل بين اثنين في القضاء بينهما أو عدل بينهما فأصلح بينهما فهو له صدقة ومن عدل بين أولاده فيما يجب العدل عليه فيه بينهم فهو له صدقة ومن عدل بين زوجتيه في القسم فهو له صدقة وجعل النبي إعانة الرجل في دابته صدقة، فمن وجد رجلا لا يستطيع الركوب على دابته فأمسكها حتى يركب أو حمله عليها فذلك صدقة ومن وجد شخصا يريد أن يحمل على دابته شيئا فساعده على حمله أو أمسك دابته له فهو صدقة وجعل النبي الكلمة الطيبة صدقة، والكلمة الطيبة تشمل كل قول يقرب إلى الله تعالى فالأمر بالمعروف صدقة والنهي عن المنكر صدقة وبكل تسبيحة أو تكبيرة أو تهليلة صدقة وتعليم العلم النافع صدقة وابتداء السلام ورده صدقة وجعل النبي بكل خطوة يخطوها العبد إلى الصلاة صدقة وكلما بعدت طريق الصلاة كانت الصدقات أكثر وهذا من أكبر فضائل صلاة الجماعة في المساجد وجعل النبي إزالة الأذى عن الطريق صدقة فمن عزل حجرا أو شوكة أو عظما عن طريق الناس فذلك صدقة يثاب عليها ويؤجر وفي الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم. فأدخل الجنة)). وفي رواية: ((لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة - أي يروح فيها ويجيء كما شاء - من شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)) وفي رواية: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له)). ويدخل في إماطة الأذى عن الطريق تسهيل الطرقات الصعبة التي تشق على من سلكها وتؤذيهم فإن في إصلاحها وتسهيلها إزالة لأذاها ومشقتها فمن ساهم في ذلك بماله أو بدنه فقد فعل خيرا ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله والإحسان إلى عباد الله فسوف يلقى الذكر الطيب في الدنيا والثواب الجزيل في الأخرى إن شاء الله، وفقني الله وإياكم إلى المسارعة في الخيرات والمساهمة في جميع المشاريع النافعة وجعل عملنا خالصا لوجهه موافقا لمرضاته إنه قريب مجيب الدعوات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/799)
في الصبر على أقدار الله
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- معنى الصبر – أنواع الصبر – ثواب الصابرين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :أيها الناس اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصابرين فإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، والصبر حبس النفس على طاعة الله وحبسها عن معصية الله وحبسها عن التسخط من أقدار الله، وما أُعطي الإنسان عطاء خيرا وأوسع من الصبر فإذا صبر الإنسان نفسه على طاعة الله وثابر عليها صارت غريزة له وطبيعة يفرح بفعلها ويغتم لفقدها وإذا صبر نفسه عن المعصية تعودت ترك المعاصي وصارت المعاصي مكروهة لديه وبغيضة عنده يفرح بفقدها ويغتم لوجودها حتى يوفق للتوبة منها، وإذا صبر نفسه عن التسخط من أقدار الله صار راضيا مطمئنا بما قدره الله عليه إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له فالإنسان يصاب بمصيبة في نفسه ومصيبة في أهله ومصيبة في ماله ومصيبة في أصحابه ومصيبة في أنواع أخرى فإذا قابل هذه المصائب بالصبر وانتظار الفرج من الله صارت المصائب تكفيرا لسيئاته ورفعة في درجاته وقد وردت الآيات والأحاديث الكثيرة في ذلك فقال الله تعالى: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)) وقال لامرأة من الصحابيات: ((أبشري فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الحديد والفضة)) وقال : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)) وقال: ((ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة)) وقال: ((صداع المؤمن وشوكة يشاكها أو شيء يؤذيه يرفعه الله بها يوم القيامة درجة ويكفر عنه بها ذنوبه)) الصداع وجع الرأس، وقال : ((إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)) يريد عينيه، وقال : ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها)) وقال: ((ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)) وقال للنساء: ((ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجابا من النار فقالت امرأة: واثنين فقال: واثنين)). فهذه الأحاديث وما ورد بمعناها بشرى للمؤمن يحتسب من أجلها المصائب التي يصيبه الله بها فيصبر عليها ويحتسب ثوابها عند الله ويعلم أن ذلك من عند الله تعالى وأن سببه من نفسه كما قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن إذا ابتلي صبر وإذا أنعمت عليه شكر وإذا أذنب استغفر واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/800)
في فوائد الوضوء والمسح على الخفين والتيمم
فقه
الطهارة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- يُسر الشريعة وسماحتها ,ومظاهر ذلك – صفة الوضوء وفضله – المسح على الخفين وحكمه
- مشروعية التيمم وأحكامه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحمدوه على ما أنعم به عليكم من هذا الدين القويم والصراط المستقيم واعرفوا نعمته عليكم بتيسيره وتسهيله فإنه تعالى لم يجعل عليكم فيه حرجا ولا مشقة ولا تضييقا ولا عسرة وإنما بعث النبي بالحنيفية السمحة ولقد أنعم الله علينا مع التيسير والتسهيل بكثرة الأجور والثواب الجزيل فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.
عباد الله: إذا نظر الإنسان إلى هذه الشريعة وجدها ولله الحمد سهلة ميسرة في جميع أحكامها فأصل العبادات ميسرة، ثم إذا طرأ على العبد حال توجب التخفيف خفف الله عنه بحسب حاله فالطهارة للصلاة فرضها الله تعالى على وجه سهل يسير يطهر الإنسان في الوضوء أربعة أعضاء فقط هي الوجه واليدان إلى المرفقين غسلا والرأس مسحا لا غسلا لأن غسله يشق خصوصا في أيام البرد ومع كثرة الشعر عليه فإنه لو غسل لكان رطبا دائما وتسرب منه الماء إلى الثياب فآذى الإنسان ولكن الله خفف عن عباده وفرض مسحه دون غسله والعضو الرابع الرجلان إلى الكعبين غسلا هذه هي الأعضاء المفروض تطهيرها في الوضوء وما أيسر تطهيرها وما أعظم فائدته فإن هذه الأعضاء هي أعضاء العمل غالبا ففي الوجه النظر والشم والكلام وفي الرأس السمع والتفكير وفي اليدين البطش وفي الرجلين المشي فأكثر عمل الإنسان بهذه الأعضاء فتطهيرها تكفير للأعمال التي عملها بها كما جاء ذلك في الحديث عن النبي : ((إن الرجل إذا غسل وجهه خرجت خطايا وجهه مع الماء وإذا غسل يديه ورجليه خرجت خطايا يديه ورجليه فإذا مسح رأسه خرجت خطايا رأسه حتى يخرج نقيا من الذنوب)) وقال : ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره يعني إكماله بمشقة مثل أيام البرد والشتاء وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط - قالها ثلاثا-)).
أيها المسلمون: إن من تيسير الله عليكم في هذا الدين أن أجاز لكم المسح على الخفين بدلا من غسل الرجلين يعني إذا كان على رجل الإنسان كنادر أو شراب وكان قد لبسهما وهو طاهر فإن الله تعالى برحمته أجاز له المسح عليهما بدلا من غسل الرجلين إن كان مقيما فيوما وليلة وإن كان مسافرا فثلاثة أيام بلياليها تبتدئ المدة المذكورة من أول مسحة مسحها فإذا لبس الإنسان لصلاة الفجر ولم يمسح عليهما أول مرة إلا لصلاة الظهر فابتداء المدة من الوقت الذي مسح فيه لصلاة الظهر فيمسح المقيم إلى مثل ذلك الوقت من الغد وإذا تمت المدة وهو على طهارة فطهارته باقية حتى تنتقض فإذا انتقضت بعد تمام المدة وجب عليه غسل رجليه إذا توضأ ثم يلبس من جديد ومن تمت مدته فنسي ومسح بعد تمام المدة فعليه أن يعيد الصلاة التي صلاها بالمسح الذي بعد تمام المدة ومن لبس كنادر أو شرابا فهو مخير في أول الأمر إن شاء مسح الكنادر وإن شاء مسح الشراب، فإذا مسح أحدهما أول مرة تعلق الحكم به فإذا قدر أنه مسح الكنادر فليستمر على مسحهما ولا يخلعهما حتى تتم المدة فإن خلعهما قبل تمام المدة لنوم أو لغيره فإنه لا يعيدهما إذا توضأ حتى يغسل رجليه لأن الممسوح إذا خلع لا يعود المسح عليه إلا بعد غسل الرجلين أما إذا مسح الإنسان على الشراب من أول مرة فإنه لا يضر خلع الكنادر فله أن يستمر على مسح الشراب حتى تنتهي المدة وكيفية المسح أن يبل يديه بالماء ثم يمرهما على ظهر الخفين من أطرافهما مما يلي الأصابع إلى الساق مرة واحدة. ومن رحمة الله بالعبد أن من احتاج إلى ربط شيء على كسر أو جرح أو لزقة فإنه يمسح عليها كلها بدلا عن غسلها في الوضوء والغسل حتى تبرأ ويقوم مسحها مقام غسلها تيسيرا من الله وتسهيلا على عباده ولله الحمد والمنة.
وإن من رحمة الله بعباده أن شرع لهم التطهر بالصعيد إذا لم يجدوا الماء أو تضرروا باستعماله فمن لم يجد الماء لسفر أو غيره أو تضرر باستعماله لمرض أو غيره فإنه يتيمم بأن يضرب الأرض بيديه ضربة واحدة فيمسح وجهه وكفيه بعضهما ببعض وبذلك يرتفع حدثه ويكون طاهرا طهارة كاملة يصلي بها ما شاء ولا تنتقض إلا بما تنتقض به طهارة الماء فإذا وجد الماء أو أمن من الضرر توضأ إن كان تيممه عن حدث أصغر أو اغتسل إن كان تيممه عن حدث أكبر قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/801)
في حكم إعفاء اللحية وتغيير الشيب
فقه
الطهارة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- محاسن الشريعة الإسلامية – اللحية من هَدي الرسول صلى الله عليه وسلم , وحُكمها -
العوائق التي تحول بعض الناس عن اللحية – الحث على التمسك بسنّته صلى الله عليه وسلم
وأثر ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: لقد كان النبي يقول إذا خطب يوم الجمعة: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها)) ولقد صدق رسول الله فإن خير الهدي هدي محمد والهدي هو الطريق والشريعة التي كان عليها رسول الله في العبادات والمعاملات والأخلاق الظاهرة والباطنة ولقد كان من أخلاق النبي وهديه الكامل إعفاء اللحية وإحفاء الشارب قال جابر بن سمرة: كان النبي كثير شعر اللحية. لأنه كان يعفي لحيته وكذلك الأنبياء الكرام قبله قال الله تعالى عن هارون أنه قال لموسى: يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي. وكما كان النبي يعفي لحيته فقد أمر أمته بذلك كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((وفروا اللحى واحفوا الشوارب)) فاجتمع في هاتين الفطرتين أعني إحفاء الشوارب وإعفاء اللحى قول النبي وفعله وتبين أن هذا هو هديه وهدي الأنبياء قبله وقد قال النبي : ((خير الهدي هدي محمد )). فتمسكوا أيها المسلمون بهدي نبيكم فإنه خير لكم في الدنيا والآخرة إن التمسك بهديه يورث الوجه نضرة والقلب سرورا والصدر انشراحا والبصيرة نورا، إن الحياة الطيبة ونعيم القلب والروح لا يحصلان إلا بالإيمان والعمل الصالح قال الله تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. ولا سيما إذا التزم العبد شريعة الله مع قوة الداعي إلى مخالفتها فإن ذلك أعظم لأجره وأكمل لإيمانه فالإنسان ربما يشق عليه إعفاء اللحية لأنه ينظر إلى أناس نظراء له قد حلقوا لحاهم فيحلق لحيته اتباعا لهم ولكن هذا في الواقع استسلام للهوى وضعف في العزيمة وإلا فلو حكم عقله وقارن بين مصلحة إعفائها ومضرة حلقها لهان عليه إعفاؤها وسهل عليه الأمر ولعله أن يكون باب خير لنظرائه وأشكاله فيقتدون به لا سيما إذا كان عنده قدرة على الكلام والإقناع وإذا كان إبقاء اللحية شاقا عليه لما ذكرنا كان أجره عند الله أكبر وأعظم ولقد كان بعض الناس يظن أن إعفاء اللحية أو حلقها من الأمور العادية التي يتبع الناس فيها عادة أهل وقتهم وهذا ظن غير صحيح ذلك لأن النبي أمر بإعفائها وما أمر به النبي فامتثال أمره فيه عبادة ثم لو فرض أنه عادة فلنسأل أيما أفضل عادة أمر النبي بها وفعلها بنفسه وفعلها الأنبياء قبله وجرى عليها السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسان أيما أفضل عادة هؤلاء أم عادة قوم يخالفونهم في ذلك؟ وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله أن حلق اللحية حرام. وقال شيخنا عبد الرحمن السعدي في خطبة له: أيها الناس اتقوا الله وتمسكوا بهدى نبيكم المصطفى وامتثلوا أوامره واجتنبوا ما عنه زجر ونهى فقد أمركم بحف الشوارب وإعفاء اللحى وأخبركم أن حلق اللحى وقصها من هدي الكفار والمشركين ومن تشبه بقوم فهو منهم... إلى أن قال: فالله الله عباد الله في لزوم دينكم ولا تختاروا عليه سواه فوالله ما في الاقتداء بأهل الشر إلا الخزي والندامة ولا في الاقتداء بنبيكم إلا الصلاح والفلاح والكرامة وإياكم أن تصبغوها بالسواد فقد نهى عن ذلك خير العباد. هذا كلام شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله. وقال شيخنا عبد العزيز بن باز في جواب له في مجلة الجامعة الإسلامية عن سؤال يقول: ما حكم حلق اللحى أو تقصيرها هل هو مكروه أو محرم؟ فأجاب: قد ثبتت الأحاديث الصحيحة عن النبي ما يدل على أن ذلك محرم ومنكر فالواجب على كل مسلم تركه والحذر منه ولا ينبغي للمسلم أن يغتر بكثرة من فعل ذلك من المسلمين فإن الحق أحق بالاتباع ولو تركه الناس. أ.هـ.
أيها المسلمون إن الاقتداء بالنبي وأصحابه هو التقدم الصحيح وهو القوة الحقيقية وهو الجمال النافع وهو الحياة السعيدة والمآل الحميد، فالإنسان الآن قد يكون ساهيا سادرا في حياته ولكنه سينتبه ويستيقظ عند مماته عند مفارقته دنياه وأهله وماله وسيتمنى حين لا ينفعه التمني أن لو كان متمشيا على هدي النبي وأصحابه الكرام وفقني الله وإياكم لسلوك عباده الأخيار وقوانا على هوانا بالعزائم الصادقة على فعل النافع وترك الضار، إنه جواد كريم رؤوف رحيم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم نرد.
(1/802)
النكاح وعقباته
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- فضل النكاح وحُكمه وفوائده – العقبات التي تحول دون الزواج : عزوف الشباب عنه بحجة
الدراسة ,ظلم الأولياء ,المغالاة في المهور
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. إن الزواج نعمة عظيمة منّ الله بها على عباده ذكورهم وإناثهم أحله لهم بل أمرهم به ورغبهم فيه فقال سبحانه وتعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم. وقال النبي : ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)). وقال النبي في الرد على قوم قال أحدهم: أنا أصلي الليل أبدا وقال الثاني: أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج فقال النبي : ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)). وكما أن النكاح سنة خاتم النبيين فهو كذلك سنة المرسلين من قبل قال الله عز وجل: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية ففي النكاح امتثال أمر الله ورسوله وبامتثال أمر الله ورسوله حصول الرحمة والفلاح في الدنيا والآخرة. وفي النكاح اتباع سنن المرسلين ومن اتبع سنن المرسلين في الدنيا حشر معهم في الآخرة، وفي النكاح قضاء الوطر وفرح النفس وسرور القلب. وفي النكاح تحصين الفرج وحماية العرض وغض البصر والبعد عن الفتنة وفي النكاح تكثير الأمة الإسلامية وبالكثرة تقوى الأمة وتهاب بين الأمم وتكتفي بذاتها عن غيرها إذا استعملت طاقاتها فيما وجهها إليها الشرع.
وفي النكاح تحقيق مباهاة النبي بأمته يوم القيامة فقد قال : ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم يوم القيامة)). وفي النكاح تكوين الأسر وتقريب الناس بعضهم لبعض فإن الصهر شقيق النسب قال الله تعالى: وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا وفي النكاح حصول الأجر والثواب بالقيام بحقوق الزوجة والأولاد والإنفاق عليهم. والنكاح سبب للغنى وكثرة الرزق ليس كما يتوهمه الماديون وضعاف التوكل يقول الله عز وجل: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وفي الحديث عن النبي : ((ثلاثة حق على الله عونهم:... - وذكر منهم - الناكح يريد العفاف)) وقال أبو بكر : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رغبهم الله تعالى في التزويج ووعدهم عليه الغنى فقال: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله.
فالنكاح صلاح للفرد وصلاح للمجتمع في الدين الأخلاق والحاضر والمستقبل وهو كذلك درء للمفاسد الناتجة عن تركه وعدم المبالاة فيما يحول دونه من عقبات. لقد كان ينبغي لنا أن نهتم بدراسة العقبات التي تحول دونه لنتلافى النتائج السيئة التي تترتب على فقده وإن أهم هذه العقبات ثلاث:
إحداها: عزوف كثير من الشباب ذكور وإناث عن الزواج أي أن كثيرا من الشباب الذكور والإناث لا يرغبون في الزواج بحجة أن الزواج يحول بينهم وبين دراستهم وهذه حجة داحضة فإن النكاح لا يمنع من المضي في الدراسة والنجاح فيها والتحصيل بل ربما يكون عونا على ذلك فإن الصالح إذا وفق زوجة صالحة وسادت بينهما روح المودة صار كل واحد منهما عونا للآخر على دراسته وعلى مشاكل حياته وأكثر الناس تتكلل زوجاتهم بالتوفيق ولله الحمد وكم من شباب ذكور وإناث منّ الله عليهم بالزواج فرأوا من الراحة وتفرغ الفكر النفس للدراسة ما كان عونا لهم عليها فعلى الشباب الذين اغتروا بهذه الحجة أن يعيدوا النظر مرة بعد أخرى حتى يصححوا من خطئهم وليسألوا زملاء لهم تزوجوا فرأوا الخير والطمأنينة من وراء الزواج وبهذا تتذلل هذه العقبة. وماذا ينفع المرأة إذا أكملت دراسة ليست بحاجة إليها وفاتتها سعادة النكاح وعقمت من الأولاد وأصبحت رملى من الأرامل هل تسعد في حياتها ولا أولاد له يذكرونها بعد موتها.
العقبة الثانية التي تحول دون الزواج ومصالحه العظيمة احتكار بعض الأولياء الظلمة لبناتهم ومن لهم ولاية تزويجهن أولئك الأولياء الذين لا يخافون الله ولا يرعون أمانتهم ولا يرحمون من تحت أيديهم أولئك الأولياء الذين اتخذوا من ولايتهم على تلك المرأة الضعيفة موردا للكسب المحرم وأكل المال بالباطل تجد الخاطب الكفؤ في دينه وخلقه يخطب منهم فيفكرون ويقدرون ثم يقولون الكلمة الأخيرة: البنت فائتة لغيرك، البنت صغيرة، شاورتها فأبت. أقوالا كاذبة يفترونها ليردوا ذلك الخاطب الكفؤ، إما لعقد نفسية تثقل عليهم الإجابة وإما لطلب مال يحصلونه من وراء ولايتهم وإما لعداوة شخصية بينهم وبين الخاطب والولاية دين وأمانة يجب النظر فيها إلى مصلحة المولى عليه لا إلى أغراض الولي. إن دفع الخاطب الكفؤ في دينه وخلقه بمثل هذه الأقوال الكاذبة إنما هو معصية لله ورسوله وخيانة للأمانة وإضاعة لعمر المرأة التي تحت ولايته وسوف يحاسبون على ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أفلا يكون عند هؤلاء دين ورحمة؟ أفلا يفكرون لو أن أحدا منعهم من الزواج مع رغبتهم فيه فماذا يكون رد الفعل منهم أفلا يعتبرون بذلك فيمن تحت أيديهم من النساء الراغبات في الزواج وهم يمنعوهن الأكفاء خلقا ودينا. سبحان الله ماذا جني هؤلاء الأولياء على أنفسهم وماذا جنوا على من تحت ولا يتهم ولقد أوجد أهل العلم تذليلا لهذه العقبة حيث قالوا إن الولي إذا امتنع من تزويج موليته كفؤا ترضاه فإن ولايته تزول إلى من بعده فمثلا لو امتنع أبو المرأة من تزويجها كفؤا في دينه وخلقه وقد رضيته ورغبت فيه فإنه يزوجه أولى الناس بها بعده فيزوجها أولى الناس بها ممن يصلح للولاية من اخوتها أو أعمامها أو بنيهم. نعم لو كان الخاطب غير كفؤ في دينه أو عفته فرضيته المرأة وأبى وليها فله الحق في ذلك ولا إثم عليه ولو بقيت لم تتزوج إلى الموت لأن إباءه لمصلحتها ومن مقتضى أمانته.
العقبة الثالثة التي تحول دون الزواج ومصالحه العظيمة: غلاء المهور ونفقات الزواج وتزايدها حتى صار الزواج من الأمور المستحيلة أو الشاقة جدا لدى كثير من الراغبين في الزواج إلا بديون تشغل ذمته فتجعله أسيرا لدائنه. وإن تذليل هذه العقبة أن يفكر ذو الرأي من الأولياء ما هو المقصود بالنكاح وما هي مكانة المرأة التي جعلك الله وليا عليه هل المقصود بالنكاح المال؟ وهل المرأة سلعة تباع؟ أو تمنع بحسب ما يبذل فيها من المال؟ كل هذا لم يكن فليس المقصود بالنكاح المال وإنما المال وسيلة إليه. وليست المرأة سلعة بل هي أكرم من السلعة هي أمانة عظيمة وجزء من أهله وإذا فكرنا هذا التفكير وبلغنا هذه النتيجة عرفنا أن المال لا قيمة له وأن المغالاة في المهور ونفقات الزواج لا مبرر لها فلنرجع إلى ما كان عليه النبي وأصحابه فقد قال عمر بن الخطاب : ألا لا تغلوا في صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية وإن الرجل ليغلو في امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة. أي تكلفت دفع كل شيء عندي إليك حتى علق القربة وهو الحبل الذي تعلق به. فإذا رجعنا إلى ما كان عليه السلف الصالح من تقليل المهور تيسرت أمور الزواج وعظمت بركاته وانتفع بذلك الرجال والنساء. إن هذه المغالاة في المهور توجب تعطل كثير من الرجال والنساء عن النكاح أو محاولة الزواج من الخارج الذي قد يسبب له مصاعب ومتاعب كثيرة وربما يحصل به تغيير المجتمع في عاداته وأحواله وربما في عبادته لأن للخُلطة تأثيرا كثيرا في تغيير هذه الأمور.
أيها المسلمون: إن كثيرا من الأولياء الآباء وغيرهم يشترطون على الزوج الخاطب مالا يدفعه إليهم وسيكون هذا المال بالتأكيد على حساب مهر المرأة وهذا أكل للمال بالباطل فالمهر كله للزوجة قال الله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فأضاف الصداق إليهن. وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح - أي بعد عقده - فهو لمن أعطيه)).
فاتقوا الله عباد الله ودعوا مهور النساء لهن ولا تشترطوا لأنفسكم شيئا منه فإن ذلك اقتطاع بغير حق وسبب للتلاعب بولاية النكاح حيث يلاحظ الولي هذا الشرط فيزوج من يعطيه أكثر ومنع من لا يعطيه ضاربا بمصلحة موليته عرض الحائط وهذا إهدار للأمانة وخيانة للولاية فأدوا الأمانة واحفظوا الولاية: لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/803)
الولي في النكاح وواجباته
فقه
النكاح
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- عِظم أمانة النساء والواجب تجاهها – وجوب اختيار صاحب الخلق والدين لها في النكاح -
أهمية العقيدة الصحيحة في اختيار الزوج – لزوم إقامته للصلاة ,وحكم تارك الصلاة -
عدم جواز إكراه النساء على النكاح
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى وأدوا الأمانة التي حملكم الله تعالى إياها فيمن ولاكم الله عليه من النساء لأن من حملكم إياها سوف يسألكم عنها وهو أعلم بما تبدون وما تكتمون فأدوا الأمانة فيهن لا تتحكموا في مصيرهن ومستقبلهن لا تجعلوهن بينكم بمنزلة السلع إن أعطيتم بها ثمنا يرضيكم بعتموها وإلا أمسكتموها. إن أمانة النساء فيكم وإن مستقبلهن في دينهن ودنياهن أعظم وأجل من أن تنظروا فيهن إلى المال وإلى لعاعة من العيش تتمتعون بها على حساب أمانتكم. إن الواجب عليكم أن تنظروا إلى ما فيه خير المرأة وسعادتها في دينها ودنياها في نفسها وفي أولادها، إن الواجب عليكم أن تختاروا لها في النكاح كل ذي خلق فاضل ودين مستقيم وأن لا تمنعوا خاطبها إذا كان كفؤا في دينه ورضيته من النكاح بها فإن ذلك تضييع للأمانة ووقوع في المعصية فقد جاء في الحديث: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)). إن في الحديث توجيها وإرشادا إلى أن ينظر إلى الخاطب من ناحيتين فقط لا ثالث لهما هما الدين والخلق لأنهما الأساس الذي به صلاح الدين وسعادة الحياة فصاحب الدين صالح بنفسه مصلح لمن يتصل به. اتصال المرأة به خير وفلاح إن أمسكها أمسكها بمعروف وإن فارقها فارقها بمعروف لأن عنده من الدين والتقوى ما يمنعه من ظلم المرأة والمطل بمحقها وصاحب الخلق مستقيم في أخلاقه مقوم لغيره يتلقى أهله بالبشر وطلاقة الوجه ويعودهم بأقواله وحاله على مكارم الأخلاق ومعالي الآداب.
أيها المسلمون: إن أهم ما تجب العناية به والنظر إليه في الدين سلامة العقيدة وإقامة الصلاة فأما سلامة العقيدة في أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله لم يذكر عنه ما يدل على شكه، وأن يكون معظما لله ورسوله ودينه لم يذكر عنه ما يدل على استهزائه بذلك فإن من شك في وجود الله أو في كونه هو الخالق وحده أو هو المعبود وحده فهو كافر ومن شك في كون محمد رسول الله إلى الناس كافة إلى يوم القيامة فهو كافر ومن استهزأ بالله أو رسوله أو دينه فهو كافر يقول الله تعالى: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم. وأما إقامة الصلاة فأدناه أن يأتي الرجل بالصلوات الخمس في أوقاتها بأدنى ما يجب فيها معتقدا فريضتها فمن أنكر فريضة الصلوات الخمس أو بعضها فهو كافر لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين إلا أن يكون ممن أسلم قريبا ولا يهدي عن فرائض الدين فيعلم ومن ترك الصلاة فهو كافر وإن كان يعتقد أنها فريضة لقوله تعالى: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، وقول النبي : ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) وفي حديث آخر أن النبي قال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)). وقال عبد الله بن شقيق كان أصحاب رسول الله لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وهذا الكفر الذي جاء فيمن ترك الصلاة في الحديث عن رسول الله وعن الصحابة رضي الله عنهم هو الكفر الأكبر المخرج عن الإسلام الموجب للقتل في الدنيا والخلود في الآخرة في النار لأن النبي سئل عن قتال أئمة الجور والظلم هل يقاتلون فقال : ((لا تقاتلوهم ما صلوا)) فمنع من قتالهم إذا صلوا، وهذا يدل على جواز قتالهم إذا تركوا الصلاة ولا يجوز قتال الأئمة إلا إذا كفروا لقول عبادة بن الصامت : ((بايعنا رسول الله على أن لا ننازع الأمر أهله: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان)). قال أمير المؤمنين عمر : لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فلا يجوز تزويج من لا يؤمن بالله ورسوله بمسلمة ولا يجوز تزويج من يستهزئ بالله أو رسوله أو دينه بمسلمة ولا يجوز تزويج من لا يصلي بمسلمة لأن هؤلاء كفار. وقد قال الله تعالى في المهاجرات: فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، فمن زوج مسلمة بكافر فالنكاح باطل لا تحل به الزوجة بل هي منه أجنبية فوطؤها إياها بمنزلة الزنى. فاتقوا الله أيها المسلمون واختاروا لبناتكم وابحثوا عن دين الخاطب قبل قبوله ولا تجعلوا عمدتكم المال فإن المال يجيء ويذهب فكم من فقير صار غنيا وكم من غني صار فقيرا.
أيها المسلمون: إن بعض الأولياء يتحكمون في بناتهم ومن تحت ولايتهم فيمنعونهن من الخطاب الأكفاء مع رضا المرأة بالخاطب وهذا حرام عليهم لاعتدائهم على حقها إلا أن ترضى بشخص لا يرضي دينه مثل أن تطلب نكاح من يشرب الخمر أو يمارس من المعاصي ما يخل بالدين والشرف فله منعها من نكاحه ولو بقيت بلا زوج طول حياتها ولا إثم عليه في ذلك.
واعلموا أنه كما لا يجوز لكم منع النساء من النكاح فلا يجوز أن تكرهوا النساء على نكاح من لا يردن نكاحه فإن النبي نهاكم عن ذلك ولا فرق بين الأب وغيره البكر وغيرها لأن النبي لم يفرق بين البكر وغيرها إلا في صفة الإذن فقال: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت)) ففرق بين البكر والثيب بأن البكر يكتفى بسكوتها لأنه تخجل في الغالب أن تنطق وأما الثيب فلا تخجل فلا بد من استئمارها وأخذ أمرها بذلك نطقا ولم يفرق بين الأب وغيره بل نص على الأب فيما رواه الإمام أحمد ومسلم حيث قال : ((والبكر يستأمرها أبوها)).
فاتقوا الله أيها المسلمون ولا تزوجوا النساء من غير اكفائهن ولا تمنعوهن منهم ولا تجبروهن على نكاح من لا يردنه ولا يكن همكم المال الدنيا فإن من السخف أن ينزل الرجل بنفسه فيزوج من أجل المال ويمنع من أجله. أن من السخافة أن يقبل الشخص وترضى به المرأة فإذا جاء الجهاز قاصرا عما يريدونه ردوا الجهاز ورجعوا عن قبول الرجل كأنما المقصود من النكاح المال وكأنما المرأة سلعة تباع وتشترى. إن شأن النكاح أسمى وأعظم من أن يكون القصد فيه المال ولذلك جعل الله سبحانه المصاهرة قسيمة للنسب والقرابة فقال تعالى: وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا.
وفقني الله وإياكم للقيام بحقه وحقوق عباده وجعلنا ممن يقومون بالأمانة على الوجه الأكمل وهدانا صراطه المستقيم إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/804)
في عقوبة القتل
فقه
الحدود
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله وشكره بما شرعه لحماية الدين والنفس والمال والعرض. 2- كيفية حماية
الشريعة للدين والنفس. 3- عقوبة قتل النفس التي حرم الله بغير حق في الدنيا والآخرة.
4- كيفية حماية الشريعة للمال والعرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من حماية الدين والنفس والمال والعرض فلقد حمى الله لكم الدين بما أقام عليه من الآيات البينات حتى تتمسكوا به عن علم وبصيرة وحماه لكم بما رتبه من الجزاء الوافر على فعل الحسنات لترغبوا فيها وتقيموها وحماه لكم بما حذركم به من عقوبة على المخالفات لترهبوا منها ولقد حمى الله لكم النفس فأكد تحريمها في كتابه وعلى لسان رسوله وقرن القتل بالشرك فقال تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق وقال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا إلى قوله: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق وقال النبي : ((اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...)) وذكر تمام الحديث، وقال النبي : ((لا يزال المؤمن في فسحه من دينه ما لم يصب دما حراما)) رواه البخاري. وقال النبي : ((لزوال الدنيا - يعني كلها - أهون عند الله من قتل رجل مسلم)). ومن أجل حرمة النفس وتحريمها رتب الله على قتلها عقوبات في الآخرة وعقوبات في الدنيا. أما عقوبات الآخرة فقال تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ، أربع عقوبات عظيمة كل واحدة منها توجل القلب وتفزع النفس: جهنم خالدا فيها فيا ويله ما أصبره على نار جهنم وقد فضلت على نار الدنيا كلها بتسعة وستين جزءً، وغضب الله عليه وبئسما حصل لنفسه من غضب الرب العظيم عليه ولعنه فطرده وأبعده عن رحمته، وأعد له عذابا عظيما. ويل لقاتل المؤمن المتعمد ويل له من هذه العقوبات النار وغضب الجبار واللعنة والعذاب العظيم. وقال النبي : ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) ، وقال ابن عباس سمعت نبيكم : ((يقول يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به إلى العرش فيقول المقتول: يا رب هذا قتلني فيقول للقاتل: تعست - أي هلكت - ويذهب به إلى النار)). وقال النبي : ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)) ، هذه أيها المؤمنون عقوبة قاتل النفس بغير حق في الآخرة.
أما عقوبته في الدنيا فالقصاص: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون النفس بالنفس جزاء وفاقا كما أعدم أخاه المؤمن وأفقده حياته فجزاؤه أن يفعل به كما فعل ولقد جعل الله لولي المقتول سلطانا شرعيا وسلطانا قدريا أي قدرة في شرع الله وفي قضائه وقدره على قتل القاتل كما قال تعالى: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ، فهذه الآية كما تدل على أن الله جعل لولي المقتول سلطانا شرعيا في قتل القاتل فقد يفهم منها أن الله جعل له أيضا سلطانا قدريا بحيث يكون قادرا على إدراك القاتل وقتله فيهيئ الله من الأسباب ما يتمكن به من إدراكه والله على كل شيء قدير وبكل شيء محيط.
أيها المسلمون: وإن من حماية الله لأموالكم أن جعل عقوبة السارق قطع يده إذا تمت الشروط كما قال تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم حتى لو استعار منكم شخص شيئا يساوي ما يقطع به السارق ثم جحده وقال ما استعرت منك شيئا فتثبت عليه العارية فإنها تقطع يده بسبب جحوده العارية، كما ثبت ذلك في الصحيحين: ((أن امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي بقطع يدها فأهم قريشا شأنها فكلمه أسامة بن زيد فيها فقال: أتشفع في حد من حدود الله. ثم قام خطب الناس فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله - يعني أقسم بالله - لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
أما حماية الله للأعراض فقد ذكر الله جانبا كبيرا منها في سورة الحجرات في قوله: أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم إلى آخر الآية التي بعدها. وقال النبي : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) وأوجب الحد ثمانين جلدة على من قذف محصنا بالفاحشة وأوجب الحد على الزاني إن كان محصنا يرجم بالحجارة حتى يموت.
وإن كان غير محصن وهو الذي لم يتزوج فحده مائة جلدة وتغريب عام. وأما حد اللواط وهو إتيان الذكر الذكر فإنه القتل بكل حال إذا كانا بالغين غير مجنونين سواء كانا متزوجين أو غير متزوجين لقول النبي : ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على مقتضى هذا الحديث.
فاحمدوا الله أيها المؤمنون على الحماية لدينكم وأنفسكم وأموالكم وأعراضكم واسألوه أن يوفق المسلمين جميعا للقيام بشكره وامتثال أمره واجتناب نهيه فإن ذلك خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/805)
في التحذير من أخطار السيارات
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- وجوب شكر النعم والحذر من كفرها – نعمة السيارات وكيفية شكرها والحفاظ عليها -
مظاهر إساءة استخدام هذه النعمة – كثرة الحوادث وأثرها – وجوب الامتثال لقواعد المرور
ونظامه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى وقيدوا نعمه عليكم بشكرها وحسن التصرف فيها فإن الشكر به ازدياد النعم وحسن التصرف فيها به تتمحض نعما. أما إذا كفرت النعم فذلك سبب زوالها ومعول هدمها. قال الله عز وجل: لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور وقال سبحانه: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
أيها الناس: هذان مثلان لبلدين أنعم الله عليهما بنضارة الدنيا ورغد العيش بدلوا نعمة الله كفرا فأعرضوا عن دين الله وارتكبوا محارم الله فأبدلهم الله بنعمه نقما وبرغد العيش نكدا أفتظنون أنكم إذا كفرتم بنعم الله ناجون وعما وقع فيه أولئك مسلمون كلا فسنن الله في عباده واحدة ليس بين الله وبين أحد من الناس نسبا فيراعيه واسمعوا قول الله عز وجل: فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا وقول الله عز وجل: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها. وقول الله سبحانه في الحكم العام الشامل: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.
أيها الناس: إن مما أنعم الله به علينا في هذا العصر تلك السيارات التي ملأت البلاد والبر وقادها الصغير والكبير والعاقل والسفيه فهل نحن شكرنا هذه النعمة وهل نحن أحسنا التصرف فيها؟ لننظر. لقد استعمل بعض الناس هذه السيارات في أغراضه السيئة والوصول إلى مآربه السافلة فصار يفر بها إلى البراري ليتناول ما تهواه نفسه بعيدا عن الناس وعن أيدي الإصلاح ويخرج بها عن البلد ليضيع ما أوجب الله عليه من إقامة الصلاة في وقتها فهل يصح أن يقال لمثل هذا إنه شاكر لنعمة الله وهل يصح أن نقول إنه سالم من عقوبة الله كلا فهو لم يشكر نعمة الله ولم يسلم من عقوبته وليس عقوبة الله للعبد أن تكون عقوبة دنيوية مادية فهناك عقوبة أشد وهي عقوبة قسوة القلب وكونه يرى ما هو عليه من انتهاك المحرمات وإضاعة الواجبات يراه وكأنه لم يفعل شيئا يعاقب عليه بعد موته فلا يكاد يقلع عنه.
ولقد استعمل بعض الناس هذه السيارات فلم يحسن التصرف فيها وكلها إلى قوم صغار السن أو صغار العقول تجده يقود السيارة وهو صغير السن لا يكاد يرى من نافذتها وتراه يسوق السيارات وهو كبير السن ولكنه صغير العقل متهور لا يراعي الأنظمة ولا يبالي بالأرواح، سرعة جنونية في البلد وخارج البلد ونعني بالسرعة الجنونية كل سرعة تزيد على ما كان ينبغي أن يسير عليه ويختلف بحسب المكان وازدحام السكان فليست السرعة في البلد كالسرعة خارجه وليست السرعة في مكان كثير المنعطفات والمنافذ الشارعة فيه كالسرعة في مكان خط مستقيم ليس إلى جانبه منافذ وليست السرعة في مكان يكثر فيه الناس كالسرعة في مكان خال. تجده يسير مخالفا للأنظمة يحاول أن يجاوز من أمامه وهو لم يضمن السلامة يسير في الخط المعاكس لاتجاهه وهو لغيره فيوقع من قابله في الحيرة أو التلف.
إن كل عاقل ليعجب أن تعطى قيادة السيارات لهؤلاء الصغار الذين لا يستطيعون التخلص في ساعة الخطر وأن كل عاقل ليعجب من هؤلاء المتهورين الذين لا يراعون حرمة نظام الدولة ولا حرمة نفوس المسلمين مع أن الفرق في مراعاة النظام والسير المعتدل أمر بسيط فلو قدرنا أن شخصا أراد أن يسير بسرعة تبلغ مائة كيلو في الساعة فسار بسرعة ثمانين فمعناه أنه يتأخر سوى اثنتي عشرة دقيقة في سير ساعة كاملة وست دقائق في سير نصف ساعة وثلاث دقائق في سير ربع ساعة وما أيسر هذا التأخر الذي به وقاية النفس والمال من الخطر والذي يمكن أن يزول بأن يتقدم في مشيه بمقدار هذا التأخر.
أيها الناس لقد كثرت الحوادث من أجل هذه الأمور كثرة فاحشة فأصبح المصابون بها ما بين كسير وجريح وميت ليس بالأفراد فحسب ولكن بالأفراد أحيانا وبالجملة أحيانا ثم يترتب على هذه الحوادث: خسائر مالية وخسائر روحية وندم وحسرة في قلوب مسببي هذه الحوادث إن كانت قلوبهم حية تخشى الله وترحم عباد الله وتريد أن تسلك مع الناس بالسيرة الحسنة.
إن النفس إذا فقدت بهذه الحوادث لزم ذلك: 1 – إخراج هذا الميت من الدنيا وحرمانه من التزود بالعمل الصالح والاستعتاب من العمل السيئ. 2 – فقد أهله وأصحابه بالتمتع معه في الحياة. 3 – إرمال زوجته وإيتام أولاده إن كان ذا زوجة وعيال. 4 – غرامة ديته تسلم إلى ورثته. 5 – وجوب الكفارة حقا لله تعالى فكل من قتل نفسا خطأ أو تسبب لذلك أو شارك فيه فعليه الكفارة فلو اشترك اثنان في حادث وتلف به شخص فعلى كل واحد منهما كفارة كاملة والكفارة عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد كما هو الواقع في عصرنا فصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما يوما واحدا إلا من عذر شرعي فإن أفطر قبل إتمامها ولو بيوم واحد من دون عذر وجب استئنافهما من جديد وهذه الكفارة حق لله تعالى لا تسقط بعفو أهل الميت عن الدية فأهل الميت إذا عفوا عن الدية إنما يملكون إسقاط الدية إن رأوا في إسقاطها مصلحة، وأما الكفارة فلا يملكون إسقاطها لأنها حق الله عز وجل وهذه الكفارة أيضا تتعدد بتعدد الأموات بسبب الحادث فإن كان الميت واحدا فشهران وإن مات اثنان فأربعة أشهر وإن مات ثلاثة فستة أشهر وهكذا لكل نفس شهران متتابعان.
فاتقوا الله تعالى في أنفسكم واتقوا الله في إخوانكم المسلمين في أنفسهم وأموالهم واتقوا الله تعالى بطاعته وطاعة ولاة أموركم بالمعروف واعلموا أن مخالفة نظام الدولة ليس مخالفة لبشر فقط ولكن مخالفة للبشر ولخالق البشر فإن الله تعالى أمر بطاعة ولاة الأمر في غير معصية الله قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا.
وفقني الله وإياكم لطاعة الله ورسوله وطاعة ولاة الأمور والتمشي على ما فيه خيرنا وصلاحنا إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/806)
الحدود ووجوب إقامتها
فقه
الحدود
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جمع الشريعة بين الحكمة والرحمة. 2- تباين طبيعة البشر وإراداتهم بين الخير والشر.
3- النصوص الكثيرة في التحذير من الباطل وعاقبة أهله. 4- فرض الحدود لردع النفوس التي
لا ترتدع بالنصوص. 5- وجوب إقامة الحدود على الجميع دون تفريق. 6- حد القذف والزنى
وحكمتهما. 7- جريمة اللواط وخطورتها وعقوبة فاعلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله واعرفوا نعمته عليكم بهذا الدين القويم الكامل الجامع بين الرحمة والحكمة رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في سلوك الطريق الموصل إلى الإصلاح.
أيها الناس إن من طبيعة البشر أن يكون لهم إرادات متباينة ونزعات مختلفة فمنها نزعات إلى الحق والخير ومنها نزعات إلى الباطل والشر كما قال تعالى: هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقال تعالى: إن سعيكم لشتى ولما كانت النزعات إلى الباطل والشر في ضرورة إلى ما يكبح جماحها ويخفف من حدتها من وازع إيماني أو رادع سلطاني جاءت النصوص الكثيرة بالتحذير من الباطل والشر والترغيب في الحق والخير وبيان ما يترتب على الباطل والشر من مفاسد في الدنيا وعقوبة في الآخرة وما يترتب على الحق والخير من مصالح في الدنيا ومثوبات نعيم في الآخرة ولكن لما كان هذا الوازع لا يكفي في إصلاح بعض النفوس الشريرة الموغلة في الباطل والشر وكبح جماحها والتخفيف من حدتها فرض رب العالمين برحمته وحكمته عقوبات دنيوية وحدودا متنوعة بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتصلح الفاسد وتقيم الأعوج وتظهر الملة وتستقيم الأمة وتكفر جريمة المجرم فلا تجتمع له عقوبة الآخرة مع عقوبة الدنيا.
ففرض الله الحدود وأوجب على ولاة الأمور إقامتها على الشريف والوضيع والغني والفقير والذكر والأنثى والقريب منهم والبعيد ففي الحديث عن رسول الله : ((أقيموا حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم)). ولقد قال النبي لأسامة بن زيد رضي الله عنهما: حين شفع إليه في امرأة من بني مخزوم كانت تستعير الشيء فتجحده فأمر النبي بقطع يدها فشفع فيها أسامة فأنكر عليه النبي قال: ((أتشفع في حد من حدود الله)) ثم قام فاختطب وقال: ((إنما أهلك الذين كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله - أي أحلف بالله - لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) متفق عليه. الله أكبر هكذا الحق أشرف النساء نسبا فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة ويقسم رسول الله وهو الصادق البار أن لو سرقت لقطع يدها أين الثرى من الثريا أين هذا القول وما كان عليه الناس اليوم من المماطلات في إقامة الحدود والتعليلات الباردة والمحاولات الباطلة لمنع إقامة الحدود وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره)).
لقد فرض الله عقوبة القاذف الذي يرمي الشخص المحصن البعيد عن تهمة الزنا فيقول: يا زاني أو يا زانية فمن قال له ذلك قيل له: إما أن تأتي بالبينة الشرعية على ما قلت وإما حد في ظهرك فإذا لم يأت بها عوقب بثلاث عقوبات يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل له شهادة أبدا ويحكم بفسقه فيخرج عن العدالة إلا أن يتوب ويصلح يقول الله تعالى: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم.
وإنما أوجب الله عقوبته بتلك العقوبات حماية للأعراض ودفعا عن تهمة المقذوف البريء البعيد عن التهمة.
وفرض الله عقوبة الزاني وجعلها على نوعين نوع بالجلد مائة جلدة أمام الناس ثم ينفى عن البلد لمدة سنة كاملة وذلك فيما إذا لم يسبق له زواج تمتع فيه بنعمة الجماع المباح يقول الله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين. ويقول النبي : ((البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)). والنوع الثاني من عقوبة الزناة الرجم بالحجارة حتى يموت ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدعى له بالرحمة ويدفن مع المسلمين وتلك العقوبة فيمن سبق له زوج تمتع فيه بالجماع المباح وإن كان حين فعل الفاحشة لا زوج معه يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على منبر رسول الله : (إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وأن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل - يعني الحمل - أو الاعتراف). هكذا أعلن أمير المؤمنين على منبر رسول الله على الملأ حتى لا ينكر الرجم إذا لم يجدوا الآية في كتاب الله تعالى والله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت وقد نسخت آية الرجم من القرآن لفظا وبقي حكمها إلى يوم القيامة لتتميز هذه الأمة عن بني إسرائيل بالانقياد التام فبنو إسرائيل فرض عليهم رجم الزاني إذا أحصن ونصه في التوراة وحاولوا إخفاءه حين قرأ قارؤهم التوراة عند رسول الله وهذا الأمة نسخ الله لفظ آية الرجم فلا توجد فيه لفظا فعملوا بها لعلمهم ببقاء حكمها وتنفيذ رسولهم وخلفائه الراشدين لهذا الحكم. وإنما كانت عقوبة الزاني المحصن بهذه الصورة المؤلمة دون القتل بالسيف لأن هذه العقوبة كفارة للذة محرمة اهتز لها جميع بدنه فكان من المناسب والحكمة أن تشمل العقوبة جميع بدنه بألم تلك الحجارة.
إن عقوبة الزاني بهذين النوعين من العقوبة لفي غاية الحكمة والمناسبة: ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعلمون وإن إيجاب عقوبة الزاني من رجل أو امرأة لعين الرحمة للخلق لما فيه من القضاء على مفسدة الزنى المدمر للمجمعات المفسد للأخلاق والسلوك الموجب لضياع الأنساب واختلاط المياه المحول للمجتمع الإنساني إلى مجتمع بهيمي لا يهتم إلا بملء بطنه وشهوة فرجه: ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا.
أما اللواط وهو جماع الذكر فذلكم الفاحشة العظمى والجريمة النكراء هدم للأخلاق ومحق للرجولة وقتل للمعونة وجلب للدمار وسبب للخزي والعار وقلب للأوضاع الطبيعية تمتع في غير محله واستحلال في غير حله الفاعل ظالم لنفسه حيث جرها إلى هذه الجريمة والمفعول به مع ذلك مهين لنفسه حيث رضي أن يكون من ا لرجال بمنزلة النسوان لا تزول ظلمة الذل والهوان من وجهه حتى يموت أو يتوب توبة نصوحا يستنير بها قلبه ووجهه وكلاهما الفاعل والمفعول به ظالم لمجتمعه حيث نزلوا بمستوى المجتمع إلى هذه الحال المقلوبة التي لا ترضاها ولا البهائم ومن أجل مفاسده العظيمة كانت عقوبته أعظم من عقوبة الزنى ففي الحديث عن النبي أنه قال: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) ، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل الفاعل والمفعول به قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: لم يختلف أصحاب رسول الله في قتله سواء كان فاعلا أم مفعولا به ولكن اختلفوا كيف يقتل فقال بعضهم: يرجم بالحجارة، وقال بعضهم: يلقى من أعلى شاهق في البلد، وقال بعضهم: يحرق بالنار وإنما كانت هذه عقوبة تلك الفاحشة لأنها قضاء على تلك الجرثومة الفاسدة التي إذا ظهرت في المجتمع فيوشك أن تدمره تدمير النار للهشيم ففي القضاء عليها مصلحة الجميع وحماية المجرمين أن يملى لهم في البقاء في الدنيا فيزدادوا إثما وطغيانا والله عليم حكيم.
اللهم إنا نسألك أن تحمينا وأمتنا عن مساوئ الأخلاق وعن موجبات سخطك وعقابك وأن تهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/807)
الخمر وحكمها
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله وشكره علىما أنعم من الطيبات وكيفية ذلك. 2- ما حرم الله من المطاعم
والمشارب إلا الضار. 3- الخمر تعريفها وحكمها وحكم من يستحل شربها. 4- حد شارب
الخمر وعقوبته في الآخرة. 5- مضار الخمر وآثارها الدنيوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اتقوا الله تعالى وتمتعوا بما أحل لكم من الطيبات واشكروه عليها بالقيام بطاعته فإن الشكر سبب للمزيد: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون واجتنبوا ما حرم عليكم من المطاعم والمشارب لعلكم تفلحون فإن الله لم يحرمها عليكم إلا لضررها ولو كانت خيرا ما حرمها عليكم فإن الله ذو الفضل العظيم. فلم يحرم عليكم إلا ما فيه ضرر في دينكم أو دنياكم أو فيهما جميعا قال الله تعالى في وصف نبيكم : يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.
أيها المسلمون أيها المؤمنون بمحمد إن من الخبائث التي حرم الله عليكم على لسان نبيكم بالوحي الذي أوحى إليه ذلك الشراب الخبيث: الخمر، وهو كل شيء مسكر من مطعوم أو مشروب قال النبي : ((كل مسكر خمر)) وقال عمر بن الخطاب على منبر رسول الله : (الخمر ما خامر العقل) متفق عليهما، ومعنى خامر العقل غطاه بالسكر والذهول فالخمر ليس من نوع معين مخصوص بل هو كل ما أسكر وغطى العقل واختل به التمييز سكرا وتلذذا.
أيها المسلمون إن الخمر حرام بكتاب الله تعالى حرام بسنة رسول الله حرام بإجماع المسلمين إجماعا قطعيا معلوما بالضرورة من دين الإسلام لا خلاف فيه ولا نزاع ولا إشكال ولا لبس قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون.
وقال النبي : ((كل خمر - وفي رواية: كل مسكر - حرام)) رواه مسلم. وأجمع علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وقديم الزمان وحديثه على أن الخمر حرام إجماعا قطعيا لا ريب فيه فمن قال: إنه حلال فهو كافر يستتاب فإن تاب وأقر بتحريمها ترك وإلا قتل كافرا مرتدا لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وإنما يرمس بثيابه في حفرة بعيدة لئلا يتأذى المسلمون برائحته وأقاربه بمشاهدته ولا يرث أقاربه من ماله وإنما يصرف ماله في مصالح المسلمين ولا يدعى له بالرحمة ولا النجاة من النار لأنه كافر مخلد في نار جهنم: إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا.
أيها المسلمون إن من اعتقد أن الخمر حلال فهو مضاد لله مكذب لرسول الله خارج عن إجماع المسلمين: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا. أما من شرب الخمر وهو يؤمن ويعتقد بأنها حرام ولكن سولت له نفسه بها فشربها فهو عاص لله فاسق عن طاعته مستحق للعقوبة عقوبته في الدنيا أن يجلد بما يراه ولاة الأمور رادعا له ولغيره بشرط أن لا ينقص عما جاء عن السلف الصالح. كان شارب الخمر في عهد النبي يضرب نحو أربعين ولم يسنه بقدر معين بل كان الناس يقومون إليه فيضربونه بالأيدي والجريد والأردية والنعال فلما عثا الناس فيها وفسقوا جمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم في عقوبة تكون أردع للناس الفاسقين بشربها فقال عبد الرحمن بن عوف : أخف الحدود ثمانين. فجعله عمر ثمانين فإذا تكرر من الشارب الشرب وهو يعاقب ولا يرتدع فقال ابن حزم: يقتل في الرابعة. وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: يقتل في الرابعة عند الحاجة إليه، إذا لم ينته الناس بدون القتل. وهذا عين الفقه لأن الصائل على الأموال إذا لم يندفع إلا بالقتل قُتل فما بالكم بالصائل على أخلاق المجتمع وصلاحه وفلاحه لأن ضرر الخمر لا يقتصر على صاحبه بل يتعداه إلى نسله ومجتمعه.
هذه عقوبة شارب الخمر في الدنيا أما عقوبته في الآخرة فقال أنس بن مالك : ((لعن رسول الله في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له)) قال في الترغيب: رواته ثقات. وقال : ((من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة)) رواه مسلم. وقال: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر)) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم. وقال : ((مدمن الخمر إن مات لقى الله كعابد وثن)) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح قاله في الترغيب.
فاتقوا الله أيها المسلمون واجتنبوا الخمر لعلكم تفلحون فلقد وصفت الخمر بأقبح الصفات في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله وصفها الله بأنها رجس من عمل الشيطان وقرنها بالميسر والأزلام وعبادة الأوثان: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان وقال النبي : ((اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر)) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. وصدق رسول الله فإن الخمر مفتاح كل شر وجماع الإثم كله. إن شاربها يفقد عقله ويلتحق بالمجانين إنه ربما يقتل نفسه وهو لا يشعر وربما يزني وهو لا يشعر وربما يعتدي على غيره وهو لا يشعر. روى البيهقي بإسناد صحيح عن عثمان بن عفان أنه قال: (اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ، كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فأحبته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة فجاء البيت ودخل معها فكانت كلما دخل بابا أغلقه دونه حتى وصل إلى امرأة وضيئة (أي حسناء جميلة) جالسة عندها غلام وإناء خمر فقالت له إنها ما دعته لشهادة وإنما دعته ليقع عليها أو يقتل الغلام أو يشرب الخمر فلما رأى أنه لابد له من أحد هذه الأمور تهاون بالخمر فشربه فسكر ثم زنى بالمرأة وقتل الغلام) قال أمير المؤمنين عثمان: (فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه) ومصداق ما قاله أمير المؤمنين قول النبي : ((لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) متفق عليه. وللنسائي: ((فإذا فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فإن تاب الله عليه)) وللحاكم: ((من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه)).
أيها المسلمون إن الخمر نقص في الدين وضرر في العقل والنفس والمجتمع؛ أما نقص الدين فقد بان لكم من كتاب الله وسنة رسوله وخلفائه الراشدين ما فيه كفاية وأما ضررها في العقل فإنها تمحوه حين شربها إذا سكر وتضعف العقل بعد الصحو وربما أدى شربها إلى الجنون الدائم كما هو معلوم من أقوال أهل الطب.
وأما ضرر الخمر في النفس فإن شارب الخمر تجده دائما في ضيق وغم وقلق نفس كل كلمة تثيره وكل عمل يضجره لأن قلبه معلق بالخمر لا يسر إلا بتناولها ولا يفرح إلا بالاجتماع عليها فلا يتقن عملا ولا يثمر نتيجة.
وأما ضرر الخمر في المجتمع فهو إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس وقتل المعنويات العالية والأخلاق الفاضلة والإغراء بالزنا واللواط وكبائر الإثم والفواحش كما شهد بذلك الخبيرون بالجرائم وأسبابها.
فاتقوا الله عباد الله واسألوه العصمة من كبائر الإثم والفواحش والتوبة من جميع الإثم والمعاصي وتعاونوا على البر والتقوى ومنع الإثم والعدوان.
اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء ووفقنا للتوبة النصوح والإنابة إليك واغفر لنا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/808)
في الحث على الصلاة وأدائها جماعة
فقه
الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ، عباد الله الصلاة عمود دينكم وقوامه فلا دين لمن لا صلاة له لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة إقامة الصلاة إيمان وإضاعتها كفر من حافظ عليها كانت له نورا في قلبه ووجهه وقبره وحشره وكانت له نجاة يوم القيامة وحشر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا نجاة يوم القيامة وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
أيها المسلمون: كيف تضيعون الصلاة وهي الصلة بينكم وبين ربكم إذا لم يكن بينكم وبين ربك صلة فأين العبودية وأين المحبة لله والخضوع له لقد خاب وخسر قوم إذا سمعوا داعي الدنيا وزهرتها لبوا له سراعا وإذا سمعوا منادي الله يدعوا حي على الفلاح تغافلوا عنه وولوا دبارا. أيها المسلمون ألم تعلموا أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله. يا أمة محمد من منكم عنده أمان من الموت حتى يتوب ويصلي أليس كل منكم يخشى الموت ولا يدري أيصبحه أم يمسيه ألم يكن الموت يأخذ الناس بغتة وهم لا يشعرون أما هجم على أناس وهم في دنياهم غافلون أما بلغت أناسا خرجوا من بيوتهم ولم يرجعوا فمن منكم أعطي أمانا ألا يكون حاله كهؤلاء. أيها المسلمون وماذا بعد هذا الموت الذي لا تدرون متى يفجؤكم؟ لا شيء بعده سوى الجزاء على ما قدمتم إما خير فتسرون به وإما شر فتساؤن به وتندمون فإن الإنسان إذا مات انقطع عمله ولم يبق إلا الجزاء. أيها المسلمون إذا كنتم تعترفون بذلك ولا تنكروه أفليس من الجدير بكم أن تبادروا التوبة إلى ربكم والرجوع إليه والقيام بطاعته واجتناب معصيته.
أيها المسلمون أيها المؤمنون بمحمد وما أنزل إليه من ربه أن مما هو واجب عليكم في صلاتكم أن تؤدوها في المساجد جماعة مع المسلمين فإن ذلك من واجباتها ومن أقامتها ومن حفظها المصلي مع الجماعة قائم بما فرض الله عليه والمتخلف عن الجماعة بلا عذر عاص لربه مخاطر بصلاته فإن بعض علماء المسلمين يقول من ترك الصلاة مع الجماعة بدون عذر، فصلاته باطلة لا تبرأ بها ذمته. المصلي في الجماعة هو الكيس الحازم الحائز للغنيمة فإن الصلاة مع الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة والمتخلف عن الجماعة كسول مهمل محروم وما أشبه حاله مجال المنافقين الذين قال الله فيهم: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى وقال فيهم نبيه : ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبوا والذي نفس محمد بيده لو يجد أحدهم عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء والعرق عرموش العظيم)). والمرماة ما بين الضلعين من اللحم والمعنى أن النبي أقسم أن هؤلاء المنافقين لو يعلمون أنهم يجدون شيئا حقيرا من الدنيا لسارعوا إليها والواقع أن حال كثير من هؤلاء المتخلفين هي كما ذكر النبي عن حال المنافقين فإن أحدهم لو كان له شغل من الدنيا وقت طلوع الفجر لوجدته يرقب النجوم ويعد الساعات لعله يأتيه هذا الوعيد. المصلي مع الجماعة يصليها بنشاط وطمأنينة فإن الناس بلا شك ينشط بعضهم بعضا على العبادة والمتخلف عن الجماعة تثقل عليه الصلاة فيصليها بكسل وإسراع ينقرها نقر الغراب وربما أخرها عن وقتها وذلك هو الخسار والدمار. صلاة الجماعة تجلب المودة والألف والاتفاق وتنير المساجد بذكر الله وتظهر فيها شعائر الإسلام في صلاة الجماعة تعليم الجاهل وتذكير الغافل وعدد من المصالح الدينية والدنيوية. أرأيتم لو لم تكن الجماعة مشروعة وسبحان الله أن يكون ذلك فماذا تكن الحال ؟ إن الحال أن تكون الأمة متفرقة والمساجد مغلقة والناس ليس لهم مظهر جماعي في دينهم ولكن الحمد لله الذي شرعها وأوجبها على المسلمين فاشكروا ربكم أيها المسلمون على هذه النعمة وقوموا بهذا الواجب واخجلوا من إضاعتها واحذروا من عقاب ربكم وسطوته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين.
بارك الله لي لكم في القرآن العظيم.... الخ.
أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ، عباد الله الصلاة عمود دينكم وقوامه فلا دين لمن لا صلاة له لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة إقامة الصلاة إيمان وإضاعتها كفر من حافظ عليها كانت له نورا في قلبه ووجهه وقبره وحشره وكانت له نجاة يوم القيامة وحشر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا نجاة يوم القيامة وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
أيها المسلمون: كيف تضيعون الصلاة وهي الصلة بينكم وبين ربكم إذا لم يكن بينكم وبين ربك صلة فأين العبودية وأين المحبة لله والخضوع له لقد خاب وخسر قوم إذا سمعوا داعي الدنيا وزهرتها لبوا له سراعا وإذا سمعوا منادي الله يدعوا حي على الفلاح تغافلوا عنه وولوا دبارا. أيها المسلمون ألم تعلموا أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله. يا أمة محمد من منكم عنده أمان من الموت حتى يتوب ويصلي أليس كل منكم يخشى الموت ولا يدري أيصبحه أم يمسيه ألم يكن الموت يأخذ الناس بغتة وهم لا يشعرون أما هجم على أناس وهم في دنياهم غافلون أما بلغت أناسا خرجوا من بيوتهم ولم يرجعوا فمن منكم أعطي أمانا ألا يكون حاله كهؤلاء. أيها المسلمون وماذا بعد هذا الموت الذي لا تدرون متى يفجؤكم؟ لا شيء بعده سوى الجزاء على ما قدمتم إما خير فتسرون به وإما شر فتساؤن به وتندمون فإن الإنسان إذا مات انقطع عمله ولم يبق إلا الجزاء. أيها المسلمون إذا كنتم تعترفون بذلك ولا تنكروه أفليس من الجدير بكم أن تبادروا التوبة إلى ربكم والرجوع إليه والقيام بطاعته واجتناب معصيته.
أيها المسلمون أيها المؤمنون بمحمد وما أنزل إليه من ربه أن مما هو واجب عليكم في صلاتكم أن تؤدوها في المساجد جماعة مع المسلمين فإن ذلك من واجباتها ومن أقامتها ومن حفظها المصلي مع الجماعة قائم بما فرض الله عليه والمتخلف عن الجماعة بلا عذر عاص لربه مخاطر بصلاته فإن بعض علماء المسلمين يقول من ترك الصلاة مع الجماعة بدون عذر، فصلاته باطلة لا تبرأ بها ذمته. المصلي في الجماعة هو الكيس الحازم الحائز للغنيمة فإن الصلاة مع الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة والمتخلف عن الجماعة كسول مهمل محروم وما أشبه حاله مجال المنافقين الذين قال الله فيهم: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى وقال فيهم نبيه : ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبوا والذي نفس محمد بيده لو يجد أحدهم عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء والعرق عرموش العظيم)). والمرماة ما بين الضلعين من اللحم والمعنى أن النبي أقسم أن هؤلاء المنافقين لو يعلمون أنهم يجدون شيئا حقيرا من الدنيا لسارعوا إليها والواقع أن حال كثير من هؤلاء المتخلفين هي كما ذكر النبي عن حال المنافقين فإن أحدهم لو كان له شغل من الدنيا وقت طلوع الفجر لوجدته يرقب النجوم ويعد الساعات لعله يأتيه هذا الوعيد. المصلي مع الجماعة يصليها بنشاط وطمأنينة فإن الناس بلا شك ينشط بعضهم بعضا على العبادة والمتخلف عن الجماعة تثقل عليه الصلاة فيصليها بكسل وإسراع ينقرها نقر الغراب وربما أخرها عن وقتها وذلك هو الخسار والدمار. صلاة الجماعة تجلب المودة والألف والاتفاق وتنير المساجد بذكر الله وتظهر فيها شعائر الإسلام في صلاة الجماعة تعليم الجاهل وتذكير الغافل وعدد من المصالح الدينية والدنيوية. أرأيتم لو لم تكن الجماعة مشروعة وسبحان الله أن يكون ذلك فماذا تكن الحال ؟ إن الحال أن تكون الأمة متفرقة والمساجد مغلقة والناس ليس لهم مظهر جماعي في دينهم ولكن الحمد لله الذي شرعها وأوجبها على المسلمين فاشكروا ربكم أيها المسلمون على هذه النعمة وقوموا بهذا الواجب واخجلوا من إضاعتها واحذروا من عقاب ربكم وسطوته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين.
بارك الله لي لكم في القرآن العظيم.... الخ.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/809)
بعض آيات النبي صلى الله عليه وسلم
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الشمائل, معجزات وكرامات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لكل نبي معجزة تثبت صدقة في دعوى النبوة. 2- القرآن الكريم معجزة نبينا الخالدة.
3- استدلال ملك غسان بحسن أخلاق النبي على صدقه ونبوته. 4- ذكر بعض المعجزات
الكونية والحسية للنبي الكريم. 5- من آيات رسول الله اخباره بالغيب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الله تعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولذلك أيدهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم وصحة رسالتهم قال الله تعالى: لقد أرسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. وقال النبي : ((ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر)) فأيدهم الله تعالى بالبينات لتقوم الحجة على كل معاند وليؤمن من آمن عن اقتناع وبصيرة فينشرح صدره للإيمان ويطمئن إليه قلبه. ولقد كان لنبينا محمد من هذه الآيات أعظمها وأجلها كانت آياته آيات شرعية وآيات كونية. أما الآيات الشرعية فأعظمها هذا القرآن العظيم، يقول الله تعالى للذين يطلبون آيات للنبي : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون. ويقول النبي : ((وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)) ، نعم إن هذا القرآن العظيم لآية كبرى للنبي لأنه جاء مصدقا لكتب الله السابقة وحاكما عليه وناسخا لها: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. كان هذا القرآن آية كبرى للنبي لأنه كان على وصف رسالته في عمومها وشمولها وصلاحها وإصلاحها فهو كتاب عام شامل صالح لكل زمان ومكان مصلح لأمور الدنيا والآخرة فهو أساس الشريعة شاهدة له كان القرآن آية كبرى للنبي لما يشتمل عليه من الأخبار الصادقة الهادفة والقصص الحسنى المملوءة عبرة وتربية والأحكام العادلة المرضية والإصلاحات الاجتماعية والفردية. وكان القرآن آية كبرى في لفظه ومعناه وأثره في النفوس وآثاره في الأمة فهو آية للأمة كلها من أولها إلى آخرها، كل المسلمين يتلونه اليوم كما يتلوه أول هذه الأمة ويمكنهم أن ينهلوا من معين أحكامه وحكمه كما نهل منها الرعيل الأول: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. ومن آيات النبي هذه الشريعة الكاملة في العقيدة والعبادة والأخلاق والآداب والمعاملات وتنظيم سلوك العبد فيما بينه وبين ربه وفيما بينه وبين الخلق، لو اجتمع العالم كلهم على أن يأتوا بمثل هذه الشريعة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لأنها شريعة الله العليم بما يصلح خلقه الحكيم بما يشرعه لهم الرحيم بما يكلفهم به. وإن كل ما جاء من صلاح أو إصلاح في أي نظام من النظم فإن في الشريعة المحمدية الإسلامية ما هو أصلح منه وأنفع للخلق. وإذا كان البشر لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه الشريعة في صلاحها وإصلاحها كان ذلك آية وبرهانا على أن شريعة محمد هي شريعة الله تعالى.
وأما الآيات الكونية الدالة على رسالته فكثيرة جدا لا تمكن الإحاطة بها فمنها ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق ومعالي الآداب ومحاسن الأعمال قال ملك غسان وقد دعاه النبي إلى الإسلام: والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له وأنه يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر ويفي بالعهد وينجز بالموعود وأشهد أنه نبي. وقال شيخ وقال الإسلام ابن تيميه في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) وهو كتاب قيم ينبغي للمسلم قراءته لا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه انتشار النصارى بين المسلمين في القطاع الحكومي والشعبي ليكون الإنسان على بصيرة من أمرهم قال شيخ الإسلام: إن سيرة النبي وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا من صميم سلالة إبراهيم وكان من أكمل الناس تربية ونشأة لم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق وترك الفواحش والظلم لا يعرف له شيء يعاب به ولا جرت عليه كذبة قط ولا ظلم ولا فاحشة بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وظهور على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة.
ومن آيات النبي الكونية ما شاهده الناس في الآفاق السماوية والآفاق الأرضية ففي الآفاق السماوية كثرت الشهب في السماء لإحراق الشياطين التي تستمع أخبار السماء كثرت الشهب حماية لوحي الله الذي نزله على محمد قال الله تعالى عن الجن: وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا. وطلبت قريش من النبي آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا غار حراء بينهما وكانت كل شقة منه على حذاء جبل وأسري بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى واجتمع إليه الأنبياء فصلى بهم إماما ثم عرج به إلى السماوات وقابل في كل سماء من قابل من الأنبياء والرسل وسلم عليهم فردوا عليه وحيوه وبلغ سدرة المنتهى ومكانا سمع فيه صريف الأقلام وكلمه الله تعالى بما أراد وتراجع بين الله تعالى وبين موسى فيما فرض الله عليه من الصلوات وعرضت عليه الجنة وأدخلها وعرضت عليه النار فرآها كل هذا كان في ليلة بل في بعض ليلة وهو من أعظم آيات الله الدالة على صدق نبينا محمد قال الله عز وجل: لقد رأى من آيات ربه الكبرى.
وجاءه رجل وهو يخطب يوم الجمعة فقال ادع الله أن يغيثنا فثار السحاب أمثال الجبال فما نزل عن المنبر حتى كان المطر يتحادر عن لحيته فبقي أسبوعا حتى دخل رجل في الجمعة الأخرى فقال ادع الله أن يمسكها عنا فدعا ودعا يشير إلى السحاب فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت فخرج الناس يمشون في الشمس.
وفي الآفاق الأرضية شاهد الناس من آيات النبي شيئا كثيرا فمنها ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: عطش الناس وكان بين يدي النبي ركوة – الركوة إناء من جلد – فجهش الناس نحوه فقال مالكم قالوا ليس عندنا ماء نشرب ولا نتوضأ إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا قيل لجابر: كم كنتم كنا ألفا وخمسمائة ولو كنا مائة ألف لكفانا.
وأتى أنس إلى رسول الله وهو في جملة من أصحابه قد عصب بطنه من الجوع فذهب أنس إلى أبي طلحة وهو زوج أمه فأخبره بما شاهد من النبي فقال أبو طلحة لأم سليم زوجته: هل من شيء؟ قالت: نعم كسر من خبز وتمرات إن جاء رسول الله وحده أشبعناه وإن جاء معه آخر قل عنهم. قال أنس: فذهبت إلى النبي فنظر إلي فقلت: أجب أبا طلحة فقال النبي لمن معه: ((قوموا)) فإذا أبو طلحة على الباب فقال يا رسول الله إنما هو شيء يسير فقال : ((هاته فإن الله سيجعل فيه البركة)) ثم أمر بسمن فصب عليه ودعا فيه ثم قال: ((ائذن لعشرة)) فقال: ((كلوا وسمو الله)) ثم أدخلهم عشرة عشرة وكانوا ثمانين حتى شبعوا ثم أكل رسول الله وأهل البيت حتى شبعوا وأهدوا البقية للجيران.
وكان النبي يخطب الجمعة إلى جذع نخلة في المسجد فلما صنع له المنبر وقام عليه أول جمعة حن الجذع إلى رسول الله كما تحن العشار حتى نزل النبي إليه فوضع عليه يده يسكنه حتى سكن. وكان من آياته ما أخبر به من أمور الغيب التي وقعت طبقا لما أخبر كأنما يشاهدها بعينه كقوله : ((يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم)). وقوله : ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)) فقد كان ذلك ولله الحمد فما زال في هذه الأمة أمة قائمة بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم على كثرة ما غزي دينهم من أعدائهم حتى في عهد النبي من اليهود والنصارى والمشركين فعن أنس بن مالك قال: كان رجل نصراني فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له وأعمقوا فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له وأعمقوا في الأرض ما استطاعوا فأصبح وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه وتركوه منبوذا وهكذا ينتصر الله من أعداء الله تعالى ويري الناس فيهم آياته حتى يتبين لهم الحق.
فاتقوا الله أيها المسلمون وثقوا بوعد الله إن كنتم صادقين ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/810)
في حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- فضل الصحابة ومكانتهم والخلفاء الراشدين خاصة – مكانة الفاروق عمر وفضله وأثر
إسلامه – خلافته وسيرته وشدته في الحق وهديه في معاملة أهل الكتاب – شهادته رضي الله عنه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا حكمته البالغة في شرعه وخلقه وتقديره فإنه سبحانه اختار نبيه محمدا للرسالة إلى الخلق بهذا الدين الكامل لينشره بين العالمين واختار له من الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقومها عملا وأقلها تكلفا جاهدوا في الله حق جهاده في حياة نبيهم وبعد وفاته فنصر الله بهم الدين ونصرهم به وأظهرهم على كل الأديان وأهلها.
كان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون فكانت خلافتهم أفضل خلافة في مستقبل الزمان وماضيه تشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان وأبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب وأبو عبد الله ذو النورين عثمان عفان وأبو الحسن ابن عم النبي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. وكان أفضلهم خليفة رسول الله ورفيقه في الغار الذي نطق به رسول الله عام الحديبية حين اشتد الأمر على كثير من المهاجرين والأنصار وثبت الله به المسلمين يوم وفاة النبي ونصر الله به الإسلام حين ارتد من ارتد من العرب بعد موت النبي. وكان من بركته على هذه الأمة ونصحه لها ووفور عقله وصدق فراسته أن استخلف على الأمة بعده وزيره وقرينه عمر بن الخطاب الذي قال فيه النبي : (( لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر)). وقال يخاطب عمر: ((والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك)) وسأل عمرو بن العاص رسول الله عن أحب الرجال إليه فقال: ((أبو بكر قال ثم من قال ثم عمر بن الخطاب وعد رجالا)). وأخبر النبي أنه كان ينزع من بئر فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين – يعني دلوا أو دلوين – ثم قال: أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر فاستحالت في يده غربا فلم أرى عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن ولقد صدق الله ورسوله الرؤيا فتولى الخلافة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر رضي الله عنهما وقوي سلطان الإسلام وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها ففتحت بلاد الشام والعراق ومصر وأرمينية وفارس حتى إنه قيل إن الفتوحات في عهده بلغت ألفا وستا وثلاثين مدينة مع سوادها بنى فيها أربعة آلاف مسجد وكان مع سعة خلافته مهتما برعيته قائما فيهم خير قيام. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: إن الله أعز به الإسلام وأذل به الشرك وأهله أقام شعائر الدين الحنيف ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام مطيعا في ذلك الله ورسوله وقافا عند كتاب الله ممتثلا لسنة رسول الله محتذيا حذو صاحبيه مشاورا في أموره السابقين الأولين مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم ممن له علم أو رأي أو نصيحة للإسلام وأهله حتى إن العمدة في الشروط على أهل الذمة على شروطه، فقد شرط على أهل الذمة من النصارى وغيرهم ما ألزموا به أنفسهم من إكرام المسلمين والتميز عليهم في اللباس والأسامي وغيرها وأن لا يظهروا الصليب على كنائسهم ولا في شيء من طرق المسلمين وأن لا ينشروا كتبهم أو يظهروها في أسواق المسلمين ولقد كان يمنع من استعمال الكفار في أمور الأمة أو إعزازهم بعد أن أذلهم الله قال أبو موسى الأشعري قلت لعمر : إن لي كاتبا نصرانيا فقال مالك: قاتلك الله أما سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود ولا النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ألا اتخذت حنيفا - يعني مسلما – قال: قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله. وكتب إليه خالد بن الوليد يقول: إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به فكتب إليه عمر: لا تستعمله فكتب خالد إلى عمر: إنه لا غنى بنا عنه فرد عليه لا تستعمله فكتب إليه خالد: إذا لم نستعمله ضاع المال فكتب إليه عمر: مات النصراني والسلام. ولقد كانت هذه السياسة الحكيمة لعمر من منع تولي غير المسلمين لأمور المسلمين وإن كانت شيئا بسيطا كانت هذه السياسة مستوحاة من سياسة النبي حيث لحقه مشرك ليقاتل معه فقال النبي : ((إني لا أستعين بمشرك)).
ولقد كان أمير المؤمنين عمر مع هذا الحزم والحيطة لأمور المسلمين في مجانبة أعدائهم والغلظة عليهم سببا قويا لنصر الإسلام وعزة المسلمين وكان يكتب إلى عماله يحذرهم من الترفع والإسراف كتب إلى عتبة بن فرقد وهو في أذربيجان فقال: يا عتبة إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولباس الحرير. وكان لا يحابي في دين الله قريبا ولا صديقا. الناس عنده سواء. يروى عنه أنه كان إذا نهى عن شيء جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنه لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم والله لا أجد أحدا منكم فعل ما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة. وكان يقوم في الناس في مواسم الحج فيقول: إني لا أبعث عليكم عمالي ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم ويحكموا فيكم بسنة نبيكم فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي. وكان مهتما بأمور الرعية صغيرها وكبيرها. خرج ذات ليلة إلى الحرة ومعه مولاه أسلم فإذا نار تسعر فقال: يا أسلم ما أظن هؤلاء إلا ركبا قصر بهم الليل والبرد فلما وصل مكانها إذا هي امرأة معها صبيان يتضاغون من الجوع قد نصبت لهم قدر ماء على النار تسكتهم به ليناموا فقال عمر: السلام عليكم يا أهل الضوء وكره أن يقول يا أهل النار ما بالكم وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت المرأة: يتضاغون من الجوع قال: فأي شيء في هذا القدر قالت: ماء أسكتهم به أوهمه أني أصنع طعاما حتى يناموا والله بيننا وبين عمر فقال: يرحمك الله وما يدري عمر بكم قالت: أيتولى أمرنا ويغفل عنا. فبكى عمر ورجع مهرولا فأتى بعدل من دقيق وجراب من شحم وقال لأسلم أحمله على ظهري قال أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين فقال أنت تحمل وزري يوم القيامة فحمله حتى أتى المرأة فجعل يصلح الطعام لها وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل من لحيته حتى نضج الطعام فأنزل القدر وأفرغ منه في صحفة لها فأكل الصبية حتى شبعوا وجعلوا يضحكون ويتصارعون فقالت: المرأة جزاك الله خيرا أنت أولى بهذا الأمر من عمر فقال لها عمر: قولي خيرا.
أيها المسلمون هكذا كانت سيرة الخلفاء في صدر هذا الأمة حين كانت الرعية قائمة بأمر الله خائفة من عقابه راجية لثوابه فلما بدلت الرعية وغيرت وظلمت نفسها تبدلت أحوال الرعاة و: ((كما تكونون يولى عليكم)).
أيها المسلمون مع هذه السيرة العظيمة فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قتل شهيدا في آخر شهر ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة من الهجرة فقد خرج لصلاة الصبح وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فطعنه غلام مجوسي فتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه في الصلاة. فرضي الله عن عمر وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا لقد كان خيرة الصحابة الذين قال الله فيهم: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/811)
في بداية العام الهجري
الإيمان
الولاء والبراء
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العمل بالتاريخ الهجري وبدايته. 2- خطورة العدول عن التاريخ الهجري إلى تاريخ
الميلادي. 3- عدم انضباط التاريخ الميلادي وموقف النصارى من تعديله. 4- حكم التهنئة
والاحتفال ببداية العام الهجري. 5- كيف يستقبل المسلم أيامه وشهوره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: فإننا هذا الأسبوع نستقبل عاما جديدا إسلاميا هجريا ابتداء عقد سنواته من أجل مناسبة في الإسلام ألا وهي هجرة النبي التي ابتدأ بها تكوين الأمة الإسلامية في بلد إسلامي مستقل يحكمه المسلمون ولم يكن التاريخ السنوي معمولا به في أول الإسلام حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته كتب إليه أبو موسى الأشعري : إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ. فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم فيقال إن بعضهم قال: أرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها كلما هلك ملك أرخوا بولاية من بعده فكره الصاحبة ذلك فقال بعضهم: أرخوا بتاريخ الروم فكرهوا ذلك أيضا فقال بعضهم: أرخوا من مولد النبي وقال آخرون: من مبعثه وقال آخرون: من مهاجره فقال عمر الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها فأرخوا من الهجرة واتفقوا على ذلك ثم تشاوروا من أي شهر يكون ابتداء السنة فقال بعضهم: من رمضان الذي قدم فيه النبي المدينة مهاجرا واختار عمر وعثمان علي أن يكون من المحرم لأنه شهر حرام يلي شهر ذي الحجة الذي يؤدي المسلمون فيه حجهم الذي به تمام أركان دينهم والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي والعزيمة على الهجرة فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر المحرم الحرام.
أيها المسلمون إن من المؤسف حق أن يعدل المسلمون أكثرهم اليوم عن التاريخ الإسلامي الهجري إلى تاريخ النصارى الميلادي الذي لا يمت إلى دينهم بصلة ولئن كان بعضهم شبهة من العذر حين استعمر بلادهم النصارى وأرغموهم على أن يتناسوا تاريخهم الإسلامي الهجري فليس لهم الآن أي عذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي وقد أزال الله عنهم كابوس المستعمرين وظلمهم وغشمهم ولقد سمعتم ما قيل من أن الصحابة رضي الله عنهم كرهوا التأريخ بتاريخ الفرس والروم.
أيها المسلمون إننا اليوم نستقبل عاما جديدا إسلاميا هجريا شهوره الشهور الهلالية التي هي عند الله تعالى في كتابه كما قال تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم الشهور التي جعلها الله تعالى مواقيت للعالم كلهم قال الله عز وجل: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس مواقيت للناس كلهم بدون تخصيص لا فرق بين عرب وعجم ذلك لأنها علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد يعرف بها دخول الشهر وخروجه فمتى رؤي الهلال من أول الليل دخل الشهر الجديد وخرج الشهر السابق. ليست كالشهور الإفرنجية شهورا وهمية غير مبنية على مشروع ولا معقول ولا محسوس بل هي شهور اصطلاحية مختلفة بعضهم واحد وثلاثون يوما وبعضهم ثمانية وعشرين يوما وبعضهم بين ذلك لا يعلم لهذا الاختلاف سبب حقيقي معقول أو محسوس ولهذا طرحت مشروعات في الآونة الأخيرة لتغيير هذه الأشهر على وجه منضبط لكنها عورضت من قبل الأحبار والرهبان فتأمل أيها المسلم كيف يعارض رجال دين اليهود والنصارى في تغيير أشهر وهمية مختلفة إلى اصطلاح أضبط لأنهم يعلمون ما لذلك من خطر ورجال دين الإسلام ساكتون بل مقرون لتغيير التوقيت بالشهور الإسلامية بل العالمية التي جعلها الله لعباده حيث عدل عنها المسلمون لتغيير التوقيت بالشهور الإفرنجية. وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله فقيل له: إن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف فكره ذلك أشد الكراهية وروي عن مجاهد أنه كان يكره أن يقال: آذارماه.
أيها المسلمون إننا هذه الأيام نستقبل عاما جديدا إسلاميا هجريا ليس من السنة أن نحدث عيدا لدخوله أو نعتاد التهاني ببلوغه فليس الغبطة بكثرة السنين وإنما الغبطة بما أمضاه العبد منها في طاعة مولاه فكثرة السنين خير لمن أمضاها في طاعة ربه، شر لمن أمضاها في معصية الله والتمرد على طاعته وشر الناس من طال عمره وساء عمله، إن علينا أن نستقبل أيامنا وشهورنا وأعوامنا بطاعة ربنا ومحاسبة أنفسنا وإصلاح ما فسد من أعمالنا ومراقبة من ولانا الله تعالى عليه من الأهل من زوجات وأولاد بنين وبنات وأقارب.
فاتقوا الله عباد الله وقوموا بما أنتم به معنيون وعنه يوم القيامة مسؤولون: قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة قوموا بذلك على الوجه الأتم الأكمل أو على الأقل بالواجب واعلموا أن أعضاءكم ستكون عليكم بمنزلة الخصوم يوم القيامة يوم يختم على الأفواه وتكلم الأيدي والأرجل بما كسب الإنسان قال الله تعالى: حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين.
عباد الله إن كل عام يجد يعد المرء نفسه بالعزيمة الصادقة والجد ولكن تمضي عليه الأيام وتنطوي الساعات وحاله لم تتغير إلى أصلح فيبوء بالخيبة والخسران ثم لا يفلح ولا ينجح فاغتنموا الأوقات عباد الله بطاعة الله وكونوا كل عام أصلح من العام الذي قبله فإن كل عام يمر بكم يقربكم من القبور عاما ويبعدكم عن القصور عاما يقربكم من الانفراد بأعمالكم ويبعدكم من التمتع بأهليكم وأولادكم وأموالكم.
عباد الله والله ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين ولا نال العز والكرامة والرفعة إلا من خضع لرب العالمين ولا دام الأمن والطمأنينة والرخاء إلا باتباع منهج المرسلين ولئن استمرت زهرة الدنيا مع المعاصي والانحراف إن ذلك لاستدراج يعقبه الإهلاك والإتلاف فاعتصموا بطاعة الله عن عقوبتكم: وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/812)
شرح بعض أسماء الله الحسنى 2
التوحيد
الأسماء والصفات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر تعلم أسمائه تعالى ومعرفة معانيها. 2- فضل إحصاء تسعة وتسعين أسماً من أسمائه
سبحانه ومعنى ذلك. 3- معاني بعض أسمائه تعالى: (الحي القيوم – العليم – القدير – السميع البصير – الرحمن الرحيم).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما لله تعالى من الأسماء والصفات فإن معرفة ذلك زيادة في الإيمان وبصيرة في دين الله وعرفان، ولله تعالى تسعة وتسعون أسماء من أحصاها دخل الجنة ألا وإن إحصاءها أن يعرف العبد لفظها ومعناها ويتعبد لله تعالى بموجبها ومقتضاها.
فمن أسمائه تعالى (الحي القيوم) وهو اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فهو الحي الكامل في حياته لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال فهو الحي الذي لا يموت وهو الباقي وكل من عليها فان، أما القيوم فهو الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع خلقه وفي الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: ((يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون)) وللقيوم معنى آخر وهو القائم على غيره فكل ما في السماوات والأرض فإنه مضطر إلى الله لا قيام له ولا ثبات ولا وجود إلا بالله: ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره. ومن أسمائه تعالى (العليم) الذي يعلم كل شيء جملة وتفصيلا فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس لا في كتبا مبين ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير ، إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير.
ومن أسمائه تعالى (القدير) ذو القدرة الكاملة فما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون أرأيتم كيف خلق هذه الكون وبره ووهاده وجباله وأنهاره وبحاره وبقوله وأشجاره ورطبه ويابسه وظاهره وباطنه خلق هذا الكون على أحسن نظام وأتمه لمصالح عباده، خلقه كله في ستة أيام ولو شاء لخلقه بلحظة ولكنه حكيم يقدر الأمور بأسبابها.
أيها المسلمون: إن ما غاب عنا من مشاهد قدرته أعظم وأعظم بكثير مما نشاهده فلقد جاء في الحديث: ((إن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة إلى الكرسي الذي وسع السماوات والأرض كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض)) فسبحان الله العلي الكبير القوي القدير.
ومن أسمائه تعالى (السميع البصير) يسمع كل شيء ويرى كل شيء لا يخفى عليه دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث إن جهرت بقولك سمعه وإن أسررت به لصاحبك سمعه وإن أخفيته في نفسك سمعه وأبلغ من ذلك أنه يعلم ما توسوس به نفسك وإن لم تنطق به. إن فعلت فعلا ظاهرا رآك وإن فعلت فعلا باطنا ولو في جوف بيت مظلم رآك وإن تحركت بجميع بدنك رآك وإن حركت عضوا من أعضائك رآك وأبلغ من ذلك أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ومن أسماء الله تعالى (الرحمن الرحيم) فكل ما نحن فيه من نعمة فهي من آثار رحمته معاشنا من آثار رحمته وصحتنا من رحمته وأموالنا وأولادنا من رحمته، الليل والنهار والمطر والنبات من رحمته، إرسال الرسل وإنزال الكتب من رحمته.
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/813)
ذكر بعض الآيات الكونية 2
التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, مخلوقات الله
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- لا يمكن علم ابتداء الخلق وكيفيته إلا عن طريق الوحي – خلق السماوات والأرض وما فيهن
وما فيها من الآيات – الشمس والقمر وما فيها من الآيات
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم واشكروه على ما هداكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون علمكم ما فيه صلاح دينكم ودنياكم وحجب عنكم من العلم ما لا تدركه عقولكم ولا تتعلق به مصالحكم رحمة بكم وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
علمكم كيف ابتدأ خلق هذا العالم وهو الأمر الذي لا يمكن علمه إلا من طريق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فكل من ذكر شيئا عن كيفية خلق السماوات والأرض فإن الواجب أن نعرض قوله على ما جاءت به الرسل فإن طابقه فهو مقبول وإن خالفه فهو مردود وإن كان مسكوتا فيما جاءت به الرسل فإننا نتوقف فيه حتى يتبين لنا أمره من حق أو باطل.
لقد علمنا الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ابتدأ خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وهيأها لما تصلح له من الأقوات في يومين آخرين فتلك أربعة أيام ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها فتلك ستة أيام خلق الله فيها السماوات والأرض وأودع فيهن مصالحهن فأخرج من الأرض ماءها ومرعاها وقدر الأقوات فيها تقديرا يناسب الزمان والمكان لتكون الأقوات متنوعة ومستمرة أنواعها في كل زمان وليتبادل الناس الأقوات فيما بينهم يصدر هذا إلى هذا وهذا إلى هذا فيحصل بذلك من المكاسب والاتصال بين الناس ما فيه مصلحة الجميع وزين الله السماء الدنيا بمصابيح وهي النجوم وجعلها رجوما للشياطين التي تسترق السمع من السماء وعلامات يهتدي بها الناس في البر والبحر.
وسخر لعباده الليل والنهار يتعاقبان على الأرض لتقوم مصالح العباد في دينهم ودنياهم وقد بين الله تعالى فضله علينا في ذلك حيث يقول لنبيه : قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون.
واختلاف الليل والنهار يكون بسبب دوران الشمس على الأرض فإن الله سخر لنا الشمس والقمر دائبين وجعلهما آيتين من آيات الله الدالة على كمال قدرته وسعة رحمته فمنذ خلقهما الله تعالى وهما يسيران في فلكيهما على حسب أمر الله لا يرتفعان عنه صعودا ولا ينحدران عنه نزولا ولا يميلان يمينا ولا شمالا وقدرهما منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، فباختلاف منازل القمر تختلف الأهلة والشهور، وباختلاف منازل الشمس تختلف الفصول فإذا حلت الشمس آخر البروج الشمالية انتهى النهار في الطول ودخل فصل القيظ ثم ترجع شيئا فشيئا حتى ترجع إلى البروج اليمانية فإذا حلت آخر برج منها انتهى الليل في الطول ودخل فصل الشتاء وفي اختلاف الفصول من المصالح وتنوع الأقوات ما يعرف به قدر نعمة الله ورحمته وحكمته.
وهكذا تسير الشمس والقمر في فلكيهما في انتظام باهر وسير محكم كل يجري إلى أجل مسمى إلى أن يأذن الله بخراب هذا العالم فتخرج الشمس من مغربها كما في صحيح البخاري عن أبي ذر قال: قال رسول الله حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها وتوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال: لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها)). وفي هذا الحديث دليل ظاهر على أن الشمس تسير بنفسها كما يدل على ذلك قوله تعالى: والشمس تجري لمستقر لها وقوله: كل يجري إلى أجل مسمى وقوله: وكل في فلك يسبحون فهذه الأدلة تكذب ما يقال من أن الشمس ثابتة لا تدور وتدل على أنه قول باطل يجب رده وتكذيبه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/814)
في الحث على الصلاة وأدائها جماعة
فقه
الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- أهمية الصلاة ومكانتها في الدين والتحذير من إضاعتها – وجوب صلاة الجماعة في المسجد
- فضل الصلاة في الجماعة وأثرها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، عباد الله الصلاة عمود دينكم وقوامه فلا دين لمن لا صلاة له لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة إقامة الصلاة إيمان وإضاعتها كفر من حافظ عليها كانت له نورا في قلبه ووجهه وقبره وحشره وكانت له نجاة يوم القيامة وحشر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا نجاة يوم القيامة وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
أيها المسلمون: كيف تضيعون الصلاة وهي الصلة بينكم وبين ربكم إذا لم يكن بينكم وبين ربك صلة فأين العبودية وأين المحبة لله والخضوع له لقد خاب وخسر قوم إذا سمعوا داعي الدنيا وزهرتها لبوا له سراعا وإذا سمعوا منادي الله يدعوا حي على الفلاح تغافلوا عنه وولوا دبارا. أيها المسلمون ألم تعلموا أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله. يا أمة محمد من منكم عنده أمان من الموت حتى يتوب ويصلي؟ أليس كل منكم يخشى الموت ولا يدري أيصبحه أم يمسيه؟ ألم يكن الموت يأخذ الناس بغتة وهم لا يشعرون؟ أما هجم على أناس وهم في دنياهم غافلون؟ أما بغت أناسا خرجوا من بيوتهم ولم يرجعوا؟ فمن منكم أعطي أمانا ألا يكون حاله كهؤلاء. أيها المسلمون وماذا بعد هذا الموت الذي لا تدرون متى يفجؤكم؟ لا شيء بعده سوى الجزاء على ما قدمتم إما خير فتسرون به وإما شر فتساؤن به وتندمون فإن الإنسان إذا مات انقطع عمله ولم يبق إلا الجزاء. أيها المسلمون إذا كنتم تعترفون بذلك ولا تنكروه أفليس من الجدير بكم أن تبادروا التوبة إلى ربكم والرجوع إليه والقيام بطاعته واجتناب معصيته.
أيها المسلمون أيها المؤمنون بمحمد وما أنزل إليه من ربه أن مما هو واجب عليكم في صلاتكم أن تؤدوها في المساجد جماعة مع المسلمين فإن ذلك من واجباتها ومن أقامتها ومن حفظها.
المصلي مع الجماعة قائم بما فرض الله عليه والمتخلف عن الجماعة بلا عذر عاص لربه مخاطر بصلاته فإن بعض علماء المسلمين يقول من ترك الصلاة مع الجماعة بدون عذر، فصلاته باطلة لا تبرأ بها ذمته. المصلي في الجماعة هو الكيس الحازم الحائز للغنيمة فإن الصلاة مع الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة والمتخلف عن الجماعة كسول مهمل محروم وما أشبه حاله بحال المنافقين الذين قال الله فيهم: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى وقال فيهم نبيه : ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبوا، والذي نفس محمد بيده لو يجد أحدهم عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)) والعرق عرموش العظيم، والمرماة ما بين الضلعين من اللحم، والمعنى أن النبي أقسم أن هؤلاء المنافقين لو يعلمون أنهم يجدون شيئا حقيرا من الدنيا لسارعوا إليها والواقع أن حال كثير من هؤلاء المتخلفين هي كما ذكر النبي عن حال المنافقين فإن أحدهم لو كان له شغل من الدنيا وقت طلوع الفجر لوجدته يرقب النجوم ويعد الساعات لعله يأتيه هذا الوعيد. المصلي مع الجماعة يصليها بنشاط وطمأنينة فإن الناس بلا شك ينشط بعضهم بعضا على العبادة، والمتخلف عن الجماعة تثقل عليه الصلاة فيصليها بكسل وإسراع ينقرها نقر الغراب وربما أخرها عن وقتها وذلك هو الخسار والدمار. صلاة الجماعة تجلب المودة والألف والاتفاق وتنير المساجد بذكر الله وتظهر فيها شعائر الإسلام، وفي صلاة الجماعة تعليم الجاهل وتذكير الغافل وعدد من المصالح الدينية والدنيوية. أرأيتم لو لم تكن الجماعة مشروعة وسبحان الله أن يكون ذلك فماذا تكن الحال؟ إن الحال أن تكون الأمة متفرقة والمساجد مغلقة والناس ليس لهم مظهر جماعي في دينهم ولكن الحمد لله الذي شرعها وأوجبها على المسلمين فاشكروا ربكم أيها المسلمون على هذه النعمة وقوموا بهذا الواجب واخجلوا من إضاعتها واحذروا من عقاب ربكم وسطوته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/815)
في أحكام زكاة الفطر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- وجوب اغتنام رمضان وتدارك ما فات منه – العبادات التي شرعها الله في ختام رمضان -
زكاة الفطر وأحكامها – التكبير والسنّة فيه – صلاة العيد وآدابها وأحكامها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وفكروا في أمركم ماذا عملتم في شهركم الكريم؟ فإنه ضيف كريم قارب الزوال وأوشك على الانتهاء والارتحال وسيكون شاهدا لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فابتدروا ـ أيها المسلمون ـ ما بقي منه بصالح الأعمال والتوبة إلى الله والاستغفار، لعل ذلك يجبر ما حصل من التفريط والإهمال، لقد كانت أيام هذا الشهر الكريم معمورة بالصيام والذكر والقرآن، ولياليه منيرة بالصلاة والقيام، وأحوال المتقين فيه على ما ينبغي ويرام، فمضت تلك الأيام الغرر وتلك الليالي الدرر كساعة من نهار، فيا أسفا على تلك الليالي والأيام، لقد مضت أوقات شهرنا سراعا وكان كثير منها في التفريط مضاعا، فنسأل الله تعالى أن يخلف علينا ما مضى منها، وأن يبارك لنا فيما بقي منها، وأن يختم لنا شهرنا بالعفو والغفران والقبول، والعتق من النار وبلوغ المأمول، وأن يعيد أمثاله علينا في خير وأمن وإيمان.
أيها المسلمون، لقد شرع لنا ربنا الكريم في ختام هذا الشهر عبادات جليلة، يزداد بها إيماننا وتكمل بها عباداتنا وتتم بها علينا نعمة ربنا، شرع لنا ربنا في ختام هذا الشهر زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد.
فأما زكاة الفطر فهي صاع من طعام، صاع من البر أو الرز أو التمر أو غيرها من قوت الآدميين قال أبو سعيد : (فرض رسول الله زكاة الفطر صاعا من طعام) [1] وكلما كان من هذه الأصناف أطيب وأنفع للفقراء فهو أفضل وأعظم أجرا فطيبوا بها نفسا، وأخرجوها من أطيب ما تجدون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهي ولله الحمد قدر بسيط لا يجب في السنة إلا مرة واحدة، فكيف لا يحرص الإنسان على اختيار الأطيب مع أنه أفضل عند الله وأكثر أجرا؟.
ويجوز للإنسان أن يوزع الفطرة الواحدة على عدة فقراء وأن يعطي الفقير الواحد فطرتين فأكثر، لأن النبي قدر الفطرة بصاع ولم يبين قدر من يعطى فدل على أن الأمر واسع، وعلى هذا لو كال أهل البيت فطرتهم وجمعوها في كيس واحد وصاروا يأخذون منها للتوزيع من غير كيل فلا بأس، لكن إذا لم يكيلوها عند التوزيع فليخبروا الفقير بأنهم لا يعلمون عن كيلها خوفا أن يدفعها عن نفسه وهي أقل من الصاع.
وزكاة الفطر فرض على جميع المسلمين، على الصغير والكبير والذكر والأنثى فأخرجوها عن أنفسكم وعمن تنفقون عليه من الزوجات والأقارب ولا يجب إخراجها عن الحمل الذي في البطن، فإن أخرج عنه فهو خير والأفضل إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط ولا تجزئ بعد صلاة العيد إلا إذا كان الإنسان جاهلا لا يدري، مثل أن يأتي العيد بغتة ولا يتمكن من أدائها قبل الصلاة أو يظن أنه لا بأس بتأخيرها عن الصلاة فهذا تجزئه بعد الصلاة ولا يجزئ دفع زكاة الفطر إلا للفقراء خاصة والواجب أن تصل إلى الفقير أو وكيله في وقته ويجوز للفقير أن يوكل شخصا في قبض ما يدفع إليه من زكاة فإذا وصلت الزكاة إلى يد الوكيل فكأنها وصلت إلى يد موكله فإذا كنت تحب أن تدفع فطرتك لشخص وأنت تخشى أن لا تراه وقت إخراجها فمره أن يوكل أحدا يقبضها منك أو يوكلك أنت في القبض له من نفسك، فإذا جاء وقت دفعها فخذها له بكيس أو غيره وأبقها أمانة عندك حتى يأتي.
وأما التكبير فقد أمر الله تعالى به في كتابه فقال: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]. أي على ما وفقكم له من الصيام والقيام وغيرهما من الطاعات في هذا الشهر فكبروا أيها المسلمون من غروب شمس ليلة العيد إلى الصلاة قولوا الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، قولوا ذلك جهرا في المساجد والأسواق والبيوت إلا النساء فإنهن يكبرن سرا لا جهرا.
وأما الصلاة فقد أمر بها رسول الله حتى النساء [2] فاخرجوا رحمكم الله إلى الصلاة رجالا ونساء كبارا وصغارا، ولتخرج النساء غير متجملات ولا متطيبات، وتعتزل الحائض المصلى لأن مصلى العيد مسجد، أما الرجال فالسنة أن يخرجوا متطيبين لابسين أحسن ثيابهم بعد الاغتسال والتنظيف، والسنة أن يأكل الإنسان قبل خروجه إلى الصلاة تمرات وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو نحوها من الوتر [3] وسمعت أن بعض النساء يخرجن بالتمر معهن إلى مصلى العيد يفطرن فيه وهذا بدعة لا أصل له، وبعضهن يفعل ذلك إذا جاء خبر العيد بعد الفجر يقلن: ما نفطر إلا بالمصلى، وهذا أيضا لا أصل له، بل الواجب أن ينوي الإنسان الفطر من حين أن يثبت العيد لأن إمساك يوم العيد حرام. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى? وَذَكَرَ ?سْمَ رَبّهِ فَصَلَّى? [الأعلى:14، 15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في: الزكاة، باب: صدقة الفطر صاع من طعام (1506)، ومسلم في: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (985) بلفظ: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام).
[2] أخرجه البخاري في: الحيض، باب: شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى (324)، ومسلم في: صلاة العيدين، باب: ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى (890) واللفظ له من حديث أم عطية رضي الله عنها بلفظ: (أمرنا رسول الله أن مخرجهن في الفطر والأضحى العواتق...).
[3] أخرج البخاري في: الجمعة، باب: الأكل يوم الفطر قبل الخروج (953) من حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي لا يغدوا يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/816)
في التنبيه على بعض أمور متعلقة بالحج يعتقدها العوام وهي مخالفة للشرع
فقه
الحج والعمرة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة إلى التعليم والتفقه. 2- لا علاقة بين التميمة والحج. 3- شجر غير الحرم لا يحرم
على الحاج قطعه. 4- تقبيل الحجر الأسود والمزاحمة عليه. 5- الطواف خلف المقام.
6- ركعتي الطواف. 7- قطع الطواف بسبب الصلاة أو غيرها ثم متابعته. 8- إحرام الحائض
والنفساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتفقهوا بأحكام دينكم لتعبدوا الله على بصيرة فإن مثل من يعبد الله على علم ومن يعبده على جهل كمثل من يمشي على طريق مضيئة وطريق مظلمة الأول عارف مواقع قدمه متيقن السلامة والثاني جاهل خائف من العطب والضلالة.
أيها الناس: لقد اشتهر عند بعض العوام أن من لم يتمم له [1] فإنه لا حج له وهذا خطأ فلا علاقة بين التميمة والحج، فالحج يصح فرضا ونفلا سواء تمم عن الإنسان أم لا.
واشتهر عند بعض الناس أن من أحرم في ثياب فإنه لا يجوز أن يغيرها وهذا غير صحيح فإنه لا بأس أن يغير المحرم ثيابه التي أحرم بها سواء كان رجلا أو امرأة فيجوز للرجل أن يلبس رداء أو إزارا غير اللذين أحرم بهما ويجوز للمرأة أن تلبس ثوبا أو مقطعا غير الذي أحرمت به.
واشتهر عند بعض الناس أيضا أن المحرم لا يجوز له قطع الشجر الحي من حين أن يحرم وليس كذلك فإن الشجر إذا كان خارج أميال الحرم جاز قطعه للمحرم وغيره وإذا كان داخل أميال الحرم حرم قطعه على المحرم وغيره وعلى هذا فيجوز في عرفة قطع الأشجار الحية للمحرمين وغيرهم ولا يجوز ذلك في منى ومزدلفة لأن عرفة خارج الأميال ومزدلفة ومنى داخل الأميال.
أيها الناس: إن بعض العوام يظن أن من لا يقبل الحجر ولا يستلمه ينقص حجه وهذا غير صحيح فإن استلام الحجر وتقبيله سنة في حال السعة إذا لم يكن هناك زحام أما إذا كان هناك زحام فإن السنة والأفضل في حق الإنسان أن لا يزاحم لقول النبي لعمر بن الخطاب: ((يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر)). وكان ابن عباس رضي الله عنهما يكره المزاحمة ويقول: لا يؤذي ولا يؤذى. وعلى هذا فطواف الإنسان الذي لا يزاحم عند الضيق أفضل وأكمل من طواف الذي يزاحم فيؤذي ويؤذى وإن بعض الناس يشكل عليه الطواف من وراء المقام وإني أقول لكم إنه لا إشكال في ذلك فإنه يجوز الطواف ولو من وراء المقام وقد نص أهل العلم رحمهم الله على أن جميع المسجد الحرام محل للطواف حتى لو طاف في الحصباء أو في الرواق جاز له ذلك غير أن الدنو من البيت أفضل إذا لم يكن فيه أذية عليك أو على غيرك.
أيها الناس لقد رأينا كثيرا من الحجاج يتزاحمون خلف المقام أيهم يكون أقرب إليه وربما يظنون أن ركعتي الطواف لا تنفع إلا إذا كان الإنسان قريبا منه وهذا غير صحيح فالقرب من المقام ليس بشرط في إجزاء الركعتين بل تجزئ الركعتان ولو كنت بعيدا ولكن اجعل المقام بينك وبين الكعبة ولو كنت في الحصباء أو في رواق المسجد إذا كان هناك زحام فالأمر ولله الحمد واسع.
أيها الناس: ربما تقام الصلاة والإنسان يطوف أو يسعى فإذا حصل ذلك فصل مع المسلمين فإذا فرغت من الصلاة فكمل من الموضع الذي قطعت الطواف أو السعي فيه ولا حرج عليك.
وربما يتعب الإنسان عقب الطواف ويحب أن يؤخر السعي إلى وقت آخر إما إلى آخر النهار أو إلى الليل أو نحو ذلك فهذا جائز لا بأس به بل ربما يتعب في نفس السعي ويحب أن يجلس للاستراحة ثم يكمل سعيه أو يكمله على عربة ونحوها وهذا أيضا جائز لا بأس به ما جعل الله عليكم في الدين من حرج ولله الحمد.
أيها الناس: كثيرا ما يسأل عن الحائض والنفساء ما تصنع في إحرامها والجواب على ذلك ما قاله النبي لعائشة: ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت)). وعلى هذا فتفعل مثل ما يفعل الناس سواء بسواء إلا أنها لا تطوف حتى تطهر والسعي تابع للطواف فإذا أحرمت بالعمرة وهي حائض أو حاضت بعد إحرامها فإن طهرت قبل الطلوع قضت عمرتها وحلت ثم أحرمت بالحج مع الناس وإن جاء الطلوع وهي لم تطهر نوت الحج فأدخلته على العمرة وصارت قارنة ويكفيها طواف واحد وسعي واحد لحجها وعمرتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أي يعق عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/817)
في ذكر يأجوج ومأجوج
الإيمان
أشراط الساعة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- وجوب الاستعداد لليوم الآخر بالأعمال الصالحة – صفة يأجوج مأجوج وفتنتهم وقت
خروجهم – هلاك يأجوج مأجوج
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى واستعدوا لليوم الآخر فقد أنذرتموه واستقبلوه بالأعمال الصالحة واخشوا من عقابه واحذروه وقد قدم الله تعالى بين يدي هذه اليوم اشراطا وعلامات وذلك لعظم هوله وشدته فإنه اليوم الذي يجازي فيه الخلائق فيجزي المؤمن بحسناته ويجزي المسيء بالسيئات.
ألا وأن من اشراط الساعة خروج يأجوج ومأجوج وهم قوم من بني آدم على صفة الآدميين وأما ما يعتقده بعض الناس من أن فيهم الطويل المفرط وفيهم القصير جدا وإنهم على أشكال غريبة فإن هذا الاعتقاد مبني على غير دليل صحيح وقد ورد عن النبي أنهم عراض الوجوه صغار العيون صهب الشعور وقد حذر النبي العرب من خروج يأجوج ومأجوج لأنهم قوم مفسدون في الأرض والعرب حملة راية الإصلاح إلى العالم لأن الرسول بعث فيهم فعن زينب أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: ((استيقظ النبي من نومه محمرا وجهه وهو يقول: لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق باصبعه الإبهام والتي تليها قالت زينب فقلت يا رسول الله: أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)) فأما وقت خروجهم الذي تكون به نهايتهم وهلاكهم فإنه إذا قتل عيسى ابن مريم الدجال أوحى الله إليه: إني قد أخرجت عبادا لي لا قوة لأحد على قتالهم. يعني يأجوج ومأجوج فيبعثهم الله من كل حدب ينسلون أي من كل موضع مرتفع يأتون سراعا وهذا دليل على كثرتهم وقوتهم وجشعهم فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر أخرهم على البحيرة وقد شرب مائها فيقولون: لقد كان في هذه مرة ماء ثم يسيرون حتى يصلوا إلى جبل بيت المقدس فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما فتنة لهم وينحصر نبي الله عيسى وأصحابه في الطور ويضيق عيشهم قال النبي : ((حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مئة دينار لأحدكم اليوم)) فيبتهل النبي عيسى وأصحابه إلى الله تعالى أن يهلك يأجوج ومأجوج فيرسل الله عليهم دودا في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه من الطور فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا وقد ملأه زهم يأجوج ومأجوج ونتنهم فيبتهل عيسى وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل على جثث يأجوج ومأجوج طيرا كأعناق الإبل البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى ثم يرسل الله تعالى مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يدعها كالمرآة في نظافتها ثم يقال لها: انبتي ثمرتك وردي بركتك فتنزل البركة في الثمرات والدر حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمير فعليهم تقوم الساعة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/818)
في بعض شروط البيع
فقه
البيوع
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- تنظيم الدين أمور العبادات والمعاملات – شروط البيع والشراء – أمثلة للغَرر المنهي عنه
في البيع والشراء – خطورة مخالفة الشرع في البيع والشراء وأثر ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن هذا الدين الذي تفتخرون به وحق لكم أن تفتخروا به فإنه الدين الذي نظم للعباد سبل معاملتهم مع الله ومعاملتهم مع عباد الله فكما أن الله شرع لكم عبادات تتعبدون الله بها على حسب ما أمركم به وأرشدكم إليه وأنكم لا يمكنكم أن تعبدوا الله إلا بما رضيه وشرعه لا يمكنكم أن تعبدوه بما تهواه أنفسكم فكذلك أذن لكم في معاملات تتعاملون بها فيما بينكم على حسب ما أباحه وأذن به لا على حسب ما تريدون وتشتهون فالبيع له شروط شرعية والإجارة لها شروط شرعية والهبة والرهن والوقف وغيرها كل ذلك له شروط شرعية يجب اعتبارها والتعامل على وفق حدودها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون.
أيها الناس: إن أكثر المعاملات وقوعا هو البيع والشراء وإن للبيع والشراء شروطا لا بد منها إذا فقدت أو فقد بعضها لم يصح البيع فمن تلك الشروط أن لا يشتمل العقد على غرر فإن كان من العقد غرر فهو باطل لأن النبي نهى عن بيع الغرر فمن الغرر أن يكون الثمن مجهولا أو السلعة مجهولة. وقد سمعنا أن بعض الناس يجمع أنواعا من السلع مجهولة العدد مختلفة القيمة فيبيعها جميعا بسعر واحدا وهذا جهالة واضحة فإن السلع الرخيصة قد تكثر فيكون المشتري مغبونا وقد يكون الأمر بالعكس فيكون البائع مغبونا وقد يكون البائع عالما بالأمر ولكن يريد تغرير المشتري وخداعه، كما سمعنا أن بعض الناس يبيع جميع ما في دكانه بسعر واحد والمشتري لا يدري ما قدر كل سلعة فيه وهذه جهالة وغرر حرام باطل لا يجوز الإقدام عليه. سمعنا أنه باع دكانه كل حبة منه بريال فلما أحصوه ظهر كيس السكر بريال وصندوق الكبريت بريال وبقية الأنواع على ريال وهم حين العقد لا يعلمون كم عدد السكر مثلا وكم عدد الكبريت وكم عدد الأنواع الأخرى فيا سبحان الله كيف يشكل على هؤلاء أن هذا غرر ومخاطرة؟ فقد يربح المشتري ربحا كثيرا وقد يخسر خسارة كبيرة يا سبحان الله كيف يقع هذا علنا إن كان وقع علنا ولا ينكره أحد؟ إن هذا لشيء عجيب! ألم تعلموا أيها المسلمون أن هذا نوع من الميسر وقد قرن الله الميسر بالخمر وعبادة الأصنام فقال: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون أيها المسلمون إن هذا العمل لموقع للعداوة والبغضاء فإن الخاسر من البائع أو المشتري في هذه الصورة يقع في قلبه من الهم والغم والحزن والنظر إلى أخيه بعين السخط ما لا حاجة إليه وإن الواجب على من وقع منه ذلك أن يتوب إلى الله وأن يفسخ العقد ويرد السلعة إلى صاحبها ويأخذ الثمن إن كان قد سلمه.
ومن شروط العقود أن تكون برضى من الطرفين فمن أخذ ماله بغير رضا منه ببيع أو إجارة أو غيرها فالعقد حرام باطل إلا أن يكون ذلك بطريق شرعي.
فاتقوا الله أيها المسلمون وتمشوا في معاملتكم على الوجه الذي أذن لكم فيه ربكم ولا تتعدوا حدوده فتهلكوا واعلموا أن كل مال كسبه الإنسان أو أخذه بغير طريق حلال فلا خير فيه ولا بركة بل هو شر ووبال على صاحبه إن أنفقه لم يبارك له فيه وإن تصدق به لم يقبل منه وإن خلفه بعده كان زادا له إلى النار وإن تغذى به فدعا الله فلن يستجاب له وباب التوبة للتائبين مفتوح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/819)
في نماذج من أحكام الصلاة
فقه
الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- وجوب المحافظة على الصلاة والتحذير من إضاعتها – كيفية المحافظة على الصلاة -
صفة الصلاة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس : اتقوا الله، وحافظوا على الصلوات وأقيموها في الجمع والجماعات ولا تضيعوها وتهملوها فتقعوا في المهلكات قال الله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا فمن أضاع الصلاة ولم يتب من ذلك لقي الغي في الدنيا والآخرة، والغي: الخسران المبين. وقال ابن مسعود : الغي: واد في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم. فمن كان محافظا عليها فليحمد الله على نعمته ويسأله الثبات على ذلك ومن لم يكن محافظا عليها فليتب إلى الله من ذنبه وليرجع إلى ربه قبل أن يزيغ قلبه فيكون من الهالكين حافظوا عليها بفعل شروطها وأركانها وواجباتها وسننها فإذا أتى أحدكم الصلاة فليسبغ الوضوء ثم ليستقبل القبلة فإن استقبال القبلة لا بد منه في الصلاة قال الله تعالى: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ثم يستفتح الصلاة بما ورد عن النبي ثم يتعوذ ويقرأ فاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ووجوبها على الإمام والمأموم والمنفرد لعموم الحديث وعدم المخصص الصحيح وينبغي للأئمة أئمة المساجد أن يراعوا حال المأمومين في الركعتين بعد التشهد الأول فيتأنوا في قراءة الفاتحة حتى يكملها المأمومون الذين خلفهم، فإذا قرأ بعدها ما تيسر من القرآن يكون في المغرب بقصار المفصل غالبا، والسنة أن يقرأ أحيانا بغير قصار المفصل بما لا يشق على المأمومين، فقد ثبت أن النبي قرأ فيها بسورة الأعراف، وقرأ فيها بسورة محمد، وقرأ فيها بسورة الطور، وقرأ فيها بسورة المرسلات، ويكون في الفجر من طوال المفصل ويكون في الظهر والعصر والعشاء من أواسط المفصل، إلا أن القراءة في الظهر تكون أطول من قراءة العصر، فإذا فرغ من القراءة ركع وقال: سبحان ربي العظيم الواجب مرة وأدنى الكمال ثلاث، ثم يرفع رأسه قائلا: سمع الله لمن حمده فإذا تم قيامه قال: ربنا ولك الحمد. وإن كان مأموما قال حين الرفع: ربنا ولك الحمد ولا يقول: سمع الله لمن حمده لقول النبي : ((فإذا قال - يعني الإمام - : سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد)) ثم يسجد على أعضائه السبعة الجبهة - والأنف تبع لها- واليدين والركبتين وأطرف القدمين، ولا يجوز أن يرفع رجليه عن الأرض ولا أن يرفع أنفه ولا شيئا من هذه الأعضاء عن محل سجوده، ولا يجوز أن يسجد بجبهته على كفيه، فأما السجود على المنديل أو غيره من الأشياء المنفصلة عن المصلي فلا بأس به لكن تركه أفضل، وأما الأشياء المتصلة به كثوبه وغترته فيكره السجود عليه إلا من حاجة، ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى. ولا يجوز للمصلي أن يقرأ القرآن وهو راكع أو ساجد، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كشف النبي الستر ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: اللهم هل بلغت - ثلاث مرات- إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا)) وقال علي بن أبي طالب : نهاني رسول الله عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد، فأما إذا دعا في سجوده بآية من القرآن وهو لم يقصد القراءة وإنما قصد الدعاء فهذا لا بأس به مثل أن يقول: ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار. أو غيرها من آيات الدعاء فهذا لا بأس به ثم يرفع من السجود فيقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني. ثم يفعل ذلك في صلاته كلها وعليكم بالطمأنينة في الصلاة فإنه لا صلاة لمن لا يطمئن في صلاته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/820)
في شروط النكاح وطلاق السنة 2
فقه
الطلاق, النكاح
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- حث الشارع على النكاح وأمره به – شروط النكاح – ما يجب على الزوج عند رؤيته
من زوجه ما يكره – جواز الطلاق والسنة فيه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس: اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا واشكروا نعمة الله عليكم بما شرعه لكم من الاتصال بعضكم ببعض بسبب عقد النكاح الذي حث الشارع عليه وأمر به وأخبر أنه من سنن المرسلين قال الله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقال: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وقال : ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)) وقال: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)).
والنكاح له شروط عند الدخول فيه وشروط عند الخروج منه يجب على الإنسان مراعاتها فمن الشروط التي عند دخوله أن يكون كل من الزوج والزوجة راضيا بالنكاح فلا يجوز إجبار الزوج على النكاح ولا إجبار الزوجة ولو كانت بكرا ولا يجوز إجبارها على أن تتزوج بمن لا ترضاه فلو قالت: لا أرضى إلا بفلان وكان غير كفؤ في دينه فإنها تمنع ولا تزوج حتى تختار كفؤا في دينه. ومن الشروط الولي: فلا نكاح إلا بولي والولي هو العاصب الأقرب فالأقرب فالأقرب إلا أن الآباء وإن علوا يقدمون على الأبناء وإن نزلوا. وأما الأقارب غير العصبة فلا ولاية لهم إلا أن يوكلهم من له الولاية من العصبة وذلك مثل الأخ من الأم والخال والجد من قبل الأم فهؤلاء ونحوهم ليس لهم ولاية التزويج إلا بتوكيل من الولي العاصب وإذا لم يكن الولي الأقرب أهلا للولاية فإنه يزوجها الولي الذي بعده، وإذا لم يكن للمرأة أولياء من العصبة فإن الذي يزوجها القاضي إما بنفسه أو يوكل من شاء.
ومن الشروط أن يحضر العقد رجلان مقبولان في الشهادة قال الفقهاء: ولا يصح أن يشهد على عقد النكاح من كان من آباء الزوج أو أبنائه أو آباء الزوجة أو أبنائها أو آباء الولي أو أبنائه ومن الشروط أن يعين الولي الزوجة باسمها أو وصفها الذي تتميز به. فلو قال: زوجتك بنتي لم يصح إلا أن يكون ليس له بنت سواها فلا بأس ويجوز العقد على المرأة ولو كانت حائضا أو صائمة أو غائبة عن البلد إذا علم رضاها.
وأما الواجب عند الخروج من النكاح فإن الزوج مأمور إذا رأى من زوجته ما يكره أن يعظها ثم يهجرها في المضجع ثم يضربها ضربا غير مبرح ويصبر عليها فلا يطلقها فقد تستقيم حالها وقد يرزق منها أولاد يكون فيهم خير كثير، فإذا لم يتمكن من الصبر جاز له أن يطلقها ولكن يجب عليه أن يطلقها لعدتها قال الله تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. وذلك بأن يطلقها وهي طاهر طهرا لم يجامعها فيه لا يجوز طلاق المرأة وهي حائض ولا أن يطلقها في طهر وطئها فيه إلا أن يتبين حملها أو تحيض بعد ذلك فيطلقها بعد الحيض قبل أن يطأها، وإني أذكركم بمسألة من فروع تلك المسألة إذا كانت لك زوجة ترضع وقد جامعتها بعد نفاسها وأردت أن تطلقها فلا يجوز أن تطلقها حتى تحيض ولو طال الزمن فإذا حاضت وطهرت فطلقها إن شئت.
وإذا أراد أحدكم الطلاق في الحال التي يجوز فيها فليطلق مرة واحدة لا أكثر ليكون ذلك توسيع على نفسه إذا أراد أن يراجع، ولأن ما زاد على الطلقة والواحدة فهو طلاق بدعة إما مكروه وإما محرم وأنت إذا طلقتها واحدة فماذا تخاف؟ أتخاف أن ترجع عليك؟ إنها لن ترجع عليك إلا باختيارك. إذا فلماذا تتجاوز الواحدة فتطلق أكثر منها؟ وإذا أراد أحدكم الطلاق فليشهد رجلين على طلاقه، وإذا طلقتموهن فلا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، فلا يحل للزوج أن يخرج زوجته إذا طلقها طلاقا له فيه رجعة من بيته حتى تنقضي عدتها ولا يحل لها أن تخرج من بيت زوجها حتى تنقضي عدتها قال الله تعالى: واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه هذا قضاء الله وحكمه: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا.
أما إذا كانت الزوجة مطلقة طلاقا بائنا وهي التي لا تحل لزوجها إلا بعقد فإنها لا بأس أن تخرج من بيت زوجها وتعتد في بيتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/821)
في بيان زكاة النخيل
فقه
الزكاة والصدقة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- وجوب تقوى الله وشكره على ما أَمدّ به من خيرات وثمرات – وجوب زكاة النخيل
وما يجوز إخراجه من الثمر والتحذير من إخراج الرديء منه – الآداب التي يجب مراعاتها في
الزكاة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه أن أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون فهذه ثمرات النخيل تتفكهون بها رطبا وبسرا وتدخرونها قوتا وتمرا فهو الذي خلقها وأوجدها وهو الذي نماها وأصلحها وهو الذي أبقاها لكم وحفظها وأبقاكم حتى أدركتم جناها وثمرها فاشكروا ربكم على هذه النعمة وأدوا ما أوجب الله فيها من الزكاة تدفعوا عن أنفسكم وأموالكم النقمة وحاسبوا أنفسكم في ذلك محاسبة تامة فإن أهل الزكاة شركاء لكم فيها لهم العشر إن كانت تشرب سيحا ونصف العشر إن كانت تشرب بالمكائن هكذا فرضها رسول الله فإياكم وبخسها وإخراج ما ينقص عن ذلك.
أيها الناس: لقد أنعم الله علينا في هذه الأوقات الأخيرة بنعم كثيرة منها كثرة أنواع المأكولات واختلاف عادات الناس بسبب ذلك حتى صار أكثر الناس لا يأكلون من التمر إلا أطيب الأنواع فارتفع بذلك سعره ونقص سعر الأنواع الأخرى بسبب قلة رغبة الناس فيها فلقد كان "الشقر" في الزمن السابق هو الغذاء الرئيسي من التمر وكان الناس لا يهتمون بالأنواع الأخرى فكان الفرق بينه وبينها يسيرا أما الآن فكانت الحال بالعكس وأصبح الفرق كبيرا بينه وبين الأصناف التي بدأت تنتشر وترغب انظر إلى قيمه متوسطة الشقر تحد الكيلو منه يساوي ربع ريال وانظر إلى متوسط البرحى مثلا نجد الكيلو منه يساوي ريالين فالكيلو من البرحى يساوي ثمان كيلو من الشقر وهذا فرق كبير فإذا وجدنا بستانا أكثره من البرحى والسكري ونحوهما من الأنواع الطيبة فكيف يسوغ لنا أن نخرج زكاته كلها من الشقر مع هذا الفرق العظيم كيف يمكن أن نقول إن هذا الرجل أخرج نصف عشر بستانه.
أيها المسلم المؤمن بالله: لقد أوجب الله عليك على لسان نبيه نصف العشر بما يسقى بمؤونة والعشر كاملا فيما يسقى بلا مؤونة فهل ترضى لو كان لك نصف العشر أن تأخذ من الأنواع التي دونه بكثير لا أعتقد أنك ترضى بذلك فإذا كنت لا ترضى بأخذه لنفسك فكيف ترضى ذلك لربك ولقد نبه الله تعالى على هذا المعنى بقوله: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيها يعني لا تنفقوا من الرديء الذي لو كان لكم من هذا المال لم تأخذوه إلا على أغماص وكراهية فتنبهوا أيها المسلمون لما نبهكم الله إليه وابرؤا أنفسكم من الواجب ما دمتم في زمن الأمهال.
أيها المسلمون: إنني إذا قلت أنه لا يجزى إخراج الشقر عن بستان أكثره من الأنواع الطيبة الأخرى التي تفرق عنه فرقا كبيرا فلست أقول ذلك لمجرد رأي رأيته ولكن أقوله استنادا إلى ما يأتي:
أولا: قوله تعالى: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه والخبيث هو الرديء والرداءة أمر نسبي فقد يكون التمر رديئا إذا نسب لما هو أجود منه وجيدا بالنسبة لما هو أردأ منه بدليل أنه لو كان البستان كله رديئا أخرجت منه ولم تلزم بشيء أطيب منه.
ثانيا: أن النبي أوجب العشر أو نصف العشر ومع هذا الفرق العظيم فإن الشقر عن البرحى والسكري لا يقارب هذا المقدار.
ثالثا: إن الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم بل أكثر العلماء يقولون أنه يجب عليه أن يخرج الزكاة من كل نوع بحصته كما ذكره في المغني وقد نص فقهائنا في كتبهم المختصرة والمطولة على أنه يجب إخراج زكاة كل نوع منه ولكن ربما تقولون ألم يكن الناس من عهد قديم يخرجون الشقر عن البستان كله مع أن فيه أنواعا أخرى فأقول نعم كان ذلك ولكن كان الشقر يخرج من جميع البستان حينما كان هو الغذاء الرئيسي من التمر وحينما كانت الأنواع الأخرى قليلة ولم يكن الفرق بينها وبين الشقر إلى هذا الحد الكبير فكان الشقر في ذلك الوقت هو النوع المتوسط، وقد قال بعض العلماء إنه يجوز الإخراج من النوع المتوسط بقدر القيمة، أما اليوم فقد اختلفت الحال كثيرا كما ترون.
فاتقوا الله تعالى أيها الناس وحاسبوا أنفسكم وراعوا العدل ولا تظنوا الزكاة غرامة وخسارة فإنها والله هي الغنيمة والربح فهي أحد أركان الإسلام وهي قرينة الصلاة في كتاب الله فالقيام بها قيام بركن عظيم من أركان الإسلام وتطهير للمزكي من الإثم والعصيان وتزكية لنفسه وأعماله وبركة ونمو وزكاة في ماله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فهي واعلموا أن الله غني حميد الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدمك مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/822)
في التحذير من إضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- سبب استحقاق أمة الإسلام الخيرية – معنى المعروف والمنكر – مرض القلوب وموتها
وذهاب غيرتها على انتهاك الحرمات – وجوب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والصبر على ذلك والتعاون في ذلك – التحذير من عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: لقد فخرت هذه الأمة وحق لها أن تفخر بما شهد الله لها به وفضلها على غيرها حيث يقول: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله. فمن حقق هذه الأمور الثلاثة: الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان من هذه الأمة التي فضلت على الناس ومن لم يحققها خرج من هذا الوصف الجليل بقدر ما فاته من التحقيق.
عباد الله: إنكم لن تكونوا خير أمة أخرجت للناس حتى تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر والمعروف كل ما أمر الله به ورسوله والمنكر كل ما نهى الله عنه ورسوله.
أيها الناس: لقد مرضت القلوب وكاد المرض يقضي على بعضها بالموت حتى نزعت الغيرة الدينية من كثير منها فأصبحت لا ترى المعروف معروفا ولا المنكر منكرا أصبح الإنسان من هؤلاء لا يتمعر وجهه ولا يتغير من انتهاك حرمات الله وكأنه إذا حدث عن انتهاكها يحدث عن أمر عادي لا يؤبه له وهذا والله هو الداء العضال الذي هو أعظم من فقد النفوس والأولاد والأموال. يا أمة محمد يا خير أمة أخرجت للناس اتقوا ربكم وأمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر وتعاونوا على الحق ولا تأخذكم في الله لومة لائم ولا يخوفكم الشيطان ولا يوهن عزائمكم فإنكم والله إن صدقتم العزيمة وأخلصتم النية واتبعتم الحكمة في تقويم عباد الله وإصلاحهم فكل شيء يقوم ضدكم سيضمحل ويزول فالباطل لن تثبت قدماه أمام الحق: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
أيها المسلمون إن الذي ينقصنا كثيرا هو عدم التعاون في هذه الأمور فتجد أهل الخير متفرقين متباعدين لا ينصر بعضهم بعضا ولا يقوم بعضهم مع بعض إلا أن يشاء الله وغاية الواحد منهم أن يتألم في نفسه أو يملأ المجالس قولا بلا فائدة ولو أننا اجتمعنا ونظرنا إلى مجتمعنا وما فيه من أمراض وفساد ثم بحثنا منشأ تلك الأمراض وذلك الفساد وقضينا عليه بالطرق الحكيمة إن تمكنا من ذلك بأنفسنا وإلا اتصلنا بالمسؤولين للتعاون معهم بالقضاء عليه لحصل بذلك خير كثير واندرأ شر كثير. أما إذا تخاذلنا وكان الواحد منا أكبر ما يهمه نفسه ولا يبالي بالناس صلوا أم فسدوا ولا يسعى لإصلاحهم فإن ذلك ينذر بالعقوبة العاجلة والآجلة.
فاحذروا أيها المسلمون عقاب الله وسطوته احذروا أن تسلب منكم النعم وتحل بكم النقم تذكروا عظمة الله وقهره تذكروا قوله تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد اسمعوا قوله تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثير منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولقد قال النبي : ((والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم)) وصعد ذات يوم المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم إن الله عز وجل يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتستنصروني فلا أنصركم وتسألوني فلا أعطيكم)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/823)
في شيء من آيات الله الدالة على قدرته (2)
الإيمان, التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, الله عز وجل, مخلوقات الله
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل ما في الكون يدل على عظمة الله وقدرته البالغة. 2- من آيات الله العظيمة جريان
السحاب ونزول المطر. 3- قصة استسقاء النبي. 4- المطر نعمة تستحق الشكر باللسان
والجوارح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها الناس : اتقوا ربكم واعبدوه الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون.
أيها الناس : إن كل شيء في هذا الكون فيه لله آية تدل على وحدانيته وكمال ربوبيته وكمال قدرته وعظمته وكمال حكمته ورحمته تدل على أنه على كل شيء قدير يخلق ما يشاء ويختار وما كان ليعجزه شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً. إن هذه الرياح اللطيفة يرسلها الله تعالى فتحمل السحب الثقيلة المحملة بالمياه الكثيرة التي تجري بها الأرض أنهاراً وتركد بحاراً ويسوق الله هذا السحاب ثم يؤلف بينه فيجمعه حتى يتراكم كالجبال فيحجب نور الشمس لكثافته وتظلم الأرض من سواده وتراكمه وتراه يتجمع وينضم بعضه إلى بعض سريعاً بإذن الله وإذا شاء الله أن يفرقه فرقه سريعاً فأصبحت السماء صحواً كأن لم يكن سحاب، قال أنس : أصابت الناس سنة على عهد النبي فبينما النبي يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة قطعة غيم فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى وقام ذلك الأعرابي أو قال: غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع يديه وقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)) فما يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفجرت فتمزق السحاب فما نرى منه شيئاً على المدينة وسال الوادي قناة شهراً ولم يجئ أحد من ناحية إلا بالجود.
أيها المسلمون: إن في هذا الحديث الصحيح وفيما نشاهده نحن من هذه القدرة العظيمة لأكبر دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون بمرة واحدة وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر. إنها لآية على أن هذا السحاب مسخر بأمر الله لا يتجاوز ما أمره به خالقه ومنشئه ولقد حدث رسول الله وهو الصادق المصدوق عن رجل في فلاة من الأرض سمع صوتاً في سحابة اسق حديقة فلان فأفرغ السحاب ماءه في حرة وسال منها إلى حديقة الرجل فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان للاسم الذي سمع في السحابة فلم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فماذا تصنع في حديقتك؟ قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأرد فيها ثلثاً يعني لعمارتها وحرثها.
أيها المسلمون إن هذا الغيث الذي أنزله الله علينا لمن فضل الله ورحمته فعلينا أن نقوم بشكره وأن نستعين به على طاعته فإن من قام بشكر الله زاده الله ومن كفر بنعمة الله حرمه الله وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.
فاشكروا الله بالثناء عليه بألسنتكم والتحدث بنعمته واشكروا الله بالقيام بطاعته امتثالاً للأمر واجتناباً للنهي واشكروا الله بالإنابة إليه بقلوبكم واعتقاد أن هذه النعم فضل منه ورحمة وإحسان.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك واجعل ما رزقتنا عوناً لنا على طاعتك واغفر لنا ولجميع المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/824)
في حكم شرب الدخان ومضاره
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- الأمر بتقوى الله والاستغناء بالطيبات عن المحرّمات – ظاهرة انتشار التدخين في المجتمع -
ضرر الدخان في البدن – ضرر الدخان في المال – مضار الدخان الاجتماعية – مضار الدخان
الدينية – الواجب على المدخّنين وغيرهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واستغنوا بما أباح لكم من الطعام والشراب عما حرمه عليكم فإنه ما من شيء ينفعكم من ذلك إلا أباحه لكم فضلا منه وإحسانا وما من شيء يضركم إلا حرمه عليكم رحمة منه وامتنانا فكما أن لله النعمة عليكم فيما أباحه لكم من الطيبات فله النعمة عليكم أيضا بما حرمه من الخبائث والمضرات فعلى العباد أن يشكروا نعمته في الحالتين فيتناولوا ما أباحه لهم فرحين مغتطبين ويتجنبوا ما حرمه عليهم سامعين مطيعين.
أيها الناس: لقد انتشر شرب الدخان في مجتمعنا حتى عم كثيرا من الصغار في الأسواق والدور وهو الشراب الذي لا ينكر ما فيه من ضرر في البدن والمال والمجتمع والدين.
أما ضرره في البدن فإنه يضعف البدن ويضعف القلب ويحدث مرض السرطان والسل والسعال ويفضي إلى الموت كما يشاهد ذلك كثيرا، وكما قرر ذلك كثير من العلماء المختصين وأكد تقريرهم كبار الهيئة الصحية العالمية، وشهد به الأمر الواقع فكم من إنسان أنهك جسمه وأفسد صحته وقتل نفسه بما تعاطاه من هذا الدخان ولا تغتروا بما يرى من بعض الناس الذين يشربونه وأجسامهم سليمة فإن هؤلاء المدخنين ليسوا بحسب مظهرهم واسألهم ماذا يحدث لهم من قلة الشهية وكثرة السعال والنزلات الصدرية والفتور العام والتعب الشديد عند أقل عمل وكلفة؟ ولو أقلعوا عن شربهم لحصل لهم من القوة والنشاط ما لم يكونوا عليه حين شرب الدخان. وأما ضرره في المال فاسأل من يشربه ماذا ينفق كل يوم في شربه؟ ولو كان ينفق هذا المال فيما يعود عليه وعلى أهله بالنفع من الطعام الطيب والشراب الحلال واللباس المباح لكان ذلك خيرا له في دينه ودنياه ولكنه ينفق الكثير في هذا الدخان الذي لا يعود عليه إلا بالضرر العاجل والآجل فنسأل الله لنا وله الهداية أما ما انتفع به بعض الناس من الاتجار به والتكسب حتى صاروا بعد الترب متربين وبعد الإعواز واجدين وبعد الفقر مغتنين فلبئس ما كسبوا حراما واكتسبوا آثاما وإنهم لأغنياء المال فقراء القلوب واجدون في الدنيا عادمون لما كسبوه من الحرام في الآخرة فإنهم إن تصدقوا بهم لم يقبل منهم وإن أنفقوه لم يبارك لهم فيه وإن أخلفوه كان زادا لهم إلى النار، لا يدرون متى يأتيهم الموت فيفارقون أموالهم أشد ما يكونون بها تعلقا وأعظم ما يكونون بها طمعا وبعد ذلك يتلقاها الوارث له غنمها وعلى مخلفها غرمها وإن الفقر لخير من مال يكسبه الإنسان بمعصية الله.
أما مضار الدخان الإجتماعية فإن تفشي الأمور الضارة في المجتمع توجب فساد المجتمع وإن كثيرا ممن يشربونه الآن لا يبالون بانتشاره بين الناس بل ربما يفرح بعضهم بانتشاره وكثرة استعماله وتعاطيه ليتسلى بغيره وتهون مصيبته ولذلك كانوا يشربون أمام الناس وأمام أولادهم الصغار وهذا لا شك يهون شربه عند الصغار ويؤدي إلى نتيجة حتمية وهي أن الصغير إذا اعتاده من صغر فتك به فتكا أعظم ثم لا يستطيع الخلاص منه عند كبره وكم حصل من أعقاب السجائر وهي بقية السجائر التي يلقونها في الأرض كم حصل بها من أضرار وأمراض معدية لمن يأخذونها ويشربونها.
وأما مضاره الدينية فإن المحققين من أهل العلم الذين عرفوا مصادر الشريعة ومواردها وسلموا من الهوى قد تبين لهم تحريمه من عمومات النصوص الشرعية وقواعد الدين المرعية وإذا كان حراما كان فعله معصية لله ولرسوله وكل معصية لله ولرسوله فإنها ضرر في الدين فإن الإيمان ينقص بالمعصية كما يزيد بالطاعة.
أيها المسلمون: إن نصيحتي لمن منّ الله عليه بالعصمة منه أن يحمد الله على هذه النعمة ويسأله الثبات عليها وأن يدعو الله لإخوانه بالعصمة منه، وأما نصيحتي لمن ابتلوا به فأن يتأملوا بإمعان ودقة في مضاره ونتائجه ليقتنعوا بضرورة الامتناع عنه ويهون عليهم تركه واجتنابه وأن يلحوا على ربهم بالدعاء أن يعصمهم منها ويستعينوه على ذلك ويستعملوا الأسباب التي تعينهم على تركه وذلك بقوة العزم وعدم الجلوس في محل يشرب فيه والتسلي عنه بما أباح الله لهم من الطعام والشراب فقد فتح الله لهم من الطيبات كل باب ولم يضيق عليهم في ذلك ولله الحمد، ولينظروا في حال من عافاه الله منها كيف استصحوا وقويت أبدانهم وزالت عنهم الأضرار الناتجة عن شربه ولله الحمد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/825)
في خلق السموات والأرض
موضوعات عامة
مخلوقات الله
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما توصل إليه العلم في مسألة خلق السموات والأرض نظريات قد تخطئ وقد تصيب.
2- جعل الله السماء سقفاً للأرض وبناها بقوته وجعلها شديدة قوية. 3- السماء مغلقة في وجه
الشياطين. 4- معنى السموات السبع والأرضين السبع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه وصدقوا بما أخبركم به واعتقدوه وارفضوا ما خالف كتابه وسنة نبيه من أقوال الناس وردوه لأن ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل زور وبهتان وما وافق الكتاب والسنة فهو حق ثابت لقيام الحجة والبرهان واعلموا أن الله سبحانه لم يشهد أحدا. خلق السماوات والأرض فلا علم عند أحد في ذلك إلا ما جاء عن طريق الوحي: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ، فكل من تكلم عن خلق السماوات والأرض من أي مادة هو وكيف وقع ومتى وقع كل من تكلم بذلك من غير طريق الوحي فإنما يتكلم عن أمر نظري وقياس ظني قد يصيب وقد يخطئ وقد يرفض وقد يغير إذ ليس أحد من البشر شاهد كيف خلق السماوات والأرض هذه هي الحقيقة الثابتة وعلى هذا فالاعتماد في ذلك على ما جاء في كتاب الله أو صح عن رسول الله.
أيها المسلمون: لقد خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام فجعل السماوات سبعا والأرضين سبعا جعل الله السماوات سبعا طباقا بعضها فوق بعض: ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وبناها بناء محكما قويا شديدا: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها زيناها ومالها من فروج والسماء بنيناها بأيد(يعني بقوة) وإنا لموسعون ، وبنينا فوقكم سبعا شدادا أي قوية محكمة، جعل الله بين كل واحدة والأخرى مسافة فكان جبريل يعرج بالنبي من سماء إلى سماء حتى بلغ السابعة، رفعها الله رفعا عظيما: والسماء رفعها ووضع الميزان أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها رفعها سبحانه بغير عمد وأمسكها بقوته: الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم جعلها الله سقفا للأرض محفوظا من الشياطين: وجعلنا السماء سقفا محفوظا ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين جعل لها أبوابا لا تفتح إلا بإذنه: إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء. وفي يوم القيامة يطوي الله هذه السماوات بيمينه: يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين , وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون.
أيها المسلمون: إن هذه الآيات الكريمة العظيمة تدل دلالة قاطعة لا تقبل الشك ولا الجدال في أن السماوات السبع أجرام محسوسة رفيعة محكمة محفوظة لا يستطيع أحد دخولها ولا اختراقها إلا بإذن الله عز وجل ألم تعلموا أن محمدا أشرف البشر وجبريل أشرف الملائكة ما دخلا السماوات حين عروجهما إلا بالإذن والاستفتاح فكيف بغيرهما من المخلوقين؟.
أيها الناس أفبعد هذا يمكن لمؤمن أن يقول: إن السماوات هي المجرات أو هي الغلاف للأرض؟ أو يقول: إن ما نشاهده فضاء لا نهاية له؟ إن من يقول ذلك فهو إما جاهل بوحي الله وإما مكذب به مستكبر عنه مشاق لله ورسوله: ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا إن إنكار السماوات أو التكذيب بها أو بأنها ذات بناء وإحكام تكذيب لله وكفر به سواء قالها أو صدق من يقولها.
أما الأرض فإنها سبع أرضين في ظاهر كلام الله تعالى وصريح سنة رسول الله يقول الله تعالى: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن وهذه المثلية تقتضي المساواة في كل ما تمكن فيه فالأرض مثل السماوات في العدد. قال رسول الله : ((اللهم رب السماوات السبع وما أظللن والأرضين السبع وما أقللن)) (رواه النسائي) والأرض مثل السماوات في التطابق فإذا كانت السماوات سبعا طباقا فكذلك الأرض مثلهن يقول النبي : ((من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين)) (رواه البخاري)، وقال أيضا: ((من اقتطع شبرا من الأرض بغير حقه طوقه إلى سبع أرضين)) (تفرد به أحمد وهو على شرط مسلم).
والغاية تدل على أن كل أرض تحت الأرض وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
لقد خلق الله هذه السماوات وهذا الأرضين وقدر فيهن ما قدر من عجائب مخلوقاته وأسرار مبدعاته وفصل لنا ما فصل منها في سورة فصلت حيث قال: قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ، وحجب عن عباده كثيرا من ذلك فلا يحل لأحد أن يثبت شيئا من أسرار الكون إلا بدليل منقول أو محسوس أما مجرد النظريات التي قد تتغير وتتبدل فلا يمكن الاعتماد عليها وأشد من ذلك وأدهى أن يحرف من أجلها كتاب الله وسنة رسوله فينزل على الآراء والنظريات القابلة للنقض والإفساد ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
وفقني الله وإياكم لفهم كتابه والعمل به وجنبنا الزيغ والزلل في القول والعمل أقول قولي هذا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/826)
اتخاذ الحذر من الأعداء بمقابلتهم بمثل سلاحهم
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعدد أنواع الغزو على بلاد الإسلام. 2- غاية الكفر أن يجعلنا مثله كفاراً. 3- فإن لم
يقدروا شككوه في دينه ليخرج منه إلى أي دين. 4- الغزو الأخلاقي بعض أنواع غزو الكفار.
5- دغدغة الكافرين لعواطف المسلمين. 6- صور الكفر كثيرة. 7- التذكير بوجوب أخذ الحذر
من المشركين والكافرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى وتيقظوا لما يريده أعداء المسلمين من القضاء على الإسلام بكل وسيلة وما يدبرونه من مكايد يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
أيها المسلمون لقد تنوعت أساليب أعداء المسلمين في محاولة القضاء على دينهم ووجهوا إليه ألوانا من الأسلحة وغزوا المسلمين من كل جهة. غزوا المسلمين بالسلاح العسكري وغزوهم بالسلاح الفكري وغزوهم بالسلاح الخلقي وغزوهم بالسلاح العاطفي، غزوا المسلمين بالسلاح العسكري فأعلنوا الحرب على المسلمين وشنوا الغارة عليهم بأقوى الأسلحة التي تمكنهم الفرصة من استعمالها. وغزوا المسلمين بالسلاح الفكري فأفسدوا أفكارا من المسلمين وعقيدة يحاولون تشكيك المسلمين في دينهم وزعزعة العقيدة من قلوبهم بما ينشرونه من كتب ورسائل وما يلقونه من خطب ومقالات بالطعن في الإسلام وقادته أحيانا وبتزيين ما هم عليه من الباطل أحيانا فإن اعتنق المسلم ما هم عليه من الكفر والضلال فذلك غاية مناهم وتمام رضاهم قال الله تعالى وهو العالم بما تخفي الصدور: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ، وقال عالم الغيب والشهادة: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير. وإذا لم يعتنق المسلم ما هم عليه من الكفر والضلال اقتنعوا منه بالشك في دينه والارتياب وفي ذلك خروجه من الدين فإن الشك في الدين كفر ولقد صرح بعضهم بذلك فقالوا: إننا نستبعد من المسلم أن يدخل في ديننا ولكن يكفينا أن يشك في دينه ثم يخرج منه إلى أي دين شاء لأنهم يعلمون أن عز الإسلام هو ذلهم.
وغزوا المسلمين بالسلاح الخلقي فنشروا بين المسلمين ما تفسد به أخلاقهم وتسفل به آدابهم وتكسد به قيمهم، نشروا فيهم ما يثير الغرائز والشهوة إما بالأغاني والألحان وإما بالكلمات الماجنة والقصص الخليعة وإما بالصور الفاتنة حتى يصبح المسلم فريسة لشهوته يتحلل من كل خلق فاضل وينزل إلى مستوى البهائم ولا يكون له هم سوى إشباع غريزته من حلال أو حرام وبذلك ينسى دينه ويهدر كل فضيلة وينطلق مع شهوته ولذاته إلى غير حدود شرعية ولا عرفية فيتنكر للشرع والعادة.
وغزوا المسلمين بالسلاح العاطفي سلاح المحبة والعطف فيتظاهرون بمحبة المسلمين والولاء لهم والعطف عليهم ومراعاة مصالحهم حتى يغتر بهم من يغتر من المسلمين وتنزع من قلوبهم العاطفة الدينية فيميلون إلى هؤلاء الأعداء بالمودة والإخاء والقرب والولاء وينسون قول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق وقوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة وينسون قول الله تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله.. الآية.
أيها المسلمون: إنه يجب علينا مع هذه التوجيهات الإلهية الصادرة عن علم وحكمة ورحمة أن لا نتجاهل دليلا واقعيا يوجب علينا الحذر من أعدائنا ومن موالاتهم ذلك هو ما حصل للإسلام من عز وتمكين فإن أعداءنا لن ينسوا ذلك العز الذي أسقط دولهم وأزال سلطانهم واجتاح بلادهم وظهر على دينهم حتى يأخذوا بالثأر منه بشتى الوسائل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
أيها المسلمون: إن أعداء الإسلام لا ينحصرون في طائفة معينة ولا حزب معين إن الكافرين كلهم أعداء الإسلام وأولياء بعضهم بعضا يقول الله تعالى: والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. فالكفر جنس تحته أنواع ولكل نوع منه أمة تدين به ما بين يهود ونصارى ومجوس وصابئين ومشركين ودهريين وكلهم أولياء بعضهم لبعض لاتفاقهم على الخروج عن طاعة الله تشابهت قلوبهم واختلفت عباراتهم وأساليبهم فقالت اليهود: عزير ابن الله وقالت النصارى: المسيح ابن الله وقالت اليهود: إن الله فقير وقالت النصارى: إن الله ثالث ثلاثة وقالت اليهود: يد الله مغلولة وقالت النصارى: إن الله هو المسيح ابن مريم.
أيها المسلمون: إن علينا أن ننتبه وعلينا أن نحذر وإن علينا أن نعتبر بالأحداث وإن علينا أن نكون أقوياء في التخطيط والعمل فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. إن علينا أن نعد لأعدائنا لكل نوع من هجومهم سلاحه المقابل له حتى نتمكن من صد هجماتهم في كل وجه وأن نتدرع بالحذر البالغ خصوصا في هذا العصر فإن هذا هو ما أمر الله به قال: وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ، هكذا يقول الله سبحانه وتعالى في دفاعهم ويقول في طلبهم: ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/827)
في التحذير من توسع النساء في التبرج
الأسرة والمجتمع
المرأة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأب مسؤول عن تربية أهل بيته. 2- قوامة الرجل على المرأة. 3- فتنة النساء فتنة قديمة
متكررة. 4- عودة مظاهر التبرج الجاهلي وبعض صوره. 5- ذم اختلاط النساء بالرجال.
6- حال نساء السلف إذا خرجن من بيوتهن. 7- دعوة لغض البصر عن المحرمات التي
تعرض في الإعلام وغيره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها الناس اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من رعاية أولادكم وأهليكم قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة فإنكم رعاتهم والمسؤولون عنهم قال النبي (( الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته)).
أيها المسلمون يا رجال الإسلام اذكروا هذه الأمانة العظيمة واشكروا الله على هذه النعمة التي حباكم بها وقوموا بها على الوجه الأكمل اسمعوا قول ربكم خالق الكون وعالم أسراره والمحيط بخفيه وظاهره ومستقبله وماضيه وحاضره اسمعوه يقول: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض لم يجعلكم الله قوامين عليهن إلا لعلمه بقصورهن عقلا ودينا لقد أكد ذلك رسول الله حين قال في النساء: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. فاعرفوا أيها الرجال هذا الفضل وقوموا بهذه الأمانة ولا تغلبنكم النساء على رجولتكم ولا يلهينكم الشيطان على رعاية أهليكم ولا تشتغلوا بأموالكم عن الحفاظ على ما هو أهم وأولى.
أيها المسلمون إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة التي يتهاون بها وليست بالمشكلة الجديدة إنها مشكلة عظيمة يجب الاعتناء بها ودراسة ما يقضي على أسباب الشر والفساد إنها مشكلة الوقت كله قديما وحديثا لقد كانت مشكلة بني إسرائيل وهي مشكلة هذه الأمة قال النبي (( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)). وهذا الحديث الثابت في الصحيحين يتضمن التحذير من هذه الفتنة العظيمة والسعي في القضاء على أسباب الشر قبل أن يستفحل.
أيها المسلمون إن مشكلة النساء عندنا هذا الزمن في التبرج والاختلاط والتسكع في الأسواق وكل ذلك مما نهى الله عنه ورسوله فالتبرج أن تستشرف المرأة للرجال باللباس والزينة والقول والمشية ونحو ذلك مما تظهر به نفسها للرجال وتوجب لفت النظر إليها ولقد قال الله تعالى : ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، ولقد توسع النساء في التبرج باللباس فصارت المرأة تلبس للسوق من أحسن اللباس وتضع عليه عباءة ربما تكن قصيرة لا تسترها أو رهيفة أو ترفعها المرأة عن أسفل جسمها حتى يبين جمال ثيابها وزينتها وربما شدت العباءة بيديها من فوق عجيزتها حتى يتبين حجمها وكل هذا مما نهى الله عنه لقد قال تعالى : ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن نهى الله النساء أن يضربن بأرجلهن فيعلم الخلخال الذي تخفيه فإذا كان الله نهى عن الضرب بالرجل خوفا من سماع الخلخال المستور فكيف بمن تلبس جميل الثياب ثم ترفع العباءة عنه ليراه الناس بأعينهم فيفتنهم وإن الفتنة بما يرى أعظم من الفتنة بما يسمع ليس الخبر كالمعاينة. إذا كان الله نهى عن الضرب بالرجل خوفا من سماع الخلخال فكيف بمن تكشف عن ذراعيها لتظهر ما عليهما من الحلي والزينة ونعومة اليد كأنما تقول للناس: انظروا إلى نعومة يدي وإلى ما عليها من الحلي والزينة.
وإن من التبرج أن تخرج المرأة متعطرة متطيبة فإن هذا خلاف أمر النبي فإن النبي (( قال وليخرجن تفلات)) أي غير متطيبات وقال (( إذا خرجت إحداكن للمسجد فلا تمس طيبا)) وقال (( إن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية)) (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح) ولقد كثرت الزينة والتطيب في أيام الأعراس تخرج النساء من بيوتهن في أحسن ثيابهن وأطيب طيبهن وربما مشين مجتمعات يتحدثن بالأسواق بأصوات مرتفعة وتدافع بينهن أحيانا مما يثير ويهيج الشر. وأما اختلاط النساء بالرجال ومزاحمتهن لهم فهذا موجود في كثير من محلات البيع والشراء وهو خلاف الشرع فلقد خرج النبي من المسجد وقد اختلط النساء مع الرجال في الطريق فقال للنساء: ((استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق عليكن بحافات الطريق)) فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق به. ولقد رغب النبي أمته عن اختلاط النساء بالرجال حتى في أماكن العبادة فقال النبي (( خير صفوف النساء - يعني اللاتي يصلين مع الرجال - خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) وإنما كان آخر صفوفهن خيرا لبعده عن الرجال ومخالطتهم ورؤيتهم لهن ألم يكن في هذا أوضح دليل على محبة الشرع لبعد المرأة عن الرجال واختلاطها بهم.
وأما التسكع في الأسواق والتمشي فيها فما أكثر من يفعله من النساء تخرج المرأة من بيتها لغير حاجة أو لحاجة يسيرة يمكن أن يأتي بها أحد من في البيت من الرجال أو الصبيان.
ولقد قال رسول الله (( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن)) فبيت المرأة خير لها حتى من المسجد فكيف بغيره وإن هذا الحديث الصحيح ليدل على أنه يجوز للرجل أن يمنع المرأة من الخروج للسوق ما عدا المسجد ولا إثم عليه في ذلك ولا حرج، أما منعها من التبرج والتعطر عند الخروج فإنه واجب عليه ومسئول عنه يوم القيامة، وعلى المرأة إذا خرجت أن تخرج بسكينة وخفض صوت ولا تمشِ كما يمشي الرجل بقوة تضرب الأرض برجلها وتهز كتفيها وترفع صوتها قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها. هذه صفات نساء المؤمنين فاقتدوا بهن لعلكم تفلحون ولا تغرنكم الحياة الدنيا وزينتها ولا يغرنكم من لا يؤمنون بالله واليوم الآخر فإن هذا التبرج والثياب القصيرة والضيقة إنما صنعت تقليدا لهم وإن أعداءكم يعلمون أنهم لو دعوكم إلى الكفر ما كفرتم ولو دعوكم إلى الشرك ما أشركتم ولكن يرضون منكم أن يهدموا أخلاقكم ودينكم من جهات أخرى من جهة محقرات الذنوب التي يحقرونها في أعينكم فتحتقرونها وتؤاتونها حتى تنزل بكم إلى النار، قال النبي (( إن الشيطان قد أيس أن تعبدوا الأصنام في أرض العرب ولكنه سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات يوم القيامة )) ، فاتقوا الله أيها المسلمون ولا تنخدعوا بما يقدمه لكم أعداؤكم إنكم الآن على مفترق طرق فتحت عليه الدنيا وانهال عليكم الأعداء قدم البعض منهم إلى بلادكم بعاداتهم السيئة وتقاليدهم المنحرفة وسافر البعض منكم إلى بلادهم وشاهدتموهم في وسائل الإعلام في الصحف والتليفزيون.
فإما أن يكون في دينكم صلابة تتحطم عليها مكايد الأعداء وفيكم قوة الشخصية الإسلامية فلا تقتدون بهم ولا تغترون بهم وتتمسكون بما كان عليه أسلافكم الصالحون فتنالون خير الدنيا والآخرة. وإما أن يكون الأمر بالعكس لين في الدين وضعف في الشخصية وانهيار أمام المثيرات فتبوؤن بالصفقة الخاسرة قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين.
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/828)
تحريم لبس الذهب على الرجال
الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لباس التقوى خير للمرء في دنياه وأخراه. 2- مِن خلع لباس التقوى الرجال الذين يتحلون
بالذهب. 3- المرأة من طبعها التحلي بالذهب ، وغيره ولا يليق ذلك برجولة الرجل. 4- أدلة
تحريم لبس الذهب على الرجال. 5- لبس الدبلة في الخطبة. 6- التشبه بالكافرين سبب لصلتهم
ومحبتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون اتقوا الله تعالى وتدرعوا بلباس التقوى فلباس التقوى ذلك خير، لباس التقوى لباس يقيكم من النار ويكون سببا لرزقكم وتيسير أموركم في هذه الدار، إن لباس التقوى ما يتقي به المرء محارم الله تعالى ويستعين به على طاعته لتكون له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة والعاقبة للمتقين ، وإن من الناس من خلعوا لباس التقوى في لباس ما حرم الله عليهم من الزينة كأنهم شاركوا الرب سبحانه في التحليل والتحريم فأحلوا لأنفسهم ما حرم الله عليهم أو نابذوا الله تعالى في المعصية فاجترئوا على معصية الله غير مبالين بذلك، لقد لبس قوم الذهب لبسوه في أيديهم خواتيم وأسوره ولبسوه في أعناقهم قلائد وسلاسل ولبسوه في صدورهم أزارير ومرصعات سبحان الله رجال يتحلون بالذهب لينزلوا عن كمالهم الذي وهبهم الله إياه إلى نقص النساء أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ، نزلوا بأنفسهم ليشاركوا النساء فيما خصهن الله به من الزينة تلك الزينة التي خصت بها المرأة لتتجمل بها لزوجها فيرغب فيها ولتجبر بها ما كان فيها من نقص. إن مقتضى الرجولة أن يكون الرجل كاملا برجولته يتطلب ما به كمال رجولته من شهامة وكرم ونظر في شؤون دينه ودنياه وليس بحاجة أن ينزل بنفسه إلى مستوى النساء وتتبع مثل هذه السفاسف التي تبعده عما هيئ له من الشئون العظيمة المثمرة في حياته الخاصة وحياة مجتمعه.
أيها المسلمون لقد حرم رسول الله لباس الذهب على ذكور أمته فروى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن علي بن أبي طالب أن النبي أخذ حريرا وذهبا فقال ((هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم)) قف وتأمل قوله : ((على ذكور أمتي)) فإن هذه الإضافة تقتضي تأكيدا على المسلم في التزامه بهذا الحكم وتجنبه لما حرمه رسوله إذا كان من أمته، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ر أى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه وقال ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)) فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله : خذ خاتمك انتفع به. فقال: لا والله لا آخذه وقد طرحه رسول الله. وفي سنن النسائي عن أبي سعيد أن رجلا قدم من نجران إلى رسول الله وعليه خاتم من ذهب فأعرض عنه رسول الله وقال: (( إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار)) ، وروى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي قال (( من مات من أمتي وهو يتحلى بالذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة)) ، فهل بعد هذه الأدلة الواضحة خيار للرجل في لباس الذهب والتحلي به، مرة يصرح النبي بأنه حرام ومرة يصرح بأنه جمرة من نار يجعلها الإنسان في يده ومرة يقول: من مات وهو يتحلى به حرم الله عليه لباسه في الجنة. أفبعد هذا يختار مؤمن أن يلبس ذهبا؟ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا. فاتق الله أيها المؤمن وتجنب ما حرم الله عليك وتب إلى ربك قبل موتك فتصدق بما تلبسه من ذهب على أهلك أو غيرهم من قراباتك، والذي أرى أن تتصدق به على غير أهلك حتى يبعد عنك فلا تسول لك نفسك فيما بعد أن ترجع إليه لكونك تشاهده عليهم وإن أفظع من ذلك أن يلبس الرجل خاتما يكتب عليه اسم زوجته وتلبس زوجته خاتما يكتب عليه اسم زوجها عمل لا أصل له عند المسلمين، وإنما أصله من النصارى حين يضع الرجل للتزوج الخاتم على رأس إبهام الزوجة في اليد اليسرى ويقول: باسم الأب، ثم ينقله في السبابة ويقول: باسم الابن، ثم ينقله في الوسطى ويقول: باسم روح القدس. وهذا إله لأنهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ثم ينقله إلى البنصر قائلا: آمين. فيستقر بالبنصر التي بين الوسطى والخنصر. فكيف يسوغ للمؤمن أن يتلقى عادة كان أصلها من النصارى وينقلها إلى المسلمين وهم مأمورون بمجانبتهم والبعد عنهم حتى قال النبي : ((من تشبه بقوم فهو منهم)). قال شيخ الإسلام ابن تيميه أقل أحوال هذا الحديث التحريم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم. فهذه العادة السيئة هي سيئة في نفسها فإن اقترن به عقيدة فاسدة ازدادت سوءا قد يقترن بها اعتقاد أنها صلة ورابطة بين الزوج وزوجته وليس في كتاب الله ولا سنة ورسوله أن ذلك سبب يوجب المحبة والصلة وليس في معلومنا أنها سبب طبيعي للصلة والمحبة فإذا انتفى السببان الشرعي والطبيعي لم يبق لجعلها سببا سوى الوهم والخيال الذي لا ينبغي للعاقل فضلا عن المؤمن أن يبني تصرفه وعمله عليهما وكم من شخص لبس اسم زوجته ولبست اسمه وانفصمت عرى المحبة والصلة بينهما وكم من أشخاص لا يعرفون هذه العادات أو عرفوها وحكموا عقولهم فلم يفعلوها وكانت المحبة والصلة بينهم وبين زوجاتهم على أعلى ما يكون.
فاتقوا الله عباد الله وترسموا هدي رسول الله وهدي أصحابه فإن هديهم خير هدي وطريقتهم أكمل طريقة، وإياكم وهذه التقاليد العمى التي لا خير فيها فليس كل جديد مقبولا ولا كل قديم مرفوضا وإنما العدل قبول الحق كيفما كان.
وبعد فإننا لنأسف كل الأسف أن يأخذ أقوام من هذه الأمة المسلمة بكل ما ورد عليهم من عادات وتقاليد وشعارات من غير أن يتأنوا فيها وينظروا إليها بنظر الشرع والعقل ينظروا فهيا هل تخالف شريعة الله أم لا. إذا كانت تخالف شريعة الله رفضوها واجتنبوها كما يرفض الجسم السليم جرثومة المرض ثم نصحوا من كان متلبسا من إخوانهم المسلمين الذين وردوا بها ونقلوها إلى مجتمعاتهم بدون تأمل أو نظر، فهذه حقيقة المؤمن أن يكون قوي الشخصية نافذ العزيمة بصير التفكير صالحا مصلحا، وإذا كانت هذه العادات والتقاليد والشعارات الواردة إلينا لا تخالف الشريعة فلينظر إليها بنظر العقل، فلننظر ما نتيجتها في الحاضر أو المستقبل القريب أو البعيد فإنها قد لا يكون له تأثير ملموس في الحاضروإنما لها تأثير مرتقب في المستقبل ومتى سرنا بهذا الاتجاه وعلى هذا الخط فمعنى ذلك أننا على بصيرة وفي اتجاه سليم موفق بإذن الله.
وفقني الله وإياكم لمعرفة الحق وقبوله والعمل به وهدانا جميعا صراطه المستقيم إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/829)
في التحذير من الغيبة والنميمة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- الأمر بتقوى الله واحترام حقوق المسلمين والذب عن أعراضهم – فُشوّ الغيبة والنميمة في
المجتمع – حكم الغيبة والواجب تجاه من يفعل ذلك – تعريف الغيبة – معنى النميمة وخطورتها
,والواجب تجاه من يفعل ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واحترموا حقوق إخوانكم المسلمين وذبوا عن أعراضهم كما تذبون عن دمائهم وأموالهم.
أيها المسلمون: لقد شاع بين كثير من المسلمين داءان عظيمان لكن السلامة منهما يسيرة على من يسرها الله عليه، أيها المسلمون فشا فينا داء الغيبة وداء النميمة أما الغيبة فهي ذكر الإنسان الغائب بما يكره أن يذكر فيه من عمل أو صفة فإن كثيرا من الناس صار همه في المجالس أن يأكل لحم فلان وفلان، فلان فيه كذا وفيه كذا ومع ذلك لو فتشت لرأيته هو أكثر الناس عيبا وأسوأهم خلقا وأضعفهم أمانة وإن مثل هذا الرجل يكون مشؤوما على نفسه ومشؤوما على جلسائه لأن جلساءه إذا لم ينكروا عليه صاروا شركاء له في الإثم وإن لم يقولوا شيئا.
أيها المسلمون: لقد صور الله الإنسان الذي يغتاب إخوانه المسلمين بأبشع صورة، مثله بمن يأكل لحم أخيه ميتا ويكفي قبحا أن يجلس الإنسان على جيفه أخيه يقطع من لحمه ويأكله.
أيها المسلمون: إن الواجب عليكم إذا سمعتم من يغتاب إخوانه المسلمين أن تمنعوه وتذبوا عن أعراض إخوانكم ألستم لو رأيتم أحدا قائما على جنازة رجل من المسلمين يأكل لحمه، ألستم تقومون عليه جميعا وتنكرون عليه؟ إن الغيبة كذلك تماما كما قال الله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ، ولا يبعد أن يعاقب من يغتاب إخوانه يوم القيامة فيقربون إليه بصورة أموات ويرغم على الأكل منهم كما روي في ذلك حديث عن النبي ولقد مر النبي ليلة المعراج بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقال: ((من هؤلاء يا جبريل))؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم. وقال عليه الصلاة والسلام (( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) يعني ولو كان في بيته.
أيها المسلمون: إن كثيرا من أهل الغيبة إذا نُصحوا قالوا: نحن لا نكذب عليه هو يعمل كذا. ولقد قيل للنبي (( أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه)) فبين لأمته أن الغيبة أن تعيب أخاك بما فيه أما إذا غبته بما ليس فيه فإن ذلك جامع لمفسدتين البهتان والغيبة، ولقد نص الإمام أحمد بن حنبل وفقهاء مذهبه على أن الغيبة من كبائر الذنوب فاحذر أيها المسلم منها واشتغل بعيبك عن عيب غيرك وفتش نفسك هل أنت سالم؟ فربما تعيب الناس وأنت أكثرهم عيبا وإن كنت صادقا في قولك مخلصا في نصحك فوجدت في أخيك عيبا فإن الواجب عليك أن تتصل به وتناصحه، هذا هو مقتضى الأخوة الإيمانية والطريقة الإسلامية.
أما الداء الثاني الذي انتشر بين بعض الناس فهو داء النميمة وهي أن ينقل الكلام بين الناس فيذهب إلى الشخص ويقول: قال فيك فلان: كذا وكذا لقصد الإفساد وإلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين وهذه هي النميمة التي هي من كبائر الذنوب ومن أسباب عذاب القبر وعذاب النار قال النبي (( لا يدخل الجنة نمام)) ((ومر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير - أي في أمر شاق تركه عليهما - أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)). أيها المسلمون إن الواجب على من نقل إليه أحد أن فلانا يقول فيه كذا أن ينكر عليه وينهاه عن ذلك وليحذر منه فإن من نقل إليك كلام الناس فيك نقل عنك ما لم تقله. قال الله تعالى ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشّاء بنميم.
وفقني الله وإياكم لمحاسن الأخلاق وصالح الأعمال وجنبنا مساوئ الأخلاق ومنكرات الأعمال وهدانا صراطه المستقيم إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/830)
فيما يجب إخراجه من زكاة الثمار
فقه
الزكاة والصدقة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تذكير بنعم الله الكثيرة. 2- ما ينفقه المرء في سبيل الله مدخر له. 3- وجبل الإنسان على
الشيح ، وتخويف الشيطان له من الفقر. 4- تخرج الزكاة وقت جذاذها. 5- مقدار الزكاة في
النخيل والزروع. 6- تقوى لله فيما يخرجه من أنواع التمر. 7- كيفية إخراج زكاة النخل
المختلف في جودته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أمدكم به من أموال وبنين وجنات وعيون، أمدكم بثمرات النخيل تتفكهون بها رطبا وبسرا ثم تدخرونها قوتا وتمرا فهو الذي خلقها وأوجدها وهو الذي نماها وأصلحها وهو الذي نوعها جودا ورداءة وقسمها، اشكروا الذي أبقاكم حتى أدركتم جناها واشكروا الذي شرع لكم الإنفاق منها على ما يرضيه وزكاها أدوا ما أوجب الله عليكم فيها من الزكاة لتفوزوا بالخلف العاجل والثواب الجزيل من جزيل العطايا والهبات وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين.
عباد الله: أتحسبون أن ما تخرجونه من الزكاة لا ينفعكم أتحسبون أن ما تخرجونه من ذلك فائت عليكم غير مدخر لكم أتحسبون أن ذلك غرم وخسارة لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إن ما تخرجونه من ذلك هو ما تبقونه لأنفسكم في الحقيقة وهو المال الرابح وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا وإن الذي تبقونه وتبخلون به هو المال الزائل لأنكم إما أن تأكلوه في حياتكم فيفنى أو تتركوه لمن بعدكم بعد موتكم فيغنمه الوارث البعيد أو الأدنى هذا هو حقيقة ما تبقونه من المال وتلك حقيقة ما تقدمونه عند الملك العلام، ذبح آل النبي شاة فتصدقوا بها ولم يبق منها إلا الكتف فدخل النبي فقال: ((ما بقي منها؟)) فقالت عائشة: ما بقي منها إلا كتفها، فقال النبي : ((بقي كلها غير كتفها)) وصدق رسول الله فإن الذي بقي من الشاة حقيقة هو ما تصدقوا به لأنه هو الذي سيجدونه مدخرا عند الله أما ما أبقوه فسيفنى.
عباد الله: إن النفوس مجبولة على الشح ولكن من يوق شح نفسه فقد أفلح. إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركمن بالبخل ولا سيما البخل بالزكاة لأن الزكاة ركن من أركان الإسلام فهو حريص على أن تبخلوا بها حريص على أن تمنعوها بالكلية أو أن تمنعوا ما يجب فيها من قدر أو وصف إنه يعدكم ويمنيكم وما يعدكم الشيطان إلا غرورا.
أيها المسلمون: إننا في وقت جذاذ النخيل ووقت إخراج زكاتها وإن الواجب عليكم أن تحاسبوا أنفسكم في الدنيا قبل أن تحاسبوا عليها في الآخرة. لقد بين النبي لأمته ما يجب عليهم من زكاة الثمار بيانا ظاهرا لا إشكال فيه، بيانا تقوم به الحجة وتزول به الشبهة فقال صلوات الله وسلامه عليه: فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر، وهذا بيان ما بعده بيان فالزكاة فيما يسقى بالنضح أي بالسواني والمكائن نصف العشر ،سهم بين ومقدار معلوم قاله رسول الله لأمته وبلغه إليهم فمات صلوات الله وسلامه عليه وقد فوض إليهم الأمر ووكلهم إلى ما عندهم من الدين والأمانة وربه سبحانه هو المتولي لحسابهم إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
أيها المسلم حاسب نفسك أخرج السهم الذي قدره الله لك ورسوله ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ، أخرج نصف العشر من ثمار نخيلك مراعيا بذلك اختلاف الأنواع وقيمة الجيد منها لا تبخل على نفسك فربك لم يفرض الزكاة عليك إلا تكميلا لعبادتك وتطهيرا لما لك وإبراء لذمتك.
أيها المسلمون: إننا في زمن تختلف فيه أنواع النخيل اختلافا بينا ظاهرا فبينما بعض النخيل يباع الكيلو منها بثلاثة ريالات أو أكثر إذا ببعضها يباع الكيلو منه بنصف ريال أو أقل ثم يغلب الشح بعض الناس فيخرج زكاة النوع الأول من هذا النوع الثاني الذي نسبته إليه السدس وهذا حيف بلا شك فإن هذا ليس بإخراج لنصف العشر باعتبار النخل كله أرأيت لو كان لك سهم من بستان مقدار سهمك نصف العشر هل ترضى أن تأخذ من النوع الذي كيلوه بنصف ريال بدلا عن الذي كيلوه بثلاثة ريالات؟ لن ترضى أبدا إذن فكيف لا ترضاه لنفسك في الدنيا ثم ترضاه لربك ولنفسك في الآخرة؟
أيها المسلمون إذا عرفتم أن الواجب نصف العشر سهم بين بنص رسول الله فإن من العلماء من قال يجب عليه أن يخرج زكاة كل نوع من ذلك النوع يخرج زكاة الطيب من الطيب وزكاة المتوسط من المتوسط وزكاة الرديء من الرديء وهذا أمر شاق ولا سيما مع كثرة الأنواع ولذلك قال بعض العلماء: لا بأس أن يخرج عن الجيد من المتوسط بقدر القيمة.
وقال الإمام أحمد فيما رواه عنه ابنه وبعض أصحابه إذا باع ثمره أو زرعه وقد بلغ ففي ثمنه العشر أو نصفه فجعل رحمه الله الواجب في الثمن إذا بيع وهذا من أعدل ما يكون.
أيها المسلمون إنني لا أتكلم بهذا لأن لي حظا في الزكاة ولا لأسألكم عليه أجرا ولكني أتكلم به إبراء لذمتي بإبلاغكم وإبراء لذممكم بإخراج ما يجب عليكم ولعلكم ستقولون: لماذا لم يتكلم عليه من قبلي؟ ولكن الجواب على هذا سهل فإن التباين الكثير وكثرة الأنواع الجيدة جدا لم يكن إلا من مدة سنين قليلة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/831)
في المفطرات
فقه
الصوم
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقت الصيام. 2- المفطرات السبع وأحكامها. 3- حكم ارتكابها سهواً وبعض ما يتعلق به.
4- جواز الاكتحال والسواك. 5- سنن الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أبان لكم من معالم الدين والتزموا طاعته وتقواه سيرة النبيين والمرسلين فإن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وإن مما حد الله وأوضحه وأبانه وأظهره ذلك الصيام الذي هو أحد أركان الإسلام بين الله متى ابتداء الصوم وانتهاؤه شهريا ومتى ابتداؤه وانتهاؤه يوميا فقال في الشهر: فمن شهد منكم الشهر فليصمه وفي الحديث: ((إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ، وقال تعالى في اليوم: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل فإذا تبين الفجر إما بمشاهدته إن كان الإنسان في فضاء وإما بسماع المؤذنين الذين يؤذنون على طلوع الفجر دخل وقت الصيام إلى غروب الشمس لقول النبي للصحابة رضي الله عنهم: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر، وقال: إذا أقبل الليل من هاهنا وأشار إلى المشرق وأدبر النهار من هاهنا وأشار إلى المغرب وغربت الشمس فقد أفطر الصائم.
أيها الناس: إن المفطرات التي تجتنب في الصيام سبعة أنوع: الأول الجماع وهو أعظم المفطرات وفيه الكفارة المغلظة إذا حصل في نهار رمضان ممن يجب عليه الصيام وكفارته عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، الثاني إنزال المني باختباره بتقبيل أو لمس أو ضم أو استمناء أو غير ذلك فأما إنزال المني بالاحتلام فلا يفطر لأنه من نائم والنائم لا اختيار له، الثالث الأكل والشرب وهو إيصال الطعام والشراب إلى جوفه سواء كان ذلك الطعام والشرب حلالاً أم حراما نافعا أم غير نافع وسواء كان عن طريق الفم أم طريق الأنف لقول النبي : ((بالغ في الاستنشاق يعني في الوضوء إلا أن تكون صائما)) فدل هذا على أن الداخل من الأنف كالداخل من الفم فأما شم الروائح فلا يفطر لأنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف. الرابع ما كان بمعنى الأكل والشرب مثل الإبر المغذية وهي التي يستغنى بها عن الطعام والشراب لأنها بمعناهما فأما غير المغذية وهي التي للتداوي وتنشيط الجسم فإنها لا تفطر سواء أخذت مع العرق أم مع العضلات لأنها ليست بمعنى الأكل والشرب، الخامس من المفطرات إخراج الدم بالحجامة لقول النبي : ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ، فأما أخذ الدم من البدن للفحص عنه فلا يفطر لأنه يسير ولا يؤثر على البدن تأثير الحجامة ولا يفطر بخروج الدم بالرعاف ونحوه لأنه بغير اختياره، ولا يفطر بخروج الدم من قلع السن أو الضرس لأنه غير مقصود لكن لا يبلغ لأن بلغ الدم حرام على الصائم وغيره، ولا يفطر بشق الجرح لإخراج القيح منه ولو خرج منه دم، فأما سحب الدم من الصائم ليحقن في شخص آخر محتاج له فإنه يفطر لأنه كثير يؤثر على البدن كما تؤثر الحجامة وعلى هذا فلا يجوز لمن صومه واجب أن يمكن من سحب الدم منه إلا أن يكون لشخص مضطر لا يمكن صبره إلى الغروب ويرجى انتفاعه بهذا الدم فله أن يمكن من سحب الدم منه لهذا المضطر ويأكل ويشرب ويقضي يوما مكانه، السادس: من المفطرات القيء وهو إخراج ما في معدته من الطعام أو الشراب إذا تعمده فأما إن هاجت معدته وخرج الطعام بدون تعمد منه فلا يفطر لقول النبي : ((من ذرعه القيء أي غلبه فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض)).
وهذه المفطرات الستة لا يفطر بها الصائم إلا إذا فعلها عالما ذاكرا مختارا فلا يفطر إن فعلها جاهلا مثل أن يفعل شيئا من المفطرات يظن أنه لا يفطر أو يظن أن الفجر لم يطلع وهو طالع أو يظن أن الشمس قد غربت وهي لم تغرب فليس عليه في ذلك حرج ولا قضاء لقوله تعالى: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم. وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ((أفطرنا على عهد النبي في يوم غيم ثم طلعت الشمس ولم تذكر أن النبي أمرهم بالقضاء)) ولو أمرهم لذكرته لأهميته وما كان الله ليضيع على عباده حكما واجبا بدون بيان لكن متى علم أنه في نهار وجب عليه التوقف عن تناول المفطر فإن استمر في تناول المفطر بطل صومه. ولا يفطر إذا فعل شيئا من المفطرات ناسيا لقوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وقول النبي : ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)) لكن إذا ذكر أو ذكر وجب عليه التوقف عن تناول المفطر فإن استمر بطل صومه حتى لو كان الشيء في فمه فبلعه بعد ذكره بطل صومه ومن رأى صائما يأكل أو يشرب ناسيا فليذكره فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى. ولا يفطر إذا حصل عليه شيء من المفطرات بغير اختياره فلو طار إلى جوفه غبار أو تسرب إليه ماء عند المضمضة أو الاستنشاق بغير اختياره فصومه صحيح ولا شيء عليه. النوع السابع من المفطرات خروج دم الحيض أو النفاس فمتى خرج ذلك ولو قبل الغروب بلحظة بطل الصوم ولو أحست بحركته قبل الغروب ولم يخرج إلا بعده ولو بزمن قليل فالصوم صحيح لأنه لا يبطل إلا بخروجه.
ويجوز للصائم أن يكتحل بأي كحل شاء وأن يقطر دواء في عينه أو أذنه وأن يداوي جروحه وأن يتطيب بالبخور وغيره لكن لا يستنشق دخان البخور فيدخل إلى جوفه ويجوز للصائم أن يفعل ما يخفف عنه الحر والعطش كالتبرد بالماء وبل الثوب ونحوه فقد روى الإمام مالك عن بعض أصحاب النبي قال: ((لقد رأيت رسول الله يصب الماء على رأسه من العطش أو من الحر يعني وهو صائم)). وبل ابن عمر ثوبه وألقاه على بدنه، ويجوز للصائم أن يتسوك في أول النهار وآخره وهو سنة له كما هو سنة لغيره ويتأكد عند الصلاة والوضوء والقيام من النوم وأول ما يدخل بيته، والسنة أن يفطر على رطب فإن لم يكن فتمر فإن لم يكن فماء فإن لم يكن فعلى أي طعام أو شراب حلال فإن غربت الشمس وهو في مكان ليس عنده شيء نوى الفطر بقلبه ولا يمص أصبعه كما يفعله بعض العوم.
واحفظوا أيها المسلمون صيامكم من اللغو والرفث وقول الزور وفعله فإن من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، وأقيموا الصلاة في أوقاتها مع الجماعة أكثروا من الصلاة والذكر وقراءة القرآن والصدقة وغيرها من الطاعات اجتنبوا ما حرم الله عليكم من الغيبة النميمة والغش والكذب والسب والشتم وإن سابكم أحد فقولوا: إني صائم ابتعدوا عن استماع المعازف وآلات اللهو من الراديو أو غيره فإن الصوم جنة يتقي بها الصائم الآثام وينجو بها من النار فمن تجرأ على المحرمات أو تهاون بالواجبات في صيامه نقص ذلك من أجره.
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/832)
في الاستنابة في الحج عن الغير
فقه
الحج والعمرة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضيلة عبادة الحج. 2- جواز الاستنابة في الحج عند العجز عنه. 3- ذم التساهل من الحج
بتوكيل غيره عنه وهو مستطيع. 4- ينبغي لمن يحج عن غيره أن يستحضر الإخلاص في عمله. 5- الحج عبادة وليس تجارة. 6- حكم أخذ الأجرة على الحج. 7- كيفية الدخل في حجة
بدل عن الغير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الحج من أفضل العبادات وأعظمها ثوابا فقد صح عن النبي أن قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) وأنه قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه)) يعني نقيا من الذنوب. وإن الحج عبادة بدنية وإن كان فيها شيء من المال كالهدي، فهي في ذاتها عبادة بدنية يطلب من العبد فعلها بنفسه، وقد جاءت السنة بالإستنابة فيه في الفريضة حال اليأس من فعلها، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن امرأة قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم)) وذلك في حجة الوداع: ((أن امرأة أخرى قالت يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها قال: نعم، حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)).
فمن كان قادرا على الحج بنفسه فإنه لا يصح أن يوكل من يحج عنه، وقد تساهل كثير من الناس في التوكيل في حج التطوع حتى أصبح لا يحدث نفسه أن يحج إلا بالتوكيل، يوكل غيره أن يحج عنه فيحرم نفسه الخير الحاصل له بالحج بنفسه من أجر تعب العبادة وما يكون فيها من ذكر ودعاء وخشوع ومضاعفة أعمال ولقاءات نافعة وغير ذلك اعتمادا على توكيله من يحج عنه.
وقد منع الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين عنه من توكيل القادر من يحج عنه في التطوع فلا ينبغي للمسلم أن يتساهل في ذلك بل يحج بنفسه إن شاء أو يعين الحجاج بشيء من المال ليشاركهم في الأجر من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
أيها الناس: إن الحج عبادة من العبادات يفعلها العبد تقربا إلى الله وابتغاء لثواب الآخرة فلا يجوز للعبد أن يصرفها إلى تكسب مادي يبتغي بها المال، وإن من المؤسف أن كثيرا من الناس الذين يحجون عن غيرهم إنما يحجون من أجل كسب المال فقط، وهذا حرام عليهم فإن العبادات لا يجوز للعبد أن يقصد بها الدنيا يقول الله تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [هود:15-16]. ويقول تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتينا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق [البقرة:200].
فلا يقبل الله تعالى من عبد عبادة لا يبتغي بها وجهه، ولقد حمى رسول الله أماكن العبادة من التكسب للدنيا فقال : ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك)).
فإذا كان هذا فيمن جعل موضع العبادة للتكسب مكاناً عليه أن لا يربح الله تجارته فكيف بمن جعل العبادة نفسها غرضا للتكسب الدنيوي كأن الحج سلعة أو عمل حرفة لبناء بيت أو إقامة جدار، تجد الذي تعرُض عليه النيابة يكاسر ويماكس: هذه دراهم قليلة. هذه لا تكفي. زد أنا أعطاني فلان كذا أو أعطي فلان حجة بكذا، أو نحو هذا الكلام مما يقلب العبادة إلى حرفة وصناعة.
لهذا صرح فقهاء الحنابلة رحمهم الله بأن تأجير الرجل ليحج عن غيره غير صحيح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من حج ليأخذ المال فليس له في الآخرة من خلاق، لكن إذا أخذ النيابة لغرض ديني مثل أن يقصد نفع أخيه بالحج عنه أو يقصد زيادة الطاعة الدعاء والذكر في المشاعر، فهذا لا بأس به وهي نية سليمة.
إن على الذين يأخذون النيابة في الحج أن يخلصوا النية لله تعالى، وأن تكون نيتهم قضاء وطرهم بالتعبد حول بيت الله وذكره ودعائه مع قضاء حاجة إخوانهم بالحج عنهم، وأن يبتعدوا عن النية الدنيئة بقصد التكسب بالمال، فإن لم يكن في نفوسهم إلا التكسب بالمال فإنه لا يحل لهم أخذ النيابة حينئذ.
ومتى أخذ النيابة بنية صالحة فالمال الذي يأخذه كّله له إلا أن يشترط عليه رد ما بقي، وكذلك يجب عليه أن ينوي العمرة والحج لمن وكله لأن هذا هو المعروف بين الناس، إلا أن يشترط لنفسه أن العمرة له فله ما شرط، ولا يحل لمن أخذ النائبة أن يوكل غيره فيها لا بقليل ولا بكثير إلا برضا من صاحبها الذي أعطاه إياها، وثواب الأعمال المتعلقة بالنسك كلها لمن وكله أما مضاعفة الأجر بالصلاة والطواف الذي يتطوع به خارجا عن النسك وقراءة القرآن لمن حج لا للموكَّل.
ويجب على الوكيل في الحج والعمرة، أن يجتهد في إتمام أعمال النسك القولية والفعلية لأنه أمين على ذلك، فليتق الله فيها ما استطاع ويقول في التلبية: لبيك عن فلان، فإن نسيه نواه بقلبه وقال: لبيك عمن أنابني في هذه العمرة أو في هذا الحج.
فيا عباد الله تعالى اتقوا ربكم ولا تجعلوا الدنيا أكبر همكم ولا تحولوا عبادة ربكم إلى قصد المادة فترجعوا بالصفقة الخاسرة، وفقني الله وإياكم للإخلاص في القصد والإصلاح في العمل وهدانا صراطه المستقيم إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/833)
في محظورات الإحرام
فقه
الحج والعمرة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- وجوب تعظيم حرمات الله وشعائره ,وكيفية ذلك – الحج والعمرة من شعائر الله وكيفية
تعظيمها – محظورات الإحرام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله بحكمته ورحمته، فرض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها فرض عليكم تعظيم شعائره وحرماته ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ألا وإن من شعائر الله مناسك الحج والعمرة إن الصفا والمروة من شعائر الله فعظموا هذه المناسك فإنها عبادة عظيمة ونوع من الجهاد في سبيل الله، سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله : هل على النساء جهاد؟ قال: ((عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة)) ، عظموا هذه المناسك بالقيام بما أوجب الله عليكم فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ، عظموا هذه المناسك بالإخلاص فيها لله تعالى والاتباع لنبيكم محمد. قوموا بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة جماعة في أوقاتها والنصح للمسلمين، واجتنبوا ما حرم الله عليكم من المحرمات العامة من الفسوق بجميع أنواعه اجتنبوا الكذب والغش والخيانة والغيبة والنميمة والاستهزاء بالمسلمين والسخرية منهم، واجتنبوا الاستماع إلى المعازف والأغاني المحرمة، اجتنبوا كل ما يلهيكم عن إكمال مناسككم وإتمامها، واجتنبوا ما حرمه الله عليكم تحريما خاصا بسبب الإحرام وهي محظورات الإحرام.
فاجتنبوا الرفث وهو الجماع ومقدماته من اللمس والتقبيل والنظر بشهوة وتلذذ، فالجماع أعظم محظورات الإحرام، وأشدها تأثيرا. من جامع قبل التحلل الأول فسد حجه ولزمه إنهاؤه وقضاؤه من العام المقبل وفدية بدنة ينحرها ويتصدق بها على الفقراء في مكة أو منى.
واجتنبوا الأخذ من شعر الرأس فإن الله يقول: ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله وألحق جمهور العلماء شعر بقية البدن بشعر الرأس وقاسوا عليه إزالة الأظفار وقالوا: لا يجوز للمحرم أن يأخذ شيئا من شعره أو أظافره إلا أن ينكسر ظفره فيؤذيه فله أخذ ما يؤذيه فقط. فمن حلق رأسه أو شيئا منه فعليه فدية يفدي بها نفسه من العقوبة وهي إما صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو شاة يذبحها ويتصدق بها على المساكين ويكون الإطعام والذبح في مكة أو في مكان فعل المحظور.
واجتنبوا قتل الصيد فإن الله يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم سواء كان الصيد طائرا كالحمام أم سائرا كالظباء والأرانب فمن قتل صيدا متعمدا فعليه الجزاء وهو إما ذبح ما يماثله من الإبل أو البقر أو الغنم فيتصدق به على المساكين في مكة أو منى وإما تقويمه بدراهم ليتصدق بما يساويها من الطعام على المساكين في مكة أو منى لكل مسكين ربع صاع من البر أو نصفه من غيره وإما أن يصوم عن كل طعام مسكين يوما.
وأما قطع الشجر فلا تعلق له بالإحرام فيجوز للمحرم وغير المحرم قطع الشجر إذا كان خارج أميال الحرم مثل عرفة ولا يجوز إذا كان داخل أميال الحرم مثل مزدلفة ومنى ومكة إلا ما غرسه الآدمي بنفسه فله قطعه ويجوز للإنسان أن يضع البساط على الأرض في منى أو مزدلفة أو غيرهما من أرض الحرم ولو كان فيها حشيش أخضر إذا لم يقصد بذلك إتلافه.
واجتنبوا عقد النكاح وخطبة النساء فإنه قد صح عن النبي أنه قال: (( لا يَنكِح المحرم ولا ينكح ولا يخطب)) ، فلا يجوز للمحرم أن يتزوج سواء كان رجلا أم امرأة ولا أن يزوج غيره ولا أن يخطب امرأة.
واجتنبوا الطيب بجميع أنواعه دهنا كان أم بخورا فقد قال النبي : (( لا تلبسوا ثوبا مسه الزعفران)) ، وقال في الرجل الذي مات بعرفة وهو محرم: (( اغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا)) ، والحنوط هو الطيب الذي يجعل في قطن على منافذ الميت ومواضع سجوده فلا يجوز للمحرم أن يدهن بالطيب أو يتبخر به أو يضعه في أكله أو شرابه، أو يتنظف بصابون مطيب ويجوز له أن يغتسل ويزيل ما لوثه من وسخ، وأما التطيب عند عقد الإحرام فهو سنة ولا يضر بقاؤه بعد عقد الإحرام، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: ((كنت أطيب رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم وقالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك أي بريقه في مفارق رسول الله وهو محرم)).
واجتنبوا تغطية الرأس بما يغطى به عادة ويلاصقه كالعمامة والغترة والطاقية فقد قال النبي في المحرم الذي مات: (( لا تخمروا رأسه أي لا تغطوه)) فأما ما لم تجر العادة بكونه غطاء كالعفش يحمله المحرم على رأسه فلا بأس به إذا لم يقصد به الستر وكذلك ما لا يلاصق الرأس كالشمسية ونحوها لا بأس به لأن المنهي عنه تغطية الرأس لا تظليله. وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: ((حججت مع النبي حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة)) ، وتحريم تغطية الرأس خاص بالذكور دون الإناث.
واجتنبوا من اللباس ما منع منه رسول الله حيث سئل عما يلبس المحرم؟ فقال: ((لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا الخفاف)) وقال: ((من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل)) وتحريم هذا اللباس خاص بالذكور دون الإناث فلا يجوز للرجل إذا أحرم أن يلبس القميص مثل ثيابنا هذه ولا ما كان في معناه كالفنيلة والصدرية والكوت ولا يلبس العمامة ولا ما في معناها كالغترة والطاقية ولا يلبس البرنس ولا ما في معناه كالمشلح ولا يلبس السراويل سواء كان من ذوات الأكمام الطويلة أم القصيرة ولا يلبس الخفاف ولا ما بمعناها كالشراب ونحوها، فأما لبس الساعة في اليد أو تقلدها في العنق أو لبس النظارة في العين أو السماعة في الأذن أو الخاتم في الإصبع أو الحزام للفلوس أو لربط الإزار أو التلفف بالبطانية ونحوها عن البرد فلا بأس بذلك كله لأنه ليس داخلا فيما نهى عنه لفظا ولا معنى فيكون مباحا، فأما ربط الرداء بالمشبك فإن ربطه بمشابك متواصلة حتى صار كالقميص فالأقرب أنه ممنوع لأنه يشبه أو يقارب القميص الذي نهى عنه رسول الله وإن ربطه بمشبك واحد فقط فلا بأس به إذا كان يؤذيه بانخلاعه إذا لم يربطه وإلا فالأولى تركه، أما الأنثى فتلبس ما شاءت من الثياب المباحة قبل الإحرام غير متبرجة بزينة.
ولا يجوز للذكور ولا للإناث لبس القفازين وهما شراب اليدين ولا يجوز للمرأة لبس النقاب وهو ما يغطى به الوجه ويفتح للعينين والأفضل لها كشف وجهها إلا أن يراها أحد من الرجال غير المحارم فيجب عليها تغطيته. ويجوز للرجل وللمرأة تغيير ثياب الإحرام إلى ثياب أخرى سواء غيرها لوسخ أو نجاسة أو غير ذلك.
فاتقوا الله عباد الله واحفظوا نسككم من نواقصه ونواقضه وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/834)
في جمل من الآداب
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- أهمية مكارم الأخلاق والتحلّي بها – شمول الآداب كافة الأحوال ( الأكل ,الشرب ,اللباس
النوم ,إلخ... )
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتأدبوا بما أدبكم الله به على لسان رسوله فإن الله بعثه ليتمم مكارم الأخلاق فتممها بقوله وفعله وترك الأمة على طريق بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك مرتاب، إن الآداب التي شرعها الله على لسان رسوله آداب شاملة عامة آداب في الأكل والشرب وآداب في اللباس والنوم وآداب في معاملة الناس وآداب في كل شيء، أما الآداب في الأكل والشرب فقد علم رسول الله أمته أن يقولوا عند الأكل والشرب: باسم الله وأخبر أن من لم يسم الله شاركه الشيطان في أكله وشربه وأمرهم أن يأكلوا باليمين ويشربوا باليمين ونهاهم عن الأكل بالشمال والشرب بالشمال وقال: إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله. وأمر الآكل مع غيره أن يأكل مما يليه وقال: إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليه ويشرب الشربة فيحمده عليها. وأما اللباس فالسنة فيه أن يبدأ عند اللبس باليمين فيدخل يده اليمنى قبل اليسرى ورجله اليمنى في النعال والسراويل قبل اليسرى وأما عند الخلع فيبدأ باليسرى قبل اليمنى وإذا لبس شيئا جديدا فليحمد الله الذي رزقه إياه من غير حول منه ولا قوة ورغب النبي أمته في لباس الثوب الجميل فقال: إن الله جميل يحب الجمال، وحرم على ذكور أمته لباس الحرير والذهب وأن يكون لبس الرجل نازلا عن كعبيه وقال: ما أسفل من الكعبين ففي النار وقال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، وأما النوم فالسنة فيه أن ينام على الجنب الأيمن وأن ينام على طهارة ويذكر الله حتى يغلبه النوم ويقرأ آية الكرسي فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وكان إذا استيقظ من نومه يقول : ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا واليه النشور)) ، وقال: (( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليقل: الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره)).
وأما الآداب في معاملة الناس فقد جاء بأكملها فحث على حسن الخلق وقال (( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا )). وقال (( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) وأمر بكل ما يجلب المودة والمحبة بين المؤمنين وجعل في ذلك أجرا وخيرا فقال (( والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم )). وقال (( إن أولى الناس بالهل من بدأهم بالسلام )). وأمر بالصدق في كل شيء وقال (( إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عن الله صديقا )).
وشملت الآداب الإسلامية كل شيء حتى الرجل عندما يريد أن يقضي حاجة بول أو غائط فقد جعل له آدابا فعندما يريد الدخول إلى محل قضاء الحاجة يقول بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث وقدم رجله اليسرى وإذا خرج قدم رجله اليمنى وقال غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. ومن الآداب الإسلامية أن يستعمل الإنسان يده اليمنى عند الأخذ والعطاء فيأخذ بيمينه ويعطي بيمينه ولا يستعمل اليسار إلا عند الحاجة.
فاتقوا الله أيها المسلمون وتأدبوا بما بلغكم من الآداب الإسلامية لترتقوا إلى الكمال الخلقي والتعاملي وتفوزوا بخير الدنيا والآخرة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/835)
التحذير من التهاون بالشهادة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله وإقامة الشهادة لله وحده. 2- عظم أمر الشهادة وخطره. 3- شروط
الشهادة. 4- نماذج من التساهل في الشهادة. 5- التحذير من شهادة الزور وبيان أنها من
الكبائر، وأثرها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأقيموا الشهادة لله أقيموها لله وحده لا تقيموها لقريب من أجل قرابته ولا لصديق من أجل صداقته ولا لغني من أجل غناه ولا لفقير من أجل فقره ولا تقيموها على بعيد من أجل بعده ولا على عدو من أجل عداوته أقيموا الشهادة لله وحده أقيموها كما أمركم بذلك ربكم وخالقكم ومدبر أموركم والحاكم بينكم والعالم بسركم وعلانيتكم أقيموها كما قال الله سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا.
أيها المسلمون: إن الشهادة أمرها عظيم وخطرها جسيم في تحملها وأدائها فلا يحل كتمانها ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ولا يحل أن يشهد إلا أن يكون عالما بما يشهد به علما يقينا وأنه مطابق للواقع تماما فلا يحل أن يشهد بما لا يعلم ولا بما يعلم أن الأمر بخلافه بل لا يحل أن يشهد ولا بما يغلب على ظنه حتى يعلمه يقينا كما يعلم الشمس فعلى مثلها فليشهد أو ليترك.
أيها المسلمون: إن من الناس اليوم من يتهاون بالشهادة فيشهد بالظن المجرد أو بما يعلم أن الواقع بخلافه يتجرأ على الأمر المنكر العظيم مراعاة لقريب أو توددا لصديق أو محاباة لغني أو عطفا على فقير يقول إنه يريد الإصلاح بذلك زين له سوء عمله فرآه حسنا كما زين لغيره من أهل الشر والفساد سوء عمله فرآه حسنا فالمنافقون زين في قلوبهم النفاق وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون فقال الله فيهم: ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وعباد الأصنام زين في قلوبهم عبادتها وقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونها إلى الله زلفى وهي في الواقع لا تزيدهم من الله إلا بعدا.
أيها الناس: إن كل مفسد ربما يدعي أنه مصلح أو ربما يظن أنه مصلح بسبب شبهة عرضت له فالتبس عليه الإفساد بالإصلاح أو بسبب إرادة سيئة زينت له فاتبع هواه ولكن الصلاح كل الصلاح باتباع شريعة الله وتنفيذ أحكامه والعمل بما يرضيه.
أيها المسلمون: إن من الناس من يشهد لشخص بما لا يعلم أنه يستحقه بل بما يعلم أنه لا يستحقه يدعي أنه عاطف عليه وراحم له بذلك والحق أن هذا الشاهد لم يرحم المشهود له ولم يرحم نفسه بل أكسبها إثما به وأكسب المشهود له إثما فأدخل عليه مالا يستحقه وظلم المشهود عليه فاستخرج منه مالا يجب عليه.
إن من الناس من يشهد للموظف المهمل لوظيفته بمبررات لإهماله لا حقيقة لها فيشهد له بالمرض وهو غير مريض أو يشهد له بشغل قاهر وهو غير مشغول أو يشهد له بنقل أهله إلى مقر عمله الجديد وهو لم ينقلهم أو باستئجار سيارة وهو لم يستأجرها أو يشهد بأجره أكثر مما استأجرها به وكل هذ من الشهادة بالباطل. وإن من الناس من يشهد لشخص بأنه قام بالوظيفة منذ وقت كذا وهو لم يقم بها ولم يباشرها يزعم الشاهد بذلك أنه يريد الإصلاح بنفع المشهود له ولم يدر أنه بهذه الشهادة ضر نفسه وضر المشهود له وأفسد على نفسه وعلى المشهود له ما أفسد من دينه.
لقد قال الله تعالى بعد أن أمر بإقامة الشهادة بالقسط قال: إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تشهد لغني من أجل غناه ولا لفقير من أجل فقره فإن الله أولى بهما بل أقم الشهادة لله وحده.
أيها المسلمون: إن شهادة الإنسان بما لا يعلمه علما يقينا مثل الشمس أو بما يعلم أن الواقع بخلافه سواء شهد للشخص أو عليه هي من شهادة الزور التي حذر منها رسول الله وجعلها من أكبر الكبائر فقال : ((ثلاثا ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قالوا: لا يسكت أو قالوا: ليته سكت)) ، وقال أنس بن مالك : ذكر النبي الكبائر فقال: ((الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور أو قال: شهادة الزور)).
أيها المسلمون: إن هذين الحديثين الصحيحين الثابتين عن رسول الله ليتبين بهما تعظيم النبي لشهادة الزور والتحذير منها لقد عظم النبي التحذير منها بقوله وفعله عظمه بفعله حيث كان يتحدث عن الشرك والعقوق متكئاً فما ذكر شهادة الزور جلس ليبين فداحتها وعظمها. وعظمه بقوله حين جعل يكرر القول بها حتى قال الصحابة : لا يسكت أو تمنوا أن يسكت وعظمه أيضاً حين صدر القول عنها بأداة التنبيه (ألا) وحين فصلها في حديث أنس عما قبلها من الكبائر وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر.
أيها المسلمون أيها المؤمنون بالله ورسوله أيها الراجعون لرحمة الله أيها الخائفون من عذابه أيها المؤمنون بيوم الحساب يوم تقفون بين يدي الله عز وجل لا مال ولا بنون تنظرون أيمن منكم لا ترون إلا ما قدمتم وتنظرون أشأم منكم فلا ترون إلا ما قدمتم وتنظرون أمامكم فلا ترون إلا النار تلقاء وجوهكم. إنكم ستسألون عما شهدتم به وعمن شهدتم عليه أو شهدتم له فاتقوا واحذروا.
أيها المؤمنون: تصوروا رسول الله وهو المبلغ عن الله القائم بأمر الله الناصح لعباده تصوروه وهو يعرض على أمته بنفسه أن ينبئهم بأكبر الكبائر ليحذروها ويبتعدوا عنها وتصوروه كأنه أمامكم كان متكئا ثم يجلس عند ذكر شهادة الزور وتصوروه يكرر ويؤكد أن شهادة الزور من أكبر الكبائر لو تصورتم ذلك لعرفتم حقيقة شهادة الزور. لقد تحدث النبي عن الشرك والعقوق وهو متكئ لم يجلس لأن الداعي إلى الشرك والعقوق ضعيف في النفوس لأنه مخالف للفطرة لكنه جلس حينما تحدث عن شهادة الزور لأن الداعي إليها قوي وكثير فالقرابة والصداقة والغنى والفقر كلها قد تحمل ضعيف العقل والدين على أن يشهد بالزور لكن المؤمن العاقل حينما يعلم أن النبي يحذر من شهادة الزور هذا التحذير البليغ لا يمكنه أن يقدم على شهادة الزور مهما كانت الأسباب والدواعي.
أيها المسلمون: إن شهادة الزور مفسدة للدين والدنيا وللفرد والمجتمع إنها معصية لله ورسوله إنها كذب وبهتان وأكل للمال بالباطل فالمشهود له يأكل ما لا يستحق والشاهد يقدم له ما لا حق له فيه. إن شهادة الزور سبب لانتهاك الأعراض وإزهاق النفوس فإن الشاهد بالزور إذا شهد مرة هانت عليه الشهادة ثانية وإذا شهد بالصغير هانت عليه بالكبير لأن النفوس بمقتضى الفطرة تنفر من المعصية وتهابها فإذا وقعت فيها هانت عليها وتدرجت من الأصغر إلى ما فوقه.
أيها المسلمون: إن شهادة الزور ضياع للحقوق وإسقاط للعدالة وزعزعة للثقة والأمانة وإرباك للأحكام وتشويش على المسؤولين والحكام فهي فساد الدين والدنيا والآخرة وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار )) (رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد).
فالحذر الحذر أيها المسلمون من شهادة الزور وإن زينها الشيطان في قلوبكم ولا تأخذكم في الله لومة لائم ولا تصرفكم عن الحق ظنون كاذبة أو إرادات آثمة فتشاقوا الله ورسوله وتتبعوا غير سبيل المؤمنين.
وفقني الله وإياكم لإقامة الحق والعدل والبيان وجنبنا الباطل والجور والبهتان وحمانا عما يضرنا في ديننا إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/836)
شيء من الفتن قبل قيام الساعة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله والثبات على دينه والحذر من الضلال والفتن. 2- تعريف الفتنة وأنواعها
وتحذيره منها. 3- الدعوة إلى سفور المرأة واختلاطها بالرجال وإلغاء الفوارق بينها وبين
الرجل. 4- الافتتان بالحضارة الغربية والغفلة عن جانبها المظلم. 5- كيد الأعداء للأمة
ومحاولة فتنتها. 6- وجوب الحذر من الفتن وأسبابها ومروجيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأنيبوا إليه واثبتوا على دينه واستقيموا إليه فإن دين الله دين الحق ووسيلة الصلاح في الدنيا والآخرة واحذروا الزيغ والضلال عنه فإن في ذلك الفساد والشقاوة في الدنيا والآخرة واحذروا الفتن احذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن. إن الفتن كل ما يصد عن دين الله من مال أو أهل أو ولد أو عمل إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا اتقوا فتنة ينتشر شرها وفسادها إلى الصالحين كما أصاب الظالمين واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب احذروا فتنة العقيدة الباطلة والآراء المنحرفة والأخلاق السافلة واحذروا كل فتنة في القول أو في العمل فإن الفتن أوبئة فتاكة سريعة الانتشار إلى القلوب والأعمال إلى الجماعة والأفراد فتصيب الصالح والطالح في آثارها وعقوباتها. فلقد حذر النبي أمته من الفتن فقال : (( بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا)) (رواه مسلم)، إنها فتن مظلمة لا نور فيها كقطع الليل المظلم تؤثر في عقيدة المسلم بين عشية وضحاها يصبح مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا وذلك لأنها فتن قوية ترد على إيمان ضعيف أضعفته المعاصي وأنهكته الشهوات فلا يجد مقاومة لتلك الفتن ولا مدافعة فتفتك به فتكا وتمزقه كما يمزق السهم رميته.
أيها الناس إننا في هذا العصر، بما فتح علينا من الدنيا فتداعت علينا الأمم من أجلها فاختلطوا بنا، إننا بهذا الفتح الدنيوي لعلى مفترق طرق وفي دور تحول نرجو ألا يكون تحورا فعلى دينكم أيها المؤمنون فاثبتوا ولطريق نبيكم وسلفكم الصالح رضي الله عنهم فاسلكوا. يقول ربكم تبارك وتعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.
فهذه عباد الله وصية الله تعالى إليكم أن تتبعوا صراطه المستقيم وأن لا تتبعوا سبيلا يخالفه فتفرق بكم الطرق عن سبيله وتجترفكم الأهواء.
أيها الناس: إنا نسمع ونشاهد في كل وقت فتنا تترى علينا بدون فتور أو ضعف لأنها وللأسف تجد مكانا متسعا ومربعا مرتعا فتنا توجب الإعراض عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله عن العلم بهما والعمل فتنا تتوارد لا أقول من هناك فحسب ولكن من هناك ومن هاهنا من أعدائنا ومن بني جلدتنا.
نسمع (مثلا) من يدعو إلى اختلاط النساء بالرجال وإلغاء الفوارق بينهم إما بصريح القول أو بالتخطيط الماكر البعيد والعمل من وراء الستار وكأن هذا الداعي يتجاهل أو يجهل أن دعوته هذه خلاف الفطرة والجبلة التي خلق الله عليها الذكر والأنثى وفارق بينهما خلقة وخلقا كأن هذا الداعي يتجاهل أو يجهل أن هذا خلاف ما يهدف إليه الشرع من بناء الأخلاق الفاضلة والبعد عن الرذيلة فلقد شرع النبي ما يوجب بعد المرأة عن الاختلاط بالرجل فكان يعزل النساء عن الرجال في الصلاة ويقول خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها لماذا؟ لماذا يكون شر صفوف النساء أولها؟ لأن أولها أقرب إلى الرجال من آخرها فكان شرها وآخرها أبعد عن الرجال من أولها فكان خيرها إذن فكلما ابتعدت المرأة عن الاختلاط بالرجال فهو خير وكلما قربت من ذلك فهو شر. كأن هذا الداعي إلى اختلاط النساء بالرجال يتجاهل أو يجهل ما حصل لأمة الاختلاط من الويلات والفساد وانحطاط الأخلاق وانتشار الزنى وكثرة أولاد الزنى حتى أصبحوا يتمنون الخلاص من هذه المفاسد فلا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
ونسمع من يدعو إلى سفور المرأة وتبرجها وإبراز وجهها ومحاسنها وخلع جلباب الحياء عنها يحاول أن تخرج المرأة سافرة بدون حياء وكأن هذا الداعي يجهل أو يتجاهل أن الحياء من جبلة المرأة التي خلقت عليها وأن الحياء من دينها الذي خلقت له. قال النبي : (( الحياء من الإيمان)). وقال: (( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)). كأن هذا الداعي إلى السفور يجهل أو يتجاهل ما يفضي إليه من الشر والفساد واتباع النساء الجميلات ومحاولة غير الجميلة أن تجمل نفسها لئلا تبدوا قبيحة مع من يمشي من الجميلات في السوق فيبقى مجتمع النساء الإسلامي معرض أزياء. ومن عجب أني قرأت لكاتب من دعاة السفور كلاما ساق فيه حديثا ضعيفا قال فيه إنه حديث صحيح متفق على صحته وهذا الحديث رواه أبو داود أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على النبي وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: (( يا أسماء إن المرأة إذا بلغت سن المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه)). لكن هذا الحديث ضعيف لأنه غير متصل السند ولا موثوق بجميع رواته.
ونسمع من الفتن ما يروجه أعداء الإسلام من الدعاية الكاذبة العارمة لتفخيمهم وترويج بضاعة مدنيتهم الزائفة وحضارتهم المنهارة يرجون ذلك باسم التقدم والرقي والتطور والتثقيف العالمي وما أشبه ذلك من العبارات الفخمة الجزلة التي تنبهر بها عقول كثير من الناس فيصدقون بما يقال ثم يلهثون وراء هؤلاء الأعداء المروجين بالتقليد الأعمى والتبعية غير المعقولة بدون تأمل أو نظر في الفوارق والعواقب أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون فرويدك أيها المخدوع رويدك.
إن كل شيء نافع في حضارة هؤلاء الذين أغرتك دعايتهم وغرتك إن كل نافع فيها إن قدر ففي الدين الإسلامي ما هو خير منه وأنفع وأضبط للمجتمع وأجمع فارجع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله وسيرته وسيرة خلفائه وسلف الأمة لترى فيها كل خير نافع للعالم في معاشهم ومعادهم في حاضرهم ومستقبلهم ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون. ارجع إلى ذلك لترى ما يحاول هؤلاء الأعداء بكل قواهم أن يصدوك عنه لأنهم يعلمون أنك لو طبقته تماما لملكت عواصم بلادهم كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز.
أيها المسلمون أيها المؤمنون: إن أعداءنا ليهونون هذه الفتن في نفوسنا فيجلبونها إلينا بعد أن أفسدتهم ليفسدونا بها كما فسدوا ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء وما زال الناس في عصرنا هذا يشاهدون ويسمعون كل وقت مظهرا جديدا من مظاهر الفتن كل فتنة يستنكرها الناس ويشمئزون حتى إذا لانت نفوس بعضهم إليها جاءت فتنة أخرى أعظم منها. وإن السعيد لمن وقي الفتن ومن ابتلي بها فليصبر على دينه وليثبت عليه. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله : (( إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى الله )).
فاتقوا الله عباد الله ولا تنخدعوا بهذه الفتن ولا بكثرة الداعين إليها فإن الهدى هدي الله ودين الله لا يتغير بتغير الزمن والباطل لا ينقلب بكثرة الداعين إليه والعاملين به.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/837)
في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المسلمون الأوائل. 2- دعوة النبي أهله وقومه. 3- إيذاء قريش للنبي. 4- موت خديجة
وأبو طالب. 5- إيذاء أهل الطائف له. 6- إسلام الأنصار وانتشار الدعوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن رسول الله لما أنزل عليه قوله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ، قام ممتثلا لأمر ربه متوكلا عليه واثقا به فدعا الناس إلى عبادة الله وكان بدء الدعوة سرا فآمن به رجال من قريش وكان أولهم إسلاما أبا بكر الصديق وأسلم على يديه خمسة من المبشرين بالجنة عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وهؤلاء الخمسة مع أبي بكر وعلى بن أبي طالب وزيد بن حارث هم الثمانية الموصوفون بالسبق إلى الإسلام. وأسلم غيرهم فكان رسول الله يجتمع بهم سرا ويرشدهم إلى ما أرشده الله إليه من الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم لمدة ثلاث سنين حتى أنزل الله عليه قوله: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين فصعد على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي يا بطون قريش فاجتمع الناس إليه حتى كان الرجل إذا لم يستطع أن يأتي أرسل رسولا لينظر الخبر فلما اجتمعوا قال لهم : ((إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة)) فقال له عمه أبو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا وسخر به وبما قال فأنزل الله فيه سورة تبت يدا أبي لهب وتب ثم أنزل الله على رسوله وأنذر عشيرتك الأقربين فجمعهم وقال: والله لو كذبت الناس كلهم ما كذبتكم والله إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة والله لتموتن ولتبعثن ولتحاسبن ولتجزون وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا فتكلم القوم كلاما لينا لكن أبا لهب قال: خذوا على يديه قبل أن تجتمع العرب عليه فإن سلمتموه ذللتم وإن منعتموه قتلتم فمانعه أبو طالب وقال: والله لنمنعنه ما بقينا. ثم انصرف الجمع بدون طائل ولكن رسول الله ظل يدعو إلى الله تعالى علنا وجهرا وكان الناس يسخرون به يقولون: هذا غلام عبد المطلب يكلم من السماء هذا ابن أبي كبشة. ثم إنه جعل يسفه عقول المشركين ويبين بطلان عبادتهم للأصنام فكلمت قريش أبا طالب أكثر من مرة ليمنع رسول الله من ذلك وهددوه فأشار أبو طالب على رسول الله أن يبقي عليه وعلى نفسه فظن رسول الله أن عمه سيخذله فشق ذلك عليه وقال: يا عم والله لو وضعوا الشمس على يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ثم بكى وانصرف فناداه عمه وقال: يا ابن أخي قل ما أحببت فوالله لا أسلمك إليهم أبدا. فاستمر رسول الله في الدعوة وازداد أذى قومه له بالقول والفعل فكان أبو جهل إذا رآه يصلي نهاه وأغلظ عليه القول وقال: ألم أنهك. وكان يوما يصلي وحوله ملأ من قريش فقال بعضهم لبعض: أيكم يعمد إلى جزور آل فلان فيأتي بدمها وسلاها فيضعه بين كتفيه إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأتى به فلما سجد رسول الله وضعه بين كتفيه فثبت رسول الله ساجدا والقوم يضحكون ويسخرون حتى جاءت ابنته فاطمة وهي جويرية صغيرة فألقته عنه وكانوا يرمون القذر على بابه فيخرج رسول الله فيطرحه يقول: أي جوار هذا. واشتد أذى قريش لمن آمن برسول الله فكانوا يعذبونهم بالطعن والضرب والنار فكان رسول الله يقوي أصحابه ويشجعهم على الصبر قال: لعمار بن ياسر وأهله وهم يعذبون صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة ولما رأى اشتداد الأمر بأصحابه أذن لهم بالهجرة وقال: تفرقوا في الأرض فإن الله سيجمعكم وأشار إلى الحبشة فهاجر إليها في السنة الخامسة من البعثة عشرة رجال وخمس نساء ثم رجعوا بعد ثلاثة أشهر ولكن المشركين ما زال أذاهم يستمر وشرهم يستفحل فأذن رسول الله لأصحابه بالهجرة مرة ثانية إلى الحبشة في السنة السابعة من البعثة فهاجر إليها فوق الثمانين من الرجال ودون العشرين من النساء فأكرمهم النجاشي وجعل لهم الحرية في دينهم.
أما رسول الله فبقي في مكة يلاقي الشدائد والبلايا من أذية كفار قريش له وهو صابر محتسب منفذ لأمر الله وقد مات عمه أبو طالب وزوجته خديجة في السنة العاشرة من البعثة فاشتد الأمر عليه ثم خرج إلى الطائف يدعو قبائل ثقيف إلى الإسلام فلم يجد منهم إلا السخرية والأذى ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه فرجع النبي إلى مكة ودخلها في جوار المطعم بن عدي وصار يعرض نفسه على القبائل في المواسم كل عام يتتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فلما رجعوا إلى قومهم بالمدينة أخبروهم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلما كان العام المقبل قدم على رسول الله اثنا عشر رجلا منهم فبايعوه وبعث معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام فكثر الإسلام في المدينة فلما كان العام المقبل قدم من الأنصار إلى رسول الله نحو سبعين رجلا وامرأتان فبايعوا رسول الله على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم إذا هاجر إليهم فكان في ذلك فاتحة خير للإسلام والمسلمين وفخر عظيم للأنصار رضي الله عنهم.
عباد الله إن فيما جرى على رسول الله في تبليغ دعوة الإسلام من الأذى والتعب والمشقة لعبرة لأولي الأبصار.
فاتقوا الله أيها المسلمون واعتبروا واصبروا على ما يصيبكم في الدعوة إلى دين الله وانتظروا فإن العاقبة للمتقين وإن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/838)
الأشهر الحرم
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختيار الله للأشهر الحرم وليوم الجمعة وليلة القدر. 2- دعوة لهجر الذنوب وحسن الاستقبال
للأشهر الحرم. 3- تعدد وسائل الشيطان ومكره في إضلال البشر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتيقنوا أن لله تعالى الحكمة البالغة فيما يصطفي من خلقه فالله تعالى يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ويفضل من الأوقات أوقاتا ومن الأمكنة أماكن ففضل الله تعالى مكة على سائر البقاع ثم من بعدها المدينة مهاجر خاتم الأنبياء محمد ثم من بعدهما بيت المقدس مكان غالب الأنبياء الذين قص الله علينا نبأهم وجعل لمكة والمدينة حرما دون بيت المقدس وفضل الله تعالى بعض الشهور والأيام والليالي على بعض فعدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة متوالية وشهر رجب الفرد بين جمادى وشعبان وخير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة وليلة القدر خير من ألف شهر فعظموا رحمكم الله تعالى ما عظمه الله فلقد ذكر أهل العلم أن الحسنات تضاعف في كل زمان ومكان فاضل وأن السيئات تعظم في كل زمان ومكان فاضل وشاهد هذا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله يقول الله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وقال تعالى في المسجد الحرام ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.
وإنكم اليوم تستقبلون الأشهر الحرم الثلاثة فلا تظلموا فيهن أنفسكم التزموا حدود الله تعالى أقيموا فرائض الله واجتنبوا محارمه أدوا الحقوق فيما بينكم وبين ربكم وفيما بينكم وبين عباده واعلموا أن الشيطان قد قعد لابن آدم كل مرصد وأقسم لله ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا يجد أكثرهم شاكرين أقسم لله بعزة الله ليغوينهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين إن الشيطان لحريص كل الحرص على إغواء بني آدم وإضلالهم يصدهم عن دين الله يأمرهم بالفحشاء والمنكر يحبب إليهم المعاصي ويكره إليهم الطاعات يأتيهم من كل جانب ويقذفهم بسهامه من كل جبهة إن رأى من العبد رغبة في الخير ثبطه عنه وأقعده فإن عجز عنه من هذا الجانب جاءه من جانب الغلو والوسواس والشكوك وتعدي الحدود في الطاعة فأفسدها عليه فإن عجز عنه من جانب الطاعات جاءه من جانب المعاصي فينظر أقوى المعاصي هدما لدينه فأوقعه فيها فإن عجز عنه من هذا الجانب حاوله من جانب أسهل فأوقعه فيما دونها من المعاصي فإذا وقع في شرك المعاصي فقد نال الشيطان منه بغيته فإن يكسل في نفسه تارة ويفتح عليه الشيطان باب التسويف تارة يقول له: هذه هينة أفعلها هذه المرة وتب إلى الله تعالى فباب التوبة مفتوح وربك غفور رحيم فلا يزال به يعده ويمنيه وما يعده إلا غرورا فإذا وقع في هذه المعصية التي كان يراها من قبل صعبة كبيرة وهانت عليه تدرج به الشيطان إلى ما هو أكبر منها وهكذا أبدا حتى يخرجه من دينه كله ولقد أشار النبي إلى هذا التدرج فيما رواه الإمام أحمد عن سهل بن سعد أن النبي قال: ((إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وذا بعود حتى أنضجوا خبزهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)).
عباد الله: احذروا مكايد الشيطان ومكره فإنه يتنوع في ذلك ويتلون فهذا يأتيه من قبل الإيمان والتوحيد فيوقعه في الشك أحيانا وفي الشرك أحيانا وهذا يأتيه من قبل الصلاة فيوقعه في التهاون بها والإخلال وهذا يأتيه من قبل الزكاة فيوقعه في البخل بها أو صرفها في غير مستحقها وهذا يأتيه من قبل الصيام فيوقعه فيما ينقضه من سيئ الأقوال والأفعال وهذا يأتيه من قبل الحج فيوقعه في التسويف به حتى يأتيه الموت وما حج وهذا يأتيه من قبل حقوق الوالدين والأقارب فيوقعه في العقوق والقطيعة وهذا يأتيه من قبل الأمانة فيوقعه في الغش والخيانة وهذا يأتيه من قبل المال فيوقعه في اكتسابه من غير مبالاة فيكتسبه عن طريق الحرام بالربا تارة وبالغرور والجهالة تارة وبأخذه الرشوة أحيانا وبإهمال عمله تارة إلى غيره ذلك من أنواع المعاصي وأجناسها التي يغر بها الشيطان بني آدم ثم يتخلى عنهم أحوج ما يكونون إلى المساعد والمعين اسمعوا قول الله تعالى في غرور الشيطان لأبوينا آدم وحواء حين أسكنهما الله تعالى الجنة وأذن لهما أن يأكلا رغدا من حيث شاءا من أشجارها وثمارها سوى شجرة واحدة عينها لهما بالإشارة ولا تقربا هذه الشجرة ولكن الشيطان وسوس لهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما أي أنزلهما من مرتبة الطاعة وعلو المنزلة بغرور ، واسمعوا خداعه لقريش في الخروج إلى بدر وتخليه عنهم حيث يقول الله تعالى في ذلك: وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب واسمعوا قول الله تعالى في خداع الشيطان لكل إنسان وتخليه عنه حيث يقول الله تعالى: كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم.
عباد الله إن كل ما تجدون في نفوسكم من تكاسل عن الطاعات وتهاون بالمعاصي فإنه من وساوس الشيطان ونزغاته فإذا وجدتم ذلك فاستعيذوا بالله منه فإن في ذلك الشفاء والخلاص قال الله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون اللهم أعذنا من الشيطان الرجيم واجعلنا من عبادك المخلصين الذين ليس له سلطان عليهم وعلى ربهم يتوكلون واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين إنك جواد كريم غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/839)
أهل السنة وأئمتهم
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد... فإن السبيل المستقيم هو الذي جاء به سيد المرسلين وخاتم النبيين عبد الله ورسوله محمد ، لا سبيل إلى الوصول إلى رضوان الله وإلى جناته إلا بواسطة اتباع رسول الله محمد فمن اتبع ما جاء به هذا الرسول فقد نجا وظفر وفاز برضوان رب العالمين.
وإن انحرف عما جاء به هذا الرسول فقد هلك وخسر الخسران المبين لأن سيدنا محمدًا هو المبلغ عن ربه المبين عن الله مراده قال تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك [المائدة: 67]. وقال تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم [النحل: 44].
وهو المعلم لأمته الكتاب والحكمة قال تعالى ممتنًا عليهم بذلك: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة [آل عمران: 164].
وهو الذي يبين لهم الحلال والحرام قال تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [الأعراف: 157].
وقد بُعث لهذه الأمة قاضيًا بينهم في شئون حياتهم وحكمًا فيما شجر بينهم قال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [الأحزاب: 36].
فلا يصح إيمان أحد حتى يُحكِّم نبي الله ويُحكِّم سنته ثم لا يجد في نفسه ضيقًا ولا حرجًا من ذلك بل يسلم لحكمه.
قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في صدورهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا [النساء: 65].
ولقد بعثه الله بالشريعة السمحة والدين الخاتم ليحكم بذلك بين الناس قال تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله [النساء: 105].
ولذلك لقد اختاره الله سبحانه وتعالى نموذجًا عمليًا وأسوة حسنة للمؤمنين قال تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا [الأحزاب: 21].
ولذلك أمرنا سبحانه وتعالى بأن نتبع هذا النبي الكريم فقال تعالى: فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [الأعراف: 158].
فسد كل الطرق فلا طريق إلى الله سبحانه ولا إلى محبته إلا طريق اتباع هذا النبي الكريم قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران: 31].
ولذلك قرن سبحانه بين طاعته وطاعة رسوله وشد وثاق بعضهما إلى بعض فقال تعالى: وأطيعوا الله ورسوله [الأنفال: 46] وقال سبحانه: من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء: 80].
فكيف يتخيل مسلم بعد ذلك أن هناك طريقًا يمكن أن يوصل إلى الله غير طريق محمد.
وكيف يتوهم عاقل بعد ذلك أنه لا يحتاج إلى الشريعة التي جاء بها سيدنا محمد وكيف يتخيل مؤمن بعد ذلك أنه يبقى مؤمنًا أو مسلمًا وهو يظن أنه لا حاجة به إلى سنة محمد.
إن الله عز وجل قد بين لنا أنه لا سبيل ولا طريق إليه ولا إلى جواره إلا باتباع هذا النبي الكريم.
فمن انحرف عما جاء به سيدنا محمد فقد هلك وأخطأ الطريق، وقد حذر الله سبحانه وتعالى هؤلاء المارقين الذين انحرفوا عن أمره فقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور: 63].
وكما أن النبي هو الواسطة بيننا وبين ربنا عز وجل فهو المبلغ عن الله سبحانه وتعالى فإن هناك واسطة بيننا وبين رسول الله وهي أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، فكما أن الله تعالى اصطفى نبيه من بين سائر البشر ليبلغ عن الله رسالاته فقد اصطفى لنبيه أصحابًا هم أفضل الناس بعد الأنبياء عقولاً وأصفاهم نفوسًا وأنقاهم قلوبًا فحفظوا ما بلغهم به الصادق الأمين من كلام رب العالمين.
وحفظوا سنته أقوالاً وأفعالاً وسائر أحواله الخاصة منها والعامة ثم بلغوها إلى الأمة وكانوا أمناء على ذلك وكانوا علماء فقهاء في دين الله فحفظ الله بهم ما أنزل على رسوله من قرآن وما أوحي إليه من سنة فرضي الله عنهم وأرضاهم وجزاهم عن الأمة خير الجزاء.
كيف يتخيل عاقل أو مسلم بعد ذلك أنه يمكن أن يستغني عن هذه الواسطة الكريمة أن يستغني عن واسطة الصحابة الكرام ويصل إلى الدين بدونها لا سبيل إلى الوصول إلى دين الله وإلى شرعه وإلى قرآنه الذي أنزله على رسوله إلا بواسطة الصحابة الكرام.
لم يخطر على بال مسلم أبدًا أنه يمكن الاستغناء عن واسطة الصحابة الكرام ولم يخطر على بال مؤمن أبدًا التنقص من حق هؤلاء الصحابة ومكانتهم وقدرهم إنما خطر ذلك على بال اليهود والمجوس وفروخهم الذين اندسوا في صفوف الأمة الإسلامية منذ وقت مبكر بهدف الهدم والتخريب.
أما المؤمنون المسلمون فإنهم يعلمون ويؤمنون أنه لا سبيل إلى الوصول إلى شرع الله ولا إلى وحيه وقرآنه الذي أنزله إلى نبيه إلا بواسطة هؤلاء الصحابة الكرام لأنهم هم الذين نقلوا إلينا كلام الله القرآن الكريم الذي نزل على سيدنا محمد.
وهم الذين نقلوا إلينا السنة النبوية وعلى هذين الركنين قام بناء الدين كله فكيف يستغني أحد عن واسطة الصحابة الكرام إذن ينهدم الدين كله. كما بلغ الرسول عن ربه فأتم البلاغ وأدى الرسالة فهو الواسطة بين الأمة وبين ربها عز وجل فقد بلغ الصحابة الكرام عن رسول الله فأتموا الأداء وأحسنوا البلاغ فرضي الله عنهم وأرضاهم وجزاهم عن هذه الأمة خير الجزاء.
فلهذا كله فإننا نعلنها صريحة واضحة ونعنون بالسبيل المستقيم بذلك العنوان الساطع كما قال رسول الله : ((ما أنا عليه وأصحابي)) فرسول الله يخبر بأن سبيل الله المستقيم ويعول على أن سبيل الله المستقيم بهذه العبارة الواضحة ((ما أنا عليه وأصحابي)).
وذلك في الحديث الصحيح المشهور الذي رواه الأئمة في كتبهم بأسانيد أكثر من أن تُحصي أن رسول الله أخبر عن افتراق أمته من بعده إلى فرق وعن تكاثر هذه الفرق ثم دلهم على الفرقة الناجية هو الرءوف بأمته الرحيم بهم فقال : ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتي وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة)) قالوا: وما هي الناجية يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) ثم سمى رسول الله هذه الفرقة بالجماعة فقال: ((وهي الجماعة فمن أراد بحبحة الجنة فليزم الجماعة)).
أي ليلزم ما كان عليه رسول الله وما كان عليه أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا اغفر لنا وللذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنا ربنا واغفر لنا إنك رءوف رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه.
أما بعد... فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب: 70،71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
(1/840)
الخلوف
غير محدد
غير محدد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
11/4/1412
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"مشروعية الرد على المخطئ – شروط ذلك – نصائح للشباب : القصد من التعلم – أدب العلم توقير العلماء – البعد عن الخصومات والجدال – أخذ العلم عن أهله – شر الخلوف وخطرهم "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد يقول قائل بعد سماعه لما بيناه في الخطبة الماضية أنت إذن لا ترى أن يرد أحد على أحد إذا أخطأ في شيء من مسائل العلم والدين والفقه وألا يبين ما وقع فيه العلماء السابقون واللاحقون من البدع وأن لا يشتغل ببيان الحق أو إنكار المنكر ولا رد الشبهات ولا تقييد الضلالات. فالجواب عن ذلك أن كل هذا مطلوب شرعاً ولكنه من واجبات أهل العلم والفقه وما دخل الخلوف في ذلك لا شان بهم بشيء من ذلك، لا يجوز للخلوف أن يتكلموا في شيء من المشكلات الشائكة التي تضل عنها الأفهام وتزل عندها الأقدام. ولا يجوز للصغار أن يتكلموا في مسائل الكبار والتي تحتاج إلى بصيرة بالعلم والفقه وإلى بصيرة بالأصول والفروع وبالأدلة والأحكام وإلى قدرة الاستنباط وقدرة على تطبيق ذلك على الواقع وهذا لا يتوفر في علم الصغار فالواجب عليهم أن يردوا الأمر إلى الكبار إلى أهل العلم وأهل الفقه. ونحن إنما نقصد المسائل المعضلات التي لا يدرك الحق فيها كل أحد. وأما المسائل الواضحات أو المنكرات الظاهرات أو البيوع المعلومات فلابد من تحذير الناس منها ومن كل أحد يبلغ في ذلك بحسب علمه أن يبلغ حسب ما يعلم.
وأن ننصح الشباب شباب الصحوة اليوم. الشباب المقبل على التعلم والتفقه في الدين بأن يحذروا من الآفات والعراقيل التي تجحف بهم.
هم في طريق التعلم. إن طريق العلم آخره الجنة كما أخبرنا بذلك الصادق الأمين محفوف بالمخاطر وبالمزالق والعوائق.
فأولا يجب على الشباب وعلى كل متعلم أن يتذكر أن المقصود من التعلم هو تصحيح العبادات وتصحيح المعاملات في حياة الناس وتصحيح العقائد حتى يلقى المسلم ربه بعقيدة سليمة وبعمل صحيح ولذلك ننادي دائماً ونقول إن على الشباب بل على كل مسلم يتعلم أمور دينه أول ما يبدأ يتعلم الفقه والتوحيد ولكن الخلوف اليوم اشتغلوا بعلوم الاجتهاد وهم بعد لم يفقهوا هذين العلمين الضروريين الواجبين وهذا من علامات سوء المقصد وفساد النبت وأنه إنما يفعل ذلك من يريد الشهرة ويطلب الرئاسات العلمية.
ثانياً: على الشباب وعلى كل متعلم أن يتعلم أدب العلم كما يتعلم العلم وأن يلزم توقير العلماء والأئمة من الواجبات الشرعية التي يؤاخذ بها ويأثم من أخل بها. قال سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه)) وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه أمسك الركاب عند قدمي زيد فقال له زيد: تنحي يابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس أمسك الركاب احتراماً وتقديراً وتبجيلاً لزيد وزيد قال له: تنحى يا بن عم رسول الله كره أن يراه في هذا الموقف تعظيماً لصلته برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ابن عباس: لا بل كذلك نفعل بالعلماء وظل رضي الله عن الجميع واقفاً عند زيد ممسكاً بالركاب. هذا هو أدب الخلوف وما ينتدي له الجبين. يقعون في أعراض العلماء ويسارعون إلى الطعن فيهم ويقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة لا يرعون مؤمن ولا عالم إلاً ولا ذمة. وإن تعجب فعجب وقوعهم وهجومهم على علماء التوحيد باسم التوحيد ويكذبون على أنفسهم وعلى الناس. يدعون أن هذا من منهج السلف وهذا والله ليس من منهج السلف لقد كذبوا على أنفسهم وعلى الناس.
ثالثاً: يجب على الشباب وعلى كل متعلم ألا يشغل نفسه بالمعضلات أثناء التعلم ولا بالمسائل الغريبات. ولا يجوز له الاشتغال بالشبهات ولا ترك الأعمار والأوقات في الجدل والخصومات فإن النفس إذا استسلم لها المتعلم لها شغف بكل ذلك وميل إليه وقد كان السلف يحذرون من ذلك كله أشد التحذير وينهون المتعلمين منه وليس أضر على طالب العلم من شهوة الجدل فإن الجدل والخصومة في مسائل العلم والدين قد يجر إلي الكفر والعياذ بالله أو أنه يجر إلى الشحناء والبغضاء والعداوة فهدا أمر واضح جلي لا شك فيه عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال في تفسير قوله تعالى: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء قال: الخصومات والجدال في الدين، وعن بكر بن نصر رحمه الله قال: لما سئل الإمام العظيم وخامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن قتال يوم صفين فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي لا ألطخ بها لساني. فانظر أدب السلف في مثل هذه المعضلات وكنا نرى اليوم أولئك الخلوف وهم شرذمة قليلون لا يكدرون.
صفو شباب الصفوة المقبلين على التعلم والتفقه في الدين وإنما يكدرون على أنفسهم فحسب. نري أولئك الخلوف شغلوا أنفسهم وشغلوا الناس بالجدل والخصومات. فأرسلوا وسلوا ألسنة حداداً شداداً بغير شفقة ولا رحمة على المؤمنين بل حتى على أهل التوحيد وهذا وإليه شر مستطير له ما وراءه لأنه أسلوب يغرس العداوة والبغضاء بين المؤمنين وبين طلبة العلم على وجه الخصوص. وربما أدي إلى الوقيعة بين بعض أهل العلم إنه أسلوب يشقق صوت المؤمنين ويؤلب بعضهم على بعض.
رابعاً: على كل متعلم وعلى الشباب على وجه الخصوص أن يتلقوا العلم عن أهله ويأخذوه عن أكابر أهل العلم ما استطاعوا إلي ذلك سبيلاً ولا يلجأوا إلي الأصاغر إلا عند الضرورة ولكن عليهم أن يحذروا كل الحذر من الموسوسين والمشبوهين والمجهولين وأدعياء العلم فإن هؤلاء لا يقودون المتعلم إلا إلى الهلاك والضلال، وليعلم الجميع أنه ليس من منهج السلف أن يكون مجتمع الشباب ليس لهم رأس في العلم يزعمون أنهم يتفقهون في الدين. دخل أحد السلف جامعاً فوجد جماعة متخلفين فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يتفقهون قال: هل لهم رأس؟ أي هل معهم شيخ من أهل العلم والفقه يعلمهم. قالوا: لا، قال: إذن والله لا يفقهون أبداً فالتعلم بدون رؤوس في العلم يقودون الشباب يقودون المتعلمين إلى العلم الصحيح ويبينون لهم مسائل العلم وغوامضه ويكشفون لهم أسراره ويرشدونهم عند المسلمات ويوجهونهم عند المشكلات. التعلم بدون هذا خطر عظيم وعواقبه جسيمة. فعلينا أن نلوم رؤوسنا في العلم.
ورؤوسنا في العلم هم العلماء والربانيون المعروفون بالعلم وبالأمانة وبالتقوى والورع وقول الحق. لا يخافون في الله لومة لائم فهؤلاء هم رؤوسنا في العلم وهم أولوا الأمر فينا في العلم وتجب علينا طاعتهم وملازمتهم وأخذ العلم عنهم أو عن من يزكونه من غيرهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فمن الحقائق التي يجب أن ندركها جميعاً ويجب على الشباب المتعلم على وجه الخصوص أن يتنبهوا إليها أن أكابر أهل العلم والأئمة في هذه الأمة مختلفون فيما بينهم في وسائل العلم والفقه في الدين ويتناظرون ويرد بعضهم على بعض ولا يفسد ذلك للود فيما بينهم قضية ولا يضر اختلافهم هذا ولا يضر الأمة شيئاً لأنهم إنما يختلفون بأدب ولا يخرجون في اختلافهم عن الأصول والضوابط الشرعية فإن الاختلاف في مسائل العلم ومسائل الدين والفقه لها أصولها وآدابها والمناظرات لها ضوابطها والعلماء المجتهدون أهل الاستنباط الذين لهم بصيرة بأصول الدين وفروعه وأدلته وأحكامه يختلفون ولا يضر اختلافهم الأمة بل يفيدها فاختلاف العلماء المجتهدين رحمة ونعمة بينما اختلاف الجهال كارثة ونقمة لأن الجهال ليس فقط إذا اختلفوا في مسائل العلم بل إذا تكلموا في مسائل العلم فإنهم يفسدون.
لأنهم يقولون ما لا يعلمون ويتكلمون بغير بصيرة ويختلفون بلا أدب ولذلك غالباً ما يؤدي اختلاف الجهال واختلاف المبتدئين وأرباع المتعلمين وأنصاف المتعلمين غالباً ما يؤدي إلى التنازع والتشاحن والبغضاء وأن يرمي بعضهم بعضاً.
أما العلماء المجتهدون فإنهم لبصرهم بهذا الدين وخبرتهم بالعلم والفقه فإنهم يختلفون ويكون اختلافهم مصلحة ومنفعة للأمة ولذلك أمر ربنا عز وجل بأن نرد المسائل والمشكلات إلى علمائنا.
فقال سبحانه وتعالى: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطوه منهم فأولي الأمر في هذه الآية المراد منهم العلماء وخصت الآية منهم طبقة عالية رفيعة هم الراسخون في العلم وصفتهم بأنهم أهل الاستنباط الذين يستنبطون منهم وهؤلاء هم الفقهاء.
(1/841)
واجب الشباب عند فساد الزمان
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة الخبَث هي فساد الزمان 2- خرج الاستعمار وبقيت أذنابه 3- الهجمة التنصيرية على
أفريقيا 4- دعوة لتدبر القرآن الكريم وإسماعه للناس 5- الدعوة بالتي هي أحسن 6- الإعداد
والاستعداد سابق على الجهاد 7- معنى كلمة الجهاد وأهداف الجهاد الإسلامي 8- العلم قبل
القول والعمل 9- طُرق تعلّم العلم 10- مبدأ الشورى 11- ثمان قواعد ضرورية لكل شابٍ
مسلم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
ففساد الزمان مصطلح فقهي يريد به علمائنا فترات الانحطاط التي يغلب فيها الخبث وتكثر فيها المعاصي حتى يألفها ويعتادها الناس وتفسد بذلك أكثر طباعهم وآدابهم وتختل موازينهم وضوابطهم ولا شك أن الوقت الذي نحن فيه اليوم قريب الشبه بهذه الأوقات لقد برزت ظواهر الخلل في مجتمعاتنا بشكل واضح سواء في التصورات والأفكار والعقائد التي ابتليت بأمرار الشبهات أو في مجال الأخلاق والآداب والسلوك التي ابتليت بأمرار الشهوات فان ظواهر الانحراف والخلل واضحة بارزة في مجتمعاتنا ومما أدى إلى استفحال ذلك الفساد في هذا الزمان الذي نعيش فيه أن الاستعمار الغربي خرج من الباب ليعود من النافذة مستغلاً تلك الطبقة من أذنابه وصنائعه والتي عمل بكل مكر وحيلة على تكوينها وتهيئتها وزرعها في جسم هذه الأمة فهو خرج من الباب ولكنه ترك بؤرة في جسد الأمة تؤدى وظيفة إفسادها ولعوامل كثيرة وبسبب دعم هذا الاستعمار لهذه الفئة فانهم وللأسف الشديد قد تمكنوا من مقدرات الشعوب المسلمة في أكثر البلاد الإسلامية تمكنوا من مراتب السلطة والقيادة والتوجيه في أكثر البلاد الإسلامية فالإعلام والتعليم وتوجيه الشباب والشابات وغير ذلك من مراكز التأثير والقيادة والتوجيه. وفي أيدي هؤلاء في معظم البلاد الإسلامية وأكاد أقول في جميع البلاد الإسلامية وقد عملوا ونفذوا وخططوا وبذلوا جهوداً متواصلة ومدروسة ومبرمجة لإفساد هذه الأمة ولكن العجيب وهذا سر من أسرار الدين وطبيعة من طبائعه أن تلك الجهود المتواصلة المدروسة المبرمجة والتي سخرت لها الوسائل المتطورة بشكل كبير مما يشاهد في عصرنا وزماننا أنها سرعان ما تنهار بمجرد أن ينبثق بصيص من نور الإيمان في القلوب , فأي جهد إيماني صادق ولو كان يسيراً يفعل فعله في النفوس أكثر مما تفعله تلك النشاطات التخريبية التي يقوم بها دهاقنة الفساد في العالم, المهم أن يبدأ نور الإيمان في القلوب بداية صحيحة سليمة فإنه يتفجر بعد ذلك في النفس البشرية تفجراً عجيباً كتفجر تلك العيون الإثنتا عشرة من الحجر إذ ضربه الكليم موسى بعصاه , وخطوات إيمانية صادقة سليمة يتخذها أهل الإيمان مهما كانت قليلة محدودة فإنه يكون لها من البركة والتأثير الشيء العجيب في إصلاح النفوس أو في إبطال كيد أولئك المفسدين كأنما هي عصا الكليم موسى عليه السلام تلقف ما يأفكون. إنهم اليوم وهذا مثال يبذلون جهوداً لتنصير القارة الإفريقية السوداء وينفقون بلايين الدولارات ويستخدمون في سبيل ذلك الوسائل المتطورة حتى الأقمار الصناعية ومع ذلك يقفون في حيرة وهم يتناجون بغيظ وحنق يحذر بعضهم بعضاً يقولون: إن الإسلام يزحف على القارة الإفريقية هم يقولون ذلك عجيب هذا كيف يزحف الإسلام على القارة الإفريقية مثلاً وليس ورائه من الهيئات الدولية أو ذات النفوذ والإمكانيات ولا مثل عشر تلك الهيئات التي تقف وراء التنصير, والوسائل الفقيرة الضئيلة المحدودة التي يستخدمها كتائب الدعاة المسلمين على قلتهم بهذه القارة لا تنافس أبداً تلك الوسائل الهائلة التي يستخدمها دهاقنة التنصير في إفريقيا فكيف يزحف الإسلام على هذه القارة؟ إنه لا شك سر عجيب في هذا الدين ولعل مكمن هذا السر في أن قوة هذا الدين مستمدة من قوة منزله سبحانه وتعالى الذي شرع هذا الدين وأنزله له الأمر كله وله التدبير كله يتصرف في خلقه كيف يشاء كثيرون ممن تقلبوا في برامج التنصير أو غيره من برامج الانحراف الفكري أو الخلقي تبحث نفوسهم خلال ذلك عن مستقرها فلا تجده ولكنهم مع ذلك يماطلون أنفسهم بالأوهام ويعاندون فطرتهم ولكن في لحظة تجلي للعقل والفطرة بمجرد أن يسمع الإنسان ولو كان كافراً آيات من القرآن الكريم تقذف فيه من التأثير الشيء العجيب بشرط أن يكون ذلك في لحظة تجلي للعقل وللفطرة ففي مثل هذه اللحظة مؤمناً كان أو كافراً آية من القرآن الكريم أو آيات حتى ولو لم يفقه معناها لأول وهلة فإن للقرآن تأثيراً وبركة من كونه كلام الله وخطاب الله لهذا الإنسان ولذلك كان بعض السلف يقولون من أراد أن يتحدث مع الله فليقرأ القرآن, فالقرآن كلام الله وخطاب الله للإنسان ولذلك إذا قرعت آياته النفس البشرية في لحظة تجلى للعقل وللفطرة فإن الإنسان قلما يقاوم جاذبية هذا القرآن وقوته, قال تعالى: ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو كلمت به الموتى لو أن كتاباً مقروءاً يمكن أن يحدث هذا التغيير في الجبال أو الموتى لكان هذا هو هذا القرآن ولذلك أيضاً قال الله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ولكن المقصود ليس هو أن نغرق وإياكم في الأحلام والخيالات فإن الرب عز وجل قد حذرنا من ذلك فقال: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به أنا لا أريد بهذا أن نغرق جميعاً في الأحلام والأماني العريضة والخيالات ولكن المقصود هو أن نتبين معالم الطريق وأن نتعرف واجبنا في مثل هذا الزمان الكئيب والذي أريد أن أنبه إليه إخواننا الشباب أربعة معالم من معالم الطريق التي يجب أن يسلكوها جميعاً إذا التزم الشاب المسلم الجادة الصحيحة وتثبت من سلامة موقفه وصحة خطواته وأنه على الصراط المستقيم, صراط الله العزيز الحميد وأنه على منهج السلف صفوة هذه الأمة وقدوتها ورعيلها الأول لا خوف عليه ولا يحزن ولا يبالي بالدنيا وما فيها المهم هو أن نتثبت من صحة مواقفنا وسلامة خطواتنا وأننا على منهج السلف الذين هم قدوتنا. أربعة معالم أحببت أن أوصى إخواننا الشباب بالعناية بها وهي: العلم والعمل والدعوة والجهاد.
فأول ما يجب على الشاب المسلم في هذا الزمان وفي غيره أن يتعلم دين الله عز وجل على منهج السلف, ومنهج السلف يقرن فيه العلم بالعمل فلا شيء في منهجهم اسمه الترف الفكري ولا شيء في منهجهم اسمه العلم للعلم بل العلم للعمل ولذلك ما لا يتعلق به عمل من العلوم فإنهم لا يضيعون أوقاتهم فيه ولا يصرفون أعمارهم فيه , أكثر رجل من الأسئلة لأبي الدرداء رضي الله عنه وأبو الدرداء يجيبه ثم قال له أبو الدرداء: أو تعمل بكل ما تسأل عنه. قال: لا. قال: فما حاجتك إلى كثرة الحجج عليك. وأنتم تعلمون أن منهج السلف في تلقى العلم هو تلقي العلم والعمل معاً فلا شيء في منهجهم اسمه الترف الفكري ولا شيء في منهجهم اسمه العلم للعلم فما لا يتعلق به عمل من العلوم ترف فكري ولا يصرف السلف أوقاتهم فيه وأعمارهم من أجله وهم يعلمون أن الأعمار محدودة وأن التكاليف عليهم يجب أن يبادروا إلى أدائها. فعلى الشاب المسلم أولاً أن يتعلم دين الله على منهج السلف ثم عليه أن يؤدي رسالته في المجتمع أن يقوم بواجبه نحو هذه الأمة بالدعوة , فالعلم الصحيح الذي تلقاه يجب أن يبثه وينشره , ونعلم جميعاً أن الهدف من الدعوة هو الإقناع بالحجة والبرهان والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن , هذا هو الأصل في وسيلة الدعوة فمن تصور أن العنف هو الوسيلة الأسرع والأقرب لفرض مبادئ هذا الدين فلا شك أنه واهم لا يعرف طبيعة هذا الدين , لو كان الأمر كذلك لفرض القتال منذ نزول أول آية في مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولو كان الأمر كذلك لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الشطر الأكثر من عمر الدعوة في تربية النفوس وتعليم مبادئ هذا الدين بالإقناع وبالحجة والبرهان ولكن ليس معنى هذا أن نلغي من برامجنا وأن نسقط من قائمة مبادئنا ركن الجهاد فان الجهاد حياة كاملة وهو من طبيعة هذا الدين التي لا تنفك عنه أبداً إلى يوم القيامة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري)) وفي حديث آخر صحيح وصف الجهاد بأنه ذروة سنام الإسلام. ولكن الجهاد هو قمة المرحلة تسبقه مراحل من الإعداد للجهاد, لو كان الجهاد هو المرحلة المبكرة لما أجل تشريعه إلى المرحلة المدنية وقد قيل إن قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير أن هذه الآية نزلت أثناء الهجرة النبوية إلى المدينة , فالجهاد هو قمة المرحلية تسبقه مراحل كثيرة من الإعداد والاستعداد.
والجهاد له مدلولان مدلول عام بمعنى بذل الجهد والوسع والطاقة في سبيل إعلاء كلمة الله وحماية الدعوة ورفع الظلم عن المظلومين فالإسلام ليس ديناً خيالياً مغرقاً في الأحلام والأوهام انه دين الفطرة , الدين الذي يلائم طبائع البشر. ودهاقنة الفساد في العالم وطواغيت الظلم والجور في العالم لهم مصالح متشابكة أقاموها على العبودية لهم التي فرضوها على رقاب ضحاياهم ولهم مكاسب متشابكة أقاموها على السلب ونهب حقوق الناس.
و المسلم عندما يبث دعوته ملخص أهدافه في شيئين أنه يريد أن يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام, فإذاً توحيد الله حتى لا يذل الإنسان لغير الله ونشر العدل بين الناس في الواجبات والحقوق, هذان هدفان لا يرضى بهما دهاقنة الفساد ولا طواغيت الجور, إنهما الصدام المباشر مع شبكة مصالحهم ومكاسبهم ولذلك إذا رأوا المسلم ينشر دعوته ليفتح أعيناً عمياً وآذاناً صماً فلا نتوقع أنهم يقفون مكتوفي الأيدي سيحاربونه ويقاومونه بكل قوة ومن هنا شرع الجهاد بمعنيين العام والخاص فبمعناه العام بذل الجهد والطاقة لإعلاء كلمة الله ونشر الدعوة ورفع الظلم عن المظلومين وهو بهذا المعنى يرادف الدعوة, وأما معناه الخاص فهو القتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ولرفع الظلم أيضاً عن المظلومين, قال تعالى: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً فالجهاد في معناه الخاص هو قمة مراحل حركة الإسلام ودوران رحاه , هو ذروة السنام, والذروة لا تأتي لأول وهلة ولذلك يجب أن يسبق الجهاد مراحل من الإعداد فإن الجهاد حياة كاملة يعيشها المسلم.
وأريد أن أعود فأركز على الواجب الأول على شبابنا المسلم الذي هو التعلم , تعلم دين الله عز وجل فكما يقول السلف: العلم قبل القول والعمل , فالعلم ركن أساسي في مسيرة الشباب المسلم لأنه الوسيلة الوحيدة لتصحيح التصورات والأفكار والعقائد والعمل والدعوة , والتعلم في الإسلام له طريقان: طريق التلقي على الشيوخ فليس بد من أن تجثو على ركبتيك عند ركبتي شيخ يعلمك دين الله عز وجل ويربيك عليه يعطيك العلم والأدب فإذا ما وجدت عالماً ربانياً مربياً فقيهاً فهذا هو المصدر الحقيقي للعلم في الإسلام, قال تعالى: ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ففي هذه الآية فئتان من الناس معلمون مربون فقهاء ومتعلمون يدرسون أي يقرئون ويفهمون ويحفظون, هذا هو الطريق الأول والأساسي لتلقي العلم في منهج السلف فما لم تتلقى العلم على شيخ يعطيك العلم والأدب فأنت لم تسلك منهج السلف في التعلم , حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلقى القرآن الكريم لم ينزل عليه القرآن الكريم كما نزل على موسى عليه السلام صحفاً مكتوبة جملة واحدة, رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتلقى القرآن على جبريل يسمعه من جبريل بل في كل عام في رمضان يعرض أيضاً ما أنزل عليه على جبريل فيدارسه القرآن, يقرأ جبريل أولاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع ثم يقرأ الرسول وجبريل يسمع, وأخذ علماء الإسلام من هذا طريقة تلقي القرآن الكريم أنه يكون بالعرض والسماع فلابد من كليهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل وعرضه على جبريل وحتى عندما كان يعجل القرآن بلسانه وجبريل يقرأه عليه نزل قوله تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به إنا علينا جمعه وقرآنه أي إن علينا تعليمك قراءته وإن علينا جمعه مكتوباً في السطور, هذه هي الطريقة التي تلقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن من جبريل, فلابد في تلقي العلم من أن تتلقاه على شيخ فإن وجدت شيخاً ربانياً معلماً فقيهاً فالزمه فإنه المصدر الأول والحقيقي في منهج السلف.
والطريقة الثانية لتلقي العلم المدارسة ومعناها التعامل والتشاور على العلم وهذا الأسلوب يعلم الشباب أشياء كثيرة, يعلم الشباب العمل الجماعي وروح العمل الجماعي يتعاونون ويتشاورون في طلب العلم, كما أنه يعلمهم ويربيهم على روح الشورى فالشورى مبدأ أساسي في حياة المسلم يجب أن يربي نفسه عليه, الشورى في كل شيء حتى في طلب العلم, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يترك هذا المبدأ حتى في أحلك الأوقات وأكثرها حرجاً ففي غزوة أحد مثلاً لما وصل معسكر المشركين إلى أطراف المدينة وعسكر غربي أحد ثلاثة آلاف مقاتل ومائتا فارس وصلوا إلى أبواب المدينة وعسكروا هناك ومع ذلك وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرورة في هذه اللحظة الحرجة الخطيرة ليجمع مجلس شوراه شباباً وشيوخاً ويشاورهم الرأي يعرض عليهم اقتراحه دون أن يلزمهم به ويطلب منهم آرائهم واجتهاداتهم في المحنة التي حلت بهم, وانظروا كيف يطبق رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ الشورى بصرامة ودقة , يعرض عليهم رأيه واجتهاده أن يتحصنوا بالمدينة ثم يؤكد على هذا الرأي بأن يذكر لهم الرؤيا التي رآها :رأيت بقراً تذبح ورأيت ثلمة في ذباب سيفي ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة. هكذا قال لهم الرسول المصطفي صلى الله عليه وسلم , وبالرغم من هذا لم يلاقي هذا الاقتراح القبول عند أغلبية الصحابة رضى الله عنهم هم يتوقدون إيمانا ويتفجرون حماساً لملاقاة أعدائهم لعلهم يكسبون الشهادة أو النصر وخاصة أن كثيراً منهم لم يحضر بدراً فتأسف على أن فاته شرف المقاتلة في سبيل الله في بدر فهو متحرق لملاقاة العدو في هذه الفرصة السانحة, حتى إن بعضهم مما لا يهاب شيئاً في سبيل الله عز وجل كأسد الله ورسوله حمزة رضي الله عنه قال للرسول: حتى لو بقيتم في المدينة فلأخرجن إليهم يا رسول الله فأصارعهم بسيفي, وأمام هذا الحماس المتقد وأمام هذه الأغلبية ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عند رأيهم مع يقينه القاطع بأن رأيه الذي عرض هو الأصوب, كلا الرأيين صواب فالأمر في مجال الاجتهاد, ليست القضية قضية حق وباطل إنما هي قضية مقارنة بين اجتهادين أحدهما أصوب من الآخر ومع علمه صلى الله عليه وسلم ويقينه بأن رأيه الذي عرضه عليهم هو الأصوب وهو الأولى بالتنفيذ فإنه أخذ في اعتباره رأي الأغلبية صلى الله عليه وسلم, ولكن مبدأ الشورى في حياتنا نحن المسلمين ليس معناه الارتباك والاضطراب في الرأي والتردد والضعف والخور, فإن التردد والإرتباك والنزاع والخلاف ضعف وخور ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أقر رأي الأغلبية ودخل إلى بيته يحف به وزيراه أبو بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما فعممه أبو بكر ألبسه العمامة على المغفر ثم ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم في درعيه أي لبس درعيه مبالغة في الأخذ في الأسباب والاحتياطات اللازمة, أثناء ذلك ندم الصحابة وقال بعضهم لبعض: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ما يرى فلما خرج قالوا: لقد استكرهناك يا رسول الله على غير ما رأيت فامض إلى ما رأيت إن شئت فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما كان لنبي إذا لبس لئمة الحرب أن يضعها حتى يلاقي عدوه ويحكم الله بينه وبينه فامضوا إلى ما رأيتم وتوكلوا على الله.
هذا تفسير عملي من النبي صلى الله عليه وسلم لآية الشورى التي نزلت في سياق غزوة أحد فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله , فمبدأ الشورى في حياتنا نحن المسلمين مبدأ أساسي في كل شيء في جميع المستويات على مستوى القادة والموجهين وعلى مستوى الأفراد وعلى مستوى الشباب المسلم , يجب أن نربي أنفسنا على روح الشورى وخاصة في العلم وفي طلبه كلكم سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)) , يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم يتعاونون ويتكاتفون في درس القرآن وفهمه وحفظه يعين بعضهم بعضاً ويكمل بعضهم بعضاً , هذه هي الشورى في طلب العلم فإن الشورى معناها في الحقيقة أن تضع في اعتبارك ما عند الآخر فتجمع ما عندك إلى ما عنده لعلكما تتوصلان معاً إلى الصواب أو إلى أكبر قدر من الصواب فقد يكون الذي عندك بعض الصواب وباقيه عند أخيك المؤمن أو إخوانك المؤمنين وربما كان الصواب كله عندهم وليس عندك شيء منه فكن وأنت تتعلم على منهج السلف فبتلاقح الاجتهادات وتكاتف الشباب المسلم في طلب العلم يتوصلون بذلك إلى الصواب بإذن الله عز وجل وتوفيقه. وهل أصابنا ما أصابنا من إحباط وفشل ومصائب وكوارث إلا نتيجة للانحراف عن المنهج الذي قد يعتريه مسيرتنا أو للخلل الذي قد يطرأ على حياتنا, فعلينا أن نتخذ الوسائل الشرعية اللازمة لتلافي ذلك وتجنبه ومن أهم هذه الوسائل كما أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم التعاون والتكاتف أي العمل الجماعي حتى في طلب العلم فما بالك في العمل فإن التدارس هو الطريق الثاني لطلب العلم, أما ماذا يطلب الشاب المسلم من العلم؟ وكيف يطلب العلم؟ وما هو المنهج الذي يسلكه؟ فقد بينت ذلك بشيء من التفصيل في محاضرة سابقة ألقيتها في الطائف بعنوان: "برنامج عملي للمتفقهين" ذكرت فيه ثماني قواعد ضرورية لازمة لكل شاب مسلم يريد أن يتعلم دين الله عز وجل ويتفقه فيه نسردها بإيجاز تذكيراً لكم:
القاعدة الأولي: أن يصحح نيته أولاً ويسلم من الشهوتين شهوة طلب العلم من أجل المكاسب والمغانم وشهوة طلب العلم لنيل الرئاسات والشرف.
القاعدة الثانية: أن يكون أول علم يطلبه هو التوحيد والفقه لأنه بهذين العلمين يصحح عقيدته وتصوراته ويصحح عمله فإذا طلب العقيدة وطلب علم التوحيد عليه أن يحرص على أن يطلبه على منهج السلف الذين هم صفوة هذه الأمة وقدوتها ونعني بالسلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن نهج منهجهم ممن جاء بعد ذلك, ومن أراد أن يطلب فقه الشريعة أو فقه الأحكام فعليه أن يستعين بواحد من المذاهب الفقهية المخدومة الزاخرة الغنية يتوصل به إلى الفقه ولا يجعله غاية له يجمد عنده وينحبس فيه, وعليه إذا طلب العلوم الشرعية أن يركز على الجوانب العملية في هذه العلوم لأنه كما قلنا لأنه ليس من منهج السلف أن تطلب العلم للعلم إنما تطلبه للعمل فما يتعلق به عمل تطلبه وتفني فيه وقتك وعمرك, وما لا يتعلق به عمل فاتركه فإن عمرك لا يمكن أن يسع لكل تلك العلوم, ما لا يتعلق به عمل يعد في منهج السلف من باب الترف والترف الفكري الذي لا طائل ورائه ولا فائدة تحته. فإذا طلبت العلم فاحرص على أن تطلبه من الأكابر ما أمكنك ذلك لا من الأصاغر وأن تطلب كل علم من أهله فكل علم يسأل عنه أهله هذه قاعدة معروفة عند السلف, هذا بينته بشيء من التفصيل أسأل الله عز وجل أن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح وأن يهيئنا ويسخرنا للدعوة إليه وفي سبيله أقول هذا وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/842)
النوافل
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
محمد النمر
الطائف
7/6/1420
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
- شُرعت النوافل لِحِكَم وثمرات تحصل عند أدائها – بعض ثمرات الحرص على النوافل -
أحوال بعض السلف في حرصهم على النوافل
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فيا عباد الله: فرض الله عز وجل على المؤمنين خمس صلوات في اليوم والليلة وأمرهم بالمحافظة عليها وعدم التهاون بشأنها، وبين سبحانه، أن أحب عمل يتقرب به العبد إليه هو أداء فرائضه، ففي الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه)).
وللترقي في مدارج الخير والفلاح والصلاح شرع الله لعباده النوافل والسنن، وأوحى بها إلى نبيه ، والنافلة تكون من جنس فريضة، وفي الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه))، وما ثمرة هذه المحبة؟ وأينا لا يحرص على محبة الله له، وأينا لا يسعى إليها، واسمعوا ما أعظم هذه الثمرة يقول عز وجل في الحديث: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)).
وعلى كل المعاني التي قيلت في الحديث فإنها ثمرات كبيرة ينالها من تنفل لله طاعة، والنافلة مجال عظيم للخير، وفيه يتنافس المتنافسون، وتتفاوت منازل الصالحين، وأعلى المقامات بين الناس هو مقام النبوة، فقد كان النبي الهادي أصبر الناس على طاعة الله، وأشدهم خوفا وأعظمهم إخلاصا ومحبة، حتى لقد تورمت قدماه من طول القيام بين يدي الرحمن، فيسأل عن ذلك إشفاقا عليه فيقول: ((أفلا أكون عبدا شكورا)) وإن من ثمرات النوافل جبر الفرائض كما جاء في مسند الإمام أحمد: ((انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملوا به فريضته)).
ولقد كان من سنته المداومة على اثنتي عشرة ركعة موزعة قبل الفرائض وبعدها في اليوم فقد سأل عبد الله بن شقيق رحمه الله أم المؤمنين عائشة عن تطوع رسول الله فقالت: ((كان يصلي قبل الظهر أربعا في بيتي ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بهم العشاء ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، وكان يصلي ليلا طويلا قائما وليلا طويلا جالسا فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر)) ، وفي صحيح الإمام مسلم عن أم حبيبة زوج النبي قالت: سمعت رسول الله يقول: ((من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة، بني الله له بهن بيتاً في الجنة)) قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله.
ألا ما أشد حرص المؤمن على الخير، وما أنشطه في المنافسة فيه ذلك لأنه عرف حق ربه عليه وأدرك تقصيره في طاعته فاجتهد في الطاعة وأقبل على العبادة وهو يردد قوله الله عز وجل في ثنائه على محمد وصحبه: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون إنهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام أو مستغرقون في اللهو والعبث والآثام، إنهم المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام لا يطعمون النوم إلا قليلا، ولا يهجعون في ليلهم ويخف بهم التطلع إلى الثواب فلا يثقلهم المنام.
قال الحسن البصري رحمه الله: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله ونشطوا فمدوا إلى السحر، حتى كان الاستغفار في سحر، وقال قتادة: قال الأحنف بن قيس: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون كانوا لا ينامون إلا قليلا، ثم يقول: لست من أهل هذه الآية. ونُقل عنه أنه كان يقول: عرضت عملي على عمل أهل الجنة، فإذا قوم قد باينونا بونا بعيداً، وإذ نحن قوم لا نبلغ أعمالهم، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وعرضت عملي على عمل أهل النار، فإذا قوم لا خير فيهم، مكذبون بكتاب الله وبرسل الله، مكذبون بالبعث بعد الموت، فقد وجدت من خيرنا منزلة قوماً، خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
هكذا يتطلع المؤمن إلى آفاق أثنى الله على من وصلوا إليها هذا الثناء وعدّهم في المحسنين، فأين تقضى ساعات نهارنا وفيما نزجي ساعات ليلنا، روى الإمام أحمد رحمه الله عن سعد بن هشام قال: قلت يا أم المؤمنين: أنبئيني عن خلق رسول الله قالت: ألست تقرأ القرآن؟، قلت: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله كان القرآن، فهممت أن أقوم، ثم بدا لي قيام رسول الله ، قلت: يا أم المؤمنين: أنبئيني عن قيام رسول الله ، قالت :ألست تقرأ هذه السورة: يا أيها المزمل ؟ ، قلت: بلى، قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول الله وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها فصار قيام الليل تطوعا بعد الفريضة، فهممت أن أقوم ثم بدا لي وتر رسول الله فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن وتر رسول الله قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله لما يشاء أن يبعثه من الليل فيتسوك، ثم يتوضأ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني.
صلى الله عليك يا خير من عرف حق الربوبية فوفاه وربى على ذلك أتباعه فاجتهدوا، هذا ابن مسعود كان إذا هدأت العيون قام، فيسمع له دوي كدوي النحل حتى يصبح، وكان طاووس رحمه الله إذا اضطجع على فراشه يتقلى كما تتقلى الحبة في المقلاة، ثم يثب ويصلي، ثم يقول: طير ذكر جهنم نوم العابدين.
وكان للحسن بن صالح جارية، فباعها من قوم، فلما كان في جوف الليل قامت الجارية فقالت: يا أهل الدار، الصلاة الصلاة، فقالوا: أأصبحنا، أطلع الفجر؟، فقالت: وما تصلون إلا المكتوبة، قالوا: نعم، فرجعت إلى الحسن فقالت: بعتني إلى قوم لا يصلون إلا المكتوبة، ردني فردها، وأترك لكم مقارنة هذا مع أحوالنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه... وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فاللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: إن أحسن الحديث كتاب الله عز وجل وإن خير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة فاهتدوا بكتاب الله وسنة رسوله واحذروا كل مخالفة عن أمره فإن السعادة والفلاح في الاتباع وإن الشقاوة والخسران في الابتداع، واعلموا رحمكم الله أن النافلة وخاصة ما كان منها في الليل لها طعم خاص وأثر متميز والله عز وجل يقول عنها: إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا إنها وإن كانت أجهد للبدن لكنها أثبت في الخير، ففيها إعلان لسيطرة الروح واستجابة لدعوة الله، وإيثار للأنس به، ومن ثم فإنها أقوم قيلا، لأن للذكر فيه حلاوته، وللصلاة فيه خشوعها وللمناجاة فيها شفافيتها، وإنها لتسكب في القلب أنسا وراحة وشفافية ونورا، والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرب إليه وما يوقع عليه.
وإن مما يسهل قيام الليل: عدم إطالة السهر وعدم ترك القيلولة بالنهار فإنها مفيدة للاستعانة على قيام الليل، ومما يسهل القيام عدم الإكثار من الطعام، ومنها أن يعرف فضل قيام الليل بسماع الآيات والأخبار حتى يستحكم في العبد الرجاء والشوق إلى الثواب ومنها وهو أشرفها: الحب لله وقوة الإيمان فإن من أحب الله تلذذ بالمناجاة، قال الفضيل بن عياض: إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي، وقال بعضهم: لذة المناجاة ليست من الدنيا إنما هي من الجنة أظهرها الله تعالى لأوليائه لا يجدها سواهم، وقال محمد بن المنكدر: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان والصلاة في الجماعة.
فأين الجادون المشمرون المتقون لله في أوقاتهم وفي طاقاتهم.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله....
(1/843)
التقوى
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
محمد النمر
الطائف
26/3/1420
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
- كيف تكون التقوى ثم درجاتها ومنازلها – حث الشارع على التحلي بها – أثر التقوى في
حفظ صاحبها من الذنوب ودفعه إلى ما يُصلحه في الدنيا والآخرة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: ما أحوج قلوبنا للتقوى تعمرها، لتقينا عاديات الهوى، ووساوس الشيطان، فلا نضعف أمام شهوات نفس، ولا نستسلم لمعنويات شيطان لنكون بحق كما قال بعض الصالحين: (أن يراك الله حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك)، هذه هي التقوى أن توجد حيث أمرك الله في أماكن الطاعة والعبادة في مجالس العلم وذكر الله تعالى، وأن تفتقد حيث نهاك الله فلا جلوس على منكر ولا غشيان لأماكن مشبوهة أو فيها فتنة، فلا يبلغ منازل المتقين إلا من كان على هذه الصفة ممتثلا أوامر الله مجتنبا ما نهى الله عنه، والتقوى درجات ومنازل: وأول منازل التقوى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، والولاء لعبوديته، فمن لا يؤمن بالله لا يدخل مدخل المتقين أبداً، لأن أساس التقوى خشية الله ومراقبته، ولا خشية ولا مراقبة لله عند من لا يعرف الله، ولا يؤمن به، ولا يشهد قيوميته على كل نفس بما كسبت.
فإذا آمن الإنسان بالله، إيمانا وقر في القلب، وخالط المشاعر كان أول الطريق إلى التقوى، ثم كان بين يدي المؤمن طريق طويل يرقى فيه إلى درجات عالية من التقوى، ومن هنا اختلفت منازل المتقين كما يقول عز وجل في أهل الإيمان، ولابسي لباس التقوى: (هم درجات عند الله) ويقول جل شأنه: ليس على الذين آمنوا وعلموا الصالحات جناح فيما طعموا، إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين.
وأنت تسمع أن كلمة التقوى تكرر ذكرها ثلاث مرات وكذلك كلمة الإيمان وفي كل مرة يأخذ الإيمان مع المؤمنين مكانا أثبت في قلوبهم، وأمكن في مشاعرهم، كما ترتفع بهم التقوى من درجة إلى درجة وهم في صحبة الإيمان والعمل الصالح، وقد تضمنت الآية الكريمة رفع الحرج عن المؤمن فيما ينال من مطاعم، ولكن أي مؤمن هذا الذي رفع عنه الحرج فيما يطعم؟ إنه المؤمن الذي لبس لباس التقوى فكان له دثارا وإزارا، إنه كان من الذين آمنوا بالله أولا، ثم اتبع هذا الإيمان بالعمل الصالح، ومن العمل الصالح نبتت بذور التقوى، والذي يقول عنه الرسول الكريم حينما سئل عن الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فالإيمان بالله حقا، من شأنه أن يلبس المؤمن لباس التقوى، وأن يقعده مقعد المحسنين.
وإن الإيمان الذي لا يثمر التقوى في القلب، ولا يقيم منها وازعا يزع الإنسان عن محارم الله، ويقيه أهواء نفسه، ووساوس الشيطان. هو دعوى يدعيها صاحبها، دون أن يقيم من أقواله وأفعاله شاهدا على صدق هذه الدعوى وأنه من المؤمنين حقا.
ولهذا جاءت دعوة الله تعالى إلى المؤمنين بالتقوى مصاحبة للإيمان في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وفي ذلك إرشاد منه سبحانه للمؤمنين أن يلبسوا من إيمانهم لباس التقوى وإلا ظل الإيمان زرعا بلا ثمر.
وقد وعد الله المتقين بالحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة فقال سبحانه: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ، ويقول جل شأنه: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض.
وحسب المتقي أن يكون دائما في حمى الله، وفي معية الله، وكما يقول سبحانه: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ذلك أن المتقي إنما يكون تقواه في مراقبة الله، وفي حضور من جلاله وعظمته، ومن كان مع الله كان الله معه.
وحين تثبت مغارس التقوى في قلب المؤمن بما يزود نفسه به من الأعمال الصالحة فإن هذا القلب يتخلص من آفات الغفلة والاستخفاف بالمنكر من الأقوال والأفعال، فإذا ورد عليه وارد من منكر ضاق به وتأذى منه فيفزع إلى ربه طالبا الخلاص مما ألم به، طالبا الصفح والمغفرة وهنا يصح قلبه ويستقيم طريقه إلى الله تعالى يقول الله تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون.
وهكذا تكون حال المتقين إذا دخل عليهم من وساوس الشيطان ما يعكر صفو قلوبهم، إنهم لا يجدون في أنفسهم ظل الأمن والسكينة إلا بالخروج من تلك الحال، وذلك بتذكرهم لجلال الله تعالى، وسلطانه القائم عليهم فيطردون هذا الوسواس وما نجم عنه من أقوال أو أعمال، لا يرضاها الله.
ولهذا كان من شأن المؤمن التقي أن يذكر ربه دائما لأن الذكر مطردة للشيطان ووساوسه، مطهرة لكل ما يدخل به على الإنسان من رجس ودنس وهذه هي حال المؤمنين الصادقين كما قال الله تعالى: إنما المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم.
إنه لا يمسك بالتقوى، ولا يثبت دعائهما في كيان المؤمن إلا ذكر الله في كل حال من أحواله، فإذا غفل من ذكر الله الذي يمد التقوى بما ترتوي به جفت عروقها، وتساقطت أوراقها وأصبحت هشيما تذروه ريح الوساوس التي تهب على الإنسان من الشيطان ومن نفس أمارة بسوء إنه لا بد من دوام ذكر الله والتسبيح بحمده حتى يقهر هذين العدوين، روى الإمام مسلم في صحيحه عن ثوبان أن رسول الله قال: ((عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة)) ، ويقول سبحانه: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ، فالتأسي برسول الله إنما يكون من المؤمن الذي يرجو لقاء الله، ويؤمن بالجزاء الأخروي وهذا لا يكون إلا بذكر الله كثيرا فإن ذكر الله يقود المؤمن إلى أعلى منازل الإيمان وهذا لا يكون على كماله وتمامه إلا بالتأسي برسول الله وهذا التأسي إذا لزمه المؤمن كان من أهل التقوى، نسأل الله إن يرزقنا تقواه وأن يجعلنا من عباده المتقين وأن ينزلنا منازلهم التي وعدهم في قوله سبحانه: إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن أحسن الحديث كتاب الله عز وجل وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار فاهتدوا بكتاب الله وسنة رسوله واحذروا كل مخالفة عن أمره.
واعلموا رحمكم الله أن من رزقه الله التقوى فعمرت قلبه ذاق نعيم السعادة في الدنيا قبل الآخرة، وكان من أكرم الخلق على الله فعن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: ((أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبي الله بن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)).
إن التقوى تمسك اليد عن أن تنال حراما وتمسك الرجل عن أن تمشي إلى ما يغضب الله عز وجل وتمسك اللسان عن كل قول يحاسب الله عليه وتمسك العين من أن تنظر إلى حرام، إنها تجعل الإنسان يسير في دروب الحياة حذرا مدققا في كل ما يأخذ أو يدع، هذا عمر الفاروق يقول لأبي بن كعب : ما التقوى؟ فيقول أبي: هل سلكت طريقا ذا شوك؟ فقال: نعم، فيقول وماذا فعلت؟ قال: شمرت واجتهدت فيقول تلك هي التقوى، تشمير وحذر من أن يصيب ما يجلب غضب الله تعالى، تلك الصورة التي صاغها شاعرنا:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
والتقوى تجعل الأمة على الطريق الصحيح دائما يقول الله تبارك وتعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم...
(1/844)
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دور الوازع الديني في المحافظة عل الأخلاق الفاضلة. 2- الجاهلية وصور من خلوها من
الرحمة الإنسانية. 3- بعثة النبي لتمام مكارم الأخلاق. 4- رحمة رسول الله بأمته.
5- الراحمون يرحمهم الرحمن. 6- رحمة النبي بالبهائم. 7- حين تغيب الرحمة تعيش
البشرية حياة الذئاب. 8- نماذج من رحمة السلف. 9- صيام يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، قرة عين المؤمن وطمأنينة قلبه تبدو واضحة جلية في تقواه لربه؛ فإن تقوى الله هي أساس كل صلاح، وسلوان كل كفاح، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
أيها المسلمون، الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، وهي باقية ما بقيت أخلاقهم، هذه حقيقة مسلمة، لا ينازع فيها إلا مريض لم ينقه، أو مغرض لا يفقه، إن تدهور الأخلاق ناجم عن نقص الوازع الديني في النفوس، والوازع الديني الزاجر، والمنجي من النهابر [1] ، الوازع الديني الذي يملك عنان النفس، ويسيطر عليها فيكبح جماحها، ويهتن دمعها، ويغسلها بالنقاخ [2] ، الذي يبرد الفؤاد.
وإن من أعظم الأخلاق المندوبة، والسجايا المطلوبة، خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين، ولا غرو؛ إذ هو مفتاح القبول لدى القلوب، ولا جرم، أن فقدان الرحمة بين الناس، فقدان للحياة الهانئة، وإحلال للجاهلية الجهلاء، والأثرة العمياء.
ولقد نالت الجاهلية من الرحمة أقسى منال، حتى وكأنما وأدتها في مهدها، ولقد كشف الله في كتابه عن فئام من الناس والأمم، ممن فقدوا الرحمة، وكأنما قدَّت قلوبهم من صخر صلد، تمثلت هذه الغلظة والقسوة، في أصحاب الأخدود، الذين أضرموا النيران، وخدوا الأخاديد في أفواه السكك، وجنبات الطريق، وكان ذلك حينما آمن الناس بما جاء به الغلام المؤمن، فكان من لم يرجع عن دينه يقحم في النار، فتنهش جسده نهشا، حتى لا يرى إلا فحمة أو رمادا، ولقد جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع في النار، فقال لها الغلام: (يا أماه، اصبري فإنك على الحق) [القصة رواها مسلم في صحيحه] [3].
قُتِلَ أَصْحَـ?بُ ?لأُخْدُودِ ?لنَّارِ ذَاتِ ?لْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى? مَا يَفْعَلُونَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [الفجر:4-8].
لقد كشف الله في كتابه عمن فقد الرحمة وانقض عليها، فلم يرعَ حق أُم ولا رضيع، ولم يدع صغيرا ولا كبيرا في عافية، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:4].
وَفِرْعَوْنَ ذِى ?لأَوْتَادِ ?لَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ?لْبِلَـ?دِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ?لْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِ?لْمِرْصَادِ [الفجر:10-14].
قال أبو رافع: أوتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحا عظيمة حتى ماتت إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَـ?طِئِينَ [القصص:8]. وَجَعَلْنَـ?هُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ?لنَّارِ وَيَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ لاَ يُنصَرُونَ [القصص:41].
لقد كشف الله في كتابه العزيز عن ممارسات شاذة، ممن فقدوا الرحمة أو أماتوها، وعن مكائد خبث، يصنعها يهود بني إسرائيل الذين هم أكثر البشر قسوة وفظاعة، وقلوبهم كالحجارة الصماء، بل هي أشد قسوة منها ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذ?لِكَ فَهِىَ كَ?لْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]. فكشف الله خبثهم، وبين أنهم قتلة ومردة من قديم الزمان وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَ?درَأْتُمْ فِيهَا وَ?للَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72]. وبما فعله يهود يحكم الله عليهم باللعنة والحرمان من الرحمة، فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـ?قَهُمْ لَعنَّـ?هُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ عَن مَّو?ضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى? خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ [المائدة:13].
عباد الله، إن الله ـ جل وعلا ـ حينما بعث رسله جعل تمكين الأخلاق الفاضلة في النفوس أصلا من أصول رسالاتهم، وأساسا من أسس دعواتهم، وخاتم الأنبياء والمرسلين هو من قال فيه ربه: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ [التوبة:128].
وقال : ((إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق)) [رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم وصححه] [4].
لقد تجلت رحمة المصطفى ، في جوانب كثيرة من حياته، حتى لقد أصبحت سمة بارزة، لا يحول دونها ريبة أو قتر، في كل شأن من شئونه، فهو عطوف رحيم أرسله إلى البشرية رحمن رحيم، وأنشز لحمه وَبَلَّ عروقَه إملاجُ حليمة السعدية له، فكان له من اسمها الحلم والسعادة.
أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله تلا قول الله: رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ?لنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [إبراهيم:36]. وتلا قول عيسى ـ عليه السلام ـ: إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [المائدة:118]. فرفع رسول الله ي ديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله ـ عز وجل ـ: يا جبريل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل ـ عليه السلام ـ فسأله، فأخبره بما قال ـ وهو أعلم ـ فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)) [5]. الله أكبر! ما أعظم المصطفى ! ، وما أرحمه بأبي هو وأمي!.
لقد تجلت رحمة المصطفى بأمته، حتى بلغت تعليم الجاهل، وتوجيه الغافل، ومناغاة العيال والصبيان، أقسمت بنت من بناته ليأتينها لأجل ابن لها قبض، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله الصبي، ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ قال: ((هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) [رواه البخاري] [6].
إن رحمة المصطفى لم تقف عند هذا الحد فحسب، بل لقد حوت رحمته طبقات المجتمع كلها، أراملَ وأيتاماً، نساءً ومساكينَ، صغارا وكبارا، ولم يقتصر ذلك على فعله، بل عداه بقوله: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) [رواه أبو داود والترمذي] [7].
وقال : ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) [رواه مسلم] [8]. وقال في التحذير من عدم الاشقاق على الناس، ونزع الرحمة عنهم، والنغرة عليهم: ((اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئا فرفق بهم فارفق به)) [رواه مسلم] [9].
لقد تجلت رحمة المصطفى بالخلق، فتعدت نطاق البشرية إلى نطاق الحيوانات العجماوات، فلقد دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَ حن الجمل وذرفت عيناه؛ فأتاه رسول الله فمسح ذفراه فسكت، فقال: ((من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟)) فجاءه فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال له: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبُه [10] )) [رواه أبو داود] [11].
فيا لله العجب! حتى البهائم ألهمت أن الرسول رحمة الله مهداة، وأنه نبي المرحمة، فأين أنتم ـ عباد الله ـ من قصة هذا الجمل؟ أين أنتم من إيذاء تلك البهائم؟ ناهيكم عن إيذاء البشر والاستخفاف بهم، أين أنت يا راعي الغنم؟ أين أنت يا سائق الإبل؟ أين أنت يا راعي الأسرة؟ أين أنت يا راعي المدرسة؟ وأنت يا راعي الوظيفة؟ اتقوا الله جميعا فيمن استرعاكم، ولئن كان المصطفى قد مات، فلا تصل البهيمة بالشكوى إليه، أو البشر بطلب النصرة منه، فإن ربه حي لا يموت، يراكم ويسمعكم، ولكن يؤخركم إلى أجل لا ريب فيه ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلمون، بتجلى خلق الرحمة في ذات المصطفى عالج محو الجاهلية، وقطع ظلالها بأنوار الرحمة والعطف، فكفكف من نزوات الجاهلية وقسوة قلوبها، وأقام أركان المجتمع، على دعائم الرحمة والشفقة وحسن التخلق، واستنشاق النفنف [12] من محاسن الشريعة. وإن كمال العلم في الرحمة، ولين الكلام مفتاح القلوب، يستطيع المسلم من خلاله، أن يعالج أمراض النفوس، وهو مطمئن القلب، رخي البال، وإلا انفض الناس من حوله، فعاشوا جهالا وماتوا جهالا، وذلك هو الشقاء، وهو سببه وعلته.
عباد الله، في طوايا الظلام، تدرس الأخلاق كما يدرس وشي الثوب، بلهَ ما كان في الصالحين المخلصين، لقد طغى طوفان المادة الجافة، فأغرق جسوم الرحمة إلا ما انملص منه، ولقد بدت نواعير الحياة عند البعض: (إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يجهل عليك، وإن لم تتغدى بزيد تعشى بك) بل لقد صور العالم لدى البعض، أنه دنيا فسيحة، يحدها من الشرق الرغيف، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان.
لقد رجعت بعض النفوس منداة الجسم بعرق القسوة والغلظة، وإذا تندت الجسوم، وجب نزع المبلول، وإلا فهي العلة ما منها بد، وهي شاغلة النفوس.
ما أشده مضضا ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم! إن أمرها ليذهب فرطا، وإن الغفلة قد بلغت من الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة، فلا تجد إلا قلبا وصدرا وحرا، ولسانا ولقا ينصنص، إلا من عصم ربي، وقليل ما هم.
لقد مضى عهد السلف الصالح، فسخفت الحياة من بعدهم، وصاروا ككتب قد انطوت على حقائقها، وختمت كما وضعت، لا يستطيع أحد أن يخرج للناس من حقيقتهم نصف حقيقة، ولا شبه حقيقة، ولا تزويرا على حقيقة، إنما هي لا غير، الحقائق كلها قد اكتنفوها. ولقد أثبتوا بتجلي الرحمة في قلوبهم، بأنه ليس في نفوسهم وطباعهم إلا الإخلاص، وإن كان حرمانا إلا المذق، وإلا المروءة، وإن كانت مشقة، وإلا محبة الصادقين وإن كانت ألما، وإلا الجد وإن كان عناء، وإلا القناعة وإن كانت فقرا.
إن من النجاة الفكر في البلاء، والتنطس في الأمور، وإذا نبهت العزيمة تغلغل أثرها في البدن كله، فيكون علاجا يحدث به النشاط، ويرهف منه الطبع، وتجم عليه النفس، وإن هذا لهو الدواء إذا استشرى الداء، وهو النصر حين تخذل القوة.
إن النفس ينبغي أن تَعْنَتَ بعد كل كمال فيما هو أكمل منه، وبعد المهاه فيما هو الإحسان، تستحث من كل هجعة راحة بفجر نصب جديد.
ولو أدرك المسلم أن أول حق للمسلمين عليه، أن يحمل في نفسه معنى الناس، لا معنى نفسه، لعلم أن من فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميس، كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة.
إن الناس أحرار، متى حكمتهم معاني الرحمة والشفقة، والتواد والتعاطف، تحت ظل الإسلام الوارف، قال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [رواه مسلم] [13].
وبذلك كله يتصل ما بين العظيم والسوقة، وما بين الغني والفقير، اتصال الرحمة في كل شيء، أما ربط الرحمة والتراحم بالدينار والدرهم، في مقابل استبعاد تلك المعاني الحيوية، التي ينبغي أن تسود المجتمع، فهو المائج بالحياة بعضها في بعض، وهو الذي يقلب الموازين، ويجعل الصحيح والفاسد، في ملك الإنسان لا في عمله، وتكون المنفعة الذاتية، هي الآمر الناهي، فيرى كل إنسان كأنما ديناره ودرهمه، أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه، فإذا أعطى نقص فغش، وإذا استنض زاد فسرق، ويتعامل الناس في التعاطف والتراحم على أساس من المعدة لا من الروح، وتكون يقظة التاجر من غفلة الشاري.
فإذا عظمت الأمة الدينار والدرهم، فإنما تمزمز النفاق والطمع والقسوة، وإنما هيبة الإسلام في الرحمة بالنفس لا بالمال، وفي بذل الحياة، لا في المعك فيها، وفي أخلاق الروح، لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس، لا في وضع حدود الدراهم، وفي جعل أول الثروة الرحمة والشفقة، لا الذهب والفضة، هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم؛ لأنه قبل ذلك غلب المطيطاء [14] والقسوة والجشع.
والسلف الصالح خير من ترجم معاني الرحمة إبَّان عيشهم، فها هو الصديق أبو الصديقة، خليفة رسول الله ، وثاني اثنين إذ هما في الغار، الذي جبل نفسه على الرحمة والتراحم، منذ نعومة أظفاره، وما سمي بالعتيق، إلا لكثرة ما يعتق من العبيد رحمة بهم، وإنقاذا لهم من سطوة غلاظ الأكباد وشرار الخلق، كان يتعهد امرأة عمياء في المدينة، يقضي لها أشغالها سرا، إبان خلافته للمسلمين، كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة، قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا. فسمعها فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه.
ولقد بلغت الرحمة مجلاة أوج صورها، في الخليفة الفاروق ، الذي بلغ من القسوة والغلظة في جاهليته أعظمها، فلما ذاق طعم الإيمان، انقلبت نفسه رأسا على عقب، وكأنه لم يكن قط قاسي النفس، غليظ القلب، فلما ولي الخلافة، خطب الناس مطمئنا لهم قائلا:
(اعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا، أو يعتدي عليه، حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك، أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف)، فرحم الله عمر الفاروق ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين.
فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن المرء المسلم، مطالب بالرحمة والتراحم بما استطاع من تحلم وتصبر، وعليه أن يترفق أولا في أهله، وثانيا في رعيته وجيرانه ومواطنيه وموظفيه، فلا يكون عونا لزوجته على النشوز، ولا لأبنائه على العقوق، ولا لجيرانه على الإساءة، ولا لرعيته على التمرد، ولا للناس كافة على هجره ومباغضته.
واعملوا بمثل قول المصطفى : ((إن من إجلال الله ـ تعالى ـ، إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) [رواه أبو داود] [15]. وحذارِ من الوقوع فيما حذر منه المصطفى بقوله: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)) [رواه أبو داود] [16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم...
[1] النَّهابِر : المهالك ، وجهنم - أعاذنا الله – تعالى – منها. (القاموس ، مادة نهبر).
[2] النُّقاخ: الماء البارد العذب الصافي والخالص ، (القاموس ، مادة نقخ).
[3] صحيح مسلم ح (3005).
[4] صحيح ، مسند أحمد (2/381) ، الأدب المفرد ح (273) ، مستدرك الحاكم (2/613) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. ولفظه عندهم كلهم : ((....صالح الأخلاق)).
[5] صحيح مسلم ح (202).
[6] صحيح البخاري ح (1284) ، كما أخرجه مسلم ح (923).
[7] صحيح ، سنن أبي داود ح (4941) ، سنن الترمذي ح (1924) وقال : حسن صحيح.
[8] صحيح مسلم ح (2319).
[9] المصدر السابق ح (1828).
[10] تُدئبُه: يعني تُكدّه وتُتعبه. معالم السنن للخطابي (3/387).
[11] صحيح ، سنن أبي داود ح (2549).
[12] النفنف: الهواء.
[13] صحيح مسلم ح (2586) ، وأخرجه أيضاً البخاري ح (6011).
[14] المطيطاء: التبختر.
[15] حسن ، سنن أبي داود ح (4843).
[16] صحيح ، سنن أبي داود ح (4943) ولفظه : ((من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف حق كبيرنا فليس منا)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأتباعه وإخوانه.
أما بعد:
فيا أيها الناس، لقد تجلت رحمة الله ـ تعالى ـ بالبشرية في شهر الله المحرم، بأن نجى الله كليمه موسى من كيد فرعون وجنوده، فنبذه الله في اليم وهو مليم، وكان ذلك في اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو يوم له فضيلة عظيمة، وحرمة قديمة، شرع المصطفى صيامه. وقد صامه موسى ـ عليه السلام ـ؛ شكرا لله ـ عز وجل ـ، وصامه نبينا وأمر بصيامه.
ففي الصحيحين عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قدم النبي المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله : ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال رسول الله : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم)) ، فصامه وأمر بصيامه وقال عنه : ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) [رواه مسلم] [1].
وتأصيلا لقاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي مخالفة اليهود والنصارى والمشركين، وقطعا لمادة التشبه بهم من كل طريق، عزم المصطفى في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا مخالفة لأهل الكتاب فقال: ((فإذا كان العام المقبل ـ إن شاء الله ـ صمنا اليوم التاسع)) ، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله. ر[رواه مسلم] [2].
فيستحب لكم أيها المسلمون صيام هذا اليوم، اقتداء بالنبي ، وكل خير في اتباع ما جاء به، وكل شر في ابتداع ما لم يأت به.
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
[1] صحيح مسلم ح (1130).
[2] المصدر السابق (1134).
(1/845)
في فضل يوم الجمعة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختصاص المسلمين بيوم الجمعة 2- سُنن يوم الجمعة 3- سُنن صلاة الجمعة
4- محظورات صلاة الجمعة 5- ساعة الإجابة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى بفعل طاعته، والبعد عن معصيته، وشكره سبحانه على سعة فضله وسابغ نعمته والمسارعة إلى مغفرته وجنته، فإن في ذلكم الخير والصلاح والهدى والفلاح.
أيها المسلمون: إن من نعم الله العظيمة ومنحه الجليلة، أن اختص ربنا تبارك وتعالى هذه الأمة بيوم الجمعة من بين الأمم، ومنحها فضائله لما له تعالى في ذلك من الحكم، فجعله عيدا لهم في كل أسبوع، يتنافس فيه العباد بما شرع الله فيه من العبادات ونفائس القربات التي رتب عليها سبحانه تكفير السيئات وزيادة الحسنات، ورفعة الدرجات، وإجابة الدعوات. والسابقون السابقون أولئك المقربون.
أيها المسلمون: لقد أضل الله تعالى عن هذا اليوم الجليل اليهود والنصارى، فلم يوافقوه؛ لأنه سبحانه ادخره لهذه الأمة المباركة المكرمة أمة محمد الذي شرفت الأمة بشرفه ونالت الخير العظيم بيمن نبوته وبركة رسالته. فقد ثبت في الصحيح أن النبي قال: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدا والنصارى بعد غد)). وفي الحديث الصحيح الآخر قال : ((أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا؛ فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق وأول من يدخل الجنة)).
وكان من سنته أن يقرأ في فجر يوم الجمعة سورتي: الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين السجدة و: هل آتى على الإنسان ؛ لأنهما تضمنتا ذكر خلق آدم، ويوم القيامة، وحشر العباد ونحو ذلك، وكل ذلك وغيره كائن يوم الجمعة، فكان في قراءته لهاتين السورتين تذكير بهذه الأمور الجسام والأهوال العظام. وعن أبي لبابة أن رسول الله قال: ((سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها عند الله تعالى، وأعظم عند الله عز وجل من يوم الفطر ويوم الأضحى)).
أيها المسلمون: ومن خصائص هذا اليوم ووجوه، تعظيمه وفضائله التي يتقرب إلى الله تعالى بها، ويبتغي ثوابه بها والتي بينها لكم نبيكم وأكد لكم شأنها، وحثكم عليها ورغبكم في ثوابها، نظافة البدن، والثياب، والطيب، والسواك، والتبكير للجمعة، والدنو من الإمام، وصلاة ما يسر الله من النوافل، وتجنب أذى المصلين، وحسن الأدب، والاستماع للخطبة، وتجنب كل ما من شأنه أن يعرض المرء للغو الذي يؤثر على جمعته. ففي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)).
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح – يعني في الساعة الأولى – فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة؛ فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر )) ، وفي حديث آخر عنه رضي الله عنه أيضا قال: قال النبي : ((إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول. ومثل المهجر – أي المبكر إلى الجمعة – كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشا، ثم دجاجة، ثم بيضة؛ فإذا خرج الإمام طووا صحفهم وجاؤوا يستمعون الذكر)).
فالتبكير إلى الجمعة، والأخذ بالسنن المشروعة في يومها من أسباب زيادة الفضل، وعظم الأجر، والقرب من الله تعالى، والسبق إلى أول صفوف أهل الجنة يوم القيامة.
وفي الصحيح قال : ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) متفق عليه. وروى أهل السنن عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله يقول: ((من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ؛ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من اغتسل يوم الجمعة واستاك، ومس من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه ثم ركع ما شاء الله أن يركع، ثم أنصت إذا خرج الإمام فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته؛ كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها)) ، وله أيضا عن النبي قال: ((من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم يصلي معه؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام أخرى [وزيادة ثلاثة أيام]، ومن مسَّ الحصى فقد لغا)) رواه مسلم.
فتنافسوا – رحمني الله وإياكم – في هذا الخير العظيم، نظفوا أبدانكم، والبسوا أحسن ثيابكم، ومسوا من طيبكم، وبكروا إلى مساجدكم بسكينة ووقار، وتقدموا إلى الصفوف الأولى دون أن تؤذوا إخوانكم، وصلوا ما كتب الله لكم، وأكثروا ذكر الله، واتلوا كتابه، واسألوه من فضله، والتزموا الأدب النبوي والنهج المحمدي، تكونوا من السابقين المقربين الفائزين بالأجر الكريم والثواب العظيم فضلا من ربكم، ذلك هو الفوز العظيم؛ وإياكم والتخلف عن هذا الخير والتهاون بتلك السنن فقد صح في الحديث عن نبيكم أنه قال: ((لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) رواه مسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [سورة الجمعة:9-10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فالحمد كله والشكر له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، أرسله الله تعالى بالحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصي الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا.
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: عظموا الجمعة بأداء واجباتها على أكمل الوجوه المستطاعة، والمنافسة في تطبيق سننها وآدابها، تفوزوا بأربح البضاعة، واحذروا التقصير في واجباتها أو الوقوع في منهياتها، فإن ذلكم من شر البدع، وضلالة في المجتمع، وزيغ وفتنة لمن كان بها قد وقع.
أيها الناس: ثبت في الحديث أن النبي قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) فصلوا هاتين الركعتين تحية للمسجد إذا دخلتموه، وأنتم تريدون الجلوس في سائر الأوقات، كما هو الصحيح من أقوال أهل العلم عملا بهذا الحديث حتى ولو كان دخولكم والإمام يخطب.
ففي الحديث أن رجلا دخل المسجد والنبي يخطب الناس، فجلس ولم يصلي ركعتين، فقال له النبي : ((أصليت يا فلان؟)) قال :لا. قال: ((قم فاركع)). ثم قال : ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما)).
وإياكم وإيذاء الناس بتخطي رقابهم، فعن عبد الله بن يسر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي يخطب، فقال له النبي : ((اجلس فقد آذيت )). ويروى عنه قال: ((من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم )). رواه الترمذي وغيره. ولو لم يكن من شؤم التخطي إلا أنه أذى للناس لكفى، فإنه يخشى على من حصل منه أن يكون داخلا في قوله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا [سورة الأحزاب:58].
واعلموا أن كلام الرجل مع غيره حال الخطبة من اللغو الذي قد يفوت ثواب الجمعة، وقد يبطلها إلا من الإمام أو معه؛ ففي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي قال: (( إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت)). وفي قصة الرجل الذي قال للنبي وهو يخطب يوم الجمعة: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل ،فادع الله يغيثنا؛ ما يدل على جواز الكلام مع الإمام من آحاد الناس.
أيها المسلمون: حافظوا على الجمعة، وتحروا فيها سنة نبيكم حتى تكون كفارة لذنوبكم، ومغفرة لخطاياكم، وزيادة في حسناتكم، ورفعة في درجاتكم، وسببا من أسباب السبق إلى الجنة ومرافقة نبيكم ودنوكم من مولاكم عز وجل. وفي الحديث عن النبي : ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)) رواه الإمام أحمد والترمذي.
أيها المسلمون: ومما ادخره الله لكم في هذا اليوم المبارك أن فيه ساعة يسمع فيها النداء، ويجاب فيها الدعاء، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله ذكر الجمعة فقال: ((فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه. وأشار بيده يقللها)) متفق عليه. قال الإمام أحمد رحمه الله: ((أكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى فيها إجابة الدعوة أنها بعد العصر وترجى بعد الزوال)).
فاجتهدوا في تحري هذه الساعة، والاجتهاد فيها في الدعاء، اسألوا الله تعالى فيها كل ما تحتاجونه من خيري الدنيا والآخرة لأنفسكم وأهليكم وذويكم وأحبتكم وسائر المسلمين والمؤمنين. وأكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإنها من أسباب إجابة الدعاء، وقضاء الحاجات، وكشف الكربات، وعليكم أن تقدموا بين مناجاتكم لمولاكم صدقة لمساكينكم، واستغفارا حقيقيا لذنوبكم، فإنها من أسباب الإجابة والقبول، وصرف البلاء، ودوام العافية.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [سورة النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/846)
محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, الشمائل
محمد النمر
الطائف
17/3/1414
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
- اتصافه صلى الله عليه وسلم بالأخلاق الفاضلة حتى أحبّه قومه فلما بعثه الله تعالى أحبه
أصحابه حباً عظيماً حتى أصبحوا يتعبدون الله تعالى بذلك – من لوازم محبته صلى الله
عليه وسلم إن كان حباً صادقاً طاعته
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فيا عباد الله:
ولد المصطفى صلى الله عليه وسلم فكان لمولده الآيات والدلائل التي تبشر بما يكون لهذا المولود المبارك من شأن، وما سيحصل على يديه من خير وبركة.
ونشأ صلى الله عليه وسلم على أكمل ما تكون نشأة الإنسان من أخلاق فاضلة وكرم وجود وبر وإحسان.
نشأ صلى الله عليه وسلم متحليا بمكارم الأخلاق متصفا بكل فضيلة بعيدا عن كل رذيلة، يصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم.
ويعين على نوائب الحق.
اشتهر صلى الله عليه وسلم بين قومه وعشيرته بالفضل والأمانة ومكارم الأخلاق، وسموه بالصادق الأمين.
أيها الإخوة المؤمنون: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قوم هم أهل شرك وأصحاب أوثان، شاع فيهم الجهل ،ووقعوا أسرى الأوهام والأباطيل.
وكانوا قبائل متفرقة لا تجمعها صلة دينية ولا مصلحة اقتصادية، ولا تضمهم رابطة سياسية فكانوا يعيشون في حيرة وعمى، وكانت الحروب تتقد نيرانها.
بين قبائل الجزيرة عشرات السنين من جراء سباق حصان أو خيانة في رهان. أو نحو ذلك من الأسباب التافهة. ولم يكن حال الناس خارج الجزيرة العربية.
أحسن مما كانت عليه حال العرب، فقد انتشرت المساوئ والمفاسد في كل مكان، وعم الجهل ونبتت العداوات، وتوارت الفضائل، وغرق الناس في بحار.
من الضلال، وصاروا أسرى الأهواء حتى ضجت الأرض مما تنوء به من شر وبغي وهمجية وعدوان. ولما بلغ الأربعين من عمره المبارك أوحى الله إليه وأرسله.
إلى الناس كافة عربهم وعجمهم بشيرا ونذيرا وهاديا إلى الخير والرشاد، محذرا من الشر والفساد، فبلغ رسالة ربه أحسن تبليغ، وأدى الأمانة التي حملها على أتم.
وجه وأحسن أداء، فجاهد في دين الله وصبر على الأذى، وفارق بلاده وعشيرته في سبيل الله ومرضاته حتى أظهره الله وأظهر دينه على سائر الأديان.
وجاهد معه رجال آمنوا به وصدقوه وأحبوه حبا دونه حبهم لأنفسهم بعدما رأوا من صدقه وشمائله يقول عبد الله بن سلام :أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إنجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستثبته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب.
كان أول ما سمعت من كلامه أن قال: ((يا أيها الناس:أفشوا السلام، وأطعموا الطعام ،وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)).
على أن الذين عاشروا محمدا أحبوه إلى حد الهيام وما يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر، فقد أسر المشركون أحد المسلمين وقبل أن يقتلوه سألوه إن كان يحب أن يكون محمد في مكانه يقتل، فأجاب: لا ولا يشاك بشوكة فتمثل هذا القول شاعر فقال:
أسرت قريش مسلما في غزوة فمضى بلا وجل إلى السياف
سألوه هل يرضيك أنك سالم ولك النبي فدى من الإتلاف
فأجاب كلا لا سلمت من الأذى ويصاب أنف محمد برعاف
وما أحبوه ذلك الحب إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يعشق عادة لم يرزق بمثلها بشر.
كان ثوبان مولى رسول الله شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه، يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله : ((ما غير لونك)) ، فقال: يا رسول الله، ما بي مرض ولا وجع، غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم إني إذا ذكرت الآخرة أخاف ألا أراك لأنك ترفع إلى عليين مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخلها لم أرك أبدا، فنزل قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
أخرج الشيخان عن أنس أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم متى الساعة؟ قال: ((وما أعددت لها قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت)) ، قال أنس: فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، والمقصود هنا حب الأسوة، لا حب الهوس، الحب الذي يدفع إلى طاعة المحبوب، باتباع ما جاء به والحرص عليه، وإلا فدعوى المحبة باطلة، والله عز وجل يأمر نبيه أن يقول: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وما أقبح دعوى المحبة مع المخالفة يقول الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الأنام بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
إذا كنا نحب رسول الله فلنحرص على متابعته والتزام ما جاء به ولنحذر من البدع والمخالفات.
وما أرخص الحب إذا كان كلاما، وأغلاه عندما يكون قدوة وزماما وما أعظم الفرق بين من اتخذ من محمد بن عبد الله إماما وقدوة يفهم سنته ويعمل على تطبيقها ويهتدي بهديه وبين من اتخذ من الضلال قدوة يضربون به يمنه ويسره فهم لا يستطيعون حتى هداية أنفسهم.
اللهم وفق المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك، اللهم خذ بنواصيهم إلى الحق واهدهم سبل الرشاد، وأصلح فساد قلوبهم، وانصرهم على أعدائهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر والحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن المسلمين اليوم يعرفون عن السيرة قشورا لا تحرك القلوب ولا تثير الهمم، وهم يعظمون النبي وصحابته رضوان الله عليهم عن تقليد موروث ومعرفة قليلة، ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان، أو ما قلت مؤونته من عمل، ومعرفة على هذه النحو تساوي الجهل بها، إنه من الظلم للحقيقة الكبيرة أن تتحول إلى أسطورة خارقة، ومن الظلم لفترة نابضة بالحياة والقوة أن تعرض في أكفان الموتى، إن حياة محمد ليست بالنسبة للمسلم مسلاة شخص فارغ، ولا دراسة ناقد محايد، إنها مصدر الأسوة التي يقتدى بها، ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين بها.
ومحمد ليس قصة تتلى في يوم ميلاده، ولا التنويه به يكون في الصلوات المخترعة، ولا إكنان حبه يكون بتأليف مدائح له أو صياغة نعوت مستغربة يتلوها العاشقون. فرباط المسلم برسوله أقوى وأعمق من هذه الروابط الملفقة على الدين، إن المسلم الذي لا يعيش الرسول في ضميره ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره، لا يغني عنه أدبا أن يحرك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة، والله عز وجل يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)).
فاتقوا الله أيها المسلمون وحققوا إسلامكم بسيركم على منهاج نبيكم فإنكم لن تضلوا بعد ذلك أبداً.
(1/847)
العشر الأوسط من رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة لاغتنام فضيلة الزمان (رمضان). 2- تقسيم الشهر بين المحسنين والمقتصدين
والمذنبين. 3- شفاعة الصيام القرآن للعبد يوم القيامة. 4- صيام الجوارح.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد أيها المسلمون:
اتقوا الله تعالى واجتهدوا في الأعمال الصالحة في بقية شهركم وكم من الناس حتى يومنا هذا لم يستفد من شهر رمضان قد ضيع نهاره في النوم ولياليه في السهر المحرم، حتى متى يعيش الإنسان للذاته وشهواته، وحتى متى يسير في طريق النار ومع ركب إبليس، ألا ينزجر هذا المسكين، ألا يصبحوا من سبات الغفلة وضياع العمر.
تولى العمر في سهر وفي لهو وفي خسر
فيا ضيعة ما أنفقت في الأيام من عمري
أما يعلم المفرط في الطاعة أن شهر رمضان شهر مليء بأسباب المغفرة فمن فرّط في هذه الأسباب كان محروما غاية الحرمان.
وفي الحديث ((من أدرك رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله)).
وقال سعيد عن قاتدة، كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له في ما سواه، وفي أثر آخر: (إذا لم يغفر له من رد في ليلة القدر؟ متى يصلح من لا يصلح في رمضان، فمن فرط في الزرع في وقت البذار لم يحصد يوم الحصاد إلا الندم والخسار).
فيا من تريد العتق من النار ومغفرة الذنوب ورضا الرحمن، ينبغي لك أن تأتي بأسباب توجب لك الرحمة والمغفرة والعتق من النار وهي كما ذكرنا متيسرة في هذا الشهر من الصيام والقيام وقراءة القرآن والذكر ومساعدة الفقراء والمحتاجين وإطعامهم والصدقة والاستغفار وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
وقد ورد في الترمذي وغيره بسند صحيح ((إن لله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة)) ، ولكن الأغلب على أول الشهر الرحمة وهي للمحسنين المتقين الذين قاموا بالصيام والقيام وقراءة القرآن قال تعالى إن رحمة الله قريب عن المحسنين فيفاض على المتقين في أول الشهر خلع الرحمة والرضوان، ويعامل أهل الإحسان بالفضل والإحسان، وأما وسط الشهر فالأغلب عليه المغفرة، فيغفر للصائمين، وإن ارتكبوا بعض الذنوب الصغائر فلا يمنعهم ذلك من المغفرة إذا ارتكبوا بعض الذنوب كما قال تعالى وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم.
وأما آخر الشهر فيعتق فيه من النار من أوبقته الأوزار، وصار مستوجبا للنار.
ليت شعري من فيه يقبل منا
فيهنا يا خيبة المردود
من تولى عنه بغير قبول
أرغم الله أنفقه بخزي شديد
ماذا فات من فاته خير رمضان؟ وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان.
أيها الاخوة: اعلموا أن المؤمن يجتمع له في رمضان جهادان لنفسه جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين، ووفى بحقوقهما وصبر عليهما، وفي أجره بغير حساب قال كعب: ينادي يوم القيامة مناد: إن كل حارث يعطي يحرثه ويزاد غير أهل القرآن والصيام، يعطون أجورهم بغير حساب ويشفعان له أيضا عند الله عز وجل، كما في المسند بسند صحيح، عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، فيقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)).
فيا من ضيع عمره في غير الطاعة! يا من فرط في شهره بل في دهره وأضاعه ويا من بضاعته التسويف والتفريط! وبئست البضاعة، أيا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجوا من خصمك الشفاعة.
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه
والصور في يوم القيامة ينفخ
رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، وقائم حظه من قيامه والسهر، كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلا بعدا، وكل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به لا يورث صاحبه إلا مقتا وردا.
يا قوم أين آثار الصيام؟ وأين أنوار القيام؟
إن كنت تنوح يا حمام البان
للبين فأين شاهد الأحزان
أيها المسلمون : ها نحن في بداية العشر الأوسط من رمضان وقد انقضت العشر الأوائل منه بما عملناه من طاعات فنسأل الله عز وجل أن يتقبل منا مصالح الأعمال وأن يغفر لنا التفريط والتقصير.
ابن آدم : يا من تكاسلت عن القيام بواجب الطاعة في أول الشهر لا تكن من المحرومين ففي الوقت فسحة وفي الشهر بقية هل لك الآن أن تبادر وتستقبل بقية الشهر أم تزيد أن تكون من المحرومين؟ أيها العبد الفقير إلى ربك لو عرفت قدر نفسك ما أمرضتها بالمعاصي، لأنك أنت المختار من المخلوقات، ولك أعدت الجنة، إن اتقيت وعملت صالحا، فهي إنما أعدت للمتقين، فكيف ترضى أن تكون من أتباع إبليس، وأن تكون معه في النار غدا من جملة أتباعه، وإنما طرد اللعين عن الجنة من أجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك، ثم بعد ذلك ترضى لنفسك أن تكون من حربه وإنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون.
أيها المسلمون : هذا شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب في نفسه لله وانتصف؟ من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف؟ من منكم عزم قبل علق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفا من فوقها غرف ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟
تنصف الشهر وا لهفاه وانهمر
واختص بالفوز بالجنات من حزما
وأصحب الغافل المسكين منكسرا
مثلي فيا ويحه يا عظيم ما حرما
من فاته الزرع في وقت النذار فما
تراه يحصد إلا الهم والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته
في شهره وبحبل الله معتصما
يا قوم آلا خاطب في هذه الشهر إلى الرحمن؟ ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان؟ ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان ؟
من يرد ملك الجنان فليدع عنه التواني
و ليقم في ظلمة الليل إلى نور القران
وليصل صوما بصوم إن هذا العيش فاني
إنما العيش جوار الله في دار الأمان
معشر المؤمنين : لقد كان سلفنا الصالح يصومون عن كل محرم وعن كل شهوة من شهوات الدنيا ولسان حال الواحد منهم:
وقد صمت عن لذات الدهر كلها
ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
رؤى بشر الحافي رحمه الله في المنام، فسئل عن حاله، فقال : علم الله قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه. نعم لقد كانت أماني أولئك الصالحين هو دخول الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم وذلك لأن النظر إلى وجه الله من أعظم نعيم الجنة كلها على الإطلاق كما قال تعالى ولدينا مزيد فالمزيد هو النظر إلى وجه الله الكريم.
من كان يرجو لقاء الله، فإن أجل الله لآت وقد قيل للحافظ عبد الغني النابلسي رحمه الله عندما أتته الوفاه ما تشتهي قال : أشتهي النظر إلى وجه الله الكريم، وقيل لبعضهم : أين نطلبك في الآخرة؟ قال : في زمرة الناظرين إلى الله، قيل له : كيف عملت ذلك؟ قال : بغض طرفي له عن كل محرم، واجتنابي فيه كل منكر ومأثم، وقد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه. هذه هي أماني الصالحين ولسان حالهم:
قال الشاعر:
هجرت الخلق طرا في هواك وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربا لما حن الفؤاد إلى سواكا
فالعارفون لا يسليهم عن رؤي مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، هممهم كما ذكرنا أجل من ذلك.
عباد الله هذا شهر رمضان الذي أنزل فهي القرآن وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يصان عن الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى فيه صاحبه أن يشفع، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها ظلمت الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكمم يتوالى علينا شهر رمضان وما لنا فيه كحال أهل الشهوة، ألا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة وإذا تليت عليهم آياته جلت قلوبهم جلوه، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أما لنا فيهم أسوة، كم بيننا وبين حال أهل الصفّا أبعد مما بيننا وبين الصفاء المروة.
يا نفس فاز الصالحون بالتقى
وأبصروا الحق وقلبي قد تممي
ويحك يا نفس ألا تيقظ
ينفع قبل أن تزل قدمي
مضى الزمان في توان وهوى
فاستدركي ما قد بقي واغتنمي
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون: ما أشبه الليلة بالبارحة!! بالأمس كنا نستقبل رمضان وها نحن نودع أسبوعا كاملا مضى العشر الأوائل منه مضت منه بما فيها من طاعات وأعمال صالحة من صيام وقيام وتلاوة قران وهاهي أيامه الجميلة ولياليه الطاهرة تمشي الهويني لكي تطوي علينا هذا الشهر المبارك.
إذا تم أمر بدا نقصه تأمل زوالا إذا قيل تم
أيها الاخوة: إنه والله من العجيب أن نرى أناسا ليس لهم هم في هذه الدنيا إلا تضييع الأوقات في اللهو والغفلة تمر عليهم المواسم والفرص ولا يحرصون على استغلالها في طاعة الله انظروا مثلا للناس في صلاة العشاء يملؤن المسجد حتى إذا فرغوا من صلاة العشاء خرجوا من المسجد بحيث أنهم لا يفكروا مجرد تفكير يتبعه عمل، في صلاة التراويح ويحرمون أنفسهم أجر مغفرة الذنوب، وكأن الدنيا فائتة وسوف تذهب عليهم فلماذا العجلة إذاً؟
والبعض يفرط أصلا في صلاة الجماعة حتى في رمضان لا ينصلح حاله، ويترك صلاة الجماعة يعرض نفسه للعقوبة ومشابهة المنافقين، والبعض لا يصون صومه عن الكذب والغيبة والنميمة والغش وسماع الأغاني والموسيقى وغير ذلك من الأعمال التي تخدش أجر الصوم.
لولا الذين له ورد يصلونا
وآخرون لهم سرد يصومونا
فاحذروا أيها المسلمون من نواقض الصوم ونواقضه، وصونوه عن قول الزور والعمل به فقد ورد في الحديث الصحيح إن النبي قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري.
فالصائم الحقيقي هو الذي صامت جوارحه عن الآثام ولسانه عن الكذب والفحش والغيبة والنميمة وقول الزور وبطنه عن الأكل والشرب وفرجه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه ون فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه نافعا صالحا، وكذلك أعماله هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب كما جاء في الحديث ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)) رواه الإمام أحمد وهو صحيح.
فالصوم الحقيقي إذن هو صوم الجوارح عن الآثام وصوم البطن عن الطعام والشراب، فكما أن الطعام والشراب يقطعه فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسر ثمرته، فتصيّره بمنزلة من لم يصم.
قال جابر بن عبد الله : (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء).
(1/848)
آداب عيادة المريض
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, المرضى والطب
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
9/7/1408
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حق المسلم على المسلم. 2- فضل زيادة المريض. 3- آداب زيارة المريض. 4- إهداء
المريض. 5- رقية المريض. 6- دعاء المريض وفضل المرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله معشر المسلمين، واستعينوا بخالقكم فى كل أموركم واستنيروا بسنة نبيكم، فقد كان أنفع الناس للناس وأكثرهم برا وصلة له ولا سيما عندما يعتريهم أمر الله وقدره من موت أو مرض، فقد كان يعود المريض مسلما أو يهوديا، وكذلك كل من تربطه به صله إذا مرض لا تمنعه كثرة مشاغله عن هذا الواجب ولا إدارة الدولة الإسلامية عن ذلك، مع أنه كان كثير الأهل عظيم العشيرة محبوبا إن تكلم أو سكت، محاطا بالناس إذا قام أو قعد عظيم الذكر والعبادة واسع الخطو فى الغزو وفى الفتوح -بأبي هو وأمي وولدي ونفسي والناس أجمعين -.
بين لنا الرسول حق المسلم على المسلم فقال: ((حق المسلم على المسلم رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس)) (3) ، رواه الشيخان.
ولا يلزم كما هو ظاهر من الحديث أن يكون المسلم من معارفه وإنما يكفى وصف الإسلام: ((حق المسلم على المسلم)) لقيام هذه الحقوق لإخواننا المسلمين علينا، فإذا كانت صلة قرابة أو صلة جوار أو أخوة أو معرفة فإن ذلك الحق يعظم بمقدار عظم تلك الصلة.
وحديث آخر يرويه البراء بن عازب عن النبي يقول: ((أمرنا رسول الله بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم ونصرة المظلوم وإجابة الداعى وإفشاء السلام)) (1) رواه الشيخان.
إن زائر المريض يحظى ويتمتع بثمار الجنة حتى يرجع من زيارته قال الرسول : ((إن المسلم لم يزل فى خرفة الجنة حتى يرجع قيل: يا رسول الله وما خرفة الجنة؟ قال: جناها)) (2). رواه مسلم.
وفى فضل زيارة المريض يروي علي عن ابن عمه رسول الله قوله: ((ما من مسلم يعود مسلما غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف حتى يصبح وكان له خريف فى الجنة)) (3) رواه الترمذي والخريف الثمر المخروف أي المجتنى.
ومن آداب زيارة المريض المسارعة إلى عيادته وهذا يفهم من قوله ((إذا مرض فعده)).
وهناك أحاديث تدل على أن زيارة المريض تكون بعد ثلاثة أيام من مرضه لما رواه ابن ماجة والبيهقى قال: ((كان النبى لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث)) (4)
فإذا لم يكن المرض خطير يخشى على المريض من جرائه الموت ولم يتأذى من الزيارة تكون الزيارة مباشرة.
أما إذا كان المرض عاديا فتكون الزيارة بعد ثلاث، و|لا يترك بحسب سعة حال المريض وبحسب ما تمليه الظروف من سرعة فى العيادة او تأخيرها بعد ثلاث أيام.
ومن السنة تخفيف العيادة ولاسيما عند ضعف المريض أو عند كثرة الزوار أو عند ضيق المكان، ويكون الدخول |لى المريض بحسب حالته واحتياجه لما روي عنه عند الحاكم أنه قال: ((زر غبا تزدد حبا)) (1).
ومن أعظم ما يهدى للمريض عند الدخول عليه الدعاء له، لا تهريب ما منعه الأطباء منه من شراب أو غذاء، لاسيما إن كان محرما كدخان أو نحوه.
ويفعل الزائر كما كان يفعل النبي يمسح يده اليمنى عليه ويقول: ((أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما)) (2 ) أو يقول سبعا: ((اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك)) عن ابن عباس عن النبى قال: (( من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرار: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض)) (3) ، رواه أبو داود.
ومما يهدى إلى المريض تذكيره بوصية النبي في الاستشفاء فقد جاء عثمان بن أبي العاص إلى النبى يشكوه وجعا فى جسده فقال له: ((ضع يدك على الذى يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)) ( 4) رواه مسلم.
ومن الود والأدب أن يسأل المسلم أهل المريض عن حاله، فقد سأل الناس عليا لما خرج من عند النبي في مرضه فأجابهم على بقوله: (يصبح بحمد الله بارئا).
قال رسول الله: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك عدته لوجدتني عنده)) (1) رواه مسلم.
ويستحب قعود الزائر عند رأس المريض، ويستحب تطييب نفس المريض بالشفاء العاجل والعمر الطويل: ((إذا دخلتم على مريض فنفسوا له في أجله (بطول العمر) فإن ذلك لا يرد شيئا ويطيب بنفسه)) (2) رواه ابن ماجة والترمذي.
ويقال له: ((لا بأس طهور إن شاء الله تعالى)).
طلب الدعاء من المريض: ((إذا دخلت على مريض فمره أن يدعوا لك، فإن دعاءه كدعاء الملائكة)) (3) رواه ابن ماجة والنسائي.
تذكيره بلا إله إلا الله عند الاحتضار.
((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) (4).
((من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة)) (5).
(3) صحيح البخارى : كتاب الجنائز باب الامر باتباع الجنائز 2/70 ، وصحيح مسلم : كتاب السلام ، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام 14/143.
(1) صحيح البخارى : كتاب الجنائز باب الامر باتباع الجنائز 2/70 صحيح مسلم : كتاب اللباس باب تحريم الذهب والحرير على الرجال وإباحته للنساء 14/31.
(2) صحيح مسلم : كتاب البر والصلة باب فضل عيادة المريض 16/125.
(3) سنن الترمذي : كتاب الجنائز باب ما جاء فى عيادة المريض 3/301.
(4) سنن ابن ماجه : كتاب الجنائز باب ما جاء فى عيادة المريض 1/462.
(1) المستدرك 3/347.
(2) اخرجه البخارى فى صحيحه : كتاب المرضى باب دعاء العائد للمريض 7/11. ومسلم فى صحيحه كتاب السلام باب استحباب رقية المريض 14/180.
(3) سنن ابى داود : كتاب الجنائز باب الدعاء للمريض عند العياده 3/187.
(4) صحيح مسلم كتاب السلام باب استحباب وضع اليد على موضع الالم مع الدعاء 14/189.
(1) صحيح مسلم كتاب البر والصلة باب فضل عيادة المريض 16/125.
(2) سنن الترمذى كتاب الطب 4/412 ، وسنن ابن ماجه كتاب الجنائز باب ما جاء فى عيادة 1/461.
(3 ) سنن ابن ماجه كتاب الجنائز باب ما جاء فى عيادة المريض 1/463.
(4) اخرجه مسلم كتاب الجنائز باب تلقين الموتى (لا اله الا الله ) 6/219.
(5) اخرجه ابو داود فى سننه كتاب الجنائز باب فى التلقين 3/190.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/849)
خطبة الاستسقاء
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
- أثر الذنوب والمعاصي في هلاك الأمم وتَنزُّل العقوبات – أثر الذنوب والمعاصي في منع
القطْر من السماء – صور لانتشار الذنوب والمعاصي في الأمة : ( ترك الصلاة – منع الزكاة
ترك الأمر بالمعروف... ) – أثر انتشار الخبث على نزع البركة واستحقاق الهلاك -
الحكمة من الابتلاء – الأمر بتقوى الله – والتوبة إليه وعلامة ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والغنيمة.
أيها المسلمون: ما حل بسالف الأمم من شديد العقوبات ولا أخذوا من غير [1] بفظيع المثلات إلا بسبب التقصير في الإيمان والتقوى، وإيثار الشهوات وغلبة الأهواء وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
إن كل نقص في العلوم والأعمال، والتدبير والأفهام، والقلوب والأبدان، والأشياء والممتلكات سببه الذنوب والمعاصي والمخالفات: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى [الروم:41].
إن ما تبتلى به الديار من قلة الغيث ونقص الأمطار، وما ينشأ من غور مياه العيون والآبار وما ينال المواشي والزروع من نقص وأضرار ليس ذلك لعمرو الله من نقص في جود الباري جل شأنه وعظم فضله، ولا نقص مما بيمينه، بل إن يمينه سبحانه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار. ولكن سبب ذلك كله ـ وربكم ـ إضاعة أمر الله والتقصير في جنب الله. أين التحيد وصحة المعتقد وصدق التعلق وصحيح التوكل عند كثير من الناس؟ التوحيد هو مفزع الخلائق إلى ربها وهو ملجؤها وحصنها وغياثها. هذا يونس عليه السلام: نادى ربه في الظلمات أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]. فجاءه الغوث الإلهي فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88].
ما حال المتهاونين بالصلاة تركا وكسلاً؟
أليس هذا في دين الله من أكبر الكبائر؟ بل هو خروج عن الإسلام وردة عند كثير من محققي أهل العلم.
((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) [2].
وما هو حال الأغنياء مع الزكاة قرينة الصلاة وشقيقتها في كتاب الله؟؟ إنها حق الفقراء على الأغنياء؛ أين الخوف من الله؟ وأين الرحمة بعباد الله؟: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ?لدّينِ [التوبة:11].
ضموا إلى ذلك ركن الدين الركين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كيف تبرأ الذمة ؟ ومتى توفى المسؤولية؟ والرجل يقترف المنكر وصاحبه إلى جواره لا يوجه ولا ينصح ولا ينكر بحكمة الشرع وآدابه: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]. ناهيك يا عبد الله بما بلي به كثيرٌ من الناس من الربا والزنا واللواط والسكر والتبرج في النساء والمخدرات والفحشاء: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاَتَيْنَـ?هُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَـ?هُمْ صِر?طاً مُّسْتَقِيماً [النساء:66-68].
أيها المسلمون، الصلوات عند كثير من الناس قد ضيّعت، والمحرمات قد انتهكت، وأركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد اهتزت، والذمم قد خربت، والغيرة على المحارم قد تضعضعت، والمعاملات قد فسدت، والربا قد فشا، وشأن المعازف والمزامير قد علا، في أنواع من الوسائل مرئياً ومسموعاً، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد تقرر عند أهل العلم بما صح من الأخبار عن رسول الله أن منع الزكاة وأكل الحرام وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أسباب خاصة في منع القطر من السماء وعدم إجابة الدعاء؟ اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك.
معاشر الإخوة، لا تفسد الأحوال ولا تضطرب الأوضاع في كثير من الأمم والشعوب إلا بطغيان الشهوات، واختلاط النيات، واختلاف الغير والمداهنات. لا تكون ضعة المجتمعات ولا ضياع الأمم إلا حين يترك للناس الحبل على الغارب، يعيشون كما يشتهون، بالأخلاق يعبثون، وللأعراض ينتهكون، ولحدود الله يتجاوزون، من غير وازعٍ ولا ضابطٍ ولا زاجرٍ.
أيها الإخوة، إذا كثر الخبث استحق القوم الهلاك، وبكثرة الخبث تنتقص الأرزاق، وتنزع البركات، ويعم الفساد، وتفشو الأمراض، وتضطرب الأحوال.
أقبل رسول الله يوماً على أصحابه فقال: ((خمسٌ إذا ابتليتم بهن ـ وأعوذ بالله أن تدركوهن ـ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء. ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلّط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [3].
عباد الله، إن للمعاصي شؤمها، وللذنوب آثارها، فكم أهلكت من أمة، وكم دمرت من شعوب وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـ?لِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ [الأنبياء:11]. كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَـ?كِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَـ?هَا قَوْماً ءاخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ [الدخان:25-29].
بالمعاصي تزول النعم، وتحل النقم، وتتوالى المحن، وتتداعى الفتن إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
أيها الإخوة، لقد اقتضت حكمة الله ومشيئته أن يبتلي في هذه الدار عباده، يبتليهم بالخير والشر، يبلوهم بالحسنات والسيئات. وفي هذه البلايا ألطافٌ يستشعرها من صدق إيمانه وأخلص لله قلبه. بالبلاء يكون تحقيق التوحيد واليقين، وإذا اشتد الكرب وعظم الخطب يكون قرب الفرجِ حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110].
البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفاف إلى المخلوقين، ويوجب الإقبال على البر الرحيم.
وفي كتاب الله قوم مذمومين لم يستكينوا عند البلاء ولم يرجعوا إلى ربهم في البأساء وَلَقَدْ أَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْعَذَابِ فَمَا ?سْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].
ألا فاتقوا الله ربكم وتوجهوا إليه بقلوبكم، وأحسنوا به الظن في نفوسكم. ارجعوا على أنفسكم بالمحاسبة. ومن صدق في اللجوء صح عنده التوبة. جانبوا أهل الفحش والتفحش، ومجالسة ذوي الردى، ومماراة السفهاء احفظوا للناس حقوقهم ولا تبخسوهم أشياءهم، صلوا الأرحام، واسوا الأرامل واليتامى، وتصدقوا بالدرهم والدينار والمد والصاع، اتقوا النار ولو بشق تمرة: فَلاَ ?قتَحَمَ ?لْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا ?لْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11-16].
واحذروا تقلبات الزمن، فما الدنيا إلا أمل ٌ مخترم، سرورها بالحزن مشوب، وصفوها بالكدر مصحوب، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبسطت لغيرهم اغتراراً.
تعجّلوا الإنابة، وبادروا بالتوبة، وألحوا في المسألة، فبالتوبة النصوح تغسل الخطايا بطهور الاستغفار، وتستمطر السماء وتستدر الخيرات وتستنزل البركات.
وها أنتم عباد الله قد حضرتم في هذا المكان الطاهر بين يدي ربكم تشكون جدب دياركم، وتبسطون إليه حاجتكم، وذلكم الجدب وتلكم الحاجة بلاءٌ من ربكم لتقبلوا عليه، وتتقربوا بصالح العمل لديه، فأظهروا رقّة القلوب، وافتقار النفوس، والذل بين يدي العزيز الغفار، استكينوا لربكم، وارفعوا أكف الضراعة إليه، ابتهلوا وادعوا وتضرعوا واستغفروا، فالاستغفار مربوطٌ بما في السماء من استدرار.
[1] الغير : التقلبات وتغير الأحوال.
[2] صحيح، أخرجه أحمد (5/346)، والترمذي : كتاب الإيمان – باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث (2621)، وقال : حديث حسن صحيح غريب. والنسائي : كتاب الصلاة – باب الحكم في تارك الصلاة، الحديث (463). وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، حديث (1079) من حديث بريدة بن الحصيب، وصححه ابن حبان (1454)، والحاكم (1/7)، والسيوطي في الجامع الصغير (5740)، والألباني في صحيح الترغيب (564).
[3] حسن، أخرجه ابن ماجه: كتاب الفتن – باب العقوبات ، حديث (4019)، والحاكم (4/540) وصححه، وأبو نعيم في الحلية (8/333-434)، ونقل البوصيري في الزوائد تصحيح الحاكم. مصباح الزجاجة (4/186)، وذكره الحافظ في الفتح وقواه (10/193)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (106).
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/850)
النظافة والتجمل
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اللباس والزينة, محاسن الشريعة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
- الإسلام دين الفطرة, وشموليته جميع شئون الحياة – اهتمام الإسلام بإصلاح الظاهر والباطن
- اهتمام الإسلام بالزينة والتجمل والنظافة وأثره في الأمم – بعض مظاهر الطهر والنقاء
والزينة – هديه صلى الله عليه وسلم في الطهارة والتزيّن, والرد على من يخالف ذلك -
التلازم بين الظاهر والباطن, وبين التزين والتقوى – وسطية الإسلام ومنهجه في التزين
والاهتمام به
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس بتقوى الله عز وجل، فالسعيد من تدبر أمره، وأخذ حذره واستعد ليوم لا تنفع فيه عبرة.
أيها المسلمون، الإسلام دين الفطرة، تصلح له وتصلح به كل الأزمنة وكل الأمكنة. فهو دين العقيدة والشريعة، يعالج شؤون الحياة كلها في سلفية لا تتوقف عند عصرٍ بل تتجدد لتعالج أوضاع كل عصر، وتفتي في كل شأن، وتقضي في كل أمر.
دينٌ يجمع البشاشة في حياء، وحسن الخلق في ابتسامة، دين يعترف بما للبشر من أشواق قلبية، وحظوظ نفسية، وطبائع إنسانية. لقد أقر الدين ما تتطلبه الفطرة من سرور وفرح، ولباس وزينة، محاط بسياج من الأدب الرفيع يبلغ بالمتعة كمالها ونقاءها، وبالسرور غايته بعيداً عن الخنا والحرام، والظلم والعدوان، والغل وإيغال الصدور.
ومتطلبات الفطرة هذه جاءت في دين الإسلام مصاحبة ومرتبطة وملازمة للعناية بإصلاح المعتقد وسلامة الباطن: ي?أَيُّهَا ?لْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ وَ?لرُّجْزَ فَ?هْجُرْ [المدثر:1-5].
فتطهير العقيدة وتنقيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي مقرونة بتطهير الظاهر في بدن الإنسان وثوبه وبقعته ليجمع المسلم بين النظافتين، ويحافظ على الطهارتين.
فحين يجمّل الدين بواطنهم بالهداية إلى لصراط المستقيم، فإنه يجمّل ظواهرهم في أحسن تقويم.
إذا كان ذلك كذلك ـ أيها الإخوة ـ فإن الأخذ بالزينة، والقصد إلى التجمل، والعناية بالمظهر، والحرص على التنظف والتطهر من أصول الإصلاح الدينية والمدنية التي جاء بها ديننا وتميّز بها أتباعه.
إن حب الزينة والتزين من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله في الخليقة.
ولقد امتن الله على بني آدم كلهم بلبس الزينة حين قال عز شأنه: يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
يقول أهل العلم: خص سبحانه الريش بالذكر لأنه ليس في أجناس الحيوان كالطير في كثرة أنواع ريشها، وبهجة مناظرها، وتعدد ألوانها فهي جامعة لجميع أنواع المنافع والزينة.
يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده الجمالين اللباس والزينة تجمل ظواهرهم، والتقوى تجمل بواطنهم، وقال في أهل الجنة: وَلَقَّـ?هُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (1/851)
الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) دعوة ومنهج
سيرة وتاريخ
تراجم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
- أهمية دراسة سِيَر الصالحين والعلماء وأثرها – واقع الأمة وانتشار الجهل والخرافات قبل
ظهور دعوة ابن عبد الوهاب – منهج الإسلام في الحكم على الرجال وعدم الغلو فيهم والقول
بعصمتهم – مكانة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثره في الدعوة والإصلاح – عقيدة الشيخ
محمد بن عبد الوهاب وموقفه من القبوريين – شمولية دعوة الشيخ لأصول الإسلام وفروعه
ولطبقات المدعوين – تعاون الشيخ مع الإمام محمد بن سعود وأثر ذلك, وأهمية السلطة والدولة
للدعوة – دور السياسة في محاربة دعوة الشيخ والتنفير منها
_________
الخطبة الأولى
_________
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله عليها المعوّل، وعليكم بما عليه السلف الصالح، والصدر الأول.
أيها المسلمون: منذ أن أكرم الله هذه الأمة ببعثة نبيه محمد وأفواج الدعاة المصلحين يتعاقبون فيها، علماء مخلصون مربون ربانيون، من خلفاء رسول الله الراشدين، وورثته من العلماء العاملين، داعين إلى الحق، حاكمين بالقسط، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر.
وإن العناية بسيرهم، والتذكير بهم، وهم مصابيح الهدى التي أضاء الطريق، بل حولت مجرى التاريخ في ديارها، وأورثت تحولات فكرية كبرى في عقولها. إن ذلك مما يجب أن تنصرف إليه الهمم، ويعتني به الموجهون، ويذكر به المذكرون.
إن دراسة حياة الرجال تورث الإحساس بالعزة، وتنبت الشعور بالقوة، وتهدي إلى التمسك بالحق، وتقود إلى السمو في الخلق، وتفتح الأبواب العريضة من الآمال، والدنيا بغير الرجال الأفذاذ تتقهقر، ومن الوجود تتلاشى. وإذا نامت الأمة شق إيقاظها، وعسر بعثها، إلا بعد أجيال وأجيال.
أيها الإخوة: ومن خلال النظر في هذه السير يتبين للدارس المتأمل أن الدنيا كلما احلولكت فيها ظلم الجهالة، وخاض الناس معها لجج الباطل، وخيمت سُحب البدع قيض الله رجالاً، وسدد دعاة يدعون إلى الله على بصيرة، ينيرون الطريق، ويحيون السنن، ويبسطون الحق، فتتطهر على أيديهم بإذن الله القلوب والديار.
وفي فترة من فترات تاريخ الأمة غشيت الدين غاشية سوداء فإذا التوحيد الذي جاء به محمد قد تلبسته أنسجة الخرافة، وقشور التصوف، وكثر الأدعياء الجهلاء، وتلبّدت عقول فئام كثيرة من المسلمين بالذلة والمسكنة، فأحاطت بأعناقهم التمائم والتعاويذ، وقيدت سواعدهم الخيوط والأوهام، وتعلقوا بالقبور وأصحابها، وفشا فيهم التنجيم والسحر والتطير والكهانة، وغابت شمس الحق عن كثير من النفوس حتى هبطوا مهبطًا بعيد القرار، وحتى كأن وظيفة الدين والعقل ألغيتا جميعًا، ولا تدري كيف التاث [1] على أهل العلم علمهم فلم يزدد العامة فيهم إلا جهلاً وخبالاً؟!
في هذه الأجواء الغائمة القاتمة انطلق صارخٌ من قلب الصحراء ـ صحراء جزيرة العرب ـ يدعو إلى الإصلاح، ويوقظ أهل الإيمان، إنه صوت الصالح المصلح الإمام شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله.
أيها الأحبة: وقبل الخوض في الحديث عن هذا الرجل ينبغي التذكير بما تعارف عليه أهل العلم من أن ذكر السير والمناقب إنما يقصد به ذكر الفضل لأصحاب الفضل من غير أن يكون لأحد قداسة ومن غير اعتقاد كمال أو عصمة لبشر. إلا أنبياء الله فيما يبلغون عن ربهم عز وجل، والثناء على عالم ليس حطًا من قدر غيره ممن يستحق الثناء. وإنما ينسب الفضل لأهله، ويؤخذ الحق ممن جاء به.
ومقاييس أهل الإسلام أن تعرض الرجال وأعمالها على ميزان الشرع، وما رجحت كفةٌ إلا بقدر ما أثمرت من جهد، وأنتجت من عمل، وأورثت من حق وصلاح وخير ورشاد في ظل الإسلام وضوابط الشرع. وليس الحق محصورًا في إمام بل ولا في الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم وعلى أئمة الإسلام أجمعين، ولا يزعم ذلك أو يظنه إلا تابعٌ خاملٌ أو ملقد جامدٌ يتجه نحو التحزُّب، ويميل إلى التعصب. وليس الرشد والهدى محصورًا في جماعة مِلكًا لطائفة سوى الطائفة المنصورة الفرقة الناجية ممن كان على مثل ما عليه رسول الله وأصحابه.
وبعد هذا فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أوفر المصلحين حظًا في ميدان الدعوة، ومن أرجحهم كفة في سبيل الإصلاح، طبَّقت شهرته الآفاق، وكتب عنه القاصي والداني، وردّدت سيرته ألسنة وأقلام من الغرباء وذوي القربى، ومن المسلمين وغير المسلمين، وكلها في نظر المنصف تدل على سموِّ الرجل وصلاح أمره ونجاح مقصده.
لقد وهبه الله قوة في النفس، وصدعًا بالحق، وتأثيرًا في السامعين، في صبر ومثابرة، وحسن ظن بالله، وصدق في التعلق به، برع في علوم الدين واللسان، وفاق الأقران، واشتهر بالتقوى وصدق التديُّن.
معتقده الدين الخالص على مذهب السلف المقتدى بهم، لا يخوض في تأويل، ولا يتعمق في فلسفة، يقتدي بالأئمة من غير جمود، لم يطوّق حبل التقليد في عنقه، ولكنه مقتدي مؤدبٌ، يحترم القول وقائله.
دعوته توحيد الله في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته، وشعائره لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، يوضّح معانيها ويبسط القول فيها منهجًا ودعوةً وتأليفًا في مختصرات ومطولات ولجميع الطبقات.
وهل التوحيد إلا إفراد العبادة، وإخلاصها لله رب العالمين؟ وذلك دين الرسل أجمعين، وهو أمر واضحٌ جلي ولكن حبائل الشيطان واسعة.
ولقد أفرد الشيخ المتعلقين بالقبور والأضرحة بخطاب خاص، لما لحظه من عموم الابتلاء بهذا الداء في أصقاع كثيرة من بلاد المسلمين كافة، فقد دُعي غير الله، وتعلّقت الآمال في كشف الكروب ودفع المصائب بغير الله، وارتفعت الأصوات تجأر بطلب الغوث من غير الله تحت أعتاب الأضرحة المشيدة، وفي مسوح القباب الشاهقة، وفي تراب القبور المجصَّصة.
وهذا الأمر الذي ندب الشيخ له نفسه لم يكن فيه بدعًا من الأمر فنصوص الكتاب والسنة متوافرةٌ متضافرة، ونص على ذلك أئمة الإسلام المقتدى بهم من قبله، ويكفي الإشارة السريعة إلى ما حكاه الإمام النووي عن الإمام الشافعي رحمهما الله جميعًا في شرح مسلم، وما غلَّظ فيه الشيخ ابن حجر الهيثمي في كتابه الزواجر وسرد أقوال أهل العلم حتى قال: (وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور فذلك أضر من مسجد الضرار) اهـ. كلامه.
ولئن كانت للشيخ محمد بن عبد الوهاب هذه الوقفة الصارمة من القبور والمشاهد فلقد كان شمولي النظرة لأصول الإسلام وفروعه كافة، علمًا وتعليمًا وتطبيقًا خلافًا لما يظن بعض الناس، فلقد كان يمشي في ركاب الإسلام كله من الحكم بما أنزل الله، وإقامة حدود الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح النفس ومحاسبتها، والاستقامة على أمر الله. وما ذلك إلا لعلمه بالواقع من حوله وإدراكه لأحوال مخالفيه، ومن أجل هذا فقد فصَّل القول في أنواع النفاق، وبسط الحديث عن ألوان الشرك، وركز الحديث عن رءوس الطواغيت، ومن نماذج ذلك رسالتاه اللطيفتان: كشف الشبهات ومسائل الجاهلية.
ولئن كان شموليًا في المنهج فقد كان شموليًا في طبقات المدعوين فاهتم بالعامة كما اهتم بالخاصة، اهتم بالعامة من الحاضرة والبادية، كما اهتم بالعلماء والعلية من القوم. للعامة مؤلفات مبسطة ورسائل ميسرة كالأصول الثلاثة والقواعد الأربع مما لا يعذر مسلم بجهله، لم تشغله فئة عن فئة، فوضع لكل فئة من المجتمع ما يناسبها، وحدَّث كل طبقة بما يلائمها. واستطاع بتوفيق الله أن يعلم الجاهل في الحواضر والبوادي والأرياف أصول الدين ومبادئه، فاجتمع للجميع حسن المعتقد مع حسن العمل، وليس من المبالغة أن يقال إن لدى بعض هؤلاء العامة الدارسين لهذه الرسائل الصغيرة المباركة ما لم يطلع عليه حملة شهادات علمية معرفة وسلوكًا، فأثمر منهجه انتشار المعلمين في القرى والأرياف والحواضر والبوادي، يعلمون العلم النبوي الموروث السهل الميسر البعيد عن العموميات والغموض، إنها رسائل يسمعها الأمي فيفهمها ويستوعبها، ويقرأها طالب العلم فيقتنع بها، فهل يعي هذا القائمون على شئون الدعوة والدعاة والذين يعلمون الناس الخير؟!
أيها الإخوة: وثمَّت قضية كبرى في مسيرة الشيخ ودعوته؛ ذلكم أن هذه الدعوة المباركة لا يمكن أن تذكر أو يذكر انتصارها ومسيرتها وإنجازها إلا وهي مقرونة تاريخًا وموضوعًا ومنهجًا بإمام محمدٍ آخر إنه الإمام محمد بن سعود رحمه الله.
لقد تعاقد المحمدان وتعاهد الإمامان على نصرة الإسلام وحفظ الشريعة وبسط الحكم.
ولقد شاء الله سبحانه أن يري عبديه ثمار غرسهما ونتاج عملهما؛ فكان توحيد الدين وتوحيد الكيان، وبسط الأمن والسير على نهج السلف الصالح، وأصبحت لأهل الحق نموذجًا شاهدًا يرد بطريقة عملية على كثير من الأوهام والشبهات والشكوك.
دعوة حنيفية جددت العهد بمحمدٍ وصحبه وخلفائه.
دعوة حنيفية قامت عليها دولة ترسمت خطو دولة الراشدين من الخلفاء وأحيت ما اندثر من علوم الكتاب ومأثور السنة، وصححت في العقيدة المسار، وخلّصتها من شوائب البدع؛ يأخذون بالكتاب، ويتبعون الرسول، ويحيون ما اندرس، ويبيّنون معالم الهدى، ويردون إلى السنة، أهل حق ودعاة رشد، يذكرون الغافلين، ويرجعون الشاردين، ويحاجون المنحرفين، ويردون كيد الكائدين.
وهذا منهج في الدعوة مهم – أيها الإخوة – ، لماذا؟ لأن الدعوة بلا سلطة، والحق بلا دولة يفقدان الرعاية والحراسة والدعم، وهو نهج يجب أن يعيه المصلحون والقادة، فإن الانفصال المروع بين الدعوة والسلطان والدين والحكم جرَّ ويجرُّ على المسلمين الضعف إلى الضعف والفرقة إلى الفرقة. وحين يستشري هذا الضعف يضطرب الأساس، ويتناقض الولاء، وترتفع نعمة الالتئام وبركة الاجتماع، ولا يستقيم الحال في ديار المسلمين إلا بحكم يحمي جناب التوحيد، ويطبق الشريعة، ويرعى الدين والعلماء.
رحم الله الإمامين وبارك في عقبيهما وحفظهم وحفظ لهم وأبقى الخير فيهم ملتزمين نهج الإسلام، معدين ما استطاعوا من قوة في بر وتقوى، وصلاح وإصلاح، وزاد الله ولاة أمرنا صلاحًا وإصلاحًا، وإحسانًا وتوفيقًا، وأبرم الله لأهل الإسلام في كل الديار أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويقام فيه الدين، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لاْمُورِ [الحج:41].
[1] التاث : التبس.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله من اعتصم بحبله وفقه وهداه، ومن اعتمد عليه حفظه ووقاه، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن سار على نهجه وهداه.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن هذه الدعوة المباركة حلقة من حلقات الإصلاح والتجديد في أمة الإسلام عبر القرون والأجيال، تتبع النصوص، وتجتهد في فهمها، وتسترشد بأقوال أئمة الإسلام.
استمعوا إلى الإمام وهو يقول: (أما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل في الفروع، ولا ندَّعي الاجتهاد، وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله عملنا بها، ولا نقدِّم عليها قول أحد كائنًا من كان).
ولكن قاتل الله السياسة والفرعونية وأربابها لقد قال رئيسها فرعون: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر:26]. فما دخلت هذه السياسة شيئًا إلا أفسدته، وأهل هذه السياسة في سبيل غاياتهم لا يفرقون بين حق وباطل، ولا بين حلال وحرام، فالحقائق عندهم ممسوخة، ومخالفوهم في أقفاص الإتهام أبدًا محبوسون. فقد وضعوا لدعوة الشيخ لقبًا ينبذونها به، بل ينبذون به كل حركة لا توافق أهواءهم، إنها (الوهابية) فلم يزالوا يلوكون ذلك حتى اقترنت في أذهان البعيدين عنها بالخروج عن الإسلام، وبغض الأئمة.
لقد نشرت تلك السياسة جلبابها، وراسلت ضبابها وتطاولت الأقلام بفصاحتها فكانت هي الغاز الخانق. ولكن طلاب الحقيقة وأهل النصف لن يعجزوا عن تحصيل مبتغاهم إذا اعتمدوا القراءة الجادة المتجردة المتأنية المنصفة ليفرقوا بين الزُّبد والزَّبد وبين ما ينفع الناس والغثاء إذا وقاهم الله داء التحيز وفتنة التعصب. وقد آن الأوان أن تزول الغشاوة عن الأفهام. فلئن كان العذر مقبولاً أو متلمسًا في الماضي قبل انتشار آراء الشيخ ومؤلفاته وتلاميذه ومؤلفاتهم، فليس الآن بمقبول ولا معذور؛ فإن الأيام وعدل التاريخ تكشف الحق المخبوء، وتظهر الكنز المدفون حين يذهب القأران والمنافسون ومن هم بالدعوة شارقون. فيزول من الأذهان ما نشر من سوء، ويهال التراب على أصحاب الأهواء، ويبقى صاحب الحق على قمم الخلود مرتفعًا كالنجم الساطع لمعانًا، وكالبحر الميط هديرًا.
أيها الإخوة: وإن من مناسبة الحديث عن الحق ودعوة الحق والسنة والبدعة التنبيه إلى بعض ما يعتقده بعض الناس في يوم النصف من شعبان وليلته، فليلة النصف من شعبان لم يثبت أثر صحيح يصار إليه في قيامها بخصوصها دون غيرها من الليالي، ولا في صيام يوم النصف دون غيره من الأيام، أما من كان له عادة صيام أيام البيض فيوم الخامس عشر واحدٌ منها، وكذلك من كان له عادة في القيام من الليل فهو على عادته. أما صيام شهر شعبان بجملته فقد كان نبيكم محمد يصوم منه كثيرًا تقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: (ما رأيت النبي استكمل صيام شهر قط، وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان) [1] ، وفي رواية: (كان يصوم شعبان كله) [2] ، وفي مسلم: (كان يصوم شعبان إلا قليلاً) [3].
[1] متفق عليه؛ أخرجه البخاري (4/251- ح1969)، ومسلم (2/810- ح1156).
[2] متفق عليه؛ أخرجه البخاري (4/251-ح1970)، ومسلم (2/811-ح1156).
[3] أخرجه مسلم (2/811-ح1156).
(1/852)
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
حكمة ابتلاء الله عباده – أسباب فساد الأحوال واضطرابها – أهمية الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر , وعاقبة تركه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ وتوبوا إليه، واستغفروه، فالذنوب كثيرةٌ، ورحمة الله قريبٌ من المحسنين، والأعمال سيئة، والتفريط كبير، والله لا يصلح عمل المفسدين.
عبادَ الله، ما أصاب أهل الأرض من شدةٍ، وما وقع فيهم من محنةٍ، إلا ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. يبتلي عباده بالمصائب تارةً، ويعاقبهم على أعمالهم تارةً، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين.
معاشر الإخوة، لا تفسد الأحوال ولا تضطرب الأوضاع إلا بطغيان الشهوات، واختلاط النيات، واختلاف الغِيَر والمداهنات. لا تكون ضعةُ [1] المجتمع، ولا ضياع الأمة، إلا حين يُترك للناس الحبلُ على الغارب، يعيشون كما يشتهون. بالأخلاق يعبثون، وللأعراض ينتهكون، ولحدود الله يتجاوزون من غير وازع، ولا ضابط، وبلا رادع، ولا زاجر.
أيها المسلمون، التقصير في فرائض الله وفشوِّ المنكرات يؤدي إلى سلب نور القلب، وانطفاء جذوة الإيمان، وموت الغيرة على حرمات الله، فيستمرئ الناس المعاصي، ويحيق بالقوم مكر الله.
إن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت من القلوب وحشتها، وأصبحت النفوس تعتادها. يقول بعض الصالحين: إن الخوف كل الخوف من تأنيس القلوب بالمنكرات؛ لأنها إذا توالت مباشرتها ومشاهدتها أنِست بها النفوس، والنفوس إذا أنست شيئاً قلَّ أن تتأثر به، ومن ثمَّ تدعو فلا يستجاب لها.
أيها الإخوة في الله، إن الحصن الحصين، والدرع الواقي، والسياج الحامي من كل ذلك بإذن الله هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنه الوثاق الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين. يحمي أهل الإسلام من نزوات الشياطين، ودعوات المبطلين. بفشوِّه وتأييده تظهر أعلام الشريعة في البلاد، ويكون السلطان لأحكام الإسلام على العباد.
إنه مجاهدة دائبة دائمة، يقوم بها كل مسلم حسب طاقته في بيته وفي سوقه وفي كل مرفق، يقوم من أجل بقاء أعلام الدين ظاهرةً، والمنكرات قصية مطمورة. هو فيصل التفرقة بين المنافقين، والمؤمنين: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة:67].
وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
يقول الغزالي رحمه الله: فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين.
بارتفاع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو أهل الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور. يقول سفيان رحمه الله: إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق. ويقول الإمام أحمد: إن المنافق إذا خالط أهل الإيمان فأثمرت عدواه ثمرتها صار المؤمن بين الناس معزولاً؛ لأن المنافق يصمتُ عن المنكر وأهله فيصفه الناس بالكياسة والبعد عن الفضول، ويسمون المؤمن فضوليًا.
إذا تعطلت هذه الشعيرة ودُكَّ هذا الحصن وحُطِّم هذا السياج فعلى معالم الإسلام السلام، وويلٌ يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة، وويلٌ لأهل الحق من المبطلين وويلٌ للصالحين من سفه الجاهلين، وتطاول الفاسقين.
ولا يضعف هذا الركن العظيم إلا حين تستولي على القلوب مداهنة الخلق، وتضعف مراقبة الخالق، ويسترسل الناس في الهوى، وينقادون للشهوات.
جاء في حديثٍ حسنٍ عند الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم)) [2].
وفي حديث آخر عنه : ((ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمَّهم الله منه بعقاب)) [3]. أخرجه ابن ماجه، وأبو داود واللفظ له، من حديث أبي بكر رضي الله عنه. وإسناده صحيح.
أيها الإخوة، إذا كثر الخبث استحق القوم الهلاك، وبكثرة الخبث تنتقص الأرزاق، وتُنزع البركات، ويعمّ الفساد، وتفشو الأمراض، وتسود الفوضى، وتضطرب الأحوال.
أقبل رسول الله يومًا على أصحابه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضتْ في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا..)) [4].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] ضعة: الذلة وضعف الحال.
[2] حسن، أخرجه أحمد (5/388)، والترمذي: كتاب الفتن – باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث (2169)، وقال: حديث حسن. وأخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث (4004) بنحوه. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1762).
[3] صحيح، سنن أبي داود: كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي، حديث (4338)، سنن ابن ماجه: كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث (4005)، وأخرجه أيضاً أحمد (1/2، 5). وصححه ابن حبان (304)، وذكره الضياء في المختارة (1/145)، وانظر مشكاة المصابيح بتعليق الألباني، رقم (5142).
[4] صحيح، أخرجه ابن ماجه: كتاب الفتن – باب العقوبات، حديث (4019)، والحاكم (4/540) وصححه، وأبو نعيم في الحلية (8/333-334). قال البوصيري في الزوائد: هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختُلف في ابن أبي مالك وأبيه... (4/186). وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (106).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب لنا سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن أقام أمره واجتنب نهيه ودعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون، إن من التحدث بنعم الله سبحانه أن نذكر ببعض ما تتمتع به هذه البلاد من مزايا كبرى، لا تكاد توجد في غيرها – صانها الله وحفظها من كيد الكائدين وحسد الحاسدين، وكتب الخير والتوفيق والصلاح والأمن والرخاء لكافة بلاد المسلمين.
أيها المسلمون، لقد قامت هذه البلاد على دعوة الحق والتوحيد، وتحكيم كتاب الله وسنة نبيه محمد ، وأخذ الناس بهما في كافة مجالات الحياة، والسير على طريق السلف الصالح فلله الحمد والمنة.
وإن هناك خصيصة عظمى لا توجد في غير هذه البلاد فيما نعلم، تلكم أنها البلد الوحيد الذي أنشأ جهازًا خاصًا يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متمثلين قوله تعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [آل عمران:104].
إنه جهاز خاص له نظامه وصلاحياته، كما أنه له الأثر العظيم في البلاد، وهو يحظى بتأييد كافة المسئولين ودعمهم، متعاون مع جميع المصالح الحكومية في سبيل تثبيت المعروف ونشره، وإزالة المنكر بشتى أشكاله وصوره، ولأهله النشاط المعروف والجهد المشكور في القضاء على الجرائم في مهدها. وبسط الأمن والطمأنينة على الأرواح والأعراض والممتلكات، سالكين مسلك العلم والحكمة، والرفق في غير ضعف، والقوة في غير عنف، وهم – بعد توفيق الله وعونه – مؤيدون كل التأييد من المسئولين في البلاد، محل الثقة من المجتمع كله، فجزى الله الجميع عن البلاد وأهلها خير الجزاء.
أيها الإخوة، إنها كلمة حق يجب أن تقال، وأعمال يجب أن تذكر فتشكر مع ما نرجو ونؤمل من المزيد من النشاط والعمل، كما نؤمل المزيد من الدعم والتأييد، فالتيارات كثيرة، والمغرضون كثير، ولكن الخير ظاهر، والحق علي بإذن الله، والحمد لله على ذلك كثيرًا.
(1/853)
المنافقون (1)
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
5/5/1408
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"أصناف الناس ثلاثة – فضح الله المنافقين – خطر المنافقين في خفائهم – حقد المنافقين وعداوتهم أشد من غيرهم – تحذير الله من المنافقين – أثر المنافقين في تردي الأمة "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى صنف عباده في أول سورة البقرة إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين وأنزل في ذلك عشرين آية من أول هذه السورة منها ثلاث آيات في وصف المؤمنين وآيتان في وصف الكافرين وثلاث عشر آية في وصف المنافقين بين فيها أحوالهم وكشف أسرارهم وكشف طبائعهم ونفسياتهم وطريقة تفكيرهم ومنطقهم وقد تحدث القرآن عن المنافقين في مواطن كثيرة وفي سور عديدة وأكثر ما تحدث عنهم في سورة التوبة حتى سميت الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وكشفت أحوالهم وبينت أسرارهم ودواخلهم وخططهم ثم فردت سورة بأكملها للمنافقين كشفت أيضا أسرارهم وأساليبهم وبينت شيئا من خططهم سميت سورة المنافقين كل هذا لتحذير المجتمع المسلم من خطر هذا العدو الهدام الذي يحاربهم من داخلهم ويسعى إلى تدميرهم خلسة وخفية حتى لا تراه الأعين خلسة حيث لا تراه الأعين ولكن يجب أن تكتشفه البصائر إن أهم سمة وأخطر صفة لهذا العدو الهدام المدمر هي صفة الخفاء فهو خلال المجتمع المسلم داخل في المجتمع المسلم يظهر التعاطف معهم ويخفي كفره وعداوته لهم في داخله فالمكر والخداع والكذب هي أساليبه وأدواته لكن إذا سنحت الفرصة ووجد ثغرة ينفذ منها لضرب المسلمين فإنه يكون حينئذ أشد قسوة ووحشية ونكاية للمؤمنين من أي عدو مجاهر كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون إن قدرة المنافقين على التحرك في الخفاء وسعيهم لتدمير المجتمع المسلم من داخله جعل خطرهم أشد وأعظم وأنكى من خطر العدو الكافر المجاهر المعلن لكفره ولعداوته لأن أمر العدو الكافر المجاهر واضح للعيان فيأخذ المسلمون حيطتهم منه واستعدادهم له بخلاف هذا العدو الهدام الخفي المتسلل بين صفوفنا بخلاف المنافقين الذين قد تسللوا إلى داخل المجتمع المسلم وتشكلوا بشكله وتصوروا بصورته فإنهم كأبليس وجنوده يروننا من حيث لا نراهم وقد نغتر بظواهرهم ونركن إليهم ونسند إليهم بعض شئوننا ليديرونها ونسلم إليهم بعض أمورنا يدبرونها وربما فعلنا أكثر من ذلك إذا كانت الغفلة فينا نحن المسلمين مستحكمة ربما اتخذناهم بطانة نستأمنهم على أسرارنا ونسلطهم على دواخلنا وفي ذلك الخطر كل الخطر وأعظم من هذا خطرا إذا تمكن هؤلاء المنافقون من التقرب من ولاة أمور المسلمين وأمرائهم وحكامهم ونالوا الحظوة لديهم وأصبحوا من أعوانهم المقربين وقد يسندون إليهم أشد الأعمال خطرا وشأنا وأعظمها وأهمها شأنا فيطلع هذا العدو الخفي الهدام على أسرار المسلمين ويكتشف كوامنهم ومداخلهم ونقاط الضعف فيهم حتى إذا جاءت الفرصة وفار التنور انشبوا أظفارهم ومخالبهم وكشروا عن أنيابهم والله تبارك وتعالى من رحمته لعباده المؤمنين ولطفه بهم ورعايته لهم حذرهم من هذا العدو الخفي المدمر حذرهم من المنافقين ومن اتخاذهم بطانه والركون إليهم والانخداع بظواهرهم حذرنا نحن المؤمنين من ذلك أيما تحذير إنه تحذير مفصل واضح كالشمس قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم – أي من غير أهل ملتكم ممن يخالفونكم في الدين ويناصبونكم العداوة في بواطنهم - لا يألونكم خبالا – أي لا يترددون في تدميركم وإلحاق الأذى والضرر بكم بكل وسيلة ممكنة لهم - ودوا ما عنتم – ما يشقييكم ويتعبكم ويضنيكم ويربككم ويدمركم يسرهم يودون ذلك ويحبونه ويسعون إليه -قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تصبكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط إن اتخاذ البطانة من هؤلاء المنافقين ممن هو دوننا من غير ملتنا ممن يفارقوننا في الدين وإن أخفوا ذلك في بواطنهم وهم يظهرون لنا حلاوة اللسان ولين الجانب والتفاني في إرضائنا وخدمتنا والسعي لإجابة أهوائنا وخدمة شهواتنا والسعي في أهوائنا وشهواتنا إن البطانة من هؤلاء المنافقين كان من أكبر الأسباب والعوامل لتدمير الدول الإسلامية في الماضي بل ولحلول الكوارث والنكبات العظيمة على المجتمع المسلم كله عندما غفل المسلمون حكاما ومحكومين عندما تحكمت فيهم شهواتهم فحجبت عقولهم وبصائرهم عن هذا الجانب الخطير فركنوا إلى من هو دونهم من غير أهل ملتهم واستخدموهم واستعانوا بهم واتخذوا البطانات منهم فحلت الكوارث وانهارت الدول بينما الصدر الأول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا متيقظين أشد التيقظ لهذا الجانب فلم يكونوا يسمحون أبدا بأي ثغرة ينفذ منها أحد ممن هو دونهم من غير أهل ملتهم من المنافقين من هذا العدو الخفي الهدام ما كانوا يسمحون لأحد من هذا العدو الخفي الهدام أن ينفذ في مجتمعهم ويتسلل خلال صفوفهم روى أبو موسى رضي الله عنه وكان قد ولاه الفاروق عمر بن الخطاب ولاه على البصرة أميرا يروي أبو موسى الأشعري فيقول: قلت لعمر يا أمير المؤمنين إن لي كاتبا نصرانيا فرفع عمر يده وضرب بها على فخذ أبي موسى حتى كاد يكسرها وقال له: مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم قال أبو موسى: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال عمر: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أجلهم وأقربهم إذ أبعدهم وأقصاهم الله وكتب عمر بعد ذلك إلى سائر ولاته وأمرائه وعماله يقول : أما بعد فإن من كان منكم له كاتب من المشركين فلا يعاشره ولا يوازره – أي لا يتخذه وزيرا أو مستشارا – ولا يجالسه ولا يعتضد برأيه وكان لعمر الفاروق رضي الله عنه عبد نصراني فقال له عمر: أسلم فإنا نريد أن نستعين بك على بعض أمور المسلمين وما ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم فأبى العبد النصراني أن يسلم فأعتقه عمر وقال له: إذهب حيث شئت ولما ولى الفاروق عمر رضي الله عنه أميرا على البحرين كتب له كتابا ضمن فيه تعليمات عظيمة ما أعظمها وما أهمها لكل وال وأمير من المسلمين وكان من بين تلك التعليمات أن قال له في كتابه: عد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وافتح بابك وباشرهم وابعد أهل الشر وأنكر أفعالهم ولا تستعن على أمر من أمور المسلمين منهم وباشر مصالحهم بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله تعالى جعلك حاملا لأثقالهم والأصل في هذه التعليمات العمرية الإسلامية المشددة في منع المسلمين وخاصة منع ولاتهم وأمرائهم من الركون لغير أهل ملتهم من استخدام الكافرين واستعمال المشركين الأصل في ذلك الآية التي ذكرها عمر بنفسه رضي الله عنه: لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء وقوله تعالى: لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا وكذلك قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنا لا نستعين بمشرك)) ولكن عندما غفل المسلمون حكاما ومحكومين في بعض العصور السابقة عن هذا المبدأ الهام وركنوا إلى أعدائهم بل واستخدموهم واستعملوهم واتخذوهم بطانة حلت الكوارث العظيمة على مجتمع المسلمين وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله تعالى في الجمعة القادمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: المنافقون والمنافقات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: ((إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) اللهم صلي وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وأرض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/854)
اليهود
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"سوء اليهود وشرهم – العداوة دينية – استمرار العداوة والحرب – ضلال السياسات العربية كيف حرر صلاح الدين بيت المقدس
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاليهود أمة القردة والخنازير مصدر الشر والفساد والحروب والفتن, العداوة بيننا وبينهم دينية والحرب بيننا وبينهم عقدية ولذلك فهم يتوارثون علينا الحقد نحن المسلمين ولا يضعون راية الحرب ضدنا أبداً, إنها حرب بين الحق والباطل والإيمان والكفر, حرب بين حق الأمة الإسلامية وباطل الأمة اليهودية, بين إيمان الأمة الإسلامية وكفر الأمة اليهودية, إنهم يتوارثون الحقد على إيماننا وعلي إسلامنا ولا يكفون أبداً عن إذكاء نيران الحرب والمكائد ضدنا نحن المسلمين كلما انطفأت نار معركة أشعلوا غيرها فلسان الحال بيننا وبينهم في الحقيقة كما قال الشاعر:
ليس بيني وبين قيس عتاب غير طعم الكلى وضرب الرقاب
إنهم يحاربوننا باسم الدين , يحاربوننا باسم التوراة وقد سموا دولتهم إسرائيل وإسرائيل اسم نبي من أنبياء الله فهو يعقوب بن إبراهيم الخليل عليهما السلام, وهم يجمعون شتاتهم من جميع أنحاء العالم يجمعونهم في الأرض التي بارك الله فيها حول المسجد الأقصى, يجمعونهم باسم التوراة حتى المدن والأقاليم في فلسطين أطلقوا عليها أسماء دينية توراتية, فساسة اليهود وزعمائهم وإن كان أكثرهم علمانيين لا يقيمون للدين وزناً إلا أنهم يعلمون تمام العلم أن قضيتهم لا يمكن أن تنجح أبداً إلا إذا أعلنوها باسم الدين, إلا إذا أعلنوها باسم التوراة, فهل نقاتلهم نحن باسم الأرض والتراب؟ هل نقاتلهم باسم الجبال والحفر والبيارات؟ هل نقاتلهم باسم بيارات الزيتون والبرتقال والبطيخ؟ أي منطق هزيل هذا يمكن أن يقف أمام أمة ترفع راية التوراة والدين في وجهنا, ماذا صنعت القومية والوطنية منذ أربعين سنة؟ ماذا صنعت في مواجهة الأمة اليهودية؟ لقد هزمت الوطنية الترابية والقومية العنصرية هزمت شر هزيمة أمام القردة والخنازير بل أصبحت الهزائم المتكررة المتوالية منذ أربعين سنة. من أهم خصائص الوطنية الترابية والقومية العنصرية ومن أهم سمات أولئك الذين لا يزالون يقاتلون باسم بيارات الزيتون والبرتقال والبطيخ, إنهم في التيه منذ أربعين سنة أصحاب الوطنية الترابية والقومية العنصرية من العرب والمسلمين ما يزالون في التيه منذ أربعين سنة يأبون العودة إلى دينهم وإلى إسلامهم, يرفضون أن تكون المعركة بينهم وبين أمة التوراة أمة إسرائيل معركة إسلامية, اليهود يفرون إلى دينهم يبحثون فيه عن أسباب الاجتماع والقوة والظفر وهؤلاء يفرون من دينهم من إسلامهم ويشغلون أنفسهم وأمتهم , يلهون أمتهم وشعوبهم بالشعارات الزائفة التي لا طائل من وراءها ولن تقوى أبداً على مواجهة اليهود الذين يرفعون رايات التوراة وإسرائيل, الحرب في الحقيقة بيننا وبين اليهود دينية لم يديرها على الحقيقة إلا الإسلام , الإسلام الذي أصدر أمراً صريحاً لا عودة فيه ونصه قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون هذا أمر إلهي, أمر عسكري سياسي, أمر ديني ولكنه ليس موجهاً إلى أولئك الذين لا يزالون يقاتلون باسم بيارات الزيتون والبرتقال والبطيخ إنه أمر إلهي موجهة إلى أمة الجهاد إلي الأمة الإسلامية, إلى المسلمين موجهة إلى الأمة الإسلامية التي فرضت على نفسها حياة الجهاد كاملة فالجهاد حياة كاملة لكن الأمة الإسلامية اليوم أكثر شبابهم مشغول باللهو واللعب وأكثر رجالاتها مشغولون بالتجارات والجري وراء المكاسب, وراء المغانم والمصالح, بالجري وراء أذناب البقر ولذلك وهم وحالتهم هذه لا يستطيعون تنفيذ ذلك الأمر الإلهي, لا يستطيعون القتال لأنهم لم يحيوا حياة الجهاد الكاملة , لما سقط المسجد الأقصى قبل بضع مئات من السنين في أيدي الصليبين أيام ذلك السلطان المجاهد والملك الصالح صلاح الدين الأيوبي أقسم أن لا يهدأ حتى يستنقذ القبلة الأولى وأبر الله قسمه فحرر صلاح الدين الأيوبي السلطان المجاهد والملك الصالح حرر بيت المقدس في بضع سنين , أنقذ الله بيت المقدس على يديه وعلى يد جيشه المجاهد لما علم صلاحه وصدق نيته في الجهاد فقد رفع صلاح الدين الأيوبي راية الجهاد الإسلامي في سبيل الله فاستنقذ بيت المقدس تحت ظل هذه الراية المباركة , أما نحن الأمة الإسلامية فكيف لنا ذلك وشبابنا منخرط في اللهو ورجالنا مشغولون بالتجارات والمكاسب كيف لنا أن نسترد بيت المقدس؟.
اتقوا الله أيها المسلمون واجعلوا من الجهاد حياة كاملة تعيشونها في كل حياتكم كما أمركم الله عز وجل في كتابه العزيز.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلي الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلي الله عليه وسلم: ((من صلي على واحدة صلي الله عليه عشرا)) اللهم صلي وبارك على محمد وعلي آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وأرض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/855)
كل بدعة ضلالة
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
البدعة و" لا إله إلا الله " – خطورة التشريع من دون الله – تحذير الرسول من البدعة - معنى البدعة –موقف لأهل السنة في مواجهة المعتزلة - حفظ الله للدين"
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فكما أن الابتداع في الدين فيه إخلال بالركن الثاني من كلمة التوحيد وهو شهادة أن محمدًا رسول الله وقد بينا لكم ذلك فيما سبق فإن فيه أيضا إخلال بالركن الأول من كلمة التوحيد وهو شهادة ألا إله إلا الله لأن معنى هذه الشهادة الإيمان بأن الله تعالى وحده هو المعبود بحق لا شريك له في ألوهيته كما أنه لا شريك له في ربوبيته. فكما أن الخالق الرب سبحانه فهو المستحق دون غيره للعبادة فله الخلق والأمر وهذا يقتضي أن الحكم له فهو الذي يأمر وينهي وهو الذي يشرع لعباده سبحانه وتعالى والرسول إنما هو مبلغ عن ربه وأما العباد فليس لهم إلا الطاعة والامتثال والانقياد والإذعان لأمر الله ونهيه وحكمه وتشريعه أما من نازع الله من هؤلاء العباد نازعه في شيء من ذلك فقد نصب نفسه ندًا لخالقه وهذا من أشد الجهل والظلم من نازع الله في شيء من ذلك في الحكم والتشريع في الأمر والنهي فقد نصب نفسه ندًا لخالقه وهذا من أعظم الجهل وأعظم الظلم فكما أنه ليس لمخلوق أن ينازع الخالق في الخلق فكذلك ليس لأحد أن ينازع ربه في مشيئته الدينية الشرعية التي هي الأمر، والأمر هو الحكم والتشريع ليس لأحد أن ينازع الرب سبحانه في الحكم والتشريع: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [الأعراف:54].
إن الله تعالى لم يترك لأحد مجالاً فطر السماوات والأرض وخلق الخلق بقدرته ورباهم بنعمه وهو أعلم بخلقه لطيف بعباده وهو أرحم بهم من أنفسهم شرع لهم من الدين ما تصلح به أحوالهم ويتقربون به إلى خالقهم ليس هناك مخلوق نازع ربه في الخلق لأن ذلك ليس في مقدور أحد أما المنازعة في الأمر المنازعة في الحكم والتشريع فحاصلة، كثير من الخلق اجترأ على مقام الخالق العظيم سبحانه فمارس الحكم والتشريع بغير إذن من ربه وهذا من أعظم الجهل والظلم لم يعرفوا قدر أنفسهم وقد توعدهم الله سبحانه بقوله: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم [الشورى:21]. ما أظلم هذا الإنسان الذي ينازع خالقه في الأمر ينازع خالقه في الحكم والتشريع وما أجهله، ما دمت أيها الإنسان مربوبًا مخلوقًا مقهورًا لا نصيب لك في الخلق فكيف يكون لك نصيب في الأمر؟ كيف يكون لك نصيب في الحكم والتشريع؟ لا نصيب لك في شيء من ذلك فقد اختص الله سبحانه نفسه بكل ذلك فكيف تنازع الخالق العظيم فيما اختص به نفسه؟ من ينازع الخالق العظيم فيما اختص به نفسه سبحانه وتعالى؟
أيها المسلمون: اعلموا أن من ابتدع في الدين فقد شرع ما لم يأذن به الله كل من ابتدع في الدين فقد شرع ما لم يأذن به الله واجترأ على مقام الألوهية. الألوهية التي انفرد بها الرب سبحانه وتعالى، ولذلك فإن النبي حذر أمته أشد التحذير من الابتداع في الدين حفاظًا منه على إيمان الأمة ونقاء العقيدة ورأفة منه بأمته وخوفًا عليها من أن تقع فيما وقع فيه من قبلها من الزيادة والابتداع في الدين والتشريع فيه بما لم يأذن به الله، حذر النبي بل كان أكثر ما يحذر من الابتداع في الدين، وكان من كلامه دائمًا قوله : ((إن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) [1] هذا كان من كلامه في كثير من الأحيان وفي رواية أنه قال : ((غير أنكم ستحدثون ويحدث لكم فكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار)) [2]. وأخبر أمته بوقوع الفتن من بعده وتتابع الأهواء والبدع وأوصى أمته بتلك الوصية العظيمة النفيسة بقوله : ((فإن من يعش منكم بعدي فسوف يرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)). وقال : ((وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار)) [3].
وقد بين معنى البدعة ووضحه أوفى توضيح وبيان حتى لا يلتبس أمر البدعة ولا يخفى على أحد بعد ذلك، فكل أمر ديني لم يكن على عهد رسول الله وعهد أصحابه دينًا فهو بدعة وضلالة قال : ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)) [4]. وقال : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ومعنى ذلك من زاد في ديننا هذا ما ليس منه فهو مردود عليه وزيادته بدعة ضلالة، ضلالة في النار، وكل اعتقاد وكل قول وكل عمل لم يكن على عهد رسول الله وعهد أصحابه لم يكن دينًا في عهدهم فهو بدعة ضلالة وصاحبه ومرتكبه مبتدع ضال لما أحدث طواغيت المعتزلة بدعة القول بأن القرآن مخلوق وتبنى ذلك بعض الخلفاء العباسيين فأصبحت فتنة عامة طامة ابتليت بها الأمة وقتذاك أيد الله سبحانه وتعالى من علماء الأمة وأئمة السنة من تصدوا لتلك البدعة العظيمة المنكرة ودفنوها بالصدع بالسنة وإظهار السنة وكان منهم أئمة كبار كالإمام أحمد رحمه الله وغيره تحملوا الأذى ووقفوا وقفة ربانية في وجه تلك البدعة المنكرة فدفنها الله عز وجل بهم وكان ممن قيضه الله تعالى وممن سخره الله تعالى لمحاربة تلك البدعة ولإظهار السنة شيخ من أهل العلم جئ به مقيدًا إلى الخليفة العباسي الواثق وفي مجلسه أحمد بن أبي دوءاد رأس المعتزلة رأس هذه البدعة المنكرة فأمر الخليفة الشيخ بأن يناظر أحمد بن أبي دوءاد فناظره الشيخ مناظرة عجيبة بديعة موفقة كانت سببًا لهداية ذلك الخليفة العباسي ولقمع تلك البدعة المنكرة وكان مما قاله ذلك الشيخ لأحمد بن أبي دوءاد المبتدع المعتزلي أخبرني عن رسول الله حين بعثه الله إلى عباده هل أخفى رسول الله شيئًا مما أمره الله به في دينه؟ قال المبتدع: لا. فقال الشيخ: فهل دعا رسول الله الناس إلى مقالتك هذه؟ فسكت المبتدع. فالتفت الشيخ إلى الخليفة وقال: هذه واحدة يا أمير المؤمنين. قال الخليفة: هذه واحدة. قال الشيخ للمبتدع: فأخبرني عن مقالتك هذه أعلهما رسول الله أم جهلها؟ فقال المبتدع: علمها رسول الله. فقال: فهل دعا الناس إليها؟ فسكت المبتدع. فالتفت الشيخ إلى الخليفة فقال: وهذه الثانية يا أمير المؤمنين. قال الخليفة: وهذه الثانية. فعاد الشيخ إلى المبتدع وقال: فاتسع لرسول الله إذ علمها كما زعمت ألا يطالب الأمة بها وألا يدعو أمته إليها. فقال المبتدع: نعم. قال: فاتسع لأبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. قال المبتدع: نعم. فالتفت الشيخ إلى الخليفة وقال: وهذه الثالثة يا أمير المؤمنين. قال الخليفة: وهذه الثالثة. ثم عاد الشيخ إلى المبتدع وقال له: فإن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله ولأبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي فلا وسع الله عليك. فقال الخليفة ضاحكًا: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله وأبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي فلا وسع الله علينا. وظل الخليفة يردد هذه العبارة ويتأملها حتى هداه الله عز وجل وتاب عن تلك البدعة المنكرة ورجع إلى السنة ونصر السنة وأكرم علماء السنة وأئمة السنة فالحمد لله رب العالمين ونحن نقول اليوم لجميع المبتدعين ولرءوس المبتدعين وطواغيت المبتدعين الذين انصرفوا عن سنة محمد أعرضوا عن سنة نبينا محمد وغرقوا في البدع إلى الأذقان نقول لهم: من لم يكفه ما كان عليه رسول الله وأبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي فلا كفاه الله فاتقوا الله أيها الناس إياكم والبدعة وعليكم بالسنة عليكم بسنة سيدنا محمد تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
[1] أخرجه مسلم في صحيحه (867) (2/295).
[2] أخرجه اللالكائي (1/77).
[3] أخرجه أحمد (4/126-127). وابو داود (4607) والترمذي (2676).
[4] أخرجه مسلم في صحيحه (3/1343-1344).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/856)
أثر القران في النفوس
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة القرآن وهيبته يجدها المسلم والكافر 2- إسلام عمر والنجاشي بعد سماعهما لبعض
آيِ القرآن 3- صناديد قريش يَسْترِقون السمع ليسمعوا القرآن 4- حجاب الغفلة وحب الدنيا
يحول بيننا وبين القرآن الكريم
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن هذا القرآن العظيم الذي تكلم به رب العزة والجلال فسمعه جبريل ونزل به على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
إن هذا القرآن العظيم له تأثير عظيم في النفوس وله هيبة عظيمة في القلوب ويتلذذ المؤمنون بسماعه وتلاوته وتدبره فيكون صفاء لصدورهم وهدى ورحمة عليهم, لكن هذا القرآن لا ينتفع به فريقان من الناس المتكبرون والغافلون, أما المتكبرون الذين كفروا بآيات الله عتواً وغروراً وطغياناً وكبراً واتباع للأهواء وإيثاراً للشهوات فهؤلاء وإن أحسوا بعظمة القرآن وهيبته وإن استعذبوا تلاوته فإنه لا يزيدهم إلا عمى وخسارا وذلك للكبر الذي في قلوبهم , وأما الغافلون فقد ران غشاء الغفلة على قلوبهم وغطاها فهي لا تبصر ولا تعقل ولا تعي ما تسمع وإذا تليت آيات القرآن على هذه القلوب الغافلة فهي عمياء صماء والعياذ بالله ولذلك فهي لا تنتفع بالقرآن.
ولكن إذا علم الله في قلب من القلوب نواطا للخير واستعدادا لقبول الحق كتب له السعادة وانتفع بالقرآن فكان القرآن شفاء لما في قلبه من كرب وعصيان فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه كيف كانت قصة إسلامه؟ عمر الفاروق رضي الله عنه في جاهليته كان قلبه يمتلئ طغيانا وكفرا وبغضا وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ولدينه حتى إذا قرأ الآيات من أول سورة طه بسم الله الرحمن الرحيم: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا الرحمن على العرش استوى [طه:1-5]. إلى آخر هذه الآيات العظيمة, لما قرأ عمر الفاروق هذه الآيات رق قلبه وامتلأ بهيبة الله عز وجل وعرف من حضره من الصحابة ذلك في وجهه فطمعوا في إسلامه وأسلم عمر ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((اللهم اهد عمر بن الخطاب أو عمرو ابن هشام)) [1]. وببركة هذه الآيات القرآنية.
وهذا النجاشي ملك الحبشة أسلم لما تلا عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الآيات من أول س ورة مريم بسم الله الرحمن الرحيم: كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا إلى آخر تلك الآيات العظيمات لما سمعها النجاشي بكى حتى ابتلت لحيته بدموعه وقال: إن هذا والذي أنزل على عيسى بن مريم يخرج من مشكاة واحدة , فآمن النجاشي رحمه الله وأسلم وحسن إسلامه حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه نبأ وفاته والنبي في هذه المدينة النبوية جاءه الوحي بنبأ وفاة النجاشي صلى عليه صلاة الغائب [2].
إن هذا القرآن العظيم له تأثير عظيم في نفوس العرب خاصة وفي نفوس الناس عامة , له تأثير عظيم في نفوس العرب حتى المشركين من قريش وهم يكنون العداوة والبغض للنبي صلى الله عليه وسلم ويحاربونه ويناوئونه ومع ذلك كانوا يستعذبون سماع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرتله فكان أبو سفيان وأبو جهل وغيرهما من رؤساء قريش يتسللون ليلا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوه وهو يرتل القرآن , وفي ليلة خرج أبو سفيان بن حرب وأبو جهل والأخنس بن شريق الثقفي خرجوا ليستمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرتل القرآن يصلي به من الليل في بيته وأخذ كل واحد منهم مجلسه حول بيت النبي صلى الله عليه وسلم يستمعوا فيه ترتيل النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهم لا يعلم بمكان صاحبه وباتوا تلك الليلة يستمعون إلى القرآن حتى طلع عليهم الفجر فتفرقوا فجمعهم الطريق فلما بلغ بعضهم بعضا تلاوموا وقال كل واحد منهم لصاحبه لا تعودوا فلو أن بعض سفهائكم رآكم لأحدثتم في قلبه شيئا وذهبوا وقد تواصوا على ذلك ولكن لما جاءت الليلة الثانية عاد كل واحد منهم إلى مجلسه يستمع إلى القرآن من ترتيل النبي صلى الله عليه وسلم وفعلوا مثلما فعلوا في الليلة التي قبلها ومع انجذاب هؤلاء إلى سماع قرآن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنهم لم ينتفعوا به حين سماعه , لكن هذا القرآن العظيم له من قوة التأثير المستمدة من قائله المتكلم به رب العزة والجلال له من قوة التأثير ما يجذب أقسى القلوب المتحجرة الممتلئة عنادا وجبروتا وطغيانا وكفرا ولو أن هذا القرآن أنزل على جبل من الجبال لتصدع الجبل من خشية الله عز وجل لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [الحشر:21]. ولكن ماذا فعلنا نحن اليوم؟ نحن لا نخشع عند سماع القرآن وتلاوته, وإذا خشعنا وأنصتنا فهو خشوع مؤقت سرعان ما يتلاشى بمجرد أن يخرج كل واحد منا إلى معترك الحياة اليومية, لا يحدث القرآن اليوم في نفوسنا ذلك الخشوع الذي يهز الكيان ويغير الاتجاه, لا يحدث القرآن في نفوسنا ما كان يحدثه في نفوس من قبلنا, لقد ضرب بيننا وبين القرآن حجاب فلماذا؟ لأن الغفلة أنشبت مخالبها في القلوب وقد صنعنا بأيدينا قوالب الغفلة ووضعنا قلوبنا داخلها, إنها قوالب من الأسمنت المسلح, فكيف تصل أنوار القرآن إلى هذه القلوب السجينة في قوالب الغفلة؟ وقد صنعنا بأيدينا من حياتنا المادية قوالب الغفلة ووضعنا نفوسنا داخلها فسارت حياتنا المادية حجابا بيننا وبين القرآن.
من هؤلاء الذين علمونا حب الحياة وكراهية الموت؟ علمونا حب الحياة حتى تقطعت أنفاسنا وراء المكاسب المادية, نلهث وراء الحياة المادية حتى تقطعت أنفاسنا. انظروا ماذا تشيدون وانظروا ماذا تبنون وماذا تفعلون وكيف تركضون كل يوم وراء المكاسب المادية وقد نضحي في سبيل هذه المكاسب والمصالح المادية نضحي بكل شيء وفي مقدمة ما نضحي به ذكر الله عز وجل وعبادته والجهاد في سبيله.
من هؤلاء الذين علمونا كل ذلك؟ إنهم الغربيون, أوربا وأمريكا واليهود من وراءهم, هؤلاء الذين علمونا شعرنا بذلك أم لم نشعر, علمونا كيف ننحبس في قوالب الحياة المادية الجامدة الجافة القاسية النخرة.
كيف ننحبس في هذه القوالب؟ اقرأ القرآن يا من تعيش في هذا السجن المادي الذي حبست نفسك فيه باختيارك, جرب أن تقرأ القرآن, هل تفهمه؟ هل تنفعل معه؟ هل تتأثر به؟ هل يؤثر فيك القرآن إذا قرأته أو إذا استمعت إليه؟ هل يهز كيانك؟ هل يغير مشاعرك وأفكارك؟ هل يحول اتجاه حياتك؟ إنك تردده كالببغاء دون فعل ودون انفعال لأن قلبك مغلف بتلك القوالب الأمريكية الصنع, فما لم تحطم تلك القوالب وما لم تخرج من هذا السجن المادي فلن تفهم القرآن أيها المسلم ولن تنتفع به أبدا, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم [المطففين:14-16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سيرة ابن هشام (1/367).
[2] صحيح مسلم (953).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102].
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [النساء:1].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [الأحزاب:70-71].
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وق ال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وأهلك الزنادقة والكافرين وآمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح حال المسلمين اللهم اجمع كلمتهم على الحق وردهم إلى دينك ردا جميلا. اللهم ارفع علم الجهاد وانصر المجاهدين اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك ولإعلاء كلمتك اللهم ثبت أقدامهم واربط على قلوبهم وقو شوكتهم وأنزل السكينة عليهم وانصرهم على عدوك وعدوهم إنك على كل شيء قدير.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا ربنا سميع كريم مجيب الدعوات.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين اللهم اسقنا وأغثنا اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك وانشر رحمتك اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا.
نستغفرك اللهم ونتوب إليك ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العليم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/857)
(قالت الأعراب آمنا) على ضوء سورة الحجرات
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, حقيقة الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"الإيمان المنفي في الآية – معنى الإسلام – إجراء الأحكام على الظاهر – متى يُعد المرء مسلماً الإسلام بين الابتداء والاستمرار – من صور الردة "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم هذه الآية الكريمة نزلت في قوم من الأعراب من بني أسد بن خديعة جاءوا إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة فمنوا عليه بإيمانهم وقالوا قد أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة وقد ذهب كثير من الأئمة رحمهم الله ومنهم الإمام البخاري أنهم كانوا منافقين أظهروا الإيمان خوفاً على أنفسهم وأموالهم أقول ولأجل هذا نفي عنهم الإيمان في قوله: قل لم تؤمنوا فالمنتفي هنا الحد الواجب من الإيمان ومما يؤيد هذا التفسير قوله بعدها: ولما يدخل الإيمان في قلوبكم فنفى دخول أصل الإيمان في قلوبهم فقلوبهم خالية إذن من الإيمان وعليه فقوله تعالى: قولوا اسلمنا معناها قولوا استسلمنا خوفاً من القتل السبي وذهب ابن جرير وابن كثير رحمهما الله إلى أن هؤلاء الأعراب المذكورين في الآية لم يكونوا منافقين بل هم مسلمون ولكن لم تستقر حقيقة الإيمان في قلوبهم فادعوا مقاماً أعلى مما توصلوا إليه فأدبوا في ذلك وكلا القولين له حظ من النظر ولهذا على ضوئها نقول: إن هذه الآية دلت على أمور عظيمة منها: أولاً: إن الإسلام هو الاستسلام الظاهر فإذا ما قام المكلف بأعمال الإسلام الظاهرة من صلاة وزكاة وصيام وحج اعتبر مسلماً وأعطي أحكام الإسلام التي أولها عصمة ماله ودمه وبناء على هذا عامل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين في المدينة على عهده على مقتضى الظاهر فاعتبرهم مسلمين مع أنهم كانوا يبطنون الكفر ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لزم جانب الحيطة والحذر منهم فليس معنى اعتبار هؤلاء مسلمين أن نأمن جانبهم ونتخذهم بطانة وأعواناً. وهذا المبدأ هو إجراء الأحكام على الظواهر من رحمة الله تعالى ولطفه بعباده فإن شئون البواطن ليس في مقدور البشر الإطلاع عليها ولو فتح باب ذلك لوقع بعض الناس في بعض واستحل بعض الناس دماء بعض ولكن من رحمة الله ولطفه بعباده جاء شرعه المطهر بإجراء الأحكام على الظواهر ما لم ينطق المكلف ظاهره بذلك كأن يرتكب عملاً أو قولاً ينقض إسلامه فإنه حينئذ يعامل بما أظهر سواء كان فعلاً أو قولاً ما أظهر من حاله وقوله وفعله. وثانياً: أن الإيمان درجة أعلى من الإسلام فكل محسن مؤمن مسلم ولكن ليس كل مسلم ولا كل مؤمن محسناً فهي ثلاث درجات أولها الإسلام الذي هو أعمال الظاهر من صلاة وزكاة وصيام وحج وثانيها يقيناً وعقيدة راسخة يظهر أثرها على الجوارح وأثر تلك الحقيقة على الجوارح مسارعة إلى الخيرات وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وبذلاً للنفوس والمهج والأموال في طاعة الله ورسوله. وثالثهما: الإحسان ومعناه أن يبلغ من استقرار حقيقة الإيمان في قلبه مقام المشاهدة والمراقبة الدائمة الذي عبر عنه سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) هذا هو مقام المشاهدة والمراقبة الدائمة الذي هو الإحسان وهذه أعلى الدرجات الثلاث وكل هذه الدرجات بينها سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم في حديث جبريل وهو حديث معروف مشهور، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)). المسلمون أهل عدل ورحمة فبمجرد أن يتلفظ أحد بكلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله يعد مسلماً وتثبت له أحكام الإسلام تثبت له العصمة في ماله ودمه ولكن ليس معناه أن هذه العصمة الثابتة تدوم له وإن نقضها بنفسه كأن يظهر بقوله وفعله ما ينقض كلمة الإسلام ويبطلها ولذلك فإن سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قيد هذه العصمة بقوله إلا بحقها "أي إلا إذا نقضوا تلك الكلمة أو أخلوا بحقها فلم يفوا بها وبناء على هذا قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه جموع المرتدين قاتلهم ولم يلتفت إلى قول عمر الفاروق رضي الله عنه: كيف تقاتل من قال لا إله إلا الله؟ حاجه الصديق بهذا القيد النبوي إلا بحقها وقال قولته المشهورة:
لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة نعم المكلف إذا تلفظ بكلمة الإسلام فهو مسلم له مالنا وعليه ما علينا إلا أن ينقض بنفسه تلك الكلمة كيف يمكن أن يعد مسلماً من أعلن بقوله وفكره وفعله أنه بعثي أيمكن أن يكون الإنسان مسلماً وبعثياً في نفس الوقت؟ لا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً وماركسياً في نفس الوقت لا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً وعلمانياً في نفس الوقت لأن الكفر والإيمان لا يجتمعان في قلب واحد كيف يمكن أن نعده مسلماً من أظهر الحقد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق لسانه بالوقيعة فيهم وأطلق لسانه بالوقيعة في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين لا يمكن أن يكون مثل ذلك مسلماً. المسلم الذي التزم بكلمة لا إله إلا الله يجب أن يحاسب على ضوء حقوقها. يجب أن يحاسب كل مسلم التزم بهذه الكلمة على ضوء حقوقها كيف نعد أمثال هؤلاء بعثيين وشتامين مسلمين؟ ومنهم أفراد مندسون فيما بيننا مع ذلك نعدهم مسلمين ونغمض أعييننا ولا نغضب لعرض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه وكل من التزم بلا إله إلا الله فيجب أن يحاسب على ضوء حقوقها ليست هناك فئة أبداً يمكن أن تعطى خصوصية أو استثناء في هذا المبدأ فاتقوا الله أيها المسلمون رعاة ورعية وكونوا مع الصادقين.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن ما شئت فكما تدين تدان. صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد. كما صليت وباركت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم. إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعلى آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/858)
دروس من السيرة النبوية
سيرة وتاريخ
الشمائل
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ومعانيها 2- صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة
3- من علامات قَبول الحسنة الحسنة بعدها – صيام ستة أيام من شوال
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد وصلنا في سلسلة دروسنا عن السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام إلى غار حراء وانبثاق نور النبوة فيه فإن نزول اقرأ باسم ربك الذي خلق على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نزولها بالنبوة عليه ثم نزول يا أيها المدثر بالرسالة عليه صلى الله عليه وسلم وما فيها من أمر له بتبليغ الدعوة والرسالة.
وكل ذلك يمثل بداية مرحلة أخرى من حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم وقبل الشروع في بيان هذه المرحلة لنا وقفات نستجلي فيها جوانب أخرى من شخصيته صلى الله عليه وسلم. والوقفة اليوم مع أسمائه الشريفة صلى الله عليه وسلم.
وأسماؤه مشتقة من صفات قائمة به صلى الله عليه وسلم، تستوجب الحمد والمدح والكمال. إنها ليست مجرد أعلام للتعريف بل أسماء مشتقة من صفات قائمة به صلى الله عليه وسلم تستوجب الحمد والمدح والكمال وهي بهذه المثابة تربو على المائتين وأسماؤه هذه على نوعين نوع مختص به صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه غيره من إخوانه الأنبياء المرسلين. محمد أحمد والعاقب والحاشر ونبي الملحمة. والنوع الثاني يشاركه فيه غيره من الأنبياء والمرسلين ولكن له منها الكمال فهو مختص بكمالها دون أصلها كرسول الله ونبي الله وعبد الله والشاهد والبشير والنذير ونبي الرحمة ونبي التوبة فأول أسمائه صلى الله عليه وسلم وأشهرها محمد وهذا اسم مشتق من الحمد يقال في لغة العرب: حمد. محمد. حمداً. ومحمد يحمد حمداً فهو محمود.
ومحمد مضاعف للمبالغة في هذه الصفة. وهذا الاسم معناه أنه متصف بصفات الخير وخصال الخير التي يحمد عليها أي أحد من البشر. ولهذا سمي بهذا الاسم في التوراة لكثرة ما مدح في التوراة بخصاله وصفاته صلى الله عليه وسلم هو ودينه وأمته حتى تمنى موسى عليه السلام أن يكون من أمته لما سمع تلك الصفات وقرأها في التوراة صفاته صلى الله عليه وسلم وصفات دينه وصفات أمته تمنى موسى عليه السلام أن يكون من أمته فسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم هو المحمود عند الله والمحمود عند ملائكته والمحمود عند إخوانه الأنبياء والمرسلين والمحمود عند العقلاء من أهل الأرض قاطبة والمحمود عند أهل الدنيا والآخرة حيث يبعثه الله تعالى المقام المحمود فاختص من صفات الحمد ما لم يجتمع لغيره. ولذلك سمي أيضا أحمد وهو الاسم الذي بشر به عيسى عليه السلام أمته قال تعالى: وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وهذا الاسم أيضا مشتق من الحمد فهو على وزن أفعل التفضيل ومعناه أنه الأولى بالحمد أنه الأولى من غيره من الناس بالحمد والأحق بالحمد والمدح صلى الله عليه وسلم والفرق بينه وبين محمد أن محمداً معناه الذي اتصف بالصفات التي يحمد عليها. وأحمد معناه الذي يحمد أعظم مما يحمد غيره فمحمد معناه متعلق بالكثرة والكمية وأحمد معناه متعلق بالصفة والكيفية. وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمى لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم نفسه أسماء فقال: (( أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو به الله تعالى الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه وأن العاقب فلا نبي بعدي)) فمن أسمائه إذن الماحي. كما فسر في الحديث معناه الذي يمحو به الله الكفر ما لم يمح بغيره. محى الله به الكفر ما لم يمح بأي أحد من الخلق بعث صلى الله عليه وسلم وأهل الأرض كلهم كفار إلا بقايا قلائل من أهل الكتاب وبعث وأهل الأرض إما عباد أوثان وإما يهود مغضوب عليهم وإما نصارى ضالون وإما خائبون جاهليون لا يعرفون رباً ولا معاداً وإما عباد كواكب وإما عباد النار وإما فلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء ولا يقرون بها.
فمحى الله تبارك وتعالى بنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم من كل ذلك الكفر ما لم يمح بأي أحد من الخلق فأظهر دينه الذي أرسله به على الدين كله وبلغ به ما بلغ الليل والنهار وسار دينه مسار الشمس في الأقطار وسيتم الله هذا الدين حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله بحول الله تعالى وقوته ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم الحاشر ومعناه كما فسر في الحديث الذي يحشر الناس على قدميه أي كأنما بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليسوق الناس إلى المحشر ليحشر الناس وفي هذا تنويه وإشارة إلى أن بعثته صلي الله عليه وسلم قريبة جداً من قيام الساعة. بل تكاد تكون مقترنة بقيام الساعة حتى قال صلى الله عليه وسلم: (( بعثت أنا والساعة كهاتين)) وأشار بأصبعيه صلى الله عليه وسلم ومن أسمائه الشريفة أيضاً العاقب والعاقب معناه الذي جاء عقب الأنبياء والمرسلين من قبله وجاء من بعدهم متأخراً عنهم فهو بمعنى الآخر لأنه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين فلا نبي ولا رسول من بعده ما بعده إلا قيام الساعة وأن يحشر الناس إلى رب العالمين ومن أسمائه أيضاً صلى الله عليه وسلم المقفى وهذا معناه مشتق من قفى يقفو إذا جاء على الأثر فهو صلى الله عليه وسلم جاء على أثر الأنبياء من قبله أي جاء من بعدهم متأخراً عنهم.
فمعناه قريب من معنى العاقب وهذا كما قال الله تعالى في نبيه عيسى بن مريم وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم أي جاء من بعدهم مقتفياً إياهم سائراً على آثارهم مصدقاً لهم. ومن أسمائه الشريفة صلى الله عليه وسلم التي سمي بها في التنزيل المتوكل ففي صحيح البخاري:
عن عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قرأت صفة النبي صلي الله عليه وسلم في التوراة محمد رسول الله ورسولي سميته المتوكل وهذا معناه أنه المستحق بهذا الوصف من غيره فهو صلى الله عليه وسلم الذي قام بهذا الدين متوكلاً على رب العالمين بالغاً في التوكل من الكمال ما لم يبلغه غيره بل اختص بذلك الكمال في التوكل صلى الله عليه وسلم فكل أسمائه الشريفة وهذا منها تدل على أوصاف جليلة عظيمة قائمة بشخصيته صلى الله عليه وسلم.
أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين. والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل على محمد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: إن علامات القبول عند الله تبارك وتعالى اتباع الحسنة بالحسنة وعلو الهمة في الطاعة والثبات على فعل الخيرات والمداومة عليها ولهذا سن لنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سنة صيام الست من شوال بعد رمضان ورغب المؤمنين في ذلك وندبهم إليه فقال صلى الله عليه وسلم: (( من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر)) ومعنى ذلك أن الحسنة بعشر أمثالها فصيام شهر رمضان عن صيام عشرة أشهر وصيام ستة أيام من شوال عن صيام شهرين فهذا تمام العام والله سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين يضاعف لمن يشاء فوق ذلك.
فاعزموا هممكم أيها المؤمنون وشددوا عزائمكم في طاعة ربكم عز وجل فرمضان ذلك الموسم الكريم والشهر العظيم حل بيننا وارتحل كأنما هو يوم أو بعض يوم ولكن الله سبحانه وتعالي قد شرع لعباده من مواسم الخير ما لا ينقطع خيره أبداً فعليك أيها المؤمن أن تقبل على ربك بالعبادة والطاعة في كل وقت وفي كل حين وأن تجرد له عمرك وحياتك.
كما أمرك بذلك سبحانه وتعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين.
فالمؤمن كل حياته لله تعالى. وكل أوقاته مجردة لعبادة الله تعالى وهو يعلم أن هذه هي الحكمة التي خلق من أجلها أن يعبد ربه سبحانه وتعالى ولذلك فهو قائم بهذه المهمة وبهذا التكليف في كل وقت وفي كل حين وفي كل شهر من شهور السنة.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن ما شئت فكما تدين تدان. صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: (( من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد. كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعلى آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/859)
المعجزة الكبرى للقرآن1
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
حاجة البشرية للقرآن – ثمار التمسك بالقرآن – الصلة بيننا وبين الله – الثناء على جماعة تحفيظ القرآن خطبة 2 : هدي الرسول في العشر الأواخر – فضل ليلة القدر – أحكام صدقة الفطر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن هذا القرآن العظيم الذي انبعثت أنواره لأول مرة في غار حراء على قلب خاتم النبيين وإمام المرسلين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الروح لهذه الأمة فلا حياة لها بدونه ولا قيام لها بدونه وهو النور الذي يضيء لها الطريق فلا فضل أبداً ما دامت مهتدية به. ولذلك وصف الله تعالى هذا القرآن بالروح ووصفه بالنور في آية واحدة فقال جل من قائل: وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم.
إنه ليس نوراً فحسب بل هو نور مبين. أي يبين للناس طريق الحياة الصحيحة ويرشدهم إلى ما فيه من صلاح دينهم ودنياهم. وإلى ما فيه سعادتهم في الدارين يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً فلو أن المسلمين تمسكوا بهذا القرآن وطبقوه في حياتهم وتمثلوه في سلوكهم. لو أن المسلمين كانت أخلاقهم القرآن كما كان الشأن في سيدهم وإمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم فقد كان خلقه القرآن فلو كان المسلمون شأنهم كذلك لو أنهم اليوم كانوا كذلك إذن لتغيرت أحوالهم لصار حال أمرهم إلى العزة بعد الذلة وإلى التمكين بدلاً من الاستعباد وإلى القوة بدلاً من الضعف وإلى السعادة بدلاً من الشقاء ولنجوا وسلموا وسط هذه الأمواج الهوجاء من الفتن ومن الزلازل والمحن التي عمت العالم اليوم. إن هذا القرآن هو وصية حبيبنا وسيدنا وأمامنا وقدوتنا ونبينا محمد صلي الله عليه وسلم وصيته لأمته فقد قال ذات يوم لأصحابه: ستكون فتن قالوا: ما المخرج منها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (( كتاب الله فيه نبأ من كان قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمة الله ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله هو حبل المتين ونوره المبين وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فمن قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيا أيها المؤمنون احرصوا على هذا القرآن العظيم فإنه أعظم صلة بيننا وبين ربنا تبارك وتعالى ألا يكفينا أنه كلامه بنصه كاملاً بين أظهرنا كما أنزله على خير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم. فاحرصوا على هذا القرآن العظيم واعكفوا عليه علماً وعملاً ونشئوا عليه أولادكم ورغبوا فيه شبابكم. فقد كان سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم يعنى أعظم العناية بتعليم الناس القرآن كباراً أو صغاراً. كان الصبي من آل عبد المطلب بمجرد أن ينطق وأن يفصح بمجرد أن يتعلم الكلام ويبدأ يتكلم بلغه النبي صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن منها هذه الآيات الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً روى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه. وإن مما يتلمح الصدور المؤمنة إن مما يدعو إلى الابتهاج والسرور أن نرى هذا الجيل القرآني من شباب هذه البلاد يحملون كتاب الله في صدورهم ويرتلونه فتصدح به حناجرهم إنهم بلابل قرآنية يصدحون بأعظم كلام، كلام رب العالمين بأحسن الأصوات هذه لنهضة قرآنية في شبابنا من أعظم أسبابها التي هيأها الله تبارك وتعالى تلك الجماعة المباركة التي أمشت أغصانها وأورقت في سائر أنحاء البلاد التي فيها مهبط الوحي وفيها الحرمان المعظمان إنها جماعة تحفيظ القرآن العظيم وقد لقيت بحمد الله تعالى من الدعم الشعبي من المؤمنين محبي القرآن العظيم الشيء الكثير في سائر أنحاء البلاد لقيت من الدعم الحكومي كذلك بواسطة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي تشرف على هذه الجماعة لقيت من كل كذلك ما تمكنت بعون الله وبتوفيقه أن تقدم منها على أحسن وجه فتنشئ جيلاً قرآنياً من أبنائنا وبناتنا يحملون كتاب الله تعالى في صدورهم ويرتلونه بغاية من الإتقان والتجويد.
فالحمد لله على هذه النعمة فإنها نعمة عظمى نعمة كبرى أن نرى هذا الإقبال من شبابنا من أبنائنا وبناتنا على القرآن العظيم. إن هذا المشروع القرآني المبارك هو من أولى ما يصرف أهل الأموال عليه أموالهم إنه من أولى ما ينبغي أن نصرف عليه جميعاً وننفق في سبيله فإن خيراته وبركاته تعود على أبنائنا وبناتنا قبل كل شيء.
فيا جيران المصطفى صلى الله عليه وسلم يا من أنعم الله تبارك وتعالى عليكم بهذا الجوار الكريم بالسكنى في هذه البلدة الطيبة المباركة التي أنزلت فيها هذه الآيات البينات. لا يجوز أبداً أن تشتكي هذه الجماعة المباركة بيننا نحن بالذات من أي نقص في مواردها المالية فأنتم يا جيران المصطفى صلى الله عليه وسلم أولى وأجدر من ينفق على هذا الجيل القرآني. من ينفق على هذه الجماعة المباركة. فأين أنتم يا أهل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم مهبط القرآن ومهاجر خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. أنفقوا على أهل القرآن وادعموا هذه الجماعة المباركة التي تنشئ أبناءكم وبناتكم على هذا القرآن العظيم. فإن هذا من أولى وجوه الإنفاق من أولى وجوه الخير بالإنفاق فأنفقوا أيها المؤمنون وادعموا هذه الجماعة المباركة فإنها من أعظم الجماعات والنشاطات والمشاريع. خيراً وبركة مما شهدناه في هذه الأيام والحمد لله تعالى على ذلك بارك الله كلاً منكم وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين. والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فها هو الشهر الكريم والموسم العظيم قد انصرفت أكثر أيامه ما كاد هلاله السعيد حتى أوشك على المغيب وهكذا الدنيا كأنها ساعة من نهار ولكن أكثر الناس لا يعلمون فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا جميعاً من عتقائه من النار في هذا الشهر الكريم ممن فازوا بالغفران والرضوان والقبول. ونسأله تعالى أن يعيد علينا هذا الشهر الكريم أعواماً عديدة بالخير واليمن والبركات. ونسأله تعالى أن يبلغنا رمضان القادم ونحن والمسلمون جميعاً في أحسن حال ونسأله أن يبلغنا رمضان القادم ورمضانات أخرى والمسلمون في أحسن حال وقد انكشف الكرب عن المكروبين وزال الهم عن المهمومين وارتفع الذل والقهر والعدوان عن المقهورين وصار حال المسلمين عزاً ومنعة وقوة وتمكيناً ونصراً على الأعداء والمنافقين وتألف بين الأخوة في الدين. اللهم آمين اللهم آمين. اللهم آمين.
اللهم استجب برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين. ثم اعلموا أيها المؤمنون أنه من أرجى الليالي أن تكون عليه ليلة القدر من أرجى الليالي العشر كلها إذا دخلت هي لليلة سبع وعشرون. وقد كان سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة بالذات بل في الليالي العشر كلها. إذا دخلت العشر الأواخر شمر صلى الله عليه وسلم شمر عن ساعد الجد وأحيا ليله بالصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والتذلل بين يدي رب العالمين في جوف الليل وأيقظ أهله لذلك وليلة لقدر هي أعظم الليالي فمن أحياها بالصلاة والقرآن والعبادة والذكر والدعاء فقد فاز بخير عظيم.
فانتهزوا ما تبقى من الفرصة المباركة أيها المؤمنون الصائمون وضاعفوا من إقبالكم على الله عز وجل قراءة القرآن الكريم والصلاة إن هذه الأيام وهذه الليالي من أعظم الأيام والليالي عند الله تبارك الله وتعالي واعلموا أن مما افترض الله عليكم صدقة الفطر تجب على كل مسلم فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد مقدار صاع من الطعام من أرز وقمح أو شعير أو ثمر أو أقط أو زبيب أو غير ذلك من قوت أهل البلد يخرجه عن نفسه وعن من يعوله من أهله وولده يخرج عن كل منهم صاعاً من طعام أهل البلد والصاع النبوي مقداره أربعة أمداد والمد هو ملء الكفين من الرجل المعتدل وذلك يوازي كيلين ونصف أو أقل قليلاً تقريباً ووقت إخراج هذه الزكاة قبل صلاة العيد ويجوز تقديمها على ذلك بيوم أو يومين ولا يجوز أكثر من ذلك لأن المقصود من هذه الصدقة إغناء الفقراء والمحتاجين عن السؤال يوم العيد قال تعالى لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن ما شئت فكما تدين تدان. صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشر)) اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد. كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعلى آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/860)
خطر الباطنيين على الإسلام
أديان وفرق ومذاهب
فرق منتسبة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكافر يُضمر عداوته للمسلم ويتمنى أذيته أو رِدته 2- التحذير من الركون إلى الكفار
3- بعض أقوال الفرق الباطنية 4- كُتب علمائنا ترد على الباطنيين 5- خيانة الوزير الرافضي
ابن العلقمي
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فينبغي للمسلم الذي يؤمن بالله ورسوله ويحب الله ورسوله أن ينظر إلى الكافر على أنه عدو له مهما أظهر له من حلاوة اللسان ولين الجانب فإنه مخالف له في الملة والدين ولو وجد فرصة فإنه لا يتردد أبدا في إلحاق الأذى والضرر بك أيها المسلم لأنه لا يحبك فقد وصفه الله عز وجل كما وصف الله عز وجل المنافقين من الكافرين حيث قال: يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وقال عز وجل: ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وقال سبحانه: وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ فلا ينبغي للمسلمين حكاما ومحكومين أن يركنوا إلى كافر أبدا ولا يأتمنوا كافر أبدا وعليهم أن يدرسوا تاريخهم ويعتبروا بما وقع لمن قبلهم فإن التاريخ يعيد نفسه لأن سنن الله فيه لا تتغير ولا تتبدل سنن الله في التاريخ لا تتغير ولا تتبدل لكن المسلمين حينما تستحكم الغفلة على قلوبهم فتحجب بصائرهم وتعمي أبصارهم خاصة إذا كانت أبواب السماء مفتوحة عليهم بالخيرات والنعم فإنهم غالبا ما يغفلون فتجدهم حينئذ وقد اتخذوا الخدم والحشم والأعوان من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من المخالفين لهم في الملة والدين وحينئذ تقع الكوارث والمصائب بالمسلمين على أيدي هؤلاء الأعداء الذين ركنوا إليهم واطمأنوا إليهم وائتمنوهم على أنفسهم وأسرارهم وقد قال تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون فسنن الله في التاريخ لا تتغير ولا تتبدل إذا ركن المسلمون في أثناء غفلتهم إلى أعدائهم المخالفون لهم في الدين فاتخذوا منهم الخدم والحشم والأعوان حينئذ تقع المصائب على أيدي هؤلاء الأعداء ثم اعلموا أيها المسلمون أن من أكفر الكفار وألد الأعداء عداوة وحقدا علينا نحن المسلمين هم أولئك المنافقون الوثنييون الشتامون وهم طوائف كما بينا في الجمعة الماضية فمنهم من عبد علي بن أبي طالب رضي الله عنه واتخذه إلها من دون الله ومنهم من عبد ذريته واتخذوهم آلهة من دون الله ومنهم من اعتقد أن جبريل خان الأمانة ومنهم من اعتقد أن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فشل في أداء الرسالة لم يبلغ الأمانة ومنهم من اعتقد أن أصحابه الكرم رضي الله عنهم أجمعين غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخانوه ثم ارتدوا بعد وفاته ومنهم من يطعن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه فيقذف زوجه وحبيبته أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها يرميها بالسوء والفحشاء كما رمت اليهود الصديقة مريم عليها السلام بالسوء والفحشاء كل هؤلاء كفار ليسوا من أهل ملتنا ولا هم على ديننا هم أقرب إلى اليهود منهم إلى المسلمين ولذلك فبعض أئمتنا وعلمائنا السابقين نحن المسلمين يسمون هؤلاء جميعا الباطنيين ومنهم أبو حامد الغزالي رحمه الله صنع ذلك في كتابه فضائح الباطنية وعامة أئمتنا وعلمائنا نحن المسلمين يسمونهم الروافض كما صنع ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما فعل ذلك في كتابه منهاج السنة النبوية في الرد على الرافضة القدرية فهؤلاء جميعا من ألد أعدائنا ومن أكفر الكفار الذين يحاربون الله ورسوله يحاربون المؤمنين وإن قالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنهم قد هدموا الشهادتين بتلك العقائد الشنيعة المكفرة فلا تغنيهم شيئا وهم يتعبدون بالكذب اتخذوا الكذب دينا فإنهم يعدون خداع المسلم والكذب عليه من أفضل العبادات لديهم ويسمونها التقية فلا يغتر بهم إلا جاهل لا يعرف الحقائق أو غافل أعمت بصيرته الشهوات والملذات اعتبروا أيها المسلمين حكاما ومحكومين بتاريخكم واسمعوا هذه الواقعة التي وقعت لمن قبلكم فالدولة العباسية من أعظم دول الإسلام وخلفائها وإن أصاب بعضهم تقصير وخلل إلا أنهم من أعظم ملوك الإسلام أثرا في تاريخ المسلمين وفي عهدهم ازدهرت بيارق العلم من جهة وازدهرت بيارق الجهاد من جهة فوصلت رايات المسلمين شرقا وغربا إلى ما لم تصل إليه قبل ذلك وبلغ سلطان المسلمين ومجدهم أوجها في عهد هارون الرشيد ذلك الملك العباسي الملك المجاهد الذي كان يغزو سنة ويحج سنة ثم طرأت العلل على هذه الدولة الإسلامية العظيمة وضعفت فكيف انهارت هذه الدولة الإسلامية؟ اعتبروا يا أولي الأبصار لقد سقطت الدولة العباسية تلك الدولة الإسلامية العريقة لقد سقطت في آخر أمرها سقطت على يد وزير باطني رافضي خبيث قصة ذلك أن آخر الخلفاء العباسيين وهو أبي عبد الله المستعصم بالرغم من صحة عقيدته وسلامة دينه وكونه على مذهب أهل السنة مثل أجداده من الخلفاء العباسيين إلا أنه كان ضعيف الرأي ذا غفلة لينا كان عديم اليقظة ليست عنده يقظة وكان محبا للأموال متبعا للشهوات ومن غفلته اتخذ وزيرا باطنيا رافضيا خبيثا هو محمد بن العلقمي فأتمنه على شئون الدولة وفوضه في شئون الدولة فأخذ هذا الوزير يصرف الجنود من حول الخليفة شيئا فشيئا حتى لم يبقي في عاصمة الدولة الإسلامية حين ذاك بغداد لم يبق فيها حول الخليفة إلا عشرة آلاف فارس ثم أخذ بن العلقمي يكاتب التتار حتى إذا أقبلت جيوش التتار متلاطمة كالبحر وأحاطت ببغداد وليس فيها حول الخليفة إلا تلك القوة الضعيفة من الجند زين الوزير بن العلقمي للخليفة أن يخرج إلى هولاكو ملك التتار من أجل التفاوض على الصلح فخرج الخليفة من غفلته ومعه سبع مائه من الأعوان والقضاة والعلماء فقتلهم التتار عن بكرة أبيهم وقتل الخليفة المستعصم بين يدي هولاكو صبرا ومعه سبعة عشر من خواصه منهم ثلاثة من أبنائه وذكر المؤرخون أن عدو الله هولاكو التتري الوثني تهيب في أول الأمر قتل الخليفة لما يعلم من مكانته في عالم الإسلام والمسلمين فأخذ ابن العلقمي الوزير الخائن الرافضي الخبيث يهون عليه ذلك ويزينه له حتى قتله وابن العلقمي يتفرج على ذلك ثم دخل التتار بغداد فتحوا أبوابها لهم الوزير ابن العلقمي فدخلوا يقتلون وينهبون ويأسرون ويدمرون ويحرقون أربعين يوما حتى أصبحت بغداد التي كانت حين ذاك زهرة مدائن الدنيا أصبحت خرابا تنعق فيها البوم وقتل فيها كما يذكر ابن كثير في تاريخه حوالي ألفي ألف إنسان أي حوالي مليونين من المسلمين والوزير الرافضي الخبيث ابن العلقمي يتفرج على تلك الكارثة الهائلة التي حلت بالمسلمين يوم ذاك وسقطت الدولة العباسية الإسلامية العظيمة التي استمر ملكها أكثر من خمسمائة سنة فاعتبروا يا أولي الأبصار اعتبروا يا أيها المسلمون بما وقع في تاريخكم واقرؤا وادرسوه واتعظوا به واعتبروا يا أهل الإيمان اعرفوا يا أهل الإيمان عدوكم لا تستحكم الغفلة على قلوبكم خاصة وأنتم في رخاء وبحبوحة من النعم فحينئذ لا تفرقون بين عدو وصديق إذا استحكمت الغفلة في قلوبكم حينئذ لا تفرقون بين عدو وصديق وقريب وبعيد ولا تفرقون بين كفر وإيمان ولا بين كافر ومسلم وتلك مصيبة أي مصيبة أيها المسلم هنا مبدأ هام عظيم يجب ألا تنساه أبدا الكافر عدو لك وأي عدو عدو حاقد عليك فلا تأتمنه أبدا ولا تركن إليه أبدا لا تعزه وقد أذله الله لا تكرمه وقد أهانه الله إذ وصفه بأنه أشد جهلا من البهائم لا تقربه وقد أبعده الله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم – أي إن يظهروا عليكم – يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة عليكم بهما تمسكوا بهما وعضوا عليهما بالنواجذ.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) اللهم صلي وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/861)
رمضان شهر الطاعات
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"من فضائل رمضان – من أخطاء الناس في رمضان – مع حديث : " إلا الصوم فإنه لي.." الصيام الحق – الرسول في رمضان "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فرمضان شهر الطاعات والقربات وشهر الخيرات والبركات فيه تضاعف الحسنات وتغفر السيئات ولأجل ذلك ينبغي على المسلم التشمير عن ساعد الجد والطاقة من صيام وصلاة وقيام وصدقة وغير ذلك من أنواع البر بعض الناس ممن لا يفقهون معنى الصوم لم يدرك من رمضان إلا الجوع والعطش يقضي نهاره نائماً وليله لاهياً قد اتخذه موسماً للكسل وفرصة لمضاعفة اللهو واللعب فهؤلاء محرومون والعياذ بالله. فهذا الشهر المبارك موسم كريم لك أيها المسلم لتضاعف العمل, هذا شهر العمل والعبادة, هذا شهر تضاعف فيه الحسنات وتضاعف فيه الأعمال الصالحات:
فأولاً: هذا الصيام إذا أديته على وجهه ولم تخل به فهو أعظم عبادة تؤديها في هذا الموسم الكريم , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به إنه إنما ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)) , قال سفيان بن عيينة رحمه الله في بيان معنى هذا الحديث العظيم: (المسلم قد يأتي يوم القيامة وعليه حقوق للناس فتؤخذ من حسناته وثواب أعماله فتعطى لأهل تلك الحقوق على سبيل القصاص منه إلا الصيام فإنه لا يؤخذ من ثوابه شيء) هذا هو معنى أن الصوم لله وهو يجزي به كما ذكر ذلك سفيان بن عيينة رحمه الله. وإنما بلغ الصائم هذه الدرجة الرفيعة ونال هذه الفضيلة العظيمة لأنه في صومه يحقق أشياء , يحقق معنى الصبر بجميع أنواعه وللصبر ثلاثة أنواع: أولها الصبر على طاعة الله والصائم قصر نفسه على الصيام طاعة لله تعالى, وثانيها الصبر عما حرم الله وهذا الصائم امتنع عن الطعام والشراب والنكاح لأن الله حرم ذلك في نهار رمضان فامتنع عن هذه الشهوات خوفاً من الله تعالى, وثالث أنواع الصبر, الصبر على أقدار الله وهذا الصائم يصيبه من جراء الصوم من آلام الجوع أو شدة العطش وربما من خور الجسم وخموله وضعف الصحة ما يصيبه ومع ذلك هو صابر على هذا كله محتسباً لله تعالى فالصائم من أجل الصابرين الذين حققوا معنى الصبر بأنواعه والله سبحانه وتعالى يقول: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وكذلك الصائم نال هذه الدرجة الرفيعة لأنه منع نفسه من حظوظها وشهواتها لله تعالى ومن أجل الله, منع نفسه من شهوات الطعام والشراب والنكاح وهي من الصفات الأصلية التي جبلت النفس البشرية عليها, قال بعض السلف: (طوبا لمن ترك شهوة حاضرة من أجل موعد غائب لم يره) فالصائم يترك شهوته الحاضرة طمعاً فيما عند الله تعالى وما عند الله تعالى غيب عنه في الوقت الحاضر. والصيام الحقيقي الذي أداه صاحبه دون أن يخل به دون أن يغتاب أحداً أو يرفث أو يجهل أو يساب أحداً أو يقاتله الصيام الحقيقي من أعظم علامات الإيمان فهذا الصائم يمتنع عن هذه الشهوات في نهار رمضان لأن الله تعالى حرمها عليه في النهار يمتنع عنها حتى في خلوته لا يطلع عليه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى فما الذي منعه من مقارفة هذه الشهوات إلا خوف الله تعالى وهذا من علامات صحة الإيمان وإليه أشار في الحديث بعد قوله: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))، قال: ((إنما ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)) أي ما منع الصائم من مقارفة هذه الشهوات الثلاث وغيرها إلا خوفه مني وطمعه فيما عندي وإلا فلو قارف شيء من تلك الشهوات في خلوته لم يطلع على ذلك أحد من المخلوقين وهذا من أسرار كون الصوم أو جعل الصوم لله تعالى فإن الله شكر للصائم ذلك فاختص الصوم من سائر عمله لنفسه سبحانه وتعالى فهو يجزي به فهذا درس عظيم تتعلمه أيها الصائم من مدرسة الصوم والدرس الآخر الذي يجب أن تتعلمه من مدرسة الصوم أن هذا الشهر المبارك الكريم فرصة لك لتضاعف حركتك في سبيل الله ونشاطك في طاعة الله وعملك في سبيل دين الله تعالى, هذا الشهر الكريم موسم للعمل ومضاعفة العمل وليس موسم للكسل تأمل هذه النصوص النبوية تلمح فيها هذا المعنى واضحاً جلياً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عمرة في رمضان تعدل حجة فيما سواه)) وفي لفظ تعدل حجة معي , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان شمر ثوبه وأيقظ أهله صلى الله عليه وسلم وأحيا ليله وكان صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة فإذا دخل رمضان كان أجود ما يكون صلى الله عليه وسلم في رمضان وهنا وقفة قليلة نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكرماء جواد كريم صلى الله عليه وسلم، قال أنس بن مالك رضى الله عنه: ((ما سأل رسول الله على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ولقد سأله رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع الرجل إلى قومه يقول لهم: يا قوم أسلموا فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة)) هذا كرم رسول الله وجوده وعطاءه ليس ككرم أهل الدنيا وعطائهم فأهل الدنيا يعطون ابتغاء ثناء الناس والصيت الحسن بينهم ويودون شهوة من شهوات النفس أما سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فجوده وكرمه كان لأمرين اثنين أولهما أن الدنيا بما فيها من زينة وزخرف ومتاع وأموال لم تكن تزن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فقد عرضت عليه الدنيا وأعرض من قوة إيمانه وكمال عبوديته لربه وتواضعه لخالقه صلى الله عليه وسلم وإلا فهذا النبي الكريم الذي يعطي هذا العطاء الجزيل كان يمر عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار وهو يعطي الرجل غنماً بين جبلين صلى الله عليه وسلم والأمر الثاني أنه صلى الله عليه وسلم إنما يعطي بسخاء لمصلحة شرعية إسلامية وليس عن هوى وشهوة ولا عن محاباة إنما يعطي لخدمة الإسلام , يقول أنس بن مالك رضى الله عنه: إن الرجل كان ليسلم وليس به إلا طمع الدنيا لما يعلم من كرمه صلى الله عليه وسلم فما يمسي الرجل إلا والإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. انظر إلى هذه المصلحة الشرعية العليا التي كان يحققها صلى الله عليه وسلم بعطائه وجوده , هذا صفوان بن أمية رضي الله عنه يقول: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعطاني وهو أبغض الناس إلي وما برح يعطيني حتى أصبح أحب الناس إلي وقد أعطاه يوم حنين وادي بأكمله مملوء إبلاً ونعماً فلما رأى صفوان ذلك قال: أشهد أنه ما طابت بهذا إلا نفس نبي صلوات الله وسلامه عليه. هكذا جود رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرمه لم يكن عن محاباة ولا هوى نفس فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعطى صفوان وادياً بأكمله مملوء إبلاً ونعماً مر عليه يوم من الأيام وقد جاءه سبي فجاءته فلذة كبده رضى الله عنها فاطمة تشكو إليه ما تعاني من عناء وجهد ومشقة في عمل البيت , فاطمة بنت محمد تشققت قدماها وهي تدير البيت تطحن وتعجن وتقوم بمؤنة البيت وخدمته فجاءت تشكو إلي أبيها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً يقوم عنها بمؤنة البيت ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة كان يعلم أن المسلمين يمرون بظرف عصيب لا يسمح له بأن يلبى حاجة فلذة كبده فأمرها بأن تستعين بما هو أفضل من ذلك بالتسبيح والتحميد والتكبير عند نومها وقال لها: ما كنت لأعطيك وأدع فقراء المسلمين في الصفة تطوى بطونهم على الجوع , هكذا جود رسول الله صلى الله عليه وسلم حركة دائبة طوال العام في خدمة الإسلام ولمصلحة الإسلام حتى إذا أقبل رمضان تضاعفت حركة هذا الجهد النبوي.
فيا أيها المسلمون يا أيها الصائمون ليكن هذا الموسم الكريم وهذا الشهر المبارك فرصة لنا جميعاً لنضاعف نشاطنا في الطاعة والعبادة ولنزيد حركتنا في سبيل الله مقتدين في ذلك بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلم لا تكن في رمضان ولا في غير رمضان جثة خاملة وعبئاً على المسلمين بل كن عضواً متحركاً نشيطاً عاملاً بناء , كن بسعيك وحركتك وعقلك وعلمك إن كنت ذا علم ومالك إن كنت ذا مال كن عضواً نافعاً فعالاً في مجتمعك, أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر علي شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد:
فان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فان يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار وأعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/862)
تعظيم أمهات المؤمنين
قضايا في الاعتقاد
آل البيت
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أمهات المؤمنين وحق النبي – فضل أمهات المؤمنين – عددهن وأسماؤهن – ما يجب لهن الرافضة أقبح البدع – كفر من سب أحد أمهات المؤمنين – ما يجب على كل مؤمن نحو الرافضة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن من حقوق سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم تعظيم أزواجه أمهات المؤمنين واحترامهن وإكرامهن وتوقيرهن والدعاء لهن كيف وقد أثنى عليهن الله سبحانه وتعالى أثنى عليهن في كتابه فقال: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء وقال عز وجل: إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيرا وقد بينا سابقا أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في هذه الآية كذوي قرابته وقال سبحانه في بيان فضلهن وعظيم قدرهن وعظيم حقهن : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم أمهاتهم في الحرمة وفي وجوب الاحترام والإكرام والتوقير والإعظام فإن من توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه واحترامه احترام عرضه وتوقير أهله وتعظيم أزواجه صلى الله عليه وسلم فمن عظمهن ووقرهن فبحبه للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وتوقيره له وتعظيمه له يفعل ذلك وقد أجمعوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ودخل بإحدى عشر امرأة عشر منهن من العرب وواحدة من بني إسرائيل من ذرية النبي هارون عليه السلام وقد ماتت اثنتان منهن في حياته صلى الله عليه وسلم وهما خديجة بنت خويلد وزينب بنت خزيمة وتوفي صلى الله عليه وسلم عن تسع منهن وهن سودة بنت زمعة وعائشة بنت أبي بكر الصديق وحفصة بنت عمر الفاروق وهند بنت أبي أمية أم سلمة وزينب بنت جحش وجويرية بنت الحارث ورملة بنت أبي سفيان التي هي أم حبيبة وصفية بنت حيي التي هي من ذرية هارون عليه السلام وميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنهن وأرضاهن فهؤلاء النساء الكريمات هن حلائل سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأزواجه وهن أفضل النساء وأطيب النساء وأزكى النساء وأطهر النساء كيف لا يكن كذلك وهن زوجات أطيب الخلق وأطهر الخلق وأفضل الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول في كتابه: الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات اثنتان منهن اختارهم الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بصورتها في خرقة من حرير قبل أن يتزوجها والأخرى زينب بنت جحش التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها زوجها الله تعالى لنبيه فكانت تفخر بذلك رضي الله عنها فتقول: زوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات هؤلاء هن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه أمهات المؤمنين أطيب النساء وأطهر النساء وأزكى الزوجات جعلهن الله أمهات المؤمنين لعظيم قدرهن وعظيم حقهن فعلى المؤمنين أن يعرفوا قدرهن وأن يؤدوا لهن حق التعظيم والاحترام والتوقير والإكرام والإجلال وإن من أبشع البدع وأخبث الكفر والنفاق ما يفعله الروافض من سب بعض أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورميهن بالسوء والفحشاء خاصة الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر الفاروق ولا شك أن ذلك منهم كفر ونفاق وردة عن الإسلام فإن سب أي واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيه من التنقص من عرض رسول الله والتنقص من عرض رسول الله فيه من التنقص لحقه صلى الله عليه وسلم ما يوجب كفر فاعله وردته عن الإسلام وخبثه ونفاقه أي رجل يرضى بأن يسب أهله أو تقذف زوجته بالسوء إن أي سبة في أهله في زوجته يعدها الرجل تنقصا من حقه وعارا عليه والتنقص من حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر أكبر وردة عن الإسلام كما أن سب أي واحدة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فيه من الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوجب كفر فاعله وردته عن الإسلام فإن كل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر وارتد عن الإسلام قال تعالى: إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا وقد علم من أسلوب القرآن الكريم أنه لا يتوعد بالعذاب المهين إلا الكافرين لأنهم يلبثون في جهنم ولا يخرجون منها أبدا والعياذ بالله وأما سب أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق فإنه إضافة إلى ما ذكر يعد كفرا أكبر وردة عن الإسلام لأن فيه تكذيبا لأكثر من ثلاث عشرة آية من القرآن في سورة النور أنزلت لبيان طهارتها وبراءتها مما رماها به المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والروافضيون أحفاد أولئك المنافقين أحفاد عبد الله بن أبي بن سلول مازالوا يسبون الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها يرمونها بالسوء وهم في ذلك كاليهود لعائن الله عليهم أجمعين عندما رموا مريم ابنة عمران أم عيسى عليه السلام بالسوء والفحشاء فهم إخوانهم في الخبث والسب والشتم ولكن المصيبة أن تقع هذه البدعة الشنيعة وهذا الكفر الخبيث وهذا النفاق هنا في هذه المدينة النبوية الطاهرة المطهرة فإن من فعل هذا فيها فقد أحدث فيها حدثا هو من أقبح المحدثات وأشنع الكفر فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين كما أعلن ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم بل إن من يؤوي من يفعل ذلك بأن يؤجر له بيته أو ينزله في فندٌقه وهو عالم بكفره وخبثه هذا فهو مثله عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين بل إن من يساعد هؤلاء ويمكنهم من مطوفين وموظفين وجنود وغيرهم وهم يعلمون كفرهم هذا وخبثهم وتنقصهم من عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليه أيضا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين كما أخبر بذلك الصادق الأمين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال كما ثبت عنه في الحديث الصحيح: ((المدينة حرم -أي حرم محرم – ما بين عائر إلى فوق كذا أحدث فيها حدث أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا)) أي بعد أن يحدث ذاك الحدث أو يؤوي ذلك المحدث أو يساعده أو يمكنه فإذا فطن إلى تلك اللعنة لا يقبل الله منه عملا أبدا والعياذ بالله وأي حدث أشنع من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنقص من عرضه وحقه بسب أزواجه أو أي حدث أيضا أعظم من سب أصحابه وجنده وأنصاره صلى الله عليه وسلم فيا جيران المصطفى صلى الله عليه وسلم يا أهل هذه المدينة الطيبة من محبي رسول الله وآل رسول الله وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لرسول الله في أعناقكم حقا عظيما إن لهذا الجوار حقا عظيما أن تذبوا عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغضبوا لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أيرضى أحدكم أن يسب أهله وترمى زوجته بالسوء والفحشاء يغضب حينئذ وربما قاتل غريمه فكيف لا تغضبون لعرض سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ كيف لا تغضبون لعرضه؟ كيف ترضون بسب أهله وأزواجه مع ما في ذلك من التنقص من عرضه صلى الله عليه وسلم والإيذاء له صلى الله عليه وسلم وإذا بلغكم ذلك فكيف تسكتون وكيف تغضون الطرف عن هذا الجرم الشنيع والبدعة الخبيثة والكفر الصراح والردة الواضحة؟ كيف تغضون الطرف عن ذلك؟ فيا له من جرم عظيم وسوء أدب مع هذا الجوار الكريم أن نسكت عن ذلك ونغض الطرف عنه ولا نغضب لعرض المصطفى صلى الله عليه وسلم فنعوذ بالله من غضبه نعوذ بمعافاته من غضبه نستغفر الله العظيم ونتوب إليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) اللهم صلي وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/863)
مبدأ المساواة بين البشر والتفاضل بالتقوى
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية, مذاهب فكرية معاصرة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
من مبادئ الإسلام المساواة بين البشر – (أمثلة) – التحذير من دعاوى الجاهلية أعداء الإسلام وإحياء الجاهليات – التحذير من الطابور الخامس
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [الحجرات:13]. هذا إعلام من الرب تبارك وتعالى إلى جميع الناس بأن أصلهم واحد ومرجعهم واحد فقد خلقهم جميعا من نفس واحدة وخلق منها زوجها وهما آدم وحواء عليهما السلام وهذا مثل قوله في أول سورة النساء: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء وهنا قال: خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل والشعوب أعم من القبائل والقبائل تتشعب إلى فصائل وإلى عشائر وإلى عمائر وإلى أفخاذ وهذا التنوع في الأنساب وفي الألوان وفي الألسنة ومثله التنوع في الطبائع وفي الأخلاق وفي المواهب كل ذلك الهدف منه التعارف والوئام والتعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات وإلا لا تفضيل لجنس على جنس ولا للون على لون ولا لشعب على شعب ولا لقبيلة على قبيلة فإن التفاضل لا يرجع إلى الجنس ولا إلى اللون ولا إلى الوطن ميزان التفاضل واحد هو الإيمان والمؤمن أفضل من الكافر المؤمن أعلى من الكافر والمسلم أفضل من المشرك ثم المؤمنون فيما بينهم يتفاوتون ويتفاضلون وميزان التفاضل فيما بينهم هو التقوى فأتقاهم لله تعالى هو أكرمهم عنده قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) أخرجه مسلم [1] ، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم بنو آدم وآدم من تراب)) [2] ، وإذن الناس جميعا في أصلهم وفي شرفهم وفي عنصرهم ينتسبون إلى أصل واحد هو الطين والتراب ولذلك لا يتفاوتون في هذا لا يتفاوتون في الأصل ولا في الشرف إنما يتفاوتون في الأمور الدينية في طاعة الله تبارك وتعالى وفي متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم أما تقسيمهم إلى شعوب وإلى قبائل وأما اختلافهم في الأنساب فالمقصود منه التعارف والتآلف روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة للأهل ومثراة للمال ومنسأة للأثر)) [3] ، هذا هو المبدأ العظيم الذي جاء به ديننا القويم فكرس مبدأ المساواة بين البشر وجعل ميزان التفاضل واحدا هو الإيمان والتقوى فالناس إنما يتفاضلون بهذا الميزان وإنما انقسموا لشعوب وقبائل من أجل التعارف والتآلف والتواصل والوئام والله تبارك وتعالى العليم الخبير هو الذي وزنهم عن علم وخبرة وبثهم في الأرض رجالا ونساء وشعوباً وقبائل من هذا الأصل الواحد فإذا تفاخر الناس بأنسابهم وبأصولهم وبقبائلهم فعليهم أن يتذكروا أن العليم الخبير الذي بثهم من التراب والطين يسمعهم ويراهم هو العليم بأصلهم خبير بأحوالهم أليس هو الذي خلقهم ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك:14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (2564).
[2] سنن الترمذي (3955) وقال: حسن غريب وفيه اختلاف يسير في اللفظ.
[3] مسند أحمد (2/374)، سنن الترمذي (1979)، وقال: حديث غريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين واشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه: ((انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضلهم بالتقوى)) [1] ، نعم هذا هو المقياس الحقيقي للتفاضل بين الناس هذا هو المبدأ الذي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام عليه هذا أبو ذر سليل بني غفار تلك القبيلة العربية الأصيلة المشهورة يحذره النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من الإنسياق وراء المقاييس الجاهلية ويغرس في نفسه هذا المبدأ الإسلامي العظيم الرائع المساواة بين البشر ومبدأ التفاضل بالتقوى وقد أثمرت هذه التربية النبوية أيما ثمرة فانصهرت تلك القبائل العربية في بوتقة الإسلام حتى صاروا جميعا كالجسد الواحد فانطلقوا ينشرون الإسلام بين أمم الأرض فإذا بالأمم والشعوب تنصهر في بوتقة الإسلام إذا بالأسود والأحمر والأبيض والعربي والأعجمي إخوانا متحابين تحت ظل الإيمان ولكن الجبلة غلبت أبا ذر رضي الله عنه في يوم من الأيام وفي موقف من المواقف فقال لأحد إخوانه في الإيمان وقد غاضبه ونازعه في أمر من الأمور انطلق لسان أبي ذر وغلبته الجبلة دون أن يقصد ذلك فقال له: يا ابن السوداء فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب غضبا شديدا ولام أبا ذر ووبخه فقال له: ((أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية)) [2] ، سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم دقيق رقيق عادل منصف حتى في توبيخه لم يقل لأبي ذر إنك امرؤ جاهلي فحاشا أبا ذر أن يكون كذلك فهو مؤمن مسلم تربى في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم لكنها بقية ضئيلة بقيت في نفسه فنبهه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أنه يجب عليه أن يعالج تلك البقية الباقية أن يروض نفسه على مبادئ الإسلام العظيم مبدأ المساواة بين الناس مبدأ التفاضل بالتقوى وذهب أبو ذر يروض نفسه فماذا فعل رضي الله عنه وأرضاه ذهب إلى أخيه ذلك الذي أغضبه فاعتذر له واستسمحه حتى رضي عنه وسامحه ثم وضع أبو ذر خده على الأرض وقال له : يا ابن أخي ضع قدمك على خدي هكذا حاول أبو ذر أن يروض نفسه على مبادئ الإسلام على مبدأ المساواة بين الناس على مبدأ التفاضل بالتقوى على هذا المبدأ الإسلامي الرائع العظيم الذي لا بديل له سوى الجاهلية الجاهلية إذا طغت فالناس حينئذ يتفاضلون بالعنصرية العنصرية للون أو العنصرية لجنس أو العنصرية لوطن وحينئذ يعاقبهم الله تبارك وتعالى بالذل والهوان هذا هو وعده على لسان النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((كلكم بنو آدم وآدم من تراب لينتهين قوم عن تفاخرهم بالآباء أو ليكونن أهون على الله من الجعلان)) [3] تأملوا حال العرب اليوم ترونهم فعلا أهون من الجعلان وذلك لأن أكثرهم اغتروا بالشعارات الجاهلية بالشعارات العنصرية ولذلك صاروا أهون من الجعلان تتكالب الأمم عليهم من كل جانب نحن نعيش هذه الأيام في ظلال كارثة عربية جديدة أتدرون هذه الكارثة من إفراز من ؟ من إفراز حزب جاهلي عنصري علماني خبيث كافر في ظلال مبادئ هذا الحزب الذي اتخذ العنصرية والقومية دينا بدلا من الإسلام في ظلال مبادئه العربي فقط هو أخو العربي ولو كان كافرا أما الأعجمي فلا صلة له البتة بالعربي وإن كان مسلما مؤمنا وفي ظلال مبادئ هذا الحزب مطران بن حنا بن عزيز النصراني الخبيث أقرب إليهم من هذا الأفغاني المجاهد المسلم المؤمن الرابض فوق القمم كالأسد في عرينه يدافع عن دينه وعن حرمات المسلمين إنه حزب علماني جاهلي عنصري خبيث أتدرون لما ذلك؟ لأن الدين ليس له مكان في مبادئه ليس له اعتبار في أفكاره وفي عقيدته ولذلك هتف شاعره في يوم من الأيام بكل جرأة ووقاحة مناديا قائلا:
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلا وسهلا بعده بجهنم
هذه هي حقيقة هذا الحزب العلماني الجاهلي الخبيث وإن حاول أخيرا أن يلبس جبة الإسلام وإن حاول طواغيته أن يتمسحوا بالإسلام إن كل ذي بصر يعرف هذه الحقيقة اعرفوا حقيقة عدوكم تعرفوا على حقيقة المعركة لا تتصوروا أو تصوروا لغيركم أنها معركة شخصية تدور حول شخص واحد إذا ما ذهب انتهى الصراع لا تتصوروا أو تصوروا لغيركم أنها حرب مصالح فحسب فإذا اتفقوا على هذه المصالح انتهى الصراع الصراع قديم والكوارث متوالية ليست هذه أول كارثة يتسبب فيها هذا الحزب العلماني الخبيث فمن أول كوارثه تسليم الجولان إلى العدو الصهيوني من كوارثه سقوط القبلة الأولى ومن كوارثه تمزيق العرب بددا تمزيق العرب أحزابا ومن كوارثة هذه الكارثة الجديدة ومن أعظم كوارثه الفصل بين العرب والإسلام محاولته القضاء على الإسلام في ديار العرب وفي نفوس العرب هذه هي حقيقة المعركة وهذه هي حقيقة عدوكم فتبصروا أيها المسلمون لا تنسوا ذلك وإلا فإنكم تخسرون المعركة لأنكم وقبل كل شيء تفقدون الدافع والمبرر وتصبحون طرفا بلا طعم ولا لون ولا رائحة.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [4] ، اللهم صلي وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وأرض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند أحمد (5/158).
[2] صحيح البخاري (30)، صحيح مسلم (1661).
[3] مسند أحمد (2/361)، سنن أبي داود (5116) وفيه اختلاف في اللفظ.
[4] صحيح مسلم (408).
(1/864)
حقوق الزوجة
الأسرة والمجتمع
المرأة
محمد النمر
الطائف
9/5/1420
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
– على كل من الزوجين حقوق عليه مراعاتها لتستمر الألفة بينهما والمودة – حقوق الزوجة على زوجها
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فيا عباد الله: لن ينعم بالسعادة من عاش خارج دائرة الإسلام، وإن بدا متظاهرا بتحصيلها، ذلك لأن الإسلام منهج رباني تساوي دقته دقة نظام هذا الكون، ودقة عضوية أي كائن فيه لأن المصدر واحد هو الله عز وجل، وكم يحدث من الخلل والإفساد من أراد أن يغير شيئا مما شرعه الله عز وجل مع ما في ذلك من مخالفة لأمره سبحانه، وما أسعد من عاش الإسلام واقعا يعرف واجبه كما يعرف حقه.
ولئن كشفنا عما ينبغي أن تكون عليه المرأة لتكون زوجة صالحة فإن من الحق أن نشير إلى ما ينبغي أن يراعيه الرجل ليكون زوجا صالحا فيعيش عندئذ الزوجان متآلفين متوازيين متراحمين يسعد كل منهما بصحبة صاحبه وينعم من حولهما بثمرات ذلك.
ولن أعرض إلى الحقوق المادية التي رتبها الإسلام على الرجل فتلك لها أحاديث أخر وإنما أشير إلى الحقوق الأدبية التي يجب أن يراعيها الرجل وعلى رأس هذه الحقوق أن يعاشرها ولا يتعمد هجرها فهو مأمور بأداء حقها بقدر حاجتها وقدرته فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل، قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي خويلة بنت حكيم بن أمية وكانت عند عثمان بن مظعون قالت: فرأى رسول الله بذاذة هيئتها، فقال لي: ((يا عائشة ما أبذ هيئة خويلة: قالت: قلت: يا رسول الله امرأة لها زوج يصوم النهار، ويقوم الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فبعث رسول الله إلى عثمان بن مظعون فجاءه فقال: يا عثمان أرغبة عن سنتي؟ قال: فقال: لا والله يا رسول الله ولكن سنتك أطلب، قال: فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم)).
هذه الشريعة الحنيفية تقرر أن الزوج لو آلى (حلف) ألا يقرب زوجته، يلزم أن يحنث في يمينه قال تعالى: للذين يؤلون منكم من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم فقد نص على أن الذين يحلفون على ألا يقربوا زوجاتهم يمهلون أربعة أشهر، فإن عاد أحدهم إلى الإنصاف وأداء الحق لها فعليه كفارة يمين، وإلا كان إصراره إضرارا موجبا للفراق.
وما أكثر ما يقع مثل هذا الظلم عند المعددين للزوجات يستغني الواحد منهم بواحدة منهن وهو بعيد عن الأخريات وكأنه لاحق لهن عليه ولا يجب عليه إحصانهن.
وعلى الزوج أن يتزين لزوجته كما يحب أن تتزين له، فإنها يعجبها منه ما يعجبه منها وقد فهم السلف ذلك من قوله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية.
ومن حق الزوجة أن يعلمها أصول دينها: كيف تؤمن بالله الإيمان الحق وتوحده التوحيد الخالص، وتؤمن بأسمائه وصفاته على الوجه اللائق بجلاله سبحانه وتعالى، وتعرف ما يجب لله تعالى، وما يجوز له سبحانه، وما يستحيل عليه تبارك وتعالى، وتؤمن بما جاء من عند الله من أركان الإيمان وسائر أحكام الإسلام الواجبة عليها وأصول معرفة الحلال والحرام. وأن يعلمها أحكام العبادات، ويحضها على القيام بها خاصة الصلاة في أول الوقت وشروطها وأركانها ومفسداتها ومكروهاتها وسائر العبادات وحقوق الله تعالى عليها وحقوق الزوجية، وأن يعلمها مكارم الأخلاق من وقاية القلب من أمراض الحسد والبغضاء ووقاية اللسان من الغيبة والنميمة والسب والكذب، ويراقبها في ذلك كله ما استطاع إلى المراقبة سبيلا يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ، قال علي : أدبوهم وعلموهم، وقال الألوسي: واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء.
وقد أثنى الله عز وجل على نبيه إسماعيل عليه السلام فيما أثنى بقوله: وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا.
ومن حقها عليه أن يغار عليها ويصونها من كل نظرة أو كلمة فهي أعظم ما يكنزه المرء فلا يليق أن يجعلها مضغة في الأفواه تلوكها الألسنة، وتتقبحها الأعين، وتجرحها الأفكار والخواطر، كلا إن الغيرة أخص صفات الرجل الشهم الكريم، وإن تمكنها منه يدل دلالة فعلية على رسوخه في مقام الرجولة الحقة الشريفة، ومن هنا كان كرام الرجال يمتدحون بالغيرة على نسائهم، والمحافظة عليهن، وإن من شر صفات السوء ضعف الغيرة وموت النخوة ولا يركن إلى ذلك إلا الأرذلون.
ولا يقصد بالغيرة سوء الظن والتماس العثرة فعن رسول الله أنه قال: ((إن من الغيرة غيرة يبغضها الله وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة)).
وقد روى الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله قول رسول الله : ((أتعجبون من غيرة سعد؟ أنا أغير منه والله أغير مني)).
والغيرة المحمودة ما كانت في محلها، أما ما جاوز الحد، وكان ظناً باطلا لا أساس له إلا وسوسة الشيطان فهي غيرة مكروهة قال عنها رسول الله : ((إن من الغيرة غيرة يبغضها الله عز وجل، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة)).
ومن حقها أن لا يتخونها ولا يتلمس عثراتها، وذلك بأن يترك التعرض لما يوجب سوء الظن بها، وقد دل على ذلك أحاديث منها ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((كان النبي يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا)) ، وعنه: ((نهى رسول الله أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم، أو يطلب عثراتهم)).
بل على الرجل أن يعلم أهله بقدومه كي يتأهبوا لاستقباله فلا يرى ما ينفره وقد أشار إلى ذلك بقوله لجابر حين قدم معه من سفر: ((إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة)).
كل ذلك لتبقى العلاقة سليمة بعيدة عن كل ما يوهنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن أحسن الحديث كتاب الله عز وجل وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار فاهتدوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم واحذروا كل مخالفة عن أمره فإن الخير كله في الاتباع.
واعملوا رحمكم الله: أن من أعظم حقوق الزوجة أن يعاشرها بالمعروف ولنتأمل طويلا قول الله تعالى: وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا قال السدي: خالطوهن وقال ابن جرير: صحفه بعض الرواة، وإنما هو خالقوهن، ومعنى بالمعروف: ما لا ينكره الشرع والمروءة، والمراد هنا النصفة في القسم والنفقة، والإجمال في القول والفعل، وقيل بالمعروف: هو أن لا يضربها، ولا يسيء الكلام معها ويكون منبسط الوجه معها، ولا ينبغي للرجل أن يبغضها إذا رأى منها ما يكره لأنه إن كره منها خلقا رضي منها آخر فيقابل هذا بذاك، وقد روي أن عمر قال: لرجل طلق امرأته: لم طلقتها؟ قال: لا أحبها، فقال: أوكل البيوت بني على الحب، فأين الرعاية والتذمم.
وليذكر الرجل قول رسول الله : ((إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)).
ومن المعاشرة بالمعروف أن يتحبب إليها ويناديها بأحب الأسماء إليها.
ولقد كان رسول الله نبراسا لمن أراد أن يمتثل قول الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ، قال ابن كثير رحمه الله: وكان من أخلاق النبي أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف معهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه.
واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداء برسول الله فقد كانت أزواجه يراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل وراجعت امرأة عمر ، فقال عمر: أتراجعيني، فقالت: إن أزواج رسول الله يراجعنه وهو خير منك.
ويستحب للرجل إذا وجد فراغا أن يشارك المرأة في خدمة البيت فإن هذا من حسن المعاشرة المأمور به، قالت عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عنه ما يعمل في بيته: كان يكون في مهنة أهله، يقم بيته، ويرفو ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته.
فما أسعد بيوتا عرف أهلها هذا فنهضوا به عرف كل من الزوجين عظم الرابطة التي جمعتهما والغاية من ذلك فأحسن معاشرة الآخر فكانا قدوة لأبنائهما في التواد والتراحم، فاتقوا الله عباد الله....
(1/865)
غض البصر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, فضائل الأعمال
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما شرعه الدين إنما هو لحفظ الإنسان وصيانة حياته. 2- خطر إطلاق النظر.
3- النصوص تأمر والرجال والنساء بغض البصر. 4- أعين لا تمسها النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: فإنه لا بد من ضوابط لهذه الحياة، حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه، وحياته مع غيره من الناس.
ويقيم الإسلام هذه الضوابط في حياة الناس ويحددها بدقة ووضوح ويربطها كلها بالله، ويكفل لها الاحترام الواجب فلا تنتهك ولا يستهزأ بها، ولا يكون الأمر فيها للأهواء المتعارضة التي يراها فرد من الناس أو مجموعة أو أمة، فهذه الضوابط والأحكام التي شرعها الله تعالى وأقامها للناس هي المصلحة الحقيقية لهم حتى ولو رأى الناس بعقولهم القاصرة شيئا غير ذلك، فالله يعلم والناس لا يعلمون، وما يقرره الله خير وأصلح مما يقررون، وليس للمسلم تقدير غير ما قدر الله، وليس له مع تقدير الله إلا الطاعة والاستسلام والرضى والثقة والاطمئنان، والإسلام يهدف إلى إنشاء مجتمع صالح نظيف يعبد الله تعالى ويجانب الرذيلة، يبث الخير ويدعوا إليه، وينهى عن المنكر ويعاقب على الفتنة والجريمة.
والله سبحانه وتعالى يضع الاجراءات الوقائية ويقطع الطريق على الفتنة عندما يمنع النظر إلى مواطن الفتنة المثيرة الداعية إلى الغواية.
يقول الله سبحانه وتعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن.
أيها الناس: إن غض البصر نموذج من أساليب معالجة الفتنة والإثارة والغواية من الجانبين: وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الإطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام، كما أن فيه إغلاقا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية، ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله في الحديث القدسي: (( النظر سهم مسموم من سهام إبليس من تركه مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه)).
وفي الصحيحين عن رسول الله أنه قال: ((العينان زناها النظر، والأذنان زناهما الاستماع)) وقال رسول الله : ((كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا)) وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي قال: ((سألت النبي عن نظرة الفجأة (البغتة دون قصد) فأمرني أن أصرف وجهي)) وقال لعلي بن أبي طالب: ((يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة)).
وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر، أو هو الخطوة التالية لتحكم الإرادة وتغطية الرقابة والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى، ومن ثم يجمع الله تعالى بينهما في آية واحدة: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون.
كما يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنات بغض أبصارهن وحفظ فروجهن: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن.
والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأقرب طرق الحواس إليه، وما أكثر السقوط من جهته، ولذلك وجب التحذير منه وغضه عن جميع المحرمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله، وقد قال رسول الله : (( إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: يا رسول الله: مالنا من مجالسنا بُد نتحدث فيها، فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه: قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)). وعن أبي طلحة قال: كنا قعودا بالأفنية (الأماكن المتسعة أمام البيوت) نتحدث فيها فجاء رسول الله فقام علينا فقال: ((ما لكم ولمجالس الصّعرات (الطرقات) فقلنا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدث، فقال: إما لا فأدوا حقها: غض البصر ورد السلام وحسن الكلام)).
وقد بدأ الله تعالى في الآية فأمر بالغض من البصر قبل حفظ الفرج لأن البصر رائد القلب، وقد أمر الله تعالى المؤمنات بغض البصر عما لا يحل لهن، فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة غير المحرمة عليه ولا المرأة إلى الرجل كذلك، فإن علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((كنت عند رسول الله وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي : (احتجبا منه) فقلنا: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي : أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟)).
فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له أو لمن هي محرمة عليه على التأبيد، فهو آمن من أن يتحرك طبعه إليها لوقوع اليأس له منها.
وحفظ الفرج الذي أمر الله تعالى به معناه ستره عن أن يراه من لا يحل له ومعناه أيضا عدم الزنا، فعن معاوية بن القثيري قال: ((قلنا: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك، قال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال إن استطعت ألا يراها، فافعل، قلت: الرجل يكون خليا (أي وحده منفردا) فقال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس)). وغض البصر وحفظ العين مبدأ مهم، وهو عسر من حيث إنه قد يستهان به ولا يعظم الخوف منه، والآفات كلها منه تنشأ، وزنا العين من كبائر الصغائر وهو يؤدي إلى القرب من الكبيرة الفاحشة، وإن لم يقدر على غض بصره لم يقدر على حفظ فرجه.
وقال عيسى عليه السلام فيما ينسب إليه: إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب شهوة وكفى بها
فتنة كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت من قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
وقيل ليحيى عليه السلام: ما بدء الزنا؟ قال: النظر والتمني. والعبد مادام ذا طرف يقلبه في أعين العين موقوف على الخطر.
يسر مقلته ماضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
وغض البصر عبادة توجب رضا الله تعالى وترفع سخطه وعذابه يوم القيامة، فعن معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ترى أعينهم النار،: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله)) فهذه العين التي امتنعت عن النظر فيما يجلب سخط الله لا تبكي يوم تبكي العيون من شدة الأهوال من القيامة، فقد قال رسول الله : ((كل عين باكية يوم القيامة إلا عين غضت عن محارم الله وعين سهرت في سبيل الله، وعين خرج منها مثل رأس الذباب (أي دمعت العين قليلا) من خشية الله)).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/866)
لا لمؤتمر بكين
الأسرة والمجتمع
المرأة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمم المتحدة , وهم كاذب وشعار خادع – المؤامرة على الأسرة والمرأة – العلاقة بين الرجل
والمرأة قائمة على المودة , ولا يضرها خطأ البعض في الفهم , وليس الحل كما يريده دعاة
الفجور – واقع الأسرة والمرأة الغربية المرير – دور المرأة الحقيقي , والمرأة العاملة في
الغرب – الهدف من هذه الدعاوى والمؤتمرات – الدور المطلوب من الحكومات الإسلامية وشعوبها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل فنعم اللباس التقوى، ونعم الزاد التقوى.
أيها المسلمون، إن أهل العقل والعلم والنظر المتوازن ليسوا بمغرمين ولا بمبالغين في تصوير أن وراء كل حدثٍ مؤامرة، ولا من المتوهمين أن خلف كل حديث تآمراً. ولكنهم في ذات الوقت لن يكونوا من أولئك الذين يسلمون القياد، ويُرخون الزمام لتقودهم أفكارٌ فاسدةٌ، أو تضلهم دعواتٌ ماكرة، أو يسيروا خلف كل ناعقة.
إننا بين يدي مؤتمرٍ [1] سوف ينعقد قريباً هذه الأيام ليتحدث ويوصي ويقرر عن المرأة والأسرة والبيت وشؤونه، يتحدث عن التنمية والسلام والمساواة. مؤتمرٌ ينسب إلى الأمم المتحدة.
كم تحدثوا وائتمروا عن التنمية والأمية، والتعليم والصحة، ورفع الفقر وأعباء المديونية، وحقوق الإنسان وكرامة الإنسان وهذه كلها كلماتٌ جميلة ودعوات براقة كل يحبها، وكلٌ يتمنى تحقيقها.
لقد مرَّ على قيام هذه المنظمة خمسون عاماً فأي فقرٍ مدقعٍ؟ وأي سلام رسخ؟ وأي كرامةٍ للإنسان حفظت؟.
إن سيطرة القرار الغربي على مجريات الأمور أصبحت واضحةً بيِّنةً. إنه وحده الذي يستصدر قرارات لها أثرها ونفاذها إذا شاء الله، وتكون الأخرى حبراً على ورق إذا شاء.
من هذه المسلمات يكون الحديث عن مؤتمر المرأة هذا، ومن هذه المنطلقات يكون النظر إلى هذا المؤتمر.
إنه مؤتمر لا يعلو فيه إلا صوت الجمعيات المتطرفة التي أعلنت الحرب منذ زمنٍ على الأسرة والحياة الكريمة، والبيت الكريم، التطرف الذي دعا بغلوه إلى الحرية الجنسية، والتفسخ الخلقي، والدعارة المعلنة المقننة. دعواتٌ ومقرراتٌ تصادم الفطرة وتنابذ كل القيم الإيمانية المستقرة في ضمائر الأسوياء من البشر.
وحينما يُقال: إن المتطرف هو الذي يُعِدُّ أوراق عمل هذا المؤتمر وهو الذي يصوغ وثائقه وتوصياته ليس هذا من جُزاف القول، ولا من دعاوى الباطل.
إن جماعات التطرف النسائية لها دورٌ فعالٌ، في الإعداد، وإن أعضاء تلك الجمعيات نساءٌ شاذات متعاطيات للسحاق.
تطرفٌ ينظر إلى مصطلح الأسرة والبيت العائلي نظر ازدراءٍ وتنقص، ونظر رجعية، ومخلفات القرون البائدة.
إن هذا المؤتمر في أنبائه يتحدث عن القهر والعنف الذي تتعرض له المرأة.
بلى لقد حفل التاريخ ولا يزال يحفل بألوانٍ من الأذى وقع على المرأة فقد حملت من القيود والمظالم بسبب التعسف المكروه في التقاليد والعادات الموروثة الجائرة في مختلف الحضارات والنظم.
ولكن ما هو الحل؟ هل الحل ـ كما يريد المؤتمر ـ في تصوير العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صراع واستعباد واستذلال؟ علاقة تنافس غير شريف؟ سبحان الله كل عالمهم صراعٌ في صراع، وحروب شتى في ميادين شتى، البارد منها والساخن، حتى أدخلوها على الرجل وأهل بيته.
أما علموا أن العلاقة عندنا ـ أهل الإسلام ـ علاقة مودة ورحمة وطمأنينة وسكن: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:189]. وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
وإن كنا نستنكر الممارسات الخاطئة من بعض المسلمين وخلطهم بين التقاليد الموروثة المخالفة لآداب الإسلام وأخلاقه وبين تعاليم الإسلام الحقة الصحيحة.
هذه المرأة المقهورة أفلا يكون الخلاص لها إلا بالإباحية الجنسية، والشذوذ الجنسي، والتفسخ الأسري، وتقويض بنيان البيوت الكريمة ومحاربة الزواج المبكر، وفتح أبواب الإجهاض بسبب صحيح وبغير سبب؟؟.
هل خلاصها أن تكون غانيةً في سوق الملذات والشهوات يستمتع بها الرجل ويستبد من طلوع الشمس إلى غروبها ومن غروبها إلى طلوعها؟ في دور الأزياء، وقاعات السينما، وشاشات التلفاز، وصالات المسارح، وشواطئ البحار والأنهار، وبيوت اللهو والدعارة، وأغلفة المجلات والصحف السيارة؟؟ بل أقول ولا أخشى لائماً حتى في ردهات مستشفياتهم وملاحاتهم الجوية وأستحي أن أقول في دور التعليم ومحاضن التربية؟؟.
هل هذا هو سبيل الخلاص من القهر الذي ينشدون؟ والعنف الذي يقولون؟.
إنها البيوت الخربة والمسؤولية الضائعة حين ألقاها الرجل الغربي عن كاهله فوقعت نساؤهم حيث وقعت، إهمالٌ وتنصلٌ من مسؤولية الإنجاب والتربية. فأصبح ذكرهم وأنثاهم لنفسه لا لأمته، للذاته لا لكرامته، فالفساد في مجتمعاتهم يستشري، والخراب إلى ديارهم يسري.
لم يتحدثوا عن المرأة المقهورة المعذبة، المرأة المشردة، المرأة المغتصبة من إفرازات حروب أنشؤوها، وكوارث أثاروها، من الظلم العالمي، والفقر المتدني في شعوب تنتسب إلى الأمم المتحدة. ما حال أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا في فلسطين وكشمير والبوسنة والشيشان وبورما والصومال؟؟.
إن وثائق المؤتمر لا تكاد تعير هذا اهتماماً في مقابل احتفائها واحتضانها للشاذات والبغايا والمومسات. والمصابين والمصابات بكل ألوان أمراض الجنس الفتاكة.
هذا نبأ من أنباء المؤتمر.
ونبأ آخر وهو يتحدث عن التنمية النسوية. إنه حديث كله أو جله عن ما أسماه بالمرأة العاملة!! العمل شيء محمود، ومبتغى مقصود، مادام منضبطاً بضابط الدين والخلق، والله لا يضيع عمل عاملٍ من ذكر أو أنثى بعضهم من بعض.
ولكن المرأة العاملة في عرفهم هي المترددة على بيتها وأطفالها وشؤون منزلها.
لا يقال ذلك إفكاً أو افتياتاً. إنهم يقولون: إن عمل ربة الأسرة داخل بيتها عمل ليس له أجر إنهم يقولون: ذاك عملٌ لا مردود له. إنهم يقولون: هذه خدمة مجانية، وعملٌ غير منتج.
هذه هي نظرتهم وهذا هو مقياسهم وميزانهم. تربية النشء والحفاظ على الكرامة والاستقرار العائلي والنفسي ليس بعمل، وليس له أجر ولا مردود، وغير منتج. هكذا قاس قائسهم وقدَّر مقدِّرُهم. ألا قُتِل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر؟.
إنهم لا يعرفون الرحم ولا التراحم، ولا يعرفون البر ولا الفطرة؟؟ أي خيانة أكبر من خيانة إهمال النشء وإهلاك النسل؟؟.
إنهم يعلمون ـ ولكنهم قومٌ بهت ـ إنهم يعلمون أن السكينة والطمأنينة لا تكون إلا في بيوت مستقرة، في ظلال أسرة حانية بنسائها ورجالها وأطفالها وصباياها. أما الهمل والضياع في الأزقة والأرصفة وزوايا الوجبات السريعة فلا تبني أمة، ولا تجلب طمأنينة. بل إن حياة الطيور في أعشاشها، والسباع في أكنتها خير وأصلح من هذا الهمل الضائع. أي امرأة عاملة تعنون؟ ما قهر الرجل ولا أذل المرأة ولا استعبدهما جميعاً إلا مثل هذه المبادئ المهلكة، والمقاييس الفاسدة، والحضارة المنتنة.
ومن أنباء هذا المؤتمر نبأ الإباحية، ودعوة التحلل والتفسخ وفتح الأبواب مشرعة أمام التفسخ الخلقي، ثم يذهبون يتباكون على أمراض الجنس المتفشية من الإيدز، والنسبة الغالبة في الإصابات بين المراهقين والمراهقات، وهي في النساء أعلى منها في الرجال.
إذا كان هذا هو الإيدز بأرقامه المخيفة ـ وحُق لها أن تخيف وتُرعب ـ إن كنتم مخلصين لماذا لا تطالبون بالقضاء على الأسباب؟؟ وعندكم علم اليقين أن معدل هذه الأمراض يزداد!!!. عجبٌ وعجبٌ يعالجون ظواهر العرض ويدعون أصل المرض؟؟ ينظرون إلى الأثر ويغفلون عن المؤثر؟؟ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [المائدة:103]. ومع هذا ينادون بالسلوك الجنسي المأمون. ولقد جاء في الخبر عن نبينا محمد : ((ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأمراض التي لم تكن في أسلافهم)) [2].
أيها الإخوة، هلا رجعت الأمم المتحدة وراجعت مع خبرائها وباحثيها!! هل ما يعاني منه الغرب من مشكلاتٍ أخلاقية وآثار فساد جسمي وخلقي وتفكك اجتماعي؟ هل هو موجود بالضرورة في بقاع العالم الأخرى. أم أنه نظرٌ إلى الناس بعيون مريضة ومقاييس جائرة؟؟. إن هذه الطروحات والمعالجات هي جالبات الأمراض ومفسدات الأعراض وناشرات الحرام. هكذا تقول الأرقام والإحصائيات والدراسات والملفات.
إننا نقول بكل فخر وبكل ثقة إن أهل الإسلام هم المستهدف الأول من هذه المبادئ الفاجرة لأنهم أكثر المجتمعات محافظةً، فلا وجود يذكر للمشكلات والمصائب التي يئن منها أهل الغرب ومن انزلق في مستنقعهم، لا مكان في بلاد الإسلام يذكر للأمراض الخبيثة التي تجرها الممارسات الشاذة، ولا الحمل الحرام في بنات المسلمين.
ولكنهم لا يحبون الطهر ولا التطهر، القاعدة القرآنية بينة شاهدة: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور:26].
إن الغرب وأبواقه لن يرضوا إلا أن يروا مجتمعاتنا الطاهرة الطيبة وقد انزلقت في وبائه ورجسه.
إنه إصرار من المؤتمرين على فرض النظرة الغربية الملحدة الفاجرة بكل ألوانها وشُعَبِها على جميع الشعوب.
بلى؛ إن هناك إصراراً من الغرب ورجاله ومؤتمراته ولجانه ليصهر الشعوب في عاداته وتقاليده. احتكارٌ وقهرٌ ليجعل هذا السلوك الممقوت مقياس التقدم ورمز الحضارة.
إنهم وبكل جرأة يربطون دعمهم المادي بالالتزام بهذه التوصيات الآثمة والقرارات الهادمة.
إن التوجه إلى فرض أنماط وسلوك على شعوب العالم ودوله يمثل هذه الطرق، وهذا الاستغلال ومن خلال هذه المنظمات والمؤتمرات ما هو إلا استخفاف بالشعوب واحتقار للأمم وتنكر للخصوصيات الثقافية والدينية والتقاليد والأعراف الصحيحة المرعية. وتدخلٌ في حريات الشعوب وخصوصيات الناس ومخالفٌ لما سموه في وثيقة حقوق الإنسان باحترام العقيدة ومنهج التفكير.
إننا نطالب الأمم المتحدة ـ إن كانت مخلصة منصفة ـ أن تكبح هذه النزعات الاستعمارية والهيمنة الغربية التي سببت وتُسبب كلَّ ألوان هذا العناء والشقاء.
أما نحن ـ أهل الإسلام ـ فنأرز إلى إيماننا ونطمئن إلى كتاب ربنا فقد خاطبنا رجالنا ونساءنا في التكاليف والمسؤولية: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:71-72].
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
[1] مؤتمر عُد في بكين في سبتمبر 1995م.
[2] حسن، قطعة من حديث أخرجه ابن ماجه : كتاب الفتن – باب العقوبات ، حديث (4019)، والحاكم (4/540-541) والطبراني في الأوسط (4671)، وقوّاه البوصيري في الزوائد بشواهد. مصباح الزجاجة (4/186)، وذكره الحافظ في الفتح (10/193) وقواه بشواهد. وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (106).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا ربكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
أيها الإخوة: إننا نهيب بالدول الإسلامية وشعوبها، كما نهيب بجمعياتها ومنظماتها الرسمية والشعبية أن تُظهر الحق وتعلنه، وأن تفضح تلك الوثيقة ومن وراءها.
على علماء الإسلام بارك الله فيهم أن يقوموا بمسؤوليتهم نحو توجيه الأمة، والذب عن حياض الدين، وكرامة الإنسانية، وتفضيل الله لبني آدم وكرامته على ربه. عليهم أن يعلنوا رفض كل قرارات أو مقررات تخالف عقيدة الأمة وتفسد أخلاقها وتبارز ربها بالمحاربة، وليرتفع صوت الفضيلة على أصوات دعاة الإباحية الساقطة.
وإن تنظيم الجهود في ذلك وتنسيقها بين هذه المؤسسات والمنظمات وكل الجهات العاملة لمما يجب التنبيه له والعناية به.
أيها الإخوة، إذا كانوا مصرين على حنثهم العظيم فإننا مصرون على الاستمساك بديننا مؤمنون حق اليقين وعينه وعلمه بأن الخلاص الحقيقي والأمن المنشود والحياة الطيبة الطاهرة والسعادة المبتغاة لا تكون إلا في ظل الإسلام عقيدة ومنهجاً، عبادة وسلوكاً، والتحلي الصادق المخلص بالدين والأخلاق في معاملة المرأة والطفل والرجل، وتكثيف توجه الأمة نحو إسلامها من خلال ولاة الأمر فيها وعلمائها، ومراكز البحوث العلمية والمؤسسات التربوية وتطبيق أحكام الشرع التي بها وحدها لا غيرها يسعد المجتمع.
أما اللهاث وراء سراب المشاريع والخطط التي يرتب لها هؤلاء الذين يزينون الفساد، ويختلقون له الأسماء البراقة وأغلفةً من المتعْلُم خادعةً، هذا اللهاث هو الذي سيبقي الأمة مهددةً في دينها وأخلاقها وفي شأنها كله.
وإنكم لمبصرون أنه كلما ارتفعت راية للحق وعلت مناداة مخلصة لتطبيق شرع الله والالتزام به إلا وانبرت أقلام الملاحدة والمنظمات المشبوهة لتتهم هذه الدعوات والتوجهات بالوحشية والهمجية والقسوة والرجعية وإن من أحدثها وأقربها ما يثار حول هذه البلاد الطيبة المباركة بلاد الحرمين الشريفين في تطبيقها لشرع الله والالتزام بحدوده، وضربها على الإجرام وأهله ودعاته بيد الشرع الطاهر المطهر، ولكن قافلة الحق سائرة بإذن الله ولن يوقفها نبحٌ ولا عواءٌ.
(1/867)
الإحسان بالوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
محمد بن علي السعوي
بريدة
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضيلة بر الوالدين 2- تقديم بر الوالدين على الجهاد 3- آداب للابن تجاه والديه
4- البر إنما يكون فيما خالف هواك 5- التحذير من كفران حق الوالدين 6- التحذير من
تقديم أمور الزوجة على الوالدين 7- العقوق ذنب عقوبته في الدنيا قبل الآخرة
8- صور من بر السلف بوالديهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وأحسنوا ان الله يحب المحسنين.
معشر المسلمين: لقد أمر الله تعالى بالإحسان بالوالدين فقال تعالى بعد الأمر بعبادته وحده: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا أياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً [سورة الإسراء:22-24].
والإحسان بالوالدين – أيها المسلمون – يتضمن كل عمل من أعمال البر نحو الوالدين مع البعد عن كل ما يؤذيهما، وذلك من الشكر لهما، قال تعالى: أن اشكر لي ولوالديك [سورة الإسراء:24]. فلتكن أيها المسلم شاكرا لله ولوالديك بأن تطيعهما وتخدمهما، لأنهما بذلا من أجلك النفس والنفيس والصحة والراحة، فعليكم بالإحسان بهما لتكون من البارين.
أيها المسلمون: إن بر الوالدين يعتبر من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، سئل النبي – -: أي العمل أحب إلى الله، وفي رواية: أي العمل افضل، قال: ((الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)). رواه البخاري ومسلم – عليهما رحمة الله -.
فبر الوالدين مقدم حتى على الجهاد في سبيل الله، مما يدل على عظيم حق الوالدين، ليعرف المسلمون فضل والديهم وقدرهما، ولهذا جاء رجل إلى النبي – - يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحي والدك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد)).
وفي رواية لمسلم: ((أقبل رجل إلى النبي – - فقال أبايعك على الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله – عز وجل – قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله – عز وجل – ؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)).
أيها المسلم: إن من الجهاد في الوالدين القيام بخدمتهما والإنفاق عليهما، خاصة إذا كنت قادرا وهما لا يستطيعان، وطاعتهما بحيث تكون رهن إشارتهما فيما يأمرانك به أو ينهيانك عنه، فإنهما أنصح لك من نفسك، فضلا عن رفاقك وجلسائك فلتستمع إلى توجيهات أبويك، ولتطعهما في المعروف وإذا أمرك أحدهما، فقل كما قال إسماعيل لأبيه إبراهيم – عليهما السلام -: يا أبت افعل ما تؤمر [سورة الصافات:102]. وعليك أن تخاطب والديك بلطف وأدب وأن تشاورهما في أعمالك وأمورك، وأن تكثر من الدعاء والاستغفار لهما، وأن لا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر إليهما بغضب أو احتقار، ولا ترفع يدك عليهما عند تكليمهما، ولا تقاطع حديثهما، ولا تجادلهما، ولا تكذب عليهما، ولا تسافر إلا بإذنهما ورضاهما، فإن ذلك من البر والإحسان بهما.
أيها المسلم: ومن البر بوالديك أن تقول لهما قولا كريما، أي حسنا طيبا مصحوبا بالتقدير والاحترام، وأن تخفض لهما جناح الذل من الرحمة في كل قول أو عمل تقوم به نحوهما، سواء أحببته أم كرهته، من غير ضجر ولا جدل ذلك أن كثيرا من الأولاد يظنون أن البر والإحسان بوالديهم هو فيما يوافق رغباتهم وما تهواه نفوسهم، والحق أن البر لا يكون إلا فيما يخالف أهواءهم وميولهم، ولو كان فيما يوافقها فقط لما سمي برا، فإذا علم أبوك أو أمك أيها الولد بسفرك مثلا إلى بلد ما أو مصاحبة رفقة ما، ونهياك عن ذلك أو نهياك عن السهر على اللهو واللعب، وكرهت نهيهما لأنه يخالف هواك، وسافرت واتبعت هواك وخالفت نهيهما، فقد اسأت إليهما ولم تحسن إليهما وعققتهما ولم تبر بهما، وإذا أمرك أبوك أو أمك أو جدك أو جدتك بمعروف أو بفعل خير وكرهت ذلك ولم تنفذه، فقد عصيتهم ولم تحسن إليهم وليس أصعب على الوالدين من أن يرفض الولد لهما طلبا أو يعصي لهما أمراً، إن والديك أيها المسلم هما أرحم الناس بك ومن اعذر الناس لك، فكم تخطئ على والديك وهما يصفحان عنك! يشقيان في هذه الحياة لتسعد، ويتعبان لتستريح يعطيانك من غير منٍّ ولا أذى، وهما يرجوان حياتك، وأنت إن أطعتهما وخدمتهما، فإنك تمن عليهما بذلك وترجوا موتهما.
أيها الشاب المسلم: يا من اشترى له أبوه أو أمه سيارة ولم يشكر الله ولا لوالديه، ألا تخشى عقوبة الله العاجلة؟! لقد تعاون والدك على شراء السيارة لك من أجل راحتك وتحقيق رغبتك، أفيكون الجزاء هو الكفر بالنعمة وعصيان أمر الوالدين وعدم الإلتفات عما ينهيانك عنه من مجالس السوء ومصاحبة الأشرار والسهر بالليل خارج الدار؟! فاتق الله واحذر من التعرض لغضب والديك، ومن ثم يدعوان عليك فينزل الله بك غضبه ويحل عليك نقمته، وأنت أيها الولد يا من تلح على أبويك بشراء سيارة، وأبواك يرفضان طلبك كن سامعا لأبويك فإنهما أدرى بالأحوال منك، ولا يرجوان لك إلا الخير، ولا يسعيان إلا لمصلحتك، فإنهما يخافان عليك ما دمت في هذه السن المبكرة، فاصبر وكن مطيعا لوالديك مجتهدا في أرضائهما ولا تسمع من الأصدقاء حثهم لك على المطالبة.
وأنت أيها الصديق اتق الله في أولاد المسلمين فلا تزجهم في المهالك بل كن ناصحا أمينا وخلاً تقياً، أيها الولد كن سامعا لوالديك، ممتثلا لأمرهما، ومجتنبا لنهيهما، فإذا نهاك أبوك عن الزيادة في الاهتمام بملابسك ومظهرك خوفا عليك فانتهِ، وقل سمعاً وطاعة ولتكن معتدلا في شأنك كله، وقد قيل:
وأطع أباك بكل ما أوصى به إن المطيع أباه لا يتضعضع [1]
بقي أنت أيتها الأم الحنون، احذري من الإلحاح على الأب من أجل شراء السيارة للولد، فكم حصل بسبب تلبية رغبة الولد من المصائب والمعائب ما الله به عليم.
أيها الشاب المسلم: احذر من عقوق أمك والإساءة إليها، فلقد أوصى النبي – - بالأم أكثر مما أوصى بالأب، وذلك لعظم حقها على أولادها، جاء رجل إلى النبي – - فقال من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك؟ قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)) [2].
إن أمك أيها المسلم لها حق عليك عظيم، فعليك أن تحسن صحبتها وأن تبرها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فإن ذلك سبب لسعادتك في الدنيا والآخرة، فبادر قبل فوات الأوان، إن كانت أمك موجودة قبل أن تضيع عليك الفرصة، قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: ((إني لا اعلم عملا أقرب إلى الله من بر الوالدة))، وعن رفاعة بن أياس قال: ((رأيت الحارس والعكلي في جنازة أمه يبكي، فقيل له: تبكي! قال: ولم لا أبكي وقد أغلق عني باب من أبواب الجنة)) [3].
وقال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: تعش العشاء مع أمك تقر به عينها، فهو أحب إلي من حجة تحجها تطوعا [4].
أيها المسلمون: إن بعض الناس يسمع لزوجته، ويلبي مطالبها ويسعى لمرضاتها، وهذا حسن، ولكنه يسيء إلى أمه، فيهملها ولا يسأل عنها، ولا يجلس معها، وربما يسمع ما يقال فيها من قِبَل زوجته وأولاده فيغضب عليها ويتمنى فراقها، وهذا من أعظم العقوق والعياذ بالله، بل الواجب أن يسعى الإنسان إلى إرضاء والدته ولو غضب كل الناس، عليك أيها المسلم أن تمنع أولادك من أذية أمك بقول أو فعل، وألا تقبل بحال من الأحوال شكوى زوجتك نحو أمك، بل عليك بحض زوجتك على إحترام أمك والصبر على ما قد يصدر منها، فإن في ذلك خيرا كثيرا وبرا وفيرا، نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى البر بوالدينا والإحسان بهم، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يغفر لوالدينا وأن يرحمهم يعفو عنهم، إنه هو البر الرحيم.
[1] لا يتضعضع أي لا يذل ولا يفتقر.
[2] رواه البخاري.
[3] بر الوالدين / لابن الجوزي :ص48.
[4] بر الوالدين / لابن الجوزي :ص48.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي حكم بالخسران على العاقين بوالديهم وهم لا يظلمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم ما تبدون وما تكتمون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – - وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعلموا أن البر والعقوق دين ووفاء، فإذا أطعت أيها المسلم والديك أطاعك أولادك، وإذا أكرمت والديك أكرمك أولادك، وبالعكس إذا توليت عن والديك وأعرضت عنهما سلط الله عليك من ذريتك من لا يراعي فيك عهدا ولا يحفظ لك وداً ولا يقيم لك وزناً ولا يعرف لك حق أبوة ولا واجب بنوة جاء في الحديث: ((بروا آباءكم، تبركم أبناؤكم)).
أيها المسلم: احذر عقوبة الله نتيجة لعقوقك، قال النبي – -: ((كل الذنوب يؤخر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)) [1].
وقال النبي – -: ((رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما، ثم لم يدخل الجنة)).
وقال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -: (لا تصحب عاقا لوالديه، فإنه لن يبرك وقد عق والديه). فاحذر أيها المسلم من العقوق وتضييع الحقوق، قال عمر – -: ((إبكاء الوالدين من العقوق)) وقال مجاهد – رحمه الله -: ((لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه، ومن شد النظر إلى والديه لم يبرهما، ومن أدخل عليهما ما يحزنهما فقد عقهما))، وسئل كعب الأحبار عن العقوق فقال: ((إذا أمرك والدك بشيء فلم تطعمهما، فقد عققتهما العقوق كله)) [2].
أيها المسلمون: وإليكم هذه النماذج من أحوال البررة بوالديهم لعلها تكون لنا عظة وأسوة، قال النبي – -: ((دخلت الجنة فسمعت قراءة))، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، فقال النبي – -: ((كذلك البر وكان برا بأمه)) [3]. رحمه الله، قوله كذلك البر: أي مثل تلك الدرجة تنال بسبب البر، وذكر عنه أيضا أنه كان لا يستفهم أمه كلاماً تأمره به، حتى أنه ليسأل من عندها بعد أن يخرج، يقول ماذا أرادت أمي؟.
وكان الفضل بن يحي بارا بأبيه، وكان أبوه لا يتوضأ إلا بماء ساخن، فمنعه السجان حينما كان في السجن من الوقود في ليلة باردة فلما أخذ الأب مضجعه من النوم، قام الفضل إلى إناء من النحاس مملوء بماء فأدناه من المصباح حتى استيقظ والده فتوضأ بالماء الساخن، وروي أن السجان منعه من تسخين الماء بالمصباح، فعمد الفضل إلى الإناء فأخذه في فراشه والصقه بأحشائه حتى أصبح وقد فتر الماء. وكان ابن سيرين – رحمه الله – لا يكلم أمه بكل لسانه إجلالا لها. وقيل لعمر بن ذر – رحمه الله -: كيف كان بر إبنك، قال: ما مشيت نهارا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحا وأنا تحته.
وروى البخاري – رحمه الله – في صحيحه قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار وأنطبقت عليهم الصخرة، فدعوا الله بصالح أعمالهم، ثم فرج عنهم، ومنهم الذي قال: ((اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم فإذا رحت عليهم فحلبت، بدأت بوالدي أسقيهم قبل ولدي وإنه نأى بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رأسيهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن ابدأ بالصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر)) [4]. وعن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة في عهد عثمان بن عفان – - ألف درهم، قال: فعمد أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – إلى نخلة فعرقها فأخرج جمارها فأطعمه أمه، فقالوا: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم، والجمار لا يساوي درهمين، قال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتها [5].
أيها المسلم: يا من مات والداه أو أحدهما وقد قصر ببرهما في حياتهما وندم على ما فرط وخاف من عاقبة العقوق، اعلم أن باب الإحسان بهما مفتوح وبإمكانك أن تدرك شيئا ولو قليلا من البر بعد موتها لعل الله تعالى أن يعفو عنك ويرضى عنك والديك، من ذلك الدعاء لهما بالمغفرة والرحمة والصدقة عنهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام أصدقائهما وإنفاذ عهدهما، فإن هذه الأعمال مما يفرح به الوالدان بعد موتهما لتخفيف ما عليهما من سيئات وزيادة في الحسنات، وقد ورد في بعض الأحاديث: ((إن العبد ليموت والده أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله بارا)) [6].
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
اللهم وفقنا لصلة الرحم وبر الوالدين، وأرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] رواه مسلم.
[2] البر بالوالدين لابن الجوزي.
[3] رواه النسائي.
[4] رواه البخاري :7/70.
[5] صفة الصفوة :1/522.
[6] رواه البيهقي في شعب الايمان.
(1/868)
أحكام صلاة الجمعة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من ترك صلاة الجمعة. 2- سنن الاستعداد لصلاة الجمعة. 3- سنن يوم الجمعة.
4- ساعة الإجابة. 5- خصائص يوم الجمعة. 6- أحكام خاصة بالجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما خصكم به من نعمه العظيمة التي من أعظمها هذا اليوم الذي خص الله به هذه الأمة وهو يوم الجمعة، وقد شرع فيه أداء شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام وهي صلاة الجمعة، وهذه الصلاة لها أحكام منها:
أن الله سبحانه شرع الاجتماع لها بأكبر عدد ممكن، ولا يجوز التخلف عنها إلا من عذر مرض أو سفر أو خوف، وهي فرض عين يأثم من يتخلف عنها، فتلزم كل مسلم ذكر بالغ عاقل مقيم في البلد أو خارجه إذا كان يسمع، وقد ورد الوعيد الشديد على من يتخلف عن صلاة الجمعة فعن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله يقول على أعواد منبره: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم.
وعن أبي الجعد الضمري عن النبي قال: ((من ترك ثلاث جمع متهاونا بها طبع الله على قلبه)) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان بإسناد حسن.
وعن يحي بن أسعد بن زراره قال: قال رسول الله : ((من سمع النداء يوم الجمعة فلم يأتها، ثم سمعه فلم يأتها، ثم سمعه فلم يأتها طبع الله على قلبه، وجعل قلبه قلب منافق)) رواه البيهقي في الشعب بإسناد حسن ومع هذا الوعيد الشديد لمن يتخلف عن صلاة الجمعة نجد أن بعضا من الناس اليوم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله فلم يستجيبوا للنداء في يوم الجمعة وتخلفوا عنها إصرارا وبعدا عن طريق الخير فاستحقوا بذلك الوعيد الشديد المذكور في الحديث ولا تجب الجمعة على مسافر سفر قصير، لأن النبي وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة في السفر مع اجتماع الخلق الكثير، وإذا حضر المسافر الجمعة وصلى مع المصلين أجزأته.
ومن أحكام صلاة الجمعة أنه يستحب التهيؤ لها قبل حضورها بالاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب، وتجميل الهيئة بقص الشارب وتقليم الأظافر، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا كان يوم الجمعة فاغتسل الرجل وغسل رأسه، ثم تطيب من أطيب طيبه، ولبس من صالح ثيابه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يفرق بين اثنين، ثم استمع إلى الإمام غفر له من الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام)) رواه ابن خزيمة بإسناد حسن وفي رواية لمسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا)).
ويستحب المشي إلى صلاة الجمعة وترك الركوب فعن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله يقول: ((من غسّل يوم الجمعة واغتسل وبكّر، وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلْغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وابن خزيمة بإسناد صحيح.
ومعنى غسّل واغتسل هذا التكرار يفيد تأكيد الغسل يوم الجمعة قبل الصلاة والتبكير لها أيضا فانظروا رحمكم الله إلى هذا الأجر العظيم الذي يناله المسلم عندما يمشي مبكرا إلى صلاة الجمعة، ومما ورد أيضا في فضل التبكير إلى صلاة الجمعة حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجه ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة ليستمعوا الذكر)) متفق عليه وفي رواية: ((فإذا خرج الإمام طووا صحفهم يستمعون الذكر)) ففي هذا الحديث والذي قبله الترغيب في التبكير لحضور صلاة الجمعة لما يترتب على التبكير من تحصيل مكان في الصف الأول، والحصول على فضيلة انتظار الصلاة وحصول الاشتغال بذكر الله بصلاة النافلة والتسبيح والتهليل والتكبير والدعاء ومن أهمها قراءة القرآن ولا سيما سورة الكهف فعن أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) رواه النسائي والبيهقي والحاكم ورواه الدارمي في مسنده موقوفا على أبي سعيد ولفظه: ((من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق)) وإسنادهما صحيح، وهذه الفضائل التي ذكرنا تفوت كلها على المتأخر. ومع الأسف في هذا الزمان قل الاهتمام بالتبكير لحضور صلاة الجمعة، فالكثير لا يأتون إليها إلا عند دخول الإمام أو عند الإقامة، يحرمون أنفسهم من هذه الأمور العظيمة والفضائل المتعددة التي منها الدعاء كما روى البخاري ومسلم أن رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال: ((فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه)) وفي رواية لمسلم وأبي داود قال عليه الصلاة والسلام يحدد وقتها: ((هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضي الصلاة)) وإلى هذا القول ذهب طوائف من أهل العلم.
واعلموا رحمكم الله أنه يجب على الحاضرين الإنصات والاستماع للخطبة، ويحرم الكلام وقت إلقائها وقد ورد النهي عن ذلك، فعن أبي هريرة أن النبي قال: ((إذا تكلمت يوم الجمعة فقد لغوت وألغيت)) يعني والإمام يخطب. رواه ابن خزيمة في صحيحه بإسناد صحيح، وفي رواية للبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت)) وفي رواية للطبراني بإسناد صحيح من حديث علي : ((ومن قال يوم الجمعة لصاحبه أنصت فقد لغا ومن لغا فليس له في جمعته شيء)) ، وفي هذه الأحاديث دلالة على تحريم الكلام والإمام يخطب وفيه دليل على إباحة الكلام بين الخطبتين لأن المنع هو حال خطبة الإمام وفيه دلالة على تحريم تسكيت المتكلم أثناء الخطبة فلو رأى أحد رجلاً يتكلم أثناء الخطبة فلا يجوز له تسكيته بالكلام فلو قال له: اسمع الخطبة أو: أنصت. فقد لغى حيث أتى بكلام في حالٍ هو مأمور فيها بالإنصات والاستماع مع أن ذلك في الأصل أمر بمعروف ونهي عن منكر مما يدل على أن غير ذلك من الكلام ممنوعٌ من باب أولى حال الخطبة وإذا كان لابد من تسكيت المتكلم فليكن بالإشارة فهي أخف وأبعد عن الإنشغال بالكلام والمحاورة ومعنى: (فقد لغوت): أي حرمت من الأجر ومعنى: (ليس في جمعته شيء): أي لا ينال أجر الجمعة وليس معناه أن جمعته لا تصح بل صارت جمعته ظهراً كما صح عند ابن خزيمة: ((ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً)). وأجر الجمعة كما هو معلوم أكثر من أجر بقية الصلوات.
واختلف العلماء في رد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب والصحيح أن من كان يسمعُ الخطبة فلا يجوز له رد السلام ولا تشميت العاطس بخلاف من لا يسمع الخطبة فإنه يجوز له ذلك والله أعلم.
وأما أصناف الناس الذين يحضرون الجمع فهم كما قال عليه الصلاة والسلام: ((يحضر الجمعة ثلاثة نفر: فرجلٌ حضرها بلغو فذلك حظّه منها، ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يخطّ رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله يقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها )) رواه أبو داود وابن خزيمة بإسناد حسن.
ويحرم على الداخل للمسجد أن يتخطى رقاب الناس فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجلس فقد آذيت وآنيت)) رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح، ومعنى: (آنيت): أي أخرت المجيء و:(آذيت) بتخطيك الرقاب، ولا سيما إذا كان التخطي وقت الخطبة لأن فيه أذية للناس وإشغالا لهم عن استماع الخطبة فتكون المضرة به واسعة، وأيضاً لا يجوز مسّ الحصا أي تسويته بالأرض بيده أو اللعب بيده على فراش المسجد لأن هذا من العبث الذي يشغل عن سماع الخطبة ويذهب الخشوع فقد جاء في الحديث الصحيح في سنن أبي داود وابن ماجه: ((من مس الحصا فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له)).
ومن دخل والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين خفيفتين لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا دخل أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين)) متفق عليه، زاد مسلم: ((وليتجوز فيهما)) أي لتكن خفيفة.
أيها المسلمون: يوم الجمعة يوم مبارك شاهد ومشهود فمن حضره يشهد له ومن تخلف بغير عذر يشهد عليه، والملائكة الذين على الأبواب بعد ذلك شهود وقد فضله الله على سائر الأيام كما فضل الشمس على سائر النجوم وجعله للمسلمين عيداً لأسبوعهم كما جعل الأحد للنصارى والسبت لليهود ولهذا نُهي المسلمون أن يفردوه بصوم لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده )) ، وفي رواية: ((لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم أحدكم)) متفق عليه وقد أخذ بعض الفقهاء بظاهر الحديث وحملوا النهي على التحريم وبعضهم على الكراهة وما ذاك كما ذكرنا إلا لأنه عيد الأسبوع.
ومما ورد في فضل يوم الجمعة ما رواه الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((عرضت الجمعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه بها جبرائيل عليه السلام في كفه كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، فقال: ما هذه يا جبرائيل؟ قال: هذه الجمعة، يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك ولكم فيها خير، تكون أنت الأول وتكون اليهود والنصارى من بعدك وفيها ساعة لا يدعو أحد ربه فيها بخير هو له قسم إلا أعطاه أو يتعوذ من شر إلا أعطاه أو يتعوذ من شر إلا دفع عنه ما هو أعظم منه ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد)) وفي رواية: ((ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة هدانا الله له، وضل الناس عنه، فالناس لنا فيه تبع فهو لنا، ولليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، إن فيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه)).
وعن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي)) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بإسناد صحيح.
ولهذا يستحب أن يكثر المسلم من الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة الجمعة وفي يومها للحديث الآنف الذكر وغيرها من الأدلة فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا دائماً وأبداً للقيام بحق يوم الجمعة حق القيام وأن يوفقنا فيه دائماً لساعة الإجابة ونحن نسأله وندعوه إنه ولي ذلك والقادر عليه: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة...
فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على الجمع والجماعات لتكونوا من المفلحين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل يوم الجمعة من أشرف الأيام، وجعله عيد الأسبوع لأهل الإسلام، وأمرنا فيه بذكره تعالى وكثرة الصلاة والسلام على سيد الأنام وبدر التمام وأشرف ناطق بأصدق الكلام كلام الله العزيز العليم، نحمدك اللهم على نعمة الإسلام وهي النعمة الكبرى ونشهد أن لا إله الا أنت رب الشعرى ولك الأمر في الأولى والأخرى ونشهد أن محمداً عبدك ورسولك الذي قلت له: فذكر إن نفعت الذكرى اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين وجميع الصحابة والتابعين والمتمسكين بشرائع الإسلام والقائمين بشعائر الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن هناك أحكاما فقهية لصلاة الجمعة ومنها:
أن من أدرك منها ركعة مع الإمام أتمها جمعة أي يأتي بركعة واحدة أخرى وإن أدرك أقل من ركعة بأن جاء ودخل مع الإمام بعد أن يرفع الإمام رأسه من الركعة الثانية، فإنه يتمها ظهراً لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة)).
ومن أحكام صلاة الجمعة أنها لا راتبة لها قبلها، لكن من دخل المسجد لصلاة الجمعة وكان مبكرا فإنه يصلي من النوافل ما تيسر له إلى أن يدخل الإمام للخطبة، وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر، وأما سنة الجمعة الراتبة فبعدها أي بعد الصلاة لا قبل الصلاة كما ذكرنا لما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا صلى أحدكم الجمعة دخل إلى منزله فصلى ركعتين)) سنتها، فمن صلى راتبة الجمعة في المسجد صلاها أربعا ومن صلاها في بيته صلاها ركعتين، جمعا بين الأحاديث.
ومن الأحكام أنه يحرم البيع والشراء بعد نداء الجمعة الثاني وما ذاك إلا لأنه يفوت الواجب ويشغل عنه فدل ذلك على أن كل أمرٍ وإن كان مباحاً في الأصل إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب فإنه لا يجوز فعله في تلك الحال، كالبيع كما ذكرنا وبالذات بعد الأذان الثاني وخطبة الإمام فإن من الملاحظ أن بعض الباعة الذين يبيعون خارج المسجد أنهم يبيعون في هذا الوقت المنهي عن البيع فيه فبيعهم هذا حرام ويأثمون لذلك فلينتبهوا لهذا الحكم وليحرصوا على دخول المسجد وسماع الخطبة لأن الله ذم من لم يحضرها وانشغل بتجارته وينبغي للعبد أن يقبل على طاعة الله وقت دواعي النفس لحضور اللهو والتجارات والشهوات، وأن يتذكر ما عند الله من الخيرات والأجر العظيم والثواب الجزيل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، هذا ما تيسر لي جمعه عن فضائل الجمعة وأرجو أن أكون قد وفقت وحسبي من القلادة ما أحاط بالعنق والله أسأل أن يمن علينا بطاعته واجتناب معصيته.
(1/869)
الجهاد1
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
حياة المسلم وكيف تكون، ومنزلة الجهاد عنده - خطورة نسيان الجهاد وعدم التفكير فيه وكونه من شعب النفاق، ومعنى تحديث النفس بالغزو والجهاد - عاقبة ترك الجهادوالانشغال بالدنيا
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فالشهادة في سبيل الله هدف الحياة حياة المسلم يجب أن تكون كلها توحيد وعبادة وجهاد فالجهاد في سبيل الله دعامة كبرى من دعائم الإسلام بل هي ذروة سنام الإسلام والجهاد في سبيل الله أيضا حياة كاملة يجب أن يحياها المسلم أي يجب على كل مسلم أن يجعل من برنامج حياته نصيبا كبيرا للجهاد فإذا غفل عن ذك ونسي الجهاد واستكان إلى متاع الحياة الدنيا وليس من حياته أي نصيب للجهاد مات على شعبة من النفاق فالمنافقون هم الذين كانوا يتخلفون عن الجهاد ولم يكن يتخلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتخلف عن الجهاد إلا عاجز أو منافق لذلك جعل الله الجهاد علامة فارقة بين المؤمنين والمنافقين قال تعالى : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعانكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما بما يكتمون [آل عمران:167].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يغزُ ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق)) [1] أخرجه مسلم. والمراد بالغزو في هذا الحديث القتال في سبيل الله فالمؤمن إذن بين حالين إما أن يكون غازيا بنفسه مقاتلا في سبيل الله بنفسه أو يكون محدثا نفسه بذلك أما إذا كانت الحالة الثالثة وكان غافلا عن الغزو والقتال لا يقاتل ولا يحدث نفسه بذلك فهو على شعبه من نفاق وليس المراد بحديث النفس في هذا الحديث الخواطر والأماني فالخواطر والأماني لا اعتبار لها ولا قيمة لها بالإيمان: ليس بأمانيكم وأماني أهل الكتاب [النساء:123] ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. فحديث النفس المقصود المراد به في هذا الحديث النية الصادقة والعزم الأكيد على الجهاد بأن يهيئ المؤمن نفسه لذلك بأن يكون على استعداد للجهاد يصبغ حياته بصبغة الاستعداد للجهاد فالمؤمن المجاهد جندي في حالة استعداد دائم واستنفار مستمر ولذلك هو يتبلغ من الحياة بالقليل فإن تاقت نفسه إلى شيء من طيباتها أخذ بالقصد والاعتدال كيف يجاهد كيف يجاهد من كان أثير الترف وحياة البذخ والإسراف. الأمة التي تعيش في قصور سقوفها من ذهب ومعارجها من فضة ورياشها من حرير. الأمة التي عودت نفسها على حياة البذخ الأوربي الإفرنجي لا تصلح للجهاد أبدا لا تفكر في الجهاد أبدا لن تحدث نفسها بالجهاد أبدا بل ربما كانت حربا على الجهاد والمجاهدين يضيق صدرها بذكر الجهاد والمجاهدين ربما كانت حربا على الجهاد والمجاهدين. المؤمن المجاهد يصبغ حياته بصبغة الاستعداد للجهاد ولذلك يكتفي من الحياة الدنيا بالقليل لأنه جندي في حالة استنفار مستمر أما المؤمن الغازي فهو الذي بذل نفسه في ميدان القتال وباشر القتال في سبيل الله بنفسه وقدم دمه طاهرا ذكيا في ميدان الجهاد في سبيل الله ومثله الذي جهز غازيا في سبيل الله من ماله ويلحقهما في الأجر والثواب المؤمن الذي خلف الغزاة في أهلهم بخير أي كان سندا لهم من وراء الجبهة فهذا مرفق من أهم وأخطر المرافق في الجهاد. عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يغزُ ولم يجهز غازيا أو يخلف غازيا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)) [2] أي أصابه بمصيبة داهية أخرجه أبو داود.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)) [3] فقد يكون للسان ووسائل البيان ووسائل الإعلام أثر أشد من أثر السلاح في كثير من المواقع لذلك قال صلى الله عليه وسلم لشاعره حسان رضي الله عنه: ((اهجُ المشركين وروح القدس معك فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من نضح النبل)) [4] أي من وقع السهام من وقع النبال فوسائل اللسان والبيان قد تكون في بعض الميادين والمجالات أشد أسلحة الجهاد أثرا ونكالا بالعدو. الإسلام دين الجهاد والقتال وبعث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وجعل رزقه تحت ظل رمحه والمؤمن المسلم الذي لا يجاهد ولا يحدث نفسه بالجهاد على شعبة من نفاق ومع ذلك كيف تركنا الجهاد وكيف غفلنا عن الاستعداد للجهاد والمسلمون اليوم أكثرهم لا يجاهدون ولا يحدثون أنفسهم بالجهاد بل بعضهم حرب على الجهاد وأهله ولذلك ضرب الذل والصغار عليهم وبلغوا درجة شديدة من التدهور والانحطاط في جميع المجالات السياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية نحن المسلمون اليوم واقعون تحت قهر أعدائنا شعرنا بذلك أم لم نشعر فسلطان أعدائنا السياسي يتحكم فينا بمختلف الوسائل وفكرهم وإعلامهم وإسلوب حياتهم سيطر علينا في حياتنا وفي مجتمعاتنا وقبلتنا الأولى داستها أقدام القردة والخنازير ونحن نتفرج لا نحير جوابا ولا يتحرك فينا عرق فأي ذل وأي صغار هذا الذي نعيش فيه إنه تحقيق للوعيد النبوي الذي أنذر به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته إن هي تركت الجهاد فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم)) [5] وعن عبد الله بن عمر أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((إذا تبايعتم بالعينة - والعينة نوع من أنواع البيوع الربوية - وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) [6] أخرجه أبو داود هذا هو واقعنا اليوم كل همنا في حياتنا أن تكبر التجارة والجري لاهثين وراء متاع الحياة الدنيا وأغلب بيوعنا وقعت ضحية المعاملات الربوية وقعنا ضحية لشبكة الربا العالمية المتحكمة كالأخطبوط في حياة البشر وتركنا الجهاد لا نجاهد ولا نحدث أنفسنا بالجهاد ولم نهيئ أنفسنا ولا أبناءنا للجهاد ولذلك فهذا هو الذل الذي ضرب علينا ولن يرفع أبدا حتى نرجع إلى ديننا دين الجهاد الدين الذي بعث نبيه بين يدي الساعة بالسيف وجعل سيفه تحت ظل رمحه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير [ التوبة:38]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم :(ك: الإمارة.رقم (191).
[2] أخرجه أبو داواود :ك:الجهاد رقم (2503) وابن ماجه :في أبواب الجهاد رقم (2762).
[3] أخرجه أبو داواود :ك:الجاهد رقم (1504).
أحمد (124،3) والثاني :ك:الجهد رقم (3096).
[4] أخرجه مسلم :ك:فضائل الصحابة رقم (24990). والنسائي في الكبرى :المناقبرقم (8294)
[5] أحمد (2/92).
[6] أبو داود : ك: البيوع والإجارات رقم (3462).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصِ الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا بن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1].اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الحنفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (08) عنأبي هريره رضي لله عنه
(1/870)
علامات الساعة الكبرى ونزول عيسى بن مريم عليه السلام
الإيمان
أشراط الساعة
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ميلاد المسيح المُعجِز 2- رفع المسيح إلى السماء 3- نزول المسيح في آخر الزمان
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتي في الله:
في رحاب الدار الآخرة
هذا هو لقاءنا الخامس مع السلسة الكريمة ولا زلنا مع حديث حذيفة بن أسيد الغفاري:
اطلع علينا النبي ونحن نتذاكر فقال النبي : ((ما تذاكرون؟)) فقالوا: نذكر الساعة فقال: ((إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر، الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم)) ( [1] ).
وها نحن الآن على موعد مع إحدى هذه العلامات الكبرى ألا وهي نزول عيسى عليه السلام.
أيها الحبيب الكريم: أعرني قلبك وسمعك وعقلك فإن الموضوع من الأهمية بمكان، وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعا من بين أيدينا فسوف أركز الموضوع في العناصر التالية:
أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز.
ثانياً: بل رفعه الله إليه.
ثالثاً: نزول عيسى من السماء إلى الأرض.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز
أخي في الله لن أجد لك بداية أرحب ولا أجمل أبدأ بها حديثي معك الآن أجل من هذه الكلمات الجميلة في قوله تعالى: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ آل عمران:35 -37 ].
وقبل أن نتجول سويا في بستان هذه الكلمات الرقيقة الرقراقة أقول لك إنه لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل منذ أن خلق الله آدم من تراب ينسب نبي لأُمِه.
مريم هي الأنثى الوحيدة في الوجود كله التي اختصها الله من بين النساء قاطبةً ليودعها سره الأكبر في أصفى حمل وأعجز ميلاد، فمريم هي الفتاة العذراء النقية التقية التي اصطفاها الله جل في علاه من بين نساء العالمين فنفخ فيها من روحه ومنحها هذه المكانة الرقيقة الرقراقة من بين أمهات الدنيا جمعاء.
فأمها حنة بنت فاقود وصلت إلى سن اليأس، فتمنت على الله أن يرزقها الولد، والله على كل شىء قدير فاستجاب الله دعاءها وابتهالها إليه، فتحرك الحمل في أحشائها بقدرة من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السموات بقدرة من يقول للشيء كن فيكون. فلما تحرك الحمل في أحشائها أحبت أن تشكر الله على هذه النعمة فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم.
نَذَرَتْ ما في بطنها لله جل وعلا "أي لخدمة بيت المقدس"، جزاء على ما رزقها هذه النعمة. بعد ما وصلت لهذه السن.. وبعد مرور أشهر الحمل وضعت بنتا جميلة رقيقة طيبة، فنظرت إليها بحزن وقالت رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
فقالت حنة: رباه إني وضعتها أنثى وأنت أعلم مني بما وضعت أي: أنت الذي رزقتني وقدرت لي ذلك، فليس الذكر كالأنثى في القوة والجلد وخدمة الأقصى وإني يا رب أعيذها بك من شر الشيطان وذريتها - وهو ولدها عيسى بن مريم فاستجاب الله لها.
قال رسول الله : ((ما من مولود يولد، إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه)) ( [2] ).
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أي إنه تقبل نذر أمها حنة وجعل شكلها مليحاً وأعطى لها منظراً بهيجاً ويسر لها أسباب القبول وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين فلهذا قال: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا وما ذلك إلا لأنها كانت يتيمة ويقال أنها كانت سَنَةَ جَدْبٍ فكفلها زوج خالتها لكي تكون تحت رعاية خالتها وحنانها ولا منافاة بين القولين، وقيل أنه زوج أختها وقد ذكر القرآن لنا أيضا وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ آل عمران: 44 ].
أي ما كنت معهم يا محمد لتخبرهم عن معاينة ما جرى، بل أطلعك الله عليه كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم لما اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفل هذه الطاهرة التقية الورعة ليكن له الأجر، فحين خرجت بها حنة إلى بني الكاهن بن هارون أخى موسى عليهما السلام. وقالت هي نذيرة، ولا يدخل المسجد حائض، ولكني نذرتها، وأنا لا أردها إلى بيتي. فقال زكريا: ادفعوها لي فخالتها تحتي، فقالوا: بذلك تطيب أنفسنا لأنها ابنة إمامنا. وقالوا: نقترع وبالفعل اقترعوا ،فما هي القرعة؟!
أن يرموا الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة في نهر الأردن وقالوا أي قلم يثبت ولا يجري مع التيار بل يعاكسه هو كافلها وبالفعل حدث ووقع ذلك على قلم واحد ،... ترى من صاحب هذا القلم؟ !
إنه زكريا عليه السلام... وذلك لحكمة يعلمها الله... ويعلمها لنا ألا وهي لتتعلم مريم وتقتبس من النبي الزكي زكريا عليه السلام العلم والفقه وكان إمامهم وكبيرهم وسيدهم وعالمهم ونبيهم حين ذاك.
قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا
تعجب زكريا من هذا الطهر والزهد والعفاف والتوحيد الذي وصلت به مريم البتول إلى مكانة عالية عند الله عز وجل فكلما دخل عليها وجد عندها رزقا.
ثم قال لها زكريا عليه السلام: يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا أي من أين لك هذا الرزق؟!
قالت البتول الطاهرة: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ أي ذلك لا دخل للمخلوق فيه بل هو من الخالق، وهو يرزق من يريد بغير حدود تحده.
وهكذا أيها الأحبة الكرام
اصطفى الله مريم في بستان الورع بين أزهار التقى والنقاء والعفاف والصلاح، هذه هي الزهرة والنبتة الطيبة، نشأت مريم في هذا المكان وهذا الجو الإيماني الطاهر العفيف فاصطفاها الله وبشرها بهذه البشارة التي انفردت بها دون نساء العالمين ويالها من بشارة يالها من خصوصية اختص الله بها الطاهرة..
إيه يا مريم.... إيه بماذا اختصك ربك؟ !
يقول الملك: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:42-43].
يا لها من مكانة آثرك بها الله دون نساء الدنيا يا مريم!
فلم تتوان مريم عن عبادة الرب فظلت البتول ساجدة وراكعة حتى أراد الله عز وجل أن يمنحها تلك المكانة الرفيعة من بين أمهات الدنيا
قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:16-21].
وفي يوم من الأيام خلت مريم لنفسها لقضاء شأن من شئون العذراء الخاصة... وفجأه انحبس صوتها وشخص بصرها ،إنها مفاجأة مذهلة تأخذ بالعقول بل وتصدع الأفئدة، بشر سوي في خلوة العذراء البتول الطاهرة. وسرعان ما استغاثت برب الأرض والسموات ولجأت إليه بشدة وقالت: أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا.
انظر إلى الفطنة والذكاء والورع! لم تقل أعوذ بالجبار منك ولم تقل أعوذ بالغفار منك وإنما استجاشت الرحمة في قلبه بذكر الرحمن فقالت أعوذ بالرحمن منك، أي ارحم ضعفي! ارحم أنوثتي! ارحم خلوتي!!
ولكن قدر الله لها مفاجأة أعظم. أن أنطق هذا البشر السوي في خلوة البتول الطاهرة ليقول لها: لا تخافي ولا تحزني فأنا رسول ربك إليك لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا قالت: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا لم أكنْ أبداً صاحبة فاحشة، فهي لم تتصور مطلقا وسيلة للإنجاب غير وسيلة التقاء الرجل بالمرأة وهي لم تتزوج بعد، ولم تفكر أيضا ألبته في الرذيلة، وهنا يأتي الرد القاطع الحاسم فيقول الملك والرسول الكريم قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا.
فهنا يقول المولى وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِلْعَالَمِينَ [ الأنبياء:91 ].
فهنا حدث أمر غير مألوف ما اعتادت عليه الخليقة فَنَفَخنَا فِيهَا مّن رُوحِنَا لتنجب عيسى عليه السلام، أي نفخ الملك جبريل في أعلى القميص بأمر من الله عز وجل وهذا ليبين للخلق طلاقة قدرة الخالق، إنها قدرة لا تحدها حدود، إن من يحاول أن يصل بعقله القاصر إلى حدود قدرة الله كمن يحاول أن يكلف نملة أن تنقل جبلاً من مكان إلى آخر وما هي بناقلته إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس:82 ].
فلا تفكر بعقلك القاصر البتة لتصل إلى منتهى قدرة الملك.
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ آل عمران:59 ].
فالله لا يعجزه شىء في الأرض ولا في السماوات، فمن الذي خلق السماء بغير عمد ترونها؟!.
من الذي خلق الأرض وشق فيها الأنهار والبحار وزينها بالأشجار؟
من الذي خلق سنبلةَ القمح وغلفها بهذه الأغلفة الحصينة المكينة؟
وجعل فوق كل حبة شوكة؟؟ ولم جعلها هكذا؟ !
لأن الله قدر أن تكون هذه الحبة قوتاً لك أيها الإنسان دون الطيور أو غير ذلك !!
من الذي خلق كوز الذرة ورصَّ على قولحته هذه الحبات اللؤلؤية البيضاء بهذا الجمال والإبداع؟!!
ومن الذي خلق الإنسان بهذا والجمال والإبداع؟!
هو الله.... !!! هو الله... !!! هو الله...!!!
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر:22-23].
قل للطبيب تخطفته يد الردى ياشافي الأمراض من أرداك ؟
قل للمريض نجى وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب من عافاك؟
قل للصحيح مات لا من علة من يا صحيح بالمنايا دهاك ؟
بل سل الأعمى خطاً وسط الزحام بلا صدام من ياأعمى يقود خطاك؟
بل سل البصير كان يحذر حفرةً فهوى بها من ذا الذي أهواك ؟
وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ولا مرعى من ذا الذي يرعاك ؟
وسل الوليد أجهش بالبكاء لدى الولادة من الذي أبكاك ؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فسله من يا ثعبان بالسموم حشاك ؟
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك ؟
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك ؟
إنه الله.. إنه الله.
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا
انتهى الأمر وقدره الله عز وجل.
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ
هو الذي خلق الخلق.. خلق آدم يوم خلقه بلا أب أو أم!! وكذلك خلق عيسى من أم بلا أب!! ليكون للناس دليلا على طلاقة قدرة الخالق.
قال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12].
ولقد ظهر الحمل.. والراجح من أقوال المفسرين أن الحمل بعيسى كان حملا عاديا تسعة أشهر وأنه لا ريب أن الله جلا وعلا كان قادراً ولا زال سبحانه على أن تحمل مريم بعيسى وتضعه في لحظة واحدة، ولكن أراد الله بها أن يختبر مدى صبرها ومدى تحملها على هذا الابتلاء العظيم التي لا تستطيع أن تقدر عليه إلا مريم ابنة عمران العذراء البتول، فهذا من تمام الابتلاء.
وبدأت بوادر الحمل تظهر على الطاهرة المطهرة، وهنا نظر يوسف النجار - ذلك الرجل الذي كان يخدم بيت المقدس - إلى بطن الطاهرة تعلو يوما بعد يوم ويتعجب ولكن كثيراً ما كان يدفع أي خالجة تمر بذهنه لعلمه بطهر البتول، ولكن ها هي جبلية البشرية قد غلبته، وما استطاع أن يكتم هذه الخوالج عن لبه فقال لها: يا مريم إني سائلك عن شيء ولكن لا تعجلي علي، فقالت الطاهرة العذراء: سل ما شئت يا يوسف وقل قولاً جميلاً. فقال لها يوسف: هل ينبت زرع بلا بذر؟! وهل ينبت شجر بلا غيث أو مطر؟ ! وهل يكون ولد بغير أب؟ !!! فقالت مريم: نعم يا يوسف هو كذلك. قال: وكيف يكون ذلك يا مريم؟!! قالت: ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم أنبته من غير بذر!! وأنبت الشجر يوم خلقه بغير غيث أو مطر، وخلق آدم يوم خلقه بغير أب أو أم!!قال يوسف: أعلم أن الله على كل شيء قدير! الله أكبر..
قال الله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَموتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّاُ [مريم:22- 33].
هكذا قال عيسى الذي ما زال في المهد لا حول له ولا قوة له إلا بالله أنا عبد الله، وأعطاني الإنجيل وجعلني نبياً، وأمرني بالصلاة، والزكاة ما دامت بي حياة، ومحسناً إلى العذراء أمي، ولم يجعلني من الجبارين في الأرض ولا من الأشقياء.
ويكمل لنا القرآن قصة عيسى عليه السلام ويقول : ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:34 - 36].
تعالى الله عما قاله النصارى فالكمال صفة من صفاته! أيحق له أن يتخذ ولداً؟!
ولِمَ يتخذ ولد وهو الغني عن خلقه ولن تغنى الخليقة عنه؟!!
فالله هو الغني عن الولد والصاحب والزوج.
فيا عباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه
إذا مات الإلهُ بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله ؟!
ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطن قد حواه
أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيض غزاه
وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه
ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله ؟!
تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه
وصدق الله إذا يقول قل هو الله أحد يا من تشركون بالله... فالله لا ند له.. ولا كفء له.. ولا شبيه له.. ولا زوج له... ولا ولد له ولا والد له لَيسَ كَمثْلِه شَيءٌ وَهُو السَّمِيعُ البَصِير [الشورى:11].
( [1] ) رواه مسلم رقم (2901) في الفتن ، باب مايكون من فتوحات المسلمين قبل الدجال ، وأبو داود رقم (4311) في الملاحم ، باب أمارات الساعة ، والترمذى رقم (2184) في الفتن ، باب ماجاء في الخسف.
( [2] ) رواه أحمد رقم (7182) ومسلم رقم (2366) في الفضائل ، باب فضل عيسى بن مريم وهو في صحيح الجامع رقم (5785).
_________
الخطبة الثانية
_________
أحبتي في الله: أرى أنه من الجمال أن أختم هذا العنصر بهذا الحوار المبارك الجميل الذي برىء به ربنا ساحة نبيه عيسى عليه السلام.
قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:116 - 118].
ثانياً: بل رفعه الله إليه
زعم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة أنهم قتلوا عيسى بن مريم وصلبوه، وزعم النصارى بجهل وغباء أن عيسى صلب وقتل ودفن وخرج من قبره بعد ثلاثة أيام وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الرب أبيه، وهو ينتظر إلى يوم الخلاص ليقضى بين الأحياء والأموات!! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا
فبين الله الحق وكذب اليهود والنصارى فقال سبحانه وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:157 - 159].
قال أهل التفسير: إن الله عز وجل لما أراد أن يرفع نبيه عيسى إلى السماء بعد ما انطلق اليهود لقتله ألقى الله شبه عيسى على يهوذا الأسخريوطي الخائن الذي أخذ اليهود ليدلهم على مكان عيسى فابتلاه الله فألقى عليه شبه عيسى فأخذه اليهود فقتلوه وصلبوه وهذا قول.
والقول الآخر: ثبت عن ابن عباس بسند صحيح كما روى ابن أبي حاتم والنسائي بسند صححه الحافظ ابن كثير في تفسيره لسورة النساء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لما أراد الله أن يرفع عيسى خرج إلى بيت فيه إثنى عشر رجلا من الحوارين فقال: نبي الله عيسى: إن منكم من سيكفر بي بعد أن آمن بي، ثم قال لهم: أيكم يقبل أن يلقى عليه شبهى ليقتل مكاني ليكون معي في درجتي في الجنة فقام شاب أحدثهم سناً (أصغر الجالسين) فقال له: أنا، فقال: اجلس، فجلس، ثم أعاد عيسى القول مرة ثانية فقام نفس الشاب فقال له: اجلس فجلس، ثم أعاد عيسى قوله للمرة الثالثة فقام نفس الشاب فقال عيسى هو أنت فألقى الله على هذا الشاب شبه عيسى ورفع الله عيسى إلى السماء".
وجاء الطلب من اليهود أي الذين يطلبون عيسى لقتله فأخذوا هذا الشاب فقتلوه فصلبوه فكفر بعض أتباع عيسى ممن آمنوا به كما ذكر لهم قبل قليل.
ثم ينزل الله عز وجل عيسى بعد ذلك لحكم عديدة خذوا منها:
أن الله تبارك وتعالى سينزل عيسى عليه السلام ليكذب اليهود الذين زعموا أنهم قتلوه، وليكذب النصارى الذين جهلوا هذه الحقيقة، وليبين للناس جميعا أن محمدا وأن الموحدين معه من أمته أولى الناس بعيسى عليه السلام لأنه سيحكم العالم كله بكتاب الله وبشريعة محمد رسول الله.
سينزل عيسى ليموت في الأرض فما قولك إذاً في قول الله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران: 55].
والجواب كما قال جمهور المفسرين :
أن الوفاة في الآية معناها الوفاة الصغرى وهي النوم كما في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60].
وكما في قوله: اللَّهُ يَتَوفَّىالأنْفسَ حِينَ مَوتِهَا [الزمر:42].
أي في منامها كما في قول المصطفى إذا استيقظ من منامه: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)) ( [1] ).
إنى متوفيك أى ألقى الله عليه سِنَةً من النوم، وهذه هي الوفاة الصغرى باتفاق ثم رفعه الله عز وجل ثم ينزله الله تبارك وتعالى في الوقت الذي يشاء.
ثالثاً: نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض من السماء.
بين الله جل وعلا أنه رفع عيسى إليه إلى يوم الوقت المعلوم الذي سينزل فيه إلى الأرض مرة أخرى ليكون علامة كبرى من العلامات الدالة على قيام الساعة فقال في قرآنه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرض يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: 57-61].
انتبه جيدا ففي قراءة ابن عباس ومجاهد وإنه لعلم للساعة أي نزول عيسى أمارة وعلامة على قيام الساعة.
بل وروى ابن جرير بسند صحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وَإِنَّهُ لَعلمُ لِلسَاعَةِ أى خروج عيسى عليه السلام، فإن نزل فهذه علامة كبرى تدل على قرب قيام الساعة، وقال الله تعالى في الآية التي ذكرت آنفا وَإِنَّ مِّن أَهلِ الكِتَابِ إِلا لَيُؤمِنَنَّ بِهِ قَبلَ مَوتِهِ أى قبل موت عيسى عليه السلام.
وقد بينت السنة الصحيحة المتواترة نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض من السماء.
ففى الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)) ( [2] ).
وانظر ماذا قال الحبيب في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله عليه وسلم: ((ليس نبى بينى وبين عيسى بن مريم وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، إنه رجل مربوع ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالسمين ولا بالنحيف مائل إلى الحمرة والبياض كأن رأسه يقطر ماء من غير بلل)) ( [3] ).
وفى رواية النواس بن سمعان في صحيح مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل عيسى عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين)) في الرواية الأولى التي ذكرت آنفا ((بين ممصرتين)) أي ثوبين مصبوغين بصفرة خفيفة يسيرة ((واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفع رأسه تحدر منه جمان كحبات اللؤلؤ)). يتوجه نبى الله عيسى من دمشق إلى بيت المقدس وقد أقيمت الصلاة فإذا رأى الإمام الفطن الذكى اللبق نبى الله عيسى عرفه وتقهقر للخلف ليتقدم نبى الله عيسى فيقول له نبى الله: لك أقيمت فإن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله لهذه الأمة فيصلى نبى الله عيسى خلف إمام المسلمين فإذا انتهوا من الصلاة انطلق نبى الله عيسى إلى باب بيت المقدس وأمرهم أن يفتحوا الباب فإذا فتحوا الباب رأوا الدجال خلف الباب ومعه سبعون ألف من اليهود بالسيوف فإذا نظر الدجال إلى نبى الله عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء فيريد الدجال أن يهرب فيتبعه نبى الله عيسى ويدركه عند باب لد مدينة معروفة الآن بفلسطين فيقتله، ويريح الناس من شره.
قال المصطفى قولاً عجيباً كما في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان وصحح السند الحافظ ابن حجر من حديث أبى هريرة رضى الله عنه وفيه أن رسول الله قال: ((فيهلك في زمان عيسى الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله المسيح الدجال، وتنزل الأمنة في الأرض حتى ترعى الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم)) ( [4] ).
استحلفك بالله أن تنظر لبداية الحديث يقول الرسول تهلك كل الملل إلا الإسلام...
سبحان الله..!! والله أكبر!!
أبشر أيها الموحد.. أبشر يا من تحب " لا إله إلا الله ".
نعم والله ستهلك كل الأديان إلا الإسلام إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلام [آل عمران:19].
وانظر مرة أخرى ومحص النظر.
ترعى الأسود مع الإبل...!! والنمار مع البقر...!!
والذئاب مع الغنم...!!
وفي رواية أبي أمامة وسندها صحيح قال المصطفى : ((فيكون الذئب مع الغنم كأنه كلبها ويمر الوليد على الأسد فلا يضره وتمر الوليدة على الحية فلا تضرها، رفع الظلم واستقر الأمن والأمان والرخاء وزادت البركة حتى تنزل الأمنة في الأرض)).
بل في رواية النواس بن سمعان قال : ((فيقال للأرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل (اللبن) حتى أن اللقحة (الوليدة التي وضعت ولدها) من الإبل لتكفي الفئام من الناس (الجماعة) واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفَخِذَ من الناس.... )) ( [5] ) سبحان الله..!!
وهكذا تعيش الأرض حالة لا نسيج لها في التاريخ كله، حتى قال المصطفى في الحديث الذي رواه الديلمي والضياء المقدسي وصححه في الصحيحة الألباني من حديث أبي هريرة أن الحبيب النبي قال: ((طوبى لعيش بعد المسيح، طوبى لعيش بعد المسيح، يؤذن للسماء في القطر ويؤذن للأرض في النبات حتى إذا بذرت حبك على الصفا لنبت ولا تشاحن ولا تحاسد، ولا تباغض، حتى يمر الرجل على الأسد ولا يضره ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاح ولا تحاسد ولا تباغض)) ( [6] ).
( [1] ) رواه البخارى رقم (6312) في الدعوات باب ما يقول إذا نام ، والترمذى رقم (3413) في الدعوات باب ما يدعو به عند النوم ، وأبو داود رقم (5049) في الأدب باب ما يقال عند النوم.
( [2] ) رواه البخاري رقم (2222) في البيوع ، باب قتل الخنزير ، ومسلم رقم (155) في الإيمان ، باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأبو داود رقم (4324) في الملاحم باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2234) في الفتن ، باب ما جاء في نزول عيسى عليه السلام.
( [3] ) رواه أبو داود رقم (4324) في الملاحم ، باب خروج الدجال ، وصححه الألبانى في الصحيحة (2182) وهو في صحيح الجامع رقم (5389).
( [4] ) مسند أحمد رقم (8902).
( [5] ) رواه مسلم رقم (2937) في الفتن وأشراط الساعة ، باب ذكر الدجال.
( [6] ) صححه شيخنا الألبانى ، في الصحيحة حديث رقم (1926).
(1/871)
التوبة وشروطها (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله والتوبة إليه. 2- وجوب التوبة على الفور وأدلة ذلك. 3- فضل التوبة
النصوح. 4- شروط التوبة النصوح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا ربكم وتوبوا إليه توبوا إليه بالرجوع إليه من معصيته إلى طاعته ومن البعد عنه إلى التقرب إليه ومن رجس الذنوب إلى التطهر منها فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
إن التوبة من الذنوب واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها أو التكاسل فيها فإن تأخير التوبة ذنب يحتاج إلى توبة. التوبة واجبة لأن الله أمر بها في كتابه وأمر بها رسوله ورتب عليها الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وقال الله تعالى: وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون وقال النبي : (( يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) وعن أبي هريرة قال سمعت النبي يقول: (( إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) [رواه البخاري].
أيها المسلمون: إن التوبة إلى الله واجبة على الفور لأن أوامر الله ورسوله كلها على الفور إذا لم يقم دليل على جواز تأخيرها. وتأخير التوبة سبب لتراكم الذنوب والرين على القلوب في الحديث عن النبي (( أن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها وإن زاد زادت حتى يغلف بها قلبه فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه)) كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
أيها المسلمون: توبوا إلى الله توبة نصوحا يمحو الله بها ذنوبكم ويكفر سيئاتكم ويرفع درجاتكم يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا وغفر لنا إنك على كل شيء قدير ، وإن التوبة لن تكون نصوحا مقبولة حتى يتم فيها خمسة شروط: لن تكون مقبولة حتى تكون خالصة لله عز وجل بأن يكون الباعث لها حب الله تعالى وتعظيمه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه فلا يريد بها تزلفا إلى مخلوق ولا عرضا من الدنيا. ولن تكون التوبة مقبولة حتى يكون نادما آسفا على ما فعل من المعصية بحيث يتمنى أنه لم يفعل المعصية لأن هذا الندم يوجب الانكسار بين يدي الله عز وجل والإنابة إليه. ولن تكون التوبة مقبولة حتى يقلع عن المعصية فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال وإن كانت بترك واجب فعله في الحال إن كان مما يمكن قضاؤه وإن كانت مما يتعلق بحقوق الخلق تخلص منها وأداها إلى أهلها واستحلهم منها فلا تصح التوبة من الغيبة وهو مستمر عليها ولا تصح التوبة من الربا وهو مستمر على التعامل به. إن كثيرا من الناس عندما تنصحه ليقلع من المعصية يقابلك بقول: الله يعيننا على أنفسنا ونعم ما قال فإن الله إذا لم يعن العبد فلا خلاص له ولكنها كلمة حق أريد بها باطل أريد بها الاعتذار عن الاستمرار في المعصية وليست بعذر لأن العبد مأمور مع الاستعانة بالله أن يحرص على ما ينفعه قال النبي : (( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)). فلا تقبل التوبة من ترك صلاة الجماعة مثلا وهو مستمر على ترك الجماعة ولا تقبل التوبة من الغش والخيانة وهو مقيم على ذلك. إن من يدعي التوبة من ذنب وهم مقيم عليه فتوبته استهزاء بالله عز وجل لا تزيده من الله إلا بعدا كمن اعتذر إليك من فعل شيء وهو مقيم عليه فإنك لا تعتبره إلا مستهزئا بك لاعبا عليك.
فاتقوا الله أيها المسلمون وتوبوا إلى ربكم وأقلعوا من ذنوبكم واعزموا أن لا تعودوا في المستقبل فلن تكون التوبة مقبولة حتى يعزم التائب أن لا يعود في المستقبل لأنه إن لم يعزم على ذلك فتوبته مؤقتة يتحين فيها الفرص المواتية لا تدل على كراهيته للمعصية وهربه منها إلى طاعة الله عز وجل. ولن تكون التوبة مقبولة حتى تصدر في زمن قبولها وهو ما قبل حضور الأجل وطلوع الشمس من مغربها فإن كانت التوبة بعد حضور الأجل ومعاينة الموت لم تقبل قال الله تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن وقال النبي (( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر يعني بروحه)).
وإذا كانت التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لم تقبل لقوله تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا والمراد بذلك طلوع الشمس من مغربها إذا رآها الناس طالعة منه آمنوا أجمعون فلا ينفع نفسا إيمانها إذا لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي قال: (( لا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه)) قال ابن كثير: حسن الإسناد وعن أبي هريرة أن النبي قال (( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)). فتوبوا أيها المسلمون إلى الله وأسلموا له وثقوا بأن التوبة النصوح تجب ما قبلها من الذنوب مهما عظمت قال الله تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين.
اللهم وفقنا للتوبة النصوح التي تمحو بها ما سلف من ذنوبنا وتيسر بها أمورنا وترفع بها درجاتنا إنك جواد كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/872)
الإيمان بالقدر 2
الإيمان
القضاء والقدر
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان. 2- الركن الأول له : الله بكل شيء عليم.
3- الركن الثاني له: كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ قبل خلق الخلائق. 4- الركن الثالث:
الإيمان بمشيئة الله وقدرته الكاملة لكل ما كان وما لم يكن. 5- الركن الرابع له: الإيمان بأن الله
خالق الأسباب ورابطها بمسبباتها 6- أعمال الإنسان ناتجة عن عزم الإنسان واختياره اضافة
إلى قدرته التي أعطاه الله إياها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى وآمنوا به، آمنوا بقضائه وقدره ومشيئته وخلقه فإن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان لن يتم إيمان العبد حتى يحقق الإيمان بالقضاء والقدر. وللإيمان بالقضاء والقدر أركان لا يتم إلا بها. الركن الأول: أن تؤمن بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء شهيد فما من شيء حادث في السماء والأرض وما من شيء يحدث فيهما مستقبلا إلا وعند الله علمه لا يخفى عليه شيء من دقيقه وجليله: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
الركن الثاني: أن تؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة فكل شيء يحدث في الأرض أو في السماوات فهو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وقد أشار الله تعالى إلى هذين الركنين بقوله: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير وفي الحديث: ((إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)). وفي ليلة القدر يكتب ما يجري في تلك السنة: فيها يفرق كل أمر حكيم. وإذا تم للجنين في بطن أمه أربعة أشهر بعث الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد.
الركن الثالث: من أركان الإيمان بالقضاء والقدر أن تؤمن بمشيئة الله العامة وقدرته الكاملة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما حدث في السماوات والأرض من أفعال الله أو من أعمال الخلق فإنه بمشيئة الله لا يحدث شيء كبير ولا صغير ولا عظيم ولا حقير إلا بمشيئة الله وقدرته وتحت سمعه وبصره هو الذي علم به وكتبه وقدره ويسر أسبابه فمن عمل صالحا فبمشيئة الله ومن عمل سيئة فبمشيئة الله: من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وكل شيء يعمله الإنسان ويحدثه فإنه بمشيئة الله حتى إصلاح طعامه وشرابه وبيعه وشرائه وأخذه وعطائه ونومه ويقظته وجميع حركاته وسكناته كلها بمشيئة الله تعالى وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)).
الركن الرابع: من أركان الإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله خالق كل شيء ومليكه ومقدره ومسخره لما خلق له وأن الله خالق الأسباب والمسببات وهو الذي ربط النتائج بأسبابها وجعلها نتيجة لها وعلّم عباده تلك الأسباب ليتوصلوا بها إلى نتائجها لتكون عبرة لهم ودليلا على نعمة الله عليهم بما يسره لهم من الأسباب التي يتمكنون بها من إدراك مطلوبهم على حسب ما تقتضيه حكمته ورحمته وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله: أفرأيتم ما تمنون إلى قوله: فسبح باسم ربك العظيم فالأعمال التي يحدثها العبد ويقوم بها ناتجة عن أمرين أحدهما: عزم الإنسان عليها ولولا عزمه لما فعل والثاني: قدرته على العمل بما علمه الله تعالى من أسبابه وبما أعطاه من القوة عليه ولولا قدرة الإنسان على العمل ولولا علمه بأسباب إيجاده وعزمه عليه لما وقع منه الفعل ولا شك أن الذي علم الإنسان وأوجد فيه العزم والقدرة هو الله تعالى فالإنسان وعزمه وقدرته وفعله كله في ملك الله وتحت مشيئة الله وقدرته: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخ.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/873)
خلق الرجل والمرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قاعدة الزوجية تُهيمن على الكون وسائر مخلوقاته 2- لكلٍ من الزوجين مهمة يقوم بها
توافق قُدُراته
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
هو الله الخالق البارئ المصور [الحشر:24].
من هذه الأسماء الحسنى انطق حديثنا عن أسرار الخلق، وكيف بدأ الله الخلق، وأول ما خلق، وأنه خلق آدم بيده، وخلق له من نفسه زوجة؛ خلق المرأة من ضلع آدم، كما أخبر بذلك الصادق الأمين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالله الخالق سبحانه، خلق كل شيء فقدره تقديراً، كل شيء عنده بمقدار، أحسن كل شيء خلقه، فسبحانه ما أعظم حكمته وقدرته، وما أوسع علمه، هذا الكون الهائل العظيم، كل شيء فيه يسير بنظام ويتحرك بقانون، لا يستطيع أن يخرج عنه قيد شعرهة، قدره وصنعه وركبه العزيز الحكيم اللطيف الخبير سبحانه وتعالى.
ومن القوانين الإلهية في هذا الكون أنه سبحانه خلق كل شيء فيه مبنياً مكوناً من زوجين اثنين، مبنياً على زوجين اثنين ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [الذاريات:49].
ويتم نظام الكون بالتوافق والتكامل بين هذه الزوجين؛ في المكان، وفي الزمان، وفي الحيوان، وفي الإنسان؛ في كل من هؤلاء خلق الله سبحانه وتعالى كل هؤلاء من زوجين اثنين؛ فيتم نظامه ويقوم كيانه على التوافق والتكامل بين هذين الزوجين.
في المكان أعلى يقابله أسفل، وداخل يقابله خارج وشرق يقابله غرب، وشمال يقابله جنوب، في الزمان: ليل يقابله نهار، وظلمة يقابلها إسفار.
وفي الحيوان: ذكر وأنثى؛ قال تعالى: وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى [النجم:45].
ولما أراد سبحانه؛ لما أراد بعدله أن يفرق أهل الأرض جميعاً، أمر نبيه نوحاً عليه السلام أن يحمل في سفينته من كل شيء زوجين اثنين. قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين [هود:4].
والإنسان رجل تقابله امرأة، قال تعالى: والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً [فاطر:11].
فكل من الزوجين في كل هذه الأشياء يقابل الآخر، وله مهمة غير مهمة الآخر، وبالتوافق والتكامل بين هذه الأزواج يقوم نظام الكون، ولو اختلطت مهماتها لفسد نظامها واختل كيانها؛ لفسد نظام هذه الأزواج واختل كيانها، فسبحانه ما أعظم قدرته وأعظم حكمته!
هذه الحقيقة الكونية ليس هناك عاقل يجهلها؛ فالنهار له طبيعة غير طبيعة الليل، والرجل له مهمة غير مهمة المرأة.
النار للسعي والحركة، وطلب الرزق ابتغاء فضل الله تعالى، والليل للسكون والراحة والنوم؛ فإن الإنسان بين يوم حافل بالسعي والحركة والعناء والمشقة بحاجة إلى فترة من الراحة يلتقط فيها أنفاسه ويجدد قوته وهمته.
الرجل للسعي والحركة وطلب الرزق والضرب في مناكب الأرض ابتغاء فضل الله، وإدارة الصراع بين قوى الخير والشر.
والمرأة للبيت تبنيه وتعمره ليكون سكناً يأوي إليه الرجل بعد اليوم حافل بالمشقة والعناء قال تعالى: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى [الليل:1-4].
فهذه الأشياء المتقابلة؛ الليل يغشى الكون بسكونه وظلمته، والنهار يُسفر بنهاره وصبحه، والذكر يسعى في مناكب الأرض طلباً للرزق وعمارة لها، والمرأة للبيت ترتبه وتهيئه للسكينة.
فلو اختلطت هذه المهمات من هذه المتقابلات كيف يتم نظام الحياة؟!.
يختل نظام الحياة، لا يتصور عاقل أبداً أنه يمكن أن تختلط المهمات بين هذه المتقابلات ويبقى نظام الحياة دون أن يختل أو يفسد، فهذه الأشياء المتقابلة لكل واحد منها مهمة خلقه الله سبحانه وتعالى لها؛ فعلى كل من الرجل والمرأة، على كل من الرجل والمرأة أن يقف عند حدود المهمة التي خلقه الله تعالى من أجلها، التي خلقه الله تعالى لها.
فالمرأة سكن والرجل للسعي والحركة، والليل سكن والنهار للسعي والحركة، فمهمة الرجل ألصق ما تكون بالنهار، كما أن مهمة المرأة أشبه ما تكون بالليل؛ ولذلك وصف الخالق سبحانه وتعالى؛ كل من الليل والمرأة وصفهما بأنهما سكن؛ قال سبحانه وتعالى: هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً [يونس:67]. وقال سبحانه: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:2].
فعلى كل من الرجل والمرأة أن يقف عند حدود المهمة التي خلقه الله عز وجل من أجلها، لا يحاول التمرد على القانون الإلهي والنظام الرباني، بل يتفانى في السعي والحركة ضمن هذا الإطار الرباني والقانوني الإلهي ويعطي مهمته التي خلق الله لها كل من عنده من قدرات وإمكانات، لا يبخل عليها بإمكاناته، ذلك إن كان مؤمنا مصدقا بحكمة الخالق العظيم سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. من يطع الله وروسوله فقد رشد، ومن يعصمهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمداً ، وشر الأمور محمدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102]. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً يصلح أعمالكم لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [الأحزاب:70-71].
(1/874)
تحريم الخمر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تدرج القرآن في تحريم الخمر 2- أضرار الخمر المختلفة 3- دعوى فتح الخمر للشهيّة
4- دعوى أنها دواء من بعض الداء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عندما تستقر العقيدة والإيمان في النفس يكون نداء الإيمان حبيبا إليها، يهز مشاعرها ويحملها على الطاعة والانقياد، والتخلص مما ينافي العقيدة، وأنت ترى مصداق ذلك في تحريم الخمر التي كانت مسيطرة على العرب قبل بعثة محمد حتى استبدت به وتأصلت في نفوسهم فانحدرت بهم إلى مهاوي الرذائل والموبقات.
ولذلك شاءت إرادة الله تعالى أن يتدرج الحكم في التحريم فبدأ بإشارة بارعة إلى ذلك في قوله تعالى: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ومن يتدبر في الأية يجد إشارة دقيقة لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزل قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها أثم كبي ومنافع للناس وأثمها أكبر من نفعها.. والمنافع يأتي بالتجارة والربح والمادي، ثم نزل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون وهنا يتخفف الشارب من شربها ليقف بين يدي الله بكامل وعيه وعقله، وكأن في ذلك تحريما جزيئا، ولما تهيأت النفوس والأذهان للتحريم القاطع نزل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون فقالوا: انتهينا يا رب انتهينا يا رب تحريمها في السنة هي أم الخبائث (حديث عثمان).
أضرارها: العقلية والمالية والجسمية والأسرية، ثم دار الزمن دورته، وتعمق الصراع بين الإنسان المؤمن وبين الشيطان، وحانت الفرصة لهذا العدد الأبدي أن يزين للإنسان الشر وإن يخدعه عن الخير، وأن يلبس ثوب النصيحة المزين، ويقدم له الخمر بأسماء كثيرة خادعة، تتغير الأسماء ولكن الحقائق لا تتغير، يقدم له مشروبات حرام هي الخمر والكحول والريسكي يسميها بغير اسمها.. ((يكون قوم من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف يسمونها بغير اسمها..)).
ويسير الشيطان مع الإنسان خطوة أخرى، فيقدم له الحرام باسم الطب والعلاج وبإسم النافع الصحية المزعومة الكاذبة قائلا:
الخمر تفتح الشهية للطعام، فلا عليك من هذا الكأس لأنك فاقد الشهية، الخمر تدفئ الجسم، وأنت في منطقة يلفها البرد القارس والزمهرير الشديد، فماذا عليك لو أدفأت نفسك بهذا الشراب وإذا لم تجد الخمر فإن هناك ما يقوم مقامها، والكأس الواحدة يتلوها ثانية وثالثة ورابعة، وعندما يسير الإنسان خطوة واحدة تكون لديه الاستعداد ليسير إلى نهاية الطريق، ولهذا بينها الله سبحانه وحذرنا من سياسة الخطوة التي جاء بها إبليس: ولا تتبعوا خطوات الشيطان.
أما عن فتح الشهية: فإن الكحول تهيج الأغشية المخاطية في جسم الإنسان ويكون هذا في أول الأمر في حد ذاته فاتحا للشهية، ولكن سرعان ما ينعكس الأمر، فيتكرر التهيج ويؤدي إلى الالتهاب وإلى قلة إفراز الحامض المعدي وبالتالي سوء الهضم وقلة الشهية.
ولكن هل تدفئ الخمر الجسم وتعطيه شيئا من الحرارة، وهل هذا داء أم دواء؟
جاء الطب الحديث ليتحرر أن الدفء الذي يشعر به شارب الحرام ليس إلا من قبيل الوهم فالخمر توسع الأوعية الدموية وخاصة تلك التي تحت الجلد فيشعر المرء بالدفء ويفقد حرارة جسمه في الجو البارد، وقد يؤدي ذلك إلى وفاته بإذن الله وهو ينعم بالدفء الكاذب.
وهذا كله ما أشار إليه الأثر لكلمة موجزة قصيرة (إن الله لما حرم الخمر سلبها النافع).
وإذا سلها الله النافع فلا يمكن مجال أن تكون دواء أو علاجا لمرض كما يزعم بعض الناس في القديم والحديث: ففي الحديث الصحيح أن النبي : ((نهى عن الدواء الخبيث)) وقال لطارق الجعفي عندما سأله عن الخمر فنهاه، فقال طارق إنما اصفهاء للدواء فقال : ((إنه ليس بدواء ولكنه داء)) وفي سنن أبي داود قال : ((إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بحرام)). وعن طارق بن سويد الحضرمي قال: قلنا يا رسول الله إن بأرضنا أعنابا نعصرها فنشرب منها؟ قال: ((لا، فراجعته، قلت: إنا نستشفي بها للمريض، قال: إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء)).
وقد جاء وفد اليمن ووفد حضرموت إلى النبي وطلبوا منه أن يسمح لهم بشرب الخمر بحجة أن بلادهم باردة فأب عليهم ذلك وقال: اجتنبوه، فقالوا: إن الناس غير تاركيه فإن لم يتركه فقاتلوهم.
وقد بطل علميا اليوم استعمال الخمرة الصرفة كدواء، ولكن الابتلاء الأكبر أن تستعمل الكحول كمذيب لبعض الأدوية وتمتزج فيها.
وإذا نظرنا إلى الأدوية الموجودة التي بها شيء من الكحول نجدها على نوعين:
النوع الأولى: مواد تستعمل كأدوية ولا بد لإذابتها من الكحول لأن الماء لا يؤثر فيها وهذا لا يجوز إلا بشروط ثلاثة:
أن لا يكون هناك دواء أخر خال من الكحول ينفع في تلك الحالة.
أن يصف الدواء طبيب مسلم عدل ثقة.
أن يكون المقدار المستعمل في الدواء ذاك قليلا لا يسكر.
النوع الثاني: مواد يضاف إليها شيء من الكحول لا لضرورة وإنما لإعطاء الشرب طعما خاصا ومذاقا اعتاده الناس، وهذا لا شك في حرمته، كذاك الذي اعتاده الأوربيون من أشربة، حتى أن الحرام ليدخل في غالبيتها شرابا أو طعاما، وكأنهم بذلك يتحدون أمر الله عز وجل.
فالتداوي بالخمر وسائر المسكرات حرام، وكذلك الانتفاع بها بأي وجه من وجوه الانتفاع حرام، وإن الله سبحانه إذا حرم شيئا حرم ثمنه.
أقول وقولي هذا وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/875)
حق الجار
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
علي بن عبد الله النمي
الرياض
خبيب بن عدي رضي الله عنه
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاخر العرب في الجاهلية بحسن الجوار 2- وصاة النبي صلى الله عليه وسلم بالجار
3- صور من الإساءة للجيران وعاقبتها 4- صور من بر الجار
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: إن الإسلام أوجب بين الناس التعاون والإحسان، وحرم الأذى والعدوان، وأقام العلائق بين الخلائق، ورغبهم في الحب والإخاء، والتراحم والوفاء.
ولهذا أوصى الإسلام الجار، فأمر بالإحسان إليه، وأكد حقه وحذر من إيذائه وقهره.
ولقد كان العرب في الجاهلية والإسلام يحمون الذمار، ويتفاخرون بحسن الجوار، وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار.
اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم لا تصلح الدار حتى يصلح الجار
نعم والله إن الدار لا تصلح حتى يصلح الجار:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ولم يعرفوا جاراً هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملام فإنها بجيرانها تغلوا الديار وترخص
فاختيار الجار يكون قبل شراء الدار.
وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة [التحريم:11].
اختارت الجار قبل الدار.
يقولون قبل الدار جار مجاور وقبل الطريق النهج أنس رفيق
إن الجار الصالح أخو لك لم تلده أمك، يذب عن عرضك، ويعرف معروفك، ويكتم عيوبك، ويفرح إذا فرحت، ويتألم إذا حزنت.
وصدق رسول الله إذ يقول: ((أربع من السعادة وذكر منها الجار الصالح)) ، ثم قال: ((أربع من الشقاوة: وذكر منها الجار السوء)) ، رواه ابن حبان في صحيحه [1] ، وكان رسول الله ، يتعوذ من جار السوء فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول)) ، رواه ابن حبان في صحيحه [2].
ولم أر مثل الجهل يدعو إلى الردى ولا مثل جار السوء يكره جانبه
أيها المسلمون: يقول النبي : ((خير الجيران عند الله خيرهم لجاره)) ، صححه ابن خزيمة وابن حبان [3].
جاورت شيبان فاحلولي جوارهم إن الكرام خيار الناس للجار
إن للجار على جاره حقوق عظيمة، أوصى الله بها في كتابه، وعلى لسان نبيه : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب [النساء:36].
فاتق الله – يا عبد الله – في جارك ذو الرحم القريب، وجارك المسلم الغريب.
نزلت على آل المهلب شاتياً غريباً عن الأوطان في زمن محل
فما زال بي إكرامهم وافتقارهم وبرهم حتى حسبتهم أهلي
يقول النبي : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه)) ، متفق عليه [4].
الله الله – عباد الله – ارعوا حق الجيرة، وأحسنوا مع جيرانكم السيرة، فو الله إن أذية الجار لموجبة للنار.
أقسم النبي – - ثلاثاً: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) ، يعني شروره متفق عليه [5].
وفي رواية لمسلم: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)).
إن الأمر ليس كما تتوقعون، ولا كما تحسبون وتحسبونه هيناً وهو عند عظيم.
روي عن أنس أن النبي قال: ((من آذى جاره فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله)) [6].
اختر ما شئت - أيها الجار – الجنة أو النار.
روى أبو هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها، وصدقتها، وصيامها. وفي رواية تصوم النهار، وتقوم الليل، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال : ((هي في النار)) ، وقال: إن فلانة تذكر من قلة صيامها، وصلاتها، وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها، قال: ((هي في الجنة)) رواه أحمد [7].
أقول لجاري إذا أتاني معاتبا مدلا بحق أو مدلاً بباطل
إذا لم يصل خيري وأنت مجاوري إليك فما شري إليك بواصل
اتقوا الله – أيها المسلمون – واعلموا أن أذية الجار، موجبة للنار، وعند الله تجتمع الخصوم.
روى عقبة بن عامر أن النبي قال: ((أول خصمين يوم القيامة جاران)) رواه أحمد [8].
فكيف بك أيها المسكين حين تقف بين يدي رب العالمين وجارك يقول: يا رب! إن جاري هذا لم يرع حق الجيرة، ولم يحسن معي السيرة، آذاني بعينه ينظرإلى محارمي، آذاني بسمعه يتسلط على أسراري، آذاني بلسانه يتفكه بمعايبي.
إن المؤمن من أمنه الناس، وإن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
قال أبو حازم: كان أهل الجاهلية أحسن منكم جواراً، فإن قلتم: لا، فبيننا وبينكم قول شاعرهم:
ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضر جاراً لي أجاوره ألا يكون لبيته ستر
أعمى إذا جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر
وإن من حق جارك عليك، إن مرض عدته، وإن مات شيعته وإن استقرضك وأنت قادر أقرضته، وإن أعوز سترته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا ترفع بناءك على بنائه تؤذيه.
وإذا رأيته على منكر نهيته، وإذا رأيته على معروف أعنته، فلربما تعلق برقبتك يوم القيامة، يقول: يا رب رآني على منكر فلم يأمرني ولم ينهني.
ولقد ابتلينا في هذا الزمان، بالإعراض عن الجار، فكثير من الأحياء، الجار فيها لا يعرف شيئا عن جاره، بل لا يعرف اسمه، ولا بلده، ولا غناه ولا فقره.
وواجب المسلم تجاه جاره أن يتحسس حاله، فإن رآه على خير أعانه، وإن رآه معوجاً أقامه. كما عليه أن يتفقد حاله ومعاشه فإن النبي قال: ((ما آمن من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهم يعلم)) رواه الطبراني [9].
وكيف يسيغ المرء زاداً وجاره خفيف المعى بادي الخصاصة والجهد
وليتق الله – عز وجل – كل جار بينه وبين جاره قطيعة وضغينة.
يقول النبي : ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) متفق عليه [10].
وليتق الله – عز وجل – أهل الدور والزروع لا يعتدي بعضهم على بعض، وليرعوا حق الجيرة.
روى الإمام أحمد: عن أبي مالك أن النبي قال: ((أعظم الغلول عند الله – عز وجل – ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً)).
إذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة [11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] تحت رقم : ( 4032) الإحسان ، الخطيب البغدادي في التاريخ: 12/99 ، وأبو نعيم في الحلية : 8/388 ، وعزاه في كشف الخفاء : 1/116 للحاكم والبيهقي.
[2] تحت رقم : (1033) الإحسان ، وأخرجه النسائي : 8/274 ، وأحمد " 2/346 ، والبخاري في الأذب المفرد : 117 ، والحاكم : 2/532 ، وصححه ووافقه الذهبي ، وحسنه الألباني في صحيح الأدب : 86.
[3] الترمذي : 1944 ، وأحمد : 2/167 ، والبخاري في الأدب المفرد : 115 ، والدارمي : 2/215 ، والحاكم : 1/443 ، وابن حبان : 518 الإحسان ، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق : 329 ، وابن خزيمة : 2539 ، وسعيد بن منصور : 2388 ، والطحاوي في المشكل : 4/31 ، والشجري : 2/139 ، والخطيب في تاريخه : 12/28 ، وابن جرير كما في الدار : 2/532. وقال الترمذي : حسن غريب ، وصححه الحاكم ، والذهبي ، والألباني في صحيح الأدب المفرد:84.
[4] البخاري : 6014 ، ومسلم : 2624 ، وأحمد :6/238 ، وأبو داود : 51/5 ، والترمذي : 1942 ، وابن ماجة : 3673 ، وابن أبي شيبة : 8/545 ، والبيهقي في الكيري: 7/27 ، والأدب المفرد للبخاري : 101 ، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق : 321 ، وابن حبان : 511 الإحسان ، وأبو نعيم في الحلية : 3/307.
[5] البخاري : 10/370 ، ومسلم : 46.
[6] عزاه المنذري في الترغيب : 3/234 لأبي الشيخ ابن حبان في كتاب (التوبيخ) وضعفه.
[7] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/169): رواه أحمد والبزار ، ورجاله ثقات.
[8] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/80) : رواه أحمد والطبراني بنحوه ، وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح ، غير أبي عشانة ، وهو ثقة.
[9] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/167) : رواه الطبراني والبزار ، وإسناد البزار حسن.
[10] البخاري : 10/401 ، ومسلم : 2559.
[11] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/175) : رواه أحمد ، والطبراني في الكبير ، وإسناده حسن.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
عباد الله: إن حدود الجيرة لا تقتصر على من كان جدارك بجداره، بل تمتد يميناً وشمالاً.
قال الأوزاعي وابن شهاب: أربعون داراً من كل ناحية، وقال علي بن أبي طالب : من سمع النداء فهو الجار.
وإن المطلوب من أهل الحي أن يتزاوروا فيما بينهم؛ ليتعارفوا وتتآلف قلوبهم.
صح عن النبي أنه قال: ((أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم [1].
ومن الآداب الإسلامية: تبادل الهدية، والعطية، فإنها ترقق القلوب، وتذهب الغل.
كما قال النبي : ((تهادوا تحابوا)) [2] ، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله : ((يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك)) [3].
قدري وقدر الجار واحدة وإليه قبلي ترفع القدر
وعلى الجار أن يتصف بالعفو والتسامح مع جيرانه، ويسعى إلى نفعهم، وكف الأذى عنهم.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره)) [4].
والجار المسلم يبادل جاره الصبر والاحتساب قال : ((إن الله – عز وجل – يحب ثلاثة: وذكر منهم رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت)) رواه أحمد [5.
وكان يقول: ليس حسن الجوار ترك الأذى، ولكنه الصبر على الأذى.
[1] مسلم : 54 ، وأبو داود : 5193 ، والترمذي : 2689.
[2] من حديث أبي هريرة ، البخاري في الأدب المفرد : 594 ، والدولابي في الكنى : 2/7 ، وابن عدي : 2/204 ، وابن عساكر : 17/207/2 ، وتمام في الفوائد : 2/246 ، وعزاه في نصب الراية : 4/120 للنسائي في كتابه الكنى ، وأبي يعلى الموصلي في مسنده ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وراجع طقه هناك ، وقال ابن حجر في التلخيص (1315) : إسناده حسن.
[3] مسلم : 142.
[4] البخاري : 5/79 ، ومسلم : 1609 ، وأبو داود : 3634 ، والترمذي : 1353 ، ومالك : 2/745.
[5] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/171) : رواه أحمد والطبراني ، وإسناد الطبراني وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح.
(1/876)
الوصية بمكارم الأخلاق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أخلاق النبي وشمائله 2- أركان الأخلاق أربعة : الصبر والعفة والشجاعة والعدل
3- النصوص الشرعية تأمر بمكارم الأخلاق وتُحذّر من رذائلها 4- الثرثارون والمتشدّقون
والمتفيهقون أبغض الناس إلى الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق تقواه، وسارعوا إلى مغفرته وجنته ورضاه، واحذروا كل ما يسخطه الله ويأباه، تكونوا من مستبقي الخيرات السابقين إلى أعلى الدرجات في الجنات.
عباد الله: كما أن العلل في الأجساد تذهب معها الصحة، وتنحل القوى، فكذلك العلل في الأخلاق، تفسد الدين، وتقطع المرء من الخير في الدنيا والأخرى، ومن أجل ذلك كانت دعوة النبي إلى إصلاح الأخلاق إلى جانب إصلاح العقائد، وحسبكم دليلاً على ذلك قول الحق تبارك وتعالى في معرض الثناء على نبيه الكريم: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4]. مع توجيهه سبحانه لأهل الإيمان بقوله: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [الأحزاب:21].
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي فقالت: ((كان خلقه القرآن)) تعني يأتمر بأوامره، وينزجر عن زواجره، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه؛ أي كان متمسكاً بآدابه، وأوامره، ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف.
وقال ابن القيم رحمه الله: وقد جمع الله له مكارم الأخلاق في قوله: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [الأعراف:199]. قال جعفر بن محمد: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق، من تحقيق المسلم لمدلول شهادة أن محمداً رسول الله.
وحقيقة حسن الخلق بذل المعروف، وكف الأذى، وطلاقة الوجه، وتحمل الأذى والأخلاق المحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنتصف لها، وعلى التفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصبر، وتحمل الأذى من الخلق، والرحمة بهم، والشفقة عليهم، وقضاء حوائجهم، ونحو ذلك.
فأركان حسن الخلق أربعة: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل. فالصبر يحمل المرء على الاحتمال، وكظم الغيظ، والحلم، والأناة، والرفق، وعدم الطيش. والعفة تحمله على اجتناب الرذائل، وترك القبائح من القول والفعل. والشجاعة تحمله على عزة النفس وقوتها على إخراج المحبوب، وتحمله على كظم الغيظ والحلم، والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط. فمنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة، كما أن منشأ جميع الأخلاق السافلة والأفعال السيئة من الجهل والظلم والشهوة والغضب.
أيها المسلمون: ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله أحسن الناس خلقاً)) ، وفيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً وكان يقول: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)).
وفي الترمذي وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) ، وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقا)).
وفيه أيضاً عنه رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)). وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار قال: ((الفم والفرج)).
وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) ، وفيه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أنا زعيم – يعني ضامن – ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) ، وفي الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار – أو بمن تحرم عليه النار – تحرم على كل قريب هين لين سهل)).
فاتقوا الله عباد الله، وحسنوا أخلاقكم، وتنافسوا في طاعة ربكم، واتقوا شر ألسنتكم، تكونوا من خيار الناس، وأكملهم إيمانا، وتثقل موازينكم، وتحرم عليكم النار، وتدخلوا الجنة في أقرب منزلة من نبيكم ، في أعالي الجنات بشهادة نبيكم إذ يقول: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)).
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:281].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أحمده سبحانه هو اللطيف بعباده، يرزق من يشاء، وهو القوي العزيز، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العظيم الرؤوف الرحيم الجواد الكريم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المثنى عليه من ربه بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4]. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأتقياء أهل الجود والكرم والشجاعة والوفاء.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله، وتحلّوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، واحذروا مساوئ الأخلاق، فإنها من أسباب أمارات النفاق والخزي يوم التلاق، قال : ((وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمستشدقون والمتفيقهون)) ، فنبه على ثلاثة أصناف من الناس هم عبء ثقيل على المجتمع لما يعانيه منهم أفراده من اعتلال أخلاقهم، وفساد تصرفاتهم، وهم أيضاً بلاء على أنفسهم، وسجاياهم الخسيسة شؤم عليهم في الدنيا والآخرة، فالثرثارون قوم يتجرون في الكلام؛ ديدنهم رواية الأخبار ونقل الغث والصحيح، والصدق والكذب، ينتقل أحدهم من ندوة إلى أخرى، ومن مجلس إلى آخر ممتطياً مطية الكذب، زعموا وقيل، دون تثبت في النقل أو وزن لما يحدّث به، وذلك من أوضح البراهين على اعتلال الخلق، والعبودية للهوى؛ قال تعالى: إن بعض الظن إثم [الحجرات:12]. وقال : ((الظن أكذب الحديث)) وقال موضحاً جرم هذا الصنف من الناس وعظم إثمه عند الله: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكل ما سمع)).
وكان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
وأحد الأصناف هم: المتشدقون الذين يتكلمون بملء أفواههم، سواء كان ذلك اعتداداً بفصاحتهم وآرائهم دون بينة، أو توسعاً في الكلام، دون احتراز لما يحل منه وما يحرم وما يجمل التحدث به وما يقبح، ويؤاخذ العبد عليه، ويترتب عليه شقاوة في العاجل والآجل، وفي الحديث: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يتبين فيها، يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)). وفي الحديث الآخر: ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم – أو قال: على مناخرهم – إلا حصائد ألسنتهم)).
فاتقوا الله عباد الله، وتجنبوا سيئات الأقوال والأحوال، وخذوا بوصية ربكم ذي الكرم والجلال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما [الأحزاب:70-71].
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/877)
التحذير من حصائد الألسنة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان محاسب على ما يقوله 2- خطورة ما يصدر عن اللسان 3- الكذب وعاقبته في
الآخرة 4- إشاعة الفاحشة بين المؤمنين في وسائل الإعلام 5- الوقوع في أعراض العلماء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت، فإن الله تعالى قال: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما [سورة النساء:114].
أيها الناس: اتقوا خطر ألسنتكم، فإن كلام ابن آدم كله محفوظ عليه؛ يقول تعالى: وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [سورة الانفطار:10-12]. وكل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ذكر الله وما والاه. وفي الحديث عن النبي قال: ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم)) ؛ والمراد بحصائد ألسنتهم جزاء الكلام المحرم وعقوباته، فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات أو السيئات، وكل سيحصد ما زرع يوم القيامة، فمن زرع خيرا حصد كرامة ومن زرع شرا حصد ندامة.
وفي الصحيح عن النبي قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)).
أيها المسلمون: كان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بلسانه ويقول: ويحك، قل خيرا تغنم أو اسكت عن سوء تسلم، والذي لا إله إلا هو ما على الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان، وفي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى فيها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار)).
أيها المسلمون: ما أكثر الناس اليوم الذين يتصدرون المجالس والمنتديات بكلام لا يرون به بأسا، فيعرضون أنفسهم لهذا الوعيد، فما أكثر الذين يتصدرون المجالس بالكذب! وقد قال : ((إياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)). وقد وصف الله الكاذبين بأقبح ما وصف به الكافرين الجاحدين لآيات الله فقال: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [سورة النحل:105].
أيها المسلمون: تتفاوت درجات الكذب بحسب ما يحدثه من الضرر، ويجره من الشر، فأعظم الكذب إثما القول على الله ورسوله وفي دينه بغير علم، والجرأة على التحريم والتحليل دون برهان؛ قال تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [سورة النحل:116].
وفي الصحيح عن النبي قال: ((من كذب علي متعمدا – وفي لفظ: من قال علي ما لم أقل – فليتبوأ مقعده من النار)).
وقد رأى النبي ليلة الإسراء رجلا يشرشر شدقه إلى قفاه، هكذا يعذب إلى يوم القيامة، فسأل عنه، فقيل له: هو الرجل يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق. وما أكثر الذين يختلقون الأكاذيب ليضحكوا الناس، أو ليضلوهم، أو ليصلوا بواسطة الكذب إلى أغراض خبيثة وأهداف دنيئة، ثم ينشرون هذه الأكاذيب في المجالس أو عبر وسائل الإعلام المتنوعة، فيقلبوا الحق باطلا والباطل حقا، ويظهروا الحسنات على أنها سيئات والسيئات بمظهر الحسنات، بواسطة زخرف القول. وصدق الله العظيم إذ يقول: شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون [سورة الأنعام:112-113].
أيها المسلمون: ومن أنواع الكلام المذموم الذي ينتشر في بعض مجالس الناس الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي، والتحدث عنها بما يروجها بين الناس، أو يهون وقعها على مسامعهم، ويشيع الفاحشة بينهم. ومنه التحديث بما يقع في المجتمع من المخالفات التي يرتكبها بعض الأفراد حيث يتحدث بها من له اطلاع عليها ممن قل فقهه في مجالس العامة، والتحديث عنها مما يفرح الأشرار والمنافقين، ويشيع الفاحشة بين المؤمنين. وقد قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [سورة النور:19].
ومن نشر الفاحشة بين المؤمنين ما تقوم به بعض المؤسسات، وبتعاون من بعض الآباء وأفراد الأسر من نشر وترويج الأفلام والمسلسلات الهابطة التي تغري بالزنا، وتهون البغاء، وتعلم الأحداث فنون الإجرام وألوان التمرد على سلطة الآباء والحكام.
أيها المسلمون: ومن أخطر أنواع الكلام المذموم الذي يعد من حصائد الألسنة، وتفوح به كثير من مجالس من ينتسبون إلى الخير، ما يشيع في تلك المجالس من القيل والقال التي محصلتها الوقيعة في أعراض الأكابر من العلماء، والتحريض على نزع يد الطاعة من أولي الأمر، وإحداث النفرة والفرقة بين خيرة الإخوان والدعاة إلى الله تعالى، بسبب الخوض في الأحاديث، ونقل الأخبار، ودون وعي وتثبت، مطيتهم في ذلك زعموا، وقالوا، وحدثني من أثق بعلمه، ونحو ذلك من المصادر المهلهلة والتي هي من أسلحة الفتنة التي تخرب الناس، وتشتت الكلمة، وتزرع الضغائن والأحقاد في الصدور، وتفسح المجالس للمغرضين والمتربصين بهذا المجتمع الآمن الدوائر.
وفي الصحيح عن حذيفة قال: ((بئس مطية الرجل زعموا)) وفي الصحيح عن النبي قال: ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)). ومن كلام بعض أهل العلم: وما كل ما يعلم يقال. وقال ابن مسعود : ((إن الشيطان ليتمثل بصورة الرجل، فيأتي القوم يحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون، ويقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري، من هو سمعته يحدث)).
وهذا فيه التنبيه على خطر كيد شياطين الإنس والجن، ومن يفعل فعلهم من بسطاء الناس وذوي الأهواء منهم، الذين ينقلون الأخبار المكذوبة، ويصنعون الحوادث الملفقة المفتعلة، ثم يشيعونها في مجالس الناس وكأنها قضايا مسلمة، فيكون لها الأثر السيء في الإرجاف لبعض الناس، وتثبيط همم آخرين عن الخير، وإساءة الإخوان بعضهم ببعض، وإثارة الفتن، وتخريب الناس، نتيجة حادثة مكذوبة أو خبر مغرض أو نحو ذلك.
ولو تأملت كثيرا مما يحدث في مجالس الناس اليوم تجد كثيرا منه لا سند له صحيح، يعتمد عليه في النقل، وإنما هو بواسطة زعموا، ويقولون، وحدثني من أثق به، وما صح منه. فلا يعرف وجه وقوع الفعل ومناسبة القول حتى يحكم عليه أو له، مع أن كثيرا من الحوادث الصحيحة والأخبار الصادقة لابد أن تترجح المصلحة في روايتها وإشاعتها، وإلا فإن الإنسان معرضا للوقوع في الغيبة أو النميمة، وينطبق عليه قوله تعالى: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [سورة النساء:83].
فاتقوا الله في كلامكم، واحذروا حصائد ألسنتكم، لا تشيعوا الفاحشة، ولا تتكلموا بالبهت، ولا تتسببوا في إثارة الفتن وتخريب الأمة، فإن كلامكم مستطر، ومجزيون به يوم العرض الأكبر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/878)
الخاسرون في رمضان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الولاء والبراء, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الرحمن المقحم
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مزية رمضان على سائر الشهور 2- الخاسرون في رمضان هم الذين لا يفيدون من
خصائصه 3- الخاسرون هم أهل الكبائر ولمّا يتوبوا منها 4- دعوة للتوبة
4- تشريعات الإسلام تأمر بكل ما يُوثّق الأخوة من إفشاء للسلام وسعي في الإصلاح و..
5- الولاء حق للمسلمين 6- المرء يوم القيامة مع من أحب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
الحمد لله على ما يسر من مواسم الخيرات، وأفاض فيها على عباده من النعمات، ومكنهم بفضله من تكفير السيئات، وزيادة الحسنات، قال رسول الله : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ، ((ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [1] !! ما أعظم البشارة! وما أسهل العمل المطلوب لها! وهل في المسلمين أحد عاقل لا يهمه أن يغفر له ما تقدم من ذنبه أو لا يغفر؟! وهل في المسلمين أحد عاقل يريد أن يلقى ربه غدًا ولو لم يغفر له من ذنوبه شيء؟!
لقد فزع كثير من المسلمين لصيام رمضان المبارك وقيامه، وقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا ابتغاء ذلك الأجر العظيم، والخير العميم، فامتلأت المساجد بالمصلين، وضجت بأصوات التالين، وجعل الناس يهنئ بعضهم بعضًا بإدراك هذا الشهر الكريم!
ولكن هل هذا هو كل ما في رمضان أم هناك أشياء أخرى غير هذا؟! أما من ضيع رمضان وأهمله وقصر فيما شرع له فأولئك هم الخاسرون، ولا مرية في خسرانهم وشقاوتهم – نسأل الله العافية –، ولكن كيف بمن تحرى الخير في رمضان فأحيا ليله بالقيام، وعمر نهاره بالصيام، وجعل يتلو القرآن آناء الليل، وأطراف النهار، ابتغاء ذلك الوعد النبوي الصادق، والله لا يخلف الميعاد؟ هل فيهم خاسر أيضًا؟! أيخسر منهم أحد وقد كان منه مثل ما ذكرنا؟، نعم فيهم خاسرون كثير استفادوا من رمضان قليلاً، وخسروا فيه كثيرًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـ?شِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى? نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:2-4]. فمع عملها وتعبها هي في النار – عياذًا بالله من ذلك –، فأي خسارة أعظم من تلك الخسارة.
غدًا توفى النفوس ما عملت ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنو لأنفسهم وإن أساءوا فبئسما صنعوا
لقد صح عن رسول الله أنه صَعِد المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين فسئل عن ذلك، فقال: إن جبريل أتاني، فقال: خاب وخسر من أدرك أبويه فلم يدخلاه الجنة فمات، فدخل النار، قل: آمين، قلت: آمين، قال: ومن أدرك رمضان، فلم يغفر له فمات، فدخل النار، قل: آمين، قلت: آمين، قال: ومن ذكرت عنده، فلم يصل عليك فمات، فدخل النار، قل: آمين، قلت: آمين)) [2] ، أو كما قال ، فمن هؤلاء الخاسرون الذين يدعو عليهم رسول الله وجبريل – عليهما الصلاة والسلام –، فيكون شهر رمضان نقمة عليهم، وسببًا لحرمانهم الثواب، ودخولهم النار – عياذًا بالله من ذلك-؟
إن هذا الصنف من الناس هم أهل القلوب القاسية، الذين لا يزيدهم رمضان من الله إلا بعدًا، ولا تزيدهم بشائر الرحمن إلا صدًا، وَمَن يُرِدِ ?للَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ?للَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ?للَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى ?لدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41].
إنهم الذين إذا أدركوا رمضان، بادروا ببعض الأعمال، ولكنها لا تتغير منهم الأحوال، فيصبح الواحد منهم في شوال كما كان في شعبان، فحق عليه ذاك الدعاء العظيم بدخول الناس إذا أدرك رمضان فلم يغفر له.
إن هذا الصنف هو الذي بينه رسول الله حين قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر)) [3] ، فمن اجتنب الكبائر، وسلم من الموبقات، فانحسر عنها، وقسر نفسه على الابتعاد منها، فسيكون رمضان مكفرًا لما سواها من الذنوب، والصلوات الخمس والجُمع وسيكون هذا الصنف - امرأة كان أم رجلاً - ممن أدرك رمضان فغفر له، فدخل الجنة بإذن الله تعالى، ولكن من كان ذا كبيرة أو كبائر، فحافظ عليها أشد المحافظة، وأصر عليها أعظم إصرار، وتعاهدها من نفسه، حتى لا يرجع عن عصيان ربه قيد أنملة، فذلك هو الخاسر الذي أدرك رمضان فلم يغفر له؛ لأن ما هو فيه من كبائر الذنوب لا وعد عليه بالمغفرة لمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، ولا لمن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، ولا لمن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، فالكبائر لا تكفرها تلك المكفرات، التي ذكرها رسول الله في قوله: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر)) [4] ، وليس ثمة شيء يكفر الكبيرة عن صاحبها إلا التوبة الصادقة النصوح، التي يتحقق فيها الإقلاع عن الذنب، والندم على فعله، وعصيان الله به، والعزم الصادق الأكيد على ألا يعود التائب إليه، فالوعد لأولئك فوق التكفير أن تبدل سيئاتهم حسنات، ترفع بها درجاتهم في الجنة، وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً [الفرقان:68،69]. وأي شيء أعظم من الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله بغير حق والزنا فذلك مصير من يفعله إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ?للَّهِ مَتاباً [الفرقان:70،71]. فما أعظم فضل الله وما أكرمه وما أسعد التائبين الصادقين بهذا الوعد الرباني الذي لا يماثله وعد وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ [التوبة:111] ، بل إن الله تعالى وعد من يجتنب كبائر الذنوب بتكفير السيئات والمدخل الكريم في الجنات فقال جل وعلا: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً [النساء:31]. وقال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأَرْضِ لِيَجْزِىَ ?لَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى ?لَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِ?لْحُسْنَى ?لَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـ?ئِرَ ?لإِثْمِ وَ?لْفَو?حِشَ [النجم:31،32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] أخرجه البخاري (الإيمان:27) ، ومسلم (المسافرين:173-175).
[2] كتاب البر والصلة لابن الجوزي : 118 ، وانظر تخريجه هناك.
[3] أخرجه مسلم (الطهارة:343).
[4] سبق تخريجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا كما أمر، وأشكره سبحانه وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، على رغم أنف من جحد به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغير، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على رسوله الأمين فقال جل وعلا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا)) [1] ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين، وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]. ولا يفوتنكم هذا الشهر الكريم، ولم يخش صاحب كبيرة أصر عليها أن يكون ممن أدرك رمضان فلم يغفر له، ودعا عليه بذلك رسول الله وجبريل – عليهما الصلاة والسلام – فتبينوا – رحمني الله وإياكم – قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها وَأَنِيبُواْ إِلَى? رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَ?تَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?لْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ي?حَسْرَتَى? عَلَى? مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ?للَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ?لسَّـ?خِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ?للَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ?لْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الزمر:54-58]. فتجاب بقول الله تعالى: بَلَى? قَدْ جَاءتْكَ ءايَـ?تِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَ?سْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ [الزمر:59].
إن حلق اللحى، وإسبال الثياب، والمداومة على النظر المحرم، والسماع المحرم، كبائر عظيمة، ومجاهرة خطيرة، توشك أن تدخل صاحبها في قول رسول الله : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون)) [2] ، ولابد لها أولاً من نفوس صادقة مؤمنة بربها، معترفة بخطئها وزللها، ثم عزائم جادة، غير وانية، تعزم إجابة الله ورسوله، مهما كلفها ذلك من مخالفة الهوى، وترك مألوف العادات، فيتحقق للعبد بذلك توبة صادقة نصوح، والتوبة تجُبُّ ما قبلها، فيخرج من شهره مغفورًا له ما تقدم من ذنبه، طامعًا أن يقال له عند فراقه: يأَيَّتُهَا ?لنَّفْسُ ?لْمُطْمَئِنَّةُ ?رْجِعِى إِلَى? رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (1/879)
في صلاح القلب وفساده
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تغيّر أحوال القلب 2- علاج قسوة القلب 3- أسباب قسوة القلب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فالقلب هو محل نظر الله من العبد.
وهو الذي إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، كما أخبر بذلك النبي ، وهو محل معرفة الله ومحبته وخشيته وخوفه ورجائه، ومحل النية التي بها تصلح الأعمال وتقبل، أو ترد وتبطل – قال : ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله: فأشرف ما في الإنسان قلبه، فهو العالم بالله الساعي إليه والمحب له، وهو محل الإيمان والعرفان، وهو المخاطب المبعوث إليه الرسل، المخصوص بأشرف العطايا من الإيمان والعقل، وإنما الجوارح أتباع للقلب، يستخدمها استخدام الملوك للعبيد، والراعي للرعية، فسبحان مقلب القلوب، ومودعها ما يشاء من أسرار الغيوب، الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما ينطوي عليه من طاعته ودينه، مصرف القلوب كيف يشاء، أوحى إلى قلوب الأولياء أن أقبلي إلي، فبادرت وقامت بين يدي رب العالمين، وكره – عز وجل – انبعاث آ خرين فثبطهم، وقيل: اقعدوا مع القاعدين.
كانت أكثر يمين رسول الله : ((لا ومقلب القلوب)) ، وكان من دعائه: ((اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك)) ، إلى أن قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: وإذا تأملت حال القلب مع الملك والشيطان، رأيت أعجب العجاب، فهذا يلمّ به مرة، وهذا يلم به مرة، فإذا ألّم به الملك حدث من لمته الانفساح والانشراح والنور والرحمة والإخلاص والإنابة ومحبة الله وإيثاره على ما سواه، وقصر الأمل والتجافي عن دار الغرور، فلو دامت له تلك الحال لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه. لكن تأتيه لمة الشيطان فتحدث له من الضيق والظلمة والهم والغم والخوف والسخط على المقدور، والشك في الحق والحرص على الدنيا وعاجلها، والغفلة عن الله ما هو من أعظم القلب.
عباد الله: إن القلوب تقسو، فتكون كالحجارة أو أشد قسوة، فتبعد عن الله وعن رحمته وعن طاعته، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، الذي لا ينتفع بتذكير، ولا يلين لموعظة، ولا يفقه مقالة، فيصبح صاحبه يحمل في صدره حجراً صلداً لا فائدة منه، ولا يصدر منه إلا الشر. ومن القلوب ما يلين ويخشع ويخضع لخالقه ويفقه ويقرب من الله ومن رحمته وطاعته، فيحمل صاحبه قلباً طيباً رحيماً يصدر منه الخير دائماً.
ولقسوة القلوب أو لينها أسباب يتعطاها العبد، فمن أعظم أسباب تليين القلوب قراءة القرآن واستماعه، قال تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وقال تعالى: فذكر بالقرآن من يخاف وعيد.
وقال الله تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.
وقال تعالى: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم.
ففي هذه الآيات الكريمة أن القرآن العظيم أعظم ما يلين القلوب لمن أقبل على تلاوته واستماعه بتدبر، كما قال تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، وأنه يجب على المسلمين الإقبال على كتاب ربهم تلاوة وتدبراً وعملاً، حتى تحصل لهم الهداية وحياة القلوب، ولا تشبهوا بأهل الكتاب الذين حملوا التوراة والإنجيل فأعرضوا عنهما، فقست قلوبهم بسبب ذلك، فلا يقبلون موعظة ولا تلين قلوبهم لوعد ولا لوعيد، ومن أعظم ما يلين القلوب تذكر الموت وزوال الدنيا والانتقال إلى الدار الآخرة، ومن أعظم ما يقسي القلوب الغفلة عن الآخرة ونسيان الموت والانشغال بالدنيا.
قال تعالى: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
وقال النبي : ((زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات: الموت)) ، وقال تعالى: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون.
ومن أعظم ما يلين القلوب الاعتبار بما جرى ويجري للأمم الكافرة من الهلاك والدمار، ومن أعظم ما يقسيها الغفلة عن ذلك، قال تعالى: فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، ومما يلين القلوب الإكثار من ذكر الله – عز وجل – ومن أعظم ما يقسيها الغفلة عن ذكر الله.
قال تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وقال تعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، وقال تعالى: ولا تطع من أغلفنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً ، وقال تعالى: واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ، ومن أعظم ما يلين القلوب قبول أوامر الله والعمل بها، واجتناب نواهيه، ومن أعظم ما يقسيها الإعراض عن أوامر الله ونواهيه قال تعالى: وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ، إلى قوله تعالى: وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون.
فقبول الحق والعمل به سبب لهداية القلب وإيمانه، ورد الحق وترك العمل به سبب لزيغ القلب وطغيانه.
قال الله تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون.
وقال الله تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين.
ومن أسباب لين القلوب واتعاظها التفكر والنظر في أحوال المرضى والفقراء والمبتلين، ومن أسباب قسوتها الاغترار بالصحة والقوة والغنى والثروة، قال النبي : ((انظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) ، وقال تعالى – عن عاد الذين غرتهم قوة أجسامهم وكثرة أموالهم: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.
فلو زار الإنسان المستشفى، ورأى أحوال المرضى وما يقاسونه من الآلام، ولو نظر إلى الفقراء والأيتام، وما هم فيه من الحاجة والمجاعة، لعرف قدر نعمة الله عليه ولان قلبه، لكن حينما يصرف النظر عن ذلك، وينظر إلى أهل الترف والغنى، وما بأيديهم من زهرة الحياة الدنيا، فإنه يقسو قلبه ويتعاظم في نفسه، وقد أمر الله نبيه أن يجالس فقراء المسلمين والمستضعفين من المؤمنين، وأن لا يتجاوزهم إلى أصحاب الثراء والغفلة، قال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا.
فاتقوا الله – عباد الله – وخذوا بالأسباب التي تحيا بها القلوب قبل أن تقسو وتموت، فإن ذلك هو مناط سعادتكم أو شقائكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مقلب القلوب، وعلام الغيوب، وقابل التوبة ممن يتوب، شديد العقاب عند قسوة القلوب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كان يكثر من قول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك)) ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى بامتثال أمره، واجتناب ما نهاكم عنه، وتعظيم شعائره، ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ، واعلموا أنه في زماننا هذا قد كثرت الأسباب التي تقسو بها القلوب فاحذروها، ومن ذلك الانشغال بالدنيا، والانخداع بمظارها، والتفكه بملذاتها.
ومن ذلك قلة ارتياد المساجد والجلوس فيها، وصرف أكثر الوقت في طلب الدنيا، والتمتع بها.
ومن ذلك الانشغال برؤية المناظر الملهية أو المحرمة، التي تعرض على شاشة التلفاز أو الفيديو من الصور الفاتنة ومن الأفلام والمسلسلات، أو الصور التي في الصحف والمجلات، ومن ذلك استماع الملاهي من الموسيقى والمعازف والأغاني، التي كثر ترويجها والدعاية لها بين المسلمين، وهي أصوات محرمة، تنبت النفاق في القلب، وتزرع الشهوة في النفس، وتمنع من سماع القرآن؛ لأنه لا يجتمع الاستماع لقرآن الشيطان، وقرآن الرحمن، ومما يقسي القلب متابعة الألعاب الرياضية وتشجيعها ومشاهدتها والانشغال بها في غالب الوقت مما أصبح اليوم هو الشغل الشاغل لكثير من شباب المسلمين ومن افتتن بهذا العبث الذي لا فائدة من ورائه، ومما يقسي القلب كثرة المزاح والضحك والمرح والهزل، فيجب على المسلم أن يتنبه لهذه الأمور.
ومن الأمور التي تقسي القلب المآكل والمشارب المحرمة؛ لأن تغذيتها خبيثة، وآثارها سيئة، تؤثر على الأخلاق والسلوك، وتكسل عن الطاعة، وتنشط على المعصية، وهذا ظاهر على أخلاق الذين يأكلون الربا والرشوة، ويشربون المسكرات والمخدرات، فإن آثار هذه الخبائث تظهر على أبدانهم وأخلاقهم وتصرفاتهم، والمعاصي عموماً تقسي القلب وتعميه، وتحجب عنه نور الإيمان والهداية، قال تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
وفي المسند وجامع الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن المؤمن إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلوا قلبه)) ، فذلك الران الذي ذكره الله – عز وجل -: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
ومن الأمور التي تقسي القلب مصاحبة الأشرار والعصاة ومخالطتهم، فإن المرء من جليسه، وعن المرء لا تسأل واسأل عن قرينه، قال تعالى: ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ، وقد شبه النبي جليس السوء بناقخ الكير لابد أن ينال مُجالِسُه منه من الضرر ما يناله.
فاتقوا الله – عباد الله – واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
(1/880)
النهي عن الإسبال
الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اللباس من نعم الله وبه تُستر العورات 2- أدلة تحرم الإسبال 3- السُّنة في طول الإزار
4- حكم لبس الحرير 5- حكم لبس الذهب للرجال
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، قال تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباس يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ، يمتن تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش، واللباس المراد به ستر العورات وهي السوآت، والريش ما يتجمل به ظاهراً. فاللباس من الضروريات، والريش من التكميليات. روى الإمام أحمد قال: لبس أبو أمامة ثوباً جديداً، فلما بلغ ترقوته قال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي. ثم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله : ((من استجد ثوباً فقال: إذا لبسه حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به كان في ذمة الله وفي جوار الله وفي كنف الله حياً وميتاً)) ، ولما امتن سبحانه باللباس الحسي الذي يتخذ لستر العورة وتدفئة الجسم وتجميل الهيئة، نبه على لباس أحسن منه وأكثر فائدة وهو لباس التقوى الذي هو التحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل. ولباس التقوى هو الغاية وهو المقصود، ولباس الثوب معونة عليه، ومن فقد لباس التقوى لم ينفعه لباس الثياب.
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسياً
ولباس التقوى يستمر مع العبد لا يبلى ولا يبيد. وهو جمال القلب والروح. ولباس الثياب إنما يستر العورة الظاهرة في وقت من الأوقات ثم يبلى ويبيد. وقوله تعالى: ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ، أي المذكور لكم من اللباس مما تتذكرون به نعمة الله عليكم فتشكرونه. وتتذكرون بحاجتكم إلى اللباس الظاهر حاجتكم إلى اللباس الباطن. وتعرفون من فوائد اللباس الظاهر ما هو أعظم منها من فوائد اللباس الباطن الذي هو لباس التقوى.
عباد الله: إن اللباس من نعم الله على عباده التي يجب شكرها والثناء عليه بها. وإن اللباس له أحكام شرعية تجب معرفتها والتقيد بها، فالرجال لهم لباس يختص بهم في نوعه وكيفيته. وللنساء لباس يختص بهن في نوعه وكيفيته. ولا يجوز لأحد الجنسين أن يشارك الآخر في لباسه، فقد لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، وقال : ((لعن الله المرأة تلبس لبسة الرجل والرجل يلبس لبسة المرأة)) ، رواه أحمد وأبو داود.
ويحرم على الرجال إسبال الإزار والثوب والبشت والسراويل، وهو من الكبائر، والإسبال هو نزول الملبوس عن الكعبين، قال تعالى: ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختار فخور ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) ، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة. وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطراً)) متفق عليه. ولأحمد والبخاري: ((ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
عباد الله: مع هذا الوعيد العظيم الوارد في حق المسبل نرى بعض المسلمين لا يهتم بهذا الأمر فيترك ثوبه أو سراويله تنزل عن الكعبين، وربما تلامس الأرض، وهذا منكر ظاهر ومحرم شنيع وكبيرة من كبائر الذنوب. فيجب على من فعل ذلك أن يتوب إلى الله ويرفع ثيابه على الصفة المشروعة. قال : ((إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه ولا حرج عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار)) ، وبجانب أولئك المسبلين فريق من المستهترين الذين يرفعون لباسهم فوق الركبتين فتبدوا أفخاذهم أو بعضها كما يفعله بعض العمال. والفخذان من العورة التي يجب سترها ويحرم كشفها. عن علي قال: قال رسول الله : ((لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت)) رواه أبو داود وابن ماجة.
عباد الله: ومما يحرم على الرجال لبسه الحرير، ففي الصحيحين: أن رسول الله قال: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) ، وهذا وعيد شديد يدل على شدة تحريم لبس الحرير في حق الرجال، وأن من لبسه منهم في الدنيا حرم لبسه في الآخرة حينما يلبسه أهل الجنة، قال تعالى: ولباسهم فيها حرير ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق لهم في الآخرة)) متفق عليه. ويحرم على الرجال لبس الذهب أو شيء فيه ذهب سواء كان خاتماً أو حزاماً أو سلسلة أو في النظارتين أو الساعة – عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله رآى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه وقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)). فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله : خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله.
وقد صار بعض المسلمين يتساهل في هذا الأمر الخطير فيلبس خاتم الذهب ولا يبالي أنه بفعله هذا قد عصى الله ورسوله وحمل في يده جمرة من النار طيلة لبسه لهذا الخاتم. نعم لا يبالي بذلك ما دام أنه اتبع نفسه هواها وقلد من لا خلاق لهم من أوباش الناس وطغامه. وبعض الشباب يتحلون بسلاسل الذهب تقليداً للنساء وإغراقاً في الميوعة. ومتجاهلين ما في ذلك من فقد الرجولة وتعريض أنفسهم للوعيد الشديد بالعذاب الأليم لمن فعل ذلك.
عباد الله: إن الرسول إنما حذرنا من هذه الأشياء، الإسبال في اللباس والتشبه بالنساء ولبس الحرير والتحلي بالذهب، إنما نهانا عن هذه الأشياء لنتخلق بكل معاني الرجولة ونتصف بكامل المروءة؛ إذ العادة أنه لا يبالغ في الزينة والعناية بجسمه وثوبه ومركوبه وفراشه وأثاثه إلى درجة الإفراط إلا مترف لين. والرجل خشن بطبعه وكل ما تلين خفت رجولته ونقصت ذكورته. وعجز عن الكفاح والكد وما خلق له في معترك الحياة. وقد كان النبي يلبس البرد الغليظ الحاشية ويفترش الحصير ويتوسد الجلد حشوه الليف. ويركب البعير والفرس والحمار والبغلة مرة بسرج ومرة بلا سرج ويردف خلفه وبين يديه، ويمشي المسافة الطويلة على رجليه ويأكل ما تيسر من الطعام ويأتدم بما تيسر من الإدام. وقد قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخروذكر الله كثيراً.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/881)
المنجمون (التحذير من المنجمين) - البشرى الثالثة للمرأة المسلمة
الأسرة والمجتمع, التوحيد
الشرك ووسائله, المرأة, نواقض الإسلام
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
الحكمة من خلق النجوم كما قال قتادة – أقسام التنجيم الثلاثة وحكمها – الأول : مبني على دين
الصابئة أن الموجودات مركبة من تأثير الكواكب , الثاني : الاستدلال بالأحوال الفلكية على
الحوادث الأرضية , الثالث : تعلُّم المنازل لمعرفة القبلة وأوقات الصلاة – تكاثر السحرة في هذا
العصر , والواجب على المؤمن تجاه ذلك – دور المرأة الصالحة ومكانتها – حال نساء السلف
وزهدهنَّ وتحملهنَّ ( أسماء بنت الصديق )
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد... فقد قال الله تعالى: وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون [الأنعام: 97].
قال قتادة رحمه الله: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجومًا للشياطين وعلامات يُهتدى بها فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به.
نقول إن قول قتادة هذا رحمه الله دل عليه القرآن العظيم قال تعالى: ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشياطين [الملك:5] وقال سبحانه: وعلامات وبالنجم هم يهتدون [النحل: 16].
فهذه الأجرام السماوية التي سخرها الله سبحانه ليستفيد بها الإنسان في مثل هذه المجالات ليستدل بها على الأزمنة والأمكنة كما هو الشأن في الشمس والقمر، يقول تعالى عن القمر: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [البقرة: 189].
أما الادعاء بأن للنجوم والكواكب صلة بالحوادث التي تجري للناس على الأرض فهذا حكمه كحكم السحر.
قال : ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) [1].
واعلموا أن التنجيم على ثلاثة أقسام أولها: القول بأن الموجودات في العالم مركبة على تأثير الكواكب، وأن الكواكب فاعلة مختارة هذا هو مبنى دين الصابئة الذين كانوا يعظمون الشمس والقمر والكواكب، ويسجدون لها ويتذللون ويسبحونها بتسابيح ويقدمون لها طقوسًا معروفة في دينهم، فهذا القسم كفر بإجماع المسلمين.
وثاني الأقسام الثلاثة: الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية أي الزعم بأن لمسير الكواكب والنجوم واجتماعها وافتراقها وغير ذلك من أحوالها صلة بما يجري للناس من حوادث ووقائع على الأرض ويدعون مع ذلك علم الغيب وإن كان المشتغلون بهذا القسم يقولون كل هذا يجري بقدرة الله ومشيئته هذا القسم وإن كانوا اختلفوا في كفره فإنهم لم يختلفوا في تحريمه وهو إلى الكفر أقرب لما فيه من ادعاء علم الغيب الذي استأثر الله به.
وثالثها: تعلم المنازل للاستدلال على القبلة وعلى الجهات وعلى معرفة أوقات الصلوات ونحو ذلك من المصالح الدينية والدنيوية.
هذا هو المشار إليه في قوله تعالى: جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر
[الأنعام: 97].
وبقوله: وعلامات وبالنجم هم يهتدون [النحل: 16].
وهذا القسم لا شك في مشروعيته كما أن القسمان الأوليان محرمان مفضيان إلى الكفر وهما داخلان في قوله : ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)).
وفي زماننا هذا تكاثر هذا النوع من السحرة والكهان، تكاثر المنجمون الذين يزعمون الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية ويدعون علم الغيب يدعي أحدهم علم ما جرى لك فيما مضى أو ما سيجري في المستقبل.
يدعون علم الغيب وقد يسمون أنفسهم بالروحانيين وما هم إلا من السحرة أو الكهنة كذابين أصحاب المائة كذبة يكذبون ويأكلون أموال الناس بالباطل ويستغلون ضعف النفوس وضعف العقول ممن يصدقونهم.
والمؤمن الموحد مأمور بألا يصدق هؤلاء المنجمين بأن يحذر منهم ولا يصدقهم ولا يعول على أقاويلهم فإنهم يفسدون عليه إيمانه ويضعفون صلتهم بالرب تعالى ويضعفون توكله عليه وحسن ظنه بالرب سبحانه وتعالى.
إلى جانب ما في تصديقهم والتعويل على أقاويلهم واللجوء إليهم ما فيه من الذنب العظيم والكفر العظيم كما أخبر بذلك سيدنا الأمين سيدنا محمد في قوله: ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد )) [2] وفي الحديث الآخر الذي في الصحيح: ((من أتى عرافًا فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يومًا)) [3].
وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر)) [4].
فالمؤمن الموحد يعلم أن تصريف الأمور كلها بيد الرب سبحانه وتعالى هو الذي بيده تصريف الأمور وتدبير شئون العباد وهو الخالق القادر العظيم القاهر فوق عباده له الملك وله الخلق والأمر أليس هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن فله الملك وله الأمر وله الخلق بيده تصريف الأمور وبيده شئون العباد.
ليس من شأن المؤمن الموحد أن يترك هذا الرب الخالق العظيم ويتعلق بالمخلوق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (1/311) ، سنن أبي داود (3905) ، سنن ابن ماجة (3726).
[2] مسند أحمد (2/429).
[3] صحيح مسلم (2230) ولفظه (( من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)).
[4] مسند أحمد (4/399).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن المرأة المسلمة الصالحة التي تفقهت في دينها وعرفت ما أوجب الله عليها تجاهد في ميدانها الذي عينه لها العزيز الحكيم اللطيف الخبير: ميدان الأسرة والبيت وتربية النشء والأولاد هي قوام حياة الزوج قوام الحياة الزوجية الصالحة الآمنة التي توافر فيها لها السكن وتوافرت لها الطمأنينة وبغير هذين لا يستطيع الرجل أن يفعل شيئًا، إذا فقد هذين: السكن والطمأنينة في حياته الزوجية فإن الرجل تفسد حياته، ولذلك فإن الشارع العزيز الحكيم سبحانه وتعالى جعل المرأة في بيتها وميدانها جعل جهادها كجهاد الرجل في ميادينه التي شُرعت له هما في ذلك سواء فإليك أيتها المرأة المسلمة الصالحة إليك البشارة الثالثة من النبي المصطفى.
فقد أخرج يحيى والبراز عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أتين النساء إلى النبي وقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بفضل الجهاد في سبيل الله ومالنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله فقال : ((مهنة إحداكن في بيتها تدرك بها عمل المجاهدين في سبيل الله)).
صدق الرسول وبلغ الرسالة وأدى الأمانة، نعم فهذا هو مقتضى القسمة الربانية قسمة العزيز الحكيم اللطيف الخبير الذي قسم الحياة بين الرجل والمرأة قسمها بينهما ميدانين فللرجل ميدانه وللمرأة ميدانها وكل منهما إذا جاهد في ميدانه وأصلح وأحسن نيته وأبلى في ذلك بلاءً حسنًا فله أجره وثوابه عند الله سبحانه وتعالى وهما في ذلك سواء.
وقد فقه نساء الصحابة ذلك الدرس النبوي وطبقنه في حياتهن رضي الله عنهن وأرضاهن جميعًا، فهذه أسماء بنت أبي الصديق ذات النطاقين ومن لا يعرف أسماء وهي في منزلتها ومكانتها وسابقتها في الإسلام فاسمعوا طرفًا من حياة هذه الصحابية العظيمة ترويه بنفسها رضي الله عنها وأرضاها كما في صحيح البخاري تقول أسماء: لما تزوجني الزبير - الزبير بن العوام فارس رسول الله - لم يكن له في الأرض من مال ولا مملوك - ما كان يملك شيئًا - ولا شيء غير فرسه فكنتُ أعلف فرسه وأكفيه مؤنته وأسوسه وأدق النوى لناضحة وأعلفه واستقي الماء وأعجن وأخبز ولم أكن أحسن الخبز فكانت جارات لي من الأنصار يخبزن لي وكنا نسوة صدق.
تقول رضي الله عنها وكنت أحمل النوى على رأسي من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله وهي على ثلثي فرسخ مني (أي تبعد ميلين عن بيتها رضي الله عنها وأرضاها وأرضى الزبير- هذه لا تزال معروفة حتى اليوم وراء جبل أحد من الشمال، فكانت رضي الله عنها تحمل النوى من أرض الزبير على رأسها إلى بيتها) قالت: فجئت يومًا أحمل النوى على رأسي فلقيني رسول الله ومعه نفر من أصحابه فدعاني وقال أخّ ليركبني خلفه ويحملني خلفه - أي أنه أناخ راحلته ليردفها خلفه - قالت رضي الله عنها: فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرتُ غيرة الزبير فعرف النبي أني استحييت فمضى. فجئت الزبير فقلتُ: لقيت رسول الله وأنا أحمل النوى على رأسي فأناخ لي راحلته ليركبني معه نفر من أصحابه فاستحييت وعرفت غيرتك.
فقال الزبير رضي الله عنه: "لحملك النوى على رأسك أشد علىّ من ركوبك معه. تقول أسماء: حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس ومؤنته فكأنما أعتقني" رواه البخاري من كتاب النكاح في صحيحه [1].
هذا طرف من حياة هذه المرأة الصحابية العظيمة أسماء ذات النطاقين وأسماء هي أسماء من منا لا يعرفها وهي من السابقات إلى الإسلام ماذا نقول في شرح كلامها هذا والتعليق عليه، إنه أوضح وأبلغ من أي شرح أو تعليق.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [2].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح البخاري (5224).
[2] صحيح مسلم (408).
(1/882)
دروس من قصة الثلاثة الذين خُلفَّوا
سيرة وتاريخ
القصص, غزوات
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
29/6/1415
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة أخذ العظة والعبرة من تاريخنا. 2- قصة كعب كما جاءت في رواية البخاري.
3- التسويف مهلكة. 4- الصدق منجاة. 5- الثبات عند الفتن. 6- التربية بالهجر ، والطاعة
والامتثال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى.
أخوة الإيمان: أردت أن يكون الحديث اليوم حديثاً يُشرف بنا على المواقف العطرة المعطرة، مواقف النبي وأصحابه حيث العبرة، وحيث العظة، وحيث الوضوح، وحيث القدوة.
ولقد أصبنا بالفضيحة حقيقة ونحن نرى ونسمع ركاما من القصص، يلوكها الناس ويتناقلونها، يذرف الكذب من بين ثناياها، ولو تساءلنا عن سر ذلك لعرفنا أن غياب التربية على القصص الصحيح النيّر المغبّر المليء بالعظة، قصص الأنبياء والمرسلين، أحسن القصص، وقصص الصحب المبارك الذين أصطفاهم الله من الخلق كما اصطفى الأنبياء، إن الله نظر في قلوب العباد فإذا خيرها وأزكاها وأبرها قلب محمد فاصطفاه رسولا، إن الله نظر في قلوب العباد فإذا قلوب أصحابه فاصطفاهم له صحباً، كما قال ذلك ابن مسعود.
ولذلك فإننا بحاجة إلى أن نَرِد أنفسنا ذلك المعين المنير الصافي، وكذلك فإن قصص الأنبياء وأصحابهم ليست حكايات ماضية، ولكنها سنة باقية، تتجدد بتجديد الأيام، فتمثلها وتقفيها إنما هي دروس تتجدد في حياة المسلمين، وكذلك فإننا بحاجة إلى تناول هذه القصص تناول العبر، لا تناول المتمتع، بسرد الحكاية، تناول الذي يقف مع عجائبها، يستنبط عبرها، لا أن نقف متمتعين بسرد الحكاية، فهي ليست أطروحة أدبية، ولا حكاية يتسلى بها وبسردها ويقتل الوقت بقصها، وإنما هي مشاهد وعبر وعظات تستنطق من خلالها، وكذلك فإننا نقف في هذا اليوم مع مشهد من هذه المشاهد، مع قصة إن أردت أن تجعل عنوانها: التوبة وجدته منطبقا عليها، وإن شئت فقل مراقبة الله، تجده ناطقا فيها، وإن شئت فقل: الإخلاص تجده متمثلا فيها، وإن شئت فقل الولاء للإسلام تجده ثمة، وإن شئت فقل: العطاء للإسلام فستجده هناك، وستجد معان كثيرة واضحة في ثنايا هذه القصة، ولعلها معروفة للكثير منكم ولكني أذكر من خلالها في خشي الله سبحانه وتعالى: فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى [الأعلى]. أما هذه القصة فهي ما رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحيه في كتاب المغازي حيث روى عن كعب بن مالك قال: "لم أتخلف عن رسول الله في غزوة غزاها، إلا غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحداً تخلف عنها، إنما خرج رسول الله يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر في حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عني قبلها راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً وحفازا، وعدوا كثيرا، فجلي للمسلمين أمرهم، ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثير لا يجمعهم كتاب حافظ؛ قال كعب: فما رجل يريد أن يغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله والمسلمون معا، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع، ولم أقض شيئا فأقول في نفسي أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الحر فأصبح رسول الله معه ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فَصَلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وسبقوا وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله تعالى من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بي سلمة: يا رسول الله حبسه برداه، والنظر في عطفيه؛ فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله ؛ قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فما قيل أن رسول الله قد أظل قادما، زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب؛ ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه؛ فقال لي: ما فعلت ألم تكون وقد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى والله يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً – أي فصاحة وقوة كلام – ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجوا فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك؛ فقال رسول الله : ((أما هذا فقد صدق)) ، فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر به المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك افتقاد رسول الله لك، فوا الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك؟ فقلت: من هما؟ قالوا: مرة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاتكئا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم أجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، أطوف في الأسواق فلا يكلمني أحد وآتي رسول الله فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا، ثم أصلي قريبا منه فأرقبه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، واذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه فوا الله ما رد عليّ السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله اعلم؛ ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت حائط الجدار، قال فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان، فإذا فيه أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيع، فالحق بنا نواسك، فقلت لما قرأتها وهذا أيضا من البلاء، فيممت بها التنور فسجّرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله يأتيني فقال إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك؛ فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟! قال: لا اعتزلها ولا تقربها؛ وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي في هذا الأمر؛ قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله ، فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه، قال: لا، ولكن لا يقربك، قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؛ فقلت: والله لا استأذن فيه رسول الله وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى، قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أو من جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر؛ قال: فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء فرج، وأذن رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهبت الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله فتلقاني الناس فوجا فوجاً يهنوني بالتوبة يقولون: لتهنك توبة الله عليك، قال: فمشيت حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله جالس حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة؛ قال كعب: فلما سلمت على رسول الله ؛ قال رسول الله : وهو يبرق وجهه من السرور: ((أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك)) ، قال: قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: ((لا بل من عند الله)) ، وكان رسول الله إذا سرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه؛ قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله وإلى رسول الله ؛ قال رسول الله: ((أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)) ؛ قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق وإن توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوا الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه أي أنعم عليه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، وأنزل الله عز وجل على رسوله : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:117-119]. ثم يقول كعب: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله أن لا أكون كذبته فأهلك، كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال أحد قال الله عز وجل: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين [التوبة:95-96]. قال كعب: وكنا تخلفنا نحن الثلاثة عن أمر أولئك الذي قبل منهم رسول الله حين حلفوا به، فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: وعلى الثلاثة الذين خلفوا الآية، وليس الذين ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه".
روى هذا الحديث الإمام البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وبارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي منّ على من شاء من عباده بالكمال، ورفع بعضهم على بعض درجات، ليبلوهم فيما أعطاهم من تلك الخصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الكبير المتعال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث ليتهم مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأيام والليالي وسلم تسليما.
أما بعد:
إخوة الإيمان: إن الدروس التي تستنبط من هذه القصة كثيرة، ولكن نقف اليوم مع بعضها فأول هذه الدروس المستفادة من قصة تخلف كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم عن غزوة تبوك.
أن التسويف والتأجيل مهلكة للإنسان، وسبب لضياع عزيمته، وهوان دينه في نفسه، فقد كان كعب يغدو في كل يوم يريد اللحاق بالنبي ولكنه يؤجل ذلك حتى رجع الرسول قافلا إلى المدينة، وكم من الأعمال من عبادات وغيرها أضعناها بكلمة سوف، وبالتأجيل حتى ينقضي العمر، ونحن لم نقم بهذا العمل، كما أننا نستفيد أيها الإخوة فائدة عظيمة في هذه القصة، وهي أثر الصدق على الإنسان حينما لا يقول إلا صدقا لقد صدق كعب بن مالك وصاحبيه رسول الله في أن ليس لهم عذر بتخلفهم ولم يكذبوا عليه أو يتأولوا كما كذب غيرهم، ولذلك فقد نجاهم الله بهذا الصدق، كما يقول كعب: "يا رسول الله إن الله نجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت"، وما أحوجنا إخوة الإيمان ونحن في هذا العصر الذي انتشر فيه الكذب وعم إلى أن نهتم بالصدق ونعوَّد عليه من نعول من أبنائنا، وأهلينا، وغيرهم في هذا الزمن الذي أصبحنا نرى الكذب وقد رفعت له ألوية إعلامية تكذب على الناس صباح مساء وتناقض نفسها بنفسها.
الدرس الآخر الذي نأخذه من هذه القصة هو إمضاء النبي للمخلفين الذين اعتذروا له، وحلفوا له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله علانيتهم، وبايعهم، بل واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى ولم يقم النبي بالسؤال عن أعذارهم هل هي صحيحة أم لا فإن من يبحث اليوم عن عورات الناس ويسأل عن أحوالهم بلا داع يدعوه إلى ذلك، بل إلى اتهام الناس بما ليس فيهم، قد أصبح منتشرا في المجتمع بدون تثبت والنبي وكل سرائر هؤلاء واستغفر لهم، وبعضهم منافقون كما ذكر الله، فكيف اتهام الأبرياء بما ليس فيهم فما بالك إن كانوا من أهل الدين الذين يعملون له ويضحون من أجله.
الدرس الآخر في هذه القصة الطاعة العظيمة من صحابة رسول الله له، حيث أمرهم بعدم الحديث معهم، ومقاطعتهم فاتبعت المدينة كلها هذا الأمر النبوي، ولم يعترض معترض لأنهم كانوا يرون في هذا الأمر تربية من النبي ولأصحابه, يرون ثمرتها عاجلا أو آجلا.
كما أننا نستفيد من قصة كعب بن مالك إخوة الإيمان الولاء العظيم للإسلام في نفس كعب وأصحابه رضوان الله عليهم، ولاء لا يفوقه أي ولاء، لقد كان كعب قادرا على أن يستثمر خطاب ملك غسان في الضغط على النبي بإزالة المقاطعة بالرغم من أن هذا الخطاب لم يدعه إلى ترك دينه، وإنما دعاه للحاق به، ومعاشرته، ومع ذلك فإن الولاء العظيم للإسلام في هذه المحنة ظاهر جليّ حينما يمم كعب هذا الخطاب إلى التنور فسجره به، وما أحوجنا إخوة الإيمان إلى أن نجدد دائما وأبدا هذا الولاء للإسلام في قلوبنا فننتصر لأهله، إن وقع عليه الظلم والبطش، ونحزن لأهله إن أصابتهم مصيبة من أعدائهم، ونسخر أعمالنا وأموالنا لخدمة هذا الدين، ونجعله الهمّ الأساسي والوحيد لنا، فإننا إن فعلنا ذلك فإنا ناصروه بإذن الله، ولننظر في حال قلوبنا وعواطفنا هل كان همّ الإسلام هو الهمّ الأول لنا أم أن هموما كثيرة قد حالت دون ذلك.
(1/883)
في حياة أبي بكر رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- مكانة الصحابة والخلفاء الراشدين وفضلهم – منزلة أبي بكر وفضله ودعوته وجهاده وثباته -
خلافته وقتاله المرتدين ومانعي الزكاة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما منّ الله به على نبيكم من الصحابة الكرام ذوي الفضائل العديدة والخصال الحميدة الذين نصر الله بهم الإسلام ونصرهم به وكان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون الذين قاموا بالخلافة بعد نبيهم خير قيام فحافظوا على الدين وساسوا الأمة بالعدل والحزم والتمكين فكانت خلافتهم أفضل خلافة في التاريخ في مستقبل الزمان وماضيه تشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم وكان أجلهم قدرا وأعلاهم فخرا أبا بكر الصديق عبد الله بن عثمان فما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين خير من أبي بكر خلف النبي في أمته بإشارة من النبي ، فقد ثبت في صحيح البخاري في: ((امرأة جاءت إلى النبي في حاجة فأمرها أن ترجع إليه فقالت: أرأيت إن لم أجدك؟ قال: فائتي أبا بكر وهم ّ أن يكتب كتابا لأبي بكر ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)) ، وفي رواية: ((معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر)) وخلفه النبي على الناس في الصلاة والحج فقد أمر أن يصلي أبو بكر بالناس حين مرض النبي وجعله أميرا على الناس في الحج سنة تسع من الهجرة وكل هذا إشارة إلى أنه الخليفة من بعده ولو كان أحد يستحق الخلافة بعد النبي سوى أبي بكر لخلفه النبي في الصلاة والحج.
كان أبو بكر من سادات قريش وأشرافهم وأغنيائهم شهد له ابن الدّعِنَة (سيد القارة) أمام أشراف قريش بما شهدت به خديجة للرسول حين قالت له: إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضعيف وتعين على نوائب الحق. فلما بعث النبي بادر إلى الإيمان به وتصديقه ولم يتردد حين دعاه إلى الإيمان ولازم النبي طول إقامته بمكة وصحبه في هجرته ولازمه في المدينة وشهد معه جميع الغزوات أسلم على يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم عثمان بن عفان والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف. واشترى سبعة من المسلمين يعذبهم الكفار بسبب إسلامهم فأعتقهم منهم بلال مؤذن رسول الله وعامر بن فهيرة الذي صحبهما في هجرتهما ليخدمهما. كان أعلم الناس برسول الله ومدلول كلامه وفحواه. فقد خطب النبي في آخر حياته وقال: ((إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله ففهم أبو بكر أن المخير رسول الله فبكى)) فعجب الناس من بكائه لأنهم لم يفهموا ما فهم. وكان أحب الناس إلى رسول الله قال فيه النبي وهو يخطب الناس: ((إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته. وجاء مرة إلى النبي فقال: يا رسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى فأقبلت إليك فقال النبي : يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ قالوا: لا فجاء إلى النبي فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر أن يقول النبي لعمر ما يكره فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال النبي : إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها)). وكان أثبت الصحابة عند النوازل والكوارث ففي صلح الحديبية لم يتحمل كثير من الصحابة الشروط التي وقعت بين النبي وبين قريش حتى إن عمر راجع النبي في ذلك وشق عليه الأمر وراجع أبا بكر فكان جواب أبي بكر كجواب النبي سواء بسواء. ولما توفي النبي اندهش المسلمون لذلك حتى قام عمر وأنكر موته وقال: والله ما مات رسول الله وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم (من خلاف) ولكن أبا بكر جاء فكشف عن رسول الله فقبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا ثم خرج إلى الناس فصعد المنبر فخطب الناس بقلب ثابت وقال: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وتلا: إنك ميت وإنهم ميتون ، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين. ولما أراد أن ينفذ جيش أسامة بعد وفاة النبي راجعه عمر وغيره من الصحابة أن لا يسير الجيش من أجل حاجتهم إليه في قتال أهل الردة ولكنه صمم على تنفيذه وقال: والله لا أحل راية عقدها رسول الله ولو أن الطير تخطفنا. ولما مات رسول الله وارتد من ارتد من العرب ومنعوا الزكاة عزم على قتالهم فراجعه من راجعه في ذلك فصمم على قتالهم قال عمر: فعرفت أن ذلك هو الحق. وصفه علي فقال كنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأحسنهم صحبة وأشبههم برسول الله هديا وسمتا وأكرمهم عليه خلفته في دينه أحسن خلافة حين ارتدوا ولزمت منهاج رسول الله كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف متواضعا في نفسك عظيما عند الله أقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتقاهم.
تولى أبو بكر الخلافة بعد رسول الله فسار في الناس سيرة حميدة وبارك الله في مدة خلافته على قلتها فقد كانت سنتين وثلاثة أشهر وتسع ليال ومات ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء ليلة ثلاث وعشرين من جمادى الثانية سنة ثلاث عشرة من الهجرة. ومن بركته أن خلف على المسلمين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فإن هذا من حسناته رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخ.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/884)
في قصة موسى مع فرعون
سيرة وتاريخ
القصص
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تذكير بنعم الله ونصره لعباده. 2- دعوة موسى لفرعون وجواره معه. 3- عجز فرعون
عن المحاجة فهدد بالقوة. 4- خروج فرعون على اثر موسى وقومه. 5- نجاة موسى وغرق
فرعون. 6- صيام عاشوراء وفضله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واذكروا أيام الله لعلكم تذكرون واذكروا أيام الله بنصر أوليائه لعلكم تشكرون واذكروا أيام الله بخذلان أعدائه لعلكم تتقون واذكروا أيام الله إذا نزل للقضاء بين عباده فقضى بينهم بفضله وعدله لعلكم توقنون إن نصر الله لأوليائه في كل زمان ومكان وأمة انتاصر للحق وذلة للباطل وأخذ للمتكبر ونعمة على المؤمنين إلى قيام الساعة لقد أرسل الله موسى صلى الله عليه وعلى نبينا وإخوانهما من النبيين والمرسلين أرسله إلى فرعون بالآيات والسلطان المبين إلى فرعون الذي تكبر على الملأ وقال: أنا ربكم الأعلى فجاءه موسى بالآيات البينات ودعاه إلى توحيد رب الأرض والسماوات فقال فرعون منكرا وجاحدا: وما رب العالمين فأنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات وكان له آية في كل شيء من المخلوقات فأجابه موسى: هو رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ففي السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب الإيقان للموقنين فقال فرعون لمن حوله ساخرا ومستهزئا بموسى: ألا تستمعون فذكره موسى بأصله وأنه مخلوق من العدم وصائر إلى العدم كما عدم آباؤه الأولون فقال موسى هو: ربكم ورب آبائكم الأولين وحينئذ بهت فرعون فادعى دعوى المكابر المغبون فقال: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون فطعن بالرسول والمرسل فرد عليه موسى ذلك وبين له أن الجنون إنما هو إنكار الخالق العظيم فقال: رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون فلما عجز فرعون عن رد الحق لجأ إلى ما لجأ إليه العاجزون المتكبرون من الإرهاب فتوعد موسى بالإعتقال والسجن وخاب فقال: لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ولم يقل: لأسجننك ليزيد في إرهاب موسى وإن لدى فرعون من القوة والسلطان والنفوذ ما مكنه من سجن الناس الذين سيكون موسى من جملتهم على حد تهديده وإرهابه وما زال موسى يأتي بالآيات كالشمس وفرعون يحاول بكل مجهوداته ودعاياته أن يقضي عليها بالرد والطمس حتى قال لقومه: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين وكان من قصة إغراقهم أن الله أوحى إلى موسى أن يسري بقومه ليلا من مصر فاهتم لذلك فرعون اهتماما عظيما فأرسل في جميع مدائن مصر أن يحشر الناس للوصول إليه لأمر يريده الله فجمع فرعون قومه وخرج في إثر موسى متجهين إلى جهة البحر الأحمر: فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون البحر من أمامنا فإن خضناه غرقنا وفرعون قومه خلفنا فإن وقفنا أدركنا فقال موسى: كلا إن معي ربي سيهدين فلما بلغ البحر أمره الله أن يضربه بعصاه فضربه فانفلق البحر اثنى عشر طريقا وصار الماء السيال بين هذه الطرق كأطواد الجبال فلما تكامل موسى وقومه خارجين وتكامل فرعون بجنوده داخلين أمر الله البحر أن يعود إلى حاله فانطبق على فرعون وجنوده فكانوا من المغرقين فانظروا رحمكم الله إلى ما في هذه القصة من العبر والآيات كيف كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل خوفا من موسى فتربى موسى في بيته تحت حجر امرأته وكيف قابل موسى هذا الجبار العنيد مصرحا معلنا بالحق هاتفا به ألا إن ربكم هو الله رب العالمين فأنجاه الله منه وكيف كان الماء السيال شيئا جامدا كالجبال بقدرة الله وكان الطريق يبسا لا وحل فيه في الحال وكيف أهلك الله هذا الجبار العنيد بمثل ما كان يفتخر به فقد كان يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته فأهلك بالماء ولا شك أن ظهور آيات الله في مخلوقاته نعمة كبرى يستحق عليها الحمد والشكر خصوصا إذا كانت في نصر أولياء الله وحزبه ودحر أعداء الله وحزبه ولذلك لما قدم النبي المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من هذا الشهر شهر المحرم ويقولون إنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فقال النبي : ((احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) فينبغي للمسلم أن يصوم يوم عاشوراء وكذلك اليوم التاسع لتحصل بذلك مخالفة اليهود التي أمر الرسول بها أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم... الخ.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/885)
أحكام النذر
فقه
الأيمان والنذور
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/6/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكم النذر 2- أن النذر عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى 3- أقسام النذر
4- الفرق بين اليمين والنذر 5- شروط الناذر 6- جواز تغيير النذر من المفضول إلى الفاضل
7- بعض مسائل النذر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
كثيرا ما يسأل أئمة المساجد من قبل عامة الناس عن مسائل تتعلق بالنذر.
نذرت إن أنا شفيت من المرض أن أصوم شهرا، أو نذرت أن أتصدق بمبلغ كذا، ثم يعجز بعد ذلك عن الوفاء بنذره، فما الحكم؟ فرأيت انه من المناسب أن نخصص بين كل فترة وأخرى، خطبة، نذكر فيها أحكام باب معين يحتاجه الناس، ويكثر السؤال عنه، فهذه، خطبة مختصرة في أحكام النذر.
ذكر الله جل وتعالى عن أم مريم أنها نذرت ما في بطنها لله، فقال سبحانه: إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم وأمر الله مريم فقال: فأما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا وذكر الله جل وتعالى عن أهل الجاهلية، ما كانوا يتقربون به إلى آلهتهم من نذور، طلبا لشفاعتهم عند الله، وليقربوهم إليه زلفى فقال عز وجل: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون.
أيها الأحبة:
النذر مشروع في شريعة الإسلام، لكنه غير مستحب، انتبه، وهناك فرق بين أن يكون مشروعا وبين أنه غير مستحب. قال الله تعالى في مشروعية النذر وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وقال سبحانه: ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق وقال جل وتعالى: يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً وقد حرمه طائفة من أهل العلم وأما كونه لا يستحب، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر كما في حديث ابن عمر عند البخاري ومسلم وقال: ((إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل)).
فالقول بأنه مشروع، يعني أنه لو نذر الإنسان نذرا صحيحا لزمه الوفاء به، والقول بأنه لا يستحب، أي أنه لا يستحب للمسلم أن ينذر، لأنه كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام لا يأتي بخير، وهو إنما يستخرج من البخيل. فقه السنة 3/33.
أيها المسلمون:
النذر نوع من أنواع العبادة التي هي حق لله وحده، لا يجوز صرف شيء منها لغيره، فمن نذر لغيره فقد صرف نوعا من أنواع العبادة التي هي حق الله تعالى لمن نذر له، وهذا يعتبر شركا، ويكون صاحبه داخلا تحت عموم قول الله تعالى: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار. ومن اعتقد من المسلمين المكلفين جواز النذر لغير الله، فاعتقاده هذا شرك أكبر مخرج عن الملة، يستتاب صاحبه ثلاثة أيام ويضيق عليه فان تاب وإلا قتل. اللجنة الدائمة 1/110.
إن كثيرا من الناس إذا مرض نذر إذا شفاه الله تعالى أن يفعل كذا وكذا، أو إذا ضاع له شيء نذر أن يفعل كذا وكذا إن وجده، ثم يقدر الله جل وتعالى أن يشفى المريض، أو يجد الضائع، فيعتقد بأن الذي أتى له بذلك هو النذر، وهذا ليس بصحيح، بل إن ذلك من عند الله عز وجل، والله أكرم من أن يحتاج إلى شرط فيما سئل، فعليك أن تسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفى هذا المريض، أو أن يأتي بهذا الضائع، أما النذر فلا وجه له. فتنبهوا لهذا. فتاوى إسلامية 3/484.
ثم إن كثيرا من الذين ينذرون، إذا حصل لهم ما نذروا، فإنهم يتكاسلون عن الوفاء فيما نذروه، وربما تركوا الوفاء به، وهذا أمر خطير وعظيم، استمع إلى قول الله تعالى: ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصّدقنّ ولنكوننّ من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون وعلى هذا لا ينبغي للمؤمن أن يدخل هذا الباب وصدق رسول الله : ((إنه لا يأتي بخير)). فتاوى إسلامية 3/484.
أيها المسلمون:
اعلموا وفقني الله وإياكم، بأن النذر خمسة أقسام:
القسم الأول: النذر المطلق: مثل أن يقول الرجل: لله عليّ نذر، ولم يسم شيئا، فهذا يلزم كفارة يمين لما روى عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله : ((كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين)) رواه ابن ماجة والترمذي. فدل هذا الحديث على وجوب الكفارة إذا لم يسم ما نذر لله عز وجل.
القسم الثاني: نذر اللجاج والغضب: وهو تعليق نذره بشرط، لكن قصده المنع أو التصديق، أو التكذيب، كان يقول: إن كلمتك، فعليّ الحج أو إن لم يكن هذا الخبر صحيحا، فعليّ صيام شهر ونحو ذلك، ففي هذه الحالة، يخير العبد بين التزام ما نذره أو كفارة يمين، لحديث عمران بن حصين، قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين)) رواه سعيد في سننه.
القسم الثالث: النذر المباح، كما لو نذر أن يلبس ثوبه أو يركب سيارته، فهذا يخير بين فعله وبين كفارة اليمين إن لم يفعله كالقسم الثاني، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا شيء عليه في نذر المباح لما روى البخاري: بينما رسول الله يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((مروه، فليتكلم وليستظل، وليتفطر وليتم صومه)).
القسم الرابع: نذر المعصية والعياذ بالله، كان يقول علي نذر أن اشرب الخمر، أو تقول المرأة، علي نذر أن أصوم أيام الحيض، ونحو ذلك، فهذا نذر محرم لا يجوز الوفاء به، لقول النبي : ((من نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) فدل هذا الحديث على أنه لايجوز الوفاء بنذر المعصية، لأن المعصية لا تباح في حال من الأحوال. لكن ماذا عليه لو نذر الشخص نذر معصية، ذهب بعض أهل العلم إلى أن عليه كفارة يمين، لكن الصحيح أنه لا كفارة عليه وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
القسم الخامس: نذر الطاعة، سواء كان هذا النذر مطلق كنفل صلاة أو صيام أو صدقة، أو كان معلقا على حصول شرط، كقوله: إن شفى الله مريضي فلله على كذا، فكل هذا يلزمه الوفاء به، لقول النبي : ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) رواه البخاري ولقول الله تبارك وتعالى: وليوفوا نذورهم الملخص الفقهي 2/485.
أيها المسلمون:
يخلط بعض الناس بين اليمين وبين النذر ويظن أنهما شيء واحد، وليس كذلك، فإن بينهما فروقا. منها: أن النذر التزام جازم لله تعالى، فيلتزم الناذر طاعة لله، قاصدا به التقرب من ربه والوصول إلى ثوابه، بينما اليمين، عقدها بالله وقصد بها مجرد تأكيدها حلفاً على فعله أو على تركه، فالنذر عقده لله، واليمين عقدها بالله.
ومن الفروق بينهما، أن النذر الشرعي لابد من فعله سواء أطلقه أو علقه على حصول شيء فلا ينفع فيه كفارة، أما اليمين فتحله الكفارة، ولهذا سماها الله تحلة فقال: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم.
ومن الفروق: إن عقد الحلف واليمين غير منهي عنه، بل قد يكون واجبا أو مسنونا بحسب أسبابه. أما عقد النذر فإنه مكروه وقد حرمه بعض أهل العلم، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عنه وقال: ((إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل)).
ومن الفروق أيضا: أن الوفاء بالنذر محمود بل واجب، أما الوفاء بموجب اليمين، ففيه تفصيل بحسبه.
ومن الفروق: أن علم النذر من غرائب العلم، كما ذكر هذا بعض أهل العلم، ومن غرائبه انه كان عقدا منهيا عنه، لكن الوفاء به محمود، بل واجب، والقاعدة الأصولية في جميع الأمور إن الوسائل لها أحكام المقاصد، إلا في هذه المسألة. الإرشاد للسعدي ص (204).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أحكام النذر، أيها الأحبة كثيرة، وتفريعاتها، يصعب حصرها، لكن نختار في هذه العجالة، بعضها:
يشترط في الناذر الأهلية من العقل والبلوغ، فلا ينعقد نذر المجنون والصبي، لان هؤلاء غير مكلفين بشيء من الأحكام الشرعية، فليسوا أهلا للالتزام.
ويصح النذر من الكافر، إذا نذر عبادة، ويلزمه الوفاء به إذا أسلم، لحديث عمر رضي الله عنه قال: إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة، فقال له النبي : ((أوف بنذرك)). الملخص الفقهي – الفوزان ج (2).
وإذا نذر الإنسان شيئا ثم رأى أن غيره أفضل منه وأقرب إلى الله وأنفع لعباد الله فانه لا حرج عليه أن يغير وجهة النذر إلى الموقع الفاضل، ودليل ذلك أن رجلا جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن اصلي في بيت المقدس: فقال له الرسول : ((صل ها هنا)) ، ثم أعاد الرجل فقال: ((صل هنا)) ثم أعاد، فقال: ((شأنك إذن)) فدل هذا على أن الإنسان إذا انتقل من نذره المفضول إلى ما هو أفضل، فإن ذلك جائز. فتاوى إسلامية 3/484.
وإذا نذر الشخص ثم لم يلتزم فانه أثم، وعليه التوبة إلى الله، والوفاء بنذره الشرعي، ولو نذر مثلا أن يذبح شاة لله، ثم احتاج إلى قيمتها فباعها، فانه يلزمه ذلك، وعليه بعد التوبة أن يذبح بدلا منها لا تقل عنها، بل تكون مثل ما نذر أو احسن منها.
ومن علق النذر على حصول شيء في المستقبل، ولم يحصل فإنه لا يلزمه الوفاء ولا كفارة عليه، فمتى ما حصل المعلق وكان النذر نذر طاعة وجب عليه الوفاء.
ومن نذر أن يصوم عددا من الأيام، ثم أصابه بعد ذلك مرض لا يرجى زواله، فإنه يطعم عن كل يوم مسكينا بعدد الأيام التي نذر. ولا يصام عنه لان الحي لا يصام عنه، وإنما يصام عن الميت لقول النبي : ((من مات وعليه صوم صام عنه وليه)) رواه البخاري ومسلم.
ولو نذر أن يذبح شاة معينة، ثم ماتت هذه الشاة دون تفريط منه ولا تعدي، فإنه لا شيء عليه ولا يلزمه بدلها.
وإذا كان الشخص معتادا أن يتصدق على أسرة فقيرة، ثم نذر إن حصل له كذا أن يتصدق، ثم حصل فإنه لا يجوز أن يدفعها لمن كان معتادا أن يتصدق عليهم، بل يلزمه أن يتصدق على غيرهم. ابن إبراهيم 12/242.
وإذا نذر شخص إن شفاه الله من مرضه أن يذبح ناقتين جميعا في وقت واحد. ثم شفاه الله وكان فقيرا، فانه يبقى في ذمته كالدين، حتى يغنيه الله من فضله ويوفي بنذره. (ابن إبراهيم).
وإذا قال: إن شفى الله مريضي فلله علي صوم شهر، فله تعجيل الصوم قبل الشفاء لوجود النذر. الاختيارات ص329.
وإذا نذر الشخص لو نجح في الاختبار فإنه سيصوم ثلاثة أيام من شهر، وبعد ما نجح وبدأ في الصيام الشهر الأول ثم الثاني ثم السادس ثم العاشر ثم أحس بالندم وشعر بالإرهاق نظرا لإنشغالاته وأعماله خصوصا أيام الصيف، وان هذا سيستمر معه مدى الحياة، فما الحل؟
الحل: أن هذا شيئا أوجبه هو نفسه وليس له الرجوع عنه، ونسأل الله أن يعينه على ذلك وان يعظم له الأجر والمثوبة، ونوصيه وغيره من إخواننا المسلمين، بالا يعودوا إلى النذر لقول النبي : ((لا تنذروا، فان النذر لا يرد من قدر الله شيئا، وإنما يستخرج به البخيل)) متفق عليه.
(1/886)