دروس من سورة يوسف عليه السلام
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
روس في أساليب الدعوة : 11- لغة الخطاب 2- رقة الأسلوب 3- التمهيد والتدرج 4- التدين عن علم وبصيرة 5- اجتناب الفظاظة والغلظة أهمية الأسلوب الصحيح في صحة الدعوة ( أمثلة )
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون [يوسف:37].
في جواب يوسف على هذين الفتيين لمحات رائعة في أسلوب الدعوة أهمها لغة الخطاب التي استعملها يوسف عليه السلام في حواره معهما فالفتيان كانا وثنيين كما تدل على ذلك دعوته إياهما على التوحيد ومع ذلك تأمل رقة أسلوبه واللغة التي استعملها في حواره معهما.
بدأ أولاً ببيان قدرته كما أسلفنا على تأويل الرؤى والتحدث بما أنعم الله عليه من علم حتى يطمئنهما من أول وهلة على أن المشكلة التي تؤرقهما سيجدان حلها عنده, ثم بعد ذلك مهد عليه السلام للفكرة التي يريد أن يلقيها عليهما والعقيدة التي يريد أن يدعوهما إليها بعدة تمهيدات:-
أولها: لفت انتباههما إلي الرب سبحانه وتعالى, الرب الذي يعبده يوسف وأنه مصدر العطاء كل عطاء.
ثانيهما: بين لهما عليه السلام أن ما أختصه الله به من علم وأنعم عليه من موهبة في تعبير الرؤى إنما كان بسبب أنه وقع فيما وقع فيه مجتمعه وهو ذات المجتمع الذي ينتمي إليه الفتيان من شرك ووثنية ثم بعد ذلك في قوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله [يوسف:37]. تركت ملة قوم هذه العبارة الوجيزة من الأسرار القرآنية وآداب الدعوة الرفيعة ما لا ينتهي منه العجب ولكن نذكر طرفاً من ذلك:
أولاً: قوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله [يوسف:37]. هو تعليل لقوله: ذلكما مما علمني ربي [يوسف:37]. فبذلك أراد يوسف أن يبين لهما أن الإنسان قد يجد الجزاء على العقيدة الصحيحة والأعمال الصالحة في الدنيا قبل الآخرة وأن هذا الجزاء قد يكون مادياً وقد يكون معنوياً كما هو هنا فقد كافئ الله يوسف على تجنبه تلك الملة المنحرفة وعدم وقوعه فيها ملة الوثنية والشرك والكفر بالله والكفر باليوم الآخر وكافئه على اتباع هذه الملة الصحيحة ملة التوحيد بأن وهبه العلم على حد قوله تعالى: واتقوا الله ويعلمكم الله وقوله سبحانه: إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً.
ثانياً: قوله: إني تركت ملة قوم يريد يوسف عليه السلام بذلك الإشارة والإيحاء للمخاطبين على أن الدين الذي أعتنقه يوسف ليس دين تعيين عينه له أحد من الناس أبوه أو ولي أمره أو سلطانه أو حكومته ولا هو دين تقليد قلد فيه الآباء والأجداد والأسلاف وإنما هو دين انتخاب انتخبه يوسف لنفسه بالدليل والبرهان واختاره بكامل إرادته عن تفهم واقتناع وفي هذا إرشاد إلي أنه يجب على الإنسان العاقل أن لا يجعل هذه المسألة الهامة في حياته مسألة التدين والاعتقاد مجرد عادة وتقليد ومحاكاة للآخرين وخاصة إذا كانوا منحرفين وإنما يجب عليه أن يستعمل عقله ليصل بنور الاستقلال الفكري إلي الملة الحقة والعقيدة الصحيحة.
ثالثاً: قوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله فيه استجلاب للمخاطب وتلطف به من أجل أن يتحول ويترك الملة المنحرفة التي هو عليها ويسهل عليه الانقياد للملة الصحيحة فان الترك يتبادر إلي الذهن أنه يكون بعد الملابسة, الترك في اللغة يتبادر للذهن أنه إنما يكون بعد الملابسة بعد فعل الشيء ويوسف عليه السلام لم يقع أصلاً في ملة الوثنية والشرك حتى يتركها ومع ذلك استخدم لفظة الترك إني تركت ملة قوم وفي هذا تلطف مع المخاطب لأنه عليه السلام وضع نفسه في صفه ليكون ذلك أدخل بحسب الظاهر إلي الاقتضاء به كأنه يوحي إليهما ويوجههما ويقول لهما يجب أن تتركا هذه الملة المنحرفة كما تركتها أنا.
رابعاً: قوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله هذه أول غمزة لطيفة خفيفة رقيقة للملة التي يدين بها ذلك المجتمع الوثني ويدين بها الفتيان اللذان ينتميان لهذا المجتمع, مع كون تلك الملة ملة شرك ووثنية فان الفتيين يدينان بها تبعاً لمجتمعهما وتقليداً لأسلافهما فكأنما يريد يوسف عليه السلام أن ينبه أذهانهما إلي أن هذه الملة المنحرفة لا تستحق إلا الترك لمخالفتها للدليل والبرهان ولعدم وجود مصوغ لاعتناقها.
خامساً: المجتمع الذي تسوده الوثنية ويتفشى فيه الفساد الأخلاقي عادة ما تكون فيه الموازين مختلة وخاصة الموازين التي يتفاضل بها الناس, الموازين التي يفضل بها الإنسان على غيره فأراد يوسف عليه السلام بقوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله بعد قوله: ذلكما مما علمني ربي أي يبين لهما أن ما أختصه الله به من علم رباني وموهبة جليلة عظيمة لم يكن بسبب حسبه أو نسبه وإنما هو بسبب اعتقاده وعمله فالله تعالى لا ينظر إلي صور الناس وأشكالهم ولا يفضل بعضهم على بعض بأحسابهم وأنسابهم وإنما مقياس التفضيل عنده هو الاعتقاد الصحيح والعمل الصالح, هذه الآداب الرفيعة والأساليب البديعة ولغة الحوار والخطاب التي نستنبطها من هذه العبارة الوجيزة من الآية: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله تبين ما يجب على المسلم عندما يدعو الآخرين إلي ملة التوحيد, تبين لنا أنه يجب أن نستخدم أحسن المناهج والطرق وألطف الوسائل والأساليب لاستجلاب الناس إلي الخير وأن نتحاشى الفظاظة والغلظة وتنفير الناس عن الملة الصحيحة, قال تعالى لنبيه ومصطفاه: ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك [آل عمران:159]. فإذا كان هذا بالنسبة لسيد الخلق أجمعين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد ثبت في الحديث الصحيح أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال في ناحية منه فقام إليه الصحابة ليزجروه فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم: ((لا تزرموه)) أي لا تفزعوه ولا تهيجوه فلما فرغ الأعرابي من بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب أو بسجل أو بدلو من ماء فاهرق على بوله ثم قال للأعرابي: إن هذه المساجد لا تصلح شيء من هذا إنما هي لذكر الله والصلاة. وفي رواية أن الأعرابي قال: اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ((لقد حجرت واسعاً)) [1]. فرحمة الله واسعة وسعت الخلق أجمعين.
هذا اللين وهذا الرفق العجيب كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعادته ودأبه دائماً في دعوته وفي تعليمه للناس, والرفق واللين هما من أحسن أساليب الدعوة والتعليم ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا دخل العنف في شيء إلا شانه, والدعوة الصحيحة تتوقف على الأسلوب الصحيح والمنهج الصحيح ففساد الأسلوب وفساد المنهج يؤديان إلي فساد الدعوة وإلي تضيع النتائج وفوات الأهداف, وإن من أحسن أساليب الدعوة هو الأسلوب غير المباشر فليست كل الأحوال يلائمها الأسلوب المباشر في الدعوة والتعليم بل هناك مقامات تتطلب مثل هذه الأساليب الرقيقة اللطيفة, روى الخلال رحمه الله في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عمارة رحمه الله قال: حضرت الحسن وقد دعي إلي عرس فجيء بجام "أي بقدح" من فضة عليه خبيز وطعام, ماذا يكون موقف الحسن وآنية الذهب والفضة قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن الشرب فيها والأكل فيها, هذا منكر وهذا محرم ولكن المقام يستدعي الرفق واللين فماذا صنع الحسن قلب الخبيز والطعام على رغيف فأصاب منه أي فأكل من الطعام وهو على الرغيف وترك ذلك القدح من الفضة, قال عمارة: فقال رجل بجانبي لقد نهى هذا في سكوت. نهى عن هذا المنكر ولكن في سكون لأنه لا شك أن المدعوين رأوا ما فعل الحسن وهو إنسان محل قدوة وربما رآه أهل الضيافة فيكون بذلك قد بين لهم دون أن يلفظ بكلمة ودون أن يحدث أي ضجيج ودون أن يحرج أصحاب الضيافة أن الأكل في هذا القدح من الفضة لا يجوز. وهذا يذكرنا بأدب السبطين الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رأيا مرة رجلاً يتوضأ ولا يحسن الوضوء فقال أحدهما للأخر: تعالى أريك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. فتوضأ والرجل يسمع ويرى فبذلك علماه كيف كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يشعر ودون أن يحرجاه أو يجرحا مشاعره وهو أسن منهما وهما فتيان حدثان صغيران في السن رضى الله عنهما وأرضاهما. إننا بأمس الحاجة إلى مثل هذه الأساليب الرفيعة الرقيقة تلطفاً بالناس ورأفة بهم واستجلاباً لهم إلي الخير.
أما بعد: فان خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فان يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار وأعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن أدم أحبب ما شئت فانك مفارقه وأعمل ما شئت فانك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [2] ، اللهم صلِّ وبارك على محمد وعلي آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلي آل إبراهيم انك حميد مجيد وأرضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أصله في البخاري: ك: الوضوء (219).
[2] صحيح مسلم (408).
(1/573)
نعمة رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
منصور الغامدي
الطائف
1/9/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
مشاعر المسلمين عند استقبال شهر رمضان – فضل شهر رمضان – بعض الطاعات المطلوبة
في شهر رمضان : التوبة ,الدعاء ,الإنفاق ,العمرة ,القيام – أصناف الناس في رمضان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون، كم هي مشاعر الفرحة والغبطة التي تغمر المسلمين في أنحاء الأرض كلها، تخالط قلوبهم وهم يترقبون دخول هذا الشهر الكريم، شهر رمضان الكريم الذي أنزل فيه القرآن، لعلمهم أنه يحمل بين جنباته سعة رحمة الله ومغفرته ورضوانه قال : ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار، وصفرت الشياطين)) [1] ، وفيه ليلة القدر خير من ألف شهر، قال ـ تعالى ـ: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ.
إن رمضان انبثاقة فجر جديد للعالم، إنه تشرف أن يكون فيه تبديد ظلام الشكر والضلال الذي خيم على الأرض قرونا، بنزول القرآن فيه، والصيام فيه يربي العبد على التطلع إلى دار الآخرة، فهو يترك طعامه وشرابه وشهوته انتظارا للجزاء الحسن يوم القيامة.
والصيام استسلام وعبودية لله، فالعبد يأتمر بأمر ربه في مواعيد الإمساك، ومواعيد الأكل والشرب، لا يتقدّم عنها ولا يتأخر. والصوم تربية للمجتمع على التلاحم والشعور بحاجة الآخرين.
أيها المسلمون، إن من رحمة الله ـ تبارك وتعالى ـ أن أخرَنا لبلوغ هذا الشهر، وأمهلنا فلم يتخطّفنا الموت كما تخطّف أناساً غيرنا، ولو تأمّلنا قليلاً في حال بعض أقربائنا أو جيراننا أو أصحابنا في ساعة ما، فكم هي نعمة أن يبلّغنا ربنا هذا الشهر الكريم، ومنْ يدري هل سوف نبلغه العام القادم أم لا؟ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ?للَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ. إنك ـ أخي الكريم ـ ترى في هذا الشهر صنفاً مسارعاً إلى طاعةالله، لقد حنّوا في مسيرهم الدنيا إلى الله العلي الكبير، فكلّما تذكروا ما أعدّ الله للصائمين من عظيم الأجر قالوا: يا حبذا الجنة واقترابها طيبةٌ وباردٌ شرابها إنك تراهم يحملون همماً عالية في الخير، وهمماً في الإحسان إلى الناس، وهمماً في البر والمعروف، لقد استعد أهل الدنيا لاستقبال هذا الشهر الكريم، فكيف استعدوا هم له وبم يستقبلونه، ومن أعمالهم فيه التوبة والاستغفار، فرمضان فرصة عظيمة وساحة واسعة للتفكير الصادق في العودة إلى الله ـ تعالى ـ، وترك أكل الحرام وشهادة الزور، والتوبة الصادقة من الظلم والغيبة والنميمة، وقد قال الله ـ تعالى ـ: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
فإن لم نبت في رمضان فليت شعري متى نتوب؟ ولله ـ سبحانه ـ في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار.
ثانيا: الدعاء: قال ـ تعالى ـ: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ وقال : ((لكل مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان)) [2] ، وعلى المسلم أن يتخير أوقات في أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الأذان والإقامة، وفي الساعة الأخيرة من يوم الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تنقضي صلاة الجمعة، وعند إفطار الصائم وغيرها.
صرفت إلى رب الأنام مطالبي ووجهت وجهي نحوه وقالبي
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه مليك يرجى شيبه وفي المتاعب
فما زال يوليني الجميل تلطفا ويدفع عني في صدور النوائب
إذا أغلق الأملاك دوني قصورهم ونهنه عن غشيانهم زجر حاجب
فزعت إلى باب المهيمن طارقا مدلا أنادي باسمه غير هائب
فلم أنف حجابا ولم أخش منعة ولو كان سؤلي فوق هام الكواكب
كريم يلبي عبده كلما دعا نهارا وليلا في الدجى والغياهب
سأسله ما شئت إن يمينه تسح رفاقا باللهى والرغائب
ثالثا: الإنفاق:
النفقة من أسباب القرب من الله ـ تعالى ـ ودخول الجنة أو سارعوا إلى مغفرة قال : ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه)) [3] ، وإنها لفرصة ثمينة أن ينال العبد الأجر العظيم، بصدقة لا تنقص ماله، وقال : ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر)) [4].
رابعا: العمرة: قال : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [5] وهذا الفضل العظيم للعمرة عام في كل حين وأما في رمضان فإن فضلها يتضاعف، فقد قال لامرأة من الأنصار: ((فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرة فيه تعدل حجة، أو قال: حجة معي)) [6].
بارك الله لي ولكم...
[1] أخرجه البخاري : كتاب الصوم – باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان؟... حديث (1899) ، ومسلم : كتاب الصيام – باب فضل شهر رمضان ، حديث (1079).
[2] قال الهيثمي في المجمع (3/143): عن أبي سعيد قال : قال رسول الله : ((إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة – يعني في رمضان – وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة)). رواه البزار وفيه أبان بن أبي عياش ، وهو ضعيف. اهـ. قلت: لم أجده في المطبوع من مسند البزار ن وقال ابن حجر في أبان : متروك ، التقريب (ص87) ، فإسناده ضعيف. وأخرج أحمد (2/254) عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد – شك الأعمش – قال : قال رسول الله : ((إن لله عتقاء في كل يوم وليلة ، لكل عبد منهم دعوة مستجابة)) قال الهيثمي في المجمع (10/216) : ورجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع (2165).
[3] أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب البر والصلة – باب استحباب العفو والتواضع ، حديث (2588).
[4] أخرجه الطبراني في الكبير (8014) ، قال الهيثمي في المجمع (3/115) : إسناده حسن ، وصححه الألباني في الصحيحة (1908).
[5] أخرجه مسلم : كتاب الحج – باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ، حديث (1349).
[6] أخرجه البخاري : كتاب العمرة – باب عمرة في رمضان ، حديث (1782) ، وكتاب جزاء الصيد – باب حج النساء ، حديث (1863) ، ومسلم : كتاب الحج – باب فضل العمرة في رمضان ، حديث (1256).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
أما بعد:
فمن أعمالهم الصالحة الموفقة كذلكم:
خامسا: القيام، كما أن شهر رمضان شهر الصيام، فهو كذلك شهر القيام قال ـ تعالى ـ: قُمِ ?لَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ ?نقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ ?لْقُرْءانَ تَرْتِيلاً.
وقال ـ تعالى ـ في صفة عباده المحسنين: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
وقل : ((من قام رمضان إيمانا وإحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [1] ، وكانوا لا يقتصرون على هذه الأعمال بل كل شيء يقربهم إلى الجنة ويباعدهم عن النار. جعلنا الله وإياكم من هذه الصنف من الناس الذي عرف حقيقة الوقت وعمل لما بعد الموت، وهناك صنفان من الناس، لم يتكيف مع رمضان كما ينبغي بل كان واقعه مختلفا عن هدي السلف الصالح ولعلي أقص عليك طرفا منها:
فمنهم من يغلق مجاري الابتسامة على شفتيه، فما تراه إلا معبس الوجه مقطب الجبين، وإن حصل بينه وبين إنسان اخر شيء من الخلاف، سمعت السب والشتم ورفع الصوت، أو يكون نهاره إفطارا على لحوم إخوانه المسلمين وتتبعاً لعوراتهم، بل لا يكاد يسلم منه المسلم الذي يصلي بجواره في المسجد. ونقول لهذا الصنفان من الناس رويدك فما هكذا يكون خلق الصائم، وما هكذا يقضي يومه.
ومنهم من يجعل شهر رمضان شهر النوم والكسل والبطالة، فيقضي جل نهاره نائما وربما تجد البعض لا يستيقظ إلا قبيل المغرب بلحظات، وقد فاتته صلاة الظهر والعصر.
ومنهم من يمضي ليله أمام أجهزة الإفساد إلى قبيل الفجر عند نزول الرب إلى السماء الدنيا، فهو يطيع الله في النهار ويعصيه في الليل.
ومنهن من تقض ليالي رمضان في التجول في الأسواق وأمام نوافذ المشاغل، وفي أماكن أخرى، وربما خرجن بدون محرم، أو متبرجات سافرات، فيرجعن مأزورات غير مأجورات.
عجيب هذا الصنف من الناس، كيف لم يقدروا هذا الشهر حق قدره ولم يستشعروا حديث النبي : ((أتني جبريل فقال: يا محمد من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، فقلت: آمين، قال: ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله، فقلت: آمين، قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله فقلت: آمين)) [2].
فنسأل الله ـ عز وجل ـ في هذه الساعة المباركة أن لا يجعلنا منهم نحن ولا أهلونا.
إن هؤلاء القوم يخشى عليهم ينتهي أن رمضان وقد حرموا خيرا عظيما، اللهم لا تجعل حظنا من صيامنا الجوع والعطش، ولا من قيامنا النصب والتعب.
ألا وصلوا وسلموا...
[1] أخرجه البخاري : كتاب الإيمان – باب تطوع قيام رمضان من الإيمان ، حديث (37) ، ومسلم : كتاب صلاة المسافرين – باب الترغيب في قيام رمضان ، حديث (759).
[2] أخرجه الطبراني (2022) ، وابن حبان : كتاب البر والإحسان – باب حق الوالدين ، حديث (409) ، قال الهيثمي في المجمع (8/139): رواه الطبراني بأسانيد ، وأحدها حسن. وانظر كلام محقق صحيح ابن حبان ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (75) ، فالحديث صحيح بمجموع طرقه.
(1/574)
القرآن العظيم والإنفاق
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الزكاة والصدقة, القرآن والتفسير
منصور الغامدي
الطائف
21/9/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال العرب قبل الإسلام 2- أثر القرآن على العرب ودوره في هدايتهم 3- طبيعة القرآن
وصفاته 4- حال الصحابة مع القرآن 5- صور هجر القرآن، ودور الكفار في الصد عنه
6- فضل النفقة في سبيل الله، والتحذير من البخل والشح 7- جهود الكفار وبذلهم في سبيل
التنصير 8- الدعوة للنفقة والبذل في سبيل القرآن والدعوة إليه وتعليمه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، والتمسك بكتابه فهو حبل الله المتين، من استمسك به نجا ومن تركه ضل ولم تجد له وليا مرشدا قال الله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [البقرة 185].
إن رمضان هو شهر القرآن، لقد أنزله الله تبارك وتعالى إيذانا بإنبثاق نور جديد للبشرية التي عاشت ردحا من الزمان بعيدة عن عقيدة التوحيد وملة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لقد كان العربي قبل نزول القرآن كتل لحم تسير في الصحراء لا هم له إلا شويهاته يعيش من أجلها ويموت في سبيلها، لقد هانت عليه نفسه لدرجة أنه يصنع صنما من تمر يعبده من دون الله فإذا جاع أكله.
وفي الحديث عن عياض بن حمار : ((إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) حينئذ نزل القرآن، ليهدي تلك القلوب التائهة، والعقول الحائرة، والنفوس المريضة، لقد حول هذا القرآن أولئك الأعراب من رعاة الغنم إلى قادة للأمم، فكم هي نعمة الله علينا سبحانه وتعالى: لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل ولفي ضلال مبين ،[آل عمران 164] الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [البقرة 1].
وقد وصفه الله الذي أنزله على عباده بصفات التزكية والتعظيم، ونزهة عن كل نقص وعيب فوصفه سبحانه بأنه نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وهو شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وهو تذكرة لمن يخشى الله، وبشارة لأولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجر كبيرا، والذين ما أن يستمعوا إلى كتاب ربهم وكلامه حتى تقشعر له جلودهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، كما أنه مبارك وعجيب يهدي إلى الرشد، ولو أنزل على الجبال الصم الصلاب، لرأيتها خاشعة متصدعة من خشية رب الأرباب سبحانه إنه كتاب لا يمكن أن يتطرق إليه الباطل ولا يمكن للإنس والجن فضلا عن أن يكون أحدهما أن يأتي بمثل هذا القرآن.
وإن كتابا يحمل كل هذه الصفات والنعوت لجدير أن يكون له من التأثير والنفاذ إلى القلوب ما لا يملكه أي كتاب ولا أي كلام حتى الذين كانوا يقعدون بكل صراط ويصدون عن سبيل الله لم يستطيعوا إنكار إعجابهم بالقران الكريم.
روى ابن إسحاق في السيرة النبوية أن أبا سفيان قبل إسلامه وأبا جهل بن هشام المخزومي، والأخنس بن شريق خرجوا ذات ليلة متفرقين إلى غير موعد إلى حيث يستمعون من رسول الله وهو يتلو القرآن في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، ولا أحد منهم يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر، تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض، لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة التالية، عاد كل منهم إلى مجلسه لا يدري بمكان صاحبه فباتوا يستمعون للرسول حتى طلع الفجر، فتفرقوا، وجمعهم الطريق فتلاوموا وانصرفوا على ألا يعودوا، لكنهم عادوا فتسللوا في الليلة الثالثة وباتوا يستمعون إلى القرآن.
لقد أدهشهم كلام الله ولم يستطيعوا أن يعتقوا أنفسهم من أسره.
أما الصحابة رضوان الله عليهم فلهم شأن آخر مع كتاب الله عز وجل، لقد تلقفوا القرآن تلقف الإبل إليهم يقرأونه ويتدبرونه ويعملون به، عن أبي رجاء قال: رأيت ابن عباس رضي الله عنهما وتحت عينيه مثل الشراك البالي من الدموع، وعن أبي صالح قال: قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق فجعلوا يقرؤون القرآن ويبكون، فقال أبو بكر الصديق : هكذا كنا.
وعن عمر بن الخطاب : أنه صلى بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف، فبكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف.
إن الحياة مع القرآن وتدبره نعمة لا يعرفها إلا أولئك الذين تذوقوها، نسأل الله أن يجعلنا منهم: إنها نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
إنك وأنت تتجول في كتاب الله الكريم من آية إلى آية ومن سورة إلى سورة تعيش مشاهد وأحداثا، فتقرأ: إن الله سميع بصير [المجادلة 1] وتقرأ: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة [المجادلة 7]وأنه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منا وما ينزل من السماء وما يعرج فيها [سبأ 2]، فإن المسلم وهو يسمع هذه الآيات يصبح في قلبه حساسية تجاه رقابة الله لأعماله الظاهرة والباطنة، فيحرص على نظافة هذه الأعمال والمشاعر ليراها الله نظيفة فيرضى عنها ويثيب عليها.
وحيث يقرأ: هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات 58]، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.[الرعد 26]
حينئذ لم يعد القلق على الرزق يشغلهم ولم يعد يحس حين يتعرض لأي أذى أو اضطهاد أن البشر هم الذين يتصرفون في رزقه أو قوته أو أمنه أو راحته.
إننا نحن المسلمين أحوج إلى تدبر القرآن وتدارسه وتعليمه أبناءنا، إنك تفرح وأنت تسمع أن أسرة من الأسر في هذا البلد الأب يحفظ القرآن، وثلاث أبنائه يحفظون القرآن، وثلاث من البنات كذلك وبقية الأولاد يحفظون الجزء ما بين الرابع والخامس عشر إن الكل يتمنى أن لو كان أبناؤه بهذه المثابة وأسرته كهذه الأسرة، خير من أسرة أمام الشاشة بالساعات الطوال حتى إذا ما جاء القرآن رأيتهم يتأففون، وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون [الزمر 45] وقد يبلغ البعض هجر سماع القرآن الكريم وقراءته، أو هجر العمل به، أو هجر تحكيمه أو التحاكم إليه أو هجر الاستشفاء والتداوي به من أمراض القلوب وأدوائها.
وهذا كله داخل في شكوى الرسول من هجر القرآن الكريم: وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذ هذا القرآن مهجوراً.[الفرقان 30]
أخي: أيها المسافر في هذه الحياة، لقد أدرك الكفار أن عزة المسلمين في التمسك بهذا القرآن، فبدأوا ينفثون سمومهم ليجعلوا منه أثرا رجعيا متخلفا، أو لجعله رمزا فقط لا يعمل به، ولا تنفذ توجيهاته: يقول غلادستون رئيس وزراء بريطانيا سابقا: ما دام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق.
ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر : إننا لن ننتصر على الجزائريين ماداموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا يا حي يا قيوم أقول قول هذا..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
القائل: ((ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال : ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله باب فقر.. وأحدثكم لأربعة نفر: بعد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا هو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء)).
أما بعد:
فإن الإنفاق سبيل المؤمنين المحلفين بالقران وعدهم الله جنة عرضها السماوات والأرض كما قال تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء.[آل عمران 134]
وعن أبي ذر قال : انتهيت إلى النبي وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: ((هم الأخسرون ورب الكعبة قال : فجئت حتى جلست فلم اتقاءّّ حتى قمت فقلت يا رسول الله: فداك أبي وأمي من هم؟ قال هم الأكثرين أموالا إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل هم))، وجاء في الحديث أنه: ((ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الأخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا)).
والمسلم موعود بالخلف ممن إنه من رب العالمين قال تعالى: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه [سبأ 39] وقال : ((ما نقصت صدقة من مال)).
وقال : ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين، قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي)) رواه مسلم.
أخي الكريم: يا من علمناه باذلا ماله في الخير، هل تذكرت معنى حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وفيه: ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )) ، أخي الكريم، لقد جنى الكفار أموالا طائلة لنشر دينهم ومبادئهم، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((بيننا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة :اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة (أو هي الأرض التي بها حجارة سود كثيرة ) فإذا شرجة من تلك الشراج (الشرجة : مسايل الماء في الحرار) قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له يا عبد الله، ما اسمك، قال : فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له، يا عبد الله لم تسألني عن اسمي، فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها، قال : أما إذا قلت هذا، فإني نظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وأكل أنا وعيالي ثلثا، وأراد فيها ثلثه)).
أخي الكريم: لقد جنّد الكفار من اليهود والنصارى أموالا مذهلة لنشر دينهم ومبادئهم المخرفة وأفكارهم عن طريق الإذاعة والتلفزة والمراسلات وغير ذلك فقد أنفق النصارى اثنان وعشرون مليون دولار مع مدرسة تنصرية في بلد عربي، وانفق على مؤتمر للمنصرين واحدا أكثر من واحد وعشرين مليون دولار وجمع اليهود تبرعات تحت شعار (قاتلوا المسلمين) وذلك في فرنسا، فجمعوا ألف مليون فرنك خلال أربعة أيام، وهذا وهم موعودون بالحسرة كما قال الله تعالى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها فثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون [الأنفال 36].
فكيف بمن ينفق ماله في سبيل الله بل في خدمة كتاب الله، خصوصا ونحن نعلم أيها الاخوة الكرام أن الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بالطائف تقوم بأنشطة خيرية كثيرة، وما من أحد منا لا وقد انتفع من برامج هذه الجمعية أو ولده أو ابنته أو إحدى قريباته والعاملون فيها نحسبهم من الثقات المخلصين والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحدا، وكثير ممن يعمل في هذه الجمعية من المحتسبين، كما أن هذه الجمعية تقوم بأعمالها على نفقات المحسنين من أمثالكم الذين ما فتئتم تقدمون كل دعم لها، وهاهم اليوم يلتمسون منكم دعما سخيا، تحتسبونه عند الله تعالى الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا، وتترقبون أنتم دعاء الملك بالخلف ألا وصلوا..
(1/575)
النار ووصفها
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
منصور الغامدي
الطائف
1/8/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
وصف النار وحال أهلها وطعامهم وشرابهم وخلودهم فيها – صفة أهل النار من الكفار -
تلاوم أهل النار – وجوب التوبة ومحاسبة النفس
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله والاستعداد ليوم عظيم، تذهل كل مرضعة فيه عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها.
إخواني في الله، مر معنا في الخطبة الماضية حديث عن الجنة التي هي نزل الكرامة والرحمة والغفران، وفي هذه الخطبة نعرج على النار التي أوقد الله عليها ألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى احمرت وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ـ أجارنا الله وإياكم منها ـ.
إنها دار الذل والهوان، والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، دار أهلها أهل البؤس والشقاء، والندامة والبكاء، والأغلال تجمع بين أيديهم وأعناقهم، والنار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم، شرابهم من حميم يصهروا به ما في بطونهم والجلود، وأكلهم شجر الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، يدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ويسألون ربهم الخروج منها فلا يكلمون، كيف لو أبصرتهم وهم يسحبون فيها على وجوههم وهم لا يبصرون، أم كيف لو سمعت صراخهم وعويلهم وهم لا يسمعون: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
وحينما يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح، تزداد حسرة أهل النار وينقطع أملهم في الموت بعد أن كانوا في الدنيا لا يحبونه، وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
وعن أبي هريرة قال: قال النبي : ((لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل النار أحده إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة)) رواه البخاري [1].
فتوضع الأغلال في أعناقهم ويجمع بعضهم إلى بعض نكاية لهم وزيادة في العذاب، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ?لاْغْلَـ?لُ فِى أَعْنَـ?قِهِمْ [الرعد:5]، وَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ?لاْصْفَادِ [إبراهيم:49].
ويلبسون ثيابا من نار وإن اشتهوا الماء فإنهم يسقون من ماء صديد يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه ، هَـ?ذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْو?جٌ [ص:57، 58]، عن أبي أمامة عن النبي : ((يقرب إليه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره))، وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَ?لْمُهْلِ يَشْوِى ?لْوجُوهَ بِئْسَ ?لشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [2] [الكهف:29]، وَنَادَى? أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ أَصْحَـ?بَ ?لْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ?لْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ?للَّهُ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ [الأعراف:50]، وإذا جاعوا أكلوا من شجرة الزقوم التي لا أقبح ولا أبشع من منظرها مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع، فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ?لْبُطُونَ [الصافات:66]، إِنَّ شَجَرَةَ ?لزَّقُّومِ طَعَامُ ?لأَثِيمِ كَ?لْمُهْلِ يَغْلِى فِى ?لْبُطُونِ كَغَلْىِ ?لْحَمِيمِ [الدخان:43-45]، قال : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه)) [3].
ومن هذا الطعام والشراب واللباس الذي هو من النار يصف الله ـ تعالى ـ شدة حرها: كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى? نَزَّاعَةً لّلشَّوَى? تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى? [المعارج:15-17]، أي إنها لشدة حرها تبري الجلد واللحم عن العظيم وتنزعه ثم يبدل بعد ذلك وهي أيضا من شدة حرها: لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ [المدثر:28]، أي تأكل لحوم أصحابها وعروقهم وعصبتهم وجلودهم، قال : ((ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم)) قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: ((فضلت عليهن بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها)) [4].
يخلق الله الكافرين غلاظ الأجسام نكاية بهم، قال رسول الله : ((ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث)) [5] وقال : ((ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)) [6].
وهذه النار تمتلئ بالعصاة والكافرين: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ?مْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [ق:30]، إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]. عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة فقال النبي : ((أتدرون ما هذا، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها)) [7].
وتحيط به النار من كل مكان، فلا يستطيعون الفرار أو الاختباء: لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ ?لنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16]، لَوْ يَعْلَمُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ?لنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [الأنبياء:39]. وقال : ((إن أهون أهل النار عذابا من له فعلان وشراكان من نار يغلي منها دماغه كما يغلي المرجل (القدر) ما يرى أن أحدا أشد عذابا منها وإنه لأهونهم عذابا)) [8] وقال : ((منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه النار إلى حجرته ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته)) [9]. والحجزة: معقد الإزرار، والترقوة: العظم المشرف من النحر.
لقد صب عليهم العذاب صبا، وذاقوا مس سقر، وفي ذلك المكان المرعب المخيف ما لهم من ناصرين ولا صديق حميم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هَـ?ذِهِ جَهَنَّمُ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (1/576)
الحج وتاريخه
فقه
الحج والعمرة
منصور الغامدي
الطائف
2/12/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
حكم الحج – قصة بناء إبراهيم عليه السلام البيت – فضل الحج – أحكام الحج وأقسامه -
أعمال الحاج
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الحج تلك الشعيرة العظيمة من شعائر ديننا العظيم، فرض فرضه الله على عباده إلى بيته العتيق مرة؛ في العمر لقوله عندما سئل عن الإسلام فقال (( أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إذا استطعت إليه سبيلاً)) [1] ، فمن أنكر فريضة الحج فقد كفر، ومن أقر بها وتركها تهاوناً فهو على خطر، قال عمر بن الخطاب : (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا من كان عنده جِدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين)، وقال علي بن أبي طالب : (استكثروا من الطواف بهذا البيت، قبل أن يحال بينكم وبينه).
إن بيت الله الحرام، هو منارة التوحيد، بناه إمام الموحدين وأمره الله أن يطهر بيته من الرجس والأوثان، إن قدر الله لغالب ألا مكان للوثنية والشرك عند بيته المحرم.
وللبيت قصة عجيبة، لقد جاء إبراهيم عليه السلام بهاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت العتيق، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما ماء وتمراً، ثم انطلق إبراهيم، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس ولا شيء، قالت ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت: إذا لا يضيعنا. ثم انطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نَفِد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحداً ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه، ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه بيدها، فشربت وأرضعت، فقال لها الملك: ((لا تخافوا الضيعة، فإن هذا البيت يبنيه هذا الغلام وأبوه)) رواه البخاري [2].
ويبني الخليل وابنه البيت، وأمر الله خليله إبراهيم عليه السلام بأن يؤذن في الناس بالحج قال تعالى: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]. فقال إبراهيم: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذ إليهم؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، هل الحج اسم لمكان معين؟ وقيل: على الصفا، وقيل على أبي قبيس. وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأجابه كل شيء سمعه من حجر وقدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة، لبيك اللهم لبيك.
وقد حث النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه على الحج ورغب فيه، وأنه يهدم ما قبله من سيئ العمل، فعن عمرو بن العاص قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت رسول الله فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، فبسط، فقبضت يدي، فقال: ((مالك يا عمرو)) ؟ قلت: أشترط، قال ((تشترط ماذا)) ، قلت: أن يغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)) [3].
فالحاج الذي لم يرفث ولم يفسق يخرج طاهرا نقيا من الذنوب صغيرها وكبيرها.
قال : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) [4] ، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)) رواه أحمد وصححه الألباني [5].
وللحاج دعوة مستجابة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)) [6].
الحاج في حفظ الله تعالى، قال : ((ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى المسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً)) [7].
ومما جاء في فضل الحج وأنه منفاة للذنوب، حديث ابن عمر قال: قال رسول الله : ((أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام، فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك، يكتب الله بها لك حسنة، ويمحو عنك بها سيئة وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك)) رواه الطبراني وحسنه الألباني [8].
إن في هذه الأحاديث دعوة ونداء إلى المبادرة بالحج، وغسل النفس من ذنوبها، فإن العبد لا يعلم متى موعد رحيله من هذه الدنيا، والحج أيام معدودات، من استطاع أن يلبي فيها نداء ربه ثم لم يفعل فهو المحروم، إن الحج إلى بيت الله الحرام وأجره وفضله، يحرك الساكن، ويهيج المشاعر والقلوب التي تطمع في مغفرة علام الغيوب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم : كتاب الإيمان – باب الإيمان والإسلام والإحسان ، حديث (8) ، والبخاري بنحوه : كتاب الإيمان – باب سؤال جبريل النبي من الإيمان والإسلام... حديث (50).
[2] صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء – باب يزفون : النسلان في المشيء ، حديث (3364).
[3] أخرجه مسلم : كتاب الإيمان – باب كون الإسلام يهدم ما قبله... حديث (121).
[4] أخرجه البخاري : كتاب الحج – باب فضل الحج المبرور ، حديث (1521) ، ومسلم : كتاب الحج – باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ، حديث (1350).
[5] أخرجه أحمد (1/387) ، والترمذي : كتاب الحج – باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة ، حديث (810) وقال : حسن صحيح ، والنسائي : كتاب مناسك الحج – باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة ، حديث (2630-2631) ، وأخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (8/196) وقال : إسناده حسن ، وصححه الألباني : السلسلة الصحيحة (1200).
[6] أخرجه ابن ماجه : كتاب المناسك – باب فضل دعاء الحاج ، حديث (2893) ، والطبراني في الكبير (13556) ، وابن حبان : كتاب السير – باب فضل الجهاد – ذكر البيان بأن المجاهدين من وفد الله... حديث (4613). قال البوصيري في الزوائد (1021) : هذا إسناد حسن ، عمران مختلف فيه. وقال الهيثمي في المجمع (3/211) : رجاله ثقات. وحسّنه الألباني بمجموع طرقه. انظر السلسلة الصحيحة (1820). فالحديث حسن أو صحيح.
[7] أخرجه الحميدي في مسنده (1090) ، وأبو نعيم في الحلية (1820). وصحيحه الألباني ، صحيح الجامع (3046) ، السلسلة الصحيحة (598).
[8] أخرجه عبد الرزاق : كتاب الحج – باب فضل الحج ، حديث (8830) والبزار (1/90 زوائد) والطبراني في الكبير (13566) ، وابن حبان : كتاب الصلاة – باب صفة الصلاة – ذكر وصف بعض السجود... حديث (1887). قال الهيثمي في المجمع (3/275) : ورجال البزار موثقون. وحسنه الألباني ، صحيح الجامع (1373).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإذا عقد المسلم نيته على الحج فعليه أن يلبس ملابس الإحرام إزاراً ورداء، فيمر بالميقات وينوي الدخول في الحج بأحد الأنساك الثلاثة:
فإن كان متمتعاً يحرم بالعمرة وحدها ويقول إذا وصل الميقات: لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج، فإذا وصل إلى مكة، طاف وسعى سعي المعمرة ثم يحلق أو يقصر، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة يوم التروية أحرم بالحج وحده وأتى بجميع أعماله، وإن أخر إحرامه إلى اليوم التاسع فلا حرج عليه لكنه خلاف السنة، وينحر الهدي في اليوم العاشر.
وإن أراد الحاج (الإفراد) يقول عند الميقات: لبيك حجاً، فإذا أخرّ سعيَ الحج سعى بعد طواف الإفاضة، ولا يحلق ولا يقصر ولا يحل من إحرامه، بل يبقى على إحرامه حتى يحل منه بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد. والمفرد لا هدي عليه.
والنسك الثالث: القرآن، وهو أن يحرم بالعمرة والحج جميعا فيقرن بينهما، وعمل القارن مثل عمل المفرد سواء بسواء إلا أن القارن عليه هدي كالمتمتع، وصفة النية أن يقول: لبيك عمرة وحجاً، وفي اليوم الثامن يستحب التوجه إلى منى قبل الزوال فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء قصراً، ويبيت فيها فيصلي فجر التاسع، وفي اليوم التاسع ـ وهو يوم عرفة ـ يمكث الحاج بعد صلاة الفجر في منى إلى ما بعد شروق الشمس ثم ينطلق من منى إلى عرفة وهو يلبي أو يكبر، فإذا زالت الشمس صلى الحاج الظهر والعصر جمعاً وقصراً جمع تقديم بأذان واحدا وإقامتين، ولا يصلي قبلهما ولا بينهما شيئاً ويتفرغ الحاج بعد ذلك للذكر والدعاء والتضرع إلى الله ويدعو بما أحب رافعاً يديه ويكثر من التهليل فإنه خير الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وكان للسلف أحوال من الرجاء في مغفرة الله، فكان أبو عبيدة الخواص يقول في الموقف: واشوقاه إلى من يراني ولا أراه، وكان بعد ما كبر يأخذ بلحيته ويقول: يا رب قد كبرت فأعتقني. قال ابن المبارك جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تهملان، فالتفت إلي فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له. وروي عن الفضيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً يعني سدس درهم، أكان يردهم؟ قالوا: لا قال: واللهِ لَلْمَغْفِرَةُ عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
فإذا غربت الشمس أفاض الحجاج من عرفات إلى المزدلفة وعليهم السكينة والوقار، فإذا وصلوا المزدلفة صلوا المغرب والعشاء جمع تأخير قصراً، ويبيت في مزدلفة ويصلي فيها صلاة الفجر ويكثر من الذكر والدعاء بعد الصلاة ويلتقط سبع حصيات لرمي جمرة العقبة ثم يرمي جمرة العقبة مكبراً مع كل حصاة، ثم يحلق أو يقصر، ويطوف طواف الإفاضة، ويجوز تأخيره إلى اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر أو مع طواف الوداع، ثم السعي إن لم يسعَ أولاً. وعلى القارن والمتمتع نحر الهدي، وفي اليوم الحادي عشر يبيت في منى ويرمي الجمرة الصغرى فالوسطى فالكبرى بعد الزوال، يكبر مع كل حصاة ويدعو بعد الصغرى والوسطى، وكذا يفعل في اليوم الثاني عشر، لكن يجوز للحاج أن يتعجل فينفر من منى إلى مكة قبل غروب الشمس، ثم يطوف طواف الوداع، ومن أراد أن يتأخر إلى اليوم الثالث عشر ـ وهو الأفضل ـ يبيت في منى ثم يرمي الجمرات الثلاث ويطوف طواف الوداع وهو واجب في تركه دم إلا الحائض والنفساء.
أما والذي حج المحبون بيته ولبوا له عند المهل وأحرموا
وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعا لِعِزَّهِ من تعنوا الوجوهَ وتسلم
دعاهم فلبوه رضا ومحبة فلما دعوه كان أقرب منهم
وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة ولم تثنهم لَذَّاتُهم والتنعم
ولما رأت أبصارهم بيته الذي قلوب الورى شوقا إليه تضرم
فلله كم من عبرة مهراقة وأخرى على آثارها لا تقدم
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدنو به الجبار جل جلاله يباهي به أملاكه فَهْوَ أكرم
فأشهدكم أني غفرت ذنوبهمْ وأعطيتهم ما أمَّلوه وأنعم
فكم من عتيق فيه كمل عتقه وآخر يستسعي وربك أكرم
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله...
(1/577)
الحرب في كوسوفا
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
منصور الغامدي
الطائف
23/12/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- مأساة المسلمين في العالم – جذور الصراع بين المسلمين والصرب – دور الغرب الصليبي
في حرب المسلمين – وقفات مع محنة كوسوفا : ( المعركة من اليهود والنصارى عقدية -
الذنوب سبب الكوارث – انكشاف حقيقة الغرب – الجهاد سبيل عزة الأمة – واجب المسلمين
اليوم )
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن العالم كله من أقصاه إلى أقصاه لا يكاد يغمض عينيه حتى يفتحها على هول المأساة التي يعيشها المسلمون على كافة الأصعدة، فالمسلمون في العالم هم أكثر الشعوب تخلفا، وهم أفقر الشعوب، وهم أيضا أذل الشعوب لقد كانوا يوما ما زعماء العالم وقادته، ساروا بالإنسانية إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، لقد تبوأت الأمة مبوأ الصدارة، وكل الأمم تخطب ودها، وتخاف سطوتها واليوم ترى الأمور تبدلت، والأوضاع انتكست، وأصبح المسلم مسلوب الكرامة والحرية.
أيها الأخوة المسلمون، المسلمون في البلقان قضية ساخنة يتابع العالم أحداثها، وتشدهم أحاديثها، ويتفرج على فصول مسرحيتها، وتتسابق وسائل الإعلام العالمية في نشر كل ما جديد في حلقة الصراع هناك، لكن يجب علينا بصفتنا مسلمين ألا نأخذ ما يدور في (كوسوفا) من صراع مسلح بصورة سطحية، بل علينا أن نعود إلى جذور الصراع وأسبابه التي حركت النصارى ضد المسلمين، إن جذور الصراع بدأت منذ العهد العثماني حيث جرت معركة (كوسوفا) بين الجيش العثماني الذي قاده السلطان (مرادا الأول) بنفسه، والجيش الصربي بقيادة الملك (لازار) وتم اللقاء في ميدان كوسوفا أي (الطيور السود) ودارت معركة عنيفة، تنازع الجيشان فيها راية النصر أكثر من مرة، وبقيت الحرب سجالا مدة من الزمن، وأخيرا فر القائد الصربي (فول برانكوفتش) وهو صهر الملك لازار وانضم إلى جيش المسلمين ومعه عشرة آلاف جندي، التي هزت أوروبا بكاملها، وقتل فيها ملك الصرب وانهزم جيشه هزيمة منكرة انتهت على إثرها دولة الصرب في العصور الوسطى، وألحق أقاليمها بالدولة العثمانية وذلك عام 1389م، فكان يوم 28 من حزيران يونيو مناسبة مهمة يحيها الصرب كل سنة لتأجيج حقدهم ضد ألبان كوسوفا.
وبعد انسحاب الدولة العثمانية من أوروبا الشرقية بما في ذلك ألبانيا، ازدادت معاناة المسلمين الألبان على أيدي الصرب، ومع بوادر تفتت الاتحاد اليوغسلافي حاول المسلمون أن يحققوا حكمهم الذاتي الذي كفله لهم الدستور، إلا أن الصرب قاموا باحتلال المدارس فأغلقت ألف مدرسة ابتدائية، ومائة وخمس عشرة مدرسة ثانوية، وعشرين كلية جامعية، وحرم 430 ألف ألباني من التعليم، كما جمدت رواتب المدرسين.
ويرى الكثيرون أن الصراع الدائر في إقليم (كوسوفا) بين الألبان الذين يمثلون اثنين وتسعين بالمائة من سكان الإقليم وبين السلطات الصربية المسيطرة على الإقليم، هو في الحقيقة صراع بين المسلمين والنصارى الأرثوذكس، يقول الضابط الصربي راتكو ميلاديتش : لاحق لهؤلاء المسلمين في البقاء هنا، بل كان عليهم الرحيل لتركيا مع العثمانيين، وأمل الرئيس الصربي أقر منذ اللحظة الأولى أثناء حملته الانتخابية على إقحام العامل الديني في المعركة، ولذلك رفع شعار (لن يهزمكم أحد مرة أخرى) في إشارة إلى معركة كوسوفا، وصرح رئيس وزراء يوغسلافيا أن الحرب التي تخوضها صربيا ما هي إلا من أجل حماية أوروبا من المد الإسلامي، إن الإسلام هو الذنب الذي من أجله تظهر حمامات الدم، ويشرد الألوف من المسلمين.
إننا لم نكد ننتهي من هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين في البوسنة على أيدي الصرب، حتى أصبحنا على هول فاجعة أخرى على يد الصرب المجرمين في كوسوفا، فلقد سفكوا دم أكثر من ثلاثة آلاف ألباني معظمهم كبار السن والنساء والأطفال، وفقد الآلاف من الألبان، ويُرجح أنهم قتلوا جميعا، كما تم تدمير أكثر من مائتي قرية تدميرا كاملا، إضافة إلى تخريب خمس وأربعين ألف منزل، ثم تشريد وإجلاء أكثر من 600 ألف ألباني إلى خارج كوسوفا إلى حيث العراء، والأمراض إلى حيث التنصير، والمصير المجهول.
أيها المسلمون، لقد تطورت الحركة الصربية الأرثوذكسية من حركة هامشية تحرك الفرد العادي في حالة وقوع الحديث المعادي إلى حركة يتبناها المثقفون ورجال الدين كبرنامج عمل سياسي ثم إلى حركة لها زعيم جمهوري. لقد كان دور رجال الدين الأرثوذكس حاسما في صعود الحركة، رغم اختلافهم المحدود مع سلوبودان.
كما إن الغرب الصليبي بأجنحته المتعددة، وحتى تلك العلمانية والملحدة في بعض طروحاتها يتعامل مع الأزمة في البلقان بقدر كبير من الذكاء والنفاق الذي يتفقه من خلال النص المتفق عليه (استمرار المجزرة كما هو مخطط لها مع الصراخ الذي لا يغير من أهداف المذبحة شيئا) لذا فإن وسطاء الغرب يروحون يجيئون، ومؤتمراته تتعقد ويشارك فيها بعض المهرجين الذين يصدرون التصريحات المطمئنة بأن الحل قادم والجزار يمارس هوايته في جزر الرقاب والطرد والتهجير.
أيها الاخوة الكرام، ومن هذه المحنة والمأساة التي يصاب بها إخواننا في الدين في كوسوفا وفي غيرها من بلاد الله الواسعة يجب أن نقف عندها وقفات:
الوقفة الأولى: إن المعارك التي يخوضها أعداء الإسلام من النصارى الصليبين واليهود والوثنيين إنها معركة العقيدة والدين في صحيحها وحقيقتها، فليست المعركة هنا أو هناك معركة الأرض ولا الغلة ولا المراكز العسكرية ولا الأعراق المختلفة، إنهم يزيفون علينا لغرض في نفوسهم دفين، ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها، وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ [النساء:89]، على حين أن الطيبين السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية أو طائفية، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين ، فيقول الرئيس الكرواتي: (إننا نخشى من تحول البوسنة إلى دولة إسلامية)، ويقول آخر: (إننا لن نرضى أن تقام دولة أصولية في أوروبا)، ويقول جزار الصرب: (إننا على استعداد لفقد مائتي ألف صربي في سبيل ألا يبقى في أوروبا مسلم واحد)، إن الصرب النصارى وغيرهم ما هم إلا امتداد لسلسلة الكيد لهذا الدين مما صنعه الطغاة والمشركون مع نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب ومحمد ، هو امتداد مع الصرب والنصارى، أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَـ?غُونَ [الطور:53]، وصدق الله حين وصفهم كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْو?هِهِمْ وَتَأْبَى? قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـ?سِقُونَ [التوبة:8].
ولعلي أذكركم ببعض ما حصل لمجموعة كثيرة من المسلمين على يد أعداء هذا الدين، فإذا قبض على المسلم فإنه يدق في رأسه مسامير طويلة حتى تصل إلى المخ، أو يحرق المسجون بعد صب البترول عليه، وإشعال النار فيه، أو توضع خوذات معدنية على رؤوسهم ويمر التيار الكهربائي فيه، أو يربط الجسم في آله ميكانيكية والرأس في ماكينة أخرى، ثم تدار كل من الماكنتين في اتجاهات متضادة، أو يصب زيت يغلي على يدي المسجون، أو تُصب المواد الحارقة والكاوية في فم المسجونين وأنوفهم وعيونهم بعد ربطهم ربطا محكما، أو يحدثون ثقبا في الجسم وإدخال ذي عقد واستعماله بعد يومين كمنشار لتقطع قطع من أطراف الجرح المتآكل، وغيرها كثير مما تتفطر له الصم الصلاب:
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرق خجلا من أمسك المنصرم
اسمعي نوح اليتامى واطربي وامسحي دمع الحزانى وابسم
ودعي الجرحى تداوي جرحها وامنعي عنه كريم البلسم
كيف أقدمت وأحجمت ولم يشتك الثأر ولم تنتقم
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
الوقفة الثانية: أن الأمة تتردى في الكوارث بسبب الذنوب والبعد عن الدين الصحيح، فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، قال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، فالزلازل والحروب والقحط وضيق العيش والتردي الاقتصادي ما هي إلا ثمراتٌ مُرّةٌ للذنوب: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَ?شْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ?لْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـ?هُمْ بِجَنَّـ?تِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَـ?هُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ?لْكَفُورَ [سبأ:15، 17]ُ.
الوقفة الثالثة: ظهور حقيقة الغرب النصراني.
لقد كان الناس يتوقعون أن الشعارات البراقة التي يرفعها الغرب الكافر مثل حقوق الإنسان والشرعية الدولية والنظام العالمي الجديد والديمقراطية ، سيكون الغرب جادا في عدم تجاوز حدودها، لكن الأزمة في البلقان والمذابح المرتكبة هناك زيف وعنصرية شعار حقوق الإنسان، وعرف من هو الإنسان الذي تحفظ حقوقه إنه كل أحد ما عدا المسلم إن حق تقرير المصير للشعوب داسته دبابات الصرب ومزقته مدافعهم، هاههم المتحضرون البيض والشعوب الراقصة في أوروبا التي تلهث لإناث الكلاب والقطط، وتذرف دموع التماسيح حزنا على مصير الدببة في أقاصي القطب الشمالي، ترى بشرا يعيشون محرقة إنسانية مكتملة الفصول وتهجيرا وإجراما دون أن يفعلوا شيئا عمليا صحيحا يوقف هذه المأساة.
وهم لا يمكن أن يخاطروا بجندي واحد من أجل المسلمين.
إن النصارى هم أعداؤنا بالأمس وأعداؤنا اليوم وأعداؤنا إلى آخر الزمان، وعلى المسلم أن يقيم في قلبه قضية الولاء والبراء، فلا يعطي ولاءه وحبه إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، والدين هو محور الولاء، لا الجنس ولا اللون ولا العنصر ولا اللسان.
والوقفة الرابعة: الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ [الحج:39، 40]، وقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ [التوبة:11]، والجهاد هو سبيل رفعة الأمة وعزتها ولن يرفع عن هذه الأمة الجريحة الأسيرة، وهو السبيل لكف بأس الذين كفروا، كما أنه باب لنشر الدين وحجب العوائق التي تقف دون وصوله إلى الناس، وها أنت ترى المستضعفين من المسلمين في البلقان يقاتلون على قلة في العدد والعدة، وأخشى ما يخشاه الغرب أن يتنادى المسلمون للجهاد في سبيل الله ونصرة إخوانهم هناك. إن المسلمين هناك:
يسائلون الليل والأفلاك ما فعلت جحافل الحق لما جاءها الخبر
هل قام مليون مهدي لنصرتها هل صامت الناس هل أودى بها الضجر
هل أجهشت في البيوت عاكفة كل القبائل والأحياء والأسر
ولكن مع الأسف لم يكن المسلمون على مستوى الحدث ولم يبلغوا مستوى نجدة المستغيث.
الوقفة الخامسة: واجبنا. إننا ـ نحن المسلمين ـ كما أخبر كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر [1] ، لا أهل؟ من خفقة قلب حزين على مصائب إخوانه هناك، ثم الدعاء لهم بأن ينصرهم الله ويثبتهم ويخذل عدوهم ويكف بأسهم، لأن المسلمين لا بواكي لهم ولا ناصر غير الله لهم، فهذا أقل القليل نفعله تجاههم.
وصلوا وسلموا...
[1] أخرجه مسلم، كتاب: البر والصلة – باب تراحم المؤمنين وتعاضدهم.
(1/578)
الجنة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
منصور الغامدي
الطائف
24/7/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- أشرف الساعات واللحظات في تاريخ المؤمن – أبواب الجنة ودرجاتها وبناؤها وطعام
أهلها – فراش أهل الجنة ونساؤهم – أعظم نعيم أهل الجنة – خلود أهل الجنة
- أسباب دخول الجنة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله والاجتهاد في الأعمال الصالحة والعمل لما بعد الموت.
إخواني، إنها أشرف الساعات، وأنفس اللحظات في تاريخ العبد المؤمن، تلك اللحظة التي يتناول فيها كتابه بيمينه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ ?قْرَؤُاْ كِتَـ?بيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـ?قٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى? أَهْلِهِ مَسْرُوراً تكاد تخرج روحه من بين أضلعه فرحا إنه كتاب من عزيز راحم ـ سبحانه ـ ذي الجبروت والملكوت والإجلال والإكرام.
فتفتح لهم أبواب الجنة: جَنَّـ?تِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ?لاْبْوَابُ وعدتها ثمانية، فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان.
وقد يدعى العبد الصالح المحسن من تلك الأبواب كلها، ومقدار ما بين مصراعي باب الجنة أربعون سنة، قال عتبة بن غزوان : وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام كما ذكر له [1].
وإن سألت عن زمر أهل الجنة، أي الذين يدخلون الجنة أول الناس، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة)) [2].
أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر، لقد أخبر الصادق المصدوق أن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض [3] ، روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك: ((أن أم الربيع بنت البراء أتت رسول الله فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غَرَبَ، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء، قال: يا أم حارثة إنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)) [4].
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى عن رسول الله قال: ((جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما، وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء عن وجهه في جنة عدن)) [5] ، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىّ ءَالآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ.
سئل النبي عن الجنة ما بناؤها قال: ((لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وملاطها المسك الأذخر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وتربتها الزعفران من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم ولا يفني شبابهم)) رواه الترمذي وهو حديث صحيح [6] ، وكما أن هذا حالها وأرضها وبناؤها فإن فيها خيمة من درة مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل لا يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن، ولك أخي الكريم أن تتخيل هيئة هذه الخيمة، وإذا أجال العبد المؤمن طرفه يرى شجرة كما أخبر النبي يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها [7] ، لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ، فإن اشتهى الفاكهة ففيها كما أخبر الله تعالى: فِيهِمَا مِن كُلّ فَـ?كِهَةٍ زَوْجَانِ وقال: فِيهِمَا فَـ?كِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ، وَفَـ?كِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ.
وليست تلك الفواكه كفواكه الدنيا، وإنما تتشابه في الأسماء، فالاسم هو الاسم والمسمى. غير المسمى، ألا ما أطيب تلك الثمار التي غرست أشجارها في أرض المسك ثم سقيت بماء هو أطهر ماء وأنقاه، وأعذب مورد للصادي وأحلاه، فإن كنت تريد غرسا في الجنة فلا يَفْتُرَنّ لسانك عن (سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر) فهو غراسها.
أما أولئك الأخيار فلهم فواكه مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وشرابهم أنهار تجري من غير أخدود، سبحان الله من أمسكها عن الفيضان، تجري من تحتهم وتفجر لهم كما شاءوا وأينما كانوا، وهذه الأنهار عسل مصطفى وماء وخمر لذة للشارب منه، ولبن لم يتغير طعمه، أما على ماذا يقدم الطعام والشراب، فعلى صحاف من ذهب يطوف عليهم بها غلمان كأنهم اللؤلؤ المكنون: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَـ?فٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْو?بٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ?لأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ?لأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ.
وهم الملوك على الأسرة على رؤوسهم التيجان: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ، يَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ أبهج الألوان الأخضر وألين اللباس الحرير، فقد جمع الله لأهل الجنة بين حسن منظر اللباس والتذاذ العين به، وبين نعومته والتذاذ الجسم فيه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] أخرجه مسلم : كتاب الزهد ، والرقائق ، حديث (2967).
[2] صحيح البخاري : كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في صفة الجنة أنها مخلوقة ، حديث (3246) ، صحيح مسلم : كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب أول زمرة تدخل الجنة... حديث (2834).
[3] أخرجه البخاري : كتاب الجهاد والسير – باب درجات المجاهدين في سبيل الله... حديث (2790) ، ومسلم : كتاب الإمارة ، باب : بيان ما أعدّه الله تعالى للمجاهد في الجنة من الدرجات ، حديث (1884).
[4] صحيح البخاري : كتاب الجهاد والسير – باب من أتاه سهم غرب فقتله ، حديث (2809).
[5] صحيح البخاري : كتاب التفسير – باب ومن دونهما جنتان حديث (4878) ، صحيح مسلم : كتاب الإيمان – باب : إثبات رواية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى ، حديث (180).
[6] سنن الترمذي : كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها ، حديث (2526) ، وقال : هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي ، وليس هو عندي بمتصل ، وأخرجه أيضاً أحمد (2/445) ، وابن حبان : كتاب إخباره عن مناقب الصحابة – ذكر الغخبار عن وصف بناء الجنة... (16/396). وصححه الألباني ، انظر : صحيح حسن الترمذي (2050).
[7] أخرجه البخاري : كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في صفة الجنة ، حديث (3251، 3252) ، ومسلم : كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب... حديث (2826).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، هيأ لعباده الصالحين الكرامة والنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، وصلى الله عليه وسلم وبارك على عبده ورسوله النبي الأمي الذي أتم الله به النعمة، وكشف به الغمة، ونشر به على الخلائق الرحمة.
أما بعد:
فبينما أهل الجنة كذلك في نعيمهم وسرورهم إذ تتراءى لهم خيام عالية قد أشرق منها النور وسطع الضياء، فيقصدون تلك الخيام فيبصرون نساء كأنهن البدور ليلة التمام: فِيهِنَّ قَـ?صِر?تُ ?لطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ. وفي الصحيح أن لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ ساقها من روائها، إنهن حور حسان قد كَملَ خَلقُهن وكملت محاسنهن، حتى إن الطرف ليحار من حسنها، بل وبشرب من كؤوس جماله كَأَنَّهُنَّ ?لْيَاقُوتُ وَ?لْمَرْجَانُ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : لو أن حوراء أخرجت كفها بين السماء والأرض لا فتتن الخلائق بحسنها، ولو أخرجت نصيفها لكانت الشمس عند حسنها مثل الفتيلة في الشمس لا ضوء لها، ولو أخرجت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرض، ثم يأتي أعلى نعيم يمر على أهل الجنة وألذه وأكرمه وأبركه إنهم يرون ربهم الذي آمنوا به وصدقوا رسله وأطاعوه ظاهرا وباطنا، والذي أكرمهم بإدخالهم الجنة وجعل لهم هذا النعيم العظيم، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم، فيقولون: مالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: أنا أعطيتكم أفضل من ذلك، قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا)) [1].
وبعد قرارهم في الجنة وتمتعهم بها يؤتى بالموت كالكبش الأملح فيوقف بين الجنة والنار فيذبح وهم ينظرون [2] ، فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة، ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار.
كيف لا يبلغ بهم الفرح مبلغه وهم الذين صبروا على طاعة ربهم ومولاهم، لقد صرفوا جوارحهم وسخروها في طاعته ونصرة دينه، لم تؤخرهم أمواج الشهوات عن اللحاق بركب الصالحين، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى? بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَـ?نَا عَذَابَ ?لسَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ?لْبَرُّ ?لرَّحِيمُ.
بالله ما عذر امرئ هو مؤمن حقا بهذا ليس باليقظان
تالله لو شاقتك جنات النعيـ ـم طلبتها بنفائس الأثمان
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهر قبل الموت ذو إمكان
يا سلعة الرحمن كيف تَصَبَّر الـ خُطَّاب عنك وهم ذوو إيمان
فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد راحاته يوم المعاد الثاني
ألا وصلوا وسلموا...
[1] أخرجه البخاري : كتاب الرقاق ، باب صفة الجنة والنار ، حديث (6549) ، ومسلم : كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة... حديث (2829).
[2] أخرجه البخاري : كتاب التفسير – باب: وأنذرهم يوم الحسرة ، حديث (4730) ، ومسلم : كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب النار يدخلها الجبارون... حديث (2849).
(1/579)
دروس من سورة يوسف عليه السلام
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
27/11/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
الفَتَيان اللذان دخلا السجن مع يوسف عليه السلام وحالهما ؛ وحال قومهما – رحلة إبراهيم
الخليل عليه السلام وإنجاء الله له من النار , وإنجاء أهله من جبّار مصر – دعوة الأنبياء واحدة
وهي التوحيد – موقف اليهود من موسى وأنبيائهم وخيانتهم وغدرهم – التأكيد على الإيمان
باليوم الآخر وأهميته – بعض الطوائف المنحرفة التي تزعم الإسلام , وهي لا تؤمن باليوم الآخر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلي الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [يوسف:37-38].
يقول يوسف عليه السلام لرفيقيه في السجن إني أعرضت عن تلك الملة الوثنية لم أقتنع بها فلم أعتنقها أصلاً, والملة التي يشير إليها ملة وثنية قوم لا يؤمنون بالله كما يجب أشركوا معه آلهه أخرى وكانوا لا يعتقدون باليوم الآخر بيوم الدين ولا يؤمنون بالجزاء والبعث والحساب بعد الموت.
أولئك الوثنيون الذين عاصرهم إبراهيم الخليل أبو الأنبياء وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام أجمعين, أولئك الوثنيون المقصودون هم سكان العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر في ذلك الوقت وكانوا وثنيين وهم القينيون والحيثيون والفرزيون والآراميون والكنعانيون واليبوسيون وهؤلاء هم سكان سوريا ولبنان وفلسطين في ذلك الوقت, والكلدانيون وهم سكان العراق والقبط وهم سكان مصر في ذلك الوقت, انحرفوا عن ملة التوحيد ووقعوا في الشرك والوثنية فأرسل الله إليهم خليله إبراهيم أبا الأنبياء فدعا الكلدانيين سكان العراق إلي ملة التوحيد فكفروا وجحدوا وعزموا على إحراق إبراهيم الخليل وإلقائه في النار فنجاه الله منها بمعجزة باهرة ثم هاجر إبراهيم الخليل عليه السلام إلى فلسطين ومعه نبي الله لوط ما آمن معه إلا هو.
ورحل إبراهيم من فلسطين إلى مصر بأهله ليدعو أهلها إلي التوحيد فبدلاً من أن يستجيبوا إلى الملة الحنيفية أراد جبار مصر في ذلك الوقت السوء بأهل إبراهيم الخليل بزوجه سارة وكانت أجمل أهل زمانها وأحسنهم , فرد الله كيده وحمى عرض خليله ونبيه كلما مد الجبار يده إلي سارة زوج إبراهيم يبست يده وشلت فخاف منها الجبار وردها إلي زوجها معززة مكرمة بل وأخدمها هاجر, أهدى إليها جارية مصرية هي هاجر فلما رجعت سارة إلي إبراهيم الخليل وهو في أشد القلق قال لها: مهيم. قالت: رد الله كيد الفاجر وأخدم هاجر.
ثم وهبت سارة تلك الجارية المصرية إلي زوجها إبراهيم الخليل عليه السلام لعله يرزق الولد فقد كانت سارة عاقراً لا تلد, فولدت هاجر لإبراهيم إسماعيل فغارت سارة منها فأمر الله خليله إبراهيم بأن يأخذ هاجر وابنها الرضيع إسماعيل ويرحل بهما إلى جزيرة العرب حيث وضعهما في تلك البقعة المباركة بواد غير ذي زرع عند بيته المحرم المعظم بأمر من ربه عز وجل, ولكن بعد ذلك قدر الله وشاء فولدت سارة لإبراهيم إسحاق, وإسحاق هو أبو يعقوب, ويعقوب هو جد بني إسرائيل, فيعقوب هو نفسه إسرائيل. [1]
وهؤلاء الأنبياء جميعاً إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب, وإسماعيل الذي هو جد سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وجد العرب, هؤلاء الأنبياء جميعاً رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلي ملة التوحيد التي هي الإسلام, ولكن بني إسرائيل انحرفوا عن هذه الملة ووقعوا في الوثنية والشرك بل صار هذا حالهم دائماً ولذلك كثرت فيهم الأنبياء حتى يدعونهم إلى ملة التوحيد كلما انحرفوا عنها.
ثم جاء نبي الله موسى الكليم عليه السلام ولقي عنتاً ومشقة وتعباً شديداً في دعوة بني إسرائيل إلى التوحيد وتعليمهم عقيدة التوحيد, بل إنهم ونبي الله موسى عليه السلام وأخوه نبي الله هارون بين ظهرانيهم عبدوا العجل واتخذوه إلهاً فغضب عليهم نبي الله موسى ويأس منهم فدعا عليهم قائلاً: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين [المائدة:25]. فحكم الله علي بني إسرائيل بالذلة والمسكنة إلي يوم القيامة إلا بحبل من الله وبحبل من الناس.
اليهود اليوم يزعمون الانتماء إلي إبراهيم وإلي إسحاق ويعقوب الذي هو إسرائيل وينسبون دينهم المحرف المبدل إلي موسى وكل هذا كذب وزور وبهتان, فهؤلاء الأنبياء حاشا أن تكون هذه ملتهم ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين [آل عمران:67]. هؤلاء الأنبياء جميعاً وغيرهم من أنبياء الله ورسله دينهم واحد وملتهم واحدة وهي الإسلام, والإسلام هي الكلمة التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه ووصى بنيه بها وكذلك يعقوب أو إسرائيل ملته الإسلام ووصى بنيه بها ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة:132].
ولكن بني إسرائيل كعادتهم ودأبهم دائماً خانوا وغيروا وبدلوا, حرفوا وصية أبي الأنبياء إبراهيم وحرفوا وصية يعقوب الذي هو إسرائيل والذي ينتمون إليه اليوم زوراً وبهتاناً وقد كانت وصيتهم بالإسلام واتباع نبي آخر الزمان النبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, بشرت به الأنبياء والمرسلون, بشر به موسى وعيسى ويجدون أوصافه مكتوبة بالتوراة والإنجيل, فأحبارهم وعلماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكنهم خانوا الوصية وحرفوها وبدلوها, خانوا العهد وغدروا وكيف لا يخونون هذه الوصية وهم قد خانوا أنبياءهم وخانوا أنفسهم وكتبهم المنزلة علي أنبيائهم, حرفوا وغيروا التوراة والإنجيل وشروها بثمن بخس.
إن اليهود عاندوا ربهم وعصوه حتى لعنهم وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل فأي حق بقي لهم بعد ذلك كله, لا حق لهم أبداً مما يزعمون, ليس لهم أي حق تاريخي ولا أي حق ديني بعد أن خانوا وغدروا وكفروا بالإسلام ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى, بعد أن قتلوا الأنبياء والمرسلين لا حق لهم أبداً, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين [البقرة:135].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر البداية والنهاية (1/141) وأصل القصة في البخاري كتاب الأنبياء (3179).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: عقيدة اليوم الآخر التي أشار إليها يوسف الصديق عليه السلام والتي هي أحد الأركان الستة للإيمان التي لا يكون الإنسان مسلماً إلا بها هي عقيدة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل وموسى وعيسى وعقيدة سائر الأنبياء والمرسلين, وقد جاء بها إمامهم وخاتمهم سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهذه آيات القرآن العظيم حافلة بالدعوة إلي الإيمان باليوم الآخر وأن الله يبعث من في القبور وينصب الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وسيجتاز الخلق الصراط وسيكون هناك الحساب ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, وهذه العقيدة بقيت منها بقايا في دين اليهود المحرف اليوم وفي دين النصارى إلا طوائف قليلة من اليهود لا يؤمنون باليوم الآخر ولا بالملائكة ومثلهم طوائف من المسلمين يدعون الإسلام ولكنهم مع ذلك يكفرون باليوم الآخر, لا يؤمنون بالبعث بعد الموت ولا بالجزاء والحساب ولا بالجنة والنار وهم طائفة من الروافض تسمى الخطابية وطائفة تسمى الإسماعيلية وطائفة تسمى البهرة والبهائية والنصيريون والدروز هؤلاء جميعاً لا يؤمنون باليوم الآخر, فيا ترى ما الفرق بينهم وبين أسلافهم الذين قالوا: أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغصون رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً [الإسراء:49].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلىآل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/580)
القرآن العظيم وهجره
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
منصور الغامدي
الطائف
18/3/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- منزلة القرآن وفضله على الأمة والبشرية – أمثلة لتأثّر العرب ببلاغة القرآن -
تأثر الصحابة بالقرآن وأثره فيهم – لمن يَمنح القرآن كنوزه وأسراره – حال كثير من الناس
مع القرآن وهجرهم له وصور ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الاخوة الكرام، إن القرآن العظيم هو الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، بل جعل هذه الأمة تبلغ ذروة الفضائل والمجد، إنه الأصل الذي يرجع إليه، والنبع الذي تتفجر منه عيون الإيمان وليقين، وفيه ترد يقين النفوس، ولذة عيون المتدبرين، وملاذ قلوب المنكسرين وبماذا يمكن أن تصفه عيون الشعر مهما أوتي أصحابها من بيان وإبداع، إذ هو كلام الله المنزلْ، تكلم به حقيقة ـ سبحانه ـ، وهو صراطه المستقيم، وحبل الله المتين.
أيها الاخوة الكرام، شهدت الأرض ميلادا عظيما بنزول القرآن على محمد إذ شع نوره عليها، وأورقت أغصانها، وسرت الحياة الطيبة في عروقها، أما السماء فكان لها شأن آخر، لقد ملئت حرسا شديدا وشهبا، ولما لم يعد الجن قادرين على استراق السمع كما كانوا من قبل بسبب كثرة الشهب في السماء والرمي بها، ظن الإنس والجن أن ذلك مؤذن بخراب العالم أو هلاك أهل السماء، ولكن الصحيح أن الله أراد بأهل الأرض رشدا، نعم لقد أراد بهم رشدا في أن يعرفهم العقيدة والتوحيد، وأن لا إله إلا هو ـ سبحانه ـ، التي تعني نزع السلطان الذي يزاوله الكهان، ومشيخة القبائل، والأمراء والحكام على الناس ورده كله إلى الله، والتي تعني التأثير على القلوب والشعائر، وواقعيات الحياة، والتأثير في المال، والأرواح والأبدان، لتعود كلها مكومة بشريعة من عند الله.
ونزل القرآن على العرب فرأوا أنهم أمام هيبة رائعة وروعة مخوفة وخوف تقشعر منه الأبدان، فأحسوا ـ وهم الفصحاء ـ أنهم ضعفاء أمام هذا الكمال العظيم، فاستسلموا لبلاغته، وتعلقت قلوبهم به وارتبطت نفوسهم بإعجازه.
هذا الطفيل بن عمرو الدوسي جاء إلى مكة، فلم يزل كفار قريش يقولون: إن محمدا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه، ولا تسمعن منه شيئا، قال الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا، ولا أكلمه حتى حشوت في أذني كرسفا خوفا أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن اسمعه، فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر، وما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقوله، فإن كان الذي يقوله حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، فلما سمع القرآن من النبي غضا طريا قال: (والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه)، ولقد أثرت كلمات القرآن في نفسه، وسرت إلى عقله وقلبه همسات دافئة هادئة تحمل هداية القرآن.
وهنا رجل آخر كان جبارا في الجاهلية شديدا على المسلمين المستضعفين يومئذ، فلما سمع قول الله ـ تعالى ـ: طه (1/581)
المرأة بين الحجاب والتبرج
الأسرة والمجتمع
المرأة
منصور الغامدي
الطائف
20/2/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- نعمة الله على عباده باللباس والرياش – التلازم بين سَتر العورة والتقوى – العلاقة بين
الدعوة إلى السفور والعُرْي ومخطط اليهود – أهمية الحجاب وشروطه – مظاهر التسيّب
في حجاب المرأة اليوم
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
أيها المسلمون، لقد امتن الله على عباده بما جعل لهم من اللباس والرياش، قال الله ـ تعالى ـ: يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ.
فاللباس، لستر العورات وهي السوآت، والرياش والريش ما يتجمل به ظاهرا، فالرياش من الضروريات، والريش: من التكملات والزيادة، ولباس التقوى هو الإيمان وخشية الله. قال عبد الرحمن بن أسلم: يتقي فيواري عورته، فذاك لباس التقوى.
أيها الاخوة الكرام، إن هناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات للزينة وبين التقوى، كلاهما لباس، هذا يستر عورات القلب ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان، فمن الشعور بالتقوى والحياء ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو غيره إلى العري، العري من الحياء والتقوى، والعري من اللباس وكشف السوأة.
إن ستر الجسد للذكر والأنثى ليس مجرد اصطلاح وعادات وعرف بيئي، كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس والنساء وعفتهم لتدمر إنسانيتهم، إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان، ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر.
ومن هنا يستطيع المسلم الواعي أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الرجال والنساء وأخلاقهم، والدعوة السافرة لهم إلى التكشف والانحلال باسم الزينة والحضارة والتطور من جهة، وبين الخطة اليهودية لتدمير إنسانيتهم، وجعلهم يتزينون بزي الحيوانية وهي زينة التكشف والعري.
إن المسلم الحق هو الذي يمتثل قول الله ـ عز وجل ـ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. وقد أمر الله سبحانه إماءه بالحجاب والستر، قال ـ تعالى ـ: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً. قال ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب.
إن هذا الغطاء الذي يستر الوجه والبدن هو علامة المسلمة المحتشمة التي تدين الله بالخضوع والطاعة: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ.
وقد ذكر العلماء شروطا للبس المرأة المسلمة العارفة لدينها الحريصة على حيائها الأول:
أن يكون ساترا لجميع البدن، الثاني: أن يكون كثيفا غير رقيق ولا شفاف، لأن الغرض من الحجاب الستر، فإذا لم يكن ساترا لا يسمى حجابا، لأنه لا يمنع الرؤية ولا يحجب النظر.
الثالث: ألا يكون زينة في نفسه أو مبهرجا ذا ألوان جذابة يلفت الأنظار لقوله تعالى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ، ومعنى (ما ظهر منها) أي بدون قصد ولا تعمد، فإذا كان في ذاته زينة فلا يجوز ارتداؤه، ولا يسمى حجابا، لأن الحجاب هو الذي يمنع ظهور الزينة للأجانب، ومن هنا يعلم أن كثيرا من العباءات التي تباع الآن وفيها من الزينة ما يلفت النظر لا يجوز ارتداؤه.
الرابع: أن يكون واسعا غير ضيق ولا يشف عن البدن، ولا يجسم العورة، ولا يظهر أماكن الفتنة.
الخامس: ألا يكون الثوب معطرا فيه إثارة للرجال لقوله : ((إن المرأة إذا استطعرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية)) [1].
السادس: أن لا يكون الثوب فيه تشبه بالرجال لحديث أبي هريرة : ((لعن النبي الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل)) [2] ، وفي الحديث: ((لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء)) [3].
السابع: أن لا يشبه ملابس الكافرات، قال : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [4] ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: رأى رسول الله علي ثوبين معصفرين، فقال: ((أن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسها)) [5].
وقد حذر النبي من فتنة النساء قال عليه الصلاة والسلام: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) [6] متفق عليه، ولقد عرف أعداء الإسلام أن في فساد المرأة وتحللها إفساداً للمجتمع كله.
يقول أحد كبار الماسونية: كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوهم في حب المادة والشهوات.
وقال آخر: يجب علينا أن نكسب المرأة، فأي يوم مدت إلينا يدها فُزْنا بالمراد وتبدد جيش المنتصرين للدين.
ومن حينها باتت دور الأزياء وصيحات الموضة تنسج لنساء المسلمين كل ما يخدش لحياء ويفضي إلى التهتك، من الملابس الضيقة والعارية والقصيرة والمفتوحة، وأصبحت مجلات الأزياء وغيرها توجه الفتاة المسلمة بكل خبث إلى نوع ما ترتديه من ملابس في صيف عام كذا، أو في شتاء عام كذا، حتى غدت المسلمة أسيرة لآخر الموديلات وأحدث التقليعات التي فيها تشبه بالكافرات، ومحبتهم والإعجاب بهم، وهذا قادح في كمال عقيدة المسلمة.
لحد الركبتين تشمرينا بربك أي نهر تعبرينا
كأن الثوب ظل في صباح يزيد تقلعاً حينا فحينا
تظنين الرجال بلا شعور لأنك ربما لا تشعرينا
قال : ((صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) [7] ، ولقد تحققت نبوة رسول الله فقد وصفهن وصف المشاهد لهن، فمعنى (كاسيات عاريات): يلبس ثيابا رقيقة تصف لون الجسد أو قصيرة، فهي كاسية في الاسم عارية في الحقيقة. ومعنى (مائلات): أي زائغات عن طاعة الله، وما يلزمهن من الحياء والتستر مائلات في مشيتهن. (مميلات): أي مميلات فيرهن فيعلمنهن التبرج والسفور بوسائل متعددة، مميلات لقلوب الرجال لفعلهن، ومعنى (رؤوسهن كأسنمة البخت): أي يعملن شعورهن بلفها وتكويرها إلى أعلى كأسنمة الإبل المائلة.
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد ابن عثيمين عن اللباس الضيق والمفتوح للمرأة فقال: هذا اللباس لباس أهل النار، كما قال النبي : ((صنفان من أهل النار لم أرهما..)) ، وذكر الحديث السابق، فهذه المرأة التي تلبس هذا اللباس كاسية عارية، لأن اللباس إذا كان ضيقا فإنه يصف حجم البدن ويبين مقاطعه، وكذلك إذا كان مفتوحا، فإنه يبين ما تحته، لأنه ينفتح، فلا يجوز مثل هذا اللباس، وقال ـ حفظه الله ـ في موضع آخر: أرى إنسياق المسلمين وراء هذه الموضة من أنواع الألبسة التي ترد علينا من هنا وهناك، وكثير منها لا يتلاءم مع الزي الإسلامي الذي يكون فيه الستر الكامل للمرأة، مثل الألبسة القصيرة أو الضيقة جدا أو الخفيفة، ومن ذلك لبس البنطلون فإنه يصف حجم رِجل المرأة، وكذلك بطنها وخاصرتها وغير ذلك، فلابسته تدخل تحت الحديث الصحيح السابق، فنصيحتي لنساء المؤمنين ولرجالهن أن يتقوا الله ـ عز وجل ـ، وأن يحرصوا على الزي الإسلامي الساتر وألا يضيعوا أموالهم في اقتناء مثل هذه الألبسة، أما عن حكم لبس مثل هذه الملابس عند المحارم والنساء فقال: وأما بين المرأة والمحارم فإنه يجب عليها أن تستر عورتها، والضيق لا يجوز لا عند المحارم ولا عند النساء إذا كان الضيق شديدا يبين مفاتن المرأة انتهى كلامه ـ حفظه الله ـ.
بارك الله لي ولكم...
[1] حسن، أخرجه أحمد (4/418)، وأبو داود: كتاب الترجل، باب ما جاء في المرأة تتطيب للخروج، حديث (4173)، والترمذي: كتاب الأدب، باب ما جاء عن كراهية خروج المرأة المتعطرة، وقال: حسن صحيح، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2698).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/225)، وأبو داود: كتاب اللباس – باب في لباس النساء، حديث (4098)، والطبراني في الأوسط (988)، والحاكم: كتاب اللباس (4/194)، وصححه ولم يتعقبه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4971).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب اللباس – باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، حديث (5886).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (2/50)، وابن أبي شيبة في المصنف: كتاب اللباس – باب في لبس الشهرة حديث (4031)، وحسّن ابن حجر إسناد أبي داود، فتح الباري (10/271)، وقال شيخ الإسلام في اقضتاء الصراط المستقيم (1/240): وهذا إسناد جيد، وانظر حجاب المرأة المسلمة للألباني (ص104).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب اللباس – باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، حديث (2077).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب ما يُتقيى من شؤم المرأة، حديث (5096)، ومسلم: كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء... حديث (2740).
[7] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات العاريات... حديث (2128).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الاخوة الكرام، لقد شاع في هذا الزمان بين أوساط كثير من النساء محاذير شرعية في لبسهن، جعل المرأة المسلمة تنحرف عن مسارها الصحيح، هاجرة تعاليم ربها، مقبلة على أهوائها وشهواتها، إن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وزين لها الظهور أمام الرجال بمنظر لافت، وخدعها بأن تمشي فيهم بطريقة معينة، إلى غير ذلك مما يزينه لها الشيطان.
ومما شاع أيها الاخوة الفضلاء ما رأيتموه جميعا بل كل يوم يأتينا عنه نبأ، ألا وهي العباءة لا تحمل أي شكل من أشكال الإغراء، فتارة ترى عباءة مزينة بالقيطان أو مطرزة في موضع الأكمام أو الصدر أو الظهر، أو عبارة مكتوبة عليها بالذهبي عبارات ملفتة أو العباءة الفرنسية، أو موديل الدانتيل، أو موديل التخريم وغيرها وغيرها.
ومن مشاهد الضياع في ارتداء الحجاب، ما يفعله بعض النساء من وضع العباءة على كتفها ولف الطرحة على رأسها ليبدوا قوامها ويمتشق قدها، ولا شك أيها الإخوة أن هذا الفعل فتنة للمرأة وفتنة للرجل، وقد أفتى الشيخ عبد الله بن جبرين بحرمة هذا الفعل، سئل ـ حفظه الله ـ: إنه انتشر بين نساء المسلمين ظاهرة خطيرة وهي لبس بعض النساء العباءة على الكتفين وتغطية الرأس بالطرحة والتي تكون زينة في نفسها، وهذه العباءة تلتصق بالجسم وتصف الصدر وحجم العظام ويلبسن هذا اللباس موضة أو شهرة، ما حكم هذا اللباس وهل هو حجاب شرعي؟ وهل ينطبق عليهن حديث النبي : ((صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما..)) ؟
قال ـ حفظه الله ـ: قد أمر الله النساء المؤمنات بالتستر والتحجب الكامل قال ـ تعالى ـ: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ. والجلباب: هو الرداء الذي تلتف به المرأة ويستر رأسها وجميع بدنها، فلبس المرأة للعباءة هو من باب التستر والاحتجاب الذي يقصد منه منع الغير من التطلع ومد النظر قال تعالى: ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ، ولا شك أن بروز رأسها ومنكبيها مما يلفت الأنظار نحوها، فإذا لبست العباءة على الكتفين كان ذلك تشبها بالرجال، وكان منه إبراز رأسها وعنقها وحجم المنكبين، وبيان بعض تفاصيل الجسم كالصدر والظهر ونحوه، مما يكون سبباً للفتنة وامتداد الأعين نحوها وقرب أهل الأذى منها ولو كانت عفيفة، وعلى هذا فلا يجوز للمرأة لبس العباءة فوق المنكبين لما فيه من المحذور ويخاف دخولها في الحديث المذكور السابق ذكره، انتهى كلامه ـ حفظه الله ـ.
ومن مظاهر الحجاب العصري الفاسدة المنتشرة بين كثير من الفساد بداعي التقليد والإثارة أو الجهل، ما يفعله كثير منهن من إظهار العينين وجزء من الوجه وربما اكتحلت إحداهن أو وضعت الأصباغ على وجهها لتبدوا بشكل لافت ومثير.
أيها الاخوة الكرام، إن إطلاق المرأة لبصرها تنظر في الرجال وينظرون إليها، لهو فتنة لها ولقلبها، والنساء ضعيفات سريعات التأثر، فينتج عن ذلك فتنة وفساد كبير ـ أعاذنا الله وإياكم ـ.
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن ما يسمى بالنقاب وطريقة لبسه، ففي بداية الأمر كان لا يظهر إلا العينان فقط، ثم بدأ النقاب بالاتساع شيئا فشيئا فأصبح يظهر مع العينين جزء من الوجه مما يجلب الفتنة، ولا سيما أن كثيرا من النساء يكتحلن عند لبسه. فأجاب فضيلته: في وقتنا هذا لا نفتي بجوازه بل نرى منعه وذلك لأنه ذريعة إلى التوسع فيما لا يجوز، ولهذا لم نفت امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب أو البرقع في أوقاتنا هذه، بل نرى أنه يمنع منعا باتا، وأن على المرأة أن تتقي ربها في هذا الأمر وأن لا تنتقب، لأن ذلك يفتح باب شر لا يمكن إغلاقه، فيما بعد الأسواق والحدائق الأماكن العامة.
ومن مظاهر التناقص في لبس الحجاب، أن ترى المرأة المسلمة بلبس حجابها ولكن فوق ثوب مشقوق الجانبين أو فوق تنورة مفتوحة من الخلف، وربما تلبس عباءتها فوق بنطلون يكون في بعض الأحيان ضيقا، أو تسير بين الرجال ورائحة الطيب تفوح منها، وربما تجد امرأة قد أكملت حجابها ولمت عباءتها ولكنها تتحدث مع صاحب المحل بصوت متكسر يطمع الرجال فيها.
أيها الاخوة المؤمنون، إن هذه المظاهر الشاذة في مجتمعنا المسلم المحافظ لمما يبعث على الأسى والحسرة، ولكن ما هو واجبنا كرجال ملكنا القوامة على النساء، وحملنا مسؤولية التوجيه والتربية لزوجاتنا وبناتنا؟
إن الواجب أن نتقي الله ـ سبحانه ـ أولا وآخرا، وأن ننصح لزوجاتنا وبناتنا، ونعلمهن ما هو حلال ونعينهن عليه، وما هو حرام فنزجرهن عنه، لأن الرجل هو الذي يغار على أهله ويحفظهم من نظرات الساقطين والسافلين، فلنكن أيها الاخوة رسل هداية ومنابر توجيه لأهلينا، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما فيه مرضاته.
ألا صلوا وسلموا...
(1/582)
الغناء
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
منصور الغامدي
الطائف
17/11/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- طبيعة المعركة بين الإنسان والشيطان – من وسائل الشيطان ومكايده الغناء بالآلات المحرّمة
خطورة الغناء ومفاسده حكمه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ـ تعالى ـ، ومعرفة ما يحب من الأقوال والأفعال وتطبيقها، ومعرفة ما يكره والتباعد منه، وعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى وأن ملك الموت قد تخطاكم غيركم وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم.
أيها الاخوة الكرام، إن المعركة بين إبليس وجنوده من الجن والإنس وبين المؤمنين دائمة لا تتوقف وإنها معركة نعيشها كل يوم، لا بل كل ساعة وكل دقيقة، لقد أقسم إبليس يوم أن لعنه الله وأهبطه إلى الأرض أن يشن حربا لا هوادة فيها وأن يجند لها كل من استطاع أن يغويه من عباد الله، وقد اتخذ لأجل ذلك وسائل وطرقا كاد بها بني آدم، فمن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين وصاد بها قلوب الجاهلين، سماع الغناء بالآلات المحرمة، الذي يصد القلوب عن القرآن ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية الزنا واللواط، وهو رسول العاشقين الفسقة لينالوا ما يريدون، وهو سبيل تسلط الفسقة من الجن على الإنس، وهذا الغناء الذي أصبحت لا تكاد تجد من نجا منه إلا من عصم الله، بل لربما رأيت الأب يعلم طفله أو طفلته الغناء وألفاظه ويشجعهم على هذا الفعل الذميم مع الأسف الشديد، هذا الغناء قد جاء له في الشرع بضعة عشر اسما: هي اللهو، واللغو، والباطل، والزور، المكاء، والتصدية، ورقية الزنا، وقران الشيطان، ومنفث النفاق في القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، السُمُود، وهو الغناء بلغة حمير.
أسماؤه دلت على أوصافه، تباً لذي الأسماء والأوصاف أما اسمه الأول: وهو اللهو، فقد جاء في قول الله ـ تعالى ـ: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِ ءايَـ?تُنَا وَلَّى? مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
قال ابن مسعود : والله الذي لا إله غيره هو الغناء، يرددها ثلاث مرات. وصح عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، أنه الغناء، وبه قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وهؤلاء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ الذين فسروا لهو الحديث بالغناء شهدوا الوحي والتنزيل، فهم أعلم الناس بكلام الله. أما كيف يكون الغناء ملهيا فأنت لا تجد أحدا غنى بالغناء وسماع آلاته، وتابع ما يصدر عن ذلك المغني أو تلك المغنية، إلا وفيه ضلال عن الهدى علما وعملا، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث لو عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله ذلك إلى أن يسكت القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغني ويستقصر نوبته، وقد جاء رجل إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ما تقول في الغناء، أحلال هو أم حرام؟ فقال له: أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك.
والغناء: رقية الزنى ومن أقوى جنوده، ففيه الدعوة إلى الموعد، والدعوة إلى الجلوس والخلوة مع المحبوب، والغرام والعشق والصداقة، والتأوه والتأسف لفراق المحبوب، والدعوة إلى التهتك والسفور وغير ذلك مما لا يخفى عليكم ضرره وفحشه وإسفافه، قال الفضيل بن عياض :الغناء رقية الزنى، وقال يزيد بن الوليد: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة ،وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم ولابد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنى.
والنساء هن أكثر من يتأثرن بالغناء من جهة الصوت والأنغام ومن جهة معنى الكلمات، وربما يورث ذلك أن تحب الفتاة ذلك المغني ومن ثم تجد صورته وأغانيه لا تفارقها، فأي فتنة في الدين أعظم من هذه؟ فلعمر الله، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا.
والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، كما قال ذلك ابن مسعود ، فالغناء والقرآن لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد، فالقرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة وترك الشهوات، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك بل ويحسنه.
أليس الغناء يهيج النفوس إلى الشهوات، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، أليس هو الذي يسوق النفوس إلى وصل كل امرأة وصبي ؟ فهو والخمر رضيعا لبان وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان، فإنه صِنْو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسح، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ، وأكثر ما يورث الغناء عشق الصور، واستحسان الفواحش.
اللهم جنبنا مقتك وغضبك وأسباب عقوبتك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فحذر نبينا من سماع الغناء واتخاذ آلات اللهو والمعازف، قال : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) رواه البخاري [1].
ومعنى يستحلون الحر أي: الزنا، والمعازف هي آلات اللهو كلها، ولا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والحرير.
وعن علي قال: قال رسول الله : ((إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: إذا كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير واتخذت القيان، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا ريحا حمراء وخسفا ومسخا)) [2].
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله : ((يكون في أمتي خسف وقذف، ومسخ، قيل: يا رسول الله متى؟ قال: إذا ظهرت المعازف، والقينات، واستحلت الخمرة)) [3].
وقد أفتى الأئمة الأربعة بتحريم الغناء، فأما الإمام مالك ـ رحمه الله ـ فإنه نهى عنه وقال: إنما يفعله عندنا الفساق. وقال: إذا اشترى الرجل جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب.
وأما أبو حنيفة: فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، وصرحوا بأنه معصية، يوجب الفسق وترد به الشهادة.
وأما الشافعي فقد صرح أصحابه بتحريمه، ويرون أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة، وأن الاستئجار على الغناء باطل، وأن أكل المال بالغناء هو أكل مال بالباطل، كما لا يجوز لرجل بذل ماله للمغني، ويحرم عليه ذلك، وأنّ بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة، ويرون أن الزمر حرام، وإذا كان الزمر الذي هو أجف آلات اللهو حراما، فكيف بما هو أشد منه كالعود واليراع والكمان وغيرها.
وأما مذهب الإمام أحمد، فقال ابنه عبد الله: سُئل أبي عن الغناء؟ فقال: الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله الفساق.
وأما سماع الغناء من المرأة الأجنبية أو الأمرد، فمن أعظم المحرمات وأشدها فسادا للدين.
أخي الكريم، يا من ابتلي في نفسه وفي بيته بهذه المعصية بادر بالتوبة فإن ربك غفور رحيم، هو القائل: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ ، بادر بالتوبة الصادقة، واعلم أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، وأود أن أبعث رسالة شكر إلى أولئك الذين حفظوا أنفسهم وأهليهم من الحرام، وهجروا الخبيث مما عليه أهل الزمان، إنهم لهم السعداء حقا.
يا باغي الإحسان يطلب ربه ليفوز فيه بغاية الآمال
انظر إلى هدي الصحابة والذي كانوا عليه في الزمان الخالي
واسلك طريق القوم أين تيمموا خذ يمنة ما الدرب ذات شمال
تالله ما اختاروا لأنفسهم سوى سبل الهدى في القول والأفعال
القانتين المخبتين لربهم الناطقين بأصدق الأقوال
أهواؤهم تبع لدين نبيهم وسواهم بالضد في ذي الحال
وهم الأدلة للحيارى من يَسِرْ بهداهم لم يخش من إضلال
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام...
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، حديث (5590).
[2] ضعيف، أخرجه الترمذي: كتاب الفتن – باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، حديث (2210)، وقال: حديث غريب... والفرج بن فضالة قد تكلم فيه بعض أهل الحديث، وضعفه من قبل حفظه. وأخرجه أيضا ابن الدنيا في "ذم الملاهي" (ص34)، والخطيب في تاريخ بغداد (3/158)، قال الدارقطني: باطل، ميزان الاعتدال (3/345)، قال العراقي: وفيه خرج بن نضالة، ضعيف. تخريج أحاديث إحياء علوم الدين ؟(5/2033)، وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (608).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (5/259)، والترمذي: كتاب الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف حديث (2210)، والطبراني (5810)، واللفظ له، قال الهيثمي في المجمع (8/10): وفيه عبد الله بن أبي الزناد، وفيه ضعف، وبقية رجال إحدى الطريقين رجال الصحيح. وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (2203).
(1/583)
رسالة الأنبياء (التوحيد)
التوحيد
أهمية التوحيد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان يوسف لصاحبيه في السجن براءته من الشرك وأهله 2- نجاة إبراهيم الخليل وزوجه
من كيد الطواغيت 3- رِدّة بني إسرائيل عن التوحيد 4- وصية الأنبياء أقوامهم وذراريهم
بتوحيد الله 5- عناد اليهود وكفرهم بالله 6- الإيمان باليوم الآخر 7- طوائف ضالة تُنكر اليوم
الآخِر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله حكاية عن يوسف عليه السلام قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون، واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون
يقول يوسف عليه السلام لرفيقيه في السجن إني رغبت عن تلك الملة الوثنية لم أقنع بها فلم أعتنقها أصلاً والملة التي يشير إليها ملة وثنية، قوم لا يؤمنون بالله كما يجب، وأشركوا معه آلهة أخرى وكانوا لا يعتقدون باليوم الآخر بيوم الدين ولا يؤمنون بالجزاء والحساب والبعث بعد الموت، أولئك الوثنيون الذين عاصرهم إبراهيم الخليل أبو الأنبياء وإسحق ويعقوب ويوسف عليهم السلام أجمعين، أولئك الوثنيون المقصودون هم سكان العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر في ذلك الوقت وكانوا وثنيين وهم الفينيقيون والحثيون والأوربيون والكنعانيون والبييون، هؤلاء هم سكان سوريا ولبنان وفلسطين في ذلك الوقت، والكلدانيون وهم سكان العراق والقبط وهم سكان مصر في ذلك الوقت، انحرفوا عن ملة التوحيد ووقعوا في الشرك والوثنية، فأرسل الله إليهم خليله إبراهيم أبا الأنبياء فدعا الكلدانيين سكان العراق إلى ملة التوحيد.
فكفروا وجحدوا وعزموا على إحراق إبراهيم الخليل وإلقائه في النار فنجاه الله منها بمعجزة باهرة، ثم هاجر إبراهيم الخليل عليه السلام، هاجر إلى فلسطين مع نبي الله لوط ما آمن معه إلا هو، ورحل إبراهيم من فلسطين إلى مصر بأهله ليدعو أهلها إلى التوحيد، فبدلاً من أن يستجيبوا إلى الملة الحنيفية أراد جبارها جبار مصر في ذلك الوقت، أراد السوء بأهل إبراهيم الخليل بزوجه سارة وكانت أجمل أهل زمانها وأحسنهم فرد الله كيده وحمى عرض خليله ونبيه، كلما مد الجبار يده إلى سارة زوج إبراهيم يبست يده وشلت، فخاف منها الجبار فردها إلى زوجها معززة مكرمة، بل أخدمها هاجر، أهدى إليها جارية مصرية هي هاجر، فلما رجعت سارة إلى إبراهيم الخليل وهو في أشد القلق سألها عن خبرها فقالت: رد الله كيد الفاجر وأخدم هاجر: ثم أهدت سارة تلك الجارية المصرية إلى زوجها إبراهيم الخليل عليه السلام عله يرزق الولد، فلقد كانت سارة عاقراً لا تلد، فولدت هاجر لإبراهيم إسماعيل ، فغارت سارة منها، فأخذ إبراهيم هاجر وابنها الرضيع إسماعيل ورحل بهما إلى جزيرة العرب حيث وضعهما في تلك البقعة المباركة بواد غير ذي زرع حيث بيت الله المحرم المعظم بأمر من ربه عز وجل، ولكن بعد ذلك قدر الله وشاء فولدت سارة إسحاق، ولدت لإبراهيم إسحاق، وإسحاق هو أبو يعقوب، ويعقوب هو جد بني إسرائيل فيعقوب هو نفسه إسرائيل والأنبياء جميعاً إبراهيم واسحاق ويعقوب وإسماعيل الذي هو جد النبي محمد صلي الله عليه وسلم جد العرب، هؤلاء الأنبياء جميعاً رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلى ملة التوحيد التي هي الإسلام.
ولكن بني إسرائيل انحرفوا عن هذه الملة ووقعوا في الوثنية والشرك بل صار هذا حالهم دائماً ولذلك كثرت فيهم الأنبياء حتى يدعونهم إلى ملة التوحيد كلما انحرفوا عنها، ثم جاء نبي الله موسى الكليم عليه السلام ولقي مشقة وتعباً شديداً في دعوة بني إسرائيل إلى التوحيد وتعليمهم عقيدة التوحيد، بل إنهم ونبي الله موسى عليه السلام وأخوه نبي الله هارون بين ظهرانيهم عبدوا العجل واتخذوه إلهاً فغضب عليهم نبي الله موسى ويئس منهم فدعا عليهم قائلاً رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين فحكم الله على بني إسرائيل بالذلة والمسكنة إلى يوم القيامة إلا بحبل من الله وحبل من الناس، واليهود اليوم يزعمون الإنتماء إلى إبراهيم وإلى إسحاق ويعقوب ويزعمون الإنتماء إلى يعقوب الذي هو إسرائيل وينسبون دينهم المحرف المبدل إلى موسى وكل هذا كذب وزور وبهتان، فهؤلاء الأنبياء حاشا أن تكون هذه ملتهم ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين هؤلاء الأنبياء جميعاً وغيرهم من أنبياء الله ورسله دينهم واحد وملتهم واحدة هي الإسلام، والإسلام هي الكلمة التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه ووصى بنيه بها وكذلك يعقوب أو إسرائيل ملته الإسلام ووصى بها بنيه.
ووصي بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ولكن بني إسرائيل كعادتهم ودأبهم دائماً خانوا وغيروا وبدلوا وحرفوا وصية أبي الأنبياء إبراهيم وحرفوا وصية يعقوب الذي هو إسرائيل والذي ينتمون إليه اليوم زوراً وبهتاناً.
وقد كانت وصيتهم تأمرهم باتباع الإسلام واتباع نبي آخر الزمان النبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بشّرت به الأنبياء أجمعهم بشّر به موسى وعيسى ويجدون أوصافه مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل، فأحبارهم علماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكن خانوا الوصية وحرفوها وبدلوها خانوا العهد وغدروا وكيف لا يخونون هذه الوصية وهم قد خانوا أنبياءهم أنفسهم وكتبهم المنزلة على أنبيائهم، حرفوا وغيروا التوراة والإنجيل وشروها بثمن بخس.
إن اليهود عاندوا ربهم وعصوه حتى لعنهم وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل، فأي حق بقي لهم بعد ذلك كله ؟ لا حق لهم أبداً مما يزعمون، وليس لهم أي حق تاريخي ولا أي حق ديني، بعد أن خانوا وغدروا وكفروا بالإسلام، ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى بعد أن قتلوا الأنبياء والمرسلين لا حق لهم أبداً مما يزعمون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد :
عقيدة اليوم الآخر التي أشار إليها يوسف الصديق عليه السلام، والتي هي أحد الأركان الستة للإيمان، التي لا يكون الإنسان مسلماً إلا بها، وهي عقيدة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل وموسى وعيسى وعقيدة سائر الأنبياء والمرسلين وقد جاء بها إمامهم وخاتمهم سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلي آله وصحبه وسلم.
فهذه آيات القرآن العظيم حافلة بالدعوة إلى الإيمان واليوم الآخر وأن الله يبعث من في القبور وينصب الموازيين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وسيجتاز الخلق الصراط وسيكون هناك حساب ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وهذه العقيدة بقيت منها بقايا في دين اليهود المحرف اليوم وفي دين النصارى إلا طوائف قليلة من اليهود لا يؤمنون باليوم الآخر ولا بالملائكة وهناك طوائف ممن يدعون الإسلام، طوائف من المسلمين يدعون الإسلام ولكنهم مع ذلك يكفرون باليوم الآخر، لا يؤمنون بالبعث بعد الموت ولا بالجزاء والحساب ولا بالجنة والنار هم طائفة من الروافض تسمى الخطابية وطائفة تسمى الإسماعيلية والبهائية والنصيريين والدروز هؤلاء جميعاً لا يؤمنون باليوم الآخر.
ترى ما الفرق بينهم وبين أسلافهم الذين قالوا: أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، عليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار، واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان، صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً وقال صلى الله عليه وسلم: (( من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وأهلك الزنادقة والملحدين وآمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين اللهم أصلح حال المسلمين، اللهم ردهم إلى دينك رداً حميداً، واجمع كلمتهم على الحق اللهم ارفع علم الجهاد وانصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك وإعلاء كلمتك، اللهم ثبت أقدامهم واربط على قلوبهم وقوِ شوكتهم وأنزل السكينة عليهم وانصرهم على عدوك عدوهم إنك على كل شئ قدير.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا ربنا سميع قريب مجيب الدعوات.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم اسق عبادك وبلادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/584)
الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, القصص
منصور الغامدي
الطائف
5/10/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- كثرة قُدُوات الشر في هذا الزمان – جوانب القدوة في شخصية الخليل عليه السلام -
مولد الخليل عليه السلام ودعوته لأبيه – حواره مع النمرود ومحاجاته له – تحطيمه عليه
السلام للأصنام ونجاته من النار
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا إخواني الكرام، يطيب لي أن أعرض أنموذجا بشريا عجيبا، في وقت كثرت فيها القدوات لكن في الشر، فلكل إنسان قدوة يعجب بها في الرياضة أو الفن أو طريقة الكلام وأسلوب الحديث أو غير ذلك، أما اتخاذ قدوة في العِلْم والعمل والصبر والتضحية والجهاد والإنفاق في سبيل الله فقليل من الناس من يجعل نصب عينيه أفرادا عاشوا في سبيل، هذه المبادئ وماتوا في ظلها.
أما هذا العَلَم الذي سوف نزين صدورنا بنسيم ذكره، ورياحين سيرته، فهو إمام الموحدين، لقد كان شجاعا لدرجة أنه أرهب أعداءه، وكان ذا حجة عظيمة أسكت العباقرة المتكلمين، أما عن علاقته بربه فلا تسل عنها إنه يحمل في قلبه إيمانا ويقينا وثباتا تتضاءل أمامه جبال الدنيا، ولعلك قد عرفت أنه ذلك النبي الكريم أبو الأنبياء ومن أولي العزم من الرسل، إنه إبراهيم ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ، إِنَّ إِبْر?هِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـ?نِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ (1/585)
دروس من سورة يوسف عليه السلام
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أهمية التوحيد, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
معالم ملة التوحيد – أنواع التوحيد – الكفر بالطاغوت أولاً – التوحيد وسورتي : ( الكافرون – الإخلاص )
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله تعالى حكاية عن نبيه يوسف عليه السلام: واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [يوسف:38].
هذه حلقة أخرى من دروس هذه السورة العظيمة نحاول فيها أن نتعمق أكثر في معاني هذه الآية الكريمة وكلام ربنا معجز يا له من كلام معجز لو كان البحر مدادا له ما نفدت معانيه ولا انتهت عجائبه ولو نفد البحر. فما هي الملة التي أشار إليها يوسف عليه السلام وبين أنها دينه ودين آبائه الأنبياء إنها ملة التوحيد ولذلك بادر يوسف الصديق عليه السلام وسارع إلى نفي الشرك نفيا قاطعا شاملا يقضي على سائر أنواعه صغيرها وكبيرها ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء أي شيء فهذا الأسلوب يفيد عموم النفي يفيد عموم النفي إما أن يكون النفي لسائر أنواع الشرك أي ما كان لنا أن نشرك بالله أي نوع من أنواع المشرك لا ملكا ولا جنيا ولا إنسيا ولا صنما وإما أن يكون النفي للوصف للمصدر أي ما يحق لنا أن يقع منا أي نوع من أنواع الإشراك فهذه الملة ملة التوحيد هي ملة الأنبياء جميعا الملة البيضاء النقية من شوائب الشرك والوثنية ولنتحدث اليوم عن بعض معالمها وأركانها الأساسية فقد ثبت عن سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في سنة الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد [1] وكذلك يقرأهما في سنة المغرب [2] فكان صلى الله عليه وسلم يفتتح يومه بهاتين السورتين ويختتمه كذلك بهما فما هو السر في ذلك، السر في ذلك أن هاتين السورتين العظيمتين تضمتنا موجز عقيدة هذه الملة وجوهرها فعقيدة الإسلام بنيت على عقيدتين إحداهما نفي والأخرى إثبات أما النفي فتمثله قل يا أيها الكافرون فهذه السورة فيها البراءة من الشرك وأهله وفيها المفاصلة بين الموحدين والمشركين ولذلك سميت سورة البراءة من الشرك هذه السورة قل يا أيها الكافرون تضمنت رفض الشرك وتضمنت البراءة من أهل الشرك قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم [سورة الكافرون]. والنفي فيها تعلق بأمرين عجيبين تعلق بالفعل لا أعبد ما تعبدون وهذا السر فيه لنفي وقوع الفعل وحدوثه الذي هو الشرك وتعلق باسم الفاعل ولا أعبد ما تعبدون في قوله ولا أنا عابد ما عبدتم وهذا السر فيه في نفي الوصف معنى ذلك كله أنه لا يحق لنا أن يقع معنا فعل الشرك ولا يحق لنا أن نتصف بوصف الشرك فهذه السورة العظيمة تمثل إذن الدعامة الأولى من دعائم هذه الملة والركن الأول من ركني هذه العقيدة عقيدة التوحيد ألا وهي دعامة النفي والبراءة وأهله وهذا النفي هو مضمون النصف الأول من كلمة التوحيد (لا إله) هذا هو النصف الأول من كلمة التوحيد الذي يتضمن النفي ولكن النفي وحده لا يكفي ولذلك جاءت الدعامة الثانية ألا وهي الإثبات الذي هو مضمون النصف الثاني من كلمة التوحيد إلا الله وهذه الدعامة الثانية تمثلها سورة الإخلاص قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [سورة الإخلاص]. فإلهنا الذي نعبده ولا يشاركنا في عبادته الكافرون يتصف بهذه الأوصاف فهو الإله الواحد الذي (لم يلد) فيكون له فرع (ولم يولد) فيكون له أصل وليس له كفوا أحد فيكون له شبيه أو نظير بل هو الصمد أي هو الذي جمع صفات الكمال كلها فهاتان السورتان انتظمتا نوعي التوحيد المطلوبين من كل مكلف الذين هما جوهر هذه الملة وجوهر هذه العقيدة ركني التوحيد أولهما توحيد المعرفة والإثبات الذي تضمنته سورة قل هو الله أحد وثانيهما توحيد الإرادة والقصد أو توحيد العبادة الذي تضمنته سورة قل يا أيها الكافرون فلا بد من الإخلاص في التوحيد بكلا نوعيه وعلى كل مسلم يريد النجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم أي سليم من الشرك على كل مسلم أن تستقر عقيدة التوحيد في قلبه لكن قبل ذلك لا بد أن يفرغ قلبه وينقي قلبه من شوائب الشرك والوثنية فالتخلية والتنقية قبل التحلية البراءة من الشرك أولا قبل التوحيد الكفر بالطاغوت أولا وقبل الإيمان قال تعالى: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها [البقرة:256]. من عجائب هذا القرآن أن معنى قوله تعالى حكاية عن يوسف الصديق عن نبيه يوسف ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء [يوسف:38]. نفس المضمون والمعنى في قوله: لا أعبد ما تعبدون وفي قوله: ولا أنا عابد ما عبدتم ففي قوله: لا أعبد ما تعبدون نفي لحدوث الفعل الذي هو الشرك وفي قوله: ولا أنا عابد ما عبدتم نفي للاتصاف بهذا الوصف الذي هو الإشراك فلا يحق لنا أبدا نحن عبيد الله وخلقه أن يحدث منا ويقع منا الشرك به سبحانه كما لا يحق لنا أن نتصف بوصف الإشراك فإن الشرك ظلم عظيم في حق الإله الواحد الأحد ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء أي شيء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسلم كتاب صلاة المسافرين (726).
[2] سنن الترمذي (431)، النسائي (992)، ابن ماجة (1166).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله واعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأطيعوه ولا تعصوه فإن من أطاعه سبحانه وتعالى نجا وسلم ومن عصاه فقد هوى وهلك.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/586)
حجاب المرأة المسلمة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, المرأة
منصور الغامدي
الطائف
6/2/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- تكريم الإسلام للمرأة ومكانتها – نماذج مشرقة للمرأة المسلمة ,وأسباب ذلك – أهمية حجاب
المرأة وأثره ,وحكمه – خطورة انحراف المرأة وفسادها على الأمم – دور اليهود والنصارى
في إفساد نساء المسلمين ووسائلهم في ذلك : 1- افتعال قضية لها 2- إفساد المجتمع
(المجلات الماجنة ,الصحف) 3- دعوى تقييد المرأة 4- تشويه البيت ومكانته 5- شبهات حول
الحجاب – خطورة هذه الدعوة ووجوب الانتباه لها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الاخوة الكرام، مر معنا في خطبة ماضية حديث عن تكريم الإسلام للمرأة، كيف أنها عاشت تتفيأ نعمة الله عليها بالإسلام فغدت مصونة مكرمة، وأمست جبال الخوف أمنا، ولباس الذل عزا، فأصبحت المرأة في الإسلام لها وزنها وكيانها، إنها لم تكتف بتربية أولادها وحفظ زوجها، بل أصبحت تحمل هم الإسلام وتشارك في نصرة الإسلام والمسلمين، ووقودا يحمل الرجال إلى المعالي، ومساهمة في صناعة الحياة والمجد لأمتها، هذا البطل عبد الله بن الزبير يقاتله الحجاج في المسجد الحرام وينصب المجانيق على الكعبة، ويتساقط أنصار عبد الله بن الزبير واحدا تلو الآخر، ويقل عددهم، فيشعر بحرج في موقفه، ويلفت يمينا ويساراً فلا يجد من أعوانه أحدا، فينطلق إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق ويقول: (يا أماه خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من النهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا، فما رأيك). استمع إلى إجابة هذه الأم العظيمة: (الله الله يا بني، إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فامضي عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فليعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت إني كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير، والله لضربة بالسيف في عزّ أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل)، فقال يا أماه أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، قالت: (يا بني إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك واستعن بالله)؟
ومن النماذج المشرفة التي صنعها الإسلام، أن رجلا قام ذات يوم خطيبا في الناس يدعوهم إلى الإنفاق في سبيل الله لتجهيز المجاهدين، فتوافد عليه الناس وحتى النساء منهن من قدمت مالا ومنهن من قدمت حلياً، حتى جاءته امرأته فوضعت ضفيرتها، فقال ما هذا، قالت لم أجد ما أدفعه إليك إلا هذه الضفيرة، فاجعلها حبلا لفرس في سبيل الله. والنماذج كثيرة والمواقف لا تعد.
أيها الاخوة الكرام، إن الاستجابة لله وللرسول واعتصام المرأة بحيائها وحجابها وقرارها، هو الذي صنع منهن ما صنع.
أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر، إن حجاب المرأة ـ أعني ستر وجهها كاملا وبدنها ـ وسامُ عزتها، وعنوان عفتها، ومظهر لصلاحها، ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً لقد كانت هذه الآية حصنا حصينا للمرأة من الأعين الجائعة، والقلوب المريضة، إن التزام المرأة بالحجاب هو عبادة تتقرب بها المسلمة إلى ربها، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. فليس الحجاب وستر الوجه عادة اجتماعية توارثها المجتمع كما يقوله بعض الناس، بل هو عبادة وأمر شرعي واجب الاتباع.
إن الحجاب الذي يستر المرأة هو عنوان عفتها فلا تتسابق النظرات إليها، ولا تواجه أذى الفساق، لأنها حفظت أوامر الله فحفظها، أما النساء العجائز اللاتي لم يبق فهن موضع فتنة في كشف الوجه والكفين، فقد قال ـ تعالى ـ: وَ?لْقَوَاعِدُ مِنَ ?لنّسَاء ?لَّلَـ?تِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجَـ?تِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ فإذا كان الحجاب عفة للكبيرات في السن اللواتي لا مطمع فيهن، فكيف بالشابات، كما أن الحجاب طهارة للمرأة المحجبة وطهارة لقلب الرجل، قال ـ تعالى ـ: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عاً فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ. فوصف الله ـ سبحانه ـ الحجاب بأنه طهارة لقلوب المؤمنين والمؤمنات، لأن العين إذا لم تر لم يشتهِ القلب، أما إذا رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي. ومن هنا كان القلب عن عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر. المرأة المحجبة تجدها من أكثر النساء حياء والحياء من الإيمان، قال : ((الحياء والإيمان قرنا جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)) [1] كما أن حجاب المرأة يدل على الرجل زوجا كان أو أبا أو أخا، فالحجاب يتناسب مع الغيرة التي جبل عليها الرجل السوي الذي يأنف أن تمتد النظرات الخائنة إلى أهله.
لقد أوجب الله على المرأة أن تغطي وجهها وأن تستتر وتحفظ نفسها، ومن الأدلة على ذلك قوله ـ تعالى ـ: وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ فأمر الله المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج، ولا سبيل إلى ذلك إلا بستر الوجه عن الرجال الأجانب، كما أن في الآية وجوب ستر النحر بالخمار، فإذا كان ستر النحر واجبا فوجوب ستر الوجه أولى، لأنه موضع الجمال والفتنة، ومن الأدلة أيضا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الناس [2].
ففيه دلالة على أن الحجاب والتستر كان من العبادات التي يمتثلها نساء الصحابة الذين هم خير القرون وأكرمها على الله ـ عز وجل ـ.
ومن الأدلة أيضا أن النبي قال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذولهن، قال: يرخينه شبرا، قالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: يرخين ذراعا لا يزدن عليه)) [3] ، ففي هذا الحديث دليل على وجوب ستر المرأة، والقدم أقل فتنة من الوجه والكفين بلا ريب، فوجوب تغطية ما هو أكثر فتنة من القدم كالوجه أولى.
ومن أدلة الوجوب أيضا حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول ، فإذا حاذونا سكت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزونا كشفنا [4].
ومعلوم أن كشف الوجه للمرأة المحرمة واجب، لكن لما كان الركبان ،وهم أجابن يحاذون الصحابيات، كان تغطية الوجه واجبا، فلولا الاحتجاب وتغطية الوجه عند الأجانب لما ساغ ترك الواجب من كشف الوجه حال الإحرام.
أختاه يا أمة الإله تحشمي لا ترفعي عنكِ الخمار فتندمي
لا تعرضي عن هدي ربكِ ساعة عَضي عليه مدى الحياة لتغنمي
ما كان ربكِ جائرا في شرعه فاستمسكي بعراه حتى تسلمي
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم...
[1] صحيح، أخرجه الطبراني في الأوسط (8309) وقال: لم يروِ هذا الحديث عن عكرمة إلا مسلم بن بشير، تفرد به السمتي، والحاكم في المستدرك: كتاب الإيمان (1/22)، وصححه، قال الهيثمي في المجمع (1/92): وفيه يوسف بن خالد السمتي كذاب خبيث، قلت: وهو ليس في إسناد الحاكم قال المناوي في فيض القدير (3/426): قال الحافظ العراقي: حديث صحيح غريب، إلا أنه قد اختُلف على جرير بن حازم في رفعه ووقفه. وصححه أيضاً الألباني في صحيح الجامع (3195).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب وقت الفجر (578)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها... (645).
[3] صحيح، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: كتاب الجامع – باب إسبال الإزار (19984)، وإسناده صحيح، وأخرجه الترمذي: كتاب اللباس – باب ما جاء في جر ذيول النساء، حديث (1731)، والنسائي: كتاب الزينة – باب ذيول النساء، حديث (5336)، ذكره الحافظ في الفتح (10/259) وقوّاه، وقال المناوي في فيض القدير (6/113): إسناده صحيح. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1415).
[4] ضعيف، أخرجه أحمد (6/30)، وأبو داود: كتاب المناسك – باب في المحرقة تغطي وجهها، حديث (1833)، وابن ماجه: كتاب المناسك – باب المحرمة تسدل الثوب على وجهها، حديث (2935)، قال المنذري في مختصر أبي داود (2/354): وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد تكلم فيه غير واحد، وأخرج له مسلم في جماعة، غير محتج به. قلت: قال الحافظ في يزيد هذا: ضعيف، كبر فتغير وصار يتلقّن، وكان شيعياً، التقريب (7768)، وانظر إرواء الغليل للألباني (1024).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
تعددت يا بني قومي مصائبنا فأقفلت بابنا المفتوح إقفالا
كنا نعالج جرحا واحدا فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا
أيها الاخوة الكرام، لقد أدرك الأعداء أن المرأة حصن عظيم ومهم في الأمة المسلمة، وأن هذا الحصن قد ظل قرونا يحافظ على قوة المجتمع المسلم وصلابته، واهتدوا بهدى الشيطان إلى أنه متى استولوا على هذا الحصن العظيم وأصبح بأيديهم، حينئذ كَبِر على المجتمع أربعا.
لقد استفاد الأعداء مما حل بالحضارتين اليونانية والرومانية من انهيار بسبب فساد المرأة، لقد كانت المرأة في أول حضارتهم مصونة محتشمة تدبر المنزل تشغل الصوف، فاستطاعوا أن يفتحوا الفتوح ويوطدوا أركان إمبراطوريتهم العظيمة، فلما تبرجت المرأة وأصبحت ترتاد المنتديات والمجالس العامة وهي في أتم زينة وأبهى حلة، فسدت أخلاق الرجال، وضعفت ملكتهم الحربية، فانهارت حضارتهم انهيارا مريعا، نعم سقطت الإمبراطوريتان العظميان في ذلك الزمان، ولا بد أن تسقط الأمة الإسلامية سقوطا لا قيام بعده، هذا هو الهدف الاستراتيجي الذي يسعى إليه أعداء الأمة المسلمة، جاء في كتاب بروتوكولات حكماء صهيون: (لقد كنا أول من صاح في الشعب بما مضى بالحرية والإخاء والمساواة، تلك الكلمات التي راح الجهلة في أنحاء المعمورة يرددونها بعد ذلك دون تفكير أو وعي، وكانت هذه الكلمات في ذلك الوقت، شيء إلى الرخاء السائد لدى المسيحيين وتحطم سلمهم وعزيمتهم ووحدتهم، عاملة بذلك على تقويض دعائم الدولة).
أيها الاخوة الكرام، إن أعداء المرأة المسلمة هم اليهود والنصارى، وأتباعهم من المنافقين والعلمانيين والنفعيين، وبالطبع فإن حملة لواء إفساد المرأة المسلمة وإخراجها من بيتها لا يمكن أن يدعو إليه إلا أبناء المسلمين الذين جعلوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، إنهم دعاة إلى أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب.
أيها المؤمنون، لقد تم نزع حجاب المرأة المسلمة إثر مخطط محكم ومدروس وفي ظل غفلة الأمة، تم نزع الحجاب في مصر والجزائر وأفغانستان وتركيا وغيرها، وسيناريو ـ أو قل ـ مسرحية نزع حجاب المرأة المسلمة واحدة وإن اختلفت الأسماء والأدوار.
وإليك أخي الحبيب، هذا المخطط الإفسادي لنكون جميعا على حذر، ولكي لا يخدعنا أعداء المسلمين من المنافقين والعلمانيين.
أولا: افتعال قضية، فالناس لا يتحركون بغير قضية تزعجهم وتقض مضاجعهم، ومن هنا يحرص المنافقون أن يوحوا للناس أن للمرأة قضية تحتاج إلى نقاش، ثم يستدعون الأنصار لها والمدافعين عنها، فيكثرون الحديث في وسائل الإعلام المختلفة بأن المرأة تعاني ما تعاني وأنها مظلومة وشقٌ معطل ورئة مهملة، ولا تنال حقوقها كاملة، وأن الرجل قد استأثر بكل شيء، وهكذا يشعروا الناس عن طريق الإعلام أن هناك قضية للمرأة، وإذا سئلوا عن الحل قالوا هل سيكون إقامة دعوى ضد الرجل أم ماذا؟ قالوا: لا، الحل في نزع الحجاب، لأنه هو السبب الذي جعل المرأة مظلومة والحق أن المرأة لا تعيش (في مجتمعنا) أي مشكلة، وعلاج مشاكل المرأة تكون بدعوة الرجال والنساء والكبار والصغار إلى تقوى الله، فأي أمة تتقي الله وتخافه، ـ واللهِ ـ لتعيشن السعادة في الدنيا والآخرة.
ثانيا: الإجهاض على مناعة المجتمع ضد الفساد حتى يصبح فاقدا الغَيْرة على دينه والحمية لعقيدته. ومن وسائل إضعاف المناعة ما يلي:
أ. المجلات الماجنة والصحف، فتظهر المرأة بالصورة الفاضحة والمنظر المخزي، ولست أدري كيف تصادر البضائع الفاسدة، ولا تصادر هذه المجلات التي تفسد قلوب وعقول الناس.
ب. والوسيلة الثانية: نشر الفكر المنحرف من خلال الأعمدة الصحفية أو المقابلات، حتى يعتاد الناس على سماعه مرة هنا ومرة هناك.
ثالثا: المطالبة بحرية المرأة، وأن المرأة مقيدة وأنها عبد يجب تحريره فيظهر الديوثون على أعراض أمتهم على أنهم منقذون رحماء. جاء في البروتوكول الرابع: (إن لفظة الحرية تجعل المجتمع في صراع مع جميع القوى، بل مع قوة الطبيعة وقوة الله نفسها).
رابعا: يصورون البيت ومهمة الأمومة والحضانة وقوامة الرجل بصورة بشعة، فالبيت ـ عندهم ـ سجن مؤبد، والزوج سجان قاهر، والقوامة سيف مصلت، والأمومة تكاثر رعوي، حتى تحدث هذه الدعاية ردة فعل سلبي تجاه هذه الأمور.
وأخيرا: يقولون إن العفة سلوك ينبع من النفس الطاهرة، وهذا يعني عند هؤلاء أن المرأة الراقصة مادامت نفسها طاهرة فهي عفيفة، أما المحجبة فلو كانت نفسها غير طاهرة فليست بعفيفة، هكذا يقلبون الموازين رأسا على عقب.
أيها الأحبة الكرام، هل تعلمون ما نتائج هذه الدعوة؟ إنهم يدعون إلى استجلاب غضب الله ـ تعالى ـ على المجتمع ونزول العقوبة به: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.
وإذا نزلت العقوبة فمن ذا يدفعها؟ ومن ذا يردها؟
ويدعون إلى إفساد أخلاق أبنائنا وبناتنا، ودفعهم إلى الفواحش المرحمة بأنواعها يدعوننا إلى تحطيم الروابط الأسرية وانعدام الثقة بين أفرادها وتفشي الطلاق إنهم يدعون إلى انتشار الأمراض الفتاكة قال : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا)) [1]. نعم لقد حرص المنافقون والعلمانيون على إفساد المرأة باسم التحرير، وإذا نزل بنا البلاء وتقطعت منا الأشلاء فلن ينفعنا تباكي أعداء المجتمع على المرأة.
يريدون هدم صروح الفضيلة، يريدون هدم المعاني الجميلة، يريدون وأدك والنفس حية، أنا لست أقبل هذا الهراء، وهذا العداء، فهيا اخرصوا أيها الأدعياء، فأنتم دعاة الهوة والرذيلة. لقد جرب اغرب ما تدعون، فهاهم لما زرعوا يحصدون حصاد الهشيم، ترى البنت تخرج من بيتها، قبيل البلوغ، فترجع تحمل في بطنها نتاج اللقاح، فنجهضه لتعيد اللقاء وتدعه ليلاقي أبناء أعباء الحياة وحده فتلقيه في ملجأ أو حضانة، فيبحث عن أمه أو أبيه، لكي يطعموه لكي يرحموه لكي يمنحوه الحنان الكبير لكي يرضعوه، فينأ يحمل حقدا دفينا لكل الوجود. أهذين الحقوق كما تزعمون؟ فأُفٍّ لكم ولما تدعون.
ألا صلوا وسلموا...
[1] صحيح، أخرجه ابن ماجه: كتاب الفتن – باب العقوبات، حديث (4019) والطبراني في الأوسط (4668)، والحاكم، كتاب الفتن والملاحم (4/54) وصححه، ولم يتعقبه الذهبي، قال البوصيري في زوائد ابن ماجه (ص518): هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختُلف في ابن أبي مالك وأبيه، وذكره ابن حجر في الفتح (10/192، 193) وقوّاه بشاهد. وصححه الألباني بشواهده، السلسلة الصحيحة (106).
(1/587)
زينة المرأة المسلمة بين الطب والشرع
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, المرأة
منصور الغامدي
الطائف
27/2/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- طبيعة المرأة ومَيلها إلى التزيّن – ضرورة التوازن بين زينة الباطن والظاهر – مظاهر
الإسراف في زينة الظاهر – حكم صبغ المرأة شعر رأسها – بعض المخالفات في زينة
المرأة ( في الأظفار – في الحاجب )
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الاخوة المسلمون:أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومراقبته، فما قل ولا ذل عبد اتقى الله وحفظ جوارحه عن الحرام.
أيها المسلمون: ومع آخر حلقة في سلسلة المرأة التي خضنا غمارها في أسابيع ماضية مضت، وهي عن زينة المرأة المسلمة ما تأتي فيها وما تذر.
أيها الاخوة الكرام: إن المرأة بطبيعتها تميل إلى حب التزين والتجمل وهذا من أصل فطرتها وتكوينها، قال تعالى: أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [الزخرف 18]وفي قراءة (أومن يَنشأ) وفي هذا العصر الذي كثرت فيه السهام الموجهة إلى صلاح المرة المسلمة وجمالها الباطن لكلي تعيش همّا جديدا في حياتها اسمه الموضة، فتضيع وقتا كبيرا وثمينا من أجل زينة الظاهر، وتبذر أموالا كثيرة، لمواكبة آخر ما أحدثته دور الموضة، وهكذا يراد للمسلمة أن تعيش مشغولة بتوافه الأمور متناسية العظيم منها:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح فيما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
أيها الاخوة الكرام: إن المرأة لا تلام على حب الزينة والتزين، بل إن ذلك مطلوب منها شرعا، وهي مأمورة به بمثل قول النبي : ((إن ينظر إليها سرته)) ، ولو لا الزينة لما رغب رجل في امرأته، ولكن المطلوب في الزينة هو عدم المبالغة، والتوازن بين الاهتمام بالظاهر والاهتمام بالباطن، إلا أن كثيرا من نساء اليوم غلبن جانب الاهتمام بالمظهر على سواه.
أيها الاخوة الكرام: وإليكم أرقام مهولة لاستعمال أدوات الزينة الخاصة بالمرأة، ففي عام 1997م، أنفقت نساء الخليج حوالي ثلاث مليارات ريال على العطور فقط، وخمسة عشر مليون ريال على صبغات الشعر، وبلغت مبيعات أحمر الشفاه أكثر من ستمائة طن، فيما بلغت مبيعات طلاء الأظافر أكثر من خمسين طنا.
وإن الدارسين في معاهد وكليات الإعلام يعرفون جيدا أن نظريات الإعلام تركز على المرأة في إقناع المستهلك على شراء المنتج الجديد حتى في السلع التي لا تتعلق بالمرأة، ولا تجد حملات الإعلان الموجهة للمرأة صعوبة كبيرة في إقناع النساء باتخاذ قرار الشراء، فهذا المنتج يحقق التميز، وذاك يوفر التجاعيد، وهذا يمنع تقصف الشعر، وذاك يفتح البشرة إلى غير ذلك، وآخر تقاليع هذا التقليد إطلاق أسماء الفنانات وعارضات الأزياء على الماركات الجديدة.
أيها الأخ الموفق : ألم يأتك نبأ مساحيق التجميل، وما مكوناتها، إن أشهر ماركات مساحيق التجميل العالمية تصنع من أنسجة أجنة الإنسان الحية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية يدخلها سنويا أربعة آلاف جنين عن طريق ما في الأجنة، لهذا الغرض ولغيره، وقد أثبتت بعض الأبحاث الحديثة التي أجرتها شركات مساحيق التجميل الكبرى في الغرب الفائدة القصوى لأنسجة أجنة الإنسان في صناعة مساحيق التجميل، ومن هنا بدأ الجريمة المقننة التي يتعاون في صناعة مساحيق مع الأطباء في إجهاض النساء، وسحب الجنين، وحفظه في أوعية خاصة تمهيدا لبيعه لشركات إنتاج الصابون الخاص بجمال البشرة، وشركات إنتاج المساحيق والكريمات التي تغذي البشرة.
وقد أعد الدكتور فلاديمير سكرتير عام اللجنة الدولية لحماية الطفل قبل الولادة بأمريكا، أعد تقريرا سريا عن تلك القضية، وقد أشار ضجة كبرى عرض شريط سينمائي بعنوان (الصيحة الصامتة)، أو بدأ الفيلم بعرض جنين سليم، ثم تصوير بالأشعة فوق الصوتية وهو لم يولد بعد، وينتهي بتقطيع أوصاله، وفصل رأسه عن جسده، وهو يسبح في السائل المحيط داخل الرحم بفعل آلة الإجهاض الحديثة (الجيلوتين) التي تعمل على تهشيمه تماما، وأوضح الشريط أن الجنين قد تعرض لآلام رهيبة حتى تمت عملية الإجهاض، كما أنه يعيش حالات الشعور بالألم حيث يتحرك بعيدا عن آلة الإجهاض التي تجلب له الموت، كما زادت ضربات القلب الصغير زيادة كبيرة عندما واجهه خطر الموت، ويصرخ بشدة مثل صرخة الغريق تحت الماء، لقد تحول الإنسان إلى وحش يقتل نفسه بنفسه لغرض المتاجرة والاحتيال.
ولم تكتف بعض الشركات بقتل الأجنة وعمل مساحيق التجميل منها، بل فكرت في الاستفادة من الحشرات لتصنيع مساحيق التجميل، وقد اعترفت شركة هندية باستعمالها الصراصير المطحونة لإضافة البروتين إلى كريمات الوجه.
هذه بعض الحقائق المثيرة المخجلة، التي تكشف القناع الذي يلبسه مُدعو المدنية والموضة.
أيها الفضلاء: لقد أطلق الأطباء صيحات التحذير من هذه المساحيق لأنها مجلبة لبعض الأمراض كحب الشباب، والشيخوخة المبكرة، ولها تأثير على الدم والكبد والكلى، ولها تأثير على البشرة عموما.
يقول الدكتور وهبه أحمد حسن أستاذ الأمراض الجلدية إن مكياج الجلد له تأثيره الضار، لأنه يتكون من مركبات معادن ثقيلة كالرصاص والزئبق، تذاب في مركبات دهنية كما أن بعض المواد الملونة تدخل فيها بعض المشتقات البترولية، وكلها أكسيدات تضر بالجلد، وإن امتصاص المسام الجلدية لهذه المواد يحدث التهابات وحساسية، أما لو استمر استخدام الماكياجات فإن لها تأثيرا ضارا على الأنسجة المكونة للدم والكبد والكلى.
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، عن حكم مساحيق التجميل فأجاب: المساحيق فيها تفصيل: إن كانت يحصل بها جمال ولكن لا تضر الوجه ولا تسبب شيئا فلا بأس، أما إن كانت تسبب شيئا فيه ضرر فإنها تمنع من أجل الضرر.
وفي الوقت الذي نرى فيه تزايد اوتهافتا في استخدام مستحضرات التجميل من نساء المسلمين، فإن الإحصاءات في الغرب تشير إلى انخفاض في مبيعات مستحضرات التجميل.
ورب قائلة تقول : إننا نستعمل هذه الأدوات والمساحيق منذ زمن ولم نصب بأذى، فالجواب على ذلك: أن الأضرار البدنية لهذه المواد قد لا يظهر أثرها في يوم وليلة أو شهر وشهرين، ولكن على المدى البعيد، وقد يطول وقد يقصر.
ومن مستحضرات التجميل إلى مستحضرات صبغ الشعر والإستشوار إذ أكد الأخصائيون والأطباء أن متاعب شعر المرأة له أكثر من سبب، أكثرها شيوعا: استخدام صبغة الشعر، وتمشيط الشرع بالاستشوار، واستخدام مثبتات الشعر، فهذه تؤدي إلى تدمير بصيلات الشعر، لما تحتويه هذه الأصباغ من مواد كيميائية ضارة بالشعر، وقد ذكر صبغ الشعر وبين أنه ربما تكون هناك علاقة بين استخدام مستحضرات صبغ الشعر وبين الإصابة ببعض أنواع السرطان، قام بهذه الدراسة الباحثون في المعهد القومي الأمريكي للسرطان.
أما حكم مثل هذه المستحضرات فقد قال فضيلة الشيخ صالح الفوزان أما صبغ المرأة شعر رأسها، فإن كان شيبا فإنها تصبغه بغير السواد لعموم نهيه عن الصبغ بالسواد، وأما صبغ المرأة بشعر رأسها ليتحول إلى لون آخر، فالذي أرى أنه لا يجوز.
ويرى الشيخ ابن عثيمين أن هذه الأصباغ إن كانت متلقاة من الكفار والغرض منها التشبه بنسائهم فإنها محرمة لأن التشبه بالكفار محرم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد:
أيها الاخوة الفضلاء: ومما يخالف الفطرة في زينة النساء ما يفعله بعضهن من إطالة الأظافر، أو تركيب أظافر صناعية، وفي بحث علمي قامت به إحدى الجامعات، تمّ أخذ البقايا الموجودة، تحت أظفار الطلبة ووزعت هذه البقايا في أطباق خاصة في درجة حرارة الجسم، وفحصت الأطباق مجهريا، فكانت النتيجة وجود مئات من الأنواع المختلفة من الجراثيم الضارة الفتاكة في هذه البقايا كامنة منتظرة الدخول إلى جسم الإنسان وبخاصة عند تناول الطعام.
وقد يحتج البعض بأنه يعتني بأظفاره ويغسلها يوميا، وحجته مردودة بأن الشرع قد نهى عن إطالة الأظافر، وأيضا : فإن غسل الأظافر لا يفيد في تنظيفها من الجراثيم والأوساخ، لأن الماء لا يصل إلى ما تحت الأظافر، أما طلاء الأظفار فإن الأطباء يحذرون منه يقول أحد استشاري الأمراض الجلدية والتناسلية، إن طلاء الأظفار بالمادة الكيميائية لها تأثيرها الضار على الأظفار، حيث إن هذه المدة تعزل الهواء وتمنع تبادل الرطوبة بين الظفر والجو وربما يؤدي كثرة استعمالها إلى أن تصاب الأظفار بالاصفرار، وتصبح هشة سهلة الكسر.
وقد أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، بأن تطويل الأظفار خلاف السنة، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ((الفطرة خمس: الختان، والإستحداد، وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقلم الأظافر)) ، ولا يجوز أن تترك أكثر من أربعين ليلة لما ثبت عن النبي أنه قال : (وقت لنا رسول الله في قص الشارب وقلم الظفر، ونتف الإبط وحلق العانة، أن لا نترك شيئا من ذلك أكثر من أربعين ليلة ) ولأن تطويلها فيه تشبه بالبهائم وبعض الكفرة.
وسئل الشيخ محمد ابن عثيمين عن حكم استعمال المناكير فقال: لا يجوز للمرأة أن تستعمل هذه الأصباغ إذا كانت تصلي، لأنها تمنع وصول الماء في الوضوء، وكل شيء يمنع وصول الماء فإنه لا يجوز استعماله للمتوضئ، أما إذا كانت لا تصلي لوجود مانع فلا حرج عليها إذا فعلته، إلا أن يكون هذا الفعل من خصائص نساء الكفار فإنه لا يجوز لما فيه من التشبه بهم.
أيها المسلمون: ومن الزينة التي فعلها بعض الناس هداهن الله نتف الحاجب واسمه في الشرع: النمص، يقول أحد الأطباء في ضرره إن إزالة شعر الحواجب ينشط الحلمات الجلدية، فتتكاثر خلايا الجلد وفي حالة توقف الإزالة، ينمو شعر الحواجب بكثافة ملحوظة.
يقول الشيخ عبد الله بن جبرين عن حكم النمص : لا يجوز القص من شعر الحواجب ولا حلقه ولا التخفيف منه ولا نتفه، ولو رضي الزوج فليس فيه جمال، بل تغيير لخلق الله وهو أحسن الخالقين، وقد ورد الوعيد في ذلك ولعن من فعله، وذلك يقتضي التحريم.
أيها المؤمنون : إن ربنا سبحانه رحيم بنا، فهو الذي كتب على نفسه الرحمة، ولم يأمر عباده إلا بما نفعهم، ولم ينههم ألا بما يضرهم فمتى سار الناس منضبطين بأوامر ربهم ساروا بخير وعاشوا بخير، كما أن المسلمين ينبغي عليهم أن يكونوا على مستوى من الوعي والفهم والتأكد من كل شيء يتعاملون به في حياتهم أو يستعمل لئلا يقعوا في المحاذير، والموفق من وفقه الله لإصلاح أهله وحفظهم من كل ما يؤذيهم في الظاهر والباطن.
اللهم اجعل حياتنا ومماتنا ونومنا ويقظتنا، وحركتنا وسكوننا لله رب العالمين لا شريك له.
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله..
(1/588)
ألفاظ الغناء والمغنيين
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
منصور الغامدي
الطائف
24/11/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- حكم الغناء في القرآن والسنة – خطورة الغناء وأثره – نماذج عما تحتويه بعض الأغاني
من شرك وكفر , والاعتداء على الرسل , والقضاء والقدر , وغير ذلك من الانحرافات
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الاخوة الكرام: مر معنا في الخطبة الماضية حديث عن حكم الغناء وأنه حرام وأن الله سماه (لهو الحديث)، وقال الله: واستفزز من استطعت منهم بصوتك [الإسراء 64] ذكر المفسرون في صوت الشيطان أن منه الغناء، وكذلك سماه الله: سمودا وهو الغناء بلغة أهل اليمن، وقد تأفف منها أصحاب النبي ، فحينما مر عمر بقوم يغنون في الحج قال: لا سمع الله لكم، وسد الصحابي أذنه لما مر بزمار راع، احتياطا منها وأخبر أن هذه الأمة ستستحل الحرَ والحرير والخمر والمعازف واستحلال الحر يعني: الزنا وكذلك الخمر، والمعازف هي أدوات الموسيقي المنتشرة في كل مكان تقريبا، ومر معنا كلام الأئمة الأربعة وأنهم يقولون بتحريم الغناء، ويشتد التحريم إذا كان بصوت امرأة، ويشتد إذا رافقه معازف وموسيقى، ولم يخالف قوم الجمهور من أهل العلم إلا ثلاثة، معاند أو إنسان في قلبه مرض الشهوات، أو شخص لا يعتد برأيه.
أيها الاخوة الكرام: ولخطورة الغناء، وأنه سبب من أسباب فتنة الناس وإفسادهم وخاصة الشباب منهم، ولأن الغناء هو السم الناقع، أحببت أن أصحبكم في جولة سريعة على بعض ما في كلمات الأغاني من المحادة لله ولرسوله ومن الشرك الأكبر والأصغر، ومن التعدي على رسل الله الكرام، ومن تمييع للمعاني السامية والمثل الرفيعة، ومن الاعتراض على رب العالمين والاعتداء عليه وعلى ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ وغير ذلك مما يردده الجيل صباحا ومساء، فيصحو الشاب وينام على أنغامه بل أصبح الكثير لا غنى له عن الغناء وسماعه.
وقد جمع أحد الفضلاء بعض هذه المخالفات الشرعية التي يسمعها الملايين من المسلمين وإني استسمحكم واستعذركم في ذكر بعض هذه الكلمات على منبر خطبة الجمعة، لأن الموضوع فيه أشياء عجيبة مما ذكرت لكم.
أخي الكريم: لقد لحنوا الكفر الصريح والردة المعلنة عن دين الله بما غنوه من قصيدة الشاعر النصراني :
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
كيف أبصرت طريقي لست أدري
لقد غنوا هذه الكلمات التي تبين أنهم لا يعرفون سبب وجودهم في هذه الدنيا، وأنهم لا يعرفون ماذا بعد الموت، أبعث ونشور أم إهمال وترك، يقولون هذا، والله يقول وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات 56] قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام 162-163].
وكاتب الكلمات، والملحن والمغني هم شركاء في الإثم والوزر، وقال : ((من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا )) وتقول قائلتهم : لست ثوب العيش ولم أستشره، ويقول الآخر: لو كنت أعلم خاتمتي ما كنت بدأت.
عجيب: هل هم يحيون ويموتون كما يشاءون، ويفعلون ما يشتهون، يريدون أن يستشاروا في الحياة، من الذي سيستشيركم، وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون [القصص 68].
كما أنهم يصرحون بعبادة المحبوب ولأجله يعيشون في الدنيا، بل يقولون إنهم ما خلقوا في هذه الدنيا إلا من أجله، قال قائلهم، أو قائلتهم، فض الله أفوههم: عشت لك وعلشانك، والله يقول قل إن صلاتي ونسكي ومحيياي ومماتي لله رب العالمين [الأنعام 162].
ويصرح بعضهم بصرف أنواع من العبادة إلى المحبوب أو المحبوبة، وهو التوبة يقول: أتوب إلى ربي وإني لمرة يسامحني ربي إليك أتوب، ورأيت أنك كنت لي ذنبا، سألت الله ألا يغفره فغفرته. هذا الذي يقولونه من صرف التوبة إلى غير الله.
فهم يعبدون المحبوب، يتوبون إليه، يطلبون منه المغفرة، والله وحده هو الذي يغفر: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله [آل عمران 135]. وقال سبحانه: وإليه متاب [الرعد 30] ، وتقديم حرف الجر هنا (إليه) يفيد الحصر يعني إليه التوبة لا إلى غيره.
وتجد منهم يقول تصريحا بعبادة المحبوب يقول قائلهم :أعشق حبيبي وأعبد حبيبي. ويقول آخر: قلت المحبة عندي لو تعلمين عبادة. وآخر يقول : أنا أعبدك.
منزلة العبودية هي المقام العظيم الرفيع الذي وصف الله نبيه محمدا به في أربعة مواضع في القرآن لأن العبودية معناها : كمال الحب مع كمال الذل والخضوع لله، وتجد هؤلاء القوم يصرفونها إلى غير رب العالمين، والمرء مع من أحب يوم القيامة.
وبعضهم ينافي ويضاد ويكذب على الله يقول : الله أمر، لعيونك أسهر قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون.[الأعراف 28]
أما اعتداؤهم على أنبياء الله ورسله فاسمع إلى قولهم في فراق المحبوب أو المحبوبة : صبرت صبر أيوب، وأيوب ما صبر صبري، اعتداء فاحش على نبي الله الكريم الذي ابتلاه مولاه سنوات طويلة فصبر إنا وجدناه صابراً نِعمَ العبد إنه أواب [ص 44].
أيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [الأنبياء 83] ، وهؤلاء يقولون : أيوب ما صبر صبري.
أما عقيدة القضاء والقدر ولوم الرب : فلهم فيها النصيب الأوفر، يقول قائلهم : ليه القسوة؟ ليه الظلم؟ له يا رب ليه؟
هكذا يتهم الله - تعالى الله - بالقسوة والظلم، وهذا المغني هو الآن تحت أطباق الثرى، الله أعلم ماذا يفعل به، نسأل الله حسن الخاتمة والستر في الدنيا والآخرة.
ومنهم من يصرح بأنه مستعد للذهاب إلى جهنم مع محبوبته : يا تعيش وإياي في الجنة، يا أعيش وإياك في النار، بطلت أصوم وأصلي، بدّي أعبد سماك، لجهنم ماني رايح إلا أنا وإياك،.
أعلنوا ترك الصلاة وترك الصيام، والنبي يقول : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ، ويريدون الذهاب إلى جهنم، وماذا في جهنم التي أوقد الله ثلاثة آلاف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة وما أدرك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر [المدثر 27-30]. لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها [فاطر 36] ، إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون [غافر 72] وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً [الكهف 29] هذه النار التي يتمنون الذهاب إليها اللهم اصرف عنا مقتك وغضبك يا حي يا قيوم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.. الخ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فمن مفاسد المغنيين : أن يصرح بضعهم بأنه إذا لم تحل له محبوبته على دين محمد لأخذها على دين المسيح ابن مريم عليه السلام، وهل كان المسيح ابن مريم يحل الزنا ؟
كما أنهم يستحلون المحارم، قبحهم الله، فكانت حلالا لي ولو كنت محرمي، لو كانت من المحارم لاستحلها، ويصرح بعضهم بأنه سيحب محبوبته عند سكرات الموت : أهواك عند سكرات الموت، وهذا صحيح فالذي يفتن بالشيء يغرم به ويحبه إلى الغاية ويفتن به فيذكره عند السكرات.
وكم حدثتم وحدثنا عن أناس كان يقال لهم : قولوا لا إله إلا الله فيغنون، أو يسبون القرآن، أو يرفضون الشهادة، والله المستعان.
ثم هم يميعون القيم العالية والمعاني الفاضلة، فمنزلة الشهادة منزلة عظيمة عند الله ومن يطع الله رسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً [النساء 69] والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، والشهيد هو الذي يقتل بين الصفين مقبلا غير مدبر في سبيل الله، ثم يقول العندليب الأسمر : يا ولدي قد مات شهيدا من مات فداء للمحبوب.
هكذا جعلوا هذا المقام العظيم مقام الشهادة، جعلوه للمحبوب، وهذا المغني قد انتسب إلى غير أبيه ((ملعون من انتسب إلى غير أبيه ) والانتساب إلى غير الأب كثير في الوسط الفني القذر.
ومن مخالفات العقيدة قولهم :
والخوف بعينيها تتأمل فنجان المقلوب
قالت يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب
اشتمل هذا البيتان على جلوس هذا الفاجر مع امرأة تدعي علم الغيب فهي كاهنة وعرافة ومشعوذة تقرأ الفنجان المقلوب واشتمل أيضا على الكذب على الله في أنه كتب الحب على هذا الرجل، وادعاء علم الغيب كفر واعتداء على خصوصية من خصوصيات الله قل من لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [النمل 65] وقراءة الفنجان والكف وضرب الودع والتخطيط في الرمل، والقراءة في كرة الكريستال كل ذلك شرك وحرام.
وفي أغانيهم الاستعانة بغير الله ونداء الأموات والحلف بغير الله فيقول قائلهم: مدد يا نبي مدد. أو: وحياة عينيك، والنبي يقول : ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)).
ويشيع عند المغنين سب الدهر والساعة والزمان والعمر يقولون : كتاب حزين كله قاسي، جابني في زمان كله غدار قاسي، والنبي يقول : (( لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ))، هو مقلب الأيام والليالي، فمن سب الدهر فقد سب شيئا ليس بأهل للسب ولا ذنب له، لأن الدهر ظرف الوقوع الحوادث، والله هو الذي يفعل ما يشاء ويجري الحوادث في الزمان بمشيئته سبحانه.
ثم هم يعتدون على ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ : الفرح مسطر غلط مكتوب، يعني أن الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ كان غلطا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
هذا بعض ما يقال، لقد اعتدى هؤلاء المغنون على الشريعة وما أبقوا عزيزا إلا أذلوه، ولا غاليا إلا لطخوه بهذه الكلمات، إن الله تعالى ما حرم شيئا إلا لفساده وضرره يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [البقرة 185] إن الله كان بكم رحيماً [النساء 29].
اخوتي الكرام : هل نحن منتبهون لهذا الإفساد العظيم هل نحن منتهون عن هذا الفسق.
يا رب غفرا قد طغت أقلامنا يا رب معذرة من الطغيان
(1/589)
المسيح الدجال
الإيمان
أشراط الساعة
منصور الغامدي
الطائف
7/1/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- فتنة آخر الزمان والمخرج منها – من علامات الساعة الكبرى خروج الدجال ,وصفه
- مكثه في الأرض ونزول عيسى بن مريم عليه السلام – كيفية النجاة من فتنة المسيح الدجال
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الاخوة المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى واتباع السنة والصبر عليها، فهي العاصم بإذن الله من فتن تموج كموج البحر.
أيها الاخوة الكرام: لقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أمته بأخبار وعلامات في آخر الزمان قبل قيام الساعة تكون مؤذنة بخراب العالم وانتهائه، وهي أخبار حق وصدق فيها دلائل النبوة وأمارات الرسالة.
ومن هذه العلامات الكبرى: خروج الدجال، وما أدراك ما الدجال، إنه منبع الكفر والضلال، وينبوع الفتن والأوحال، قد أنذرت به الأنبياء قومها وحذرت منه أمتها ونعتته بالنعوت الظاهرة، ووصفته بالأوصاف الباهرة، وحذر منه المصطفى وأنذر، ونعته لأمته نعوتا لا تخفى على ذي بصر.
والمسيح في اللغة يطلق على عيسى ابن مريم عليه السلام الصديق، والمسيح الدجال الضليل الكذاب، فخلق الله المسيحَين أحدهما ضد الآخر، فعيسى ابن مريم عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، والدجال مسيح الضلالة يفتن الناس بما يعطاه من الآيات. وسمي الدجال مسيحا، لأن إحدى عينيه ممسوحة، أو لأنه يمسح الأرض في أربعين يوما.
ومعنى الدجال أي : المموه الكذاب، وسمي الدجال دجالا، لأنه يغطي الحق بالباطل، أو لأنه يغطي على الناس كفره بكذبه وتمويهه وتلبيه عليهم، وقد خبره وكان وهو نبي هذه الأمة يتعوذ بالله من شر المسيح الدجال، وحث أمته على الاستعاذة من شره، قال رسول الله : ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال )) ، ولخوفه على أمته من الدجال، ذكر لهم من خبره ما ذكره ليكونوا على بينة وليأخذوا للأمر عدته، عن النواس بن سمعان : ((ذكر رسول الله الدجال ذات عداة فخفض فيه ورفع، أي حقر من شأنه لكونه أعور، ولكونه لا يقدر على قتل أحد، ثم عظمه وفخمه لأجل فتنته، حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا عرف ذلك فينا فقال : ما شأنكم ؟ قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال عداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال غير ذلك: ((غير الدجال أخوفُني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطَط عينه طافئة، (ومعنى قطط أي: شديد) فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا )) قلنا يا رسول الله: وما لبثه في ؟ قال: أربعون يوما: يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة وما إسراعه في الأرض، قال: كالغيث استدبرته السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك)) وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من ذكره ويجلي أوصافه للناس: فعن صفاته لعنه الله ما جاء في حديث عبادة بن الصامت قال رسول الله : ((إن المسيح الدجال رجل، قصير، أفحج،( أي : بعيد ما بين الساقين) جعد أعور مطموس العين ليس بناتئة ولا جحراء، فإن أُلبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور)) ومعنى الجحراء: أي التي قد انخسفت فبقي مكانها غائرا كالحجر.
والدجال مكتوب بين عينيه كافر يقرؤها كل مسلم كاتب وغير كاتب ومن فتنته أن يكون معه من الخوارق العظيمة التي تبهر العقول وتحير الألباب : يكون معه جنة ونار، فجنته نار وناره جنته، وأن معه أنهار الماء، وجبال الخبز، ومن فتنته أنه يقول للأعرابي : أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك، فيقول : نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان : يا بني اتبعه فإنه ربك، وأما اتباعه فإن أكثرهم من اليهود والعجم والترك وأخلاط من الناس غالبهم الأعراب والنساء، روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة)). وفي حديث آخر ((يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة)) وأما كون أتباعه من النساء فلسرعة تأثرهن وغلبة الجهل عليهن، فقد قال : ((ينزل الدجال في هذه السبخة بمرِّقناة، وهو واد بالمدينة يأتي من الطائف، فيكون أكثر من يخرج إليه النساء حتى إن الرجل يرجع إلى حميمه والى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطا، مخافة أن تخرج )) ، ومحرم على الدجال دخول مكة والمدينة روى عن النبي أنه قال : ((يوم الخلاص وما يوم الخلاص قالها ثلاثا : فقيل له : وما يوم الخلاص، قال : يجئ الدجال فيصعد أُحدا فينظر المدينة فيقول له : أترون هذا القصر الأبيض هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة فيجد بكل نقب منها ملكا مصلتا فأتي سبخة الحرف فيضرب رواقه ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج فذلك يوم الخلاص)) والناس يومئذ يفرون من الدجال في الجبال، قالت أم شريك : يا رسول الله فأين العرب يومئذ ؟ قال : هم قليل : وخير الناس في ذلك الزمان أو من خيرهم رجل يخرج إلى الدجال من مدينة رسول الله فيقول للدجال :أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله حديثه : فيقول الدجال :أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر ؟ فيقولون :لا، فيقتله ثم يحييه فيقول : أي الرجل، والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه )) ، وأكد ما أخبر به وأصحابه عن الدجال ما جاء في حدث تميم الداري عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت : فصليت مع رسول الله فلما قضى رسول الله صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال: ((ليلزم كل إنسان مصلاه، ثم قال : أتدرون لم جمعتكم، قالوا : الله ورسوله أعلم قال : إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا، فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثا وافقه الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر، حتى مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب كثيرا الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة قالوا: ومالجساسة قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدبر، فإنه إلى خبركم بالأشواق قال : لما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانه، قال: فانطلقنا سراعا حتى دخلتا الدبر، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا من أنت ؟ قد قدرتم على خبري فأخبروني من أنتم، قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم أي حين هاج، فلعب بنا الموج شهرا ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، ثم قال : أخبروني عن نخل بيسان وهي مدينة بالأزرن بالغور الشامي، قلنا عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : سألتكم عن نخلها هل يثمر، قلنا له: نعم، قال : أما إنه يوشك ألا تثمر قال: أخبروني عن بحيرة طبرية ؟ قلنا عن أي شأنها تستخبر، قال : هل فيها ماء، قالوا : هي كثيرة الماء، قال : إن ماءها يوشك أن يذهب، قال : أخبروني عن عين زغر قالوا : عن أي شأنها تستخبر قال : هل في العين ماء ؟ وهل يزرع أهلها بماء العين، قلنا، نعم هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها.
قال أخبروني عن نبي الأميين، ما فعل ؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال أقاتله العرب، قلنا نعم، قال، كيف صنع بهم ؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم :قد كان ذلك ؟ قلنا : نعم، قال : أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها أربعين ليلة )).. الحديث.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين له الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد :
فبعد الأربعين يوما المزلزلة للقلوب الضعيفة، والتي يعيث فيها مسيح الضلالة فسادا ينزل عيسى بن مريم عليه السلام إلى الأرض، ويكون نزوله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق الشام وعليه مهرودتان، أي توبين مصبوغين بورش ثم زعفران، واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رقعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، ويكون نزوله على الطائفة المنصورة إقامة الصلاة، ويصلي خلف أمير تلك الطائفة، فيطلب عيسى عليه السلام الدجال بباب لُد، ثم يأتي عيسى قوم عصمهم الله من الدجال فيمسح وجوههم وعدتهم بدرجاتهم في الجنة ولسائل أي يسأل، كيف النجاة من هذه الفتنة العظيمة، التي حذر منها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أقوامهم، أما النجاة من هذه الفتنة فهي بأمور منها :
أولا : الاعتصام بالقران الكريم، وسنة النبي ومعرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته التي لا يشاركه فيها أحد حينئذ يعلم أن الدجال بشر يأكل ويشرب، وأنه أعور والله سبحانه منزه عن ذلك.
ثانيا : التعوذ من فتنة الدجال، وخاصة في الصلاة لما جاء في الحديث أن رسول الله كان يدعو في الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم.
ثالثا : الفرار من الدجال والبعد عنه، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات)).
رابعا: حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، لقوله عليه الصلاة والسلا:م ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال )).
ولكن أيها الاخوة الكرام : كيف السبيل إلى النجاة من فتنة الدجال وفينا من يترك الصلاة، ويتهاون فيها ويؤخرها، وفينا من يولي وجهه إلى السحرة والعرافين، ومنا من فتن بأمواله وأولاده عن ذكر الله تعال كيف النجاة لهؤلاء وغيرهم حينما يروا جنة ونارا وكنوزا وأتباعا كثرا مع الدجال، ويرون سماء تمطر وأرضا تنبت ووعد لهم بالجنة ونجاة من النار، إنه يجب علينا مراجعة أنفسنا، وأن نعود جميعا إلى الله، ونصطلح معه، فمن كان مع الله في الرخاء كان الله معه في الشدائد والخطوب.
(1/590)
المرأة بين جاهليتين
الأسرة والمجتمع
المرأة
منصور الغامدي
الطائف
14/1/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- أهمية موضوع المرأة وخطورته – المؤامرة على المرأة المسلمة – وضع المرأة قبل
الإسلام ( الهند – الصين – اليهود – النصارى ) – المرأة في ظل الجاهلية الحديثة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الاخوة الكرام: أجد من الأهمية أن أتحدث عن موضوع يهم كل إنسان فينا، وكل شخص فينا تربطه علاقات حميمة مع موضوعنا، لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ينفصل عنه كما أنه موضوع تساهل في النظرة إليه بجدية ثلة غير قليلة من الناس، واستغله فئة ماكرة فغدت تعيث فسادا.
إن موضوعنا يا عباد الله هو المرأة، نعم المرأة التي هي الأم والأخت ،البنت، والزوجة، فنحن محاطون بهذا المربع الصالح النافع، مما يجعلها مدار اهتمام المسلم.
أيها الاخوة الفضلاء : إن المرأة المسلمة هي أم المستقبل ومربية الليوث القادمة، والحصن المنيع ضد تيارات الفساد والتدمير، بل إنها نموذج الصبر والتضحية، إنها قبس في البيوت مضيء، وجوهرة تتلألأ.
ولكن لم يكن لأصحاب تيار الرذيلة والانحراف يد من نسف الحياة الطيبة التي تعيشها المرأة المسلمة في ظل دينها وإسلامها فأصبحت وسائل الإعلام بمختلف أنواعها توجه المرأة وغدت المنظمات الدولية والمؤسسات الحقوقية تتسابق في توجيه المسلمة وتعريفها بمسؤولياتها وواجباتهم وتتباكى على حال المرأة المسلمة ، بل زوجة الرئيس الأمريكي أصبحت تقوم بدور التوجيه للمرأة المسلمة من أجل ذلك كان لا بد من الحديث عن المرأة التي شرفها الإسلام وأكرمها.
أيها الاخوة المسلمون : وبضدها تتميز الأشياء، لنقف على نافذة التاريخ، لننظر كيف كانت المرأة تعيش، وأي منزلة ترتقي، وما هو دورها في الحياة، قبل أن تشرق عليها شمس رسالة محمد التي نزل بها الروح الأمين من عند رب العالمين.
فنجد الهنود في شرائعهم أنه : ليس الصبر المقدر، والريح والموت، والجحيم، والسم والأفاعي، والنار أسوأ من المرأة، ولم يكن للمرأة عندهم حق الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، فإذا مات هؤلاء جميعا وجب أن تنتمي إلى رجل من أقارب زوجها وهي قاصرة، طيلة حياتها، ولم يكن لها حق بعد وفاة زوجها، بل يجب أن تموت يوم موت زوجها، وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد.
أما في الصين : فللرجل حق بيع زوجته كالجارية، وإذا ترملت المرأة الصينية أصبح لأهل الزوج الحق فيها كثروة، وللصيني الحق في أن يدفن زوجته حية.
والمرأة عند الغرب مباح الزواج منها سواء أكانت أما أو أختا أو عمة أو خالة، إن بنتا للأخ، أو بنتا للأخت.
أما اليهود فكانوا يعتبرون المرأة لعنة، لأنها أغوت آدم، وعندما يصيبها الحيض لا يجالسونها ولا يؤاكلونها ولا تلمس وعاء حتى لا يتنجس.
أما حال المرأة عند الأمم النصرانية: فقد قرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه، وأن العزب أكبر عند الله من المتزوج وكان الفرنسيون في عام 586م، يعقدون مؤتمرا يبحثون فيها هل تعد المرأة إنسانا أم غير إنسانا، وهل لها روح أم ليس لها روح، وإذا كانت لها روح هي روح حيوانية أم روح إنسانية وإذا كانت روحا إنسانية، فهل على مستوى روح الرجل أم أدنى منها، ويعد المداولات والمشاورات قرروا أنها إنسان، ولكنها خلقت لخدمة الرجل فحسب.
وتذكر بعض المصادر أنه قد شكل مجلس اجتماعي في بريطانيا خصيصا لتعذيب النساء ،و ذلك سنة خمسمائة، وألف من الميلاد، وكان من ضمن مواده: تعذيب النساء وهن أحياء بالنار.
وكان القانون الإنجليزي حتى عام 1805م يبيح للرجل أن يبيع زوجته وقد حدد ثمن الزوجة لستة بنسات.
هكذا كانت المرأة تعيش الذل والاضطهاد والاحتقار والبخس والتعذيب عند الأمم قبل الإسلام.
وتعالى معي لنرى كيف كان حالها في ظل الجاهلية العربية، ما هو موقعها، وأي قدر لها في النفوس.
لم تكن المرأة تأخذ شيئا من الإرث، كانوا يقولون لا يرثنا إلا من يحمل السيف، ويحمي البيضة، وكانوا إذا مات الرجل وله زوجته وأولاد من غيرها كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثا كبقية أموال أبيه.
ومن العادات القبيحة التي ذمها القرآن عادة وأد البنات قال تعالى: قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ، فكانت بعض القبائل تئد البنات والأولاد خشية الفقر، وبضعهم يئدها خشية العار، أو ما عسى أن يصيبها من ذل أو سباء.
روي أن رجلا من أصحاب رسول الله كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله فقال له رسول الله : ((مالك تكون محزونا، فقال: يا رسول الله إني أذنبت ذنبا في الجاهلية، فأخاف ألا يغفر الله وإن أسلمت، فقال له: أخبرني عن ذنبك، فقال : إني كنت من الذين يقتلون بناتهم فولدت بنت، فتشفعت لي امرأتي أن أتركها، فتركتها حتى كبرت، وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها، أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة، إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي، فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب، والحلي، فأخذت علي المواثيق بأن لا أخونها، فذهبت إلى رأس البئر فنظرت في البئر، ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: يا أبت ماذا تريد أن تفعل بي فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمي، فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها وأرحمها، حتى غلبني الشيطان، فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة وهي تنادي في البئر، يا أبت قتلتني، فمكثت هناك حتى انقطع صوتها، فرجعت، فبكى رسول الله وأصحابه: وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت. هذا هو حال المرأة في الجاهلية العربية، قبل الإسلام، منزوعة الرحمة من القلوب وعدت المرأة من سقط المتاع، قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، صلوات ربي وسلامه على المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الاخوة الكرام: لا يزال الحديث موصولا عن واقع المرأة في ظل ثقافات وأفكار بعيدة عن الإسلام، واسمحوا لي أن أقفز عبر سنين التاريخ القديم والأوسط لأنقل لكم بعض مشاهد الحياة التي تعيشها المرأة، لقد جاءت الحضارة الغربية ورفعت شعارات براقة شعار تحرير المرأة، ومساواتها بالرجل، وعدم كبتها أو التحكم فيها، في ظل هذه الشعارات المزعومة خرجت المرأة من بيتها نعم، وتحررت من كل شيء لا يوافق هواها، فعاشت شقاء ولا يدانيه شقاء، واصطلت بنار هذه الحرية الشوهاء، المزعومة، لقد كتبت تقارير وإحصاءات، مذهلة عما تعانيه المرأة في الغرب فكان ما يلي:
لقد شاعت الفاحشة شيوعا لم يسبق له مثيل، فقد كان أول طوفان تحرير المرأة، لقد اكتسح الغرب التحرير، فلم يتعد مزاولة الفاحشة أجارنا الله وإياكم، مقصورة على دور البغاء، بل تجاوزت ذلك إلى الفنادق والمقاهي الراقصة والمنتزهات وعلى قارعة الطريق، ولم يعد من الغريب ولا الشاذ أن يقع الأب مع بناته، والأخ مع أخته، بل لقد أصبح ذلك في الغرب شائعا ومألوفا.
وأصبحت الخيانة الزوجية ظاهرة عامة، ففي أمريكا نسبة واحدة من كل أربع نساء أمريكيات تخون زوجها، فالمرأة تخون زوجها والرجل يخون زوجته مما أدى إلى الطلاق وتفكك الأسر وتبعثرها.
لقد غدت صورة الرجل في نظر المرأة أنه وحش مفترس يستأسد على من هو أضعف منه، إنه طفل، ويمكن أن يعتبر بطاقة للحصول على الرزق، كثير من النساء يبدين خوفهن، وقلقهن من الجانب العنيف في الرجال، وينظر الرجل إلى المرأة على أنها قطة متوحشة، يقول سلفستر ستالون :عندي كل الأسباب الوجيهة التي تجعلني أكره النساء.
أما الاغتصاب فإن معدله في الولايات المتحدة وحدها يزيد عن مثيلاتها في اليابان وإنجلترا وأسبانيا بعشرين ضعفا.
أما التفكير في الانتحار في ظل الرفاهية المزعومة، والحرية، وحقوق المرأة التي ينادون بها في الغرب، فإن أربعا وثلاثين بالمئة من النساء يفكرن في الانتحار، أما الأمراض التي ظهرت بسبب الفاحشة والشذوذ فقد انتشر الزهري، والسيلان وهما مرضان خيطران في قمة الأمراض الخطيرة في الغرب، وجاء دور الإيدز يقول جيمس باترسون مؤلف كتاب (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة): مئات الآلاف من الأمريكيين يكونون علاقات جنسية في كل ليلة من ليالي الأسبوع مع أشخاص يعتقدون أنهم مصابون بهذا المرض، ثم يقول : إن استقراء سريعا، لإحصائيات هذه الدراسة يشير إلى أن هناك ما نسبته، 2.2 مليون أمريكي على يقين بأنهم مصابون بمرض الإيدز، وسبعة ملايين يعتقدون أنهم في خطر كبير من الإصابة بهذا المرض، ومعظم هؤلاء المصابين بالإيدز أو الذين هم في خطر كبير بالإصابة به هم أشخاص أسوياء وغير شاذين، فكم تكون النسبة بين الشاذين ؟
أخي الكريم: تأمل معي فظاعة الأرقام التي سوف أنقلها إلى سمعك عن العنف بوسائل متعددة ضد المرأة في أكثر البلاد حضارة في أمريكا، ثلثا حوادث الاعتداء بالضرب ضد النساء تصدر من أقاربهن والباقي من غير الأقارب.
28 ثمانية وعشرين من حالات الاعتداء الجسمي على النساء تصدر من الزوج والصديق، و35 من أقارب كالأخ ولأب.
بلغ عدد حالات الاعتداء على النساء عام 94م أكثر من 572 ألف حالة وعلى الرجال 49ألف حالة، وفي عام 1965م كان ملجأ واحدا في أمريكا للنساء المعتدي عليهن، أما في عام 1995م فقد ارتفع عدد الملاجئ إلى 1500ملجأ.
هكذا أيها الاخوة الكرام تعيش المرأة في ظل الجاهليات وإنه لشيء حتمي بسبب البعد عن الله، وهكذا تعيش المرأة المتحضرة المتحررة التي يسعى المنافقون والعلمانيون وأصحاب الشهوات أن نساؤنا وبناتنا حياة ضنكا كما عاشت، وأن تصطلي بنار البعد عن الإسلام، وأن تغدو معذبة محطمة تفكر في الانتحار كل يوم وتعاني صنوف القسوة كل ذلك باسم الحرية، والمساواة والتقدم والانفتاح والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً.
إنها الحرية العرجاء والتي ينادون بها، ويدعون إليها، يريدون إخراج المرأة من عفافها، من شرفها، من دينها، من مملكتها الأسرية، وجنتها الزوجية، مدعيين أنها في سجن وأن جلبابها هو خيمة سوداء ترتديها وأنها جاهلة ومتخلفة، ولن تعرف العلم حتى تلحق بركاب المرأة الغربية وتحذو حذوها: كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ، والحديث متصل بمشيئة الله عن تكريم الإسلام للمرأة في الخطبة القادمة.
(1/591)
تكريم الإسلام للمرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
منصور الغامدي
الطائف
21/1/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- مكانة المرأة في الإسلام والوصية بها – المراحل التي تمر بها المرأة وعناية الإسلام
بها ( البنت – الزوجة – الأم )
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأحبة الكرام : كان الحديث في الخطبة الماضية عن حال المرأة في ظل الجاهليات القديمة لها والحديثة ، وكيف أنها تعيش تحت الذل والاستعباد ، والكيد والقهر والتسلط ، فكأني بها تحادث نفسها وهي تعيش مأساة حقيقية تقول لِمَ خلقت أنثى ولم تخلق ذكرا ، قويا جبارا متسلطا ، إن كانت هذه هي الحياة ، فبطن الأرض خير من ظهرها.
ولكن الله الرحيم اللطيف بعباده ، العليم بما هو خير لهم ، لم يشأ أن يطول الظلام ، وتستمر الظلامة على المرأة فجاء الله بالإسلام وأرسل محمدا فأشرق وجه الفجر، وبدا ثغر الشمس ضاحكا، وانطلقت أشعة الشمس في سباق محموم لتطرق على المرأة باب خدرها، تطرق عليها الباب لتقول: أبشري بخير يوم طلعت فيه الشمس عليك ، ولتأخذها إلى عالم أكثر هدوءا ، وأعظم رحمة، وأهدى سبيلا، إنه موعد طالما انتظرته المرأة موعد مع السعادة، موعد مع التكريم والعزة ، موعد مع الحرية الحقيقية.
أيها الأحبة الكرام: أنى لي أن آتي على كل مظاهر إعزاز وتكريم الإسلام للمرأة، في هذه الخطبة القصيرة، بل من أين أبدأ ، ماذا عسى أن أقول ، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
أيها الاخوة الكرام: لقد ساوى القرآن في أغلب تكاليف الإيمان بين النساء والرجال قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار. وقال تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً.
وقال : (( من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له لكل مؤمن ومؤمنة حسنة )).
أما ثوابها على أعمالها الصالحة في الدنيا والآخرة فعظيم قال تعالى : من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. وقال سبحانه: وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم.
وقال : (( إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها ، وحفظت فرجها ، وأطاعت زوجها ، قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت )) ، فإذا احتمل الرجل نارا الهجير واصطلى جمرة الحرب ، وتناثرت أوصاله تحت ظلال السيوف ، فليس ذلك بزائد مثقال حبة على المرأة إذا وفت لبيتها ، وأخلصت لزوجها ، وأحسنت القيام إلى بنيها.
ومن فضائل النساء ما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) ، ومن عظيم أجر المرأة عند ربها ، (( أن رسول الله عاد عبد الله ابن رواحة ، فلما تحوز له عن فراشه ، تنحى ، فقال : أتدري من شهداء أمتي؟ قال : قتل المسلم، قال : إن شهداء أمتي إذاً لقليل ، قتل المسلم شهادة ، والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء ، تموت وفي بطنها ولد شهادة ، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة )).
وقد يظن ظان أن أجور الرجال أكثر عند الله لما يقومون به من شهود الجماعات ، والجنائز ، والجهاد وغيرها ، والصحيح أن أجر المرأة كأجر الرجل متى قامت بأعمال يسيرة: ((أتت أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها النبي فقالت : إني رسول الله ورائي من جماعة نساء المسلمين كلهن يقلن بقولي وعلى مثل رأيي : إن الله بعثك إلى الرجال والنساء ، فآمنا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدرات ، قواعد بيوت ، وإن الرجال فضلوا بالجمعات، وشهود الجنائز والجهاد ، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم ، وربينا أولادهم، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله ؟ فالتفت رسول الله بوجهه إلى أصحابه فقال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله فقال رسول الله انصرفي يا أسماء ، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل أحداكن لزوجها ، وطلبها لمرضاته ، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال )) فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشارا بمقالة النبي ، إنه عمل قليل وأجر عظيم.
وكان يوصي أمته بالنساء خيرا وأن يرفقوا بهن قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عوان عندكم ، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة )) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((واستوصوا بالنساء خيرا ، فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء )) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، وخياركم خياركم لنسائكم )).
أيها الاخوة الكرام : إن المرأة تمر بمراحل ثلاث: تكون بنتا ثم تكون زوجا ثم تغدوا أمّا ، ولكل مرحلة من المراحل الثلاث التي تمر عليها تعيش المرأة أسمى مظاهر العطف والرحمة والعزة والرفعة.
فإذا كانت المرأة بنتا: فإن الإسلام اعتنى بها أيما عناية وصانها وحفظها وفرض لها حقوقا ، فمن ذلك العدل بين الأولاد في الهبة فعن ابن عباس رضي الله عنها مرفوعا : ((سووا بين أولادكم في العطية ، فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء)) ، ومن الناس من إذا رزق إناثا ولم يرزق الذكور تبرم وتضجر ، وتشاؤم وحزن وقد نهى الله تعالى عن كل ذلك ، قال تعالى وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم قال واثلة بن الأسقع إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى ، قبل الذكر لقوله تعالى: يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور فبدأ بالإناث.
ورعاية البنت وتربيتها تربية صحيحة يدخل وليها الجنة قال : (( من عال جارتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو. وضم أصابعه، أي معا )) ، وعن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله يقول: ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن من جرته، يعني ماله ، كن له حجابا من النار )) إن من يسمع هذا الثناء والإطراء ليجتهد ويجهد في الإحسان إليهن ، والعمل على إحسان تربيتهن تربية صالحة.
كتب أحد الأدباء رسالة إلى صديق له يهنئه بالبنت يقول : أهلا وسهلا بعقيلة النساء ، وأم الأبناء ، وجالبة الأصهار ، والأولاد الأطهار والمبشرة بإخوة يتناسقون ، ونجباء يتلاحقون :
فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال
فها هي البنت تعيش جوهرة مصونة ودرة مكنونة في كنف أسرتها ، تلقى كل الحب والرعاية، وتتعلم التربية السوية الصالحة من أبويها لتكون غدا زوجا صالحة مصلحة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وأكرمنا به ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد :
أيها الاخوة الكرام: فإذا غدت المرأة زوجة فإنها لا تكون في ظل شريعة الإسلام كما كانت عند الآخرين ودنساً يجب التنزه عنه، ولكن سما بها إلى العلياء ، وجعل رباط الزواج من نعمه سبحانه على عباده قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وقد أوجب الإسلام هدية تكريم للمرأة حين إقبالها على بيت الزوجية قال تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فلا يجوز لأحد أكل مهرها أو التصرف منه بغير إذنها الكامل ورضاها الحقيقي ، فإذا ما تزوجت فإن على الزوج أن ينفق عليها والنفقة تشمل الطعام والشراب والملبس ، وما تحتاج إليه الزوجة لقوام بدنها لقوله تعالى لينفق ذو سعة من سعته ، وعن معاوية بن حيرة قال : قلت يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: ((أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه ، ولا تضرب )) وقال عليه الصلاة والسلام: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) وعن أبي هريرة قال : ((دينار أنفقته في سبيل الله ، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجر الذي أنفقته على أهلك )) ، ولا تكلف المرأة بشيء من الإنفاق ، أماً كانت أو أختا، أو كانت زوجة، قادرة على العمل أو عاجزة عنه ، غنية كانت الزوجة أو فقيرة ، وسواء كان زوجها قادرا على العمل أو عاجزا عنه ، غنيا كان أو فقيرا ، فالرجل المسؤول عن النفقة البيتية ، وليس من حقه أن يلزمها إلا إذا تبرعت مساهمة في تحمل بعض العبء.
ومن حقوق المرأة المتزوجة أن يكون لها مسكن تستظل بظلاله ، وتنعم بالقرار فيه ، وتحس أنها مديرة شؤونه ، ومسؤولة عن كل صغيرة وكبيرة فيه ، قال الله تعالى: أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم فإذا وجبت السكنى للمطلقة ، فالتي في صلب النكاح أولى ، قال تعالى وعاشروهن بالمعروف ومن المعروف أن يسكنها في مسكن.
ومن حقوق الزوجة التي كفلها الإسلام أن يعلمها زوجها أمور دينها فيعلمها أركان الإيمان وأحكام الطهارة والعبادات خاصة الصلاة ويحثها على أدائها في أول وقتها وشروطها وأركانها مفسداتها ، لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً. ومن وقايتها من النار تعلمها أمر دينها ، وقد أثنى الله على نبيه إسماعيل عليه السلام بقوله : وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً ومنها : المعاشرة بالمعروف ، وقد أمر الله بها، كيف لا ، وقد اجتمعت الأبدان والأرواح في مكان واحد ، وأصبح المصير واحدا ، والهم هم واحد قال تعالى : وعاشروهن في بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً وقيل في المعروف : أن لا يضربها ، ولا يسيء الكلام معها ، ويكون منبسط الوجه معها ، ومن المعاشرة بالمعروف أن يناديها بأحب الأسماء ، وأن يكرمها في أهلها عن طريق الثناء عليهم.
ما من حسن المعاشرة ما جاء عنه أنه قال لعائشة رضي الله عنها: ((إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، قالت : ومن أين تعرف ذلك، فقال: أما إذا كنت راضية فإنك تقولين لا ورب محمد ، وإذا كنت غضبى لا ورب إبراهيم ، قالت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك)). وبعد حياة السعادة الزوجية تغدوا الزوجة أما وتحمل مسؤولية كبيرة في تربية ليوث المستقبل ، ورجالات الأمة ، فهي المحضن الخصب الذي يخرج منه إلى الحياة أولئك الأبطال ، والذي لولاها بعد الله لخرجن نماذج كرتونية ضعيفة هزيلة.
ومما أوجب الله في حق الأم برها والإحسان إليها قال تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ في الجواب ، ولا يحد النظر إليهما ، ولا يرفع صوته عليهما ، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد كلا لهما. وقال تعالى فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما فقد نهى الله أن يقول الابن لأمه : أف وهي أقل كلمة فكيف بما هو أعظم منها؟ ((جاء رجل إلى رسول الله فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي، قال: أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك )).
فالأم من أعظم الناس فضلا وأحق الناس بالإكرام والإحسان ، ومن لا خير له في أمه فلا خير له فيمن هم دونها: عن عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال: ((دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت من هذا ؟ فقيل : حارثة بن النعمان. فقال رسول الله وكذلكم البر.كذلكم البر)). وزاد عبد الرزاق في روايته ، وكان أبر الناس بأمه ، وجاء في الأدب المفرد أن رجلا يمانيا حمل أمه وراء ظهره يطوف بالبيت فرأى ابن عمر فقال : إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر ، الله ربي ذي الجلال الأكبر ، حملت أكثر مما حملت ، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر ؟ ثم قال : يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا ولا بزفرة واحدة.
أيها المسلمون: هاهي المرأة المسلمة التي رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ، هاهي قد حفت بسياج عظيم من التكريم ، وأمطرت عليها سحب الرسالة فيضا من الحفظ والصون ، والاهتمام والرعاية حتى عدت مشاركة قوية وفعالة في الحياة ، لا تصلح الحياة إذا فسدت.
وارجع قليلا بذاكرتك إلى الإحصاءات المخيفة في الخطبة الماضية لترى البون الشاسع بين المرأتين ، والفرق الكبير بين الحياتين ، حياة في ظل الإسلام وحياة في ظل الجاهلية النتنة، إلا أنه لم يرق لأعداء دينك هذا الاستقرار الذي تعيشه المرأة المسلمة، فبدأوا بالمؤامرات تلو المؤامرات لإفسادها ، وهذا هو موضوع الخطبة القادمة بمشيئة الله.
(1/592)
أثر الإيمان في العبد
الإيمان, التوحيد
أهمية التوحيد, فضائل الإيمان
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوحيد دعوة جميع الأنبياء. 2- أثر الإيمان في حياة الصحابة في العفة والشجاعة والصدق
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
أيها الاخوة: إن الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له هو الهدف الأسمى للدعوة الإسلامية، التي حملها الموكب الكريم من الرسل عليهم الصلاة والسلام منذ آدم إلى أن ختموا بمحمد ، فكان الإسلام هو الكلمة التي رضيها الله لعباده وأمرهم بها قال الله تعالى عن نوح: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقوم يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين.[يونس:71-72] وقال عن إبراهيم عليه السلام: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.[البقرة:132] وقال تعالى عن الحواريين وعن عيسى عليه السلام: فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إليه الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنّا مسلمون.[آل عمران:52]
وإذا تصفحنا آي الذكر الحكيم نجد الدعوة إلى التوحيد والإيمان والتنزيه لا تخلو منها سورة بل لا تكاد تخلو منها صفحة من الكتاب الكريم تصريحاً أو تلميحاً.
وكان هذا الإيمان حارسا لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته بملك نفسه أمام المطامع والشهوات الجارفة، وفي الخلوة والحدة، حيث لا يراها أحد وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحدا.
وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند الغنم والثبات أمام مطامع المال، وأداء الأمانات إلى أهلها والإخلاص لله، وقع ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان.
فقد جاء في تاريخ الطبري أن المسلمين لما هبطوا المدائن وجمعوا الغنائم، أقبل رجل بحق معه، فدفعه إلى خازن الأموال، فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه، قالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا، أن للرجل شأنا، فقالوا من أنت؟ قال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا أخبر غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، فاتبعه رجل حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس.
وكأن هذا الإيمان بالله رفع رأسهم، وأقام صفحة عنقهم، فلن تحنى لغير الله أبدا، لا لملك جبار، ولا لحبر من الأحبار، وملأ قلوبهم وعيونهم بكبرياء الله تعالى وعظمته، فهانت وجوه الخلق، وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة والفخفخة.
أرسل سعد قبل معركة القادسية ربعيّ بن عامر رسولا إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه ربعي، وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير، وأظهر رستم اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأقنية الثمينة وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب خشنة وترس، وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
ولقد بعث الإيمان بالآخرة في قلوب المسلمين شجاعة خارقة للعادة، وحنينا غربيا إلى الجنة واستهانة نادرة بالحياة، تمثلوا الآخرة وتجلت لهم الجنة بنعميها، كأنهم يرونها رأي العين، فطاروا إليها طيران حمام الزاجل لا يلوي على شيء.
تقدم أنس بن النضر يوم أحد، وانكشف المسلمون، فاستقبله سعد بن معاذ فقال أنس: يا سعد: الجنة ورب الكعبة، إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد: فوجدنا به بضعا وثمانية ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فشوهوا جسده، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال يوم بدر: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض ؟ قال نعم، قال : بخ بخ، فقال عليه السلام: ما يحملك على قول بخ بخ ؟ قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهم ثم قال : لئن أنا حييت حتى أكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى بها، ثم قاتل حتى قتل.
وجاء رجل من الأعراب إلى النبي فآمن به واتبعه، فقال: أهاجر معك، فأوصى به بعض أصحابه، لما كانت غزوة خيبر، غنم رسول الله شيئا فقسمه وقسم الأعرابي، فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى وكان عندئذ يرعى دوابهم فلما جاء دفعوا إليه نصيبه، فأخذه وجاء به إلى النبي فسأله عن هذا المال ؟ فقال : قسم قسمته لك، قال : ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا – حلقة – بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال عليه السلام: إن تصدق الله يصدقك – ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به إلى النبي وهو مقتول، فقال: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله، فصدقه)).
هذه أيها الاخوة المؤمنون: لمحات من الآثار الرائعة التي يتركها الإيمان في نفوس المؤمنين بعد أن يصوغ منهم رجالا أتقياء يعملون ويجاهدون وينكر الواحد منهم ذاته ليذكر اخوانه، وينسى نفسه ليذكر ربه ويرجوا ثوابه ،وصدق الله العظيم: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أفضل وأزكى وأطيب ما صلى على أحد من خلقه.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله.....
وإن من هدي الرسول أنه لا يشرع في تطوع إذا أقيمت الصلاة – فعن أبي هريرة أن النبي قال : ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، وقد دخل رجل المسجد ورسول الله في صلاة الصبح فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع رسول الله ، فلما سلم الرسول قال: يا فلان بأي الصلاتين اعتددت: بصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟
ولما رأى النبي رجلا يصلي ركعتي الفجر حين أخذ المؤذن بالإقامة غمز النبي منكبه وقال: ألا كان هذا قبل هذا)).
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد... وأرض اللهم عن الأربعة الراشدين وعن الصحابة أجمعين.
الله انصر الإسلام والمسلمين، اللهم اعز دنيك وأعل رايتك، وانصر المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك من الخير كله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله ما علنا منه وما لم نعلم.
الله إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها أمرنا وتزكي بها عملنا وتلهمنا بها رشدنا.
اللهم يا ذا الحبل الشديد نسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود، الله اجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين سلما لأوليائك وحربا لأعدائك نحب بحبك من أحبك ونعادي بعداوتك من خالفك، اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان...
(1/593)
توحيد العبادة
التوحيد
الألوهية
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تناسق الكون دليل وحدانية الله. 2- توحيد الربوبية يستلزم بتوحيد الألوهية. 3- توحيد
الألوهية دعوة الرسل والأنبياء. 4- أنواع العبادة مطلوبة في الموحد. 5- الحاكمية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : أيها الناس :
فاتقوا الله الذي عظمت قدرته وتجلت حكمته في هذا الخلق ، فقد اتجهت إرادة الله تعالى إلى هذا الوجود فأوجدته ، وأودعه سبحانه قوانينه التي يتحرك بها ، والتي تتناسق حركة أجزاءه فيما بينها كما تتناسق حركته الكلية سواء بسواء ، ليكون هذا دليلا على وجود الله تعالى ووحدانيته وإفراده بالعبودية ، فكان ذلك بيانا للناس وبلاغا.. هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب.
وإذا كان الخلق كله لله سبحانه وتعالى ، فينبغي بداهة أن يكون الأمر كله لله إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر.
وبهذا يترتب توحيد الألوهية على توحيد الربوبية ، كما أن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية ، كما سبق الحديث عن ذلك في خطبة سابقة.
لنتابع الكلام اليوم على توحيد الألوهية، ويقال له أيضا : توحيد العبودية..وهو إفراد الله تعالى وحده بالعبادة ، بمعنى أن يعبد الله وحده لا يشرك معه بعبادته أحد من خلقه ، لأنه وحده المستحق لأن يعبد. وهذا التوحيد مبني على إخلاص العمل كله والتوجه به لله سبحانه وتعالى.
وهذا التوحيد : هو أول الدين وآخره ، وباطنه وظاهره ، وهو أول دعوة الرسل وآخرها ، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام جاؤوا إلى أممهم بهذه الدعوة وهذا التوحيد فقد قال الله تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام: ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ، وقال عن هود عليه السلام: وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
وتكررت هذه الكلمة الطيبة على لسان أنبياء الله تعالى جميعا ، فقد ذكرها الله تعالى قاعدة عامة في دعوة جميع الرسل: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا (ثم أمر) فاعبدون ثم أمر الله تعالى نبينا محمدا بها فقال: قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين.
وعندما بعث النبي معاذا قال له: ((إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله....)).
ولأهمية هذا النوع من التوحيد ، ولأنه هو لب دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ولأن نزاع المشركين إنما كان فيه لهذا كله جاءت العناية به في القرآن الكريم. فما من سورة إلا وقد جاء الحديث فيها عن هذا التوحيد نصا أو دلالة ، وسلك القرآن الكريم في بيان ذلك مسالك شتى ، فهو قد أمر به ، ثم ناقش شبهات المشركين ورد عليهم ، ومن خلال ذلك رسم الصورة الصحيحة الصادقة للتوحيد ، ثم ذكر الله تعالى في كتابه ما أعده لعباده المؤمنين من صور النعيم والثواب في الجنة لمن يحقق هذا التوحيد ، وبالمقابل رسم صورة قاتمة للعذاب الأليم الذي ينتظر من يخالف التوحيد.
وأما تحقيق هذا التوحيد فإنه يكون بالتوجه لله تعالى وحده وإفراده بكل أنواع العبادة ، والبراءة من كل ما يعبد من دون الله.
ولكي يكون المسلم حريصا على هذا التوحيد ينبغي أن يعلم أن الله تعالى قد جعل العبادة أنواعا كلها ينبغي أن تكون خالصة لله تعالى وحده :
فهناك عبادات اعتقادية ، وأساسها أن تعتقد أن الله تعالى هو الرب الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، له الخلق والأمر ، وبيده الضر والنفع ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ، وأنه لا معبود بحق غيره ، وقد سبقت الدلائل على ذلك في الخطبة الماضية.
عبادات قلبية وهو التي لا يجوز أن يقصد بها إلا الله تعالى وحده ، فمنها المحبة التي لا تصلح إلا لله وحده ، فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في المحبة التي لا تصلح إلا لله فهو مشرك، والله تعالى يقول: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله. ومنها التوكل ، فلا يتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. ومنها الخوف من إصابة مكروه أو ضر من أحد فإن الخوف والرهبة لا تكون إلا من الله تعالى فقد قال فإياي فارهبون وإن يمسسك بضر فلا كاشف له إلا هو ، ومنها الرجاء فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، كمن يدعو الأموات أو غيرهم راجيا حصول مطلبه من جهتهم إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله.
عبادات لفظية وهي النطق بكلمة التوحيد فمن اعتقدها ولم ينطق بها لم يحقق توحيده ولم يحقن دمه ولا ماله ، وقد قال ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا أشهد.. )).
ومنها عبادات بدنية : كالصلاة والركوع والسجود ، فهذا كله لا يكون إلا الله تعالى: فصل ربك وانحر يا أيها الذين أمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم ، ومنها الصوم والحج والطواف ، حيث لا طواف إلا بالبيت العتيق وليطَّوفوا بالبيت العتيق.
عبادات مالية كإخراج جزء من المال زكاة أو صدقة امتثالا لأمر الله تعالى ، لو نستقصي الأمثلة لكل ما يدخل تحت هذه الأنواع الخمسة ، وإلا فهناك أيضا الدعاء فلا يقدر عليه إلا الله سواء( كات طلبا للشفاعة) أو غيرها ، وهناك النذر والذبح فلا يكونان إلا لله ، والاستعاذة لا تكون إلا بالله... وغيرها كثير.
فيا أخي المسلم : هذا هو سبيل النجاة وطريق الفوز فتمسك به واحذر الشيطان ووسوسته وحذار أن تستهين بأمر مما سبق ، فإن الإنسان قد يزل فيقع في الشرك وهو لا يدري.
اللهم احفظ لهذه الأمة دينها وعقيدتها ، وقها شر أعدائها وأيقظ القلوب من الغفلة عما يراد بها يا رب العالمين.
إن العبادات هي التلقي من الله في كل شأن من شؤون الحياة ، وكما نتلقى من الله شعائر التعبد، فنعبده سبحانه وتعالى بما تعبدنا به من صلاة وصيام وزكاة وحج ، كذلك نتلقى منه أمور حلالنا وحرامنا أي الشريعة التي تحكم أمور حياتنا في الصغيرة والكبيرة سواء ، لأن الله (تعالى تعبدنا) بتنفيذ شريعة كما تعبدنا بالصلاة والزكاة ، واعتبر التوجه في هذه أو تلك لغير الله شركا ، وقال عن الذين يفعلون ذلك ، أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. ووصف سبحانه عن المشركين بأنهم آذوا الله لأنهم سجدوا لغيره وعبدوا آلهة من دونه وحرموا وحللوا لأنفسهم من دون الله.
وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/594)
وسائل المشركين في حرب الإسلام
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, قضايا دعوية
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثبات الصحابة على الحق. 2- وسائل قريش في زحزحة المؤمنين عن الحق (الدعاية
والإعلان – التعذيب – المقاطعة الاقتصادية – المقاطعة الاجتماعية – أنصاف الحلول).
3- بعض مساومات قريش لرسول الله ورفضه مداهنتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد :
أيها الاخوة المؤمنون: لا زلنا نعيش في ظلال السيرة النبوية والدعوة المحمدية التي صدع بها محمد ومما أن غرس محمد غرسة العقيدة في النفوس الطيبة حتى قامت الجاهلية كلها في وجه هذه الدعوة تريد أن تطفئ نورها وتوئدها في مهدها ، ولكن أنى لها ذلك وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها ونصرها ، أرأيت إلى ذاك الذي يتوجه نعمة الشمس ويريد إن يطفئ نورها بنفخة عليها من فمه ؟ هذا هو حال قريش مع الرسول رجال الطحالب الصغيرة التي تعوم على وجه الماء فتحاول أن توقف السفينة التي تمخر عباب البحر.
ومن ثم فعلى محمد أن يمضي في سبيل البلاغ ، وأن يجتاز ما يلقى أمامه من صعاب وعقبات ، وعلى المؤمنين برسالته أن ثبتوا ، فإنهم كالبنيان الشامخ الذرى ، لا يرتكز على سطح الأرض ، وإنما يرتكز على دعائم غائرة في الثرى ، وهي التي تحمل ثقله وترفع عمده.
وذاك كله جعل قريش يجن جنونها وتتخبط في سخائها وحقدها ، فتصب العذاب على المؤمنين صبا، وترمي هذه الدعوة بكل قوس في جعبتها ، فتلقي الشبهات حول الدعوة وحول صاحبها عليه الصلاة والسلام وتحاول أن تساوم صاحبها ، ولا تألو جهدا في صد الناس عند الدعوة ، ولم تترك سلاحا حتى استعملته كحرب الدعاية والإعلام. والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية، والتعذيب البدني والتآمر على المؤمنين والمداهنة وأنصاف الحلول.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا ، ومن ذلك قوله تعالى: ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك مجنون... فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين.
فهم ليسوا أصحاب عقيدة يثبتون عليها ، إنهم على استعداد أن يدهنوا ويلينوا ويحافظوا على ظاهر الأمر كي يدهن لهم الرسول ويلين ، فيلتقي معهم في منتصف الطريق ، وما يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق والا في أخره ولا في أوله ولا أن يلتقيا في أي طريق ، وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان ، إن الهوة السحيقة بين الإسلام والجاهلية لا يمكن أن تقام عليها قنطرة ، ولا تقبل قسمة ولا صلة.
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي ليدهن لهم وتلين ، ويترك عيب آلهتهم ، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه هم في دينه حافظون ماء وجوههم أمام العرب ، على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول ، ولكن الرسول لم يساوم في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة ، وهو محاصر بدعوته ، وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون ، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه المشركين المتحيرين ، ولم يسكت عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو بعيد.
فقد روى ابن هشام في السيرة أن النبي لما بدأ قومه بالإسلام لم يبعدوا منه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك أعطموه وأجمعوا خلافه وعداوته ، وقام عمه أبو طالب بحمايته ومنعه منهم.
ومضى رسول الله لأمره لا يرده عنه شيء ، فلما رأت قريش ذلك ، مشى رجال من أشرافها إلى أبي طالب قائلين له : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه..
ومضى رسول الله ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه واشتد الأمر بنيه وبينهم فمشوا ثانية لأبا طالب مهددين له أن يكف ابن أخيه عنهم أو ينازلوه حتى يهلك أحد الفريقين فعظم الأمر على أبي طالب وقال لمحمد : يا ابن أخي إن قومك قد جاوءني وقالوا لي كذا وكذا ، فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ، فقال قولته المشهورة : يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني.....
وصورة ثالثة في مساومة المشركين لرسول الله عندما جاء عتبة بن ربيعة وقال : يا ابن أخي ، جلس أعرض عليك أمور لعلك تقبل منها بعضهما قال بعد ذلك الرسول صلى لله عليه وسلم : (( استمع..)) بسم الله الرحمن الرحيم : حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرأنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا في قلوبنا أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون.. ثم مضى يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة أنصت ووضع يديه خلف ظهره معتمدا عليا ليسمع ثم انتهى رسول الله : فإن اعرضوا فقد أتذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. فقام عتبة مذعورا ووضع يده على فم النبي يقول : أنشدك الله والرحم يا محمد.. وذلك مخافة أن يقع النذير وقام إلى قومه والوليد بن المغيرة يوما راح رسول الله فقالوا :لقد جاء أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.. وقال : إني سمعت قولا ، والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر وال بالكهانة ، يا معشر قريش : أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأي فيه فاصنعوا ما بدا لكم ، ثم قال بعد نقاش مع قومه : إن محمدا ساحرا وإن هذا القرآن سحر وفيه أنزل الله تعالى قوله ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا أنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه صقر وما أدراك ما صقر لا تبقي ولا تذر.
وصورة أخرى من المداهنة عندما جاء عدد من أشراف مكة للنبي وهو يطوف بالكعبة ، قائلين له : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر ، ويأخذ كل منا بحظ من الخير ، فأنزل الله تعالى قل يا أيها الكافرون لا اعبدوا ما تعبدون.....
فحسم الله سبحانه بذلك المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة ، وقال لهم الرسول ما أمره ربه أن يقول..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/595)
دروس من سورة يوسف عليه السلام
التوحيد
الشرك ووسائله
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
خطر الشرك – غضب الرسول من أي مظاهر الشرك ( أمثلة ) – لا تأمن الشرك الشرك قد يخالط الإيمان – مراتب الدين ثلاثة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فما زلنا في بيان قوله تعالى حكاية عن نبيه يوسف عليه السلام: ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء.
فهذا الأسلوب العربي المبين أفاد العموم فدخل في النفي سائر أنواع الشرك والمعنى: ما يحق لنا أن نشرك بالله أي نوع من أنواع الشرك ولأهمية هذا الذنب العظيم وخطورة شأنه ألا وهو الشرك بالله كان لا بد لنا أن نبينه بالتفصيل ولو طال بنا الحديث واستغرق جمعا متعددة فقد لبث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشرة سنة وجل اهتمامه وشغله تثبيت عقيدة التوحيد في نفوس أصحابه ونهي الناس عن الشرك حتى بعد هجرته إلى هذه المدينة الطيبة فقد كان حريصا صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى هذه المدينة الطيبة وبعد نزول الأحكام كان حريصا أيضا صلى الله عليه وسلم على التحذير من الشرك كان حريصا صلى الله عليه وسلم على نقاء عقيدة التوحيد في نفوس أصحابه ولذلك كان من أشد ما يغضبه صلى الله عليه وسلم أن يرى أي انتهاك لعقيدة التوحيد بالوقوع في مظهر من مظاهر الشرك: ((رأى رجلا وفي يده حلقة من صفر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ما هذه؟ قال الرجل: من الواهنة فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنها لا تزيدك إلا وهنا فانبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا)) [1].
انظر أيها المسلم كيف غضب النبي صلى الله عليه وسلم من صنيع هذا الرجل وحكم عليه بعدم الفلاح فيما لو مات ولقي ربه وهو على هذه الحال وما ذاك منه صلى الله عليه وسلم إلا لشدة حرصه وعظيم عنايته على تنقية القلوب من سائر علائق الشرك وعلى تصفية العقائد من مظاهره من جميع مظاهره وهذا الحرص النبوي منطلق من تحذير الله تبارك وتعالى لعباده من تحذيره سبحانه وتعالى لعباده من الوقوع في الشرك فقد حكم سبحانه وتعالى على من وقع في هذا الذنب العظيم ولقيه على ذلك حكم عليه بسد باب المغفرة والرحمة أمامه وتحريم الجنة عليه قال تعالى: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة:72]. وقال سبحانه وتعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء:116]. وقال سبحانه لنبيه ومصطفاه والمعني والمقصود أمته: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن في الآخرة من الخاسرين [الزمر:65]. وقد وصف الله تعالى الشرك بأنه ظلم عظيم فقال جل من قائل حكاية عن عبده ووليه لقمان: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم [لقمان:13]. ووصف نبيه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم الشرك بأنه (أكبر الكبائر) [2] ولذا فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يأمن على نفسه حتى يسلم من سائر أنواع الشرك فيكون إيمانه حينئذ له أمنا ووقاية من عذاب الله قال سبحانه: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [الأنعام:82] – أي لم يخلطوا إيمانهم بظلم – أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام:82]. وقد فسر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظلم هنا في هذه الآية بأنه الشرك ولذلك فالمؤمن إذن لا ينبغي أن يأمن على نفسه ويغتر بإيمانه حتى يسلم من سائر أنواع الشرك حينئذ له الأمن وله الهداية اللذان يقيانه من عذاب الله يوم القيامة.
وقد يقول قائل ولم تكلم قوما مؤمنين موحدين من أهل لا إله إلا الله لما تخاطبه في حديث الشرك لما تحدثهم في موضوع الشرك أيمكن أن يقع المؤمن في الشرك؟ أيمكن أن يجتمع الإيمان والشرك؟ فنقول: نعم إن الشرك قد يخالط الإيمان فيكدره ويضعفه ولا يبطله وفي بعض الأحيان يبطله وينقضه ولهذا قال تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف:106]. قال عروة رحمه الله دخل حذيفة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه (خيطا فقطعه) أو انتزعه ثم قال حذيفة: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ، ولهذا قد يطلب من المؤمن أن يبايع الله تعالى على عدم الشرك ومعنى ذلك على أن يثبت على التوحيد ويبتعد عن شوائب الشرك قال سبحانه وتعالى: يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا [الممتحنة:12]. فوصفهن بوصف الإيمان قبل المبايعة وما ذاك إلا لأن مبايعة المؤمن على ترك الشرك تزيد إيمانه نقاء وتوحيده صفاء ومثل هذه الآية في هذا المعنى ما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا)) [3] ، ها هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب بعض أصحابه بهذا الخطاب يطلب منهم أن يبايعوه على ألا يشركوا بالله شيئا مع ما نعلم من أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أكمل هذه الأمة بعد نبيها إيمانا وأنقاهم توحيدا وأصفاهم عقيدة ومع ذلك طلب منهم النبي المصطفى أن يبايعوه على ألا يشركوا بالله شيئا وهم في حاله الإيمان ومعنى ذلك يبايعونه على أن يثبتوا على التوحيد ويحذروا من الوقوع في الشرك ولذلك علينا جميعا أن نعلم أن أمر هذا الدين يمكن تصويره بثلاث دوائر الدائرة الأولى وهي دائرة صغيرة في قلب هذه الدوائر وهي دائرة الإحسان ثم تليها من بعدها دائرة واسعة كبيرة هي دائرة الإيمان ثم تليها من بعدها دائرة أوسع منها وأكبر هي دائرة الملة دائرة الإسلام فأما الدائرة الأولى وهي دائرة الإحسان فهي أعلى مقام في هذا الدين ولهذا لا يبلغها أي مؤمن حتى يحقق مرتبة المشاهدة والمراقبة الدائمة فأما إذا غفل عن ربه وأخل بهذه المرتبة مرتبة المراقبة الدائمة التي هي بمثابة المعاينة انتقل من دائرة الإحسان إلى المرتبة التي تليها وهي دائرة الإيمان وهذه المرتبة الثانية دائرة الإيمان أهلها من خواص المسلمين الذين استكملوا خصال البر وسلموا من الوقوع في الشرك كله بسائر أنواعه أصغره وأكبره وسلموا من كبائر الذنوب وسلموا من البدع ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) [4] ، فهذا هو المقصود أنه إذا وقع في كبيرة من كبائر الذنوب يخرج من هذه الدائرة دائرة الإيمان دائرة خواص المسلمين الذين استكملوا خصال البر وينتقل منها إلى الدائرة التي تليها ألا وهي دائرة الإسلام لأنه لا يزال من أهل الملة من أهل القبلة من أهل لا إله إلا الله لا يزال أصل الإيمان في قلبه صحيحا سليما وهو الإيمان بالأركان الستة لا يزال قائما بشهادة الإسلام وعباداته الطاهرة هذه الدائرة الثالثة هي دائرة الإسلام ودائرة الملة هي واسعة كبيرة تتسع حتى للعصاة من هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى لأهل الكبائر تتسع حتى للمبتدعة ممن لم يقع في بدعة مكفرة تتسع حتى لمن وقع في الشرك الأصغر لا يخرج من هذه الدائرة دائرة الملة دائرة الإسلام التي هي آخر حدود الإسلام إلا من تورط في شيء من الشرك الأكبر أو وقع في شيء من البدع المكفرة المخرجة من الملة أو استحل شيئا من كبائر الذنوب أو وقع في غير ذلك من المكفرات الكبرى التي تخرج الإنسان من دائرة الملة هذا ما يأتي بيانه وتفصيله في الجمع الآتية إن شاء الله تعالى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أحمد (4/445).
[2] البخاري (2654)، مسلم (87).
[3] البخاري: كتاب الإيمان (18)، ومسلم: كتاب الحدود (1709).
[4] البخاري: كتاب المظالم (2343).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله واعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأطيعوه ولا تعصوه فإن من أطاعه سبحانه وتعالى نجا وسلم ومن عصاه فقد هوى وهلك واعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/596)
الأمانة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمانة في الأخلاق التي تحفظ وحدة المجتمع. 2- الأمانة أعم في أداء المال إلى أصحابه.
3- شمول الأمانة جميع التكاليف والالترامات. 4- في الأمانات أمانة العقل بالجسم – الأماة في
يد حكامها – الدين عند البشر – العلم عند العلماء. 5- نماذج للأمانة عند السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
من الأخلاق الاجتماعية التي تدل على سمو المجتمع وتماسك بنيانه ، أن ينتشر بين أفراده: خلق الأمانة ، ومن بواعث الشكوى والقلق وازدياد الخصومات والجرائم أن تكثر الخيانة في الناس ، فلا يأمن صديق صديقه ، ولا زوج زوجه ، ولا أب ولده.
ولا أحد ينازع في أن الأمانة من ألزم الأخلاق للفرد والجماعة على السواء وليست هذه الأمانة قياما بحفظ المال الذي في نودعه عند الإنسان فحسب ، فإن هذا أضيق معاني الأمانة ، يقول الله: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً. وبديهي أن الأمانة هنا ليست حفظ المال فقط ، فذلك ما لا يفيده نص الآية الكريمة ، وإنما نستشعر أن المراد بالأمانة هنا شيء تأباه طبيعة العوالم كلها إلا الإنسان الذي أهّله الله لحمل هذه الأمانة والاتصاف بها فأصح تحديد لهذه الأمانة في الآية هو : التزام الواجبات الاجتماعية وأداؤها خير أداء كما شرعها الله سبحانه وتعالى للناس.
والإنسان وحده من بين هذه العوالم كلها هو الذي يستطيع أن يتحكم في ميوله وغرائزه فيخضعها لمقاييس الحق ويكون بين الناس وفيا بما التزم نحوهم من عهود ، عاملا على بث الطمأنينة في أوساطهم ، فإن نكل بعد ذلك الواجب كان خائنا للأمانة عاملا على الأذى ، ظالما لنفسه ولمجتمعه ، جاهلا بما تجره الخيانة عليه وعلى الناس من شر وفساد.
وعلى هذا.. أيها المؤمنون تكون الأمانة شاملة لقيام بجميع التكاليف والالتزامات الاجتماعية والأخلاقية :
فالعقل لدى الإنسان أمانة إن عمل بمقتضاه ونظم بالعلم والمعرفة وعمل فيه بطاعة الله كان مؤديا للأمانة خير أداء.
والجسم أمانة لديك فإن أنت غذيته وصححته ورفقت به ولم ترهقه كنت محسنا محافظا على الأمانة.
وزوجك وولدك ووالداك وكل من تشترك معهم في أواصر القربى ويلزمك حفظهم والنصح لهم هم أمانة عندك ، فإن رعيت حقوقهم وأسديت لهم الخير وأبعدت عنهم الأذى كنت قائما بالأمانة أحسن قيام: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً.
وحق المجتمع عليك في نشر الخير فيه وإشاعة الطمأنينة أمانة تلزم بالوفاء بها ، فإن لم تفعل كنت مسيئا إلى الناس خائنا للأمانة.
الأمة في أيدي المسؤولين والحاكمين أمانة ، فإن قاموا بما يجب عليهم نحوها من نصح ورعاية وصيانة لكرامتها وحريتها أو أقاموها على شريعة الله : كانوا أمناء أوفياء ، ((الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته )) وإلا كانوا من أكثر الناس غشا وخيانة ((من بات غاشا لرعيته لم يجد رائحة الجنة)).
والدين أمانة في عنق علمائه ، إن بينوه للناس وصانوه من التحريف والتلاعب كانوا أوفياء لأقدس ما في الحياة من معنى كريم وإن لم يفعلوا كانوا مرتكبين لأبشع صور الخيانة: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس...
والعلم أمانة في نفوس العلماء إن استعملوه في خير الإنسانية وكشفوا عن أسراره في هذا الكون بما يدل على قدرة الله كانوا أمناء أوفياء ، وإن استعملوه فيما يشيع الذعر ويشقي الأمم ويشجع الطغاة على العدوان والإجرام ونشر الفاحشة بين الناس ، كانوا خونة أشبه بالمجرمين يلحق بهم العار وتحقق عليهم اللعنة: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظأ مما ذكروا به.
والمال في أيدي الناس أمانة، فإن أحسنوا التصرف به والقيام عليه وأداء الحقوق الاجتماعية فيه كانوا أمناء أو فياء، لهم الذكر الجميل في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وإلا كانوا خونة ظالمين وسفهاء مبذرين: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين. وهكذا.
أيها المؤمنون: نجد الأمانة تنظم شؤون الحياة كلها : من عقيدة وعبادة وأدب ومعاملة وتكافل اجتماعي وسياسة حكيمة رشيدة وخلق حسن كريم.
والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود ، سر سعادة الأمم ، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب والأمم في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس.
سرقت امرأة عربية في عهد الرسول فجاء أهلها يتشفعون لدى الرسول ليسقط عنها العقوبة ووسطوا في ذلك أسامة ابن زيد فغضب عليه الصلاة السلام وقال: ((أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد ، أما والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها )) فهذه هي أمانة الحاكم في تنفيذ القانون على الناس جميعا.
واستدان ابن عمر بن الخطاب من أبي موسى الأشعري حين كان واليا على الكوفة أموالا من خزينة الدولة ليتاجر بها على أن يردها بعد ذلك كاملة غير منقوصة ، واتجر ولد عمر فربح ، فبلغ ذلك عمر فقال له : إنك حين اشتريت أنقص لك البائعون في الثمن لأنك ولد أمير المؤمنين ، ولما بعت زاد لك المشترون في الثمن لأنك ولد أمير المؤمنين ، فلا جرم أن كان للمسلمين نصيب فيما ربحت ، فقاسمه نصف الربح ، واسترد منه القرض وعنفه على ما فعل ، واشتد في العقاب على أبي موسى لأنه أسرف من أموال الدولة ما لا يصح أن يقع مثله ، وهذه أمانة الحاكم الذي يسهر على مال الأمة فلا يحابي فيه صديقا ولا قريبا.
ويذكر التاريخ أن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان من أكثر ملوك عصره توفيقا في الفتوح والنصر وكان نصيبه من الغنائم كبيرا جدا وقفه كله مدارس ومستشفيات ومساجد مما لا يزال بعض آثاره باقيا حتى اليوم ، ولم يترك لنفسه ولأولاده شيئا من ذلك حتى قالوا إنه حين مات ، مات وهو من أفقر الناس رحمه الله ، وهذه هي أمانة القائد الذي يأبى أن يتاجر بجهاده ، ويرضى بالله وجنته وثوابه بديلا.
ومر علي بن أبي طالب في المسجد فرأى واعظا يعظ الناس ، فقال له : أتعرف أحكام القرآن وناسخه ومنسوخه ، فقال : لا ، فقال علي ، هلكت وأهلكت ، ثم منعه من التحدث إلى العامة لئلا يفسد عليهم دينهم بجهله ، وهذه أمانة في صيانة العلم وحفظ عقائد الناس من أن يفسدها الجاهلون.
أيها الأخوة المؤمنون:
هذه بعض أحاديث الأمانة في مجتمع كانت فيه الأمانة خلقا بارزا يتعامل به الناس بعضهم مع بعض ، واليوم وقد ارتفعت الشكوى من انحسار هذا الخلق الكريم ، تخلى كثيرون عن أداء الأمانة التي كلفهم الله تعالى القيام بها ، فهل تجدون علاجا لذلك إلا أن يعود كل منا فيما جعله الله قيما عليه ومسؤولا عنه ، يعود إلى القيام بهذه الأمانة كاملة ، فيفيء كل منا إلى ربه ويرجع إلى ضميره ويذكر الجنة وما أعده الله للأولياء وفي أمانتهم من ثواب مقيم ، وما أعده الله للخائنين في وعهودهم من عذاب مقيم ، وإن ذلك ليسير على الله أحبا قلبه بتعاليم دينه السمحة واستمع إلى رسوله : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).
فاللهم أحيي قلوبنا بنور معرفتك وأيقظ ضمائرنا بتعاليم شريعتك.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/597)
الحقوق الزوجية
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توزيع الإسلام للحقوق بين أفراد الأسرة. 2- حقوق الأفراد مبنية على الحب والعدل.
3- حقوق الزوج على زوجته. منها: أ- الطاعة. ب- مراعاة ظروف الزوج. ج- عدم الخروج
إلا بإذنه. د- حفظه في ماله وعرضه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن من قدر له أن يحيط بوضع الأسرة في مجتمعنا ، وما تعانيه بعض الأسر من مشكلات نفسية واجتماعية وخلقية ، (ويقف) على ما يقدم إلى المحاكم من دعاوى الخصومة الزوجية أيقن أننا في أشد الحاجة إلى الاهتمام بوضع العائلة والأسرة والعلاقات بين أفرادها ، فإن اضطراب الحياة الزوجية عامل كبير من عوامل اضطراب الأوضاع في الأمة ، وهذه المشكلات إنما تنشأ عن التساهل في أحكام الشرع وعندما تخف رقابة الإنسان لربه تبارك وتعالى ، وعندها تحكم الفوضى والغموض : الحقوق والواجبات بين الزوجين.
فلو استقام الأمر بينهما على حب روحي كريم ، وعلى حق واضح صريح يعرفه كل منهما ويطبقه على نفسه ويطالب به نفسه قبل أن يطالب به الآخر ، لو حصل ذلك كله لارتفع المستوى الاجتماعي في البيت حيث تنعم الأسرة كلها بالأمن والسعادة والاستقرار.
ويوم أن كانت أمتنا المسلمة تقود ركب الإنسانية إلى الخير وتحمل مشعل الهداية إلى الشعوب، كانت في داخل بيوتها تنعم بما لا يعرف له التاريخ مثيلا من استقرار السعادة الزوجية وشمول الطمأنينة والحب والتعاون لجميع أفرادها ، ذلك لأن الإسلام وضع لكل من الزوجين والآباء والأبناء حدودا واضحة يتميز فيها حق كل فئة عن حق الفئة الأخرى ، وهي حقوق متكافئة منسجمة تؤدي إلى ملء القلوب بالحب ، وملء الحياة بالنعيم ، وملء المجتمع بالنسل الصالح الذي يبني ولا يهدم ، ويسمو ويرتفع ولا ينحدر.
وهذه الحقوق أقامها الإسلام على دعامتين من العدل والحب ، لا ينبع من الحياة إلا منهما ، ولا يستقيم شأن إلا بها ويتضح هذا من الغاية التي بينها الله تعالى من الزواج فقال: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة.
وإذا كنتم قد قمتم بواجبكم أيها الأزواج ، إذ قمتم بواجبكم نحو زوجاتكم فيما أشرنا إليه في الخطب الماضية ، وينبغي أن تقوموا فعلا بها فهي أمر الله الشارع الحكيم فعندئذ يحق لكم اليوم أن تعرفوا حقوقكم أنتم، وأن تعرف كل زوجة واجبها اتجاه زوجها..
فأول هذا الحقوق : طاعة الزوجة لزوجها بالمعروف حسب ما يقرره الشارع الحكيم ، وهي طاعة تحتمها المصلحة المعنوية المشتركة بين كل شريكين متحابين متصافيين ، إنها ليست طاعة العبد لسيده ، ولا الذليل لمن يستعبده ، وإنما هي طاعة الأخ الصغير للأخ الكبير ، والزوجة غالبا ما تكون أصغر من الرجل سنا ، وهي القوامة التي يطلبها الإسلام من الزوجة لزوجها ، كما أشار الله تعالى إلي ذلك بقوله: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم.
وهذه الطاعة لها أثرها الكبير في استقامة الحياة وسعادة الأسرة ، بل هي سبب في دخول المرأة إلى جنة ربها تبارك وتعالى: (( إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعة زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت)).
وينبغي التنبيه على أن الطاعة في المعروف وفي غير معصية ، فلو أرادها على شرب حرام أو طعام حرام أو لباس لا يجوز أو اختلاط ، فلا تطعه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
ومن حق الزوج على زوجته أن ترعى شعوره فتبتعد عما يؤذيه من قول أو فعل أو قلق ، وأن تراعي ظروفه المالية ، ومكانته الاجتماعية ، وأن تقدر مسؤولياته في العمل خارج البيت فلا تضيق من ذلك ، ولا تكلفه من النفقات ما لا يطيقه ، وأن لا تستكثر من الطلب لئلا يلجئ إلى الكسب الحرام.
لقد كانت المرأة تقول لزوجها : إنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار وعندما اجتمعت أمهات المؤمنين لطلب النفقة ، اغتم لذلك واعتزلهن شهرا حتى نزل قوله تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالن أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً.
ومن حقوق الزوج أن توفر له زوجته : سكن النفس والطمأنينة في البيت بنظافة حبها ونظافة بيتها ، وأن تتزين له حين يقدم بما يقربها إليه ويزيد حبه لها رسوه وشوقه إليها ، وكانت المرأة توصي ابنتها بذلك عند الزواج كما أوصت امرأة ابنتها ، بنيه : إنك خرجت من العش الذي درجت فيه فصرت إلى فراش لم تعرفيه ، وقرين لم تألفيه ، فكوني له أرضا يكن لك سماء ، وكوني له مهادا يكن لك عمادا ، وكوني له أمة يكن لك عبدا ، ولا تلحفي عليه فيقلاك ، ولا تباعدي عنه فينساك ، إن دنا منك فاقربي إليه ، وإن نأى عنك فأبعدي عنه ، واحفظي أنفه وسمعه وعينه فلا يشمن منك إلا طيبا ، ولا يسمع إلا حسنا ولا ينظر إلا جميلا.
ومن حق الزوج على زوجته أن لا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، وألا تبدي زينها في جانب كي يطمئن قلبه ، وتكن نفسه ، ومن وجه النبي إلا تخرج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها ، فإن فعلت لعنتها الملائكة حتى تعود ، وأمر الله بغض النظر فقال: وقل للمؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو أباء بعولتهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن.
ومن حقوق الزوج على زوجته أن تترك له وقتا يفرغ فيه لنفسه ولفكره ، فإن كان عابدا تركت له وقتا للعبادة وإن كان عالما تركت له وقتا لطب العلم ، وإن كان تاجرا وإن كان عاملا ، وهكذا ما لم يصل الأمر إلى حد (النفرة والجفاء).
ومن حق الزوج أنها تحافظ على سمعته وكرامته وعرضه ، وأن تكون أمينة على ماله ، لا تأخذ منه إلا بالمعروف ، هذه بعض الحقوق التي للزوج على زوجته ، وهو نداء للزوجات ليسمعن له هنا أو ينقله الرجال إليهن: أيها الزوجات احرصن على سعادة أزواجكن واجعلن من بيوتكن جنات يأوي إليها الأزواج حتى يجدوا من قلوبكن وبشركن ونظافتكن وتعاونكن ، ومن قبل ومن بعد من فوقكن الله ومن تقواه التمسك بدينه ، (ما يجعل من هذا كله ما يحبب إلى أزواجكن لبيوتكن ونساءكن )، وحذار حذار من الغفلة والتفريط والتساهل في الحقوق التي شرعها الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/598)
أحكام تتعلق بالمرأة
الأسرة والمجتمع, فقه
اللباس والزينة, المرأة
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دور المرأة في تدبير بيتها. 2- آداب خروج المرأة من بيتها. 3- التحذير من التبرج.
4- لباس المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها الإخوة المؤمنون، لا يزال حدثينا موصولا بما سبق في الأسبوعين الفائتين عن الأسرة وتنظيمها وحقوق كل من الرجل والمرأة في هذه الأسرة، ولقد جعلت المرأة في هذا التنظيم ربة البيت وسيدته، وإذا كان على زوجها كسب الأموال لتدبير شؤون المنزل وقد رفع الإسلام عنها جميع الواجبات التي تتعلق بخارج البيت، وذلك لأن الإسلام لا يحمد خروج المرأة من البيت وخير الهدي لها في الإسلام أن تلازم بيتها وتستقر فيه، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب: 32، 33].
ومع ذلك فقد أباح الإسلام للمرأة الخروج لحاجة تقضيها لا مندوحة عنها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن)). ومثل هذا الإذن منحه الرسول للنساء مراعاة للأحوال والضرورات، وهناك قيود وشروط لا بد منها:
فقد حرم الإسلام على المرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها لأنه القيم المسؤول، فإذا خرجت دون إذن لعنتها ملائكة السماء حتى ترجع.
وهذا الإذن لا يبيح ما حرم الله عز وجل عليها، ولا يرفع عنها القيود والتكاليف التي وضعها الإسلام، فلا يجوز لها أن تخرج إلا بلباس ساتر سابغ ليغطي جميع حجمها ولا يبدي منه شيئا ولا بعضه، وأن لا تكون متعطرة متزينة، ولا متشبهة بلباسها بالرجال ولا بالنساء الكافرات، وأن تغض بصرها وتحفظ لسانها ومشيتها، قال تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور: 31].
فهذه آيات الله تعالى وأحاديث النبي كثيرة في هذا المعنى، لا يجوز للمرأة أن تخرج إلا بلباس ساتر لجميع جسدها لا يبدي جزءا منه، ومنه نعرف حكم خروج المرأة بالثياب التي تبدي شيئا من الصدر والثياب التي تصنع بنصف كم أو بلا أكمام، حتى إنك لتجد من النادر أن ثوبا نسائيا يصنع بأكمام وكأن الله عز وجل قد حرم هذا على النساء!
وثاني الشروط في لباس المرأة أن لا يكون زينة في نفسه، فإنه إن كان كذلك كان هذا تبرجا حراما منهيا عنه لأنه بلغت أنظار الرجال إلى المرأة، قال : ((ثلاثة لا يسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا، وأمة أو عبد أبق فمات، وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده)).
ولذلك قال العلماء: من الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب تحت النقاب وتطيّبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت ولبسها الصباغات والأزر الحريرية، وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه، ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة، ولهذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء وقال عنهن : ((اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء)).
ويشترط أن يكون لباس المرأة صفيقا ثخينا سميكا لا يشفّ؛ لأن الستر لا يتحقق إلا بذلك، وأما اللباس الشفاف فإنه يزيد المرأة فتنة وزينة، وفي ذلك يقول : ((سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا )). ومن هذا تعلمون حكم الخروج بالثياب الرقيقة التي تباع في زماننا هذا، تلك التي تبدي من الجسم أكثر مما تستره وتخفي.
ومما يتصل بهذا أن يكون اللباس فضفاضا واسعا غير ضيق؛ لئلا يصف جسم المرأة؛ لأن الثوب للستر ولمنع الفتنة، وإذا كان ضيقا كان أدعى للفتنة.
ولا يجوز للمرأة أن تخرج متعطرة متبخرة في بدنها أو ثوبها لقوله عليه الصلاة والسلام: ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)) ، وعن زينب الثقفية: ((إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربنّ طيبا))، ((وأيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)). وقد مرت امرأة يوما بأبي هريرة وريحها تعصف، فقال: يا أمة الجبار، المسجد تريدين؟ قالت: نعم، قال: وله تطيَّبتِ؟ قالت: نعم، قال: فارجعي فاغسلي الطيب عنك، فإني سمعت رسول الله يقول: ((ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فيقبل الله منها صلاتها حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل)).
فيا معشر المسلمين، إذا كان حراما على مريدة المسجد أن تتطيّب وتتعطّر وهي تريد أداء عبادة في المسجد فماذا يكون الحكم على من تريد الأسواق والشوارع وتمر بالرجال فيها؟! أليست تكون بذلك ارتكبت إثما عظيما ومنكرا كبيرا وشرا كثيرا؟!
ويشترط في لباس المرأة أن لا يكون شبيها بلباس الرجال لأنه عليه الصلاة والسلام لعن الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل، وقال: ((ليس منا من تشبّه بالرجال من النساء، ولا من تشبّه بالنساء من الرجال)).
ولا يجوز أن يكون اللباس مشابهًا للباس الكفار، وقد جاءت أحاديث كثيرة جدا في النهي عن التشبه بالكفار في اللباس أو الزينة وفي العبادة وغيرها.
ولا يجوز أن يكون اللباس لباس شهرة يلبسه تفاخرا بالدنيا وزينتها، أو لباسا خسيسا إظهارا للزهد والرياء لقوله : ((من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارا)).
تلكم ـ أيها المؤمنون ـ شروط ينبغي أن تراعيها المرأة في لباسها عند الخروج وعند غير الخروج، ويستثنى من ذلك شرطان لا يلزمان المرأة وهي في بيتها: أن يكون ساترا، أن يكون صفيقا، أن يكون زينة.
وبعد هذا، من المسؤول عن ذلك؟ أهو الرجل أم المرأة؟ نعم، المرأة التي تلبس مسؤولة، والرجل الذي يرضى والرجل الذي يشتري والرجل الذي يهوى ذلك ويشجّعه مسؤول عن هذا كله، ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/599)
دروس من سورة يوسف
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
حكمة يوسف في الدعوة – ذم التقليد وخطره – المترفون والتقليد – مقامان أكد فيهما القرآن على الحجة والبرهان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد قال الله تعالى حكاية عن نبيه يوسف الصديق عليه السلام: ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [يوسف:40].
في الآيات السابقة علي هذه الآية بينا كيف أن يوسف عليه السلام في محاورته مع صاحبيه استخدم أسلوباً في الدعوة غير مباشر تجلى فيه الأدب الرفيع في الخطاب الذي أبرز ملامحه احترام شخصية المخاطب والانتباه لنفسيته وتجنب مصادمته ببيان قبح حاله, وهنا يستمر عليه السلام بنفس الأسلوب فهو لا يخاطبهما مباشرة ولكنه يستخدم ضمير الجمع ما تعبدون من دونه فيحقق بذلك هدفين:
أولهما: بيان حال المجتمع كله.
ثانيهما: تجنب الاصطدام المباشر بالمخاطب.
فيوسف عليه السلام في محاورته مع صاحبيه عندما يريد أن يبين سوء حالهما وفساد اعتقادهما كان يلجأ إلى التعميم كما نرى هنا فهو يستخدم ضمير الجمع كما قلنا ليتجنب الاصطدام المباشر بالمخاطب لما قد يترتب على ذلك من تنفيره ففي هذا المقطع من الآية نلحظ شيئاً جديداً: ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان , نلحظ في هذا الجزء من الآية شيئاً جديداً أنه عليه السلام ينعى عليهم التقليد والجمود على المورثات الباطلة التي لا تستند إلى برهان بل هي مجرد أعراف وتقاليد يجري فيها أفراد المجتمع على المحاكاة فبعضهم يحاكي فيها بعضاً وهكذا تجد وفي كل زمان أولئك الإمعات الذين يبررون مواقفهم وأفعالهم بقولهم : الناس كلهم يفعلون ذلك ويقلدون فيه أسلافهم من الأباء والأجداد ولذلك فإنك إذا دعوت الضالين المنحرفين منهم إلى الحق تمسكوا بما هم عليه وعاندوا الحق ويبررون موقفهم هذا بأن هذا ما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم كابراً عن كابر أفتريد أنت الآن أن تغير ما مضى عليه جيل بعد جيل, وهكذا يخسر الضالون أنفسهم ويعاندون الحق ويرفضون الانقياد له بسبب التقليد الأعمى الذي يعطل الإنسان به ما وهبه الله من قوة عقلية وقدرة على التفكير وإدراك الأشياء, فإن الله تبارك وتعالى أودع في الإنسان قوة عقلية وقدرة على التفكير ليستخدم ذلك في إدراك الحق ومعرفته ومن ثم في اتباعه والانقياد له.
وأمر العقائد بالذات لا ينفع فيه التقليد والمحاكاة بل ما أضر الناس شيء في عقائدهم مثل التقليد الأعمى والجمود على المورثات فإن هذا ما منع الناس دائماً من اتباع الرسل ومن الاستجابة لأتباع الرسل ويتولى كل ذلك دائماً المترفون فإنهم يحثون دائماً على التقليد والجمود علي الأوضاع والمورثات حماية لمصالحهم وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [الزخرف:23].
الدين يأمر الإنسان باستعمال عقله وينعى على الناس تعطيلهم لعقولهم واتباعهم لمن يعطل عقله, قال تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون [البقرة:170].
الدين يأمر الناس بأن يبنوا عقائدهم على الحجة والبرهان والعلم والبصيرة بما أنزل الله, الدين يأمر الناس بأن يعبدوا الله وحده ولكن عليه بأن يعبدوه على علم وعلى بصيرة, فإن التقليد في أمر العقائد لا ينفع أبداً بل يضر الناس وهو الذي منع الناس دائماً من اتباع الرسل ومن اتباع الحق ولذلك جرى في القرآن التنبيه بالبرهان في مقامين:
أولهما: عند بيان فساد اعتقاد أهل الكفر وأنه ليس مبنياً على برهان فكم من موضع قال فيه تبارك وتعالى لأهل الكفر: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [البقرة:111]. وتأملوا هذه الآية قال سبحانه وتعالى: ومن يدعُ مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه [المؤمنون:117]. يستحيل أن يكون هناك برهان على إله آخر مع الله فالشرك ليس عليه برهان فلماذا قيد بهذا الوصف واستخدم هذا الأسلوب لتنبيه الناس على أن أمر العقائد يجب أن يبنى على الحجة والبرهان وعلى العلم والبصيرة بما أنزل الله أما التقليد والمحاكاة فلا ينفع في ذلك.
ثانيهما: الذي جرى تنويه القرآن فيه بالبرهان عند بيان ما جاء به هذا الدين فإن هذا الدين جاء بالبرهان الواضح, هذا الدين لم يأتِ بمجموعة من الأسرار ومن الطلاسم ولا بالعقائد غير المفهومة لكنه جاء بالعقيدة الواضحة والشريعة السمحة ولذلك وصف القرآن الدين نفسه بأنه برهان وبأنه نور, قال تعالى: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً [النساء:174].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)) [1] متفق عليه.
لماذا يكون الفقراء أكثر أهل الجنة كما أخبر بذلك الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم:
أولاً: لأنهم مقلون متخففون من هذه الدنيا ليسوا كمن يقدم يوم القيامة وقد حمل كاهله أثقالاً جساماً وذنوباً وأوزاراً كباراً, أما الفقراء فمتخففون ولذلك فهم أحرى بالنجاة, أما كثرة المال وقوة الجاه والسلطان فإنها في الغالب إلا ما رحم الله تكون سبباً لغفلة الإنسان وطغيانه وبذلك تؤدي به إلي الهلكة, روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي أسماء أنه دخل علي أبي ذر الغفاري رضى الله عنه وهو بالربذة وعنده امرأة سوداء ليس عليها أثر للمحاسن ولا للخلوق أي للطيب, فقال أبو ذر رضي الله عنه ألا ترون إلى ما تأمرني به هذه السويداء: تأمرني أن آتي العراق فإذا أتيت العراق مالوا علي بدنياهم وإن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أن دون جسر جهنم طريقاً ذا دحض ومزلة وإنا أن نأتي عليه وأحمالنا فيها اقتدار, أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن بأوقار ثقال [2].
يريد رضي الله عنه أننا نجيء يوم القيامة متخففين من مسؤوليات الدنيا وأعبائها وبالتالي متخففين من ذنوبها وأوزارها ذلك أقرب للنجاة من أن نأتي بأوزار وأثقال.
ثانياً: الفقراء في الغالب أقرب إلى التواضع وإلى رقة القلب وقبول الحق بخلاف أولئك, بخلاف غليظي الأعناق متجبري القلوب الذين أفسدهم الترف وأفسدتهم المادية الطاغية, انظر إليهم في مكاتبهم الوفيرة كأنهم فراعنة وفي بيوتهم الفاخرة كأنهم أباطرة قد نسوا الله وغفلوا عنه وغلظت قلوبهم عن الحق لا يعيشون مع الناس ولا الناس معهم ولا يحبون الفقراء ولا المساكين ولا يلتفتون إلى المحتاجين, سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق ومع ذلك كان يخالط الناس ويعيش معهم وبينهم ويجالس الفقراء والمساكين ويزورهم في بيوتهم ويحبهم, وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين)) [3] ، والمسكنة هنا ليس معناها العجز والفشل والكسل والتواكل وإنما المراد بها التواضع لله تبارك وتعالى ولين الجانب ورقة القلب مع المؤمنين وخاصة مع الفقراء منهم.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [4] ، اللهم صلى وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري كتاب بدء الخلق (3069).
[2] أحمد (5/159).
[3] الحاكم (4/322).
[4] صحيح مسلم (408).
(1/600)
جريمة الزنا
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صورة من حقيقة المنادين بحقوق الإنسان في الغرب. 2- حواجز يضعها الإسلام في وجه
الرذيلة قبل أن يعاقب بالحدود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها المسلمون :
منذ أيام شهدت بلاد النرويج إحدى البلاد الأسكندنافية ، قضية هي الأول من نوعها فقد استمعت المحكمة إلى دعوى ضد رئيسة منظمة العمل ضد أضرار الأجانب ، تلك التي جعلت غايتها الصد عن دين الله سبحانه وإثارة الشبهات والأباطيل حول أحكام الإسلام وتعاليمه ، زاعمة زعما كاذبا في العقوبات فيرفع السوط ليجلد الناس كلما أخطأ الواحد ، ويستبشعون هذه الأحكام التي أنزلها الله تعالى حفاظا على دين المؤمنين وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم، وهذا كله صورة للصراع الأبدي بين الحق والباطل ، بين الإسلام والكفر: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى.
ويعنينا هنا أن نأخذ واحدة من تلك الشبهات تتصل بالحفاظ على العرض ، بعد أن كان حديثنا الفائت عن بشاعة تلك الجريمة الكبرى التي تقع على العرض جريمة الزنا.
والإسلام أيها المسلمون : لا يعتمد على العقوبة في إفساد مجتمعه النظيف الصالح ، إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية من الوقوع في الجريمة، ويضيق الخناق على فرص الغواية وأسباب الفتنة ويقطع طريق الإثارة الجنسية مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة صغيرة كبيرة أو تقتضي المصلحة إغلاقه وتحوليه، هذا الطريق تجد عليه إشارات ولوحات تحذيرية تحذرك من السير فيه، وتوضع الحواجز الاصطناعية أمامك لتحول بينك وبين الوقوع في الخطر الأكيد، فإذا ما تجاوز السائق المتهور ذلك حق عندئذ أن توقع عليه العقوبة وتسجل المخالفة، ذاك هو نظام الإسلام ، إنه قبل أن يوقع عقوبة الجلد أو الرجم يضع الحواجز الكثيرة والأسلاك الشائكة التي تصد عن الجريمة ، ويفتح أمامك الطريق السهل النظيف المأمون ، وهذا ما نجده فيما شرعه الله سبحانه وتعالى للعالم والإنسان وبما يصلح هذا الإنسان: ألا يعلم من خلق..
فقد حث القرآن الكريم على الزواج وأزال العقبات من طريقه ليُشبع الإنسانُ دافعه بطريق نظيف مشروع: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم.
ولا يجوز أن يقف الفقر وقلة ذات اليد عائقا دون الزواج: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله. وقال : ((ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله والناكح الذي يريد العفاف والمكاتب يريد الوفاء )). ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج )) فكان من ذلك هو الحاجز الأول أمام الجريمة.
والحاجز الثاني : ما فرضه رب العزة جل جلاله عن المؤمنات من الحجاب: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أزكى أدنى أن يعرفن فلا يؤذين.
ويضع حاجزا ثالثا : عندما يؤدب المسلم بآداب الدخول إلى البيوت ويوجب الاستئذان لئلا تقع عين الداخل على عورات البيوت فتهيج الفتنة: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون.
ويضع حاجزا ضخما عندما يأمر المؤمنين بغض البصر عما لا يحل لهم: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن. فالعين مفتاح القلب والنظر رسول الشهوة وبريد الزنا وقديما قال الشاعر:
كل الحوداث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
ولذك قال عليه السلام :(( العينان تزينان وزناهما النظر)) وحري بالمسلم أن يحفظ بصره فلا يتبع النظره النظرة فإنه أحق بهذا الخلق من الجاهلي الذي كان يقول:
أغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يوارى جارتي مأواها
كالعينين لا تلتقيان وحجاب ما بينهما قصير جدار
ومن باب أولى إذن أن يكون الاختلاط حراما وأن تكون الخلوة بالمرأة الأجنبية وخلوة المرأة بالرجل الأجنبي حراما ما لم يكن هناك محرم ، قال : (( لا تلجوا على الفتيات اللاتي يكون أزواجهن غائبين عنهن ، فإن الشيطان يجري في أحدكم مجرى الدم )) ، (( ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم فإن ثالثهما الشيطان)) ، وكان أشد احتياطا في هذا فعندما خرج يودع زوجة صفية ، قال لمن رآهما ، إنها زوجتي صفية ، وحتى في الصلاة لا يجوز لك الاختلاط وأنت في أماكن العبادة أقرب ما تكون إلى الله (( خير مساجد النساء قعر بيوتهن)) ، (( شر صفوف الرجال أخرها وشر صفوف النساء أولها )).
ثم يضع الإسلام حاجزا سادسا: فلا يجوز للمرأة أن تسافر ثلاثة أيام بلياليها إلا مع ذي رحم محرم حتى ولو كان السفر للحج ، ويحرم الإسلام مصافحة المرأة الأجنبية غير ذات المحرم ولمسها ، فيقول عليه الصلاة والسلام السلام : ((لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)) ، وما أباح أن يمس الرجل بيده جسد امرأة غير ذات محرم ، فكان يصافح الرجال عند البيعة ولا يصافح النساء ، فعن عروة أن عائشة أخبرته عن بيعة النساء قالت : (( ما مس رسول الله يد امرأة قط ، وكان يأخذ عليهن العهد بالكلام دون مصافحة ثم يقول اذهبي فقد بايعت)) ، وإذا خرجت المرأة من بيتها محتشمة بلباسها متحجبة بإيمانها وأخلاقها لا يجوز أن تهتك هذا برائحة عطرها وطيبها مما يلفت إليها أنظار الرجال كيف يؤذونها بأنوفهم وهي من تؤذيهم براحة عطرها. قال : (( لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة)) ، وقال عليه الصلاةو السلام: (( كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا )) وعن أبي هريرة : أنه لقيته امرأة شم منها ريح الطيب، فقال: يا أمة الجبار، المسجد تريدين؟ قالت: نعم، قال: وله تطيبت؟ قالت نعم، قال فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله يقول: (( ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل )).
وماذا بقي بعد. ؟ إنها فتنة الصوت والتغنج أي الكلام والتكسر فيه: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً.
وحتى الزينة إن كان لها صوت كالخلخال في القدم لا يجوز إظهارها، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ، وما ذاك إلا لخطورة هذا في تحريك الفتنة والشهوة ، والإذن تعشق قبل العين أحيانا.
أما تطهير المجتمع من وسائل الإثارة وإشاعة الغنا والفجور ، فإنه يحتاج إلى فضل بيان لعل الله يوفق لإلقاء الضوء على عليه مرة أخرى.
تلك أيها المؤمنون أعظم الحواجز والموانع ، أمام جريمة الاعتداء على العرض ، إنها الإشارات التحذيرية فإذا ما تجاوزها إنسان وتخطاها فقد وجبت عليه عقوبة رادعة الله يعلم حكمتها وفائدتها في تطهير المجتمع الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، وبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/601)
الحث على النكاح
فقه
النكاح
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الزواج. 2- أمر النصوص الشرعية بالنكاح. 3- التحذير من الرهبنة. 4- الحث
على الزواج المبكر ووسائله. 5- الحث على تزويج الكفؤ ولو كان فقيراً.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة.
فقد جعل الله الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية، وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة، ولذلك واجه الإسلام هذا الأمر بتيسير الزواج والمعاونة عليه مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة وإغلاقها نهائيا.
يقول الله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم (1/602)
دروس من سورة يوسف
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
التوقيت المناسب للدعوة – صور من حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم - (إن الحكم إلا لله ) – الحكم نوعان – العلاقة بين الأفراد في الحكم والإفراد في العبادة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقال الله تعالى: إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [يوسف:40].
هذا الجزء من الآية يمثل مرحلة من مراحل الدعوة وأسلوباً من أساليب الحوار إنها مرحلة الجهر بالدعوة والأسلوب المباشر في الحوار فبعد كل تلك التمهيدات وأساليب الدعوة غير المباشرة التي استخدمها يوسف عليه السلام فيما مضى جاء هنا فجهر بدعوته وطرح فكرته التي يدعو إليها بشكل مباشر, إذ ليس من معاني الحكمة دائماً ولا من مقتضاها في كل وقت أن تخفي دعوتك ولا أن تغلف الفكرة التي تدعو إليها خلف الأقنعة وتلبسها شتى الألبسة فلابد في مرحلة ما أن تجهر بدعوتك وتبين الفكرة التي تدعو إليها بياناً واضحاً وبشكل مباشر ولكن بشرط أن تكون المرحلة مناسبة والفرصة مواتية وأن تكون قد هيأت المخاطب لتلقي ذلك أو وجدته مهيئاً, هذا ما ترشدنا إليه هذه الآية وما قبلها من الآيات في فن الدعوة وأسلوب الحوار ولغة الخطاب, فليس من الآداب الشرعية في الدعوة أن تلقي كلمتك كيفما اتفق وفي أي وقت تشاء أو تلقي كلمتك في وجه المخاطب كأنها حجر تشج رأسه بها وتهشم أنفه, ليس هذا من أسلوب الدعوة النبوية, دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء ولا من أسلوب دعوة أتباع الأنبياء, كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخول الناس بالموعظة [1] أي لا يلقي عليهم الموعظة إلا في الوقت المناسب حيث يراهم مهيئين لسماعها وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينكر فعلاً فعله أحد من الناس أو قولاً قاله أحد من الناس يعرض ويلمح ولا يصرح, يقول ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا.
ولكن ما هي تلك الحقيقة التي جهر بها يوسف عليه السلام وأراد بكل تلك المقدمات أن يصل إليها إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه هذا هو ما دعا إليه يوسف عليه السلام, الحكم لله وحده وهذا هو نفسه ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بل هو نفسه ما جاء به الأنبياء والمرسلون جميعاً وهذا هو نفسه هو معنى كلمة الإخلاص لا إله إلا الله, يقول تعالى: ألا له الخلق والأمر [الأعراف:54]. فمن كان الخلق له كله وجب أن يكون الأمر له وحده, من كان هو الذي خلق الخلق وحده وهو الذي يدبر الخلق وحده لا يشاركه أحد في ذلك وجب أن يكون الأمر له وحده لا يشاركه أحد في ذلك, فالحكم كله لله تعالى والحكم نوعان حكم شرعي وحكم فعلي, أما الحكم الشرعي فهو أوامر الله تعالى ونواهيه التي جاء بها الوحي لبيان العبادة وبيان العقيدة ولتنظيم أحوال الناس فهذا الحكم الذي هو بمعنى التشريع هو لله وحده لا يحق لأحد سوى الله كائناً من كان أن يشرع للناس في أمر الدين شيئاً أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [الشورى:21].
وأما النوع الثاني من الحكم فهو الحكم الفعلي بمعنى القضاء والفصل والنفوذ فالرب سبحانه وتعالى يحكم بين عباده تارة في الدنيا وتارة في الآخرة, قال تعالى: واتبع ما يوحي إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين [يونس:109]. هذا هو الحكم في الدنيا بين المسلمين وبين غير المسلمين فينصر منهم من كان أقرب للعدل وإصلاح الأرض, وقال سبحانه وتعالى: وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون [البقرة:113]. هذا حكم الله بين عباده يوم القيامة في الآخرة يحكم بين اليهود والنصارى ويحكم بين الخلق أجمعين وهذا النوع من الحكم الذي هو الحكم الفعلي ينبه إلى حقيقة هامة هي سر كل شيء وهي أن من كان الحكم له وجب أن تكون العبادة له, من كان الحكم له وحده وجب أن تكون العبادة له وحده كما قال سبحانه ألا له الخلق والأمر فمادام هو الذي خلق وحده لم يشاركه أحد في ذلك ومادام هو الذي يدبر الخلق وحده لا يشاركه أحد في ذلك يجب أن يكون الأمر كله له وحده لا يشاركه أحد في ذلك, والأمر معناه الخضوع له والطاعة فيما أمر سبحانه وتعالى وهو أمر بأن تكون له العبادة له هذه الحقيقة هي سر التوحيد وهي جوهر الدين الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء والمرسلون جميعاً وهي حقيقة ما دعا إليه يوسف عليه السلام ولذلك بعد أن قال إن الحكم إلا لله, عقب علي ذلك بقوله: أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ثم وصف هذه الحقيقة بأنها هي الدين ذلك الدين القيم أي المستقيم الذي لا عوج فيه ولا نقص ولا خلل ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري كتاب العلم (68).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد فعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر)) [1] متفق عليه. وصدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم , نحن الآن نعيش في حياة مادية جافة جامدة لا رحمة فيها ولا تعاطف ولا شفقة, حياة ينقلب فيها غالب الناس إلى تجار يعبدون الدرهم والدينار وهذه حياة أجنبية عنا وافدة علينا صدّرها إلينا القردة والخنازير فهم في بلادهم إذا كبر الإنسان وضعف وعجز لا يجد من يعطف عليه ويساعده حتى أبناؤه ينفضون من حوله لا مأوى ولا مكان للضعيف والعاجز والأرملة والمسكين عند القردة والخنازير إلا الملجأ وهذا الملجأ هو سجن المادية للإنسان الضعيف والسجن الذي تعده الحياة المادية للإنسان الضعيف, فالإنسان إذا ضعف لا يحتاج إلي أربعة جدران فحسب يقبع بينها وهذا الملجأ هو عنوان صارخ على الوحشية وحشية الإنسان الغربي الذي أصبح مجرداً من الشفقة والعواطف فسنحاول بإذن الله تعالى في كل خطبة أن نذكر طرفاً من الآداب الشرعية في مجال العلاقات الإنسانية والعلاقات الاجتماعية حتى نقارن بذلك بين حياتنا كما يريدها الإنسان وبين الحياة المادية كما هي حياة القردة والخنازير وحتى نحذر المسلم من الوقوع في حبائل الحياة المادية التي لا رحمة فيها ولا تعاطف ولا شفقة, في هذا الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضى الله عنه جعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام الساعي على خدمة الأرملة والقيام بحاجة المسكين ونحو ذلك بمرتبة المجاهد في سبيل الله بل بمرحلة العابد الذي لا ينقطع عن العبادة يقوم الليل دائماً ولا يفتر ويصوم النهار دائماً ولا يفطر وهذا ينبه المسلم إلى أن ديننا كما يأمرنا بعبادة الله تبارك وتعالى فإنه يأمرنا بمساعدة الناس وفعل الخير لهم والقيام بحاجاتهم ومتطلباتهم وخاصة المحتاجين منهم فهذا بمرتبة ذلك, هذا بمرتبة عبادة الله تعالى فاتقوا الله يا مسلمون وانتبهوا إلى المحتاجين والضعفاء والأرامل والمساكين واليتامى, لا يكن في مجتمعكم أحد منهم لا يدري عنه أحد ولا يسأل عنه أحد فيكون مجتمعنا بذلك والعياذ بالله شر مجتمع, فعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه)) [2].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [3] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري كتاب النفقات (5038).
[2] ابن ماجة: أبواب الأداب (3679). وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجة ص297.
[3] صحيح مسلم (408).
(1/603)
الإسراء والمعراج
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, فضائل الأعمال
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الإسراء والمعراج. 2- تفاصيل رحلتي الإسراء والمعراج. 3- ما رآه رسول الله من
أجزية بعض الأعمال. 4- الربط بين المسجدين الحرام والأقصى. 5- الحث على صلاة
الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون :فقد أعظم لله تعالى المنة على البشرية عنما بعث محمدا صلى لله عليه وسلم ،وبدأ الرسول بالدعوة إلى لله ولكن دعاة الضلالة والجاهلية.
ولو رجعنا إلى بدايته مع قومه لرأينا صورة من صور الصراع بين الحق والباطل ، متمثلا بموقف قريش من دعوة محمد ورأينا الأحداث تتلاحق ، والاضطهاد الوثني يزداد عنفاً وشراسة ، ويزيده فتكا وإيلاما وفاة سندين بشريين للرسول ، هما : زوجه خديجة وعمه أبو طالب ، كما لم يستجب له أحد في رحلته إلى الطائف، وكأن إرادة الله كانت تعِد من وراء الظلام الدامس بالفجر القادم الذي لا ريب فيه: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله.
في هذا الفترة جاءت حادثة الإسراء والمعراج تثبيتا لرسول الله على طريق الدعوة ، وتكريما في أعقاب سنين طويلة من العمل والدعوة ، رفعه الله إلى قلب السماوات وأطلعه على جوانب الإعجاز الإلهي الباهر في الكون الكبير.
سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير. ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذا يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى.
ويقصد بالإسراء : تلك الرحلة العجيبة التي بدأت من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالمقدس ، ويقصد بالمعراج ما جاء بعدها من ارتفاع في أطباق السماوات حتى الوصول إلى مستوى تنقطع عنده علوم الخلائق ولا يعرف حقيقته أحد ثم العودة إلى المسجد الحرام ، في ليلة واحدة في ساعة واحدة ، ليري الله نبيه بعض آياته: لنريه من آياتنا الكبرى.
هذه الرحلة التي اختلف فيها الناس بين مصدق ومكذب ومؤمن وجاحد ، ومؤمن بالبعض وكافر ببعض ، لقد كانت رحلة بالروح والجسد معا ، وكذب بها بعض الناس لأنهم أرادوا أن تجول عقولهم العاجزة القاصية في كل شيء ، حتى في أمور الغيب ، فإن هذا العقل البشري لا يستطيع أن يحيط بكل ما في هذا الكون من أسرار ، وحسب العقل أن يقف مؤمناً أمام هذه الرحلة التي طوى لله فيها لنبيه الزمان والمكان ليريه من آياته الكبرى.
وقد حدث النبي عن رحلته تلك بالحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري وغيره بينما أنا في الحطيم إذا أتاني آت ، فشق ما بين هذه وهذه ، ثم استخرج قلبي ثم أتيت بإناء أو طشت من ذهب مملوءة إيماناً فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد ، ثم أتيت بالبراق ، يضع خطوه عند أقصا طرفه فحملت عليه ، فانطلق بي جبريل حتى أتيت بيت المقدس ثم دخلت فصليت فيه بالأنبياء ركعتين ، ثم صعد بي جبريل إلى السماء الدنيا ، فاستفتح جبريل واستأذن ومعه رسول الله وصعد في السماوات العلى ورأى آدم عليه السلام ويحي وعيسى ويوسف وأدريس وهارون وموسى وإبراهيم.. كل منهم يستقبل الرسول بقوله : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، وفي طريقه قبل العروج أتاه جبريل بإناء من خمر وإناء من اللبن ، فاختار اللبن ، فقال جبريل : أصبت الفطرة. ثم علا حتى جاء سدرة المنتهى (ودنا الجبار رب العزة فتدلى ) ، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمته في اليوم والليلة وطلب التخفيف من ربه ، بعد إشارة موسى عليه السلام ، فقال : يا رب خفف عنا ، فإن أمتي لا تستطيع هذا... فقال الجبار تبارك وتعالى : يا محمد ، إنه لا يبدل خمسون في أم الكتاب ، فكل حسنة بعشر أمثالها ، فهي خمسون في أم الكتاب ، وهي خمس عليك.
وقد رويت أحاديث كثيرة عما رأى رسول الله من صور شتى لأجزية الصالحين والطالحين كأولئك الذين لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم ، أولئك الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ، وكذلك جزاء آكلي الربا وجزاء الزناة وآكلي أموال اليتامى ظلما.
وفي صبيحة اليوم التالي غدا رسول الله على قريش ، فأخبرهم الخبر ، فقال أكثر الناس هذا والله الأمر العجب ، والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة ، أفيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة ؟ وذهب الناس إلى أبي بكر يخبروه بما قال صاحبه فقال : والله لئن كان قاله لقد صدق ، فما يعجبكم في ذلك ؟ فوا الله إنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه !!.
بهذا أبعد مما تعجبون منه ، وأقبل على رسول الله وسأله : يا نبي الله أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس ؟ قال نعم ، قال يا نبي الله فصفه لي ، قال فرفع لي بيت المقدس حتى نظرت إليه ، ثم راح يصفه لأبي بكر وأبو بكر يقول : صدقت أشهد أنك رسول الله ، حتى إذا الرسول صلى لله عليه وسلم من وصفه ، التفت إلى صاحبه وقال : أنت يا أبا بكر الصديق.
وفي الإسراء والمعراج أيها الاخوة : نلمح أواصر القربى بين الأنبياء كلهم الذين أمرنا الله بالإيمان بهم جميعا وهم الذي بادلوا النبي التحيات والدعوات قائلين : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
وفي ليلة الإسراء والمعراج تأكدت الصفة الأولى لهذا الدين وهي أنه دين الفطرة ، وقد قال جبريل للرسول عندما شرب اللبن : هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك.
وفي الإسراء والمعراج تأكدت الطهارة والصلة بالله في فريضة الصلوات الخمس.
وفي ليلة الإسراء والمعراج ثم ذلك الربط بين أفراد الأمة المسلمة كلها عبر الرباط ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله.
وفي الإسراء والمعراج رأى النبي ورأى المؤمنين طرفا من آيات الله الكبرى في ملكوت السماوات والأرض جعلهم يؤمنون بقدرة الله تعالى ، وبذلك تبين إيمان الصادقين وغير الصادقين ، وصدق الله العظيم إذ يقول: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض... وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وبعد :
إن خير الكلام كلام الله... وإن هدي النبي الحث على صلاة الجماعة وتأكيد وجوبها وبيان فضلها.
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (( صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمسا وعشرين ضعفا ، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا صلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة ، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه ما لم يحدث ، تقول : اللهم صل عليه اللهم ارحمه ، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة )).
ولما أتى رجل أعمى إلى النبي يقول : يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فرخص له النبي أن يصلي في بيته ولما ولى دعاه فقال هل تسمع النداء في الصلاة ؟ قال: نعم قال : فأجب.
وفي حديث أبي الدرداء قال سمعت رسول الله يقول: (( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان ، فعليكم بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية )).
وقال : ((من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)).
فالصلاة جماعة في المساجد فرض لا يجوز التخلف عنها إلا لعذر يجوز معه ترك الجماعة والجمعة.
فحافظوا أيها المسلمون على هذه الصلوات تنالوا الأجر والثواب وتخالفوا المنافقين الذين لا يعتادون المساجد ولا يرفعونها بذكر الله وبالصلاة.
(1/604)
دروس من سورة يوسف
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
دروس في أساليب الدعوة : 1- لغة الخطاب 2- رقة الأسلوب 3- التمهيد والتدرج 4- التدين عن علم وبصيرة 5- اجتناب الفظاظة والغلظة أهمية الأسلوب الصحيح في صحة الدعوة ( أمثلة )
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقال الله تعالى: وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين [يوسف:42].
يوسف عليه السلام أدى أولاً واجب الدعوة مع صاحبيه في السجن ثم بعد ذلك قضى لهما حاجاتهما بأن فسر لكل واحد منهما الرؤيا التي رآها, فأما أحدهما فينجو من السجن والقتل وهو الذي رأى أنه يعصر خمراً وأما الآخر فيقتل وهو الذي رأى فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه ولكن يوسف الصديق عليه السلام سعادته في استخدام الأساليب المهذبة الرفيعة الرقيقة لم يعين كل واحد منهما مباشرة شفقة منه علي الذي يقتل منهما فلجأ إلى أسلوب الإبهام أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه [يوسف:41]. لم يقل أما أنت يا فلان فسوف تصلب وتقتل لما في ذلك من مجابهة عنيفة قاسية مع المخاطب لكنه لجأ إلى هذا الأسلوب الرقيق المهذب الرفيع, وهذا هو ما نتعلمه من منهج الأنبياء, هذا الأدب الرفيع في الخطاب, هذا الأسلوب الرقيق في الحوار ولا نمل من الإلحاح إلى التنبيه إليه لما نرى من شدة حاجة الناس إليه ولما نرى من حاجة كثير من الذين يشتغلون بالدعوة وحاجة كثير ممن يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مثل هذا الأدب النبوي الرفيع في الخطاب والحوار والتعامل مع الناس.
بعد أن فرغ يوسف عليه السلام من هذا كله قال لصاحبه الذي ظن أنه ناج من السجن والقتل وأنه ستكون له حظوة عند الملك, قال له سراً دون أن يشعر الأخر اذكرني عند ربك, اذكر قصتي عند سيدك, ذكر الملك إذا صرت ذا حظوة عنده بمظلمتي وحاجتي في السجن لعله ينصفني من هذا الظلم, ولكن صاحب يوسف لم يكن وفياً كما توقع يوسف عليه السلام, هذا الصاحب الذي انعقدت بينه وبين يوسف المودة والألفة والصحبة عندما كان في ظل محنة السجن, سرعان ما نسي صاحبه عندما خرج من السجن وعاد إلى كنف الحياة المترفة مرة أخرى ولكن لا يلام يوسف على هذا السعي في سبيل رفع الظلم عن كاهله فإن هذا السعي وإن كان لم يثمر على الفور لكن الثمرة منه تحققت وإن كانت جاءت متأخرة فإن ذلك الساقي صاحب يوسف في السجن تذكر يوسف لما سمع الملك يقص رؤيته التي رآها على حاشيته ويطلب منهم تفسيرها وفي صنيع يوسف هذا وهو قوله: اذكرني عند ربك درسان عظيمان لنا:-
الدرس الأول: إن فعل الأسباب لابد منه واتخاذ الوسائل المادية الكفيلة بتحقيق المطلوب لابد منه وهذا أمر لا ينافي التوكل علي الله تبارك وتعالى بل هو من صميم التوكل فليس من التوكل على الله أن يستسلم الإنسان إلى ما هو فيه من محنة أو غيرها لا يفعل شيئاً ينتظر الفرج بلا سعي أو أن تمطر السماء عليه ذهباً بلا تعب, هذا لا يسمى توكلاً على الله, هذا يسمى فشلاً وعجزاً وكسلاً فانه بدون عمل وبدون فعل السبب لا يتحقق المطلوب حتى الإيمان وحده وإن كان قوياً صادقاً لا ينفع صاحبه إذا لم يقرنه بالعمل, فبالعمل تدرك مطلوبك الدنيوي والأخروي, هذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق وأفضلهم ومكانته عند الله تعالى لا تخفى ومع ذلك لم يتكل على ذلك ويترك فعل السبب ويترك العمل بل كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في فعل السبب ويجهد نفسه بالعمل ونأخذ مثالاً على ذلك في غزوة الأحزاب لما سمع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأعداء يحشدون جنودهم وهم قادمون لغزو المدينة النبوية لإبادة المسلمين فيها وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, لم يتكل على مكانته عند الله تبارك وتعالى ولا اكتفى بالجلوس في المسجد ولا الدعاء بل بادر صلى الله عليه وسلم إلى فعل السبب واتخاذ الاحتياطات اللازمة فحفر الخندق حول المدينة وتحصن في المدينة هو والمسلمون, أجهد نفسه صلى الله عليه وسلم وأجهد المسلمون أنفسهم معه في غزو الخندق واتخاذ تلك الوسائل مع أنه صلى الله عليه وسلم هو نفسه في ذاته الشريفة معصوم بعصمة الله تبارك وتعالى محمي بحماية الإلهية خاصة لا يستطيع أي مخلوق أن يصل إليه بسوء, كيف وقد أنزل الله تعالى عليه والله يعصمك من الناس [المائدة:67]. ولكن هذا درس للأمة لتعلم أن العمل وفعل السبب شرط لحصول المطلوب.
الدرس الثاني: من أعجب الدروس وأنفسها أول ما أنزل من القرآن على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم جميعاً اقرأ باسم ربك [العلق:1]. اقرأ هذا أمر بفعل السبب أي افعل السبب الذي يوصلك للمطلوب وهو الهداية وهذا السبب هو العلم ولكن افعل هذا السبب مستعيناً بربك لا يدخل في روعك أنك تحصله بنفسك وبجهدك الذاتي أو بفعل السبب وحده فمهما اجتهدت ومهما فعلت السبب لا تحصل المطلوب إلا إذا أعانك ربك ووفقك, فقوله باسم ربك هذا أمر أخر بالتوكل على الله تعالى فهذان الأمران الإلهيان لا يفترقان: أمر بفعل السبب وأمر بالتوكل على الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فالدرس الثاني من دروس قوله: اذكرني عند ربك فهو أن التوسل من الأسباب التي يشرع الإنسان في فعلها لتحقيق المطلوب ونقصد بالتوسل هنا ما يسميه الناس اليوم بالواسطة أو بالشفاعة وهذا أمر يعرفه القاصي والداني ويحتاج إليه الناس لقضاء حوائجهم وتحقيق مقاصدهم ولكن لا يكون هذا التوسل مباحاً ولا مشروعاً إلا إذا كان لجلب حق أو دفع مظلمة, أما ما يفعله كثير من الناس اليوم من اتخاذ الواسطة والشفاعة وسيلة لأكل حقوق الآخرين وظلمهم والاعتداء عليهم أو وسيلة لتعطيل المصالح العامة والاعتداء عليها فإنه حرام على الشافع وعلى المشفوع له وعلى المشفوع عنده, كل أطراف هذه القضية يشتركون في إثمها, قال تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها [النساء:85]. ولما شفع حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه أسامة بن زيد شفع عند رسول الله للمرأة المخزومية التي سرقت فحكم بقطع يدها, شفع لها لكي لا تقطع يدها غضب عليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ووبخه قائلاً: ((أتشفع في حد من حدود الله والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت رسول الله سرقت لقطعت يدها)) [1]. هذا معناه اعتدال الموازين وانضباط القوانين الشرعية بحيث يسري حكمها على كل أحد في المجتمع بلا تفريط ولا محاباة ولا خلل ولا تقصير, في مثل هذا المجتمع المثالي الذي كان يرعاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفي مثل المجتمع المثالي الذي كان يرعاه الخلفاء الراشدون الأربعة من بعده لا يحتاج إلى الواسطة إلا نادراً, فإن هذه الظاهرة ظاهرة الواسطة إنما تتفشى في المجتمع وتشتد حاجة الناس إليها عندما تختل موازين العدالة فيه, عندما لا تسري الأحكام على كل أحد, عندما لا تكون هناك محاباة وتفريق وظلم وخلل وتقصير, فيوسف عليه السلام دخل السجن مظلوماً ولبث فيه مهملاً لا يسأل عنه أحد ولم يحدث له هذا إلا في مجتمع نخر فيه الفساد واستحكم فيه الظلم, يقول بعض الناس الذين يمكنهم أن ينفعوا الناس بالشفاعة لهم والتوسط لهم لدى من بيده الحل والعقد لقضاء حوائجهم المشروعة المباحة يمتنع عن ذلك ويتحجج بأنه لا يريد أن تتفشى هذه الظاهرة في المجتمع وهذا من قلة فقههم فإن هذا لا يقال إلا في مجتمع مثالي كالمجتمع الذي وصفناه حيث لا يكون هناك خلل ولا تقصير ولا ظلم ولا محاباة ولكننا اليوم لا نعيش في مثل هذا المجتمع المثالي, إننا لا نعيش في عهد كعهد العمرين أو أحدهما ولذلك لا يقال إن الناس لا يحتاجون إلى من يتوسط لهم ومن يشفع لهم بل ما أشد حاجتهم اليوم إلى الشفاعة الحسنة, ما أشد حاجتهم اليوم إلى اذكرني عند ربك.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [2] ، اللهم صلِّ وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري: كتاب الأنبياء (3288).
[2] صحيح مسلم (408).
(1/605)
الوصية المكذوبة
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مؤامرات أعداء الإسلام لا حدّ لها. 2- حفظ الله لهذا الدين. 3- الجهل بالدين سلاح من
أسلحة الأعداء. 4- الوصية المكذوبة المنسوبة للشيخ أحمد. 5- بعض ما جاء في الوصية من
كذب ودجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها المؤمنون : فما أكثر ما يواجه الإسلام من مؤامرات ومكائد يدبرها له الأعداء في الداخل والخارج ، فمنذ ألف سنة أو تزيد ، واليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا ، يكيدون للإسلام ويضعون المخططات ويدبرون المؤامرات لكسر شوكة الإسلام ومكافحة دعوته ودحر المسلمين في كل مكان ، ولكن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين عندما تكفل بحفظ مصدره الأول : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. وتكفل بالعزة والنصر للمؤمنين إذا وفوا بما شرط الله تعالى عليهم ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنَنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ويبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون به شيئا.
وعندئذ تبوء كل أساليب المكر والخداع والكفر تبوء بالفشل والخذلان: يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركين.
ومن أشد ما يبتلى به هذا الدين : أعداء ماكرون يكيدون له ، وأتباع من المسلمين الغافلين الجاهلين الذين يقعون فريسة الجهل والمؤامرات والشعوذة والكيد ، فيظنون أنهم يقومون بخدمة هذا الدين وبطاعة رب العالمين وهم الذي يصح فيهم قوله تعالى: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، أولئك الذين زين لهم الشيطان السوء والكذب فرأوه عملا حسنا، أفمن زين له سوء عمله فرأه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
أقول هذا أيها المؤمنون: لأني رأيت بدعة وضلالة وهي لون من ألوان الكيد لهذا الدين والانحراف بالمسلمين عند فهمه كما أراد الله ، نجمت منذ سنوات ، ثم ماتت ، وعادت هذه الأيام لتظهر مرة أخرى من جديد ، وما كنت أظن أن مؤمنا أو عاقلا يصدق بها ، تلك هي الوصية المنسوبة إلى من أسموه الشيخ أحمد حامل مفاتيح حرم رسول الله أراها بين يدي طلابنا في المدارس، وبين يدي الاخوة في غير المدارس وهم ينسخونها أو يطبعونها ويقومون بتوزيعها ليفوزوا بالأجر والمغنم ويبتعدوا عن الكفر والخسران ، بزعمهم أو بزعم الكذاب الأفاك الذي اخترع تلك الوصية ، وخلاصة هذه الوصية التي تقع في صفحة كبير أو صفحتين صغيرتين كما رأيتهما أنه رأى النبي في نومه بعد أن كان قرأ القرآن فأخبره أنه مات في هذا الأسبوع اربعون ألفا من الناس متية جاهلية ، وأن رسول الله خجلان من أفعال الناس القبيحة وأنه لم يقدر أن يقابل ربه ولا الملائكة ، ثم ذكر بعض ما وقع فيه من المعاصي ، وذكر بعد ذلك أن الساعة أصبحت قريب ، وأنه يجب على كل مسلم أن يوزع هذه الوصية (25) ورقة ليزيل الله عنه الغم والهم يوسع الله رزقه ويحل مشاكله ، ويضرب أمثلة على أناس فعلوا ذلك فربحت تجارتهم في الهند وفي أوربا ، وأن واحدة كذب بها فمات ابنه.
وهذا الوصية مخترعة مكذوبة لا أصل لها ، فإن هو هذا الشيخ الذي اسمه أحمد ويحمل مفاتيح الحرم النبوي اليوم.
وحتى لو كان هناك شيخ أحمد وغيره ، فإن الأحكام الشرعية لا تؤخذ من المنامات والأحلام ولكنها تستمد من كتاب الله وسننة نبيه.
ولقد قال صاحب تلك الوصية كذبا وافتراء على رسول الله ، ولقد حذر الرسول من ذلك (( منذ كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )).
وقد جعل صاحب الوصية كتابتها أفضل من القرآن وكتابته عندما زعم أن من كتبها وأرسلها من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل بني الله له قصرا في الجنة أو وسع عليه في رزقه وفرج عنه الهم ، والكل يعلمون أن من كتب القرآن الكريم وأرسله من بلد إلى بلد لم يحصل له هذا افضل إذا لم يعمل بالقران الكريم.
ومن لم يكتب القرآن لم يحرم من شفاعة النبي فكيف يحرم منها من لم يكتب هذه الوصية المكذوبة.
ومن الذي أعلم صاحب الوصية أن مائة وستين ألفا يموتون كل جمعة على غير دين الإسلام ، وهذا من علم الغيب ، ثم أليس هناك غير مسلمين يموتون كل يوم.
ومن الأمور التي تدل أيضا على كذب تلك الوصية قوله فيها: إن من كتبها وكان فقيرا أغناه الله أو مديونا قضى الله دينه ، أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية.
وهذا كله أيها الناس لا يحصل لمن يكتب القرآن فكيف يحصل لمن كتب الكذب ، وقد ربط الله تعالى الرزق وكسب المال لسبب حثنا عليه وأمرنا به وهو السعي والعمل الطيب الحلال في مناكب الأرض ، وأما المغفرة ومحو الذنوب فإنما تكون الطاعة لله تعالى واتباع سنة نبيه وبالاستغفار والتوبة والإنابة والرجوع إلى الله تعالى.
أما موت إن من لم يكتبها ولم يوزعها : فإن الله سبحانه وتعالى قد حدد الآجال والأعمار لكل الناس ومن الذي أدراه أن الميت مات لهذا السبب ولم يكن لسبب غيره ، ألسنا نرى الموت كل يوم في هذه الحياة ؟ أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا.
أما أن من يكتبها فيسود وجهه في الدنيا والآخرة : فإن هذا من أعظم الكذب الذي يدحضه واقع الناس اليوم فهذه الملايين أو الآلاف من الذين لم يكتبوها أو لم يطلعوا عليها أصلا لم تسود وجوههم في الدنيا ، وما في الآخرة فالأمر غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
وأما قوله : إن من يصدق بها ينجو من عذاب النار ، ومن كذب بها كفر ، فإن هذا يعني أن صاحب الوصية جاء بشرع جديد أو وحي جديد يجب على الناس أن يؤمنوا به ويكون بذلك قد كذب الله تعالى الذي أخبرنا أنه قد أكمل الدين لهذه الأمة وأنه سبحانه وتعالى هو وحده الذي يشرع ويحلل ويحرم: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.
إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه.
فيا أيها المؤمنون: احذروا هذه المفتريات وتلك الدسائس وحذار أن يزين لكم شياطين الجن والإنس الباطل ويجيبوه إليكم فترضوه وتتبعوه، فتتركوا بذلك دينكم وسنة نبيكم.
أما ما ذكره صاحب الوصية المزعومة، أو قال: ما أملاه الشيطان على من كتب هذه الوصية من الأمور المنكرة التي نجدها واقعة في المجتمع ، فإن هذا أمر وقع لا يحتاج إلى هذا الوصية وما أكثر ما حذرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من المنكرات والإثم والبغي والحرام وما أكثر ما جاءت أحاديث النبي تزجر عن تلك الكبائر والذنوب ولكن هذا هو شأن أهل الباطل يمزجون الحق بالباطل والشر بالخير ليلبسوا على الناس دينهم ويزينوا لهم الباطل والشر ، نسأل الله أن يعصمنا منه وأن يقينا شر الشياطين وفتن الضالين وزيغ الزائغين وتلبيس أعداء الله المبطلين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/606)
إصرار المشركين على محاربة الدعوة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثبات رسول الله على دعوته وعدم استجابته لإغراءات قريش. 2- موقف قريش من
الدعوة الإسلامية ورجالاتها. 3- تعذيب الصحابة في مكة. 4- مواقف الجاهلية عند العجز عن
المقارعة بالحجة ، وصور ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد رأينا أيها الاخوة موقفا من مواقف قومين بالنسبة للدعوة الإسلامية التي حمل لواءها محمد صلوات الله وسلامه عليه فحاولت أن تغريه بالمال والجاه ، وأن تأخذه بالعصبية والحمية ، وأن تحاول الحلول الوسط ، ولكنها لم تفلح في ذلك كله.
فقرر المشركون عندئذ ألا يألوا جهدا في محاربة الإسلام وإيذاء الداخلين فيه والتعرض لهم بألوان الإسلام والنكال والتعذيب.
ومنذ جهر رسول الله بالدعوة إلى الله وعالن قومه بضلال ورثوه عن آباءهم ، انفجرت مكة بمشاعر الغضب ، وطلت عشرة أعوام تعدُّ المسلمين عصاة ثائرين على نظامها ، فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم واستباحت في الحرم الآمن دماءهم وأموالهم وأعراضهم.
وصاحبت هذه الأحقاد المشتعلة حربا من السخرية والتحقير ، قصد بها تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية ، فكانوا يرمون النبي وصحابته بالتهم الهازلة والشتائم السفيهة وتألفت منهم عصابة للاستهزاء بالإسلام وأهله ، على نحو ما تفعل الصحافة المعارضة عندما تنشر عن الخصوم النكت اللاذعة والصور المضحكة للحط من مكانتهم لدى الناس ، فالرسول ينادي بالجنون: وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون.
أو ويوصف بالسحر والكذب: وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب. ويشيع ويستقبل بنظرات حاقدة وعواطف منفعلة: وإن يكد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون.
وكذلك كان حظ سائر المسلمين ، فهم في غدوهم ورواحهم محل التندر واللمز: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين وانقلبت هذه الحرب إلى تنكيل وسفك دم بالنسبة للمستضعفين من المؤمنين كما يغفل الضالون اليوم فيقولن عن المؤمنين متعصبون إرهابيين فمن ليست له عصبة تدفع عنه لا يعصمه من الهوان والقتل شيء ، بل يحبس على الآلام حتى يكفر أو يموت أو يسقط إعياء.
ومن هؤلاء عمار بن ياسر ، وهو من السابقين الأولين في الإسلام ، أسلم هو وأبوه وأمه ، فكان المشركون يخرجونهم إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها ، ويمر الرسول وهم يعذبون فيقول: (( صبرا آل ياسر...)) فمات ياسر في العذاب ، وأغلظت أمه سمية القول لأبي جهل فطعنها بحربة فكانت أول شهيدة وشددوا العذاب على عمار وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدا ، ففعل فتركوه وجاء إلى الرسول وهو يبكي فقال: (( له ما راء يا عمار؟)) قال : شر يا رسول الله فأخبره ، فقال له: ((فإن عادوا فعد..)) وفيه أنزل قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
ومنهم بلال بن رباح الحبشي الذي صبوا عليه العذاب صبا وهو لا يزيد على أن يقول: أحد أحد..
ومنهم صهيب الرومي : أسلم فعذبته قريش عذابا شديدا ، ولما أراد الهجرة منعوه حتى تنازل لهم عن ماله كله، ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله.
ولم يكن هذا كله خاصا بالرجال: فإن المرأة المؤمنة قد نالها قسط كبيرا من هذا العذاب والاضطهاد فمنهن : لبينة.. كان عمر ليعذبها حتى تفتن ويدعها ويقول : إني لم أدعك إلا سآمة وكذلك كان يفعل مع زنيرة ، ومنهن الهندية ، وأم عنيس وغيرهن كثير.
واشتدت ضراوة قريش بالمستضعفين ، فذهب أحدهم وهو خباب بن الأرت إلى رسول الله وهو متوسدة بردة في ظل الكعبة فقال : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعوا لنا ، فقال : (( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتي بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأقساط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون )) نعم ، والله ليتمن الله هذا الأمر ، فماذا عسى أن يفعل محمد لأصحابه أكثر من هذا ، فالأمر ليس بيده ، ولكنه واثق بربه سبحانه أنه لن يضيعه ولن يضيع دينه ، وهو لم يجمع أصحابه على مغنم عاجل أو آجل ولم يمنيهم بالمناصب والأموال فحسبه أن أزال الغشاوة عن أبصارهم فأبصروا الحق ، ومسح الران عن قلوبهم فعرفت اليقين ، حسبه أن وصل البشر بربهم فربطهم بنسب عريق وسبب وثيق وكانوا من قبل حيارى محسورين ، إنه وازن للناس بين الخلود والغناء فآثروا الدار الآخرة الباقية على الدار الزائلة ، وخيرهم بين أصنام حقيرة وإله عظيم ، فازدروا الأوثان المنحوتة وتوجهوا لله الذي فطر السماوات والأرض ، وحسب محمد أن أوضح طبيعة المعركة بين الحق والباطل ليلزم أهل الحق حقهم فهو منصور ولو بعد حين: وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون.
ولو تساءل المرء عن سبب موقف قريش هذا لما يكيدون للحق ، لما يقابلون الكلمة الصادقة التي جاء بها محمد بهذا كله ، لو تساءل لوجد الجواب في سنة الله تعالى في خلقه في ذلك الصراع بين الحق والباطل على مدار التاريخ.
فالله تعالى يقول عن إبراهيم وعد موقف قومه منه بعد أن عزوا عن مقارعة الحجة بالحجة قال: قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين.
وعندما رأى فرعون آيات ومعجزاته لموسى الذي جاءه بكلمة الحق: قال للملأ من حوله إن هذا الساحر عليه يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون.
وكذلك قال فرعون للسحرة أن أمنوا: قال فرعون أمنتم به قبل أن أذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في الدنية لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين. وكذلك حكى الله عنه قوله: قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون.
وحكى الله تعالى موقف قوم نوح منه: قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قال رب إن قومي كذبون فافتح بين وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/607)
دروس من سورة يوسف
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الرؤى والمنامات, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
رؤيا الملِك – الفرق بين الرؤيا والأحلام – خطر حاشية السوء – بركة رأي العلماء الهدي النبوي في النوم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقال الله تعالى: وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين [يوسف:46].
تتحدث هاتان الآيتان من سورة يوسف عن رؤيا مناميه رآها الملك الذي كان يحكم مصر في عهد يوسف الصديق عليه السلام وقد جعل الله تعالى تلك الرؤيا سبباً لكشف الغمة وإزالة الكربة عن يوسف وسبباً لإخراجه من السجن, فإن ذلك الملك ويبدو من سياق الآيات أنه كان عاقلاً حكيماً محباً للعدل فأهمته تلك الرؤيا التي تكررت عليه بهيئتين مختلفين, فسأل حاشيته وطلب منهم تفسيرها ولكنهم لم يرووا غليل الملك وتخبطوا في الجواب وهنا دروس ولفتات ننبه السامعين إلى بعضها:
أولاً: من الأدب للإنسان أن يلجأ إلى من يأنس فيه العقل والعلم ليستفتيه, لا يجوز له أن يستفتي كل من هب ودب فإن العلم لا يؤخذ إلا من مصادره, ومن طلب العلم من غير مصادره هلك, وذلك الملك لم يسأل أي أحد إنما سأل علية القوم وصفوة مجتمعه, سأل حاشيته وحاشيته كانوا علية القوم بدليل أنه وصفهم بالملأ والملأ في لغة القرآن هم علية القوم وصفوتهم بل أكثر من ذلك يبدو أن حاشيته كانوا من العلماء والفقهاء من أهل ملته بدليل أنه طلب منهم الفتوى أفتوني والفتوى معناها بيان العلم وليس بيان كل أحد يسمى فتوى بل بيان الفقيه وحده هو الذي يسمى فتوى, وقد أرشدنا القرآن إلي هذا الأدب الرفيع فأمرنا أن نطلب العلم والفتوى من أهلهما فقال سبحانه وتعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [الأنبياء:7]. وأهل الذكر هم العلماء وأولو الأمر في القرآن الكريم هم العلماء, ما أشد حاجة الناس إليهم فحاجة الناس إلى العلماء أشد من حاجتهم إلى الشمس والهواء والطعام والماء فهم من ضروريات الحياة لا يستغني عنهم أحد كائن من كان لا الرعاة ولا الرعية ولا الخواص ولا العوام, ومن ظن في نفسه أن يستغني عن العلماء فقد هلك لأن إرث الأنبياء الذي به قوام الحياة هو عند العلماء فهم ورثة الأنبياء.
ثانياً: فإن حاشية هذا الملك مع كونهم صفوة ذلك المجتمع ومع كونهم من علماء تلك الملة إلا أنهم لأمر ما ولسر لم تبينه الآيات لم يقدموا جواباً شافياً للملك بل تخبطوا في الفتوى وتسرعوا في الجواب فحكموا أولاً بأن تلك الرؤيا التي رآها هي من قبيل أضغاث الأحلام أي أباطيلها وتخاليطها وأضغاث الأحلام عادة تكون من حديث النفس أو من وسوسة الشيطان بخلاف الرؤيا الصادقة فهي حق وهي جزء من بضع وستين أو بضع وسبعين جزءاً من النبوة, ولكن أولئك الحاشية بعد أن جزموا أولاً ببطلان تلك الرؤيا عادوا فاحترزوا لأنفسهم خوفاً من عواقب الأمور فبينوا جهلهم بتفسير الأحلام وتعبير الرؤى وهكذا تتحكم مختلف الدواعي الشريرة والنوايا السيئة ويتحكم تغليب الأهواء والمصالح الذاتية على الحاشية حتى ولو كانوا من العلماء فبدلاً من أن يحاولوا الإصلاح ويبدوا النصح ويبينوا الحقائق بدلاً من ذلك يحجبون الحقائق عن الحاكم ويحرمونه من النصح ولا يحاولون الإصلاح بل أكثر من ذلك قد يقفون عقبة في وجه أهل الإصلاح ويزيفون الأمور للحاكم ويقلبون له الحق باطلاً والباطل حقاً, يزينون له كل شيء يوهمونه أن كل شيء على ما يرام وأن الناس في خير حال لا يشتكون من أية مشكلة ولا ينقصهم أي شيء حتى لو كانوا لا يجدون الماء الذي يشربون ولا الطعام الذي يأكلون ولا يجد الشباب منهم ما يتزوجون ولا يجدون ما يتوظفون ومع ذلك يحجبون عنهم كل هذه الحقائق, جوقة النفاق وحاشية السوء, انهم غشاوة علي بصر الحاكم وبصيرته وهم والله من أشد المصائب العامة التي تحل بالمجتمع ضرراً وفساداً وإفساداً ولذلك فجهود أهل الإصلاح مع أهل الحكم تصبح كمن ينفخ في قربة مقطوعة ما لم يتخلص المجتمع من مثل هذه الحواشي السيئة من جوقات النفاق ويطهر المجتمع من رجسهم ومن خبثهم ونفاقهم, لو أن الحاشية سلمت من النوازع الشريرة ومن النوايا السيئة ومن عبادة الأهواء والمصالح الذاتية, لو أن الحاشية حاولوا الإرشاد والنصح إذاً لوجدوا فرصاً عظيمة لذلك يقدمون فيها المشورة السديدة التي تعود على الناس وعلى المجتمع بالنفع والخير العميم كما حدث هنا في هذه القصة القرآنية العظيمة, فتلك الرؤيا التي رآها ذلك الملك كانت صادقة علي الرغم من زعم حاشية السوء أنها رؤيا باطلة بل كانت رؤيا حق, كانت إشارة ربانية وتحذير رباني لذلك المجتمع بعواقب مريرة ومحن اقتصادية ستحل بهم قريباً.
واهتبل يوسف الصديق عليه السلام هذه الفرصة فلم يكتف فقط بتفسير الرؤيا وتعبيرها لهم بل انتهز الفرصة وأسدى لهم النصح وحاول الإصلاح وقدم المشورة السديدة بل اقترح عليهم برنامجاً اقتصادياً متكاملاً يتلافون ببركته شر تلك المحن المقبلة عليهم, بينما تلك الحاشية الفاشلة وقفت عاجزة عن الإصلاح, وقفت تمثل الفشل الذريع والعجز عن الإصلاح وهكذا فلله في خلقه شؤون يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: ففي الصحيحين عن البراء بن عازب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أوى أحدكم إلى مضجعه فليتوضأ وضوءه للصلاة وليضطجع على شقه الأيمن ثم ليقل: اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت)) ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((ولتجعلهن آخر كلامك فإنك لو مت من ليلتك مت علي الفطرة)) [1]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا هدى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نبينه بمناسبة الكلام عن الأحلام والرؤى فإنها تتعلق بحالة المنام وهذا هو الهدي النبوي في هذه الحالة:
أولاً: أن يقدم المسلم على النوم وهو متطهر متوضئ وضوءه للصلاة.
ثانياً: أن يضطجع على شقه الأيمن فهذه أفضل هيآت النوم فهناك هيآت أخرى نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقد رأى النبي رجلاً منبطحا على وجهه فقال: إن هذه ضجعة لا يحبها الله.
ثم بعد ذلك فلنعلم جميعاً أن النوم أخو الموت بل هو أحد نوعي الوفاة فالله يتوفى الأنفس حين موتها ولذلك شرع للإنسان أن يذكر الله تعالى في هذه الحالة وأن يقدم على هذا الموت الأصغر بهذا الدعاء الذي جمع بين الإسلام والإيمان, فالإسلام في قوله: ((أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك)) هذا هو الإسلام فان الإسلام معناه الاستسلام الكامل لله تعالى في جميع الأحوال والإنسان في جميع أحواله لا يخلو من حالين من حال الرغبة أو حال الرهبة, إما هو يسعى لجلب المصالح لنفسه وهذه هي الرغبة وإما هو يسعى لدفع المضار عن نفسه وهذه هي حال الرهبة, رغبة ورهبة إليك ,فالإسلام هو الاستسلام الكامل لله تعالى في كل أحوالك وأن تعلم أنه لا نجاة من الله إلا إليه ولا ملجأ من الله إلا إليه.
وأما الإيمان ففي قوله: ((آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت)) وهذان يتضمنان الإيمان بكل الأركان الستة فمن آمن بما أنزل الله آمن بكل ما جاء فيما أنزل الله ومن آمن بمن أرسله الله صلى الله عليه وسلم فلقد آمن بكل ما أخبر به وأمر به وزجر عنه فهذا هو الإيمان بالأركان الستة.
فإذا مات الإنسان وهو نائم علي هذا الدعاء فقد مات على الفطرة أي مات على ملة الإسلام, ملة التوحيد فالرجاء عظيم في نجاته يوم لا ينفع مال ولا بنون, قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنفال:162]. فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن يتمثل المسلم الإسلام في سائر أحواله ويحقق التوحيد في سائر أحواله في تقلباته في نومه وفي يقظته.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [2] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري كتاب الوضوء (244).
[2] صحيح مسلم (408).
(1/608)
شروط كلمة التوحيد
التوحيد
أهمية التوحيد, شروط التوحيد
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوحيد جزاؤه الجنة. 2- شروط كلمة التوحيد (العلم – اليقين – القبول – الانقياد – الصدق
- المحبة – الاخلاص).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها المؤمنون : فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً.
واعلموا أيها المؤمنون:
أن الله سبحانه وتعالى قد ربط الأمور بنتائجها والأسباب بمسبباتها ، وجعل لكل غاية سبيلا وطريقا وإذا كان المسلم يرجوا دائما رحمة الله ويطمع في جنته الغالية ، فإن ذلك لن يتحقق بمجرد الأماني والدعوات فإن الله سبحانه وتعالى قال: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به وقد جعل الله تعالى كلمة التوحيد والإيمان سبيلا موصلا إلى جنة الخلد والرضوان ، فعن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله يقول: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار )) وعن أبي ذر أن رسول الله قال: (( ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة )).
ولكن قد يصاب بعض الناس بالغفلة عن حقيقة التوحيد وشرط النجاة ، ويغتر بكلمة يديرها على لسانه ، يظنها مفتاحا للجنة ، بمجرد نطقها بلسانه ، غافلا عن أن لها شروطا ينبغي أن تتحقق ومستلزمات ينبغي أن نعمل بمقتضاها ، لتكون عندئذ مفتاحا صالحا لفتح أبواب الجنة ، وقد سئل يوما التابعي الجليل وهب بن منبه رحمه الله : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ فقال: بلى ، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن جئت مفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.
أليست هذه قاعدة عامة يا معشر المسلمين إنه إذا تحقق الشرط تحقق المشروط ، ودخول الجنة بكلمة التوحيد مشروط بجملة من الشروط ، إذا تحققت كلها كانت هذه الكلمة سبيلا إلى الجنة ، وإلا فإنها لن تكون كذلك ، إذ عدم تحقيق هذه الشروط فيه ترك لكثير من الأوامر التي جاء بها الرسول.
ولعل هذه الشروط تكون واضحة بما نشير إليه عنها ، فاحرص يا أخي المسلم عليها وتحقق بها لئلا تقف أمام باب الجنة فترد ولا يفتح لك.
1-إن لكل شيء حقيقة ولكل كلمة معنى ، فينبغي عليك أولا أن تعلم معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله.. تعلم ذلك يقينا منافيا للجهل ، إذ يراد بها نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها لله وحده ، ولذلك قال سبحانه: فاعلم أنه لا إله إلا الله ، وقال : (( من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)).
2-ويكتمل هذا الشرط بشرط آخر هو اليقين الذي ينافي الشك ، ومعنى ذلك أن تستيقن يقينا جازما لا يداخله أي شك أو تردد بمدلول كلمة التوحيد ، لأنها لا تقبل شكا ولا ارتيابا ولا ظنا، فقد جعل الله تعالى هذا اليقين علامة على الإيمان فقال: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون.
3-وإذا علمت وتيقنت فينبغي أن يكون لهذا العلم أثره ، فيدفعك إلى القبول لما تقتضيه هذه الكلمة وتطلبه منك بالقلب واللسان، فمن رد هذه الكلمة ولم يقبلها كبرا أو حسدا فإنه يكون كافرا ، فقد قال الله تعالى عن الكفار: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون. أما المؤمنون الذين قبلوها فلهم النجاة عند الله وعداً منه ولا يخلف الله وعده: ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين.
4-والشرط الرابع : الانقياد لما تطلبه منا من الطاعة والالتزام انقيادا تاما ، وذلك هو المحل الحقيقي والمظهر العمل للإيمان ، ويحصل هذا يا أخي المسلم بأن يعمل بما فرضه الله عليك وأن تترك ما حرمه الله تعالى عليك ، وعندئذ يتحقق الإيمان ، فقد أقسم الله تعالى بذلك فقال فلا وربك... وقال : (( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )).
5-والشرط الخامس : أن يقولها الإنسان صادقا من قلبه ، ليبتعد بذلك عن الكذب والنفاق ، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ولا يطابق هذا ما في قلوبهم: يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وفي الصحيحين من حديث معاذ : ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار )).
6-وأما الشرط السادس فهو المحبة ، بأن يحب المرء هذه الكلمة والعمل بمقتضاها ، ويحب أهلها المطيعين بها والعاملين بها ، ومن أحب شيئا من دون الله فقد جعله ندا لله وشريكا: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله. ومتى استقرت هذه الكلمة عقيدة في القلب فإنه لا يعدلها شيء فقد قال : (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار )). ولو رجعنا إلى تاريخ الصحابة وحياتهم لوجدنا أروع الأمثلة على ذلك ، أبو بكر في دفاعه عن رسول الله ، وعلي في فدائه للرسول ، وخبيب بن عدي ، حتى قال أبو سفيان : ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدا محمدا.
7-وتلك الشروط كلها لا تنفع وحدها ما لم يتحقق سبب القبول عند الله تعالى وهو الإخلاص لله تعالى أي صدق التوجه إلى الله تعالى وتصفية القلب والعمل بصالح النية عن كل شائبة من شوائب الشرك وألوانه ، وقد تواردت الآيات في ذلك، فمن كان يرجو لقاء ربه.
وفي الحديث عن عتبان بن مالك عن النبي قال: ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل )).
فاحرص يا أخي المسلم : على كلمة التوحيد بشروطها تلك ، واحذر من كل ما ينافيها ، فإن ما ينافيها يوقع في الشرك قد يكون أخف من دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وقولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/609)
النفاق وأنواعه
الإيمان
نواقض الإيمان
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفات المنافقين كما وردت في القرآن الكريم. 2- صور من النفاق. 3- أنواع النفاق وحكم
كل منها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فما أعظم خسارة أولئك الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، أولئك الذين يظنون أنهم قادرون أن يخادعوا الله والذين آمنوا ، ولكنهم لضلالتهم وغفلتهم لا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
أولئك هم المنافقون الذين كشف الله حقيقتهم في القرآن الكريم وتحدث عنهم حديثا مستفيضًا رأينا بعض ملامحه في الأسبوع الفائت ، وتعرفنا على خطورة النفاق والمنافقين ونشأتهم وكفرهم.
ولخطورتهم تحدث الله تعالى عنهم كثيرا وبين صفاتهم وأخلاقهم :
1-فهم الذين في قلوبهم مرض ، بل النصيب الأكبر من مرض القلب وفساده من حظ أولئك المنافقين: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً.
2-وهم الذين يتحاكمون إلى الطاغوت ويتركون حكم الله سبحانه مع أنهم يزعمون الإيمان بالله ورسوله: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً.
3-وهم الكاذبون الذين يتخذون أيمانهم الكاذبة ستارا لإخفاء كفرهم على الناس: ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون.
4-وهم الذين يعيبون المؤمنين ويسخرون منهم ولا يرضيهم منهم شيء وهم الذين يغدرن ولا يوفون بالعهد: ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون.
5-ثم هم الذين يفسدن في الأرض: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.
إنه نموذج للمنافق الشرير ، ذلك اللسان الذي يعجبك منه منظره ويسوؤك مخبره ، يتحدث كأنه خلاصة الطهر والنقاء والإخلاص والخير ، ولكنه امتلأ في إهابه خصومة وفسادا ، يسعى لإهلاك كل ما في الحياة من خير وأعجب ما فيه أنه عندما يفسد يزعم أنه يصلح ، وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون.
بل إنهم يتظاهرون أمام الناس بأنهم على حق وأن غيرهم من المؤمنين على باطل فيقولون قولة فرعون المشرك الوثني الذي ادعى الألوهية وقال للقوم أنا ربكم الأعلى ، الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ، ولكنه يزعم أنه يريد المحافظة على الدين لئلا يفسده النبي موسى وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر الأرض الفساد.
إنها والله نكتة طريفة ، فاقع لونها ، فهل هناك أطرف وأعجب من أن يدعي فرعون عن موسى أنه يريد أن يبدل الدين ، وإنها لتتكرر في كل زمان ومكان.
ولذلك يزدادون في الفساد ويقيمون عليه عندما يتخذون وسائل ظاهرها الخير ليجعلوها مركزا التآمر على المسلمين والإضرار بهم ، فقد قال الله تعالى عنهم: والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاَ بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون.
وقد أنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمة في أعقاب مؤامرة دبرها المنافقون ، فقد كان هنالك رجل من الخزرج اسمه أبو عامر الراهب الفاسق كان قد تنصر في الجاهلية وقرأ كتب القوم.
ولا يزال مسجد الضرار يتخذ صورا شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين في صور ظاهرها الدعوة للإسلام والحرص عليه وباطنها لسحق الإسلام وتشويهه ، فلم يكن عجبا أن ينفق القرآن جهدا كبيرا لبيان حقيقة أولئك المنافقين وصفاتهم ليعرفهم المسلمون بسلوكهم وواقعهم: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم.
هذا العدو قاتلهم الله أنى يؤفكون ؟
وليس النفاق نوعا واحدا أو درجة واحدة ، بل هو نوعان اثنان :
أما الأول منهم وهو أخطر النوعين ، ذاك هو نفاق الاعتقاد ، الذي يخلد صاحبه في النار بل يجعله في الدركات السفلى من النار ، وذلك بأن يظهر صاحبه الإيمان وهو في الحقيقة على الكفر الباطن ، وقد يقر بوجود الله ويؤمن به ، ولكنه لا يرى متابعة الرسول عليه السلام وتصديقه فيما أخبر به ، وعلى هذا النوع كان عبد الله بن أبي وطغمته من المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم: إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً. وقال: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً. وقال سبحانه آمرا محمدا عليه الصلاة والسلام ألا يصلي على أحد مات منهم أبدا ،لأنهم كفار مرتدين ، فقال: ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون.
والنوع الثاني : هو الذي لا يخرج الإنسان من الدين ، ولكنه من أكبر الذنوب والمعاصي ، وهو النفاق والعملي ، ومن أمثلته هذا النفاق الرياء ، ومنهم الكذب والغدر وعدم الوفاء بالوعد لقول النبي فيما رواه أبو هريرة : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان)).
فاحذروا النفاق والمنافقين وخداعهم ، واحذروا التخلق بأخلاقهم فإنه خطر عظيم وجر إلى الكفر والخسران والبوار ، ولخطورتهم الشديدة شن الله تعالى عليهم حملة كبيرة ، وتحدث عنهم حديثا مستفيضا ليبين حقيقتهم أمام المسلمين وليحذروهم ، كان لا بد من أكثر من حديث عن هؤلاء المنافقين وصفاتهم ومواقفهم ، أرجو الله أن يوفق لذلك ، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/610)
صراع الخير والشر
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعرض الصحابة لصنوف الأذى من قريش. 2- أمر رسول الله بالهجرة إلى الحبشة.
3- قريش تشكوا الصحابة إلى النجاشي. 4- جعفر يجهر بالدعوة في بلاط النجاشي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
إن من سنة الله في هذا الكون أن يَجد الخير والشر والحق والباطل ، وهما في صراع دائم لا يفتر ولا ينقطع وإن أهل الباطل والضلال يبتكرون من الوسائل ما يمكنهم من أذى المسلمين ومضايقتهم ، فقد رأينا زعماء قريش لم يكتفوا بمواقف الصد والمعارضة والتحدي والنظري ، بل إن بُغاتهم قد يجاوزوا ذلك إلى إيقاع الأذى على المسلمين وفتنتهم عن الإسلام إلى الكفر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ونظر رسول الله إلى أصحابه فكانوا بين أمرين :
إما أن يظلوا يتعرضون للأذى وقد تخون بعضهم أعصابهم فيضطرون إلى الارتداد.
وإما أن يصبروا حتى يودي الصبر بحياتهم تحت التعذيب ، وما ذاك إلا لأنهم أمنوا بالله: وما نقموا إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ، وكان لابد من عمل ينقذ به عليه الصلاة والسلام القلة المؤمنة من الصحابة ويدفع عنهم الأذى ، ويهيئ لهم المكان الآمن الذي يأمنون فيه من عدوان الباطل ، وما كان هذا ليتنافى مع الصبر والتضحية فيما كان هذا التفكير إلا بعد الصبر والتوكل على الله :
قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وكانت هذه الآية الكريمة إذ تأمن الله تعالى لأولئك المؤمنين الصادقين البررة المعذبين المضطهدين بالهجرة فقال لأصحابه: ((لو خرجتم إلى الحبشة ، فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه )).
فخرج المسلمون على دفعتين الأولى أحد عشر رجلا وأربع نساء ، والثانية ثلاثة وثمانون رجلا وثماني عشرة امرأة ، فيهم المستضعفون والذين لا يجدون من القوم نصرة ، وفيهم أبناء الأسر الكبيرة من قريش الذين يجدون لهم من زعامة أبائهم سندا ونصيرا ، فكان خروجهم ضربة عنيفة لقريش وكبريائها وجحودها ، وإحباطا لجهودها وإغراء لعامة الناس بالهجرة ، وحل المسلمون ضيوفا كراما على أصحمة النجاشي : فآواهم وأكرمهم ، ولما علمت قريش بذلك ساءها الأمر وبعثت وفد مكونا من عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص ، بعثتهما بهدايا وتحف إلى النجاشي ليرد المسلمين على المشركين ، قالوا للنجاشي : أيها الملك : إن ناسا من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم لتردهم إليهم فهم أعلم بهم.
ورأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية ، وسماع أطرافها جميعا ، فبعث إلى أصحاب محمد وسألهم فتكلموا وقد أجمعوا على الصدق ، وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب فقال: أيها الملك : كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ، فصدقناه واتبعناه على ما جاء به من الله ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا إلى عبادة الأوثان ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين دينك ، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك. ولما وشى المشركون بالمسلمين فذكروا للنجاشي أنهم يقولون في عيسى غير ما يعتقده النجاشي سأل جعفر : هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال: نعم ، فقرأ عليه من سورة مريم حتى وصل إلى قوله تعالى: فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً.
فبكى النجاشي وأساقفته ، وأخذ عودا من الأرض وقال: ما زاد هذا على ما في الإنجيل قدر هذا العود ، ثم قال لهم: اذهبوا فأنتم آمنون بأرض من سبكم غرم ، ثم قال للوفد المشرك ، لو أعطيتموني جبلا من ذهب ما سلمتهم إليكما ، ثم أمر فردت عليهم هداياهما ، ورجعا يجران أذيال الخيبة والفشل والخذلان.
وكتب الله لأولئك المؤمنين بعد النصر والتمكين والأجر: والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذي صبروا وعلى ربهم يتوكلون.
أما لماذا كانت الهجرة إلى الحبشة بالذات ولم تكن إلى بلد غيرها ؟
فلعل سر الاختيار أيها الاخوة ،لأن بها ملكا لا يظلم عنده أحد ، كما وصفه النبي وكذلك تيسر السفر إليها في تلك الظروف التي كانت تحيط بهم ، وكما أنه سيمت بصلة إلى ما كان موقف حسنٍ لبعض أهل الكتاب من النصارى الذين وقفوا موقفا إيجابيا من الدعوة الإسلامية.
وقد يكون مما يخطر بالبال: أن يكون من أسباب اختيار الحبشة النصرانية ذلك الأمل في وجود مجال للدعوة فيها، ولعل فيما روي عن إسلام النجاشي وغيره من الأحباش ووفادة لبعضهم على النبي مسلمين مستطلعين ، ما يستأمن به على صحة هذا المخاطر ، إذ يرى أثر الفجاج لهذه الدعوة في هائل الديار: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/611)
يوم النصر للمجاهدين الأفغان
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحقق النصر بعد الصبر والتكاتف 2- سقوط فلسطين بيد اليهود إحباط يعيشه المسلمون
3- دور الجهاد في تفكك الاتحاد السوفيتي 4- موقف المنظمات الفلسطينية من الجهاد الأفغاني
5- دعوة لجعل المعركة مع اليهود معركة عقائدية 6- فضل الجهاد وضرورة الإعداد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله تبارك وتعالى: ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين [العنكبوت:6].
هذا اليوم هو يوم المجاهدين الأفغان، نشاركهم بهجتهم وفرحتهم ونهنئهم ونهنئ أنفسنا وجميع المسلمين بهذا الظفر وهذا النصر الذي أحرزته قضيتهم، تلك القضية التي أشغلت المسلمين وأهمتهم أكثر من ثلاث عشرة سنة، التي لقيت منهم التأييد الكبير والتعاون والتكاتف خاصة في هذه البلاد مهبط الوحي ومركز الحرمين الشريفين وموئل الإيمان ومحرزه – فقد لقيت هذه القضية كغيرها من القضايا الإسلامية التأييد والدعم الواضح الكبير، ولقد كان لوعي إخواننا الأفغان وصبرهم وإصرارهم على القتال وشدة بأسهم في النزال أكبر الأثر في نجاح قضيتهم. والفضل أولا وأخيرا لله تبارك وتعالى الذي من على المسلمين بهذا النصر، وبرجوع اللاجئين إلى ديارهم وبقيام دولة الإسلام تحكم شريعة الله فيها.
اليوم يوم الدروس والعبر من هذا الظفر:
فأولا: هذا أول نصر نذوق طعمه نحن المسلمين في هذا العصر، نحن أبناء هذا الجيل الذي عشنا في عصر الهزائم، اعتدنا على الهزائم والنكسات، لم نذق طعم النصر أبدا حتى كاد اليأس والإحباط يستوليان على النفوس وحتى نسينا طعم النصر. فلقد شهدنا سقوط المسجد الأقصى وكيف؟ هكذا بالتقسيط في عام 48 بتاريخ النصارى، القدس في يد اليهود إخوان القردة والخنازير، وفي سنة 67 سقط النصف الثاني من القدس. وهذا الظفر الذي نعيش في أجوائه اليوم هو أول ظفر نذوق طعمه وإن كان طعما فيه شيء من المرارة، وإن كان ظفرا لم يسلم من بعض المنغصات والمكدرات، ولكنه على أية حال يعد من الانتصارات.
ثانيا: هذا الظفر إنما تحقق ببركة الجهاد ورفع راية الجهاد والتمسك بشعار الإسلام الذي رفع لواءه إخواننا المجاهدون الأفغان وصبروا عليه حتى آخر لحظة، هذه بركات الله أكبر، فانظروا إلى أي شيء انتهت الله أكبر، إلى الظفر، إلى سقوط أعتى دولة على وجه الأرض – الاتحاد السوفيتي – فلا شك أن جهاد الأفغان الإسلامي قد عجل بانهيار هذا الصنم الأحمر، ولما سقطت تلك الدولة، سقط ذنبها في كابول، وهذه عادة الأذناب، ماذا تفعل الأذناب إذا سقطت الرؤوس أو تخلت عنها؟
وفي هذا الظفر وهذا النصر الإسلامي المؤزر للجهاد والمجاهدين درس بليغ لأولئك الذين يريدون تحرير بلادهم المغتصبة بالمفاوضات. وهم مثخنون بالجراح يعرجون من كثرة الهزائم، منظمات الترقيع والتوقيع التي تريد تحرير فلسطين بالمفاوضات وتناضل ضد العدو المغتصب من الفنادق والقاعات. تلك المنظمات، منظمات العدل والخيانة، التي كادت من قريب أن تقطع اليد التي كانت تمدها بالعون والتأييد، التي تنكرت للإسلام والمسلمين وتركت أكثر من مليار مسلم وراءها ظهريا وشوهت قضيتهم الأولى، قضية المسجد الأقصى.
تلك المنظمات من أعجب العجب أنها وقفت ضد الجهاد الأفغاني مناصرة لذلك الصنم الأحمر – منظمات الغدر والخيانة يريدون أن يحرروا المسجد الأقصى باسم البعث الملحد وباسم القومية العفنة وباسم العلمانية الكافرة.
ولقد قالوا ذات يوم: إنهم لا يقاتلون باسم الدين، لا يريدون تحرير فلسطين والمسجد الأقصى باسم الدين، فليهنؤوا إذن بالهزائم تلو الهزائم والنكسات بعد النكسات.
أبشري بطول السلامة يا إسرائيل إن كان هؤلاء الذين يناضلون وهم الذين يريدون تحرير فلسطين، فهم لا يحاربون باسم الإسلام عدوا يحاربهم باسم التوراة وباسم أرض الميعاد وباسم إسرائيل – نبي الله يعقوب الذي هو منهم براء.
هذا درس لهؤلاء، أن الجهاد هو وحده الطريق، الطريق إلى الظفر، ولكِ الله يا فلسطين، لك الله يا مسجدنا الأقصى الأسير، إن موعدك ليس مع هؤلاء، إن موعدك مع أولئك المجاهدين الفلسطينيين الحقيقيين حينما ينبعثون ويرجعون إلى الله أكبر، سيحرروك بعون الله وحوله وقوته، ثم بعون المسلمين في أقصى الأرض، فهذه هي مهمتهم تحرير ثالث مسجد من اليهود الذين دنسوا حرمات ذلك المسجد حتى الثمالة.
ثالثا: إننا لنضع أيدينا على قلوبنا شفقة على هذا الظفر الذي حققه إخواننا الأفغان خشية أن يضيع، لأن الأعداء متربصون وقد عودنا هؤلاء الأعداء على سرقة الثمار والسطو على النتائج، فما لم ينالوه بقوة السلاح وما عجزوا عن نيله في ساحة القتال، فإنهم ينالونه بالمكر والخداع والمناورات السياسية. إنهم يستغلون مشاكلنا نحن المسلمين ونقاط الضعف فينا أسوأ استغلال ونحن في قمة فرحتنا بهذا الظفر، نرى الإذاعات الأجنبية يكشفون كل العيوب والنقائص حتى نظن أن هؤلاء المجاهدين سيأكل بعضهم بعضا، فتعال نلهج إلى ربنا بالدعاء، فإن الدعاء في الأيام المباركة، ويوم الجمعة منها، وفي المساجد المقدسة، ومسجد قباء وهذه المدينة منها، الدعاء في مثل ذلك هو من أعظم ما ندعم به إخواننا المجاهدين، فلنلهج بالدعاء إلى ربنا أن يلهم هؤلاء المجاهدين من أمرهم رشدا، اللهم ألهمهم من أمرهم رشدا وشد أزرهم ووحد كلمتهم وانزع الغل من صدورهم واجعلهم إخوانا تحت لواء الإسلام متفقين متكاتفين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تكفل الله لمن خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله لا ينهزه إلا الجهاد في سبيله أو تصديق كلمته – أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة)) [1] متفق عليه.
نعم هي إحدى الحسنيين، إما الظفر وأن يعود المجاهد إلى دياره غانما منتصرا وإما الجنة. فإن من استشهد وهو يجاهد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله دخل الجنة وسلم من النار. قال سيدنا رسول الله: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري عبد مسلم أبدا)) [2].
فالجهاد أقرب طريق إلى الظفر، والاستشهاد في سبيل الله أسرع طريق إلى الجنة، فلو علم المسلمون ما في الجهاد من فوائد ما شغلوا عنه أبدا. فالجهاد وحياة الجهاد فيها المنعة والقوة والعزة بينما حياة الخمول والاستسلام للشهوات فيها الذلة والقهر والهوان الشديد.
وهما حالتان لا يجوز للمسلم أن يخلو من إحداهما، لابد للمسلم أن يكون في إحدى هاتين الحالتين، إما الجهاد وإما الاستعداد للجهاد، والاستعداد للجهاد من الجهاد بل أهم مراحل الجهاد ويكون ذلك بنشر العلم بين الناس وبث الوعي وتصحيح الأفكار والعقائد ودعوة المسلمين إلى دينهم وشريعتهم.
فعلى المسلمين أن يعرفوا كلمة الله قبل أن ينفروا إلى الجهاد، فإنهم إن أخطأوا منهج الجهاد وطريقته فقد تذهب الدماء هدرا وتضيع الجهود هباء منثورا. فإما الجهاد وإما الاستعداد للجهاد.
[1] البخاري كتاب الخمس (2955).
[2] أحمد (2/256)، ابن ماجة في أبواب الجهاد (2774)، وصححه الألباني.
(1/612)
التوحيد وأقسامه
التوحيد
أهمية التوحيد
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عبادة الله هي الغاية من خلق الإنسان. 2- أقسام التوحيد 3- توحيد الربوبية. 4- استلزام
توحيد الربوبية لتوحيد الألوهية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فما خلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وما أرسل رسله وأنزل كتبه إلا ليقوم الناس بالحق، فالله تعالى هو الحق، وخلق خلقه بالحق لغاية وحكمة، فالله تعالى منزه عن الباطل، منزه عن العبث.
وهذا الإنسان ليس بدعا بين المخلوقات، فلم يخلقه الله تعالى عبثا، ولم يتركه سدى، وإنما خلقه ليكون خليفة في هذه الأرض، يعمرها وفق منهج الله تعالى، فيحقق بذلك غاية وجوده التي قال الله تعالى فيها: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.
فقد أمر الله تعالى الخلق أن يعبدوه وأن يفْرِدوه بالعبادة والتوحيد، وهذا هو ما جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام للدعوة إليه، منذ عهد نوح إلى أن ختموا بنبينا محمد.
وهذا التوحيد الذي جاءت به الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، مبناه على أن الله تعالى واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه، وواحد في ألوهيته وعبادته، لا ند له ولا شريك.
وقل إن شئت يا أخي المسلم، إن التوحيد ثلاثة أقسام : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وهذه الأقسام الثلاثة متلازمة، لا ينفك قسم منها عن الآخر، فتوحيد الربوبية، وكذلك توحيد يستلزم توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية هو مقتضى توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الأسماء والصفات، والى هذا المعنى أشارت الآية الكريمة: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم. فالله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يستحق العبادة لأنه هو الخالق وحده، ولذلك فمن أتى بنوع واحد من هذه الأنواع للتوحيد، ولم يأت بالأخرى، فإنه لم يأت بما أتى به على الوجه المطلوب، وعندئذ لا ينتج أثره المطلوب.
ولعله من الخير أن نخص كل نوع من هذه الأنواع بخطبة، بادئين بتوحيد الربوبية :
وتوحيد الربوبية هو اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى وحده هو خالق العباد ورازقهم، وهو محييهم ومميتهم، وأنه سبحانه وتعالى النافع الضار، والمتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، والأمر كله له سبحانه بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
فالله سبحانه وتعالى المتفرد بالخلق، ومنذ البدء أخرج الله تعالى الحي من الميت. والخلق هو المعجزة التي لا يدري سرها أحد فضلا عن أن يملك صنعها أحد: إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق، فكيف يكونون شركاء له في الربوبية والألوهية، فالمخلوق لا يكون خالقا ولا يكون أبدا شريكا للخالق، فهو وحده الذي يتوجه إليه بالعبادة: ذلكم الله ربكم خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل. يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. ولهذا أثره في النفس، فإن المؤمن لن يخاف من أحد ، ولن يكون جبانا.
وإذا تفرد الله تعالى بالخلق، فهو من ثم متفرد بالملك له ما في السماوات وما في الأرض: وقل الحمد الله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً ، قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
ومن ثم فالله سبحانه هو رازق العباد وهو متكفل بذلك: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ، وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ، ومرّ معنا قصة الأصمعي مع الأعرابي: قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله قل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون.
وأما النفع والضر فهو كله بيد الله فهو النافع الضار، ولا يملك العباد لأنفسهم شيئا من ذلك: قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ، ولن يجلب نفعا ولن يدفع ضرا عن أحد إلا الله: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ، وفي وصية الرسول لابن عباس :واعلم أن الأمة ولو اجتمعوا....
وكم تكون عظيمة خسارة أولئك الذين يعبدون آلهة من دون الله لا تنفع ولا تضر، وكم تكون سخيفة عقولهم ومخرفة نفوسهم وفطرتهم: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون.
والله سبحانه وتعالى هو الذي يستجيب دعاء العبد، دون وساطة فهو قريب مجيب: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ، فمن الواجب أن يتجه المرء بالدعاء إلى الله تعالى وحده: وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين.
والله سبحانه وتعالى هو الذي يغيث عبده المضطر عندما يلجأ إليه، وعجيب أمر هذا الإنسان فإنه لا يذكر الله إلا في ساعة العسر والشدة، ولا يعود إلى فطرته إلا في ساعة الكربة، وأكثر ما يكون العبد تذكرا لله عندما يقع في الشدائد، ولكنه بعد ذلك ينسى الله تعالى في السراء بعد أن يكتب له النجاة من الضراء: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق.
ويقول تعالى: أمن يجب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون.
وإذا أيقن المؤمن بأن الله سبحانه وتعالى هو وحده الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع الذي بيده الأمر كله، فينبغي أن يتجه إلى الله تعالى وحده بالعبادة، فإن توحيد الربوبية يستلزم ويقتضي توحيد العبودية، واسمعوا إلى قول الله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشاً.. ينبغي أن يتوجه المرء بالعبادة أيا كانت إلا لله سبحانه الذي فطر السماوات والأرض: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ، ومن هذه المشكاة جاء دعاء النبي : ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/613)
الجار وحقوقه
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة الإسلام للتماسك والتآخي بين المسلمين. 2- أمر القرآن بالإحسان إلى الجار.
3- حقوق الجار كما فصلتها السنة. 4- التحذير من الإساءة إلى الجيران.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن المسلمين في نظر الإسلام بنيان واحد، لبناته أبناء هذه الأمة، وكل لبنة في هذا البنيان تكون دعما لأخواتها تشد البناء وتقيمه، بمقدار ما تكون قوية متماسكة، مرتبطة ارتباطا وثيقا وبثبات الإسلام كيان واحد تمده بالحياة روح واحدة هي روح الإيمان التي لا تعرف لونا أو أرضا أو لسانا، ولقد كانت نظرة الإسلام العلمية في هذا الجانب نظرة واقعية، فعالج في أبناء هذه الأمة أسباب الضعف والتفكك، ودعاها إلى الأخذ بوسائل القوة، وجاءت تشريعاته من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات تؤكد هذا المعنى في الأمة وتجمعها على كلمة سواء، وكان أهم ما عني : حق الجوار ورعاية حرماته والتعاون معه قال الله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام.
والقرآن الكريم يفرض على المسلمين الإحسان إلى الجار قريبا كان أو بعيدا، وقد سلكه في سلك واحد مع عبادة الله وبر الوالدين والأقربين: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب الجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم.
فمن حق الجار على جاره أن يكون له في الشدائد عونا، وفي الرخاء أخاً يَأْسى لما يؤذيه، ويفرح لما يسره ويرضيه، ويأخذ بيده إذا أظلمت في وجهه الحياة، ويرشده إذا ضل أو أخطأ الطريق، ويهيئه إذا أصابه خير، ويبصره إذا ظلم، ويدفع عنه الأذى، فعن معاوية بن حيدة قال : قلت يا رسول الله : ما حقه ؟ قال: ((إن مرض عدته، وإن مات شيعته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقثار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له فإن لم تفعل فأدخلها سرا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده)).
وقد بالغ الإسلام في تحذير أولئك الذين يرعون حق الجار حين أعلن أن المسلم الذي لا يهتم بشأن جاره ولا يحسن بإحسان، قد جافى خلقه الإيمان: (( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم)).
والإحسان إلى الجار برهان قوي على الإيمان بالله ودليل عملي على صدقه، قال : ((اتق الله تكن أبعد الناس وأرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما)) وقد عظم حرمة الجار أكثر من غيره فقد سأل رسول الله عن الزنا فقال: حرام حرمه الله ورسوله فقال: ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزن بامرأة جاره)).
وقد توعد رسول الله أولئك الذين يسؤون إلى جيرانهم حيث قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم جاره)) ، ((فليحسن إلى جاره)) ، ((وخير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)).
والمسلم يحرص على المعاملة الطيبة لجيرانه ليكون ذلك سبيلا إلى الجنة ويبعد عن السوء لئلا يحجب عن رحمة الله، فقد روى الإمام أحمد: ((أن النبي قيل له: يا رسول الله إن فلانة،صوامة قوامة غير أنها تؤذي جيرانها، هي في النار،..)) ولشدة عناية الرسول بحق الجار قال : ((ما زال جبريل يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).
وهذا الجار أيها المسلمون ليس الذي يلاصقك في المنزل أو يكون إلى جانبك في العمل أو السفر فحسب، بل إن الجيران يكونون به شيئا : ففيه أنس وحشتهم، وراحة بالهم، واستقرار حياتهم، وبه الأمن على كل مرتخص وغال عندهم، إنه غناهم حين يفتقرون، وأنهم حين يستوحشون و(( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )).
فما أجمل أن يتخلق المسلمون بهذا الخلق، ويأخذوا أنفسهم بهذا المبدأ ويستنوا بسنة أكرم الخلق فيكونوا مع جيرانهم الأخيار الأطهار الذين يرجى نفعهم ويؤمن شرهم.
وإن من الواجب أن نأخذ أنفسنا بهذه التعاليم خصوصا ما كان متعلقا بالجار، فالفرد بجانبه آخر، والأسرة بجنبها أخرى، والأمة بجانبها أمم، حقٌ على كل أن يمد يده للمظلوم حتى ينتصر، وللفقير حتى يغنى، وللعاجز حتى يتقوى، وللمخطئ حتى يثوب إلى الصواب، وبذلك يربط الإسلام بين أبنائه ويجمع كلمتهم على الحق وتكتب لهم عندئذ الكرامة، ويكونون بحق أتباع محمد صلوات الله عليه، ويكونون الأمة الثابتة التي أراد الله لها أن تكون خير أمة أو خير الناس.
فاتقوا الله عباد الله وقوموا أنفسكم واعملوا صالحا يكن لكم: يوم لا ينفع مال ولا بنون...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/614)
دروس من سورة يوسف عليه السلام ( التمكين ) – الربا
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
عاقبة حميدة للصابرين – تمكين يوسف – طلب الوزارة بين المشروع والممنوع خطبة 2: مصائب الربا : 1- لعنة الله 2- جهنم 3- ذنب عظيم 4- محق البركة 5- رد الدعاء 6- الجدب "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله تبارك وتعالى: وقال ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم [يوسف:54].
هذه بداية مرحلة جديدة في قصة يوسف عليه السلام، وطويت مرحلة، فلم يعد للقصة بعد ذلك أي ذكر للعزيز وامرأته فهنا مرحلة مطوية، هي مرحلة المحنة والابتلاء وفيها تجلى صبر يوسف وإصراره على عدم المعصية، وتجلى فيها عقله وحكمته وحسن تصرفه وتدبيره – وانتهت تلك المرحلة وطويت وجاءت المرحلة الجديدة، مرحلة التمكين، تتمثل فيها العاقبة الحميدة للمتقين وعناية الله تعالى وحمايته للصابرين، ونصرته لعباده الصالحين – وها هو يوسف يخرج من جوف المحنة وظلمات السجن معززا مكرما عظيم المكانة في القلوب، فها هو الملك نفسه يستخلفه لنفسه لما رأى من أمانته وعفته وموهبته وإخلاصه، فإن الغالب على أحوال الناس أن من كان منهم صاحب موهبة وخبرة يكون بلا أمانة وإخلاص وإن من كان منهم ذا تقوى وورع يكون بلا موهبة وخبرة، وأما إذا تواجدت الصفتان في شخص واحد فيكون نادرا. ولذلك استخلص الملك يوسف عليه السلام لنفسه وعزم على الاستفادة منه والاستعانة به، من خبرته وأمانته ولقد كان في أمس الحاجة إليه، فغالب الحاشية والموظفين منافقون ومرتشون سراقون.
ويبدو أنه كان ملكا حكيما وإن كان وثنيا كافرا، ومن عقله عرف قيمة هذا الشخص فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين أي لما كلمه وسمع منه، وقد كان يسمع عنه واشتد شوقه إليه وليس من رأى كمن سمع، فلما شاهده زادت هذه الشخصية كبرا وعظمة في نفسه. فاختار يوسف المالية، خزائن الأرض، ولكنه ما اختار ذلك إلا بعد أن رأى عزم الملك على توليته، فلا يقال كيف طلب الوزارة لنفسه ونحن نعلم أن طلب الإمارة منهي عنه في شريعتنا، ومن طلب الإمارة أو المناصب لا يولى إياها في شريعتنا، ولكن يوسف ما طلب هذه المسؤولية الشائكة إلا بعد أن عرض عليه الملك ذلك. إنه اختيار مدروس، فإن يوسف كان على علم بما ينتظر هذا المجتمع من كوارث نتيجة للفساد في هذا المجتمع من نهب ورشوة وفرض إثاوة وغير ذلك من أسباب مما يؤدي إلى انهيار الدول.
واختياره ذلك يدل على أنه عليه السلام لم ينظر لهذا المنصب نظرة رجل مهتم بالمنصب والمغنم ولكن نظرة رجل صاحب رسالة يريد الإصلاح، لذلك نظر إلى ذلك التمكين الذي عرض عليه – فاختار أصعب منصب وأشق مهمة في هذا المجتمع وهو التصدي للفساد وخاصة الفساد الاقتصادي الذي نخر في المجتمع.
وهكذا يجب أن يكون لنا في ذلك القدوة وخاصة أصحاب المراتب القيادية فإن المنصب والوظيفة ليست فرصة للنهب والسرقة والاختلاس، بل إنها مهمة وأمانة كلفت بها، فيجب أن تنظر إليها نظرة إصلاح.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن الربا يجر على المجتمع المصائب الآتية:
اللعنة الإلهية أو الطرد من رحمة الله عز وجل، أعلن ذلك الصادق الأمين حينما قال في الحديث الذي نوهنا به سابقا ((لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه)) [1] فجميع من عمل به مطرودون من رحمة الله والعياذ بالله.
آكل الربا ومن يتعامل به حجز لنفسه مكانا في جهنم، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كل جسد نبت عن السحت فالنار أولى به)) [2].
كل من أكل الربا أو تعامل به فقد أتى بابا من أعظم أنواع الكبائر، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((درهم من ربا يأكله الرجل أشد من ست وثلاثين زنية)) [3].
من أكل الربا أو تعامل به فقد حكم على ماله بالمحق والهلاك والدمار ونزع البركة ولا يغرنه الاستدراج والإمهال إذا كثرت أمواله الربوية: يمحق الله الربا ويربي الصدقات [البقرة:276].
فإنه يعاتب بألا يستجاب دعاؤه وألا تستجاب استغاثته، فإن الإنسان ضعيف تعرض له كوارث ونكبات فيحتاج إلى ربه، ولا يجد في كثير من الأحيان بل كل الأحيان، لا يجد إلا الدعاء، فإذا حرم من الاستجابة فهذا من أشد العقوبات. قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رب رجل أشعث أغبر يرفع يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له)) [4] ، أي لا يستجاب له أبدا. فاحذر أكل الحرام وأعظم الحرام هو الربا. وقد قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: يا سعد أطب مكسبك تجب دعوتك)) [5].
ومن أعظم المصائب التي تحل على المجتمع بشؤم أهل الربا والمتعاملين بها أن يحل بهم العذاب فيؤخذون بالسنين – أي بحبس المطر والغيث – فلولا دعاء المساكين ورجاء الفقراء والمساكين وبكاء الأطفال الذين لا يعقلوا ورغاء البهائم ما نزل المطر، ولكن الله رحيم وببركة هؤلاء ينزل المطر.
فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنين، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)) [6].
أما بعد: فإن أفضل الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
[1] مسلم كتاب المسافاة (1598).
[2] حلية الأولياء (1/31).
[3] أحمد (5/225)، صححه الألباني اسناده في المشكاة (2/859).
[4] مسلم كتاب الزكاة (1015).
[5] عزاه الهيثمي في المجمع للطبراني في الصغير ، وقال : (وفيه من لم أعرفهم) (10/294).
[6] أحمد (4/205).
(1/615)
حرمة مودة الكافرين
الإيمان
الولاء والبراء
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مبدأ ولاية المؤمنين لبعضهم البعض. 2- التحذير من موالاة المشركين بمحبتهم أو نصرتهم
3- الموالاة المخرجة من الملة ليس من شرطها اتباع دين الكافرين. 4- عناية الكافرين في أمة
الإسلام. 5- دروس الأنبياء في الموالاة والمعاداة. 6- أمور يتحقق بها صدق الولاء لله
ولرسوله وللمؤمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [المائدة 51].
لقد قرر الله سبحانه وتعالى مبدأ الولاية بين المؤمنين ، وجعل بعضهم أولياء بعض ، يتناصرون ويتعاونون ويتعاضدون ، ويتحابون فيما بينهم بمقتضى ميثاق الأخوة الإيمانية: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وذلك لأن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة المسلمة التي تتجمع وتتعاون لموجهة كل من يعارض الإسلام ويحارب المسلمين ويعاديهم.
والخروج عن هذا المبدأ الإسلامي الأصيل ثغرة في الإيمان ونقص ينبغي تداركه وإذا وصل إلى موالاة الأعداء ومحبتهم والتعاون معهم فإنه الخروج على قانون الإسلام أو الارتداد عنه.
ولذلك جاءت الآيات الكريمة ، يحذرنا الله فيها من أن نلقي بالمودة والمحبة إلى الكفار، أو أن نتخذهم أولياء لله دون المؤمنين حتى ولو كانوا أقرب الناس نسبا ، فقال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هو الظالمون [التوبة 23] ، يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة [الممتحنة 1] ، لا يتخذ المؤمنون الكافرون أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير [آل عمران 28].
والولاية التي نهى الله تعالى عنها تعني: التناصر والتحالف مع الكافرين ، ولا تتعلق بمعنى إتباعهم في دينهم ، فبعيد جدا أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين ، فإن ذلك ردة صريحة وكفر واضح مستبين ، إنما هو ولاء التحالف والتناصر الذي قد يلتبس أمره على بعض المسلمين فيحسبونه جائزا بحكم ما يقع بين الناس من تشابك المصالح والأواصر.
ويرشدك إلى هذا المعنى أن الله تعالى أنزل على نبيه محمد صدر سورة الممتحنة في شأن حاطب بن أبي بلتعه ، وفيه نهى الله تعالى عن موالاة أعداء الله ، وما كان حاطبا متبعا للكافرين ، وإنما ألقى بشيء من أسرار النبي إلى الكفار بحكم ما كان بينه وبين القوم فأراد أن يصنع عندهم يدا ، فقد كان حاطب رجلا من المهاجرين ، وكان من أهل بدر وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن في قريش من أنفسهم ، بل كان حليفا ، ولما عزم النبي على فتح مكة أرسل إليهم الخبر خشية منه على أهل له بمكة،فكان ذلك موالاة لهم.
المؤمنون بعضهم أولياء بعض ، والكافرون بعضهم أولياء بعض مهما اختلفت مللهم وتباينت نحلهم ، وتعددت راياتهم ، ولن يهدأ لهم بال حتى يردوا المسلمين عن دينهم إن استطاعوا ، قال تعالى: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم. وقال: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.
ويتفق موقف أهل الكتاب من اليهود والنصارى مع موقف المشركين تجاه الإسلام والمسلمين والواقع التاريخي كله ،شاهد صادق على ذلك والأمثلة عليه تعز على الحصر ، وحسبنا أن الله سبحانه وتعالى أعلمنا بذلك فقال: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ، وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة.
ولذلك أيها المؤمنون: كان الإيمان هو الآصرة التي يتجمع حولها المسلمون ، وكانت كلمة التوحيد ، كلمة لا إله إلا الله هي الراية التي ينضمون تحتها ، وكانت كل دعوة عداها دعوة جاهلية منتنة ، ينبغي على المسلم أن لا يعبأ بها ولا ينتصر لها ، إن النسب المصلح أو الجنس أو الوطن أو القوم أو غير ذلك من الشارات والشعارات ينبغي أن تكون الدعوة إليه ، إن كانت على أساس أنه ينضوي ويدخل تحت راية لا إله إلا الله ، وإلا فإن الإسلام بريء من ذلك.
وقد قطع الله تعالى العلاقة بين نوح وابنه ، وبين نوح وزوجته ، وبين لوط وزوجته ، وبين إبراهيم وأبيه ، وبين محمد وأقرب الناس إليه ، لقد فرقت بينهم العقيدة.
أيها المسلمون :ولئن كانت كل صور المودة والولاء للكفار على ما سبق من التحرش ، ولئن كانت ولايتهم تعني التناصر معهم والتحالف ، فإن ذلك يتخذ في عصرنا الحاضر صورا شتى عند بعض الناس ، نجد أمثلة لها في أولئك القوم الذين هم من بني جلدتنا ويتكلمون لغتنا ويزعمون أنهم على ديننا ، ولكنهم صنيعة من صنائع الكفار ، صنعوهم على أعينهم ، وربوهم تربية غربية خالصة في التفكير والسلوك فكانوا نموذجا لطليعة التغريب وأمثلة للغزو الفكري وأداة التقريب بين الكفار والمسلمين ليتيح موقف المفاصلة وكسر الحاجز النفسي بين المسلمين والكفار ، وأداة لمحاربة العقيدة السمحة.
ونجد هذا الذي أشرنا إليه في مجالات كثيرة ، نجده في مجالات التربية والتعليم ، عند الذين يريدون لهذه الأمة أن تخضع لمناهج الغرب في التربية والثقافة ، ونجد في وسائل الإعلام المتنوعة التي تسبح باسم الحضارة الغربية وتمجدها ، وتجده أيضا في التلقي عن الكفار والترويج لأفكارهم وآرائهم.
كما تجده في نشر المذاهب العلمانية اللادينية والأفكار الجاهلية ، وفي تقليد الكفار في أمورهم التافهة التي تشغل الأمة عن معالي الأمور عن الجد والعمل النافع المثمر ، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلناه ، وهذا ما حذر منه النبي : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) وهنا جملة أمور يجب التنبيه عليها ، ليتم لفاعلها مجانبته دين المشركين والبراءة منهم ، ليتحقق الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين :
الأمر الأول : ترك اتباع أهواء الكفار في قليل الأمر وكثيره ، وقد أمرنا الله تعالى بذلك فقال: ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك.
الأمر الثاني: معصيتهم فيما أمروا به ، لأن الله تعالى نهى عن طاعة الكافرين فقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً.
والأمر الثالث : ترك الركون إلى الكفرة والظالمين حيث قال تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون.
الأمر الرابع : ترك مودة أعداء الله: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.
الأمر الخامس: ترك التشبه بالكفار في الأفعال الظاهرة مما هو من خصائصهم ، لأن التشبه في الظاهر يورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن.
فيا أيها المسلمون: عودوا إلى أنفسكم وتلمسوا فيها الإيمان وحافظوا عليه ، فإن هذا الولاء لله وللمؤمنين ، والبراء من الكفر والشرك والكافرين والمشركين ، من لوازم التوحيد ومن مقتضيات العقيدة الإسلامية ، ومتابعة النبي ومحبته: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين.
نفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/616)
بدايات دعوة النبي صلى الله عليه وسلم
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة رسول الله لأهله الأقربين. 2- موقف أبي لهب المعادي للدعوة. 3- جهر رسول الله
بدعوته على جبل الصفا. 4- صفات أعداء الدعوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الاخوة المؤمنون : ألمحت في الخطبة الفائتة إلى بدايات الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة ، الدعوة التي ترامت أنباؤها إلى قريش ، رغم ما يحوطها من تكتم ، ولكن قريش لم تعرها في أول الأمر اهتماما ، وما أن بدأ الإسلام يفشو وينتشر انتشار النور والضياء في ربوع العالمين حتى توجست قريش خيفة من ذيوع الدعوة وامتداد أثرها وأخذت ترقب على الأيام مصير هذه الدعوة ومصير محمد.
واستمر هذا التطور للدعوة السرية ثلاث سنين ، ثم أوحى الله إلى رسوله أن ينذر عشيرته الأقربين: وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون. وبدأ عليه السلام يفكر في الوسيلة لدعوة عشيرته فصنع لهم طعاما دعاهم إليه ، وكان فيهم عمه أبو لهب ، وجد فيه حدة وغلظة وسفاهة وتعصب للأصنام ، ولما تأهب النبي لعرض دعوته عليهم بادره أبو لهب قائلا : هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك فتكلم ودع الصبأة..تخرج عن دين قومك. ولا تعرضهم لغضب العرب ،فإن فعلت فنحن أولى بتأديبك فنحبسك لأننا أحق بهذا من غيرنا.
فعلم النبي أن الفرصة لم تحن بعد ، وأن الجو غير ملائم للكلام فسكت ولم يتكلم في ذلك المجلس ، وسكت أياما ثم دعاهم عليه السلام ثانية وأشارت صفية رضي الله عنها بعدم حضور أبي لهب ولكنه حضر وبعد أن انتهوا من طعامهم ، قال بعد أن حمدا الله وأثنى عليه: أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله ، ولو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم ، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة والى الناس عامة.. وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين على الميزان : شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ، ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا ، وإنها لَلْجَنة أبدا أو النار أبدا ، يا بني عبد المطلب ، والله ما أعلم شابا جاء قومه بأفضل مما جئتكم ، إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، فمن يجيبني على هذا الأمر ، ويؤازرني على القيام به ؟
وهنا تكلم عمه أبو طالب كلام لينا ، واعتذر اعتذارا لطيفا ، أما أبو لهب : فقد ثار ثائره وعاد إليه حمقه وجهله فصاح كالجمل الهائج هذه والله السوأة.. خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم ، فقال أبو طالب : لا والله لنمنعنه ما بقينا..
وازدادت عداوة أبي لهب وشراسته يؤازره في ذلك زوجته أم جميل حمالة الحطب فلما وقف على الصفا ليصدع بأمر الله فأصدع بما تؤمر ، وجعل ينادي : ((يا بني فهر ، يا بني عدي ، حتى اجتمعوا ، فقال النبي : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تغير عليكم ، أفكنتم مصدقي؟ قالوا :ماجربنا عليك من كذب.فقال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله تعالى: تبت يدا أبي لهب وتب ، ولكن صيحة الصفا لم تهب أدراج الرياح : فبدأ الناس يتحدثون عن الدين الجديد فكانوا كما قال الله تعالى عنهم: فمنهم من هدى الله ومنهم حقت عليه الضلالة.
فأما من كتب الله لهم السعادة فبدأ يتسللون إلى رسول الله يتلقون الدعوة ويؤمنون بصاحبها ويستضيئون بنورها، وأما من حقت عليهم الضلالة ، الذين عميت بصائرهم وماتت قلوبهم فأخذوا يحاربون محمدا ودعوته ، مدفوعين لذلك بدوافع الهوى والشهوة والخوف على مناصبهم وزعاماتهم للقبائل الخاضعة لهم.
ولكن ماذا تصنع خصومة أولئك كلهم ، وهم الذين رأينا صفاتهم وأحوالهم ، إنهم متعصبون تحجرت عقولهم ، تزين لهم سطوتهم البطش بمن يخالف من دعاه الحق: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا.
إنهم مترفون سرتهم ثروتهم ، يحبون الباطل ، لأنه على أرائك وثيرة ، ويكرهون الحق لأنه عاطل عن الحلي والمتاع: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً.
إنهم متعنتون: يحسبون هداية الرحمن عبث صبية ، أو أزياء غانية فهم يقولون : هات هذا ودع ذاك: وإذا تتلى عليهم آياتنا بنيات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله.
أو مهرجون يتواصون بينهم بإفتعال ضجة عالية وصياح منكر عندما تقرأ الآيات حتى لا يسمعها أحد فتترك في نفسه وعقله أثرا: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون.
وهكذا نفروا جميعا من الإسلام وهربوا منه كهروب المذنب من ساحة القضاء بعد ما انكشفت جريمته وثبتت إدانته ، وهم يعلمون حق العلم صدق الرسول : قد نعلم إنه ليحزئك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/617)
الرفقة الصالحة وأثرها في الفرد
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنسان مخلوق مفطور على الجماعية. 2- شرائع الإسلام موافقة لفطرية الجماعة عند
الإنسان. 3- ضرورة اختيار المرء لمن يخالطه ويحبه. 4- التحذير من أصحاب السوء والأمر
بصحبة المؤمنين. 5- التركيز على تربية البنات والاهتمام بصحبتهن ورفقتهن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها المسلمون: إرادة الله تعالى أن يجعل في هذا الإنسان نزوعا إلى مخالطة الآخرين والعيش معهم ، فجعله تعالى اجتماعيا بطبعه لا يستطيع أن يعيش بمفرده منعزلاً عن الآخرين ، ولو استطاع ذلك فرد واحد لما استطاع سائر الناس أن يتابعوه على ذلك، هذا في أمور الدنيا وحوائجها ، فضلا عن أمور الدين والشريعة ، إذ من فرائض الإسلام وأحكامه ما لا يمكن تأديته إلا بالمخالطة مع الناس وتعاونهم كصلاة الجماعة والجمعة والعيدين وتشييع الجنائز وعيادة المريض وتعلم أمور الدين وتعليمها.
وإذا كان هذا أمرا واقعيا وضرورة حتمية ، فإن من واجب العاقل أن يعرف من يخالط ويقارن فيختار لذلك صحبة طيبة صالحة تذكره بالله إذا نسي ، وتقوّم اعوجاجه إذا اعوج وتنصح له إذا استنصحها ، إنها العلاقة التي تقوم على أساس الحب في الله والبغض في الله فالمسلم لا يحب الشخص إلا لطاعته لربه ومسارعته لمرضاته ، ولا يبغضه إلا لعصيانه ومخالفته أمر ربه ، وكلما اشتدت محبة المسلم لربه اشتدت محبته لأحباب الله حتى تصير موالاة ونصرة وذبا عنهم بالنفس والمال.
وما دام المسلم يحب في الله ويبغض في الله فمن البديهي أنه يختار للصحبة والرفقة أناسا مطيعين لله قائمين بحقوق العبودية له ، فهم نعم الرفيق له ونعم الإخوة ، يشتد ارتباطه بهم ، ويعتز بهم ويحافظ على أخوتهم ، ويرفض مصاحبة وموادة العصاة والفساق المعرضين عن لله والمستهترين بدينهم وخلقهم (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا) واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا.
وإن أخوف ما يخافه المرء صحبة شريرة تصده عن ذكر الله وتبعده عن الطريق القويم ، وتجعله في متاهات الضياع والأخلاق الفاسدة الهابطة ، ولا عجب إذن أن تكثر في هذا توجيهات الإسلام وتحذيراته من قرناء السوء ورفاق الشر والفساد ، قال تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً.
وقال أيضا: قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد. وقال تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
وفي توجيهات النبي وهديه ما يحث على هذا: (( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل )) ، وقال عليه السلام محذرا: (( إياك وقرين السوء فإنك به تعرف )) (ضعيف).
وإذا كان الأمر كذلك فينبغي الابتعاد عن البيئة الموبوءة الفاسدة كي لا يتعدى الفساد إلى الأبرياء قال : (( لا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره )).
وأمر الرسول أن لا يصاحب الإنسان إلا مؤمنا صالحا فقال : ((لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي )).
ولا نجد أبلغ في التعبير وأدق في التصوير من قوله تعالى في تصوير أثر البيئة في تربية الطفل وتنشئته: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذين خبث لا يخرج إلا نكداً.
وكم كنا نجد من الأولاد والشباب والكبار أناسا عفت ألسنتهم عن البذيء وعفت جوارحهم عن الأثام واستقامت أخلاقهم وسلوكهم ، حتى إذا ما قيّض للواحد منهم صاحب الشر والميوعة والانحلال تأثر به لا محالة وانحرف معه وإن كان لا يريد في أول أمره انحرافا ، ولكن الصحبة لابد أن تؤثر والصاحب كما يقولون ساحب.
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وإن عشرة السوء تفسد الأخلاق الحميدة.
وشتان بين عشرة السوء ورفقة الخير فيما تأتي به كل واحدة منهما ، وقد شبه النبي الصاحب الخير ببائع المسك، والشرير بنافخ الكير ، فقال: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء ، كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك (يعطيك) أو تشتري منه أو تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة )).
فما أجدرنا أن نبحث لأنفسنا عن صحبة مؤمنة صالحة ليكتسب كل واحد منها ما ينمي شخصيته ويقومها ، من الإيمان المشرق والعلم النافع والأدب السامي والخلق القويم والرفيع ، ولتكن هذه الصحبة ملازمة لكل الأحوال والأطوار ، صحبة طيبة في الحي أو البلد، وصحبة طيبة في المدرسة وفي العمل وفي المسجد وفي الرحلات والأسفار.
فيا أخي المسلم :
تمسك إن ظفرت بذيل حر فإن الحر في الدنيا قليل
وإذا كان الولد شديد التأثر بالبيئة التي حوله وبالرفقة الصالحة أو السيئة ، فإن البنت أشد تأثرا بذلك لما جبلت عليه من عاطفة فياضة وبما تتأثر به من أمنيات ومغريات وبما تنساق إليه من فتنة المدنية الحديثة وزينة الحياة الدنيا ومظاهرها الخادعة ، فسرعان ما تتنكب عن الحق وتتكيف مع البيئة ، وتميل مع الهوى وتجاري التيار بدون رادع من دين أو زاجر من ضمير أو احتكام لعقل أو نظرة للعواقب.
ولأجل هذا وجب على المسلم أن يكون أكثر اهتماما بالبنت من الذكور مخافة أن تتزعزع في إيمانها أو تتحلل في أخلاقها أو أن تنزلق في متاهات الرذيلة.
وإذا ما تهيأ لأولئك الأولاد جميعا من الذكور والإناث ملاحظة واعية مستمرة من الوالدين وتربية قويمة لأخلاقهم ، وصحبته طيبة صالحة مؤمنة ، فإننا نرجو بذلك أن يكونوا من الأثر الباقي للإنسان بعد موته: (( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ))
ولعل هذا أيضا سبيلا للنجاة من النار: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فيا فوز المستغفرين استغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/618)
عناية الله بالعبد وآثار الإعراض عن الدين
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رعاية الله للإنسانية بدءاً من آدم. 2- جزاء الإعراض عن الله ودينه في الدنيا. 3- نماذج
من عقوبة الله للأمم المعرضة. 4- عقوبات توعد الله بها هذه الأمة حال عصيانها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد أعظم الله سبحانه وتعالى المنة على هذا الإنسان عندما خلقه في أحسن تقويم ، وكرمه وفضله على كثير من خلق تفضيلا ، وتزداد هذه الكرامة للإنسان بإنزال الوحي من الله تعالى على رسله ليأخذوا بيد البشرية إلى حيث الهدى والنور ، إذا لا تستقيم حياتهم إلا بذلك ، ولهذا كان وحي الله تعالى ضرورة للبشر لا يستغنون عن الروح للحياة وعن النور للهداية: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا.
وقد تعهد الله تعالى هذا الإنسان بهذه الرعاية وهذه النعمة ورسم له طريق الخلاص والفلاح منذ اللحظة الأولى التي أهبط الله تعالى أبا البشرية أدم عليه السلام إلى الأرض ، عندما يستقيم على دين الله وشرعه وهداه ، فقال تعالى: قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم من هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
إن الإعراض عن دين الله تعالى ، والبعد عن منهج الله ووحيه ، وإن مخالفة أوامر الله تعالى، لابد أن يكون له آثار في حياة الإنسان ، ولابد أن مخالفة الإنسان جزاءه على ذلك كله إنفاذا لوعد الله تعالى وتناسقا مع سننه في الكون والحياة ، فإن القيم الإيمانية مرتبطة تماما بسنن الله الكونية ، لأنها كلها سنة الله في الأرض ، فالذنوب تهلك أصحابها ، تماما كما يهلك الوباء أهله ، فهي تؤدي إلى الدمار والهلاك على مستوى الفرد والجماعة والأمة ، إما بقارعة من الله ، وإما بالانحلال البطيء الذي ينخر في جسد الأمة ، ولذلك كانت الذنوب مؤشرا على الانهيار الحضاري ونكسته: فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين.
فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا.
وواقع الناس يشهد لهذا كله ويصدقه ، فقد كتب على هذه البشرية عندما ابتعدت عن دين الله وعندما صعدت وأعرضت عن الإيمان ، وعندما جاهرت بالمعاصي والذنوب ، كتب عليها أن يؤدي الثمن باهظا ، وأن تدفع الضريبة فادحة ثقيلة ، وآثار ذلك بارزة في كثير من الصور المفزعة الرهيبة ،في الأمراض العصبية العقلية والنفسية ، في القلق والخوف ، الخوف على المستقبل والخوف على لقمة العيش ، والخوف على النفس ، في الضياع والتيه والتخبط ، وفي نزع البركة من أيدي الناس ، واسمعوا إلى قوله الله تعالى: واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.
فيا أيها المسلمون : إن ما عند الله تعالى الجنة والنعيم والخير والنعمة والرزق والبركة لا ينال إلا بطاعة الله وتقواه ، وتبا لأقوام يبنون حياتهم على الذنوب والمعاصي والمجاهرة بعدوان الله ثم يزعمون أنهم عباد لله مسلمون طائعون ، وينسون أنهم بذلك يمهدون الطريق للمصائب التي تحل بهم والله تعالى يقول: وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
فما الذي أهبط الأبوين آدم وحواء من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب إلا معصيتهما بأكلهما من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها ؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده من رحمة الله غير معصيته بامتناعه من سجدة واحدة أمر أن يسجدها (ونحن كم نخالف من أوامر الله وكم نمتنع عن سجدة وطاعة ).
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال.؟ وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية.؟
وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم ثم قلبها عليهم وأتبعوا بحجارة من سجيل ؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب العذاب كالظلة فلما صار فوقهم أمطر عليهم نارا تلظى ؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ، ثم نقلت أرواحهم إلى نار جهنم ، فأبدانهم للغرق وأرواحهم للنار والحرق ، ما الذي جعل ذلك كله يحل بتلك الأقوام إلا المعاصي ، فإنها هي التي دمرت عليهم وأصارتهم إلى أسوأ عاقبة ، قال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
ولذلك حذر النبي أمته من المعاصي في كثير من الأحاديث منها ما رواه عبد الله بن عمر قال كنت عاشر عشر رهط من المهاجرين عند رسول الله فأقبل علينا رسول الله بوجهه فقال : ((يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن ، وأعوذ بالله أن تدركوهن : ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين قضوا ، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشرة المؤنة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ، ولا نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا لبضع ما في أيديهم ، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم )).
عن أم سلمة ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده قلت يا رسول الله: فيهم يومئذ قوم صالحون ؟ قال : بلى ، قلت : كيف يصنع بهم ؟ قال : يصبهم ما أصاب الناس مما يصيرون إلى مغفرة من الله ولرضوان )). وهذه العقوبات النظرية القدرية على المعاصي هي واحدة من سنن الله تعالى في الكون وفي الحياة ، يراها الناس بأعينهم ويقرؤونها في كتاب الله عن الأمم السابقة الذين أعطاهم الله تعالى من كل شيء ثم وقع العذاب فجأة: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ، كذلك ففصل الآيات لقوم يتفكرون.
أيها المسلمون : لا شيء يدفع هذه العقوبات ، ويستجلب الرحمات ويدفع السوء إلا التوبة إلى الله تعالى والإنابة إليه والتمسك بدينه والمحافظة على شرعه والتاريخ يعلمنا أن العرب لم يكونوا شيئا قبل الإسلام ، فاللهم يا ذا الأمر الرشيد والعزم الشديد نسألك الأمن يوم الوعيد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/619)
دروس من سورة يوسف ( الربا )
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الكبائر والمعاصي, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
معنى التمكين – اتخاذ الأسباب – كيف يدوم ؟ - لماذا حرم الله الربا ؟ خطر الربا"
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله تبارك وتعالى: وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين [يوسف:56].
التمكين من المكنة والمكانة، ومعناه القدرة والسلطان والرفعة. وقوله مكنا ليوسف أي أعطيناه القدرة والسلطان والمكانة الرفيعة بين الناس. وهذا التمكين مطلق بخلاف التمكين الذي ذكر في الآية قبل ذلك: وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض [يوسف:21]. فالمقصود بالأرض في هذه الآية بيت العزيز وأملاكه، فذاك تمكين محدود، انتهى لم يستمر، انتهى بسجن يوسف، ولكنه كان منزل في الطريق إلى هذا التمكين النهائي.
فإن يوسف عليه السلام كان من المحسنين، أحسن في نفسه، وأحسن مع ربه، وأحسن في اتباع المنهج المنزل. ومن سنن الله الكونية التي لا تبدل أن من أحسن في اتباع الوسائل والأسباب أنه يحصل النتيجة، فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجره، فإن من أخذ بأسباب القوة والظفر حصل على ذلك مؤمنا كان أو كافرا، هذه من مقتضى عدل الله سبحانه وتعالى: نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ، هذا الإحسان معنى شامل يشمل الإحسان في اتخاذ الأسباب والوسائل.
فما بالك بالمؤمن إذا أحسن وكان إحسانه متكاملا، فهو مع معرفته بالله عز وجل وتوحيده له، عمل واجتهد وصبر وتجلد وأحسن في اتباع المنهج فإن هذا يحصل النتيجة وتدركه الرحمة الخاصة بالمؤمنين دون غيرهم.
أما المؤمن إذا استعجل دون أن يعمل وأخطأ المنهج المنزل فلم يشفع له صلاحه ولا صدق نيته فإن النتائج لم تعلق على الإيمان فقط ولكن على الإيمان والعمل – التمكين لم يربط بمجرد الإيمان ولكن بإحسان العمل مع الإيمان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [الرحمن:60]. مع أن القرآن قد يطلق الإيمان في بعض الأحيان ويقصد بهذا أي الإيمان مع الإحسان في العمل.
ولما كان إحسان العمل شرطا في التمكين فإن الدوام على ذلك أيضا شرط في التمكين، الالتزام بشرع الله شرط الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:41]. تأمل هذه الخاتمة العجيبة، خاتمة الآية، إنها تطمئن المؤمنين العاملين بشرع الله ألا يخافوا أحدا من الخلق فإن الله هو مولاهم وناصرهم وسيجعل العاقبة له، فالملك كله له، فإن الذي يصرف الملك هو مولاهم يحميهم وينصرهم.
وفي هذه الخاتمة أيضا تهديد للمسلمين إذا ما تخاذلوا عن شرع الله وانحرفوا عن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي انحرفوا عن المنهج المنزل، فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن ينزع الملك ويسلط على المتخاذل عدوه ويجعل العاقبة لغيره وقال ذلك سبحانه وتعالى صراحة وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم [محمد:38]. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا [التوبة:39].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
حقيقتان هامتان يجب أن نعرفهما حتى نفقه ونفهم لماذا حرم الله الربا وأحل البيع بدلا منه:
أن المال في الحقيقة هو ملك الله تعالى والإنسان مستخلف فيه، ليس هذا المال ملكك أيها الإنسان، فعليه أن ينفذ فيه أوامر المالك الحقيقي سبحانه وتعالى: آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه [الحديد:7].
أن المالك الحقيقي والشارع الحكيم أراد أن يكون هذا المال سببا في عمارة الأرض، لقضاء مصالح المجتمع وسد حاجات الناس ولذلك أمر بأن يحرك في السوق، بأن يوجه في السوق، ويحرك بأنواع الاستثمارات التي فيها رخاء المجتمع ونماؤه. فصاحب المال إذا أنشأ بماله بقالة أو محطة بنزين أو مستشفى أو صيدلية أو مخبزا أو غير ذلك من المشاريع النافعة، فإنه يكون قد حقق بذلك لنفسه الربح بالبيع الحلال، هذا هو هدف الشارع الحكيم وهو تحريك المال حتى يرجع النفع على الطرفين صاحب المال والمجتمع.
أما الفوائد الربوية فهي تحقق أكبر عائق أمام استثمار هذه الأموال، فهي تجمد الأموال وتدور هذه الأموال في دائرة مغلقة تصب في مصلحة صاحب المال فقط، فهذه المؤسسات الربوية هي رمز لاستبداد صاحب المال وأنانيته.
أرأيتم لو أن كل من عنده مال استمرأ هذه الفائدة الربوية السهلة المضمونة وأودع أمواله في البنوك وتجمدت فماذا استفاد المجتمع منها.
هذا وأصحاب تلك المؤسسات الربوية ولو تعددت أسماؤها وأشكالها، فإنهم في الحقيقة ينهبون أموال الناس ويستغلون حاجتهم ويتلاعبون بمصالحهم ثم يكذبون على الناس فيدعون أن الربا ينفع المجتمع بينما يعرف الناس كلهم أن الفائدة الربوية هي أكبر عائق أمام التنمية، الغربيون يعرفون ذلك وكتبوه في دراساتهم، فلا تكذبوا على الناس أيها الكاذبون، كم مرفقا يخدم المجتمع أنشأتموه؟ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، كفّوا عن الربا وحولوا أموالكم الهائلة إلى ما فيه الخير للمجتمع، إلى ما أحله الله تعالى، إلى البيع، إلى التجارة، إلى الأرض بالجهد والعمل، فالله تعالى حكيم، ما حرم للناس شيئا إلا وحلل آخر بدلا منه، فهنا قد حرم الربا لما فيه من تعطيل لحركة النمو وأحل البيع.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين [البقرة:278].
(1/620)
وجوب التمسك بالسنة والتزام أوامر الرسول
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الاتباع
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رحمة الله بالبشرية في إرساله النبي. 2- الدعوة إلى العودة إلى معين الكتاب والسنة.
3- حال المؤمنين مع الكتاب والسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد :
يدور الزمن دورته ويعود هلال المحرم من جديد ، ليسطر في عمر والإنسان عاما هجريا جديدا.
وعلى عتبة هذا العام الهجري الجديد نود أن نقف وقفة للتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، لنتبين مواقعنا من الطريق الطويل ، طريق الإسلام ، الذي فرضه علينا ، لنكون على هدي من ميراث النبوة المحمدية ، وإنما يكون ذلك بتفتيح الأعين على الإسلام كما أنزله الله على محمد عليه الصلاة والسلام ، وكما أراده الله للإنسانية : عقيدة ومنهج حياة ، رفع الله به الأمة إلى مقام الريادة قرونا متطاولة من الزمان ، وهو قادر على ذلك دائما ، إن هي استأنفت طريقها من جديد.
أيها الأخوة : ذلك أن الإسلام بربانيته كما أوحى الله به إلى نبيه محمد فيه كل عوامل الخير والهداية والعطاء ، وما تلك النكسات التي أصابت العالم المعرض عن الله في القديم والحديث إلا من بعض الشواهد على أن هذا الدين هو الهدية الربانية التي كانت من رحمة الله بالإنسان، وأن الرسالة المحمدية هي المثابة التي لا غنى عن الرجوع إليها بعد متاهات الضياع وظلام النكسات.
وقد يكون من صواب القول والعمل أن نذكر بأن رسول الله قد ترك هذه الأمة على البيضاء النقية ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، والإنسان يتقلب في هذه الحياة الدنيا بين طريقين : فإما أن يكون من طلاب الدنيا ، الذين همهم التطواف حولها ، ينشدون متطلباتها ومشتهياتها ، وإما أن يكون من طلاب الآخرة وأبنائها المسارعين إلى مرضاة الله ، السالكين صراطه السوي لا يرضون به بديلا ولا يبغون عنه حولا ، فهم يتحركون ونصب أعينهم دائما قوله تعالى: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً.
إن هذه الدعوة للعودة إلى منابع العز والقوة والنصر والتمكين ليست شيئا على هامش حياة المسلم وهو ليس في حل من أن يتمسك بهذا الدين أولا يتمسك فيها وإلا فإنه بذلك يخرج عن دائرة الإسلام.
ولهذا تواردت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحض على التمسك بسنة النبي المصطفى ووجوب التحاكم إلى شرع الله عز وجل: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.
وأمرنا الله سبحانه أن نرد الأمر إلى الله وإلى الرسول فقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. قال العلماء : معناه : ردوه إلى الكتاب والسنة ، وكان هذا هو ما يوحي به ، قال العرباض بن سارية قال: ((وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله : كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد وإنه من يعش فيكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار )).
وكان شأن صحابة رسول الله الحرص الشديد على التمسك بسنة النبي في كل أمر من الأمور وإنهم ليقاطعون قريبهم عندما يجدون عنده مخالفة لسنة النبي : فعن عبد الله بن مغفل قال: (( نهى رسول الله عن الخذف (رمي الحصى بالأصبع السبابة) وقال : إنه لا يقتل الصيد ولا ينكأ العدو وإنه يفقأ العين ويكسر السن )) وفي رواية أن لابن مغفّل قريبا حذف فنهاه وقال له إن رسول الله نهى عن الخذف ، ثم عاد فقال له ابن مغفل : أحدثك أن رسول الله نهى عنه ثم عدت تخذف : لا أكلمك أبدا.
و قد يكون مؤمنا ذاك الذي يعرض عن كتاب الله وسنة رسوله ولا يحكمهما في كل شئون حياته : قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.
وقال تعالى: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون.
وفي حديث أبي هريرة في صحيح مسلم قال : لما نزلت على رسول الله لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم الله اشتد ذلك على أصحاب رسول الله فأتوا رسول الله ثم بركوا على المركب فقالوا : أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها : قال رسول الله : ((أتريدون أن تقولوا كما أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير )).
فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، قال نعم ، قال: ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا قال نعم. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا إلى القوم الكافرين قال نعم.
ونحن نقول : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/621)
أركان الوحدة الإسلامية – المرأة الصالحة
الأسرة والمجتمع, التوحيد
أهمية التوحيد, المرأة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
27/11/1412
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
من أعظم معاني الحج إبراز معالم وحدة المسلمين ودعائمها : ( قبلة واحدة – شعائر واحدة
رب واحد ) – واقع الأمة اليوم والواجب عليهم – مقومات الوحدة الحقيقية وأركانها :
1- التوحيد بمعناه الحقيقي ومفهومه الشامل : ( نماذج من انحراف الأمة في التوحيد )
2- مصادر استقاء الدين والعقيدة والشريعة : الكتاب والسنة 3- الاجتماع على حب الصحابة
وآل بيته صلى الله عليه وسلم – الخطبة الثانية : * من أهم دعائم الحياة الزوجية وأسسها :
الاختيار الصالح للرجل أو المرأة – صفات المرأة الصالحة كما في الحديث : 1- إذا نظر إليها
سرته , والسبيل إلى ذلك 2- إذا أمرها أطاعته , وعِظَم حق الزوج على الزوجة 3- تحفظ
زوجها في نفسه وماله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقال الله تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [المؤمنون:52]. إن من أعظم معاني الحج بعد الامتثال وإجابة نداء الله تعالى الذي آذن به أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه وعليهم السلام أنه يبرز معالم الوحدة بين المسلمين وينبههم إلى دعائمها وأسبابها فالقبلة التي يتوجهون إليها واحدة والشعائر والمناسك واحدة والرب الذي ينادونه واحد والدين الذي يستظلون بظلاله واحد ولكن هل تنبه المسلمون إلى هذه الحقائق, كيف وأكثرهم في حقيقة أمرهم مختلفون متناحرون متنازعون ولأجل هذه الفرقة وهذا التناحر تسلط عليهم الأعداء وحل عليهم هذا الذل الذي حل بهم اليوم ولم ينزع من رقابهم إلى الآن, بينما نبيهم الرؤوف بهم صلى الله عليه وسلم قد حذرهم من ذلك في حجة الوداع في خطبته العظيمة ووصيته الجليلة إلى أمته فقال: ((ألا لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) [1] فسمى صلى الله عليه وسلم الفرقة والتنازع والتطاحن والتناحر سماه كفراً لأنه قد يفضي إلى الكفر.
فواجب المسلمين اليوم أن يجمعوا كلمتهم وأن يوحدوا صفوفهم ولكن على الحق فكل وحدة في الحقيقة لا تكون على الحق وعلى كلمة الله تعالى وعلى دينه وملته فليست وحدة في الحقيقة, هناك أسس وأركان إذا اختلف فيها الناس فقد اختلفا في الملة والدين وإذا ما اتفقا عليها فهم حينئذ أبناء ملة واحدة وأبناء دين واحد:
أولاً: التوحيد الذي حقيقته وجوهره أن لا نعبد إلا الله تعالى وننفي عبادة ما سواه وأن نكفر بالطواغيت وهم كل من طغى وتجبر وزاد عن حده من معبود أو متبوع أو مطاع, بدون هذا التوحيد لا يكون الإنسان مؤمناً أبداً, هذه هي الكلمة السواء هذه هي الملة الحنيفية الإبراهيمية التي جاءنا بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والتي من أجلها لبث في مكة أكثر من عشر سنين أكثر من نصف عمر دعوته النبوية المباركة يعلمها الناس ويشرحها لهم ويدعوهم إليها لا يكاد يشتغل بغير ذلك صلى الله عليه وسلم, فعلى هذا التوحيد يجب أن يجتمع المسلمون, كيف يتحد المسلمون إذا لم يكونوا موحدين, كيف يتحد ويجتمع من يعبد الله وحده لا شريك له مع من يعبد السيد البدوي أو يعبد التيجاني أو يعبد علي بن أبي طالب أو أي أحد من ذريته أو يستغيث بأي أحد من خلقه كائناً من كان أو يضفي عليه شيئاً من صفات الإلهية التي اختص بها الإله الواحد الأحد سبحانه وتعالى, لا يمكن أن يجتمع هذا مع هذا ولا أن يأتلف هذا مع هذا, أيها المسلمون إذا أردتم أن تجمعوا كلمتكم فعليكم بالتوحيد وانشروا التوحيد بين المسلمين وعلموهم هذه الكلمة السواء, هذه الملة الإبراهيمية الحنيفية كما فعل إمامكم ونبيكم وحبيبكم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: المصادر فمن أين يستقي المسلمون دينهم وعقيدتهم وشريعتهم؟ من كتاب ربهم القرآن الكريم وسنة نبيهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهذان هما الأصلان الثابتان الخالدان المحفوظان بالحفظ الإلهي, فإن حفظ القرآن الكريم كلام الله يقتضي حفظ سنة نبينا المصطفي صلى الله عليه وسلم فإنها أنزلت معه مبينة له شارحة له لا تنفك عنه ليوم الدين, فهذه المصادر لا نقبل أي تشكيك فيها أبداً, فمن شك في حرف من كتاب الله القرآن أو زعم فيه الزيادة أو النقصان, أو شك في سنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بمسلم, ليس أخاً لنا ولا كرامة, لا تجتمع به الكلمة ولا يأتلف به الصف, إنه ليس من أهل ملتنا ولا من أهل قبلتنا وإن صلى إليها وإن حج إليها.
ثالثاً: رعيلنا الأول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى كما اصطفي نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه اصطفي له واختار له أنصاراً وأصحاباً يحملون عنه الدين ويبلغونه إلى سائر الأمة وآووا نبيهم ونصروه وعزروه وآمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه, فيجب علينا نحن المسلمين أن نجتمع على حبهم, على حب صدرنا الأول ورعيلنا المبجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وكما نحب آل بيته الكرام فإن آل بيت رسول الله وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيقان لم يفترقا أبداً ولن يفترقا إلى يوم الدين, إلى أن يلقوا جميعا رب العزة والجلال وإن زعم الفرقة بينهما من زعم من فروق المجوس وأذناب اليهود , إن كل من طعن في رعيلنا الأول وصدرنا المبجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في الحقيقة إنما يطعن في ديننا وعقيدتنا وشريعتنا وقرآننا وسنة نبينا وإمامنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم الذين حملوا ذلك كله وبلغوه إلينا فكيف نقبل منه ذلك؟ بل كيف يكون مسلماً بعد ذلك؟ لا والله ما هو بمسلم وما هو بأخ لنا ولا كرامة, إنه ليس من أهل ملتنا ولا من أهل قبلتنا وإن صلى إليها وإن شد رحله إليها, فيا أيها المسلمون تبصروا في أمر دينكم اجتمعوا على توحيد ربكم وعلى مصادر دينكم وعلى تعظيم صدركم الأول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام وإلا فكيف تتفق الكلمة وكيف يجتمع الصف؟ وكيف تأتلف القلوب؟ بل كيف تعبدون ربكم الذي أمركم بالاجتماع على عبادته حين قال: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [المؤمنون:52]. أي كونوا أمة واحدة تجتمعون على عبادة ربكم وحده لا شريك له.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه غنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري كتاب العلم (121)، مسلم كتاب الإيمان (65].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه لما أنزل قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [التوبة:34]. عظم ذلك على الصحابة فقال عمر الفاروق رضي الله عنه: أنا أفرج عنكم. فذهب فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال رسول الله ما معناه أن: ((كل مال أديت زكاته فليس بكنز)) [1] , ثم قال له صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على خير ما يكنز المرء المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته)) [2]. صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما وعدناكم في الجمعة الماضية أن نبدأ في الحديث عن الحياة الزوجية وحقوق الزوجات وما يتعلق بذلك من المشكلات نقول إن من أهم دعائم الحياة الزوجية وأسسها منذ البداية الاختيار الصالح سواء بالنسبة للرجل أو بالنسبة للمرأة, فكما أن على ولي المرأة أن يحسن اختيار الزوج لموليته فإذا جاء من يرضى دينه وأمانته عليه أن يزوجه, فإنه كذلك على الرجل أن يحسن اختيار الزوجة التي يختارها شريكاً له في بناء أسرة مسلمة فعليه أن يبحث عن ذات الدين حتى يظفر بها, وذات الدين هذه من صفاتها هذه الصفات الثلاث التي نوه بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي من صفات ذات الدين أولاً إذا نظر إليها سرته وذلك لحسن تبعلها لزوجها, لحسن قيامها بواجباتها الزوجية تحرص على التنظف وعلي التزين لزوجها حتى لا يراها إلا وهي في أحسن هيئة وأبهى منظر ولا يلزم من ذلك الجمال فإن الجمال أمر نسبي قد يصير الجمال قبحاً مع الإهمال ومع سوء الطباع وسوء الأخلاق وقبح الأفعال والأقوال وقد تصبح المرأة العادية في غاية الجمال مع جمال النفس وحسن الطباع والأقوال والأخلاق والأفعال.
ثانياً: إذا أمرها أطاعته فإن المرأة الصالحة ذات الدين تعلم أن طاعة الزوج أمر نبوي أمر به سيدنا المصطفي صلى الله عليه وسلم, قال صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)) [3] ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الزوجة التي تعصي زوجها في المعروف فيبيت غضبان عليها تبيت تلعنها الملائكة [4] , فالمرأة الصالحة ذات الدين تطيع زوجها إذا أمرها بمعروف أما إذا أمرها بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ثالثاً تحفظ سره, تحفظ زوجها في غيابه سواء في سره لا تبوح به لأحد أو في ماله لا تبذره أو تحفظه في نفسها فإنها عرضه فتحفظ نفسها من الشبهات وتحفظ نفسها من الحرام. هذه هي صفات المرأة الصالحة التي يجب أن تختارها أيها المسلم وأن تظفر بها, فإذا ظفرت بها فاحرص على إكرامها والقيام بحقوقها هذا واجبك بأمر الله تعالى وبأمر نبيه صلى الله عليه وسلم ولهذا الحديث بقية إن شاء الله.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا علي خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [5] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارضى اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أبو داود كتاب الزكاة وسنده جيد كما قال العراقي الفتح (3/320).
[2] أبو داود كتاب الزكاة (1664).
[3] الترمذي كتاب الرضاع (1159).
[4] مسند أحمد (4/439).
[5] صحيح مسلم (408).
(1/622)
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
الإيمان, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, خصال الإيمان
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف الصديق في حماية الرسول والدفاع عنه. 2- موقف أنصارية يوم أحد. 3- خبيب
في ساحة الشهادة. 4- عثمان لا يتقدم على رسول الله محبة له. 5- أم حبيبة تطوي الفراش عن
أبيها. 6- عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول يقف في وجه أبيه حباً لرسول الله ودفاعاً عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
فقد تعرفنا على ما يجب علينا من حقوق تجاه نبينا الذي جعله الله تعالى رحمة مهداة للبشرية كلها ، وبعثه بشيرا ونذيرا ، فهدى به من الضلالة ، وفتح به أعيننا عميا وقلوبا غلقا، فحل من الناس محل الروح ، وشغل منهم مكانة القلب ، وهو الذي جمع الله أسمى صفات الكمال والجمال وأبلغ معاني الحسن والإحسان ، اندفع إليه الناس بالحب الصادق ، أحبه المؤمنون الصادقون وأطاعوه وآثروه على النفس والأهل والمال والولد ، فكان ذلك شاهدا صادقا على إيمانهم ولعله من الخير أن نقف على بعض الشواهد من حياة الصحابة الكريمة تدلنا على صدق المحبة الحقيقية العميقة وتبين لنا كيف تكون هذه المحبة والطاعة :
1-فهذا أبو بكر الصديق لما قام يدافع عن النبي : ضربوه ووطئوه بأقدامهم ، ثم حمله بنو تميم ولما تكلم في آخر النهار كان أول ما قال: ما فعل رسول الله ، ثم بعث زوجته إلى أم جميل بنت الخطاب لتسألها عن رسول الله ، ثم جاءت أم جميل ورأت أبا بكر،وأخبرته بخبره ، فقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى آتي رسول الله ، وفي الليل خرج حتى أتاه.
2-وهذه امرأة من الأنصار قتل أخوها وزوجها وأبوها يوم أحد مع رسول الله فقالت : ما فعل رسول الله ، قالوا خيرا هو بحمد الله كما تحبين ، كل مصيبة بعدك جلل.
3-أما خبيب الصحابي الشهيد لما غدر المشركون به وبإخوانه من القراء ثم أعطوه لأهل مكة ليقتلوه ، ووضعوه على الخشبة نادوه قائلين : أتحب أن محمدا مكانك ،فقال : ماأحب أن محمداً في مكانه وتصيبه شوكة.
4-ومن حبهم لرسول الله أن أحدهم ما كان ليقدم على عمل فيسبق به رسول الله فعند ما بعث عثمان إلى مكة قبل صلح الحديبية ليفد على قريش قال المسلمون هنيئا لعثمان لعله طاف بالكعبة ، ولما جاء قال : والله ما كنت لأقدم على ذلك قبل أن يطوف رسول الله.
5-وكان لرسول الله مكانة أكبر من مكانة الوالد في النفوس ، فلما قدم أبو سفيان إلى المدينة ودخل على أم حبيبة ، طوت الفراش عنه رغبة بفراش رسول الله أن يجلس عليه كافر.
هذا الحب للرسول يدفع إلى الانقياد والطاعة ، لما أحبه القوم أحبوه بكل قواهم ، فأطاعوه وانقادوا ولأمره انقيادا يمثله قول سعد بن معاذ عن نفسه وعن الأنصار قبل بدر ، يا رسول الله: لقد آمنا بك وصدقناك ، صل حبل من شئت واقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت ، وما أخذت كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك ، فوا الله لئن سرت إلى برك الغماد لنسير معك.
ومن أعجب الأمثلة على الطاعة للرسول وإيثاره على النفس والأهل والعشيرة ما روي عن عبد الله بن أبي بن سلول حين منع أباه من دخول المدينة إلا بإذن رسول الله.
وهذه المحبة والطاعة لها أثرها الكبير في الالتزام بأحكام الله وشرعه وتجدون مثلا رائعا على هذا في قصة تحريم الخمر ، انتهينا يا رب.
أيها المؤمنون :
هذه أمثلة سريعة تعلمنا الحب الحقيقي للرسول والطاعة له ، وبها يكتمل أي من إيمان المرء ، وإن متابعة سنة النبي والاقتداء به في كل أمور حياتنا لهو واجب من أوجب الواجبات علينا ، وإنه لمن العقوق للرسول ، ومن الخيانة للدين : أن نترك القدوة برسول الله لنقتدي بغيره ، وأن نترك أخلاقه لنتخلق بأخلاقٍ غيرها ، وأن نزعم أننا نحبه ونؤمن به ثم لا نطيعه فيما جاء به.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/623)
النصيحة لأئمة المسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الحكام إلى النصيحة. 2- علماء الإسلام يقومون بواجب النصيحة لحكامهم.
3- واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن أقدار الله تعالى تضع بعض الناس في مواطن المسؤولية والريادة للأمة ، يبصرونها بالطريق ويقودونها للخير والفضيلة والإصلاح.. وما أحوجهم عندئذ إلى النصيحة الصادقة التي تبتعد عن التملق الكاذب والمديح الباطل..
إن الصدق فضيلة والشجاعة فضيلة. ومن الصدق والشجاعة تنبعث فضيلة الصراحة والجهر بالحق والنصح للأصدقاء والزعماء ، وليس أحد في الدنيا إلا وهو معرض للخطأ والغفلة والانحراف ، وليس كل واحد يعرف عيب نفسه أو يفكر فيه ويهتدي إليه ، وإنما ذلك شأن الأعوان والأصدقاء ، فمن كان عظيم الهمة راجح العقل ، لم يترفع عن نصح الناصحين وموعظة الواعظين ، فإنه لا تنشأ العداوة بين الأصدقاء ولا تسوء أوضاع الأمة وأحوالها إلا من ترك هذا الخلق الاجتماعي ، وخلق النصح والجهر بالحق.
ومن استعرض التاريخ قديمه وحديثه ، أيقن أن سر عظمة الأمة وفاؤها للحق مع من تحب من الزعماء وتطيع من الرؤوساء ، فلا تبخل بتأييدهم عندما يصيبون ، ولا تتردد عن نصيحتهم عندما يخطؤون.. حتى إذا تخلت الأمة عن هذا الخلق ، أذنت شمسها بالأفول ومجدها بالانهيار ، وإننا لنجد في تاريخ سلفنا الصالح أروع الأمثلة على صدق اللهجة ووفاء الأخوة والقيام بواجب النصيحة مع الترحيب والنقد البريء والموعظة الحسنة ، فهذا عمر بن الخطاب يقول للناس : اسمعوا وأطيعوا ،فيقوم رجل ويقول: لا نسمع ولا نطيع ،ويتساءل أمير المؤمنين عن السبب،فيخبره الأعرابي بما ظنه جوراً ،ويجلي عمر له الموقف فيقول:الآن نسمع ونطيع.
وهو نفسه الذي يحكم في قضية يخطئ فبين له علي الخطأ فيقول: لولا علي لهلك عمر.. وقال له أحد أصحابه يوماً: اتق الله يا عمر ،فهم به بعضهم، فقال: دعوه، فلا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها.
وإذا تجاوزت عهد الخلافة الراشدة إلى عهد هارون الرشيد في الدولة العباسية وجدتم النصيحة الصادقة يوجهها المؤمنون الصادقون والعلماء المخلصون: فقد كان سفيان الثوري صديقا الراشدة قبل الخلافة ولما ولي الخلافة انقطع عنه سفيان.. وكتب له: ((من أين لك يا هارون أن تغرق العطاء على الناس ، وهو حق الأرملة والمسكين والفقير؟ وما جوابك بربك غدا إذا جاءك هؤلاء يخاصمونك بين يديه ويقولون : يا ربنا سل عبدك هارون فكم منعنا حقنا وأعطاه من لا يستحقه ؟ فبكى هارون وعلم أية نفس عظيمة ينطوي عليها ذلك الرجل العظيم سفيان الثوري)). ولما طلب هارون الرشيد من رئيس القضاة أن يبين له أصول جبابة الأموال وتوزيعها كتب له ناصحا : إن الله قد قلدك أمرا عظيما ، ثوابه أعظم الثواب ، وعقابه أعظم العقاب ، قلدك أمر هذه الأمة فأصبحت وأمسيت وأنت تبني لخلق كثير ، قد استرعاكهم الله وأئتمنك عليهم ، وليس يلبث البنيان إذا أسس على غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد فيهدمه على من ينهاه وأعان عليه ، فلا تضيعن ما قلدك الله من أمر هذه الأمة.
ولما بنى عبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء في بلاد الأندلس : تفنن في بنائها وجعلها من أعاجيب الدنيا ، وكان مما بناه فيها ((الصرح الممرد)) اتخذ لقُبته قراميد من الذهب والفضة.. فكان في قرطبة العالم الفقيه منذر بن سعيد رئيس القضاة فخطب بين يدي الناصر وتلا قول الله تعالى: أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ثم وصله بقوله تعالى: متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى. ثم أخذ يذم الإسراف في الإنفاق والبنيان ، وقال مخاطبا الناصر: ما ظننت أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ ، ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكين مع ما أتاك الله وفضلك به على العالمين حتى أنزلك منازل الكافرين.
فاقشعر الناصر من هذا وقال له: انظر ما تقول؟ فقال: نعم، أليس الله تعالى يقول: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون.
أيها المؤمنون: هذه أمثلة من تاريخنا المجيد تدل على الرفقة والقوة والخلود ، وما أحوج الأمة دائما إلى فضيلة الصدق في النصح والجهر بالحق ، وما أكثرت المملقين الكاذبين والمادحين المغالين الذين يهتفون ويثنون ليملأوا جيوبهم وبطونهم بفضلات من يمدحونهم وينالوا عندهم الكافة إلى حين.
أيها المسلمون: لقد أدبنا الله تعالى فقال: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين. وقال : ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر))، أفليس لك أيها المسلم صديق أو أخ أو أخت أو أبن أو بنت أو أمّ تشعر بأخطائهم وإنحرافهم عن الحق ، فلماذا لا تكون لهم محبا صادقا وفيا تكشف لهم عن أخطائهم برفق ، وتردهم إلى الصواب بغير احتقار ولا تشهير ، وتدلهم على مواطن الحق والخير من غير استعلاء ولا غرور فإن صديقك من صدَقَك لا من صدّقك ، فلا تغضب من أخيك أو صديقك أو جارك إذا قدم لك النصيحة فقد كان عمر يقول رحم الله امرء أهدى إلي عيوبي.
فيا أيها المؤمنون الصادقون: كونوا للحق أنصارا ، وللخير أعوانا، وللخطيئة ناصحين وللمنكر منكرين ، كونوا كذلك إذا أردتم أن تعيشوا أمة لها كرامتها ولها مكانها ولها حقها الذي لا يهضم ، وإرادتها التي لا تحتقر وشخصيتها التي لا تطمس.
وإلا فإن الهلاك والبوار يحيق بالجميع وصدق الله العظيم: وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/624)
الإيمان والتوحيد (1)
الإيمان
فضائل الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الحديث عن الإيمان 2- المرحلة المكية وغرس الإيمان 3- مِنَّة الله علينا بالإيمان
4- علم الكلام والفلسفة أفسدا وأساءا لقضية الإيمان 5- عودة الفلاسفة عن علم الكلام إلى
الإيمان 6- وضوح قضية الإيمان عند أهل العلم والفِطَر السليمة 7- سهولة ويُسر في عرض
الإسلام من رسول الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فقد يقول قائل ما أكثر حديثك عن الإيمان. أليست هناك أمور أخرى تهم المسلمين وهناك مشكلات كثيرة يعاني منها المجتمع ليتك تتحدث عنها.
هناك أمور كثير تهم المسلمين ولكنها كلها تتفرع من قضية الإيمان.
وهناك مشكلات كثيرة يعاني منها المجتمع لكن أهمها وأخطرها ما وقع من الخطأ في إيمان الناس ثم هي سنة المصطفى.
لقد لبث رسول الله في مكة ثلاث عشرة سنة منذ أوحي إليه جعلها في أن يدعو الناس للإيمان بالله وحده.
ولم يُنزل عليه من الشرائع في مكة إلا القليل كالصلاة ثم نُزلت عليه الشرائع تترى في المدينة في مدة ولم تتجاوز عشرة أعوام.
وما امتن الله على رسوله بشيء كما امتن عليه بالإيمان والهداية إليه فقال سبحانه: وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى: 52].
وامتن الله تعالى على عامة المؤمنين بالهداية للإيمان فقال تعالى: بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [الحجرات: 17].
ثم إن ما وقع الناس فيه وتكاثرت عليهم المشكلات وفسدت حياتهم لما وقع الخبث وطغى الفساد على إيمانهم.
الإيمان علم وعمل والفساد اليوم وقع في العلم ووقع في العمل.
كثير من المسلمين اليوم تصورهم العلمي للإيمان في غاية من الفساد وذلك بسبب أن الشياطين انصرفت بهم عما جاء به سيدنا محمد من الوحي المنزل، وذهبت بهم الشياطين كل مذهب، فتارة تحط بهم على وساوس أهل الفساد والفلسفة.
وتارة تحط بهم في زحام أوهام أهل الأوهام والمنكشفين من أهل الشر.
وهان عليهم بسبب ذلك بأمرين ما حجب قلوبهم فلم يعد نور الكتاب والسنة يجدي معهم شيئًا ولا يبدد تلك الظلمات التي غلقت تلك القلوب إلا أن يشاء الله تعالى.
وكثير من المسلمين اليوم وقع الخلل في عملهم، فهناك فجوة كبيرة بين إيمانهم وبين حياتهم وذلك إما بسبب خلو القلوب من الإيمان والعياذ بالله أو بسبب ضعف الإيمان في القلوب ضعفًا شديدًا، وهذا الضعف يتفاوت شدةً ففي بعض القلوب قد لا يبقى من الإيمان فيها إلا بسيط ضئيل ضعيف جدًا يطفئه أول داعٍ من شبهة أو شهوة.
ففي بعض القلوب لم يبق من الإيمان إلا هذا القدر البسيط الضعيف الضئيل الذي يطفئه أول داعٍ من شبهة أو من شهوة.
أيها المسلمون إن قضية الإيمان ليست شائكة ولا معقدة كما يصورها أهل الفساد والفلسفة أو كما يصورها الغارقون في أوهام أهل الأوهام في بحر الأوهام.
فإن الإيمان عند هؤلاء وهؤلاء عند أهل الفلسفة والكلام وعند الخارقين في بحار الأوهام بحار الوحدة وفي بحار الكشوفات، الإيمان عند هؤلاء وهؤلاء أشبه ما يكون بطريق وعر وصعب وكثير المهالك، بل من أعجب ما عند هؤلاء من تصوراتهم الدينية للإيمان أن الجبن عندهم هو طريق الإيمان، الجبن عندهم هو طريق الإيمان.
الجبن عندهم أولاً ثم الإيمان أو كما يعبرون بعباراتهم، الشك هو الطريق إلى اليقين والعياذ بالله تعالى.
إن كثيرًا من المسلمين اليوم لا يدرك حقيقة الإيمان ولا يفهم معنى الإيمان من أجل ذلك وتأكيدًا لأحاديثنا السابقة التي حاولنا أن نشرح فيها معنى الإيمان كما ورد في حديث جبريل عليه السلام وكنا قد وقفنا عند جواب رسول الله على سؤال جبريل لما سأله: ما الإيمان؟ أو قال له أخبرني عن الإيمان.
وتلك الوقفة هي قوله : أن تؤمن بالله [1] ، فقبل أن نعود إلى تكميل شرح معنى الإيمان كما ورد في حديث جبريل سنشرع منذ اليوم إن شاء الله تعالى في بيان حقيقة الإيمان وفضل الإيمان والدعوة إلى الإيمان كما سنّ سيدنا رسول الله.
فكثير من المسلمين كما ذكرت قد شوشت عقولهم وساوس الفلسفة في علم الكلام دعوا بذلك أم لم يدعوا، أو شوشت عليهم أوهام أهل الأوهام من أهل الكشوفات والخرافات، بل كثير من المسلمين المتعلمين اليوم ممن وقع في حبائل تلك الوساوس أو في حبائل تلك الأوهام العجائز اللاتي لم يقرأن كتابًا قط في بيوتهن إيمانهن أحسن إيمانًا منهم، ولذلك فإن عدداً من كبار أئمة علم الكلام والمتفلسفين وكبار الغارقين في بحر الأوهام والمنكشفين عدد من هؤلاء لمّا حضرتهم الوفاة وكشفت رهبة الموت لهم عن الحقائق خضبوا لحاهم بدموعهم خوفًا من الله تعالى وأسفًا على أعمالهم التي ضيعوها وشغلوها بغير كلام الله وكلام رسول الله فلما أدركوا وهم عند الوفاة أنهم قد فاتهم ندب الإيمان عن الله ورسوله لم يجدوا ملجأ يلجأون إليه إلا أن يخلوا ذممهم يخلوا ذمتهم من وساوس علم الكلام وأوهام أهل الأوهام وهتفوا وهم على أبواب الآخرة: اللهم إيمان كإيمان العجائز، يقولون وهم على أبواب الآخرة: اللهم إيمان كإيمان العجائز، يقولون: عفا الله عنا وعنهم: يا رب نلقاك وقد تخلينا عن كل تلك الوساوس والأوهام التي غرقنا فيها وضيعنا أعمارنا فيها ولا نجد اليوم ونحن على أبواب الآخرة ما نلقاك به وقد فاتنا ندب الإيمان عن كتابك وسنة رسولك إلا أن نلقاك بإيمان العجائز اللاتي لم يقرأن كتابًا قط فهو أسلم من إيمان أهل الكلام وإيمان أهل الأوهام وإيمان أهل الهتورات، إيمان العجائز اللائي في بيوتهن ممن لم يقرأن كتابًا قط أسلم من إيمان هؤلاء.
أيها المؤمنون قضية الإيمان قضية واضحة ناصعة كالشمس والطريق إليها سهل معبد ميسور لا كما يتصور أولئك يحتاج للوصول إلى حقيقة الإيمان أولاً إلى أمرين أولاً إلى نظرة سليمة وثانيًا علم بالكتاب والسنة نتلقى منهما الإيمان.
فأما إذا كانت فطرته قد شوشت عليها وساوس البيان والفلسفة أو أوهام أهل الأوهام فإن الجهد عليك مضاعف والعبء عليك ثقيل والواجب علينا أهل الإيمان أولاً أن تخلي صفحتك من تلك الأوهام والوساوس وثانيًا أن تتلقى الإيمان عن الله ورسوله.
الإيمان واضح وناصع كالشمس لا يحتاج إلى كل تلك المداورات ولا إلى كل ذلك اللف والدوران، ولا إلى كل ذلك الجدال، انظر إلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كيف فهموا الإيمان وكيف تلقوا الإيمان وكيف أدركوا حقيقة الإيمان.
يروي البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: بينما نحن جلوس بالمسجد مع النبي مر رجل على جمل فأناخه ثم عقله فقال: أيكم محمد - والنبي متكئ بين ظهرانيهم، بين أصحابه، فلم يعرفه ذلك الرجل - فقالوا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فجاءه فقال له:- بن عبد المطلب قال النبي قد أجبتك، فقال الرجل:- إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجب علي حينًا به، فقال النبي : سل عما بد لك.
فقال الرجل: أسألك بربك وبرب من جاء قبلك آلله بعثك إلى الناس كلهم؟
فقال : اللهم نعم.
فقال الرجل: ناشدتك الله ،آلله أمرك بهذه الصلوات الخمس في اليوم والليلة.
قال النبي : اللهم نعم.
قال الرجل: ناشدتك الله ،آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة.
قال النبي : اللهم نعم.
قال الرجل: ناشدتك الله ، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا وتقسمها على فقرائنا.
فقال النبي : اللهم نعم.
فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي أنا ضمام بن ثعلبة أخلف بني سعد بن بكر.
وفي رواية ابن العباس رضي الله عنهما عند أبي داود أن الرجل جاء النبي فقال: ناشدتك الله إلهك وإله من قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله بعثك إلينا رسولاً؟ فقال النبي : اللهم نعم.
فقال الرجل: وأمرك أن نعبده لا نشرك به شيئًا ونخلع هذه الأمثال التي كان آباؤنا يعملون.
فقال النبي : اللهم نعم.
فآمن الرجل [2].
قضية الإيمان لم تكن معقدة شائكة كما عند أهل الجدال وأهل الأوهام، سأل النبي فأجابه النبي فآمن الرجل بما جاء به النبي هكذا بيسر وسهولة انكشفت له حقيقة الإيمان بفطرته السليمة تلقاها عن الله ورسوله.
وهكذا تجد أصحاب رسول الله إذا دعاهم النبي إلى الإيمان فهموا قضية الإيمان ووعوها بقلوبهم واستجابوا لها ثم تجدهم بعد ذلك صادقين في علمهم وعملهم.
أما نحن اليوم فكثير منا قضية الإيمان عنده أصبحت قضية شائكة صعبة ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا اهدنا إلى الإيمان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين في كل مكان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر هذا الحديث العظيم في صحيح البخاري (50) ، صحيح مسلم (8) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] سنن أبي داود (486، 487) مختصراً، ولم أجده على اللفظ الذي ذكره الشيخ.
_________
الخطبة الثانية
_________
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار. واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ولو لم يبقى من المتمسكين فينا إلا رجلان أو قليل أو أقل من القليل الجماعة هي الكتاب والسنة فعليكم بالجماعة فإن من شذ عن الجماعة فقد شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب: 70،71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/625)
في ذكرى المولد
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شهر ربيع الأول وذكرى الميلاد والهجرة. 2- تكريم الله للإنسانية ببعثة محمد وحفظ كتابه.
3- حب النبي شرط للإيمان. 4- محبة الصحابة لنبيهم. 5- التأسي والاتباع برهان المحبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد :
ما أعظم النور الذي يتألق به الكون عندما تتفتح القلوب على ندى الخير والإيمان ، وينجاب والظلام عن طريق العالمين عندما تثوب النفوس إلى رشدها وتعي أمر ربها ، وتستجيب للنداء الذي يدلها على معالم الطريق القويم.
وتأتي هذه الكلمات مع أيام الله التي تظلنا وتعود إلى ربوعنا التي كاد يأكلها الجفاء والحقوق ، لتحمل إلى دنيا الناس بكثير من الوضوح والتبيان ذكرى مولد سيد العالمين محمد صلوات اله وسلامه عليه ، الذي كان إيذانا بنعمة سابغة على الناس ولتحمل كذلك ذكرى مبعثه الذي كان فجر الأمل للإنسانية التي طال عليها ليل الحماية ، ونذكر هجرته التي كانت عنوان الخروج بالدعوة من حيز التبليغ إلى واقع العمل والتطبيق ، حيث قامت الدولة في المدينة المنورة امتدادا للدعوة في مكة المكرمة ، واتضحت عندئذ معالم المجتمع المسلم القدوة ، تبنيه في المدينة يد النبوة وتشارك في بنائه سواعد المؤمنين ، وذلك بعد ثلاثة عشر عاما في مكة عز على التاريخ أن يجد لها نظيرا في وضوح الرؤية والعقيدة التزام الحق والصبر على المصائب التي ما زادت المؤمنين إلا إيمانا وتسليما ، كما الذهب يوضع في النار ، ثم يعرض على الناس فيخرج أكثر تألقا ونضارة.
ومن خلال ذلك كله ، وفي ظلال الوقائع التي تحكي قصة الهداية والجهاد ، نذكر السيرة العطرة ، التي كانت وما زالت ولن تزال ، نبراس هدى ، ومعالم طريق ، وبرهان التزام بالأمانة وصدق في تحمل التبعات الجسام ، ومنهج رشد لا يزيغ عنه إلا من سفه نفسه ، ودليلا ما بعده دليل حمل القناعة لمن أراد مقنعا بأن رسالة الإسلام هي رسالة الحق والصدق التي وجد الإنسان فيها نفسه بعد الضياع ، حينما أخذت بيده ووجهته وجهة الفطرة ، حيث التوازن التكامل ، ففطرة الإنسان وعقله وأشواقه وقلبه ، وغرائزه وميوله ، وحاجاته ورغباته، كل ذلك من تلك الرسالة بحسبان ، لا تمزق ولا تشتت ولايطغ فيه جانب على آخر ، ناهيك عن الحفاظ على كرامته والعناية الفائقة بكل ما فيه تحقيق إنسانيته وجهوده، مما وفر له أن يعمل في صنع التاريخ بثقة وطمأنينة وأن يدرك حقيقة موقعه في هذا الوجود ، وأن يتعامل مع الله سبحانه ومع الناس ومع الكون من حوله ، على سلم من القيم والمبادئ التي وضعته على طريق السعادة في الدنيا ورضوان الله في الآخرة.
أيها المؤمنون :
لقد أكرم الله تعالى الإنسان فيما أكرمه مرتين : أولاهما : حين أوحى إلى نبيه المصطفى برسالة الإسلام ، وجعل سيرته الكريمة ترجمانا ناطقا لتلك الرسالة.
والثانية : حين حفظ جلت قدرته الكتاب كما أنزله ، وحين وفق من أهل السعادة من حفظوا على الأمة سنة نبيها وسيرته.
أما وقد حفظ الله تعالى كتابه وحفظ بجهود أئمة الهدى الصادقين بيان ذلك الكتاب في سنة رسول الله وسيرته ، فإني أعيذ نفسي وأعيذكم أيها الاخوة المؤمنون من أن يكون حديثنا في شهر ربيع الأول حديث المتعة أو التسلية ، أو حديث الذكرى العابرة التي تنقضي بانقضاء خطبة في الجمعة أو شهر ربيع ، وأعيذ نفسي وإياكم من أن تكن هذه الذكرى عاطفة ثائرة فائرة تدفع إلى اختراع يخترعه الغافلون وأهل الأهواء من مفهومات هي صورة عما هم فيه من تيه وخطأ فهم سيرة النبي ومولده ، تلك الصورة التي ليست من عمل السلف الصالح ومنهجه في قليل ولا كثير.
وعندما نضع الأمور في نصابها ونحكم وحي السماء وسنة النبي ، نجد أن حب النبي والإيمان به شرطا وركنا أساسيا لا يتم الإيمان إلا به: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. وفي الحديث : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت )) ، (( ولا يؤمن أحكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله وولده ونفسه التي بين جنبيه)).
وما وجدنا أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ، وهم خير القرون الذين قال الله تعالى فيهم: كنتم خير أمة أخرجت للناس. وقال عليه الصلاة والسلام في حقهم : (( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )). ويدلك على هذا ما قال خبيب بن عدي لما أخذه المشركون ليصلبوه بعد أن غدروا به.
ولم يكن دليل صدقهم في حب النبي والإيمان به: مولدا يصنعونه لرسول الله أو ذكرى يهيمون بها أياما وليالي ثم ينسون سيرته وسنته وهديه.
إنما كان دليل صدقهم وإيمانهم ومحبتهم هو اتباعهم لسنته : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.. قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم.
أيها المؤمنون : إن الله تعالى الذي ابتعث محمدا وقرن الشهادة برسالته بالشهادة بوحدانيته سبحانه ، هو الذي جعل منه الأسوة الحسنة كما هو صريح القرآن ، كيف لا وحياته : في أقواله وأفعاله وسلوكه وتصريفه لشؤون الحياة في ضوء ما أنزل عليه، هي الترجمان الصادق والناطق العملي لرسالة السماء
وإنه لفهم أبله ، ذاك الذي يقصر التأسي على بعض الجوانب التعبدية أو الأخلاقية في حياة النبي ثم يتأسى بغيره في بعض جوانب حياته ، وإنه لمن العقوق لرسالة الإسلام ولسيرة النبي ومن الكفران بهما أن يؤمن الإنسان ببعض الأحكام ويكفر ببعض ، إذا لا انفصام بين رسالة الإسلام ورسول الإسلام الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وضعها موضعها وأبرزها ومعها برهانها العملي بجانب النص القرآني.
وعلى هذا: فإن صدق الاحتفاء بذكرى مولد الرسول إنما يكون بمتابعة الطريق ، طريقه عليه الصلاة والسلام الذي عاش للدعوة ، وكان لها طول حياته التي وسعت الإنسانية كلها.
ولا ريب في أن عنوان الإضاءة في أي فترة من فترات تاريخنا إنما كان ذلك الحرص على الدعوة والسير في منهجها وتبلغيها ، ممثلا هذا في قوله تعالى خطابا لنبيه عليه الصلاة والسلام، قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين.
فاللهم إنا نبرأ إليك من ذاك العقوق لسيرة النبي ، فهي أمانة في أعناق أبناء هذه الأمة، وهي آكد وآكد في حق من بيدهم مقاليد الأمور على صعيد الفكر والعمل والتنفيذ.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين ، فيا فوز المستغفرين ، استغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/626)
آداب المسجد
فقه
المساجد
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضيلة بناء المساجد. 2- آداب الذهاب للمسجد. 3- آداب داخل المسجد. 4- بناء القبور
على المساجد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لا زال الحديث موصولا عما بدأناه في الأسبوع الفائت عن المسجد ومكانته في الإسلام، فقد حرص رسول الله على بناء المساجد وعمارتها، ففي الصحيحين عن عثمان أنه قال: سمعت رسول الله يقول: (( من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أمرنا رسول الله ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب)).
كما حرص رسول الله على إعلاء مكانة المسجد حتى يكون جديرا بالدعوة التي يدعوا إليها ففيه يُعَدّ المسلم إعدادا جيدا، فيه يصلي وفيه يتعلم، وفيه يعد للدفاع عن دين الله، فالمسجد هو كل شيء في حياة الفرد المسلم، ومن ثم فلا بد من آداب سنها لنا رسول الله بوحي من ربه، آداب يجب أن يتحلى بها كل مسلم في دخوله المسجد وجلوسه فيه وصلاته فيه وخروجه منه، ومن يخالف أمر الله سبحانه وسنة نبيه فإنما يحطم نفسه.
وإذا بدأنا بالمسجد ذاته، فيجب أن يكون نظيفا وأن نتعهده بالنظافة والعناية وخاصة يوم الجمعة، فعن أبي هريرة : ((أن رجلا أسودا أو امرأة سوداء كان يَقُمّ المسجد فمات، فسأل عنه النبي فقالوا: مات ،قال أفلا كنتم آذنتموني به، دلوني على قبره، أو على قبرها، فأتى القبر فصلى عليه)).
وإذا دخل المسلم المسجد فمن الأفضل أن يدخل بقدمه اليمنى قائلا: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حفظ في سائر اليوم، وقال : ((إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك)).
ويجب على المسلم أن يعتاد النظافة والطهارة دائما ويتأكد هذا أكثر عندما يأتي المسجد فيكون نظيف الجسد حسن المظهر، قال الله تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ولذلك استحب التجمل عند الصلاة ولا سيما يوم الجمعة والعيد، ويستحب الطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل اللباس البياض، ولذلك أمر النبي المسلم ألا يأكل البصل أو الثوم، وكل ما له رائحة خبيثة تؤذي المصلين كالدخان عندما يريد إتيان المساجد: ((من أكل من هاتين الشجرتين البصل والثوم فلا يقربن مصلانا أو فليعتزلنا)).
ولا نجد دينا من الأديان يحث على نظافة الإنسان، ظاهرا وباطنا حسا ومعنى كما يفعل الإسلام، فالإسلام دين النظافة فرضها منذ خمسة عشر قرنا وجعلها شعيرة من شعائر الإسلام وأدبا من أهم آدابه الفردية والاجتماعية، أمر الله تعالى بالوضوء والاغتسال والزينة وقص الأظافر والشعر عند إتيان المساجد وامتن علينا بإنزال الماء ليطهرنا به وليذهب عنا الرجس، وهذا كله يجعل المسلم حريصا على النظافة التامة، في شخصه وفي ملبسه وفي بيته وفي مسجده وفي شارعه وفي بلده ،فإنه لا يكون نظيفا ذاك الذي يعني بنظافة جسمه وهندامه ولكنه لا يعني بنظافة شارعه أو حيه، فيلقي فيه الفضلات أو الأوساخ.
انظروا إلى شارع يمشي فيه كل يوم آلاف أو مئات الأفراد، لو أن كل واحد رمى منديلا بعد استعماله أو علبة شراب فارغة بعد شربها أو ورقة بيده ممزقة، لأصبح الشارع أكداسا من القمامة، وإنه لمنظر مؤذ مخالف للأدب والخلق القويم.
وإذا دخل السلم المسجد يجب أن لا يتخطى رقاب الناس وأن يجلس حيث ينتهي به المجلس ويجب مراعاة تكملة الصفوف، وعدم المرور بين يدي المصلين إلا لسد الفرج التي في الصف الأول وما يليه فقد قال لمن كان يتخطى الرقاب: اجلس فقد آذيت.
وإذا ما دخل المسجد فليصل ركعتين تحية المسجد، قال : ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)).
وإذا جلس الإنسان في المسجد فلا يرفع صوته في قراءة القرآن أو ذكر ودعاء لما فيه من تشويش على الآخرين، ويتأكد هذا عند صلاة الجمعة فلا يجوز التشويش ولا اللغو وإنما يجب الانصات إلى الخطبة، ولذلك جاءت الأحاديث النبوية بتحريم نشدان الضالة في المسجد أو اللهو والتجارة قال تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر في اسمه يسبح له في بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
ومن أداب المسجد أن نتم صفوف الصلاة وألا يصلي المرء نافلته بعد أن يسمع الإقامة فقد خرج إلى الصلاة قوم يصلون فقال : ((أصلاتان معا أصلاتان معا ؟!))
ومن باب أولى أنه لا يجوز تعدد الجماعة في وقت واحد
وإذا كانت المساجد قد بنيت لعبادة الله تعالى وتوحيده فينبغي حتما أن تصان عن كل مظهر يتنافى مع التوحيد فلا يتخذ المسجد قبرا ولا تبني المساجد على القبور، فإن في ذلك مخالفة صريحة لسنة رسول الله ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله في مرضه الذي توفي فيه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). فلولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا، وقالت أيضا : لما كان مرض رسول الله تذاكر بعض نسائه كنيسته بأرض الحبشة فذكرن من حسنها ومن تصاويرها، قالت: فرفع النبي رأسه فقال: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) ، والأحاديث في ذلك كثيرة جدا، تنهى عن اتخاذ القبور مساجد وعن كل مظاهر الشرك فينبغي أن تصان المساجد عن ذلك كله قال الله تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً.
وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما يهدم مسجد الضرار وكما ينبش الميت إذا دفن في المسجد، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الأخر منع منه وكان الحكم للسابق، ولا يجوز أن يوضعا معا.
فيا أيها المسلمون : هل من عودة صادقة إلى الينابيع الأولى لهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به وامتن علينا بسببه وجعله خاتم الرسالات وهو سبب عزة المؤمنين وسعادتهم: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا واستغفروا الله العظيم لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/627)
واجب المسلم معرفة السيرة النبوية
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية السيرة – التحذير من الغلو في النبي – الرسول بين مقامين – تهيئة الرسول من صغره لحمل الرسالة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فسوف نشرع من اليوم إن شاء الله تعالى في دروس من السيرة النبوية الشريفة ولكنا لن نقدمها لكم بأسلوب الرواية وسرد الحوادث حسب ترتيبها الزمني كما هو الشأن في أكثر من روى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لأن هذا الأسلوب يحتاج إلي زمن أطول من زمن خطبة الجمعة ولكنا سنعرض لكم قبسات مختارة من سيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم نبين ما فيها من الدروس والعبر ولن نقتصر على حوادث هذه السيرة العطرة بل نمزج بينها وبين ما يلزم بيانه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله وأخلاقه.
و بهذه المثابة فإن علي كل مسلم أن يعرف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لما يأتي :
أولا : لأنها التفسير العملي والبيان التطبيقي لدين الله عز وجل وكلامه المنزل الذي نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب رسالة عظيمة وقد بلغها بقوله وطبقها بفعله فحياته بيان ناصع لهذه الرسالة , أقواله وأفعاله , حركاته وسكناته في الرضا والغضب في اليقظة والمنام في المنشط والمكره , حياته صلى الله عليه وسلم كلها تفسير عملي لدين الله ولكلامه المنزل , قالت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها : ((كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن)) [1]. أي كان يفسر القرآن تفسيرا عمليا بخلقه صلى الله عليه وسلم.
ثانيا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله الله تعالى في مقام الأسوة للمؤمنين , إنه النموذج الأعلى للكمال البشري الذي علينا أن نتأسى به ونقتدي به ونتبعه صلى الله عليه وسلم كثير من الناس يتخذون نماذج من البشر يعجبون بأحوالهم فيقلدونهم ويحاكونهم وربما قلدوهم في سائر أحوالهم حتى في هيئتهم وألبستهم , أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فليس المطلوب منا أن نقلده ونحاكيه وإنما المطلوب أن نتأسى وأن نقتدي به ونتبعه وننقاد لأمره صلى الله عليه وسلم وفرق بين هذا وذاك, فإن التقليد والمحاكاة غالبا ما يكونان عن غير بصيرة بخلاف التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه فإن ذلك لا يكون إلا عن علم وبصيرة لأنه على سبيل التدين والتقرب إلى الله تبارك وتعالى , قال سبحانه لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [الأحزاب:21]. فهذه هي حال من يتأسى بالنبي المصطفي صلى الله عليه وسلم , إنه مؤمن يعرف الإيمان يعرف الله يعرف اليوم الآخر فهو يرجو الله ويرجو اليوم الآخر بل إلى جانب ذلك منقاد لدين الله عز وجل فهو يذكر الله كثيرا وهذه هي البصيرة.
ثالثا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع اقتدائنا به وتأسينا به صلى الله عليه وسلم واتباعنا له يجب علينا أن نوقره ونعظمه ونحبه صلى الله عليه وسلم. بعض الناس قد يقلد عظيما ويتبعه وينقادوا لأمره ولكن لا يلزم لذلك أنه يحبه , قد يقلده وينقاد إليه خوفا منه أو طمعا فيما عنده من عرض الدنيا , أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيجب علينا مع تأسينا به واتباعنا لأمره صلى الله عليه وسلم يجب أن نوقره ونعظمه ويجب أن نحبه صلى الله عليه وسلم وذلك للأمور الآتية :
لأن الله تبارك وتعالى أمرنا بذلك بل لقد قرن سبحانه وتعالى حبه بحب نبيه صلى الله عليه وسلم وجعلهما من أوجب الواجبات وتهدد بالعقوبة من يخل بهما فقال تعال قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون فسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [التوبة:24]. فبين لنا ربنا عز وجل في هذه الآية أن حبنا لله وحبنا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أعظم من حبنا وميلنا لهذه الأشياء المذكورة ولغيرها من محبوبات الدنيا.
و ثانيها لأن الله سبحانه وتعالى أحب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم , يجب أن نحب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله جل جلاله أحبه بل لقد اتخذه خليلا والخلة درجة أعظم من المحبة فمن كان يحب الله فيجب ويلزم أن يحب محبوبات الله وأعظم محبوبات الله وأجلها هو سيدنا المصطفى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك فإن أكبر علامة على حب العبد لربه حبه لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والدليل على صحة حبه لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو اتباعه له وتأسيه به صلى الله عليه وسلم ولذا قال سبحانه قل أي يا محمد قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31]. أي إن كنتم تزعمون أنكم تحبون ربكم فعليكم أن تحبوني وإذا أحببتموني لزمكم أن تتبعوني.
أن شخصيته أهل لأن تحب فإنها تمثل جانب الكمال البشري بكل ما في هذا الكمال من حسن وجمال , كما تمثل جانب الوحي الإلهي بكل ما في هذا الجانب من جلال وقدسية فشخصيته صلى الله عليه وسلم جمعت بين جمال الكمال البشري وروعة وجلال الوحي الإلهي فكيف لا تحب. لا يصح إيمانك يا مؤمن ولا يقبل إسلامك يا مسلم إذا لم تحب سيدنا المصطفى ونبينا المجتبى محمدا صلى الله عليه وسلم بل لا يكمل إيمانك حتى يكون حبه في قلبك أعظم من حب غيره من المخلوقين , قال صلى الله عليه وسلم: (( فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده )) [2]. وفي رواية: (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )) [3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (746).
[2] صحيح البخاري (14) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري (15) ، صحيح مسلم (44) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد إذا أردت يا مسلم أن تنمي حبك للخليل المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فعين من ساعات عمرك الذي تبدده في كل ما هب ودب ساعة في كل يوم أو في كل أسبوع حسب همتك ونشاطك تقضيها مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة أو مسموعة , وإذا ما فعلت ذلك في أسرتك مع أهلك وأولادك أبنائك وبناتك فقد قمت بواجبك في هذا الصدد أحسن قيام , وعليك إن كنت ممن يقرأ أن تحرص على الكتب المحققة التي ألفها المحدثون والعلماء المحققون وميزوا فيها بين الصحيح والمكذوب من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وإياك أن تقع في حبائل الكذابين من القصاصين وطواغيت الخرافة الذين حولوا السيرة الشريفة التي هي التفسير العملي لهذا الدين كما بينا حولوها إلى مجرد حكايات متكلفة مصنوعة تختلط فيها الأكاذيب بالحقائق.
و من العجيب أن من مشكلاتنا الحاضرة أننا مازلنا نفتقر إلى كتب تقدم لنا السيرة النبوية العطرة بأسلوب يجمع بين التحقيق بين أسلوب الخطاب, أسلوب الخطاب الذي تراعى فيه أحوال الناس اليوم وعقولهم ومداركهم وافهامهم , مازلنا نفتقر إلى كتب في السيرة النبوية العطرة تخاطب الصغار وتخاطب الفتيان المراهقين بأسلوبهم ولغتهم كما تخاطب الكبار بما يناسب عقولهم ومستوياتهم ومداركهم , فإن أكثر كتب السيرة الموجودة إلى اليوم إنما ألفها علماء للعلماء فلذلك يعسر فهمها على غيرهم ونادرا ما تجد كتابا يفهمه غيرهم قد ألف بأسلوب يعرفه الناس بحسب مكانهم وزمانهم , وكذلك نحن بأمس الحاجة إلى أشرطة مسموعة تعرض السيرة لمن لا يقرؤون. فأين أرباب الأقلام وأين أرباب صنعة الإعلام ما لهم يتقاعسون ويتخلفون ؟ لماذا لا ينشطون ويقومون ؟. إذا دخلت المكتبات وجدت أكداسا من الكتب وأكداسا أخرى من الأشرطة المسموعة وفي قليل منها خير وفائدة, أكثرها لا يحتاج إليه الناس أو لا يفهمه معظمهم.
فيا حملة الأقلام ويا أرباب صنعة الإعلام , لماذا لا تؤلفون كتبا تعرض السيرة النبوية للناس في هذا العصر بحسب مستوياتهم ؟ لماذا لا تقدمون لهم أشرطة مسموعة فيها إتقان الصنعة الإعلامية ؟ لماذا تشغلون المسلمين وتبددون أعمارهم بما لا يفيدهم أو بما لا يفهمونه.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم (( من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا )) [1]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/628)
الثقة في التعاملات بين المسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها المؤمنون: فقد أنعم الله تعالى على المسلمين عندما أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث والمضار، ولكن عجيب شأن المسلمين، إنهم جعلوا هذا وراءهم ظهريا، فوقعوا باللحم الحرام يأكلونه وبالفاكهة الفاسدة الحرام يلتهمونها ؟
إنها الغيبة، التي يذكر فيها الإنسان أخاه المسلم بما يكره، ويظن أنها أمر سهل بسيط، ويحسبه الناس هينا وهو عند الله عظيم.
فإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم، وقد قال بعض التابعين لأصحابه إنكم تعملون أعمالا ترونها هينة، كالذباب يقع على أنف أحدكم يقول له هكذا ؟ كنا نعدها على عهد أصحاب رسول الله كأمثال الجبال.
فيا معشر المسلمين: إن الإسلام قد جعل للمسلم حقوقا على أخيه فلا يجوز أن يتساهل فيها، لقد قال في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) ، وإن الله سبحانه لما وهب الإنسان السمع والبصر واللسان أوجب عليه أن لا يستعملها كلها إلا في الخير وفي طاعة الله.
والغيبة انتهاك لحرمة المسلم وعرضه، ووقيعه فيه، وإنها تخوض في الحرام، وانحراف بنعمة اللسان الذي ينبغي أن نحفظه فلا نقول به إلا خيرا، ولقد أوصى النبي معاذا فأخذ بلسانه وقال: ((كف عليك هذا، قال معاذ: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)).
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أتدرون الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) ، والبهتان هو أعظم الكذب والافتراء.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قلت للنبي حسبك من صفية أنها كذا وكذا، تعني قصيرة، فقال : لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)) ، أي خالطته مخالطة يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها. فما بالكم يا معشر المسلمين: بمن يجلسون يوم في مجالسهم ولا يقولون كلمة واحدة كهذه، ولكنهم يضعون أخاهم على السُفّود، يسلقونه بألسنة حداد، ويشرحونه بمباضعهم أوصالا، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وهم لا يألون جهدا في التندر بشأنه وكشف ستره ونشر عيوبه، بل يجتهدون في أن يستخرجوا أباءه وأجداده من قبورهم، لينهشوا الجميع ويأكلوا لحومهم أحياء وأمواتا، ويغفلون عن الجزاء الذي ينالونه يوم القيامة، وقد حثنا رسول الله عن هذا الجزاء فقال: ((لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذي يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)).
وعن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي ، فارتفعت ريح نتنة، فقال رسول الله : ((أتدرون ما هذا الريح ؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)).
وعن ابن عمر سمعت رسول الله يقول: ((ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج لما قال)) وردغة الخبال هي عصارة أهل النار.
يا معشر المسلمين :إن في النفوس بقية من خير وإيمان، لا يجوز أن نهملها، وإن في النفوس أيضا استعدادا للتسامي والرفعة يجب أن نتعهده، لعلنا بذلك نرتقي إلى مستوى هذا الدين الذي أكرمنا الله به والى مستوى الخلق الذي ربى عليه أصحابه، فأبعدهم عن كل الرذائل والموبقات عندما سلك بهم طريقا في التربية ذا مسالك متعددة : يبعدهم فيها عن الغيبة.
دعاهم باسم الحجة والبرهان، ثم دعاهم باسم الإيمان، ثم دعاهم باسم الحس والوجدان، دعاهم باسم الحجة والبرهان قائلا يا أيها السامرون الذين نصبوا أنفسهم حكما فيما بينهم وبين الناس فلأنفسهم أبدا الرضى والثناء والحمد، ولغيرهم أبدا الهجاء والسخط والذم، هل أعددتم أنفسكم حقا لهذا الحكم؟ وهل أحطتم علما بما فيه تحكمون؟ هلا بدأتم بالحكم على أنفسكم قبل أن تحكموا على غيركم؟ وهلا شغلتكم عيوبكم عن عيوب إخوانكم؟ وهل أنتم أمنتم أن ينقلب الميزان فيكون الحكم عليكم لا بكم؟: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن.
ثم دعاهم باسم الإيمان قائلا: يا معشر الهمازين اللمازين المغتابين، إنكم لا تدركون حقيقة ما تفعلون، ولو فكرتم قليلا لعرفتم أنكم لا تعيبون إخوانكم فحسب، ولكن تسبون ربكم أيضا، فإن أكثر ما تتفكهون به من عيوب الناس هي عيوب لا ذنب لهم فيها، عيوب ألوانهم، وعاهات أبدانهم، مظاهر فقرهم ورقة حالهم، خمول أنسابهم، ومهن أبائهم، ألم تعلموا أن الله هو الذي أعطى كل شيء خلقه، وركبه في الصورة التي اختارها له، وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقبضه عندما يشاء، وهو الذي قسم معيشته، ورفع بعضا عليه أو ميزه بدرجة من الدرجات، فلو عبتموه كنتم تعيبون الرحمن في صنعته، وتتعقبون حكمه في تدبيره، فاحذروا الكفر بعد الإيمان، والجاهلية بعد الإسلام: ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هو الظالمون.
وأخيرا دعاهم باسم الحس والوجدان، إن أردتم أن تعرفوا كنه الغيبة وحقيقة مرتكبيها، فانظروا إلى مائدة ممدودة قد ألقي عليها فريسة من البشر، وحولها شرذمة من الخلق، جلودهم جلود البشر، وقلوبهم قلوب النمور، وقد جعلوا ينالون من هذه الفريسة، قضما بأسنانهم ولعقا بألسنتهم؟ هؤلاء الذي يفعلون ذلك أترونهم من البشر؟ أم من فصيلة أخرى تأكل لحوم البشر؟ فكيف لو كانت هذه الفريسة عاجزة مجردة من كل سلاح، ثم هي من قبل ومن بعد أخ لمن يأكلها في أسرة الدين والنسب، تلك هي جريمة الغيبة كما صورها الله تعالى في كلمات بليغة خالدة فقال: ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/629)
التناصح بين المسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
كل بني آدم خطاء. 2- التحذير من ترك التناصيح. 3- آداب النصيحة (التثبت – التماس العذر
- قبول العذر والرأي – سرية النصيحة). 4- متى نتوقف عن النصيحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فليس فينا معشر البشر من لا يخطئ ولا ينحرف عن سنن الحق، بل إن فينا من الغرائز والطباع ما يميل بنا إلى الرشد والغي، والخير والشر، وليس كل إنسان يعرف خطأه أو يهتدي إليه، وبذلك كان من حق الأخ على أخيه أن يبصره وينصح له في أمره، إبقاء على حق الاخوة ودفعا للأذى عن أخيه وعن المجتمع كله.
ويوم يتساهل الناس في هذا الحق، فيتملق الصديق صديقه، ويهمل الأخ حق أخيه عليه في نصح والإرشاد تسوء علائق بعضهم ببعض، وتنقلب الصداقة عداوة، ويموج المجتمع عندئذ بالشر والإثم، فقد أخبرنا الله تعالى أن بني إسرائيل استحقوا اللعنة والحرمان لأنهم كانوا لا يتناهون عن المنكر: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.
إلا أن حدود النصيحة قد اضطربت عند كثير من الناس، فانقلب بعضهم إلى التشهير كما انقلب آخرون إلى التملق، وفي ذلك من الشر ما يربو ويزيد على الخير، ولذلك كانت النصيحة على مراتب:
أولها: أن لا تبادر إلى تصديق ما يقال عن جارك أو صديقك أو أحد ما من الناس، بل تتثبت في ذلك حتى تستيقنه ،فإن الناس اعتادوا إشاعة السوء، وهم إلى إساءة الظن أسرع من إحسانه فلا تصدق كل ما يقال ولو سمعته من ألف فم حتى تسمعه ممن شاهده بعينه، وعندئذ يجب عليك التأكد والتثبت والبعد عن الظن والوهم: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ، وإذا رأيت من أخيك أمرا، أو سمعت عنه كلاما يحتمل وجهين، فاحمله محملا حسناً وأنزله منزلة الخير، فإن ذلك ألصق بالأخوة وأجدر بمكارم الأخلاق، وانظروا كيف يلتمس الإنسان لأخيه العذر: فقد قالت امرأة لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف وكان أجود قريش في زمانه، قالت: ما رأيت قوما ألأم من إخوانك، قال لها : لما ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال لها : هذه والله من كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بحقهم.
وثاني خطوات النصيحة: أن تقدر طباع الناس، وأن تعرف أنهم ليسوا ملائكة ولا أنبياء فلا تطمع أن لا تعثر على زلة أو هفوة لأحد من إخوانك، ولكن احمل ذلك على الضعف الإنساني الذي لا يكاد يخلوا منه أحد، وانظر أنت في نفسك ألا تقع في مثل تلك الزلات، فلماذا تريد من الناس مالا تريده من نفسك، وما أروع قول الله تعالى في وصف النفس الإنسانية على حقيقتها عندما يقول على لسان امرأة العزيز: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.
وما أجمل قول الشاعر:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ؟ كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه !
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: ما أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصه، ولا أحد يعصي الله ولا يطيعه فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل.
وثالث خطوات النصيحة: أن لا تحاكم الأمر الذي تريد إنكاره وتحكم عليه بالخطأ والانحراف، من وجهة نظرك فحسب، بل انظر إليه من وجهة نظر صاحبه أيضا، فقد يكون مجتهدا فيما رأى، متحريا الخير فيما سلك من سبيل، فلا تسارع إلى الإنكار عليه، وما دام من الممكن أن يكون له وجه من الحق ودليل من الرأي.
ورابع خطوات النصيحة: إذا تأكدت من الخطأ والانحراف، وليس هنالك مجال لعذر أو شبهة، وجب أن تقدم النصيحة إلى من تنصحه سرا، بينك وبينه، لا أمام الناس ولا على ملأ من الأشهاد، فإن النفس الإنسانية لا تقبل أن يطلع أحد على عيبها.
إنك إذا نصحت أخاك سرا بينك وبينه كان ذلك أرجى للقبول وأدل على الإخلاص، وأبعد عن الشبهة، وأما إذا نصحته علنا فإن في ذلك شبهة الحقد التشهيد وإظهار الفضل والعلم، وهذه الحجب تمنع من استماع النصيحة والاستفادة منها، ولقد كان من أدب رسول الله في إنكار المنكر أنه إذا بلغه عن جماعة مما ينكر فعله، لم يذكر أسماءهم علنا وإنما يقول: (( ما بال أقوام يفعلون كذا..)) وهذا من أرفع أساليب النصح في التربية يدلنا عليها المربي الأكبر رسول الله قال رجل لعلي بن أبي طالب أمام الناس: يا أمير المؤمنين : إنك أخطأت في كذا وكذا.. وأنصحك بكذا وكذا، فقال له علي: (( إذا نصحتني فانصحني بين وبينك، فإني لا آمن عليكم ولا على نفسي حين تنصحني علنا بين الناس)).
وقيل يوما لبعض العلماء: أتحب من يخبرك بعيوبك؟ فقال: إن نصحني بيني وبينه فنعم، وإن مرّعني بين الملأ فلا. وهذا هو الحق فإن النصح في السر حب وشفقة.
والنصح في العلن انتقاص وفضيحة، وهذا هو قول الشافعي رحمه الله: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه.
أما الذين يشهرون بعيوب الناس ويهتكون حرماتهم في المجالس بحجة النصح والجهر بالحق، فذلك جهل بدين الله شائن، وتلك هي الغيبة التي نهانا الله عنها ورسوله، وليست النصيحة إلا أن تذكر أخاك إذا أخطأ وتنصحه إذا انحراف، وليست الغيبة إلا أن تذكره بما يكره وهو غائب عنك.
نعم، إنك إذا نصحت إنسانا مرة بعد مرة، واستمر في إثمه ومخازيه وكان ممن يؤتم به أو يستمع لقوله : جاز لك أن تذكر للناس ما هو عليه التحذير من اتباعه، لا للتشهير به شخصيا، فإن التشهير لا يجوز في حال من الأحوال مهما كان الباعث على ذلك فقد علمنا الله تعالى أن نتبرأ من أعمال العصاة فقال: لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لبنيت الكعبة على قواعد إسماعيل ولجعلت لها بابين بابا يدخل منه الناس وبابا يخرجون منه فهذا امتناع من إصلاح في وضع البيت الحرام خشية أن يؤدي إلى فتنة الناس في دينهم وهذا هو الفقه في دين الله تعالى، أن لا تزيل الشر بما هو أشد، وأن لا ترفع الضرر بما هو أكبر منه.
فيا أخي المسلم: إذا استوت لك خطوات النصيحة هذه، ورأيتها واجبة عليك، فينبغي أن تؤدها برفق وأسلوب لا ينفر من تنصحه، ولا تبدوا أنك متعال عليه، فقد أرشدنا الله تعالى إلى ذلك فقال: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، فما أحوجنا أيها المؤمنون إلى الناصحين الصادقين، الذين يصلحون ما أفسد الناس ويقومون ما طرأ من اعوجاج، فاللهم اجعلنا هداة مهدين راشدين، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/630)
سلامة الصدور
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سلامة الصدر على المسلمين واجب ديني. 2- جهد الشيطان في التحريش بين المؤمنين.
3- فضيلة الإصلاح بين المتخاصمين. 4- التحذير من أسباب الخصومة. 5- قصة في سلامة
الصدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون:
فإن الله تبارك وتعالى ينظر إلى العباد من خلال قلوبهم، فإذا كان المرء نقيا من الغش والضغينة، برئيا من العوج والغل، أقبل عليه برحمته، وضاعف نصيبه من بركته، وكان إليه بكل خير أسرع.
أما إذا كان محصورا في مطامعه، ضائقا بخير الله عند خلقه، فهيهات أن يصح له عمل أو ينجح له أمل أو يستقيم له خلق.
المسلم حقا، أيها المسلمون: إنسان تمتد مشاعر حبه فتغمر ما حوله، وتفيض على الآخرين سلاما وأمنا، والجماعة المسلمة حقا هي التي تقوم على عواطف الحب المشترك، والود الشائع والتعاون المتبادل فهي كما وصفها الله تعالى بقوله عن المؤمنين الأولين: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
أما إذا كان المسلم يعيش في خصومة مع آخرين ويملأ قبله غلا وحقدا عليهم، ويوسع صدره بالأحقاد على الآخرين فإن ذلك يشل إيمانه، ويسقط مروءته، ويوجب عليه اللعنة.
وربما عجز الشيطان أن يجعل من الرجل العاقل عابد صنم، ولكنه وهو الحريص على إغواء الإنسان وإيراده المهالك، لن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربه، حتى يجهل حقوقه أشد مما يجهلها الوثني المُخرّف، وهو يحتال لذلك بإيقاد نار العداوة في القلوب، فإذا اشتعلت هذه النار استمتع الشيطان برؤيتها وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم قال رسول الله : ((إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكنه لم ييأس من التحريش بينهم )).
وهذا التحريش بين المصلين فهي إفساد لذات بينهم وهذا له خطره الشديد على دينهم. قال : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هو الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)). وذلك لأن الشر إذا تمكن في النفوس تنافر ودها، وارتد الناس إلى حال من القسوة والعناد، يقطعون فيها ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، ولذلك أيها المسلمون ينبغي التقيظ لبوادر الجفاء كي نلاحقها بالعلاج قبل أن تستفحل، وتتحول إلى عداوة فاجرة، وإن كان في الحياة ما قد يدفع الإنسان إلى شي من النزاع المعتاد نظرا لتشابك العلاقات والمصالح، فإن الإسلام لا يجيز للمسلم أن يسترسل في العداوة أو المقاطعة أو الإساءة فقد قال : ((لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يجر أخاه فوق ثلاث..)) ففي هذا التوقيت بثلاثٍ فرصةٌ لتهدأ الحدة وينطفئ الغضب، ويراجع كل واحد من المتخاصمين نفسه، ويعيد حساباته، ويفيء إلى رشده، ثم يكون لزاما عليه أن يواصل إخوانه وأن يعود إلى سابق سيرته الحسنة معهم. وإن كان في خصومته لهم ظالما لهم عاديا عليهم فينبغي أن يقلع عن غيه وأن يصلح سيرته، وأن يسترضي أخاه فقد قال رسول الله : ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
أما إن كان الحق له، أو كان مظلوما من أخيه، فإن الإسلام يرغبه في أن يتسامح معه وأن يلين له المعاملة وأن يمسح أخطاء الأمس بقبول المعذرة عندما يجيء إليه أخوه معتذرا عما بدر منه ومستغفرا، فمن اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل منه كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس، وبهذا الإرشاد للطرفين جميعا يحارب الإسلام الأحقاد، ويرتقي بالمجتمع المؤمن إلى حد مستوى رفيع من الاخوة المتبادلة والمعاملة العادلة، فإنه من دلائل الصغار وخسة الطبع أن يرسب الغل في أعماق النفس، ثم يدفع صاحبه إلى إيذاء الآخرين والإفساد فيما بينهم بشتى ألوان الإفساد، فقد روى ابن عباس أن رسول الله قال: ((ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى، إن شئت يا رسول الله، قال: إن شراركم الذي ينزل وحده ويجلد عبده ويمنع رفده، أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا بلا. قال: من يبغض الناس ويبغضونه، قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا بلى، قال: الذين لا يقيلون عثرة، ولا يقبلون معذرة، ولا يغفرون ذنبا، قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا بلى، قال: من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره)).
فهذه أطوار للحقد عندما تتضاعف علته وتفتضح سوأته، ولا عجب فمن قديم أحس الناس حتى في جاهليتهم: أن الحقد صفة الطبقات الدنيا من الخلق وأن ذوي المروءات يتنزهون عنها، حتى قال الشاعر الجاهل:
لا يحمل الحقد من تعلوا به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب
وسلامة الصدر ونظافة النفس بعد ذلك، ثمرة من ثمرات الإيمان، الصادق الذي يقود صاحبه إلى الجنة، فعن أنس بن مالك قال: كنا جلوسا عند النبي فقال: ((يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة.. فلما قام تبعه عبد الله بن عمرو، لينظر عبادته ،فلم يجده كثير نافلة ،فسأله عن سر شهادة الرسول له فقال: ليس مني إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ،ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه)).
لذلك أيها المسلمون : حرم الله تعالى الحسد: (( إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب )). وحرم الغل والحقد، وحرم الغيبة والنميمة، وحرم البذاءة والجفاء وأمر بالإيثار والتعاون، وحث على المحبة وتقديم الخير وإشاعته في المجتمع ليكون ذلك شفاء للصدور: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/631)
الإيمان والتوحيد (2)
التوحيد
أهمية التوحيد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلم طريق الإيمان 2- العلم بالتوحيد 3- الأنبياء يحافظون على التوحيد 4- قصة الشاب
المستأذن في الزنا وحلم النبي صلى الله عليه وسلم 5- غضب النبي حين رؤيته بعض مظاهر
الشرك 6- التأكيد على أهمية التوحيد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد.. من قرأ سيرة سيدنا رسول الله يجد أن دعوته كلها بمرحلتيها المكية والمدنية دارت حول الإيمان.
ففي مكة لبث سيدنا رسول الله ثلاثة عشر عامًا يؤسس في النفوس عقيدة الإيمان ويربيها عليها.
وفي المدينة لبث الرسول عشر سنوات شيد فيها مجتمع الإيمان ودولته فما هي النماذج التي قامت عليها دعوة سيدنا رسول الله إلى الإيمان؟
من تمعن في سيرته وفي سنته بحضور قلب وصفاء فكر وهداه الله إلى الحق بإذنه يجد أن دعوة رسول الله إلى الإيمان قامت على أربعة نماذج:
العلم - والتوحيد - والعمل - والجهاد.
أما العلم.. فهو الطريق إلى الإيمان والوسيلة إلى معرفته، فمن أخطأ هذا الطريق ولم يصل إلى العلم لم يصل إلى الإيمان أبدًا.
والواجب على كل مسلم من العلم العلم الإجمالي والإيمان المجمل، لكن المؤمن كلما ازداد علمًا ازداد إيمانًا وخشية لله تعالى؛ قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر: 28].
ولذلك فأهل العلم التفصيلي أي الذين يعلمون عقيدة الإيمان بالتفصيل أهل العلم التفصيلي والإيمان المفصل أفضل وأعلى من أهل العلم الإجمالي والإيمان المجمل.
وأول واجب من العلم على كل مسلم هو معرفة الله تعالى ثم بعد ذلك يجب عليه من معرفة الضروري في أمور دينه مما يصحح به عمله ويصحح به عقيدته، وأهم ما يجب أن يحرص عليه المؤمن إذا تعلم ألا يخطئ المصادر أن يتلقى العلم من مصدره الصحيح، وهو الوحي الذي جاء به سيدنا رسول الله المتمسك بكتاب الله وسنة المصطفى وهذا كله شرحناه بالتفصيل في خطبنا السابقة والحمد لله.
أما التوحيد فهو باب الإيمان وعنوان الإسلام، رأسهما وأساسهما الذي لا يصح بدونه للعبد إيمان ولا إسلام.
أول واجب على المسلم هو التوحيد وآخر ما يجب أن يلقى به ربه هو التوحيد وافتتح القرآن الكريم بالتوحيد واخُتتم بالتوحيد اقرأ سورة الفاتحة تجد التوحيد في كل أقسامه مودعًا فيها مطولاً فيها، تجد توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية، تجد كل أنواع التوحيد مضمنًا في هذه السورة العظيمة.
واقرأ سورة الناس تجدها كلها توحيدًا من أولها إلى آخرها.
فافتتح القرآن بالتوحيد واخُتتم بالتوحيد.
وأول ما يُدعى إليه الناس التوحيد فمنذ أول يوم من الدعوات النبوية وقف سيدنا رسول الله بمكة يدعو الناس إلى التوحيد ويحذرهم من الشرك ويسفّه ما اتخذوه من آلهة وأنداد دون الله تعالى.
ولم يكن يغضب لشيء مثل غضبه إذا انتهك جناب التوحيد مع أنه لم يغضب ولم يعنف على من جاءه يستأذنه في الزنا بل عالجه دون أن يوبخه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إن فتى من الأنصار أتى إلى رسول الله فقال يا رسول الله ائذن لي في الزنا. فأقبل عليه أصحاب رسول الله فزجروه وقالوا له: مه مه، فقال النبي : ((ادنُ)) فدنا منه فجلس فقال الرسول للفتى: أتحبه لأمك؟ فقال الفتى: لا والله يا رسول الله.
قال الرسول: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم.
قال الرسول: أتحبه لابنتك.
قال الفتى: لا والله جعلني الله فداك.
قال الرسول : ولا الناس يحبونه لبناتهم.
قال : أتحبه لأختك.
قال الفتى: لا والله جعلني الله فداك.
قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم.
قال : أفتحبه لعمتك؟
قال الفتى: لا والله جعلني الله فداك.
قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم.
قال :أفتحبه لخالتك؟
قال : لا والله جعلني الله فداك.
قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم.
فأقبل رسول الله فوضع يده على صدر الفتى وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه.
قال أبو هريرة: فلم يكن ذلك الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء أبدًا [1] ببركة دعوته ودعائه شُفي ذلك الفتى وطهرت نفسه فلم تعد نفسه تهفو إلى الحرام بعد ذلك أبدًا.
هكذا عالج سيدنا رسول الله ذلك الشاب الذي نازعته نفسه بالزنا فجاء يستأذنه في الزنى، لم يغضب عليه ولم يعنفه ولكن عالج في نفسه دون أن يوبخه.
بينما نجد رسول الله يغضب أشد الغضب وينكر أشد الإنكار إذا سمع أو رأى ما يمس جناب التوحيد مهما كان صغيرًا.
فعن عمران بن حصين رضي الله عنه: "أن النبي رأى رجلاً في يده حلقة من صُفْر فقال له ما هذا ؟ قال الرجل:- من الواهنة - أي أنه لبس هذه الحلقة تبركًا بها من أنها تشفيه من الواهنة - فقال انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا". رواه أحمد في مسنده بسند صحيح [2].
وعن أبي الواقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر - أي أسلموا حديثًا - وللمشركين سدرة شجرة كبيرة يعكفون عندها أي يقفون عندها معتقدين فيها متبركين بها يرومون بها أسلحتهم - أي يعلقون عليها أسلحتهم تبركًا بها - يُقال لها ذات أنواط فنظرنا إلى سدرة - أي شجرة كبيرة - فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط - أي اجعل لنا شجرة نتبرك بها كما للمشركين شجرة يتبركون بها ويعلقون عليها أسلحتهم.
فبم أجاب رسول الله ؟ كبّر غضبًا قال: ((الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة إنكم قوم تجهلون، لتتبعن سنن من قبلكم)) أخرجه الترمذي وصححه [3].
فتأمل كيف غضب النبي هذا الغضب الشديد لما رأى ما يمس جناب التوحيد تأمّل كيف استخدم أسلوب التوبيخ الشديد في تعليم التوحيد، لأناس من أصحابه معتدلين حديثي عهد بكفر في أول الطريق ومع ذلك استخدم معهم أسلوب التوبيخ الشديد في تعليمهم التوحيد وتحذيرهم من الشرك. لم يستخدم هذا الأسلوب في تعليم ذلك الفتى الأنصاري الذي كان يستأذنه في الزنا، بل عالج ما في نفسه دون أن يوبخه.
هذا يدلنا على ما بين الأمرين من فرق كبير ويدلنا على شدة أهمية التوحيد لأنه أساس الإيمان وشرط صحة الإسلام.
هذه هي سنة سيدنا رسول الله وهذه طريقته في دعوته، فما بال أناس يستنون بغيرِ سنته واختاروا غير طريقته وسكتوا عن التوحيد بل وأهملوه بل ونهروا الناس عن الكلام فيه وعن تعلمه وينكرون أشد الإنكار على من يحذرون الناس من الشرك أو من ينكر على من وقع فيه بدعوى أن ذلك ينفر الناس أو يفرق بين صفوفهم.
أطريقة هؤلاء خير أم طريقة سيدنا رسول الله ؟
أهي دعوة نبوية أم هي دعوة أعجمية أم هي طريقة سيدنا رسول الله دلت عليها سنته وسيرته فأي طريقة، أي طريقة فضلها هؤلاء على طريقة رسول الله ، ورأي من هذا الذين يضربون به هدي سيدنا محمد.
التوحيد هو أول من دعا إليه سيدنا محمد وقف سيدنا رسول الله منذ أول يوم من دعوته النبوية وقف يدعو الناس إلى التوحيد ويحذرهم من الشرك، وينذرهم بعذاب شديد حتى غضب عليه بعض عشيرته قبل غيره فسبوه وآذوه.
قال له عمه أبو لهب: "تبًا لك سائر اليوم" [4].
تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارًا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد [سورة المسد:1-5]. ما هذا أليس هذا توبيخًا ربانيًا لمن وقف في وجه التوحيد، ووقف في وجه أول داعٍ إلى التوحيد سيدنا رسول الله.
أيها المسلم احذر من الاستهانة بشأن التوحيد، احذر من إهمال التوحيد تعلم التوحيد قبل كل شيء، تعلم التوحيد قبل أن تتعلم الشرائع، تعلم التوحيد قبل أن تتعلم الفضائل، تعلم التوحيد قبل أن تتعلم الآداب، لأنه لا تصح لك شريعة ولا تصح لك فضائل ولا تصح لك آداب ولا يصح لك عمل أبدًا ما لم يصح لك التوحيد، ما لم يصح توحيدك واعتقادك ولا تصح كل أمور الدين، كل ما سوى التوحيد من كل أمور الدين معلق على التوحيد ولذلك كان هدي أصحاب رسول الله أنهم يتعلمون أمور الاعتقاد، قبل كل شيء يتعلمون ما يصححون به الإيمان قبل شئون الدين، قال جندب رضي الله عنه: كنا أصحاب محمد نتعلم الإيمان قبل القرآن فإذا تعلمنا القرآن ازددنا إيمانًا. هذا هو هدي أصحاب رسول الله الذي تعلموه من رسول الله فعليك أيها المسلم بالتوحيد، تعلم التوحيد واعمل بالتوحيد ثم تعلم بعد ذلك سائر شئون الدين كما فعل أصحاب رسول الله ، فالتوحيد هو أول ما يبدأ به المسلم وهو آخر ما يلقى به المسلم ربه. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم [محمد: 19].
"فاعلم" هذا هو العلم " ألا إله إلا اله" هذا هو التوحيد "واستغفر لذنبك" هذا هو العمل.
وهل تقتصر على نفسك فحسب كلاً "واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات". وهنا يأتي دور الدعوة والجهاد "والله يعلم متقلبكم ومثواكم".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (5/256-257) وعن أبي أمامة رضي الله عنه.
[2] مسند أحمد (4/445).
[3] سنن الترمذي (2180) وقال : حسن صحيح.
[4] صحيح البخاري (1394، 4770) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد... فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب: 70،71].
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/632)
الصدق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعثة النبي لتمام مكارم الأخلاق. 2- النصوص تأمر بالصدق وتحذر من الكذب.
3- حالات جواز الكذب. 4- تحريم الكذب في المزاح. 5- تربية الأبناء على الصدق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فما أعظم ما امتدح الله تعالى نبينا محمدا عندما قال: وإنك لعلى خلق عظيم فكانت إشارة رائعة إلى أهمية الأخلاق الطيبة الفاضلة ومكانها في البناء الإسلامي العظيم، وهي حصن قوي منيع يتحصن به المسلم ولقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى ذلك عندما قال: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) ، ويأتي في قمة هذه الأخلاق التي يحث عليها الله تبارك وتعالى: فضيلة هي أسس الفضائل ورأسها، وأعني بها الصدق، فالصدق عدا عن كونه أساس الفضائل النفسية، هو ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية، بل هو أكبر أبواب السعادة للأفراد وللأمة، فحسبك مثلا في المعاملات المادية أن ترى نفسك مسوقا حين تريد ابتياع سلعة أن تفتش عن التاجر الذي عرف بالصدق،.
ولعل أصدق ميزان لرقي أمة من الأمم صدق أفرادها في أقوالهم وأعمالهم، وإنها لأزمة كبيرة تلك التي يعاني منها الناس في تعاملهم عندما يفقدون الثقة فيما بينهم لأنهم يفقدون خلق الصدق وينتشر بينهم خلق الكذب: الكذب في الأقوال والكذب في الأعمال، والكذب في النيات، فليس غريبا إذن أن تقف الشرائع كلها مشددة في خلق الصدق ،منكرة رذيلة الكذب.
والإسلام هو أشد الشرائع وطأة على الكذب والكذابين وأكثرها تنويها بالصدق والصادقين، فالله تعالى جعل الصدق قريب التقوى، فمن فقد الصدق فقد التقوى، حين يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ، ويعتبر الإسلام الصدق مفتاح البر والكذب مفتاح الإثم والفجور فيقول رسول الله : ((إن الصدق يهدي إلى البر، وان البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار)) ، والكذب عنوان خيانة كبرى يقول عليه الصلاة والسلام: ((كبرت خيانة أن تحدث أخالك حديثا هو لك مصدق وأنت له كاذب))، بل هو من آية النفاق: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا أئتمن خان)) بل إن الكذب لا يلتقي مع الإسلام ولا يطبع عليه المسلم وفي ذلك يقول عليه السلام: ((كل خصلة يطبع عليها المسلم إلا الخيانة والكذب)) ، وقد سئل أيكون المؤمن كذاب؟ قال لا، وهذا موقف تتقطع له ظهور الذين يخشون على دينهم وعلى كرامتهم ما دامت فيهم رجولة وإيمان.
وإن الكذب جبن وخسة وجرأة على الله يستحق الكاذب من أجلها اللعنة والطرد من رحمة الله: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.
والكذاب لن ينجح في حياته ولن يهتدي إلى الحق والخير فسينكشف للناس عن جبن وخسة تجعل الخيبة ملازمة له في شأنه كله، ذلك وعيد الله للكاذبين حين يقول: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب وحين يقول: وقد خاب من افترى.
ومن الجدير بالذكر أن الإسلام حرم الكذب حتى في حال المزاح، وكان من أوصافه أنه كان يمزح ولا يقول إلا حق، جاءته امرأة عجوز.. أو ما قرأت قول الله تبارك وتعالى: إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً.
وإذا كان الإسلام قد حرم الكذب لما فيه من الضرر، فقد يكون للضرورة مباحا في بعض المواطن التي ترجح فيها المصلحة، فقد أباح الإسلام الكذب لإنقاذ نفس بريئة من القتل كما أباحه في الحرب مع الأعداء لخداعهم وفي الإصلاح بين الناس وفي حديث الرجل لزوجته، وهذا ما يقوله : ((كل الكذب يكتب على ابن آدم لا محالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب خدعة، أو يكون بين رجل شحناء فيصلح بينهما أو يحدث امرأته يرضيها)).
وهذه التعاليم في الصدق ربت جيلا في التاريخ البشري ترك أروع الأمثلة على التمسك بهذا الخلق الكريم،ومنه قصة بلال وصهيب لما أراد الزواج من أحد بيوت العرب،......
ولما جلس الحجاج لقتل بعض الأسرى قام رجل منهم فقال : أصلح الله الأمير: إن لي عليك حق، قال وما حقك! قال سبك ابن الاشعث يوما فرددت عليه، قال ومن يعلم ذلك؟ فقام رجل من الأسرى فقال: قد كان ذلك أيها الأمير، فقال خلوا سبيله، ثم قال للشاهد ما منعك أن ترد على ابن الأشعث كما فعل صاحبك، فقال الشاهد: لقديم بغضي إياك فقال الحجاج: خلوا عن هذا لصدقه.
والمسلم يتحلى بالصدق وهو في أشد المواقف وأصعبها ويعلم أنه لا ينجيه إلا الصدق، وهذا كعب بن مالك وهو يحدث عن تخلفه عن غزوة تبوك يذكر بأن الذي أنجاه إنما هو الصدق.
فما رأيكم أيها الاخوة المؤمنون أن نتحلى جميعا بالصدق في القول والعمل، ما أجدر الناس جميعا من تجار وعمال وموظفين ومتعلمين أن يتحلوا بالصدق، لتعود إلى النفوس الثقة التامة التي تجلب الأمن والحب والسعادة والاستقرار وما أجدر المربين أن يربوا أبناءهم وبناتهم على الصدق حتى ينشأوا كراما مطبوعين الجرأة والعفة والأمانة، وليحذر الأباء والأمهات من الكذب على أطفالهم أو أن يعودوهم عليه حتى ولو كان لإسكاتهم من بكاء أو تهدئتهم من غضب، فإن ذلك تعويد على أقبح خلق عند الله، عدا عن أنه يفقد الثقة بأقوالهم فلا تنجح بعد ذلك موعظة ولا يؤثر حديث، قال عبد الله بن عامر : جاء رسول الله إلى بيتنا وأنا صبي صغير، فذهبت لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعالى حتى أعطيك، فقال رسول الله : ((وما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرا. فقال: أما أنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة)).
فيا أخي المسلم: احذر الكذبة الواحدة فإنها تفتح لك باب الكذب على مصراعيه ومن عرف بالكذب مرة واحدة سقطت مكانته، وقلّت الثقة بحديثه، فلا يلومن بعد ذلك إلا نفسه، وما أروع ما يقول زياد في خطبته البتراء: ((إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، فإذا سمعتموها فاغمزوها فيّ واعلموا أن عندي أمثالها)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/633)
العمل والكسب
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, فضائل الأزمنة والأمكنة
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله لا تحصى. 2- الدعوة للاكتساب والاحتراف الطيب. 3- حرف بعض الأنبياء.
4- التحذير من المسألة والبطالة. 5- الحث على العمل واعتباره قربة لله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : أيها المؤمنون :
فيقول الله تعالى: وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عمله أيديهم أفلا يشكرون.
أيها المسلمون: هذه آيات كريمة يمتن فيها الحق سبحانه وتعالى على عباده بما صنع بالأرض حين أحياها وأصلحها وأخرج منها المحاصيل الوافرة ، وجعل فيها البساتين والنخيل والأعناب، وفجر فيها من الماء والعيون ، وهي صورة تتكرر في حياة البلاد كل يوم.
غير أن الله جلت قدرته ، وهو الذي وهب لعباده كل هذه النعم يختم الآيات السابقة ببيان السبب الذي من أجله أوجد الله تعالى هذه النعم ، وأفاض على عباده من الأرض البائرة الخيرات، ذلك السبب هو ما يبذل الإنسان في استصلاحها من جهد ، وما ينفق من عمل دائب، فهذا الخير العميم جاء من عمل أيديهم ولم يهبط عليهم من فوق رؤوسهم بدون كفاح وعمل.
وحديث القرآن الكريم في هذه الآيات الثلاث يجعل حصول المؤمن على ثمرة جيدة داعية له إلى شكر الله والإيمان به ، فهو من الدواعي القوية إلى اليقين بعدل الله تعالى وفضله.
لقد تواردت آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي تبرز قيمة العمل وأثره في حياة الناس وتبين أنه شرف للإنسان وسبيل للكسب الحلال وعبادة مفروضة ، وتصف الأنبياء عليهم السلام بأنهم كانوا ذوي حرف وصناعات برغم مسؤولياتهم الهائلة في الدعوة إلى الله.
وبرغم انشغالهم بذلك عن العمل أو الاحتراف، ولولا أن الله جلت قدرته قد اختار لهم أن يحترفوا وأن يكسبوا قوتهم بجهدهم وعملهم.
وهذا رسول الله يقول بشأن داود عليه السلام: (( ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده )) ، وهذا الإشارة فصلها الله بقوله: ولقد آيتنا داود منّا فضلا يا جبال أوّبي معه والطير وألنّا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير ، فمهنته أن يصنع الدروع والسيوف ، وكذلك تكررت في القرآن الكريم الإشارة إلى احتراف نوح عليه السلام مهنة النجارة وصناعة السفن: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه.
وأشار الله تعالى في القرآن الكريم إلى أن موسى عليه السلام اشتغل برعي الغنم عشر سنين أجيرا في أرض مدين قبل أن يبعثه الله رسولا.
كما نعلم من سيرة نبينا أنه كان يرعى في صدر شبابه الغنم ، ثم اشتغل بالتجارة في مال خديجة بنت خويلد فيما بعد.
فهؤلاء هم أقطاب النبوة ، وأولوا العزم من الرسل ، وقد شرفوا باحتراف مهنة يعيشون على كسبها ، ويستغنون بها عن سؤال الناس ، فهذا هو خير الطعام ، ولا ريب أن هؤلاء الرسل لم ي تحولوا بهذه المهن إلى أغنياء يجمعون المال ويكنزون الذهب ، وإنما كان ما حصّلوله وسيلة إلى العيش الكريم ، الذي يحفظ الكرامة قبل أن يسد الرمق ، ويصون ماء الوجه قبل أن يصون أنفاس الحياة ، وينفقون منه في وجوه البر والخير ، ويبذلونه تقربا إلى الله واستكثارا من الطاعة ليكونوا قدوة لنا في ذلك.
وذلك أيها المسلمون هو ما حض عليه نبينا محمد حين رغب أصحابه في أن يحترفوا حرفة تغنيهم عن السؤال فقال: (( لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها ، فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه )).
ورغبنا رسولنا في التعفف والقناعة وحذرنا من ذل السؤال للناس فقال: (( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم )).
أيها المسلمون : إن الإسلام لا يعرف الطبقة التي ترث الغنى والبطالة والكسل ، لأن المؤمن مدعو دائما إلى أن ينفق ماله في سبيل الله ، ولن يدوم المال مع البطالة ، ولذلك حث على العمل ، مهما قل شأنه ، وإذا تساوى الناس أمام الدعوة إلى العمل والاحتراف لم يكن بينهم وضيع الحرفة يخجل منها وآخر شريف الحرفة يفخر بها على الناس ، لأن شرف العمل ناتج عن شرف الدعوة إليه ، وهو وسيلة لاستدامة النعمة وبقائها ، ووسيلة لإشباع الحاجة ، وعون على الإنفاق في سبيل الله ومادام هذا الهدف فإن الحرف اليدوية لا تقل شأنا عن أي عمل آخر ، ولذلك قال رسول الله : (( إن الله يحب المؤمن المحترف )) ويقول: (( من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له )).
أيها المسلمون : لقد وعد الله تعالى والعاملين منكم بالجزاء الأوفى في يوم القيامة فقال: وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون. والشروط لحصول هذا الأجر هو النية الطيبة الصالحة في العمل فقد ((مر على النبي رجل فرأى أصحاب رسول الله جلده ،فقالوا :لو كان هذا في سبيل الله؟فقال: إن كان يسعى على ُولْده صغاراً فهو في سبيل الله)). فهذا العمل في سبيل إعانة الأطفال والأبوين عبادة يتقبلها الله سبحانه شأنها شأن الصلاة والزكاة.
فيا أيها المسلمون : إن الإسلام يدعو إلى العمل الصادق الجاد ، ويدعوا إلى الإحسان في العمل وإتقانه ، ويجعل من الله رقيبا على كل منا في عمله ، كما يجعل المجتمع كله رقيبا على أعمالنا: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. فإذا قبل أعمالكم أدخلكم الجنة وجعلكم خالدين فيها (فنعم أجر العاملين ).
وسئل أي الكسب أطيب ؟ قال : ((عمل الرجل بيده ، وكل بيع مبرور )).
وقال: (( من أصبح آمنا في سربه ، معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )).
هذا، وإن على العامل واجبات وعلى رب العمل واجبات ولهما حقوق ينبغي أن يلتزم كل منهما بها ويقوم بأدائها ، نسأل الله تعالى أن يوفق لبيانها ، وأن يرزقنا التقى والهدى والعفاف والغنى..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/634)
الحسد
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
تماسك الأمة المسلمة والمجتمع المسلم. 2- إبعاد القلب عن موارد الضغينة. 3- تعريف الحسد.
4- تحذير النصوص من الحسد. 5- حسد اليهود والكافرين لرسول الله. 6- اليقين علاج الحسد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد أيها المسلمون :
فإن من نعمة الله تعالى على هذه الأمة أن جعلها أمة واحدة متماسكة، تلتقي على الإيمان بالله والحب فيه، وطهر قلوب أبنائها من وساوس الضغينة وثوران الأحقاد، فإذا رأى المسلم نعمة تساق إلى أخيه رضي بها وفرح، وأحس فضل الله وفقر عباده إليها، وذكر قول رسول الله : ((اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر)).
وإذا رأى أذى يلحق أحدا من خلق الله رثى له ورجا الله أن يفرج كربه ويغفر ذنبه، وبذلك يحب المسلم ناصع الصفحة، راضيا عن الله عن الحياة، مستريح النفس من نزعات الحقد الأعمى، فإن فار القلب بالضغائن داء عياء، وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش كما يتسرب الماء من الإناء المثقوب.
ونظرة الإسلام إلى القلب خطيرة، فالقلب الأسود المظلم يفسد الأعمال الصالحة ويطمس بهجتها ويعكر صفوها، أما القلب المشرق النظيف فإن الله يبارك في قليله، وهو إليه بكل خير أسرع، ولذلك وصف الله تعالى الجماعة المسلمة حقا فقال: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
ومن هنا جاءت الحملة شديدة على واحد من رذائل الأخلاق وأمراض القلوب وذلكم هو الحسد، حرمه الإسلام تحريما قاطعا، وأمر الله رسوله من أن يستعيذ من شر الحاسدين، لأن الحسد جمرة تنقد في الصدر فتؤذي صاحبها تؤذي الناس به.
والحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة عن غيره وأن يتمنى أن تكون هذه النعمة له بدلا من غيره والشخص الذي يتمنى زوال النعم عن عباد الله آفة تحذر غوائلها على المجتمع ولا يطمأن إلى ضميره في عمل وقد قال رسول الله : ((لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد)).
وعن أبي هريرة أن رسول الله : ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولاتجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا)).
وحذر فيه وبين عاقبته وأثره على الحسنات التي تذهب هباء مع الحسد فقال: ((إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)).
أيها المسلمون: لا يزال الناس بخير وعافية ما لم يتحاسدوا، فإذا تحاسدوا، فقد أفسدوا ما بينهم، وكانت عاقبة أمرهم خسرا، ودب الفساد إليهم يحلق دينهم ومروءتهم ويستأصل بقية الخير من نفوسهم، إنهم بذلك يشترون النار التي تحرقهم وتحرق أموالهم ونقض مضاجعهم وتجعلهم في حال من الخوف والقلق، إذا رأى نعمة على أخيه حزن لها وأصابته الهموم وتسخط على أقدار الله، وبات ليله ساهرا ونهاره متألما.
أيها المسلمون: إن من علائم الخير والسعادة أن ينجو من مجتمعنا وتتطهر أخلاقنا ونفوسنا من هذا الداء بعد أن تتطهر من الحسد والضغينة، إن النفوس قد جبلت على حب الرفقة، فلا تحب أن يعلوها أحد أو يتفوق عليها واحد من جنسها، فلا يكاد ينجوا من ذلك أحد إلا من كان واثقا بالله وبما عند الله وراضيا بقضاء الله.
وإذا أردنا النجاة من هذا الحسد فينبغي أن نعرف أسبابه حتى نعالجها بما يقتلعها من نفوسنا، وحتى نقي أنفسنا منها قبل وقوعها.
وقد يدفع الإنسان إلى الحسد شيء من العداوة للآخرين، أو التكبر عليهم والعجب بما في النفس، وحب الرياسة والظهور.
فقد حكى الله تعالى عن أقوام من الكفار حسدوا النبي وتمنوا أن ينزل القرآن على غيره فقالوا: وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم.
وكان اليهود يعرفون صدق النبي وصدق دعوته ولكنهم كفروا به بغيا وحسدا من عند أنفسهم.
وإنما يكون الحسد بين أقوام أو أناس من الأقران غالبا وبين الأقارب وبين من يجمعهم وصف واحد، ولذلك ترى التاجر يحسد التاجر، والصانع في مهنة يحسد من يشاركه فيها.
وقد تجد طالب العلم يحسد طالب علم آخر، أو ترى عالما يحسد عالما آخر، لأن الله تعالى أعطاه من القبول بين الناس والتأثير في نفوسهم ما لم يعط غيره، فكان ذلك شيئا للحسد، قد يحاول إخفاء في اصطناع الغيرة على الدين والسنة، وفي حقيقة الأمر لا يدفعه إلى سلوكه إلا حسد قاتل والهفوات، ومنشأ هذا الحسد، حب الدنيا وعدم الرضا بقضاء الله وقدره.
إن الحاسد إنسان خسيس الطبع، فاقد المروءة، متهالك على الدنيا، ساخط لأقدار الله، ضيق الصدر بما أعطى الله لعباده من الخير.
ولذلك جاء الإسلام بما يقتلع هذا الحسد من النفوس، وجاء بما يطهر القلوب من الأمراض وذلك بأن يعرف الإنسان أن الحسد ضرر على الحاسد نفسه في الدين والدنيا، وإنه لا يضر المحسود في الدنيا ولا في الدين(إلا أن يشاء الله)، والنعمة لا تزول عن المحسود لتصل إليك بحسدك أيها الإنسان فعلام تعذب نفسك وتقتلها كل يوم شر قتلة، إنك ترمي حجرا على أخ لك لتصيب مقتله، فلا يصيبه ذاك (إلا أن يشاء الله)، بل يرجع إلى عينك فيقلعها أو إلى صدرك ونفسك فيعذبها، إنك تشعل نارا تضطرم ينجو فيها المحسود وتقع أنت فيها فتحرق نفسك:
لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب
أيها المسلمون: إن الإسلام يتحسس النفوس الحين والحين، ليغسلها من أدران الحقد الرخيص والحسد الذميم، ويجعلها حافلة بمشاعر أزكى وأتقى نحو الناس ونحو الحياة.
يتحسسها في كل يوم، وفي كل أسبوع، حين تمر النفوس في آداب الإسلام فتنقي الأكدار وتتقي العيوب ولا تبقي في الأفئدة المؤمنة، أثارة من ضغينة أو حسد، أن في كل يوم حقد أوضح رسول الله أن الصلوات المكتوبة لا ينال المسلم ثوابها إلا إذا اقترنت بصفاء القلب للناس فقال: ((ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم: رجلٌ أَمَّ قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متضارمان)).
أما في كل أسبوع فقد قال : ((تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرئ كان بينه وبين أخيه شحناء اتركوا هذين حتى يصطلحا)).
اذكروا دائما أن كل نعمة من مال أو جاه أو علم أو صحة أو سمعة حسنة، إنما هي من الله تعالى وبقدر منه، لا يجوز أن نضيق بها عند أحد من خلقه الله، ولا أن نتمنى زوالها عنه واذكروا دائما أن الحسد سبب للعناء والكفر.
ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق.
أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وأتيناهم ملكاً عظيماً.
واستعيذوا بالله من الحسد ومن شره: قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/635)
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم أمره
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الاتباع
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منة الله علينا ببعثة محمد. 2- معنى الإيمان بالنبي. 3- طاعة الرسول. 4- محبة
الرسول. 5- تعظيم أمره وشعائر دينه. 6- الصلاة والسلام عليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن الله تعالى قد أمتن علينا ببعثه محمد فقال: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وجعله الله تعالى سبب للهداية من الضلال ، وجعل سيرته العطرة نبراس هدى ومعالم طريق ، وبرهان التزام بالأمانة ، وصدق في تحمل التبعات الجسام ، ومنهج رشد لا يزيغ عنه إلا هالك.
أيها المؤمنون: إن هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها على البشرية كلها ببعثِة محمد وبإنزال الوحي عليه ، تستوجب علينا جملة من الحقوق لهذا النبي الكريم ينبغي أن نقوم بها لندلل بذلك على صدق إيماننا وعلى طاعتنا لله ومحبتنا لرسوله.
إن الله تعالى فرض علينا الإيمان بنبيه وتصديقه فيما أتى به فقال: فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ، والإيمان به عليه السلام هو تصديق بنبوته ، وتصديقه في جميع ما جاء به ، وهذا يوجب علينا الطاعة التامة لنبيه التي قرنها الله تعالى بالطاعة لنفسه فقال: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ، من يطع الرسول فقد أطاع الله ، وما أرسل الله رسوله إلا ليطاع فيما يأمر وينهي.
وعندئذ يكون المؤمن المطيع مع الذين أنعم الله عليهم: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وهذه الطاعة للنبي توجب علينا اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه فقد قال الله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم. وقال: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.
ولذلك جعله الله تعالى الأسوة والقدوة الحسنة: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
وقد وردت أحاديث النبي تأمرنا باتباع سنته وعدم المخالفة عن هديه ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )).
ومن هذه المشكاة جاء قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله : "سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها تصديق بكتاب الله واستعمال بطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ، من اقتدى بها فهو مهتد ، ومن انتصر بها فهو منصور ، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا ".
أيها المسلمون: وإن من أوجب الواجبات علينا بعد الإيمان بالنبي وطاعته، أن نحبه المحبة القلبية والعميقة التي ينشأ عنها الطاعة والالتزام بما جاء به ، ولا يتم إيمان المرء إلا بهذه المحبة ، فقد قال الله تعالى: قل إن كان آباءكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين. ويقول عليه الصلاة والسلام: (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )). (( لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه)) ، ولهذه المحبة الصادقة ثوابها فهي التي ترفع صاحبها ليكون في الجنة مع حبيبه فقد قال عليه الصلاة السلام : ((المرء مع من أحب)) وعن أنس أن رجلا أتى النبي فقال: (( متى الساعة؟ قال :ماذا أعددت لها؟ قال :ما أعددت لها كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ، ولكنني أحب الله ورسوله ، قال : أنت مع من أحببت )).
وعلامة هذه المحبة الصادقة للرسول عليه الصلاة والسلام أن نوافقه في كل ما جاء به ، وأن نقتدي به وأن نهتدي بهديه وأن نتابعه ونتأدب بآدابه ، وشاهد هذا كله قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، وتكتمل هذه العلامات على المحبة للنبي بمحبة أصحابه وآله وبالشفقة على أمته والنصح لها.
وما وجدنا أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ، ولن يكن دليل صدقهم في حب النبي والإيمان به كلمات يتشدقون بها أو مجرد عاطفة تدعو أحيانا إلى شيء من الغلو والانحراف، وإنما كان دليل صدقهم وإيمانهم ومحبتهم هو اتباعهم لسنته ، واقتداء وتأس بكل الجوانب العقدية والتعبدية والأخلاقية.
أيها المؤمنون: وإن واجبا علينا معشر المؤمنين أن نعظم أمر النبي وأن نوقره ونبره عليه الصلاة والسلام وألا نقدم بين يديه لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كهجر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.
ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يعظمون النبي ويوقرونه في خطابهم وفي معاملاتهم، وكانوا حوله وكأن على رؤوسهم الطير ، ينصتون له، ولا يحدون النظر إليه إجلالا ومهابة، وكان السلف يعظمون حديث النبي وروايته ويتمسكون به أشد تمسك ويعتصمون بالسنة أشد الاعتصام وأقواه.
ويبقى من حقوق النبي على أمته حق رابع ، وهو الصلاة والسلام عليه فقد قال الله تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أبها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً فالصلاة على النبي فرض على الأمة غير محدد بوقت، وقد تواردت أحاديث النبي في ذلك تعليما لأصحابه أمرا بذلك، وبيانا للمواطن التي تستحب فيها الصلاة أو تجب، كالصلاة عليه في التشهد ودعاء القنوت وصلاة الجنازة وفي خطبة الجمعة وعند إجابة المؤذن وعند الإقامة وعند الدعاء وعند دخول المسجد وعند ذكر اسمه عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من المواطن الكثيرة التي تشرع فيها الصلاة والسلام على نبينا محمد ، وهذه الصلاة على النبي فيها امتثال لأمر الله تعالى وموافقة لصلاته سبحانه على نبيه ، وفيها رفع الدرجات وغفران الذنوب ، وهي سبب استجابة الدعاء ، وقد قال : (( ما قعد قوما مقعدا لا يذكرون الله فيه ، ويصلون على النبي إلا كان عليهم حسرة إلى يوم القيامة وقال : من صل علي صلاة واحدة صل الله عليه بها عشرة صلوات وحط عنه بها عشر سيئات ورفعه بها عشر درجات )).
وما أشد بخل الذي يذكر عنده النبي أو يسمع ذكر النبي ثم لا يصلي عليه.
فيا أيها المسلمون : هذه أربعة من حقوق النبي علينا :
أولها : أن نؤمن به ونطيعه ونتبع سنته.
وثانيها : أن نحبه الحب الحقيقي الصادق وندلل على ذلك بمتابعته والتمسك بهديه.
وثالثها : أن نعظم أمره ونوقره.
ورابعها : أن نصلي عليه ونسلم ، فخذوا أنفسكم بها لتكون سبيلا لكم إلى جنة ربكم وشفاعة نبيكم ، فاللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد وشفعه فينا واسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبدا يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/636)
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خليل الرحمن
الإيمان
الإيمان بالرسل
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
محمد خليل الله – بين الخلة والمحبة – بين خلة إبراهيم وخلة محمد – آكد حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم الذي جمع الجلال والجمال , جمال الكمال البشري وجلال الوحي الإلهي قد اصطفاه الله تعالى واتخذه خليلا وفضله على العالمين وبعثه رحمة مهداه ونعمة مسداه وجعله أنموذجا ساميا رفيعا لما يحبه ويرضاه.
لقد أخلص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لربه في العبودية له وفي محبته سبحانه ولذلك اصطفاه الله واجتباه واتخذه خليلا فهو الحبيب المصطفى وهو الحبيب المجتبى وهو حبيب الرحمن , وفي الصحيح عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا , ولكن صاحبكم خليل الرحمن )) [1]. وذلك لأن الخلة أعظم درجة من المحبة وسميت بذلك لأنها تتخلل جميع أجزاء الروح. قال الشاعر: " قد تخللت مسلك الروح مني " وبذا سمي الخليل خليلا , وهذه الدرجة العليا من المحبة لا تقبل المشاركة ولهذا وحد الخليلان ربهما فيها إبراهيم وحفيده محمد صلى الله عليهما وسلم. في الصحيح عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال (( إني أبرأ إلى كل خليل من خلته )) [2] , فوحد صلى الله عليه وسلم ربه في الخلة , وأما إبراهيم عليه السلام فقد امتحن في هذه الدرجة , امتحن في الخلة بذبح ولده وفلذة كبده إسماعيل وذلك لأن محبة هذا الولد احتلت شعبة من قلبه فابتلاه الله وامتحنه بذبحه وهذا هو البلاء العظيم , ولم يكن المراد ذبح ولده علي الحقيقة ولكن كان المراد ذبح المشاركة في هذه الدرجة العليا من المحبة في قلب إبراهيم , ولذلك فإنهما لما اسلما وجهيهما لأمر الله وقدم إبراهيم محبة الله على محبة ولده خلص مقام الخلة ففدى الولد بكبش عظيم.
أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد فاز على هذه الدرجة العظيمة بدون امتحان , ألا تراه يعبر عن توحيده لله تعالى فيها بأن نفي الخلة عن كل من سوى الله نفاها حتى عن أحب الناس إليه صديقه وحبيبه أبي بكر الصديق ووالد أحب زوجاته إليه. في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (( سؤل أي الناس أحب إليك قال : عائشة. قيل من الرجال قال: أبوها )) [3]. فأبو بكر وعائشة رضي الله عنهما هما أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يبلغ في حبهما درجة الخلة لأنه وحد الله سبحانه وتعالى في هذه الدرجة العليا من المحبة وأخلص له سبحانه فيها , وقد أخطأ من توهم أن المحبة أعلى من الخلة فزعم أنه إن كان إبراهيم خليل الله فإن محمداً صلى الله عليه وسلم حبيب الله , بل الثابت لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم درجة الخلة كما ثبت ذلك لأبيه إبراهيم , روى ابن ماجة [4] والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا )) , ثم إن هذه الدرجة العليا من المحبة هي خاصة بالخليلين محمد صلى الله عليه وسلم وأبيه إبراهيم بخلاف المحبة فإنها درجة عامة لا تختص بهما أثبتها الله في كتابه لسائر المؤمنين حين قال: يحبهم ويحبونه [المائدة:54]. ثم قال سبحانه: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [البقرة:222]. فأثبت المحبة من التوابين ومن المتطهرين من المؤمنين , بل إن كل من أحسن في اتباعه لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد ثبتت له هذه الدرجة , درجة المحبة قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31]. فاتباع محمد صلى الله عليه وسلم المتمسكون بسنته كلهم أحباء الله ثبتت لهم هذه الدرجة من المحبة , ومن أحبه الله فليهنأ بالسعد وليفرح بالنجاة فإن الحبيب لا يعذب حبيبه , قال ربنا عز وجل: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه.قل فلم يعذبكم بذنوبكم [المائدة:18]. أي لستم أيها اليهود والنصارى أبناء الله ولا أحباءه بدليل أنه عذبكم بذنوبكم وآخذكم عليها , فبذلك أثبت الله في هذه الآية للمحبوب أن لا يعذبه بذنوبه. فمن أحبه الله مكنه من سعادته ووثقه وعصمه وأفاض رحمته عليه وأفاض من نوره على قلبه وجوارحه فإذا بقلبه قد امتلأ نورا وإذا بجوارحه قد شعت نورا وامتلأت بصيرة قال تعالى في الحديث القدسي: ((ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)) [5]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما بلغه من كلام ربه , فهذا الإكرام وهذا الإنعام من ربنا عز وجل على من أحبه من عباده المؤمنين الذين تقربوا إليه بالعبادة بالمفروضات وبالنوافل فما بالك بمن اتخذه خليلا وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما اتخذ أباه إبراهيم عليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (2383) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم (2383) عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري (3662) ، صحيح مسلم (2384) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[4] سنن ابن ماجة (141) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
[5] صحيح البخاري (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/637)
بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بناء الإسلام المجتمع على أسس ثابتة راسخة. 2- عناية الوالدين بأولادهما فطرية.
3- النصوص تذكر بحق الوالدين وتأمر برهما. 4- التحذير من عقوق الوالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها الاخوة المؤمنون: يقيم الإسلام دعائم مجتمعه على أسس راسخة وقواعد ثابتة تمتد في أعماق النفس البشرية وتمتزج بمشاعرها وعواطفها الأصيلة متأثرة في ذلك كله بعقيدة راسخة تستقر في قلب المسلم، ليكون بناء الأمة الإسلامية بناء قويا متينا.
وأقرب العواطف وأشدها تأثيرا في النفس هي عاطفة الأبوة والأمومة، فإنها العاطفة التي تضم بين حنانها الوليد في مراحل نموه، فيشعر بدفء عواطف الحب والرحمة والشفقة حتى يشب ويترعرع، وتواصل سيرها معه يافعا ورجلا وشيخا، ومن روابط هذه العواطف يكون بناء الأسرة المسلمة القوية الصالحة.
وإذا كان شعور الإنسان يتطلع دائما إلى المستقبل، ويتدفق حيوية، وطموحا نحو الجديد من الزوج والذرية، ويجد دافعا قويا إلى ذلك بعامل الفطرة، فإن الإسلام لا يشدد في أن يوصي الوالدين بالأولاد، لأن ذلك أمر مركوز في فطرة الإنسان، فالوالدان يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شي في سبيلهم حتى بالذات، وكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، وكما يمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشرة خاوية ، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين ، فإذا هم شيخوخة فانية إن أمهلهما الأجل للشيخوخة ، ولكنهما مع كل ذلك سعيدان كل السعادة.
ولا عجب بعد ذلك ، أن تأتي كلمات الله تعالى في كتابه توصي الأبناء بالأباء وتحرك عندهم مشاعر الرحمة في القلوب لتنظر قليلا إلى الوراء ، إلى أيام سلفت لها مع آبائها وأمهاتها وهي تشقى وتتعب وتمرض من أجل هذا الوليد ، ومن ثم يقرن الله سبحانه وتعالى هذه الوصية ببر الوالدين بعبادة الله سبحانه ويعتبرها قضاء مبرما وأمرا لازما يمتثله المسلم ، لأنه أمر من الله سبحانه العليم الخبير ، وشأن المسلم دائما وأبدا أن يقوم بكل عمل أو تصرف ، عبادة لله تعالى وامتثالا لأمره.
قال الله سبحانه: وقضى ربك ألا تعبد إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً.
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك وإلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أنابإلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون.
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ، قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً.
ومن ثم أوجب الإسلام على الأبناء جملة حقوق لآبائهم وأمهاتهم: أولهما الإحسان إليهما وبرهما عرفانا بحقهما عليه ، ثم المعاملة الحسنة والكلمة الطيبة الرقيقة وعدم الضجر والتأفف ] فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً ويتتبع ذلك ، التواضع ولين الجانب: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة والدعاء لهما: وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ، والوفاء لهما وصلة أهل ودهما ،فمن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه.
وجاءت أحاديث نبي الرحمة والهدى تفصل ذلك البر وتبين أهم الحقوق: ((فقال لمن سأله يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي ؟ قال: أمك. قال: ثم من ؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من ؟ قال: أبوك )). ومهما فعل هذا الوالد من البر والطاعة فإنه لن يكافئ أمه ولن يؤدي حقها كاملا : فقد رأى ابن عمر رجلا يمانيا يطوف بالبيت وهو يحمل أمه وراء ظهره ويقول :
إني لها بعيرُها المذللُ إن أذعرت ركابُها لم أذعر
ثم قال : يا بن عمر : أترى أني جزيتها ، قال : لا ، ولا بزفرة واحدة.
وعقوق الوالدين سبب العقوبة العاجلة في الدنيا ، فعن أبي بكر قال : قال رسول الله يقول: ((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)).
وعنه : ((ما من ذنب أجدر من أن يعجل لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له من البغي وقطيعة الرحم)).
وبين النبي أن دعوة الوالدين مستجابة فقال: (( ثلاث دعوات مستجابات لهن لا شك فيهن : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالدين على ولدهما )).
وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر والذنوب: قال : (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث : قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور )).
وقال : (( ثلاثة لا ينظر إليهم يوم القيامة : العاق لوالدين ، ومدمن الخمر ، والمنان في عطائه ، وثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق والديه ، والديوث ، والرجلة من النساء )) ، وقال : (( إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، قيل يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال بسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه )).
فيا أيها المؤمنون: لا تنسوا فضل آبائكم وأمهاتكم عليكم ، انظروا إلى أمهاتكم حين يلدن كم يتألمن ويصرخن، ثم انظروا إليهن بعد ذلك : كم يسهرن وكم يجزعن ، وانظروا إلى آبائكم كيف يكدحون في الحياة ويتعبون من أجل تربية الصغار ويعلمهم ورعاية شؤونهم وكونوا على ثقة بأن الحياة جزاء ومكافأة فمن أحسن منكم إلى أبويه وحنا عليهما وبرهما رزقه الله أولاد يحنون عليه ويبرونه ، ومن عق والديه عوقب بأولاد يعقونه وينكرون فضله ويسيئون إليه وقد قال : (( بروا آبائكم تبركم أبناؤكم )).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/638)
الإيمان والتوحيد (3)
الإيمان
حقيقة الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلم من صميم الإيمان 2- التمثيل للإيمان بالنخلة وأحوالها 3- الرابط الوثيق بين عمل
القلب والجوارح 4- الإقرار القلبي بصدق الرسول لا يكفي في تحصيل الإيمان 5- موقف هرقل والنجاشي من دعوة الإسلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد بينا أن دعوة سيدنا رسول الله بُنيت على أربعة مبادئ وهي : العلم والتوحيد والعمل والجهاد.
قد ذكرنا بعض الحقائق عن العلم ثم ذكرنا بعض الحقائق عن التوحيد ونتحدث بإذن الله تعالى عن المبدأين الأخيرين العمل والجهاد.
العمل والجهاد من صميم الإيمان ومن دعائم الإسلام، الإيمان والتوحيد في القلب وفي الجوارح، أما ما كان في القلب ولم يظهر أثره على الجوارح فلا قيمة له ولا اعتبار بل لا وجود له أصلاً.
العمل والجهاد هما أثر الإيمان وثمرة التوحيد فإن الإيمان ليس شيئًا ميتًا إنه قوة ربانية وطاقة نورانية محركة إذا استقرت في القلب ظهر أثرها حالاً على الجوارح، على أقوال الإنسان وأفعاله وحركاته وسكناته.
الإيمان قوة وطاقة ربانية متحركة تغير كيان الإنسان وتصنع منه كيانًا جديدًا.
فمن توهم أن الإيمان في القلب فقط أو أن التوحيد في القلب فقط دون أن يكون له أثر على الأعمال فقد توهم أن الإيمان شيء ميت، ومن تصور ذلك لم يعرف حقيقة الإيمان أبدًا.
في كلام الله تعالى وكلام رسوله ضُرب للإيمان بمثلين، ضُرب له مثل بالشجرة الطيبة، وضُرب له مثل بالجمل؟ بالإبل.
أما المثل الأول ففي قوله تعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون [إبراهيم:24-25].
وهذه الشجرة المُشار إليها في الآية، هذه الشجرة الطيبة هي النخلة فسرها بذلك سيدنا رسول الله في الحديث الصحيح [1] عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، النخلة هذه الشجرة الطيبة لها جذور وأصول ثابتة في أعماق الأرض، ولها جذع ولها فروع وأغصان شامخة في السماء، فكذلك الإيمان الإيمان كالنخلة له جذور وأصول ثابتة في أعماق قلب كل مؤمن ولها جذع ولها أغصان وفروع مرتفعة نحو السماء.
أما جذور الإيمان وأصول الإيمان في قلب كل مؤمن فهو التوحيد، وأما جذع شجرة الإيمان وفروعها وأغصانها فهي أعمال الإيمان.
وأعمال الإيمان هذه تتفاوت فمنها ما لا يكون الإيمان بدونه لا تقوم للإيمان ولا لشجرة الإيمان قائمة بدونه، كالأركان الخمسة وهي الإقرار بالشهادتين والزكاة والصيام والحج، فهذه الأركان لا تقوم للأركان بدونها قائمة فهي كالجذع لشجرة الإيمان، إذا قُطع ذلك الجذر سقطت شجرة الإيمان وماتت، وهناك من أعمال الإيمان ما لا يكون الإيمان بدونه إذا نقص لا يُعدم الإيمان ولكن ينقص الإيمان بنقصانه فتلك الأعمال كالفروع والأغصان لشجرة الإيمان وأعلى هذه الفروع، وأعلى هذه الأغصان الجهاد في سبيل الله ومن تلك الفروع والأغصان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر الواجبات والمندوبات، كلما أتى المؤمن بشيء من تلك الأعمال ازدهرت شجرة إيمانه ونمت وترعرعت وتلألأت أنوارها ودنت قطوفها وثمارها.
وهناك آفات وعلل مضادة للإيمان قد تطرأ على شجرة الإيمان فتصيبها بالوهن والضعف هذه الآفات والعلل هي المعاصي، والكبائر منها على وجه الخصوص، إذا أتى المؤمن بشيء منها أضعفت شجرة إيمانه وأصابتها بالوهن وكلما ازداد تفاقم تلك المعاصي تفاقم ضعف شجرة إيمانه حتى يُخشى عليه من ذهابها وزوالها، وبعض تلك الآفات والعلل بمجرد أن يطرأ على شجرة الإيمان يقضي عليها ويعصف بها، فمثلاً الشك والشبهة والريب إذا استقي شيء من ذلك في قلبه أحرق شجرة إيمانه من أصولها وجذورها وقضى عليها بالكلية، ومثل الشرك الأكبر إذا وقع المؤمن في شباكه عصف بشجرة إيمانه وقضى عليها قضاءً مبرمًا وذهب بها هباءً منثورًا.
ومثل هذه الآفات المهلكة لشجرة الإيمان كراهة شيء من أمور الدين أو السخرية من أمور الدين، أو الاستهزاء بسيدنا رسول الله أو الاستهزاء بشيء من آيات القرآن الكريم كل هذه الآفات إذا طرحت على الإنسان عصفت بشجرة إيمانه وأحرقتها وقضت عليها بالكلية.
ومن أعظم هذه الآفات التي تقضي على شجرة الإيمان، الكبر إذا استقر في قلب العبد، الكبر عن الطاعة والامتثال والانقياد لأوامر الله تعالى إذا استقر في قلب العبد فإنه يلحق بإبليس، فسلفه إبليس إنما أهلكه الاستكبار عن الامتثال والانقياد والاغترار بالنفس وإلا فهو من أعلم الخلق بربه علمًا ومعرفة وتصديقًا بربه ولكن أهلكه الاستكبار عن الانقياد والامتثال، قال تعالى: فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ص:73-76].
وقال سبحانه وتعالى: قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين، قال اخرج منها مذءومًا مدحورًا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين [الأعراف:12-18].
فمن استكبر عن الطاعة والامتثال والانقياد لله ورسوله يلحق بسلفه إبليس في جهنم وبئس المصير.
جهل أقوام، خفي على أقوام حقيقة شجرة الإيمان فتوهموا أنه يمكن أن تقوم هذه الشجرة بجذعها وفروعها وأغصانها دون أن تكون لها أصول أو جذور ثابتة في قلب المؤمن، فذهبوا يصرفون عنايتهم إلى تحسين تلك الفروع والأغصان، صرفوا عنايتهم إلى الأعمال والفضائل وتركوا التوحيد أهملوا أن يثبتوا التوحيد في القلوب وهو أصل الإيمان وجذره وصرفوا عنايتهم للفروع والأغصان فكيف تقوم شجرة الإيمان قائمة دون عروق ولا جذور تكون ثابتة في أعماق القلب، كما أهمل أناس آخرون جهلوا حقيقة الإيمان هذه فتوهموا أنه يمكن أن تعيش بجذورها وأصولها فقط دون أن تكون لها جذع ودون أن تكون لها فروع وأغصان شامخة مرتفعة نحو السماء، فقالوا الإيمان في القلب، وهم لا هون عن الواجبات والفروع غارقون في المعاصي والمنكرات، وقالوا التوحيد في القلب وهم غافلون عن مستلزمات التوحيد غارقون في الشرك والمبتدعات، نقول لهؤلاء وهؤلاء: إن معرفة أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله والتصديق بذلك بالقلب لا يكفي أبدًا، بل إن حب ذلك والتلهف عليه لا يكفي أبدًا حتى يصحب ذلك الامتثال والانقياد لأمر الله وأمر رسوله وحتى يصدق العمل ما في القلب بالانقياد والامتثال لأمر الله وأمر الرسول.
فهؤلاء أهل الكتاب كانوا يعرفون سيدنا رسول الله كما يعرفون أبناءهم مصدقين بنبوته وبأن ما جاء به الحق لكنهم استكبروا عن اتباعه فظلوا كافرين، بل كان بعض اليهود في المدينة يأتي إلى سيدنا رسول الله خلسة فيجلس إليه ويبكي بين يديه ويظهر له التصديق بنبوته ويتضرع به وبدعائه ، فإذا طلب منه رسول الله أن يتبعه أبى ورفض هذا الاتباع فهل أغنى عنه ذلك التصديق بل وذلك الحب شيئًا، لم يغن عنه ذلك التصديق شيئاً وبقي ذلك اليهودي يهوديًا هرقل عظيم الروم صدق بنبوة رسول الله وبأن ما جاء به حق بل واشتاق إلى لقائه وتلهف على لقائه وتمنى أن يصل إليه ويغسل الأرض تحت قدميه [2].
لكنه لم يفعل مع قدرته على ذلك، لم يتبع سيدنا رسول الله ، أبى أن ينقاد لأمره وأن يمتثل لأمره فهل أغنى عنه تصديقه وما وقع في قلبه من التصديق، بل هل أغنت عنه لهفته للقاء سيدنا رسول الله بل هل أغنى عنه حبه هذا الذي لم يثمر، لم يغن عنه شيئًا وبقي هرقل عظيم الروم كافرًا.
بينما النجاشي رحمه الله لما بلغه أمر رسول الله على لسان أصحابه وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين بكى حتى ابتلت لحيته بدموعه وآمن وصدق برسول الله وامتثل أمره فآوى أصحاب رسول الله وأكرمهم ونصرهم ومنعهم من عدوهم، بل لم يكتف بذلك، أرسل إلى رسول الله يقول له إن أمرتني قدمت عليك وخدمت بين يديك فلم يأمره رسول الله بذلك وأخبر أنه أسلم وحسن إسلامه بل لما بلغه أنه مات صلى عليه رسول الله صلاة الغائب [3].
فما الفرق بين هرقل والنجاشي كلاهما صدق بقلبه وعلم أن النبي صادق في نبوته وأن ما جاء به الحق، إلا أن النجاشي إيمانه صحيح، إيمانه أثمر أثرًا عظيمًا هو الاقتداء والانقياد لأمر رسول الله بينما هرقل تأبى عن الانقياد وعن اتباع رسول الله ، غلبه حبه للملك والسلطان فلم يتبع رسول الله ولم يمتثل أمره إذا فهمنا هذا فهمنا السر في تفسير رسول الله للإيمان في حديث وفد عبد القيس الذي في الصحيح قال : ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ ثم أجاب فقال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم)) [4] ولم يكن الحج قد فُرض بعد ففسر رسول الله حقيقة الإيمان بالامتثال والانقياد فسر الامتثال بالأعمال وذكر أهم هذه الأعمال وهي الأركان وذكر الجهاد بإشارته إلى الخمس من المغنم.
ولذلك نوه كبير المحدثين الإمام البخاري رحمه الله فقال: باب من قال: الإيمان هو الأعمال حيث ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله سُئل أي الأعمال أفضل؟ فقال :- ((الإيمان بالله وبرسوله قيل ثم ماذا ؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور )) [5].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [الصف:10-11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم باب الحياء في العلم (4/61) برقم 131.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (1/8) رقم (7).
[3] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز باب التكبير على الجنائز أربعاً (1/447) رقم (1268و1266).
[4] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب أداء الخمس من الإيمان (1/29) رقم 53.
[5] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب من قال إن الإيمان هو العمل (1/18) برقم (26).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102]. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صل علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد (1/306) رقم (408).
(1/639)
دروس من السيرة النبوية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الاتباع, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
رفع الله ذكر رسوله – المراد بذلك – مواضع ذكره والصلاة عليه – كيف تصلي رسول الله ؟ - هل يصلى على غيره ؟ الحذر من البدع والمبتدعة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فما أعظم المنة علي هذه الأمة بل علي أهل الأرض جميعاً بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إذ بعثه الله نبياً وهادياً وداعياً إلي الله بإذنه وسراجاً منيراً وختم برسالته الرسالات وبنبوته النبوات وأنزل عليه آخر الكتب قرآناً يتلى كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد , وأنزل عليه آخر الشرائع شريعة الإلهية كاملة جعلها الله نبراساً للناس يستضيئون بها في حياتهم ويصلحون بها شؤونهم وأحوالهم فإذا ما فعلوا ذلك استقاموا على الطريق, طريق السعادة في الدارين الدنيا والآخرة وبدون ذلك كيف كانت تصير حياة الناس وأحوالهم بدون بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, كنا نصير كالأنعام بل كنا نصير أضل سبيلاً: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [آل عمران:164], فالحمد لله على هذه المنة الكبرى والحمد لله على هذه المنة العظمى, منن الله على عباده كثيرة لكن هذه هي المنة العظمى وهذه هي المنة الكبرى التي يجب على كل مسلم أن يشكر الله تعالى عليها, في عنق كل مسلم حق الشكر علي هذه النعمة, في عنق كل مسلم حق للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ كان سبب هدايته وهداية المؤمنين والمسلمين جميعاً, وللمصطفى علينا حقوق كثيرة منها أن نسلم ونصلي عليه صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في كتابه العظيم: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56]. قال أبو العالية رحمه الله: صلاة الله على نبيه ذكره له في الملأ الأعلى وثناؤه عليه عند ملائكته, وصلاة الملائكة دعاؤها للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال سفيان الثوري رحمه الله: الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار. إذن فأخبر ربنا عز وجل في هذه الآية بعظم مكانة عبده ونبيه وخليله ومصطفاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو يذكره في الملأ الأعلى عند ملائكته العظام يذكره بالثناء وتلهج الملائكة له بالاستغفار والدعاء, وقد أمرنا ربنا عز وجل بالصلاة والتسليم عليه, أمر أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه حتى يجتمع الثناء على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أهل العالمين العلوي والسفلي جميعاً. ودلت هذه الآية أيضاً على وجوب الصلاة عليه على كل مسلم ليس مرة واحدة في العمر فحسب كما قال بعضهم بل هي واجبة على المسلم في مواضع كثيرة ومناسبات عديدة, تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات قال الإمام الشافعي رحمه الله: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة في التشهد في الصلاة ومن تركها بطلت صلاته, وهذا هو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو الرواية الأخيرة عن الإمام أحمد وإلى هذا ذهب إسحاق بن راهويه رحمهم الله جميعاً وتجب الصلاة على النبي المصطفى أيضاً في الدعاء فعن فضالة بن عبيد [1] رضي الله عنه قال: ((سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي فقال صلى الله عليه وسلم: عجل هذا , ثم دعا به فقال له أو لغيره: إذا صليت - أي إذا دعوت فالصلاة هنا بمعنى الدعاء-فابدأ بتمجيد الله تعالى وصل على النبي ثم ادع بما شئت)). وتجب الصلاة عليه أيضاً عند ذكره صلى الله عليه وسلم فإذا ذكر النبي المصطفى والخليل المجتبى فصل عليه وسلم إن لم تفعل فأنت في خطر عظيم لأن النبي دعا على من يفعل ذلك فقال: ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ)) [2]. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد بل وسماه البخيل فقال صلى الله عليه وسلم: ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ)) اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد.
و تشرع الصلاة عليه أيضاً في مواضع أخر استحباباً بعدما تسمع الآذان , فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا عليّ فمن صلى عليّ صلاة صلى الله بها عليه عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وإني أرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة)) [3] وفي رواية [4] أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى عليّ ثم قال اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة حلت له شفاعتي)) , سمع [5] عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة رضي الله عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين سمع يدعو ويقول: اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى وارفع درجته العليا وأعطه سؤله في الآخرة والأولى كما آتيت إبراهيم وموسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ومما يشرع فيه أيضاً الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت المسجد, ادخل برجلك اليمنى ثم قل: بسم الله والصلاة علي رسول الله , اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك , فعن فاطمة [6] بنت رسول الله رضي الله عنها وأرضاها وصلى وسلم على أبيها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على النبي ويسلم عند المسجد ثم يقول اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك)).
تشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع أخرى كثيرة هي في بعضها واجبة وفي بعضها مستحبة وإن شغل المسلم لسانه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في معظم أوقاته أو في كل أوقاته فإن له من الأجر العظيم ما بشره به النبي المصطفى بنفسه صلى الله عليه وسلم , فعن أبي بن كعب [7] رضي الله عنه أنه قال: ((يا رسول الله إني أكثر من الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما شئت. فقال: الربع. قال: إن شئت فزدت فهو خير لك. قال: فالنصف. قال: إن شئت فزدت فهو خير لك. قال: فالثلثين. قال: إن شئت فإن زدت فهو خير لك. قال: أجعل لك صلاتي كلها. قال: إذن تكفى همك ويغفر لك ذنبك)). فإذا ما شغلت أيها المسلم وقتك كله الذي تذكر الله عز وجل فيه بالصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم فإن لك هذه البشارة العظيمة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (6/18) والترمذي (3477) والنسائي وأبو داود (1481) وسنده صحيح، والحديث صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
[2] أخرجه إسماعيل بن اسحاق القاضي في فضل الصلاة على النبي (18) والبخاري في الأدب المفرد (646) وابن خزيمة (1888) والحديث صحيح.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب استحباب القول (1/288-289) رقم 384.
[4] أخرجه أحمد (4/108) والطبراني في الكبير (2/26).
[5] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2/211-212) رقم 3104) وإسماعيل القاضي برقم (52) وسنده صحيح.
[6] أخرجه الترمذي (314و315) وأحمد (6/282) وغيرهما وسنده ضعيف للانقطاع.
[7] أخرجه الترمذي برقم (2457) وأحمد (5/136) وغيرهما وفي سنده ضعف.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اشكروا الله تبارك وتعالى على هذه النعمة المهداة وهذه الرحمة المسداة فإنها هي النعمة الحقيقية التي لا يجوز أن ينشغل عنها الناس بغيرها من شؤون دنياهم, وشؤون دنياهم كما نرى ونشاهد أكثرها أوهام وأكاذيب ونفاق وترهات , فانتبهوا يا أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى حقه عليكم فبسببه اهتديتم واستقمتم على الصراط المستقيم وبسببه حلت عليكم كل هذه البركات المنزلة من رب الأرض والسماوات , من حق المصطفي صلى الله عليه وسلم علينا أن نصلي عليه في كل مجلس جلسنا فيه , فعلى الناس إذا جلسوا أي مجلس أن لا ينسوا فيه ذكر الله والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, قال رسول الله: ((من نسيى الصلاة عليّ أخطأ طريق الجنة)) [1] وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)) [2] ، واعلموا أيها المؤمنون أن من المواضع التي يستحب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة ويوم الجمعة فقد روى ذلك في الحديث الحسن عن أبي أمامة [3] وعن أبي مسعود [4] وعن أبو الدرداء [5] رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة ويوم الجمعة وقال في حديث أبي الدرداء: ((أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة وما من أحد يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها قال أبو الدرداء: فقلت له حتى بعد الموت. فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) , وأفضل صيغ الصلاة على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم هي الصيغة التي علمها أصحابه الكرام لما قالوا له : يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) [6]. فهذه هي أفضل صيغة يصلى بها على النبي صلى الله عليه وسلم لأنها الصيغة النبوية وأي صيغة صلى بها المحب على الخليل المصطفى صلى الله عليه وسلم بشرط أن تخلو من البدعيات والشركيات فإنا نرجو له القبول والأجر العظيم.
وأما السلام عليه صلى الله عليه وسلم الذي أشار إليه الصحابة في هذا الحديث فهو قول القائل في التشهد في الصلاة كما علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)) , فالسلام على سيدنا رسول الله ورحمة الله وبركاته وصلى الله عليه وعلى آله كما صلى على آل إبراهيم انه حميد مجيد.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [7] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه ابن شاهين في الافراد رقم (81).
[2] أخرجه الترمذي (3380) وأحمد (2/453و495و389و515و527)وغيره.
[3] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان رقم (2770) وفي السنن الكبرى (3/249) وسنده ضعيف.
[4] أخرجه ابن أبي عاصم في فضل الصلاة على النبي رقم (64) وفي سنده ضعف.
[5] أخرجه ابن ماجه (1637) وغيره.
[6] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأنبياء باب يزفّون (3/1233) برقم 3370.
[7] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي في التشهد (1/306) رقم (408).
(1/640)
من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم اتباع سنته
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"من أعظم حقوق رسول الله اتباعه – المراد بالأسوة – بين المحبة والاتباع – أهمية إحياء السنة ليس في الإسلام بدعة حسنة – الأصول الثلاثة لمذهب أهل السنة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد اخترنا أن نقدم بين يدي دروس السنة النبوية الشريفة بيان حقوق النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وحقوقه علي أمته كثيرة.
أعظمها وأجلها اتباع سنته والعمل بها ونصرتها والذب عنها وإحياؤها إن كانت قد أميتت, وكم من سنة نبوية نسيها الناس أو جهلوها ولعظم أهمية هذا المقام فإنا نزيده بإذن الله تعالى بيانا وإيضاحا تثبيتا لمن كان علي السنة النبوية وموعظة له, وتذكرة ونصحا لمن كان على البدعة وتحذيرا له من مغبة ما هو عليه, فنقول قال الله تبارك وتعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [الأحزاب:21].
قال محمد بن على الترمذي الحكيم: الأسوة في الرسول الاقتداء به واتباع سنته وترك مخالفته في قول أو فعل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استن بسنتي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني)) [1] ، رواه عبد الرزاق وبعض هذا الحديث في الصحيحين وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
إن اتباع السنة من أعظم حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم ولذلك قال الله تعالى في كتابه العظيم مخاطبا نبيه ومصطفاه: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31]. لم يقل فأحبوني مع أن الاتباع يتضمن المحبة إذ لا فائدة من اتباع بلا محبة كما أنه لا تقبل المحبة دون اتباع.
ولكن السر في هذا التعبير القرآني البديع هو تنبيه السامعين إلي قوة التلازم بين الاثنين, بين محبة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وبين اتباع سنته فتفقد نفسك يا مسلم.
على كل مسلم محب للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يتفقد نفسه وأن يعرف موقفه من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعرف موقفه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن كان على منهج المصطفى متمسكا بسنته وهديه فليحمد الله عز وجل وليثبت فإنه على سبيل النجاة التي لا سبيل غيرها يوصل إلى الله والتي يسلم سالكوها من النار, وهي الطريق الوحيدة الموصلة إلى الجنة, إنها طريق الفرقة الناجية التي على رأسها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هاديا وقائدا ورائدا لم يكذب أهله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه الكرام الأئمة الأعلام الذين جاهدوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الجهاد وأبلوا أحسن البلاء ونصر الله بهم الدين وأعز بهم الملة ثم من بعده صلى الله عليه وسلم نقلوا للأمة سنته وهديه وشريعته, فجزاهم الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء.
قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((افترقت بنو إسرائيل على اثنين وسبعين فرقة وتفترق أمتي علي ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)) قالوا: ومن هي يا رسول الله. قال: ((الذي أنا عليه الآن وأصحابي)) [2].
تفقد نفسك يا مسلم من أنت من هذه الفرقة الواحدة الناجية, اسأل نفسك يا مسلم أنت على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج أصحابه الكرام, إذن فأنت من أصحاب هذه الفرقة الواحدة الناجية التي لا ينجو غيرها أبداً, وانتبه لنفسك يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم, اسأل نفسك هل أنت على سنته؟ هل أنت متمسك بهديه؟ هل سنته وهديه مقدمان عندك على هواك؟ فإن دعوى المحبة وحدها لن تنفعك إذا لم تقرنها بالاتباع, أعظم الناس محبة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أصحابه الكرام ولذلك فهم أشد الناس اتباعا له, أشد الناس تمسكاً بهديه وبسنته صلى الله عليه وسلم لا يقدمون على ذلك أي شيء, يمتثلون أمره صلى الله عليه وسلم لا يردهم ولا يمنعهم من ذلك أي شيء, يمتثلون أمره سواء فهموا الحكمة والعلة أم لم يعرفوها.
سأل رجل عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فقال: يا أبا عبد الرحمن إنا نجد في القرآن صلاة الخوف وصلاة الحضر ولا نجد صلاة السفر. فقال له ابن عمر: يا ابن أخي إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلينا ولا نعلم شيئا وإنما نفعل كما رأيناه يفعل.
نعم هذا هو الامتثال يفعلون كما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل يقتدون بهديه ويتمسكون بسنته, ينفذون أمره, ينزجرون عن نهيه سواء عرفوا الحكمة والعلة من ذلك أم لم يعرفوا, وهذا المعنى أوضح في قول عمر الفاروق رضى الله عنه وهو يخاطب الحجر الأسود حينما قال: إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ثم قبله الفاروق رضي الله عنه, معنى كلامه إنني لا أعلم السر في تقبيلك ولا الحكمة ولا العلة من تقبيلك, الذي أعلمه أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولكنني مع ذلك أمتثل لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتمسك بسنته وهديه فأقبلك لأنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك, والنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم هو نفسه إنما قبل الحجر الأسود لأن الله تبارك وتعالى أمره بذلك فامتثل أمر ربه ونحن نقبله اتباعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلا فإنه حجر لن يخرج في حقيقة كنهه عن ذلك, ليس السر في الحجر وإنما السر في الامتثال, السر في الاتباع, اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري كتاب النكاح (4776)، وعبد الرزاق في مصنفه (10379).
[2] أبو داود كتاب السنة (4596).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن من أفضل ما تفعله يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحيي سنته, تطبقها علي نفسك وعلى أهل بيتك وتذكر بها الناس إن كانوا قد هجروها أو جهلوها, تنشرها بينهم بكل ما تستطيع من وسائل, قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا)) [1] ، صدق النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم, ومعنى من سن في الإسلام سنة حسنة أي من أحيى سنته صلى الله عليه وسلم بين الناس فاقتدى الناس به في ذلك فله إلى جوار أجره مثل أجور العاملين بتلك السنة اقتداءً به لما ذكرهم بها ونشرها فيما بينهم, أما من ابتدع بدعة في الدين وهي التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سيئة أي بدعة في الدين فإن عليه إلى جانب وزره وإثمه إثم كل من عمل بتلك البدعة إلى يوم القيامة واقتداءً بذلك المبتدع.
فيا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحوجك إلى ذلك الأجر العظيم وما أغناك عن هذا الوزر الثقيل أولى لك ذلك الأجر العظيم, عن عمر بن عوف المزني رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث: ((من أحيى سنة من سنتي أميتت من بعدى فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة فإن عليه من الآثام مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا)) , فإحياء سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم لك إلى جانب أجرك العظيم مثل أجور من عمل بها, أليس هذا أولى بك يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما وقع فيه كثير من الناس من البدع باسم محبة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم يقولون إنها بدع حسنة لا بأس بها فإن فيها تذكيراً للناس بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فنقول لا يوجد في الدين شيء اسمه بدعة حسنة أو بدعة مقبولة، كل البدع مردودة في الدين.
من زعم أن هناك بدعة في الدين حسنة فقد نسي قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) [2] يقول صلى الله عليه وسلم: ((كل)) وكل: يعرف العرب أنها من صيغ العموم فشملت كل محدثة لا يخرج من ذلك أي بدعة فكل البدع في الدين ضلالات وكل الضلالات مآلها إلي النار.
فانتبه لنفسك يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم واعلم أن عملاً ولو كان قليلاً توافق به سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم خير لك وأفضل لك عند الله وأعظم بركة عليك من عمل كثير تنفق عليه الأموال وتبذل فيه الجهود وتنصب وتتعب وتكد وتسعى وهو في بدعة لأن العمل الأول الذي توافق به السنة لك عليه الأجر العظيم والعمل الآخر الذي تقع به في البدعة عليك فيه وزر ثقيل كما أخبر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهكذا كان يقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
روى الدارمي عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة. وهكذا كان يقول التابعون لهم بإحسان قال الحسن البصري رحمه الله: عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة.
ثم يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتبه لهذه الأصول واحفظها فانك إن حفظتها ونفذتها وعملت بها فأنت على المنهج, أنت على سبيل النجاة وطريقة الفرقة الناجية, قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: أصول مذهبنا ثلاثة, أولاً الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والأعمال, ثانياً الأكل من الحلال, ثالثاً إخلاص النية في الأقوال والأفعال. هذه أصول الشريعة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, فتمسك بها يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار وأعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن أدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا علي خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [3] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسلم كتاب العلم (1017).
[2] أصله في مسلم كتاب الجمعة (867).
[3] صحيح مسلم (408).
(1/641)
من مواطن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم (2)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الإيمان بالرسل, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مواطن شرع فيها الصلاة على النبي. 2- الجمع بين الصلاة والتسليم. 3- الصلاة والسلام على الأنبياء 3- الصلاة والسلام على غير الأنبياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فمن أجل ربط المؤمن بأسوته وقدوته وسيده وإمامه سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشكرا لله على هذه النعمة المسداة والرحمة المهداة شرع لنا الصلاة والتسليم عليه في مواطن كثيرة ومواقع عديدة بل لا يذكر ربنا عز وجل إلا وذكر نبينا معه هذا هو معنى قوله: ورفعنا لك ذكرك [الشرح:4]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: رفع الله ذكره فلا يذكر إلا ذكر معه.
وأوجب سبحانه علينا ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كل يوم أوجب علينا السلام عليه كل يوم عشر مرات والصلاة عليه خمس مرات في الصلوات المكتوبة فإذا ضممت إلى ذلك السنن الرواتب والنوافل كان أكثر من ذلك.
كما أمرنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم كما بينا سابقا أن نبدأ الدعاء دائما بعد حمد الله وتمجيده بالصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم فلا يرفع الدعاء إلى السماء حتى يصلى الداعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك موقوفا عن عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه وروي عنه مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد حتى يصلى علي أو حتى يصلي الداعي علي فلا تجعلوني كغمر الراكب صلوا علي في أول الدعاء وفي آخره وفي وسطه)) [1] أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقد بينا فيما مضى بعض المواطن سبعة مواطن من المواطن التي يشرع فيها الصلاة والتسليم على النبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فنستمر في بيان ذلك فنقول:
الموطن الثامن: في دعاء القنوت من الوتر
فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: ((اللهم أهدني فيمن هديت وعافني في من عافيت وتولني في من توليت وبارك لي في ما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت)) [2] ، زاد النسائي في روايته أنه يقول في آخر هذه الدعوات المباركات وصل اللهم على محمد.
الموطن التاسع: إذا قام الرجل من نوم الليل يشرع له الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى النسائي في سننه الكبرى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال يضحك الله إلى رجلين رجل لقي العدو على فرس من أمثل خيل أصحابه فانهزم أصحابه وثبت فإن قتل استشهد وإن بقي فذاك الذي يضحك الله إليه ورجل قام في جوف الليل لم يعلم به أحد فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم حمد الله ومجده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم واستفت القرآن فذاك الذي يضحك الله إليه يقول: ((انظروا عبدي قائما لا يراه أحد غيري)) [3].
الموضع العاشر: عقب ختم القرآن
سواء كان ذلك في صلاة التراويح بعد أن يفرغ من قراءة قل أعوذ برب الناس أو كان ذلك خارج الصلاة فإن هذا من مواطن إجابة الدعاء ولذلك يشرع فيه الدعاء ولذلك كان السلف رضي الله عنهم أجمعين يجتمعون عند ختم القرآن.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: من ختم القرآن فله دعوة مستجابة وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده ودعا قال قتادة رحمة الله: إن الرحمة تنزل عند ختم القرآن.
الموضع الحادي عشر: عند المرور بالمساجد
فقد روى القاضي رحمه الله في كتابه عن علي رضي الله عنه قال: إذا مررتم بالمسجد فصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم تسليما عند مرورك بالمسجد ورؤيتك للمسجد ولو لم تدخل فيه صل على النبي صلى الله عليه وسلم.
الموضع الثاني عشر: عند كتابة اسمه صلى الله عليه وسلم
فقد روي من طرق كثيرة عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي قال: ((من صلى علي في كتاب لم يزل الملائكة يستغفرون له ما دام اسمي في ذلك الكتاب)) [4].
قال عبد الله بن الحكم رحمه الله: رأيت الشافعي رحمه الله في النوم فقلت: ما فعل الله بك فقال: رحمني وغفر لي وزفني إلى الجنة كما تزف العروس ونثر علي كما ينثر على العروس. قلت: بم بلغت هذا الحال؟ فقال لي قائل: يقول لك بما في كتابي الرسالة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: فكيف ذلك أي ما صيغة ذلك؟ فقال: صلى الله على محمد ما ذكره الذاكرون وغفل عنه الغافلون قال عبد الله بن الحكم : فلما أصبحت نظرت إلى الرسالة فوجدت الأمر كما رأيت.
وقال الحسن بن محمد رحمه الله : رأيت أحمد بن حنبل رحمه الله رأيته في النوم فقال لي: يا أبا علي لو ترى صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب كيف تزهر بين أيدينا صلاته على النبي في الكتاب صارت نورا بين يديه رحمه الله.
فكلما كتبت اسم النبي صلى الله عليه وسلم فاكتب الصلاة عليه والتسليم ولا تفعل كما يفعل بعض البخلاء من الكاتبين بدلا من أن يكتب الصلاة والتسليم يكتبون رمزا حرف الصاد أو كلمة صلعم وهذا لا تنطبق عليه هذه الفضيلة المذكورة.
الموطن الثالث عشر: عقب الذنب
إذا ارتكب المؤمن ذنبا فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يكفر عن ذنبه فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا علي فإن صلاتكم علي كفارة لكم من صلى علي صلى الله عليه عشرا)) [5] وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلوا علي فإن الصلاة علي زكاة لكم)) [6] أي فيها تطهير لكم من الذنوب والآثام وفيها بركة ونماء لكم بالصلاة على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تحصل طهارة النفس من الرذائل وتحصل البركة ويحصل النماء وتحصل الزيادة في الكمالات والفضائل فصلى الله على محمد وسلم عليه تسليما كثيرا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة (486)، والمرفوع من حديث جابر ، أخرجه البزار كما في الكشف (3156)، قال في الجمع (10/155) فيه موسى بن عبيده وهو ضعيف.
[2] أبو داود كتاب أبواب الوتر (1425)، والنسائي باب الدعاء فيالوتر (1746).
[3] أخرجه النسائي في السند الكبرى كتاب عمل اليوم والليلة (10703).
[4] أورده ابن القيم في جلاء الأفهام (90) وقال : فيه (كادح ونهشل غير ثقتين وقد اتهما بالكذب).
[5] أورده ابن القيم في جلاء الأفهام (58) وهو منقطع.
[6] أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (46) وفيه ضعف.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فإذا صلى أحد على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم ولا يقتصر على أحدهما دل على استحباب ذلك قوله في الآية: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. فالأفضل أن يقول كما في لفظ الآية: صلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما هذه من الصيغ المفضلة لأنها لفظ الآية وقد رويت أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فإذا أفرد غير الأنبياء بالذكر هل تجوز الصلاة عليه والسلام؟ لا يجوز الصلاة والسلام على غير الأنبياء إذا أفردوا بالذكر فلا يقال أبو بكر صلى الله عليه وسلم ولا يقال علي عليه السلام فإن هذا المقام أصبح شعارا خاصا بالأنبياء الكرام وعلى رأسهم خاتمهم وإمامهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان القصد من ذلك المعنى صحيح فإن الله تعالى يصلي على الصحابة الكرام وعلى جميع المؤمنين كما قال سبحانه: هو الذي يصلي عليكم وملائكته [الأحزاب:56]. ولكن كما قلنا أصبح هذا شعارا خاصا بالأنبياء فلا يدخل فيه غيرهم إلا على سبيل التبعية إلا إذا ذكروا تبعا للنبي كما جاء في الحديث: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)) [1].
وكذلك لا ينبغي أن نفرد علياً رضي الله عنه بالسلام ولا أحد من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقول علي عليه السلام ولا يقول فاطمة عليها السلام لما ذكرنا ولأن هذا أصبح شعارا لأهل البدع.
فعليك يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحب أصحابه الكرام وآل بيته المطهرين عليك بسبيل أهل السنة أصحاب الفرقة الناجية وأحذر من طريق المبتدعين دعك عن المبتدعين وعليك بالمشروع فالمشروع لك إذا ذكر الأنبياء وعلى رأسهم خاتمهم صلى الله عليه وسلم أن تذكر الصلاة والتسليم وإن ذكر الصحابة الكرام أو آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم فتترضى عنهم وإذا ذكر التابعون ومن بعدهم من أئمة المسلمين فعليك بالترحم عليهم هذا هو منهج أهل السنة والجماعة الزم سبيل أهل السنة والجماعة ودعك من المبتدعين.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
أما بعد: أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [2] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح البخاري (6357)، صحيح مسلم (405).
[2] صحيح مسلم (408).
(1/642)
من مواطن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
13/4/1413
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
من مواطن الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم : الموطن الرابع عشر : عند المرور
بآية فيها ذكره أو سماعها –الموطن الخامس عشر : عند البدء بكلام هام – الموطن السادس
عشر : بين التكبيرات في صلاة العيد – الموطن السابع عشر : عند الاجتماع على الذكر -
الموطن الثامن عشر : عند دخول المنزل – الموطن التاسع عشر : بعد الفراغ من الوضوء -
الموطن العشرون : عند نسيان شيء – الموطن الحادي والعشرون : أول النهار وآخره -
لله ملائكة مُوَكلة بإيصال السلام إليه صلى الله عليه وسلم بعد موته – فضل الصلاة والسلام
عليه – الحرص على الاستقامة واجتناب المحرمات
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الموطن الرابع عشر: من مواطن الصلاة على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا مررت بآية فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أو سمعتها مثل قوله تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. تقف وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتفعل ذلك في الصلاة أيضا إذا كانت نفلا نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله.
الموطن الخامس عشر : في كل كلام ذي بال فيه خير عليك أن تبدأه بحمد الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أما حمد الله فلما روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( كل كلام لم يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم)) [1] ، وروى أبو موسى المديني هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: ((كل كلام لم يذكر الله فيه ولم يبدأ به بالصلاة علي فهو أقطع ممحوق من كل بركة)) [2].
الموطن السادس عشر: من مواطن الصلاة على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد بين التكبيرات لما روى القاضي إسماعيل بن إسحاق رحمه الله عن عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أجمعين وإليه ذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين التكبيرات في صلاة العيد.
الموطن السابع عشر: في كل موضع يجتمع فيه على ذكر الله تعالى لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله سيارة لله من الملائكة ملائكة يسيرون في الأرض فإذا مروا بحلق الذكر قال بعضهم لبعض اقعدوا فإذا دعوا – أي أهل الذكر – أمنوا على دعائهم وإذا صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلوا عليه معهم حتى يفرغوا من ذلك فيقول بعضهم لبعض طوبى لهؤلاء يرجعون مغفورا لهم)) [3].
الموضع الثامن عشر: عند دخول المنزل فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الفقر وضيق المعاش فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلت منزلك فسلم إن كان فيه أحد أو لم يكن فيه أحد ثم سلم علي واقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة)) [4] ، ففعل الرجل ذلك فأدر الله عليه الرزق حتى أفاض على جيرانه وقراباته روى ذلك أبو موسى المديني في كتابه عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
الموضع التاسع عشر: بعد الفراغ من الوضوء فقد روى أبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فرغ أحدكم من طهوره فليقل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم ليصل علي فإذا قال ذلك فتحت له أبواب الرحمة)) [5].
الموضع العشرون: إذا نسي الشيء وأراد أن يذكره فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نسيتم شيئا فصلوا علي تذكرونه إن شاء الله)) [6] والوارد في القرآن ذكر الله تعالى عند النسيان قال الله تعالى: واذكر ربك إذا نسيت [الكهف:24]. فالأحسن للناسي أن يجمع بين ذكر الله تعالى وبين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بذلك بين الكتاب والسنة.
الموضع الحادي والعشرون: من مواضع الصلاة على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أول النهار وآخره فقد روى الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي حين يصبح عشرا وحين يمسي عشرا أدركته شفاعتي يوم القيامة)) وروي في حديث ضعيف عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي في يوم ألف مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة)).
ثم اعلم يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرب عز وجل يبلغ صلاتك وسلامك نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فقد وكل على ذلك ملائكة يقومون بذلك قال أيوب السختاني رحمه الله: بلغنا والله أعلم أن ملكا موكلاً بكل من يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم وعن بكر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حياتي خير لكم ووفاتي خير لكم تحدثون فيحدث لكم فإذا أنا مت عرضت علي أعمالكم فإن وجدت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرت لكم)) وعن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا قبري عيدا – أي لا تعتادوا زيارته في مواعيد محددة من السنة تكثرون الزيارة فيها – ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم)) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله ملائكة سياحين يبلغونني من أمتي السلام)).
اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أحمد (2/359).
[2] أورده ابن القيم في جلاء الأفهام (333) وسنده ضعيف.
[3] أخرجه أحمد (2/252) بنحوه. والحاكم (1/495).
[4] لم أقف عليه.
[5] عزاه السخاوي في القول البديع (171) إلى أبي الشيخ في فضائل الأعمال وقال في سنده محمد بن جابر وقد ضعفه غير واحد.
[6] عزاه السخاوي في القول البديع (227) إلى أبي موسى المديني بسند ضعيف.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فيتبين مما سبق أن الصلاة والسلام على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال وأحسن القربات وأعظمها بركة وعاقبة محمودة على المسلم أما يكفيك يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك إذا صليت عليه مرة واحدة يصلي الله عليك بها عشرا؟
ثم إنك بالصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تكون على اتصال به بأكرم وسائل الاتصال بواسطة الملائكة السياحين الذين يبلغونه صلى الله عليه وسلم صلاتك وسلامك بأمر الرب عز وجل فما دمت تصلي وتسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت على اتصال به ولكن اعلم أن أولئك الملائكة الكرام الذين يبلغون النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم صلاتك وسلامك عليه يبلغونه أيضا حالك فاحرص على أن تكون في أحسن حال احرص على ألا يبلغونه صلى الله عليه وسلم عنك إلا أحسن الأحوال وأكرم الأفعال الخوف كل الخوف أن يبلغوه مع سلامك عليه أنك تعاند سنته وتهمل شريعته ونسيت آدابه وأنك غارق في الشهوات وأنك غارق في الملذات تجري وراء الأهواء وراء الدنيا وزخرفها غفلت عن سنته وشريعته وأن جسدك غذي بالحرام وأن جسدك امتلأ بالربا الخوف كل الخوف يا مسلم من أن يبلغوه أنك أعلنت الحرب عليه فكل من شيد صرح الربا فقد أعلن الحرب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكل من شارك في الربا فقد شارك في الحرب على الله ورسوله فالخوف كل الخوف من أن يبلغوه مع سلامك أنك أعلنت الحرب عليه أو شاركت في الحرب عليه فيرد عليك بقوله: لا بارك الله لك ولا سلم عليك.
فاحذر يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الموبقات الكبار واحرص على أن تجمع مع السلام عليه والصلاة الحرص على اتباع سنته صلى الله عليه وسلم وعلى تحكيم شريعته وعلى التأدب بآدابه والتخلق بأخلاقه فإن فعلت ذلك رجونا أن تنال شفاعته الكبرى وأن تحشر معه صلى الله عليه وسلم وأن تكون رفيقه في الجنات العلى جنات الفردوس.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/643)
من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم زيارة مسجده
الإيمان
الإيمان بالرسل
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصلاة في المسجد النبوي 2- مشروعية زيارة القبور وآدابها 3- آداب زيارة قبر
النبي صلى الله عليه وسلم 4- رد النبي صلى الله عليه وسلم السلامَ على من سلّم عليه
5- بلوغ الصلاة على نبينا إليه 6- قصد القبر بالزيارة في أماكن مخصوصة 7- المواضع
التي تُشرع زيارتها في المدينة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من أجل الأعمال وأفضل القربات زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه, ثم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره والسلام على صاحبيه أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما وأرضاهما أما زيارة مسجده والصلاة فيه فلقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فبمائة ألف صلاة)) [1] , وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال-وفي رواية لا تعمل المطي- إلا لثلاثة مساجد, مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)) [2] , فدل هذان الحديثان الصحيحان على أفضلية زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه وشد الرحل إليه والسفر إليه لمن كان بعيدا عنه.
أما زيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم فالأصل فيها أنها داخلة في عموم الأدلة الصحيحة التي دلت على مشروعية زيارة القبور كقوله صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور آلا فزوروها فإنها تذكر الآخرة)) [3] ، وفعله أيضا صلى الله عليه وسلم دل على ذلك فقد كان يزور قبور البقيع [4] ويسلم على أهلها ويزور شهداء [5] أحد ويسلم عليهم وزار قبر أمه صلى الله عليه وسلم, فزيارة القبور مطلقا مشروعة والحكمة فيها تذكر الموت وتذكر الآخرة والاعتبار بذلك, أما زيارة قبور المسلمين المؤمنين فإضافة إلى الحكمة المذكورة, فهناك حكمة أخرى خاصة بها وهي السلام عليهم والدعاء لهم والاستغفار لهم كما كان يفعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زار قبور المسلمين: ((السلام عليكم أهل الديار من المسلمين, يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون)) [6] رواه مسلم في صحيحه.
ولا شك وريب في أن الأصل أن قبر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم هو أولى قبور المؤمنين بالزيارة والسلام ولذلك فمن زار قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فليحرص على التأدب بآداب الزيارة الشرعية بأن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدب وصمت خفيض لا يرفع صوته ولا يحدث جلبة ولا يزاحم الناس فإن الله تعالى يقول: إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم [الحجرات:3]. ثم يسلم على صاحبي رسول الله ووزيريه صلى الله عليه وسلم وهما أبو بكر الصديق وعمر الفاروق رضى الله عنهما وأرضاهما, كل ذلك بعبارة موجزة بلا تطويل ولا تمطيط ولا مبالغة , ثم يتوجه إلى القبلة فيستقبلها فيدعو الله لنفسه ولغيره بما شاء وليحذر حينئذ من دعاء غير الله أو الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم أو عرض الحوائج إليه أو طلب الحوائج منه فإنها كما يفعله المبتدعة ومن تبعهم من الجهال, فإن هذا من أقبح ما يمكن أن يرتكب من سوء الأدب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الدعاء لا يجوز إلا لله ولأنه لا يستغاث إلا بالله ولا تعرض الحوائج إلا على الله ولا تطلب إلا من الله كما علمنا بنفسه صلى الله عليه وسلم وكان مشفقا أشد الشفقة من أن يقع أحد من أمته في ذلك ولهذا دعا ربه صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)) [7] ومقصوده صلى الله عليه وسلم هو ما يمكن أن يرتكبه الجهال عند قبره من دعائه والاستغاثة به وعرض الحوائج عليه أو طلب الحوائج منه فإن هذا من الشرك المحبط للعمل الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير وكان يغضب أشد الغضب إذا وقع أحد من أصحابه في ذلك ولو كان جاهلا بحكمه.
ثم اعلم يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قد خص خليله ونبيه ومصطفاه بخصوصية في قبره ليست لأحد غيره وهي أنك إذا سلمت عليه صلى الله عليه وسلم من أي مكان كان قريب أو بعيد بلغ سلامك فيرد الله عليه روحه فيرد عليك السلام وما هذا إلا لعلو شأنه صلى الله عليه وسلم وعظم مكانته وكون قبره ليس كبقية القبور ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود [8] عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)). وفي الحديث الصحيح [9] أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي السلام)).
فإذن لا يحتاج كل مسلم لكي يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يتعنى المجيء إلى قبره بل يسلم عليه عند دخول مسجده صلى الله عليه وسلم فيقول: باسم الله والصلاة على رسول الله. فيبلغ سلامه هذا النبي صلى الله عليه وسلم فيرد الله على نبيه روحه فيرد عليه السلام, يكفيه لك فلا يحتاج إلى المجيء إلى قبره بل كل من قال ذلك في أي مسجد من مساجد المسلمين شرقا وغربا فإنه تحصل له هذه المنقبة العظيمة, بل من سلم عليه صلى الله عليه وسلم في أي مكان في المساجد وفي غير المساجد قريب أو بعيد فإنه يكون قد حصل على هذه المنقبة العظيمة منقبة السلام عليه والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كما أنه لو جاء إلى قبره صلى الله عليه وسلم ولذلك لما رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلا يكثر التردد إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) [10]. روى هذا الحديث عن علي رضي الله عنه حفيده علي زين العابدين عن أبيه الحسين عن علي رضي الله عنهم أجمعين وأخرجه محمد بن عبد الواحد المقدسى في كتابه المختارة الذي هو من أصح كتب الحديث.
و ذكر القاضي عياض المالكي رحمه الله عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال لرجل: إذا دخلت فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)).
معني هذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخولك مسجده يبلغه سلامك , هذا هو معنى قول السبط رضي الله عنه ولكن إذا جاء أحد إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه وعلى صاحبيه فلا بأس بذلك وخاصة إذا كان من الغرباء أهل الآفاق فقد روي ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يفعل ذلك إذا عزم على السفر أو قدم من السفر. أما بقية الصحابة فمن فقههم وهم أفقه الأمة وأحرصها على الخير وعلى الصدق إليه فإنهم لما علموا تلك الخصوصية النبوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره وأن من سلم عليه من بعد هو كمن سلم عليه من قرب فإنهم اكتفوا بالسلام عليه عند دخول مسجده صلى الله عليه وسلم والسلام عليه من كل مكان ولم يكونوا يحرصون على المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم.
أما من أكثر المجيء إلى قبر المصطفي صلى الله عليه وسلم وأكثر الترداد عليه كل يوم أو كل أسبوع في أوقات مخصوصة فهذا دخل في النهي الذي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا قبري عيدا)) [11] أي لا تعتادوا المجيء إلى قبري في أوقات مخصوصة. ولا خير في ارتكاب ما نهى عنه النبي وزجر صلى الله عليه وسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في التطوع باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/389) رقم 1190، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج (1/1012).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في التطوع باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/389).
[3] أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجنائز باب استئذان النبي ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (2/671).
[4] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (1/669).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه في المغازي باب غزوة أحد.
[6] أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (2/669).
[7] أخرجه أحمد في المسند (2/246) وغيره.
[8] أخرجه أبو داود (2041) وأحمد (2/527) وسنده حسن.
[9] أخرجه أحمد (1/387) والنسائي في الكبرى (1114) وغيرهما.
[10] أخرجه البخاري في تاريخه (2/186) وابو يعلي في مسنده رقم (469) وإسماعيل القاضي والخطيب في الموضح (2/52-53) وفي سنده لين.
[11] أخرجه البخاري في تاريخه (2/186) وغيره وفي سنده لين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد فقد دلت النصوص الصحيحة على أن أربعة معالم تشرع زيارتها في هذه المدينة النبوية المباركة أولها مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقد بينا ذلك, ثانيها هذا المسجد المبارك مسجد قباء الذي هو أول مسجد أسسه النبي صلى الله عليه وسلم عند مقدمه من الهجرة إلي هذه المدينة الطيبة المقدسة, في الصحيح [1] عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا فيصلي فيه, وقال صلى الله عليه وسلم: ((من تطهر في بيته فأتى مسجد قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة)) [2] , وثالثها بقيع الغرقد ففي صحيح [3] مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلتها يخرج إلي بقيع القبور في آخر الليل فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون ونحن اللاحقون السلام عليكم دار قوم مؤمنين يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون , اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)). ولا شك بأن هذا الدعاء النبوي فيه بشارة عظيمة لكل من دفن في البقيع من المؤمنين فدل هذا الحديث على مشروعية زيارة قبور البقيع للسلام على أهلها والدعاء لهم والاستغفار لهم, رابعها قبور الشهداء بأحد فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورهم أحيانا كما روى [4] أبو داود عن طلحة بن عبيد الله وكان أحيانا يرقى على أحد كما جاء في صحيح البخاري في فضائل [5] أبي بكر الصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقى على أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فاضطرب الجبل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)) , هذه المعالم الأربعة مسجدان ومقبرتان هما المعالم التي تشرع زيارتها من معالم هذه المدينة النبوية وما سوى ذلك لم تصح النصوص بزيارته.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا لبن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [6] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه التطوع (1/399) برقم 1193وأخرجه مسلم في صحيحه (2/1016).
[2] أخرجه أحمد (3/487) والنسائي (2/37) وابن ماجة (1412) والحديث صححه الحاكم.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (2/699).
[4] أخرجه أحمد (1/161) وأبو داود (2043).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه فضائل الصحابة باب قول النبي لو كنت متخذا خليلاً (3/1344-1345).
[6] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد (1/306).
(1/644)
الشذوذ وآثاره
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفطرة السوية يميل الإنسان إلى الجنس الآخر. 2- ظهور الشذوذ في قوم لوط. 3- الغرب
يمشي على خطى قوم لوط. 4- عقوبة قوم لوط. 5- تحذير رسول الله من فاحشة اللواط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها المؤمنون : إن الاعتقاد في الله وحده والإيمان به يقود إلى الإستلام لسننه وشرعه، وقد شاءت سنة الله أن يخلق البشر ذكرا وأنثى وأن يجعلها شقين للنفس الواحدة تتكامل بهما، وشاءت سنة الله أن يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل عن طريق هذا الالتقاء وجهزهما سبحانه جميعا عضويا ونفسيا لهذا الالتقاء، وجعل اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة، والرغبة في إتيانها أصيلة، وذلك لضمان أن يتلاقيا فيحققا مشيئة الله في امتداد الحياة واستمرارها، ثم لتكون هذه الرغبة وتلك اللذة دافعا في مقابل المتاعب التي يلقيا منها بعد ذلك في الذرية من حمل ووضع ورضاعة ومن نفقة وتربية وكفالة.
هذه هي سنة الله التي فطر الناس عليها وفق حكمته وتدبيره وقدرته، ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلا بالانحراف عن العقيدة وعن منهج الله في الحياة، يعاقب الله على ذلك الانحراف بعقوبات معجلة في هذه الدنيا مع ما يدخره لصاحبه من العذاب الأليم الشديد في الآخرة.
وقد حدثنا الله سبحانه في كتابه الكريم عن أناس انحرفت فطرتهم بعد أن تقلبوا في الشهوات العارمة الجامحة، فلم يشبع نفوسهم الظامئة للانحراف إلا الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور وترك النساء وهو انحراف في الفطرة شنيع لا يحقق نسلا ولا ينجب ذرية، ولا يجد فيها صاحبه لذة سوية ، انحراف تترفع عنه البهائم العجماوات.
قال الله تعالى عن أول قوم ظهر فيهم ذلك الانحراف: ولوطاً إذ قال لقوله أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين.
عجيب أمر هؤلاء الناس إنهم غارقون في الوحل وفي الأذى وفي الانحراف إلى آذانهم، إنهم تجاوزوا منهج الله الممثل في الفطرة البشرية السوية النظيفة، وتجاوزوا وأسرفوا في الطاقة التي وهبهم الله إياها، فإذا هم يريقونها ويبعثرونها في غير موضع الإخصاب، ثم يتبجحون وينكرون على نبي الله لوط وعلى صحبه قائلين: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ، وما ذاك إلا ليخلو لهم الجو فيتقلبوا في الجريمة والانحراف دونما رادع أو زاجر من سلطة أو ضمير.
ولذلك استحقوا العقوبة في الدنيا، اسمعوا إلى قول الله تعالى يحكي ذلك بعد أن هرع القوم إلى ضيف لوط المكرمين: وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أو لم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين. وقال تعالى: فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد.
تلك قصة قوم حكاها الله وبين عاقبة انحرافهم نجعلها في ذاكرتنا لنتابع البشرية في هذا الجيل الذي نعيش حياته اليوم، لنأخذ عبرة أخرى من بلاد الغرب الذي يسمونه متحضرا متحررا، إنه يعيش في الجاهلية الحديثة في أوربا وأمريكا، حيث ينتشر الانحراف الجنسي الشاذ انتشارا ذريعا بعد أن استشرى الانحلال الأخلاقي والعقائدي فيهم ، بعد أن تحررت المرأة بزعمهم ،وخالطت الرجال وزاحمتهم في الوظائف وأماكن اللهو، وذلك كله لم يؤد إلى إشباع رغباتهم الدفينة ولكنه أدى إلى الانحراف والشذوذ الذي تترفع عنه البهائم.
فما هو الثمن الذي دفعه الغرب المتحلل رغم أننا نراه قويا في إنتاجه وصناعة وحضارته المادية، فلنستمع إلى أخر الأنباء في هذا المضمار تأتينا من وراء البحار.
مرض جديد انتشر في الولايات المتحدة في الثلاث مدن الكبيرة (نيويورك - سان فرنسيسكو- لوس أنجلوس)، بين المختلين خلقيا الذين يمارسون الشذوذ الجنسي، حالة من الذعر تنتاب أمريكا نتيجة هذا المرض الفتاك الذي لا يعرفون له علاجا وأخذ في الانتشار بصورة وبائية منذ عامين، زاد الذعر عندما بدأت تظهر حالات من هذا المرض في أناس لم يمارسوا الشذوذ، ولكن نقل لهم دم من بنوك الدم يشتبه في أنها من تبرع شواذ، مصداقا لقول الله تعالى: واتقوا فتنة لا يصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.
أيها الاخوة المؤمنون: مرة أخرى إلى كتاب الله تعالى لنقرأ قوله: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فحق عليها القول فدمرناها تدميراً.
ولنستمع إلى حديث الرسول وتحذيره وهو يبين العقوبات المتعددة لمن يخالف عن دين الله وفطرته عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط)) ، وقال عليه السلام: ((ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت ولا منع قوم الزكاة إلا حبس عنهم القطر)).
وأقبل يوما على أصحابه فقال: ((يا معشر: خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، ومالم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)). وفي الحديث: ((إذا كثر اللوطية رفع الله عز وجل يده عن الخلق فلا يبالي في أي واد هلكوا)).
وفي حديث للنسائي: ((لعن الله من عمل عمل قوم لوط)) ، وأخرج الطبراني والبهيقي: ((أربعة يصبحون في غضب الله تعالى ويمسون في سخط الله: المتشبهون من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال والذي يأتي البهيمة، والذي يأتي الرجال)).
وأما العقوبة في الدنيا لذلك المنحرف الشاذ فقد قال فيها : ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) ، وقال ابن عباس : ينظر إلى أعلى بناء في القرية فيلقى منه ثم يتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط، وقال علي : من أمكن من نفسه طائعا حتى ينكح ألقى الله عليه شهوة النساء وجعله شيطانا في قبره إلى يوم القيامة.
نسأل الله تعالى أن يرفع غضبه عنا وألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا وأن يطهر قلوبنا وجوارحنا ومنهم الانحراف بين النساء فتكتفي المرأة بالمرأة، شذوذا وانحرافا عن الفطرة. وقد حذرنا النبي ذلك وبين حكمه فقال: ((السحاق زنا النساء بينهن)).
ونفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/645)
الربا والقرض
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الديون والقروض, الكبائر والمعاصي
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الإقراض الحسن. 2- فضل القرض على الصدقة. 3- آداب القرض الحسن.
4- الحث على رد أموال الناس بعد اقتراضها.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد :
فإن الله تعالى بعث لنبيه خاتما لأنبيائه ، وأنزل عليه كتابا خاتما لكتبه ، وأمرنا فيها وأن لا نرفع أصواتنا فوق صوته وألا نتقدم بين يدي أمره ، وقد تولاه ربه فيما ينطق: وما ينطق عن الهوى ، ثم أمرنا بالأخذ بما أتانا ونهانا عنه: وما أتاكم الرسول فخذون وما نهاكم عنه فانتهوا ، وحذرنا من مخالفة أمره: فليحذر الذين يخالفون أمره أن تصيبه فتنة أو يصبهم عذاب أليم.
أيها المؤمنون: رأينا الأضرار الكبيرة والمفاسد العظيمة للربا ، ولذلك وقف النبي في حجة الوداع ليبطله، إن الإسلام يقيم مجتمعه على دعائم من الإيمان الصادق بالله والثقة بما عنده ، ويربط بين أفراده برباط الاخوة والتعاون والتآزر ، ويجعل الفرد في كفالة إخوانه ورعايتهم ، فلا يجوز أن يتركوه للحاجة ، ولا أن يستغلوا حاجته فيفرضوا عليه الربا الحرام ، وعندما يغلق الإسلام أمامنا بابا من أبواب الحرام فإنه يفتح أبوابا كثيرة من الحلال ، فعندما حرم الربا، أباح لنا خروجا من الأثام ، القرض والمضاربة في المعاملات.
أما القرض فهو قربة من القربات ، فيه إيصال النفع للمقترض وقضاء حاجة وتفريج كربته وإعانته على كسب قربة أخرى ويصبح هذا القرض واجباً علينا..إذا كان المقترض مضطرا لذلك محتاجا إليه وقد حث الله تعالى على القرض وجعله معاملة معه سبحانه: من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون والحياة بيد الله والرزق بيد الله والقرض يضاعف، مالا وبركة وذكرا حسنا وكنى سبحانه في الحديث عن الفقير المحتاج بنفسه ليحث هذه المعاملة فقال فيما يرون عن ربه: (( يقول الله تعالى يوم القيامة يا بن آدم مرضت فلم تعدني.. أستطعمتك فلم تطعمني....)).
وقرن الله تعالى القرض بالصلاة والزكاة: وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً.
وقرنه مع الإيمان بالرسل ومع شعائر العبادة ووعد عليه بتكفير الذنب ودخول الجنات: لئن أقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل.
وتواردت أحاديث النبي : (( من منح منيحة لبن أو وَرِق أو هدى زقاقا كان له مثل عتق رقبة )) وروى أن رجل دخل الجنة فرأى مكتوبا على بابها: ((الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر)).
(( ما من مسلم يقرض مرتين إلا كان كصدقة مرة)).
وفي القرض تيسير على وقضاء لحاجة وتعاون على البر والتقوى: وتعاونوا على.. (( من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة )) والقرض شكر بنعمة الله تعالى تستوجب الآيات لئن شكرتم لأزيدنكم.
وبعد القرض يرغب الإسلام في التيسير المقترض المعسر وإمهاله في الدفع بل يرغب في التنازل عنه والوضع ، فعن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى عنه ، ثم وجده فقال إني معسر ، فقال : آلله قال : فإني سمعت رسول الله يقول : (( من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة ، فلينفس عن معسر أو يضع عنه)) ، وعن حذيفة: (( تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا : حملت من الخير شيئا ؟ قال لا ، قالوا: تذكر، قال كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجاوز عن الموسر ، فقال الله تعالى: تجاوزوا عنه ))
وعن بريدة: ((سمعت رسول الله ، من أنظر معسرا فله كل مثله صدقة ، قال : ثم سمعته يقول : من أنظر ، فله كل يوم مثليه، قال: له كل يوم مثله صدقة ، قبل أن يحمل الدين ، فإذا حل فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة )).
وهذه الأحاديث وغيرها في فضل القرض ومريد العون وسد خلة المحتاج ، إنما تواردت كلها ترغب في القرض، فقد يبخل الإنسان بالقرض أو يحسب حسابا لعدم الوفاء ، أو يعطل المال فيمسك ولا يقرض.
وهو أيضا : مال مضمون حتى لو هلك بيد المقترض أو خسر المقترض ، فإن المال ثابت في ذمته ، أما لو كان في شركة فإنه يهلك على حصة الاثنين.
أيها المسلمون: هذه وسيلة من الحلال تنقى بها الحرام ويبتعد عن الربا.
أما الوسيلة الثانية فهي بيع السلم ، أما الوسيلة الثالثة فهي شركات المضاربة.
ولئن حث الإسلام على القرض فإنه يحث المقترض على الوفاء والسعي من أجل ذلك ويصدق: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله)) وكان صلى الله عليه وسلم يقضي الدين عن المدين فيقول: (( من مات وترك مالا فلأهله ، ومن ترك كلا أو ضياعا فإلي وعلي )).
وقال ((الدين دينان فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه ، ومن مات وهو لا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته ، ليس يومئذ دينار ولا درهم )).
وفي قصة الرجل من بني إسرائيل دليل على ذلك وشاهد.
تحريم مطل الغني ظلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/646)
الربا وآثاره
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التكافل ركن في النظام الإسلامي. 2- الربا خروج من الأخلاق والتكافل. 3- الربا وسيلة
انتهازية لتنمية المال. 4- آثار للربا على المجتمع. 5- تحريم الإسلام للربا وتحذيره منه.
6- عقوبة الربا في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون:
فإن من البديهيات المسلمة والتي يؤمن بها كل واحد منا أن الله سبحانه وتعالى هو مالك كل موجود لأنه هو خالقه وقد جعل الله تعالى هذا الإنسان خليفة في هذه الأرض وفق منهج الله وحسب شريعته، فكل ما خالف هذه الشريعة والمنهج كان باطلا وكان ظلما وكان عدوانا، فإن لله سبحانه وتعالى على خلقه شروطا وعهودا وحقوقا.
وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يكونوا متعاونين متكافلين، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل، فأوجب الزكاة، وشرع القرض الحسن، ثم أوجب عليهم أن يلتزموا في معاملاتهم جانب القصد والاعتدال ويتجنبوا السرف والتبذير والشطط فيما ينفقون، وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل، والنظافة في الوسيلة والغاية هذه جملة من المبادئ العقائدية، والأخلاقية والاجتماعية التي أقام الإسلام نظامه الاجتماعي عليها، ومن ثم كان التعامل بالربا عملية تصطدم مع قواعد الإيمان، لا رعاية فيها لعقيدة، ولا خلق ولا مبادئ ولا غايات سامية.
إن الربا يقوم ابتداء على أساس أنه لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر، فكأن من يعامله به يجعل نفسه سيد هذه الأرض ابتداء، وهو غير مقيد بعهد من الله أو أنه غير ملزم باتباع أوامره في الكسب والعمل وتنمية المال، كما يجعل غاية الغايات في الوجود الإنساني هو تحصيل المال بأي وسيلة ومن ثم يتكالب عليه وعلى المتاع به، ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين، ثم ينشئ في النهاية نظاما يسحق البشرية سحقا، ويشقيها في حياتها أفرادا وجماعات ودولا وشعوبا لمصلحة جماعة من المرابين، ويحطمها أخلاقيا ونفسيا وعصبيا عندما يجعل المال في النهاية بيد حفنة المرابين، هؤلاء الذين يمتصون جهود وعرق ودماء الآخرين المحتاجين للمال، ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة لهؤلاء المرابين، فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة المال الذي يقترضونه بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدون في أثمان السلعة الاستهلاكية، فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين.
ولذلك أيها المسلمون: يجب أن تذكروا أنه لا إسلام مع قيام نظام ربوي لأنه يتنافى مع أصل الإيمان، حتى ولو خادع بعض الناس أنفسهم في تبرير شيء من ذلك الربا.
وإن النظام الربوي بلاء على الإنسانية في إيمانها وفي أخلاقها وفي حياتها الاقتصادية، فهو أبشع نظام يمحق سعادة البشر محقاً، على الرغم من أنه يبدو كأنه مساعده من هذا النظام للنمو وسد الحاجات، واذكروا أن التعامل الربوي لابد أن يفسد ضمير الفرد وخلقه وشعوره تجاه أخيه في الجماعة، ثم يفسد حياة الجماعة وتضامنها بما ينشره فيها من روح الطمع والجشع والأثرة والمغامرة.
لهذا كله أيها المسلمون: ولغيره من الأسباب وقف الإسلام من الربا موقف الحرب الساخنة التي لا هوادة فيها، وشنع على أصحاب هذه المعاملة أبلغ تشنيع، وحمل عليهم حملة مفزعة مرعبة وهددهم تهديدا معنويا وحسيا فقال سبحانه وتعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم.
فأكلة الربا لا يقومون في الحياة لا يتحركون فيها إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا يستقر له قرار ولا طمأنينة ولا راحة، يعيش حياة القلق والاضطراب والخوف والأمراض النفسية والعصيبة والخوف على المال، والخوف من الخسارة والخوف من المحق، ثم الخوف من الكفر والله لا يحب كل كفار أثيم ثم ينادي الله تعالى الذين يريدون تحقيق إيمانهم فيقول: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون.
ثم يربط الله تعالى هذه الأحكام جميعا بتقوى الله والخوف من عقابه يوم الحساب واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
ثم تواردت أحاديث النبي تحذر من الربا وتبين عواقبه ففي الصحيحين عن أبي هريرة: ((اجتنبوا السبع الموبقات، الشرك بالله السحر وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات )).
الربا سبب للعن والطرد من رحمة الله، يشترك في ذلك كل من له علاقة بالربا شهادة أو كتابة أو أخذا أو إعطاء، وفي الصحيحين عن ابن مسعود : ((لعن رسول الله آكل الربا وموكله)). وعن جابر: ((لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء)).
وإذا كان الجزاء من جنس العمل فاسمعوا إلى عقوبة أخروية تبدأ بعد الموت إلى قيام الساعة مع ما ينتظر صاحبها من عقوبة بعد البعث، فقال : ((رأيت الليلة رجلين (أي ملكين)، فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فمه، فرده حيث كان، فقلت: ما هذا الذي رأيت في النهر؟ فقال: آكل الربا)).
وفي الحديث الصحيح كذلك تشنيع لهذه المعاملة وجعلها في مستوى الزنا بل هي أشد من الزنا، فكيف إذا كان الزنا بالأم، فعن النبي قال: ((الربا ثلاث وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه)) ، وقال: ((الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاثة وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام)).
وهو سبب لعذاب الله وسبب للعقوبات العاجلة في الدنيا، ففي الحديث: ((ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله)) ، وفي حديث عمرو بن العاص: ((ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)).
وقد رأى عليه الصلاة والسلام عقوبة رهيبة لآكلة الربا وهو في رحلة الإسراء والمعراج فقال: (( رأيت ليلة أسرى بي لما انتهينا إلى السماء السابعة، فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبروق وصواعق، فأتيت على قوم: بطونهم كالبيوت فيها الحيات (الأفاعي) ترى من خارج بطونهم قلت : من هؤلاء يا جبريل، قال: هؤلاء آكلة الربا)).
فاحذروا ذلك كله على أنفسكم أيها المؤمنون فما من أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة، وليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره.
أيها المسلمون: فقد يقول بعض إني مضطر للقرض بربا كي أكمل عمارتي أو أوسع تجارتي، أو ما شابه ذلك والضرورات تبيح المحظورات، فاعلموا أن ذلك ليس من الضرورة التي تبيح المحرمات.
وقد يقول بعضهم كيف أعطي أموال للآخرين ينتفعون بها وأعطلها عن العمل ولا استفيد منها.
ونسي هؤلاء أن القرض يجب أن يكون منزها عن هذه المنفعة المادية ولا يراد به إلا وجه الله، وفيه ضمان للمال فسيرده صاحبه كاملا دون خسارة، ولو كان عندك لم يكن مضمونا.
أما إذا ردت النفع المادي مع ذلك فإن الإسلام شرع شركة المضاربة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/647)
المال الحرام
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حب المال غريزة إنسانية. 2- تهذيب الإسلام بهذه الغريزة بالقصر على الحلال.
3- التحذير من أبواب الرزق الحرام. 4- تحريم الاحتكار. 5- تحريم المعاملات والبيوع
القائمة على النور.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد :
فعندما خلق الله تعالى الإنسان جعل فيه ميلا إلى حب المال وتملكه والاستكثار منه ، فقال عنه وإنه لحب الخير لشديد ، وتحبون المال حباً جماً وقد جعل الله تعالى المال والبنين زينة الحياة الدنيا فقال: المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة.
ولما كان الإنسان بطبعه يميل إلى المنافسة والاستكثار من المال، فيدفع بكل طريق ليحقق رغبته تلك ، فقد يميل وينزلق في مهاوي المادية التي قد تطغى على الإنسان فتطغيه. ولذلك يحتاج إلى مجموعة من الضوابط التي تحد من جموحه المادي وتمنعه من التردي في كل ما من شأنه أن يبعده عن الفضيلة والخير والمعاملة الكريمة.
ولذلك سلك الإسلام طريقا مزدوجا لتحقيق هذه الغاية بتربية نفس الإنسان على الخضوع لأمر الله سبحانه ومراقبته في أعماله كلها ، وأمره بتناول الطيب الحلال في مطعمه ومشربه وملبسه ، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب. ومطعمه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)).
فيا أيها المسلمون: كما أن الرسل مأمورون بأكل الطيب الحلال فإن المؤمنين مأمورون بذلك كما هم مأمورون بالعمل الصالح ، وكأن العمل لا يكون صالحا مقبولا إلا بالأكل من الطيب الحلال ، ولذلك استبعد النبي قبول الدعاء مع التغذية من الحرام ، وقد أرشدنا الله تعالى إلى أنه إنما يتقبل من المتقين.
ولذلك اشتد خوف السلف من الحرام وحذروا منه أشد التحذير ، مصداقا لقول النبي : (( لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )) ، وعن ابن مسعود: (( لا يكتسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك فيه، ولا يتصدق به فيتقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث )).
وكانت المرأة توصي زوجها عندما يخرج للعمل فتقول له : إنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار، أما اليوم فإن بعض النار بالإكثار من الكسب أي طريق كان، يستكثرن الأثاث والزينة والنار.
ثم وضع الإسلام بعد هذه التربية النفسية ، وضع قواعد تشريعية ، إن خرج عليها بعض الناس في معاملاتهم وجب ردهم إليها وإلزامهم بها ، ويعاقبون على مخالفتها ، ومن ذلك أن الإسلام حرم مجموعة من التصرفات في طريق التملك أو استثمار المال أو التصرف فيه ، لأنها أكل لأموال الناس بالباطل والحرام الذي نهى الله عنه فقال: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.
فقد حرم الله سبحانه التطفيف والتلاعب بالمكيال والميزان ، وتهدد المطففين بالويل والهلاك وتوعدهم بالعذاب على فعلتهم الشنيعة تلك فقال: ويل للمطففين الذي إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ونجد لهذا التطفيف صورا كثيرة في بيوع الناس اليوم ومعاملاتهم في أسواقهم التجارية، وفي هذا التطفيف والتلاعب اعتداء على حقوق الآخرين وإثارة للأحقاد ونشر للفساد في الأرض وتضييع للمصالح التي بعث الله رسله ليعيدوا فيها الحق إلى نصابه فقال سبحانه: وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ، وهو لون من الغش الذي يتخذ صورا عديدة.
وحرم الإسلام الاحتكار تحريما شديدا ، وجعل الكسب عن طريقه كسبا خبيثا حراما، وجعله علامة على الخطأ والإثم لما فيه من إضرار بالناس واستغلال لحاجات المحتاجين فقد قال : ((من احتكر طعاما فهو خاطئ )) أي آثم.
وروي في الحديث أن من احتكر طعاما أربعين يوما يريد به الغلاء فقد برئ من الله وبرئ الله منه ، وبئس العبد المحتكر إن أرخص الله الأسعار حزن، وإن أغلاها فرح.
وليس هذا التشديد خاصا بالطعام بل في كل سلعة يحتاجها الناس ولو لم تكن طعاما ، وتحقيق هذا الاحتكار بحبس الأشياء الفاضلة عن حاجة الإنسان يتربص به ارتفاع الأسعار عند الحوادث ليبيعها بأثمان فاحشة لشدة احتياج الناس إليها.
وأما المعاملات التي تتصف بالغرر والمخادعة والالتباس والغبن ، فإنها كلها حرام لما فيها من أكل أموال الناس بالباطل ، ومن ذلك النجش وهو أن يزيد الرجل في السلعة أكثر مما تستحق وهو لا يريد شراءها ، ولكن ليخدع غيره بالمغالاة ، وقد نهى النبي عنه فقال: ((لا تناجشوا)) وقال: ((الناجش آكل ربا خائن)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/648)
تربية الأبناء
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فطرية حب الأبناء والذرية. 2- الأبناء عمل صالح يمتن في صحائف الآباء. 3- واجب
الآباء تربية الأبناء. 4- الأمور التي ينبغي أن يغرسها الأب في صدور أبنائه. 5- القدوة في
تربية الأبناء.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد :
أيها المؤمنون : لقد قضت إرادة الله سبحانه وحكمته أن يجعل لهذه الأمة منسكا فريدا مجيدا وطريقا واضحا تسير على هداه المستقيم، ولكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم.
وبفضل هذا المنهج كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس تربط بين أفرادها أوثق الأواصر والروابط ، ولن يجد الإنسان في علاقات الناس رابطة أقوى وأرسخ من رابطة الأبوة والبنوة ، ومع بداهة التسليم بقوة هذه الرابطة ورسوخها وانفرادها بالسمو والحنان بين جميع العلاقات والارتباطات والمشاعر الإنسانية ، فهي محتاجة دائما إلى التذكير بحقوقها والتحذير من عقوقها.
ونجد في القرآن الكريم صورا حية مشرقة عن لهفة الأبوة على البنوة ، حبا لنيلها وحرصا على خيرها واهتماما بصلاح أمرها ورجاء لسعادتها وفوزها، ولا عجب في ذلك: المال والبنون زينة الحياة الدنيا. وحب الذرية والأبناء فطرة بشرية عميقة تقر بها العين: والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.
والأولاد امتداد لأعمار آبائهم القصيرة وتجديد لوجودهم الفاني وخلف لسلف راحل يذكرونه ويدعون له ، فإذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: (( صدقة جارية أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )).
ولذلك اهتم الإسلام اهتماما عظيما بالأولاد من البنين والبنات وجعل ذلك مسؤولية من أعظم المسؤوليات على الآباء والأمهات ينبغي أن تؤدى بجزم وعزم وأمانة ومضاء على الوجه الذي يتطلبه الإسلام.
ولو تتبعنا آيات القرآن الكريم لوجدناها تهيب بالآباء للقيام بمسؤولياتهم وتحذرهم من التقصير بالواجب، وتؤكد أن هذا التقصير يؤدي بصاحبه إلى الهلاك، وبالمجتمع إلى الدمار: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى. يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم.
أيها المؤمنون: إن تبعة المؤمن ومسوؤليته في نفسه وفي أهله مسؤولية ثقيلة رهيبة، فالنار هناك وهو متعرض لها وأهله ، عليه أن يحول نفسه وأهله دون هذه النار التي تنتظر هناك وقودا من الناس والحجارة ، ولن يقبل عندها عذر عن التقصير ولا ينفع عندئذ الاعتذار، لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون.
وفي التوجيهات النبوية كثير من الروائع الممتعة التي تضع الأب والأم أمام مسؤولياتهما تجاه الأولاد بتربيتهم والعناية بهم :
قال عليه الصلاة السلام: (( كلكم راع.. الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها.. الخادم.. )) ، ((لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع )) (( ما نحل والد ولداً أفضل من أدبٍ حسن )) وقال عليه السلام: ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع )).
وإذا كان المربون من آباء وأمهات ومعلمين مسؤولين عن تربية الأولاد وعن تكوينهم وإعدادهم للحياة ، فعليهم أن يعلموا بجلاء ووضوح حدود مسؤوليتهم ومراحلها المتكاملة وجوانبها المتعددة ليستطيعوا النهوض بمسؤوليتهم على أكمل وجه وأنبل معنى.
وأول ما ينبغي على الوالد أن يلقن أبناءه أصول دينهم وتعاليمه من أركان الإيمان والإسلام ومبادئ الشريعة وأن يربيهم على حب نبيهم وحب آله وأصحابه من الرعيل الأول رضوان الله عليهم وأن يربي فيهم روح المراقبة لله تعالى في كل تصرفاتهم وأحوالهم.
ولذلك أمرنا النبي أن نأمر أولادنا بالصلاة وهم أبناء سبع وكان الصحابة يعلمون أولادهم مغازي رسول الله وسيرته كما يعلمونهم السورة من القرآن.
وعن هذه التربية الإيمانية الصحيحة تنبثق التربية الأخلاقية التي تغرس في الولد الفضائل السلوكية والوجدانية ، فلا عجب أن يولي الإسلام هذا الجانب عنايته الكبرى ، فمن حق الولد على الوالد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه وأن يعلمه الخير والأدب ، فهو مسؤول عن تعليم أولاده منذ الصغر بتنشئهم على الصدق والأمانة والاستقامة والإيثار وإغاثة الملهوف واحترام الكبير وإكرام الضيف والإحسان إلى الجار والمحبة للآخرين ، ومسؤول عن تنزيه ألسنتهم من السباب والشتائم والكلمات النابية القبيحة وعن كل ما ينبئ عن فساد الخلق، ومسؤول عن ترفعهم عن دنايا الأمور وسفاسف العادات وقبائح الأخلاق والإضرار بالآخرين وإيذائهم وعن كل ما يحط بالمروءة والشرف والعفة.
وبعد ذلك أيها المؤمنون يقوم الآباء بتربية عقول أبنائهم وأجسامهم ونفوسهم أما أن يفعل هذا(تربية الاجسام) فقط ثم يترك لولده الحبل على الغارب يفعل ما يشاء ويهيم على وجهه كالعجماوات والبهائم، يرتع ويلعب ويلهو ويسرف ويخالط رفاق السوء فيكون أشد انحرافا منهم، فإنه العقوق من الأب للابن، وإنه لضياع للمسؤولية كبير وإنه إلقاء باليد إلى التهلكة ويحصد الأب بعدها ويجني المرارة وسوء الأخلاق والعقوق ويندب حظه العاثر مع أولئك الأولاد الأشقياء، وقد كان هو سببا لشقاوتهم وشقائهم.
فاقدروا أيها الآباء مسؤوليتكم، واعلموا أنكم أنتم القدوة الأولى لأبنائكم، فهم صورة عنكم يصلحون بصلاحكم، ويتخلقون بأخلاقكم، فحذار أن تقودوا أولادكم إلى ما لا تحمدون، إذ كيف يتعلم الولد الحب والحنان في بيت يسوده النزاع والشقاء؟
وكيف يحسن إلى الضعفاء والمساكين من يجد أباه يظلم الآخرين ويمنع حقوقهم؟ كيف يتعلم الأخلاق طفل يرى أمه أو أباه ينغمسان في الرذيلة؟
كيف يحترم الآخرين ويوقرهم من يجد أباه لا يحترم كبيرا ولا يرحم صغيرا؟ كيف يتعلم الصدق من يجد أباه يكذب على أمه أو يكذب عليه ولا بفي له بما يعده؟
إنها القدوة التي يتأثر بها الولد في بيته قبل أن تؤثر فيه الكلمة أو الموعظة ، فكونوا جميعا قدوة لأبنائكم ، وليكن رسول الله قدوة لكم.
والله عز وجل يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر.0
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/649)
حصائد الألسن
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من إطلاق اللسان. 2- الأمر بحبس اللسان عما لا خير فيه. 3- تعويد اللسان على
القول الحسن.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فما أكثر ما يدور بين الناس من كلام، ويملأ مجالسهم من حديث، فإذا ذهبت تحصي ما قالوا وجدت أكثره اللغو الضائع، أو الهذر الضار، وما لهذا ركب الله الألسنة في الأفواه، ولا بهذا تقدر الموهبة المستفادة: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً.
وقد عني الإسلام عناية كبيرة بموضوع الكلام وأسلوب أدائه، لأن الكلام الصادر عن إنسان ما يشير إلى حقيقة عقله وطبيعة خلقه، ولأن طرائق الحديث في جماعة ما تحكم على مستواها العام ومدى تغلغل الفضيلة في بيئتها.
ينبغي أن يسائل الإنسان نفسه قبل أن يحدث الآخرين : هل هناك ما يستدعي الكلام ؟ فإن وجد داعيا إليه تكلم، وإلا فالصمت أولى به، وإعراضه عن الكلام حيث لا ضرورة له عبادة جزيلة الأجر.
قال عبد الله بن مسعود : ((والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان)).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((خمس أحسن من الدُّهْم الموقفة (أي الجيدة) لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليكم الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا، فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه، فعيب به، ولا تماد حليما ولا سفيها، فإن الحليم يقليك وإن السفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه مما تحب أن يعفيك عنه، واعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالإجرام)).
والمسلم لا يستطيع أداء هذه الخصال الخمس إلا إذا ملك لسانه وسيطر على زمامه بقوة، فكبحه حيث يجب الصمت، وضبطه حيث يريد المقال، أما الذين تقودهم ألسنتهم فإنما تقودهم إلى مصارعهم.
إن للثرثرة ضجيجا يذهب معه الرشد، وأكثر الذين يتصدرون المجالس ويتحرر منهم الكلام متتابعا يجزم مستمعهم بأنهم لا يستمدون حديثهم من وعي يقظ أو فكر عميق، وربما ظن أن هناك انفصالا بين العقل وهذا الكلام المسترسل، ولذلك كان من نصيحة الرسول لأبي ذر فيما روي عنه: ((عليكم بطول الصمت، فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك)) ، وقد قال رسول الله : ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)).
وأول مراحل هذه الاستقامة أن ينفض يديه مما لا شأن له به وألا يقحم نفسه فيما لا يسأل عنه: ((من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)).
والبعد عن اللغو من أركان الفوز والفلاح فقد قال الله تعالى: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون.
وقد كره الإسلام اللغو لأنه من سفاسف الأمور، وبمقدار ما يتنزه المرء عنه تعلو درجته عند الله، وبمقدار ما يخوض فيه يعاقب عليه، فقد قال : ((إن العبد ليتكلم الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس، يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض ، وإن المرء يزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه)).
وقديما قال الشاعر:
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل
وقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل في عهد موسى ألا يقولوا إلا حسنا فقال تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً.
والكلام الطيب جميل مع الأصدقاء ومع الأعداء، فأما مع الأصدقاء فهو يحفظ مودتهم ويستديم صداقتهم ويمنع كيد الشيطان: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً.
وأما حسن الكلام مع الأعداء فهو يطفئ خصومتهم ويكسر حدتهم أو هو على الأقل يوقف الشر أو يخفف منه: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.
وفي تعويد الناس لطف التعبير مهما اختلفت أحوالهم يقول الرسول : ((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق)).
وعن أنس قال جاء رجل إلى رسول الله فقال: ((علمني عملا يدخلني الجنة، قال: أطعم الطعام، وأفش السلام، وصل الأرحام، وصلّ بالليل والناس نيام، تدخل الجنة بسلام)).
وإذا كان لحسن الحديث وأدبه هذه المنزلة، فما أعظم خسارة أولئك الناس الذين يعيش أحدهم صفيق الوجه شرس الطبع، لا يحجزه عن المباذل يقين، ولا تلزمه المكارم مروءة، ولا يبالي أن يتعرض للآخرين بما يكرهون، فإذا وجد مجالا يشبع فيه طبيعته النزقة الجهولة انطلق على وجهه، لا ينتهي له صياح ولا تحبس له شرة، فإذا رأيت واحدا من هؤلاء أو ابتليت به فينبغي أن تداريه وتتقي شره، فقد قال رسول الله : ((إن من شر الناس عند الله تعالى منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره)).
ولذلك عد الله تعالى في كتابه الكريم في أوائل الصفات التي يتحلى بها عباد الرحمن هذه المداراة العاصمة من السوء: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.
وقال: وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/650)
بدء نزول الوحي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم
الإيمان
الإيمان بالرسل
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
وقت نزول الوحي – التمهيد لذلك بالرؤيا – نزول (اقرأ) – دروس : 1- الوحي حقيقة 2- وضوح الوحي لعلماء أهل الكتاب 3- فضل المرأة الصالحة وأثرها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ففي يوم الإثنين من رمضان من العام الأربعين من مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي وظهر له جبريل عليه السلام فكان ذلك بداية مرحلة البعثة مدوية في حياته صلى الله عليه وسلم وكان ذلك إيذانا ببدء الاتصال بين السماء والأرض بين الملأ الأعلى وبين البشرية وما اختلفوا في ذلك الرجل الكامل الذي لم يوجد في البشرية أحد أكمل منه ولا أطهر ولا أحسن فصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما كثيرا, ظهر له رئيس الملائكة وسفير الله إلى رسله وأنبيائه وأمينه على وحيه جبريل عليه السلام, ظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أكمل حالاته وأفضلها يتعبد في غار حراء فظهر له جبريل عليه السلام وكان قد مهد لذلك من قبل كما بينا سابقا بعلامات وإرهاصات ومقدمات تهيئة لهذا الأمر العظيم كان منها أنه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يفجأه الوحي بستة أشهر أو أكثر في غار حراء بدئ له الوحي بالرؤية الصادقة فكان يرى الرؤيا الصادقة فتقع كفلق الصبح [1] , وكان مما رأى في منامه جبريل عليه السلام رآه في منامه يقدم له كتابا قد كتبت فيه الآيات من أول سورة العلق فقال له جبريل في المنام اقرأ, ثم هاهو جبريل يأتيه في اليقظة وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء فيقول له اقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنا بقارئ)). فغطه غطة شديدة حتى بلغ منه الجهد أو ضمه ضمة عنيفة حتى حبس نفسه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك به ثلاثة مرات في كل مرة يقول له اقرأ فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أنا بقارئ)) , أي كيف اقرأ وأنا أمي لا أكتب ولا أحسب. فقال له جبريل: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [العلق:1-5]. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات يرجف فؤاده مرعوبا مما رأى وشاهد وسمع, يرجف فؤاده من هول ذلك المشهد وجلاله فدخل على أم المؤمنين خديجة وهو يقول: زملوني زملوني فزملوه صلى الله عليه وسلم حتى ذهب عنه الروع. فقال لأم المؤمنين خديجة: لقد خشيت على نفسي وأخبرها بالخبر. فقالت رضي الله عنها وأرضاها: لا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب بالكتاب العبراني يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله له أن يكتب وكان شيخاً قد عمي أي طعن في السن حتى ذهب بصره فقالت له خديجة رضي الله عنها يا بن عم اسمع إلى ابن أخيك. فقال ورقة يا بن أخي ماذا رأيت؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بخبر ما رأى في غار حراء. فقال ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ليتني فيها جذعا, يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك. فقال صلى الله عليه وسلم: ((أو مخرجي هم)). قال: ما أتى رجل بمثل ما جئت به إلا أوذي وإن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا.
هذا هو خبر أول الوحي وبدء نزوله على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام البخاري في صحيحه. وفي هذه الواقعة العظيمة الشأن الجليلة دروس منها أن أمر الوحي وهو أمر عظيم جليل ثقيل مهيب إنه جاء في اليقظة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كامل حضوره النفسي والذهني وصفائه ونقائه وهو في أكمل حالاته وأحسنها صلى الله عليه وسلم وأما الذي جاء له ورآه صلى الله عليه وسلم وأحس به لما ضمه إليه ضما شديدا وسمعه هو عظيم الملائكة وسفير الله إلى خلقه وأمينه على وحيه جبريل عليه السلام, وإنما غط عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ضمه ضمة عنيفة ثلاث مرات لينبهه ليكون في كامل ترقبه لاستقبال تلك الآيات العظيمة التي جاءه بها من رب العالمين تبارك وتعالى , ولينبهه ويبين له أن هذا الأمر العظيم الذي يراه ويشاهده ويسمعه أمر حقيقي من أمور اليقظة ليس تخيلا ولا مناما ولا جنونا حاشاه صلى الله عليه وسلم بل هو أمر حقيقي من أمور اليقظة وفي هذا رد قوى واضح كالشمس على الغربيين وأسلافهم من المتفرنجين من صنوف المستشرقين الذين يتشدقون ويتحذلقون فيفلسفون زندقتهم وإلحادهم وتكذيبهم بما أنزل الله تعالى من الوحي على نبيه ومصطفاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ماذا يقولون وماذا يقول أذنابهم فيما بيننا ممن يتكلمون بألسنتنا من بني جلدتنا ممن أضلهم الله من أبنائنا من المتفرنجين من العلمانيين من الحداثيين من الزنادقة والملحدين. ماذا يقولون في أمر الوحي ؟ إنه ليس أمرا حقيقيا أمر نفساني يتعلق بنفس محمد صلى الله عليه وسلم يقصدون أن هذا الوحي من قبيل الفيوضات النفسانية والعبقرية الشخصية, ولذلك يطلقون تلك العبارة الغامضة عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم. يطلقون هذه العبارة بسوء نية ومقصودهم هذا المعني بكل ما يحمله من تكذيب بالوحي وإلا فالعبارة في ظاهرها صحيحة فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في شخصيته الذاتية هو في كامل العبقرية , إنه يمثل الكمال البشري ولكن ما جاء به وحي منزل من رب العالمين تبارك وتعالى , نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام علي قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
هذا هو أمر الوحي أمر حقيقي من أمور اليقظة ليس تخيلا ولا مناما ولا فيوضات نفسية ولا مجرد عبقرية ذاتية, إنه وحي من رب العالمين وقد جاءه جبريل بعد ذلك بعد فترة من فجاءة الوحي في غار حراء ظهر جبريل مرة أخرى لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هذه المرة علي صورته الحقيقية العظيمة التي خلقه الله عليها ويحدثنا الصادق الأمين النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم بنفسه عن ذلك فيقول كما جاء في صحيح البخاري [2] من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا في السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله تبارك وتعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله سبحانه: والرجز فاهجر [المدثر:1-5] ))، وفي بعض الروايات [3] أنه رأى جبريل جالسا علي عرش بين السماء والأرض فسد الأفق.
هاهنا ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها وقوله صلى الله عليه وسلم: ((الملك الذي جاءني بحراء)) يدل على ترقبه صلى الله عليه وسلم لأمر الوحي وانتباهه له وحضوره بكامل حواسه وذهنه وذكائه صلى الله عليه وسلم فها هو يعرف الملك ويزداد تعرفا عليه إذ يراه هذه المرة بصورته الحقيقية , هذا هو الحق جاءه من ربه عز وجل لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين [يونس:94].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (1/4).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (1/5-6).
[3] رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب بدء الوحي إلى رسول الله (1/135).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم أمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
اللهم آمنا بك وبكتابك الذي أنزلت على خاتم أنبيائك ورسلك. آمنا بنبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع أمر الوحي فضلا عن أن يتطلبه ويسعى إليه, لقد كان غافلا عنه صلى الله عليه وسلم ولذلك فجأه في غار حراء, تأملوا كيف كان قد رعب لما فجأه الوحي ولما ظهر له جبريل بل قبل أن يفجأه في غار حراء كان جبريل قبل ذلك يظهر للنبي صلى الله عليه وسلم ويناديه: يا محمد أنا جبريل. فيرعب منه صلى الله عليه وسلم ويفر منه. إن هذه ليست أحوال من يتوقع الوحي ومن يتطلبه ويسعى إليه ويدعيه ويحرص عليه. إن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يدع الوحي ولم يصطفِ نفسه بل الله تبارك وتعالى هو الذي اختاره واصطفاه واختاره لهذه النبوة واصطفاه لهذه الرسالة. وياله من أمر عظيم ومن عبء ثقيل اختاره لذلك وهيأه لذلك وأعد له إعداداً خاصا فرعاه منذ طفولته صلى الله عليه وسلم وحماه وعصمه فيصباه وفي فتوته وفي شبابه كل ذلك من أجل هذا الأمر العظيم, أمر النبوة وعبء الرسالة, اختاره الله لذلك واصطفاه, لم يدع ذلك صلى الله عليه وسلم ولا تطلبه وسعى إليه إنما هي نعمة كبرى أنعم الله بها تبارك وتعالى عليه ورحمة كبرى أنزلها الله على خلقه وأدرك بها خلقه فسبحانه ما أدركه وما أعلمه.
ولم يكن أمر الوحي ملتبسا على كل من كان عنده علم من الكتاب وعلى كل من كان عنده عقل راجح وبصيرة متفتحة, كان أمرها واضح كالشمس ولذلك هذا ورقة بن نوفل من القرشيين وقد كان عنده شيء من علم الكتاب بمجرد أن سمع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف له أمر الوحي الذي فجأه في غار حراء ويصف له جبريل إذا بورقة يقول: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى. يعني جبريل عليه السلام فالناموس في لغة العرب معناه أمين السر وجبريل عليه السلام هو أمين وحي رب العالمين.
وهاهي أم المؤمنين خديجة تلك المرأة الفاضلة العظيمة الجليلة الشأن بعقلها الراجح الكبير وبصيرتها المتفتحة ونفسها الصافية النقية في وقت تملك الاضطراب النفس الشفافة الصافية نفس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من هول ذلك الموقف ومهابته , إذا بتلك المرأة العظيمة تثبته وتطمئنه وتبشره بأن هذا الحدث العظيم الجليل هو خير كبير ساقه الله إليه, فلا يفزعن وليطمئن نفسه, فيا له من عقل راجح ويالها من امرأة عظيمة عاقلة وهكذا المرأة المؤمنة الصالحة هي ظهير وسند في حياة العظماء لها أثر عظيم في حياة العظماء, إنها سند وعضد للرجل تشاركه في حمل الرسالة فلها مهمة عظيمة وأي مهمة, ولها أثر عظيم وأي أثر, وصدق الله تعالى الذي وصفها بأنها سكن فقال ومن أصدق من الله قيلا: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها [الروم:21]. وهذا الموقف من تلك المرأة العظيمة أم المؤمنين خديجة من أعظم مواقف السكن, فعلى المرأة المؤمنة الصالحة في كل زمان ومكان أن تتنبه إلى هذه الحقيقة إلى حقيقة مهمتها ووظيفتها وأثرها في هذه الحياة والمجتمع. فإن أذناب اليهود والنصارى عبيد الشهوات, إن المتفرنجين يحرصون كل الحرص على إخفاء هذه الحقيقة عنها.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة على النبي بعد التشهد (1/306).
(1/651)
امتحان الدنيا وامتحان الآخرة
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رحلة الدنيا واختبار الآخرة. 2- سؤال الإنسان عن عمره وشبابه وعلمه وحاله, 3- عاقبة
هذا الاختبار في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد :
تظلنا في هذه الأيام استعدادات لألوف من الأبناء والطلاب الذين يتهيؤون لدخول اختباراتهم الدراسية بعد شهور من العمل والجد والاجتهاد ، فتجدون الكل ينشطون بأنواع النشاط والاستعداد ، فالاختبار فيه شيء من الرهبة ، وهو يحدد مصير صاحبه ، فتغمره الفرحة بالنجاح ويسود وجهه أو يعلوه الاكتئاب بالفشل والرسوب إن كان عنده كسل أو تقصير.
نعم ، أيها الإخوة المؤمنون : نعم أيها الآباء والأبناء ، إن الموقف رهيب، وإن المسؤولية عظيمة وكبيرة ، ولكنها مهما كانت كبيرة ومهما كانت عظيمة ، ومهما كان الموقف رهيبا ، يبقى ذلك كله أهون وأسهل من الموقف العظيم بين يدي الله ، ومن المسؤولية والاختبار الذي يكون بين يدي الله تعالى.
الكل فينا سيسافر سفرا بعيدا ، بل سفرا نهائيا يودع فيه هذه الحياة، ويترك فيها كل مكان يؤمله ويحبه ويسعى من أجله ، ليقف بين يدي رب العزة تبارك وتعالى ، وقد أخرج له كتابا يلقاه منشورا ، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، يقف للاختبار الرهيب حقاً والموقف العظيم حقا عند أحكم الحاكمين الذي يضع الموازين القسط ليوم القيامة ولا يظلم أحدا ، واسمعوا إلى خطبة عتبة بن غزوان في ذلك (( إن الدنيا قد آذنت بصرم..... )).
فهل ترون أيها المسلمون أن استعدادنا لذلك الامتحان كان متناسبا مع أهميته وعظمته وقد خلقنا الله تعالى من أجله حيث قال: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون.
لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بما لا يحصى من النعم والخيرات والمواهب والملكات حتى قال سبحانه: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وأعطاه كل ما يساعده على اجتياز الامتحان بنجاح، وعندئذ اختلف الناس فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، منهم من اتقى وأطاع ومنهم من فجر وعصى ، فمنهم من حقق النجاح ومنهم من كتب عليه الشقاوة والفشل.
وحسبنا أيها المؤمنون: أن نقف عند بعض الأسئلة في هذا الاختبار الإلهي يوم القيامة ، وقد عرفنا عليها النبي فلم يعد امتحانا سريا ، بل أصبح مكشوفا معلوما حتى نهيئ الإجابة الصحيحة بالعمل الصالح منذ هذه اللحظة التي نعيشها الآن، قال عليه الصلاة والسلام: (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل.. )).
هذه هي الأسئلة الأربعة أيها المسلمون لعلكم تهيئون الإجابة عليها عمليا لتكون سببا للفوز والنجاة والفلاح.
إن الله تعالى قد وهبك أيها الإنسان عمرا مديداً وحياة طويلة عريضة ، هي منحة من الله ، له فيها عليك جملة من الحقوق ينبغي أن تقوم بها ، وحق الله عليك هو الطاعة والعبادة فقد قال لمعاذ: (( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً )).
فكيف أفنيت عمرك أيها الإنسان؟ وبأي شيء قضيته؟ في الطاعة أم في المعصية؟ في الخير أم في الشر؟ كنت غافلا لاهيا ساهيا أم يقظا عاقلا فطنا في أمور دينك ودنياك؟.
أما أمور الدنيا فما أظن أحدا منا يقصر فيها حسب طاقته ، أما أمور الدين فما أدري والله كم نحن مقصرون فيها.
والسؤال الثاني: ((وعن شبابه فيما أبلاه)) والشباب طائفة من العمر ومرحلة منه ، ولكنه مرحلة متميزة بالقوة والفتاء والنشاط والقدرة أكثر من مراحل الحياة الأخرى ، فهي مرحلة القوي بين ضعفين ولذلك تكون موضوع مسؤولية أشد.
والسؤال الثالث: عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه يشمل فقرتين اثنتين ، تحتاج أيها الإنسان إلى المال الذي سماه الله خيرا فقال عنه: وإنه لحب الخير لشديد زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة... هذه الزينة وهذا المال الذي نسعى جميعا إليه؛ ما الطريق الذي سلكناه حتى نحصل عليه؟ هل أخذناه من حل أم من حرام؟ لقد حدد لنا الإسلام طرائق للكسب الحلال ، وحذرنا من طرائق الكسب الحرام ، والكل فينا يعرف ما يجوز وما لا يجوز في المعاملات فإن الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ، ولأن الإنسان يحب المال حبا شديدا ، فقد يدفعه ذلك إلى أن يسلك كل طريق للحصول عليه.
ولذلك جاءت الآيات والأحاديث تحذرنا من كل كسب غير مشروع ومن أكل أموال الناس بالباطل ومن الغش والربا والاحتكار ومن السرقة والغصب ، وتحذرنا من أن نكون عبيداً للمال (( تعس عبد الدرهم..)).
ويبقى الشق الثاني من السؤال: ((فيم أنفقت هذا المال الذي اكتسبته؟)) ، فلا يكفي أن تكسبه من حلال ، بل يوجب عليكم الإسلام أن تنفقوا كذلك في الحلال ، يوجب عليك ألا تضعه إلا في باب مشروع أو في طريق حلال ، فلا تنفقه على طعام حرام ولا على شراب حرام ولا على سماع حرام ، فإن اشتريت ما لا يجوز سماعه أو الاستماع إليه فأنت آثم تعرض نفسك للعقوبة، وإن اشتريت طعاما لا يجوز أكله فتعرض كذلك نفسك للعقوبة ، إن أنفقته على الهوى والملذات والشهوات المحرمة فأنت معرض لعقوبة شديدة، ففتش عن طعامك وشرابك، وفتش عن الأثاث في بيتك وعن الزينة فيه، وعن كل نفقة تنفقها، فتش عن ذلك كله حتى تعرف هل أنت تنفق في حلال أم في حرام؟ فإن كان الحلال فأنت سعيد بذلك تفوز بموعود الله تعالى وجنته، وما أعظم ربحك عندئذ حيث لعلها تنفقه في الطاعة وفي سبيل الله.
والسؤال الأخير: ((وعن علمه ماذا عمل فيه )) ، لقد أعطاكم الله تعالى عقلا وهيأكم لتلقي العلوم ، فتعلمتم وليس المتعلم كالجاهل ، وليس البصير كالأعمى ، فماذا عملتم في هذا العلم أيا كان مستواه؟ إنك تعلم أن لك ربا تعبده، وأن رسولا بعثه الله إليك، وأن دينا وشرعا نزله الله ، وأن كتابا أوحى الله به إلى نبيه، فهل عملت بهذا العلم الذي تعلمته فأنقذت نفسك من الهلاك أم خالفت ما تعلمت فعرضت نفسك للمقت والهلاك؟
والله تعالى يعاقب قوما لا يعملون بعلمهم فيقول: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون.
عن أسامة بن زيد قال: (( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه (أي أمعاؤه) فيدور كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار... ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهى عن المنكر )).
أيها المسلمون: هذا هو الاختبار قد عرفتموه وعرفتم أسئلته ، وأنتم داخلون فيه ، فإما إلى الجنة وإما إلى النار ، وإذا كانت الجنة عظيمة وإذا كان فضل الله واسعا ورحمته وسعت كل شيء ، فإن ناره رهيبة وعقوبته شديدة ، وأخذه أليم ، وقد بين النبي صفتها فقال: ((ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية قال: فضلت عليهن بتسعة وتسعين جزءا كلهم مثل حرها)).
وعن أنس قال : (( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الناس... )).
أيها المؤمنون فإنها محفوفة بالشهوات التي تميل النفس إليها مع أن هلاكها في ذلك ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها ، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعده الله لأهلها فيها ، ثم جاء فقال: أي رب ، وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، ثم حفها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب ، فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، قال: فلما خلق الله النار قال يا جبريل: اذهب فانظر إليها، قال: فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل: اذهب فانظر إليها ، فذهب فنظر إليها فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها)).
فاللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل أو اعتقاد ونعوذ بك من النار وما قرب إليها...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/652)
أمين الوحي جبريل عليه السلام
الإيمان
الملائكة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أمين الوحي – التعريف بجبريل – التعريف بالملائكة – عداوة اليهود لجبريل، شبه الرافضة باليهود
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:فمن مسائل بدء نزول الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, التعرف على أمين وحي العالمين جبريل عليه السلام الذي نزل بالوحي وظهر للرسول في غار حراء واستعلن له حتى عرفه الرسول وصار يأنس به بعد أن كان يخاف منه في بدء نزول الوحي وذلك لشدة هيبته عليه السلام.
جبريل ويقال جبرائيل وجبرائل, كل ذلك قراءات في اسمه عليه السلام ومعناه عبد الله, ذلك هو رئيس الملائكة, واحد من رؤساء الملائكة العظام (جبرائيل وميكائيل وإسرافيل) ولذلك خصهم سيدنا رسول الله بالذكر في بعض دعائ: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) [1].
والملائكة من أعظم خلق الله وأفضل خلق الله , خلقهم الله تعالى من نور, لا يأكلون ولا ينامون ولا ينكحون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, وهم من الكثرة ما الله به عليم.
روى عن النبي أنه قال: ((أطت السماء وحق لها أن تئط , ما منها موطأ أربع أصابع إلا وعليها ملك جبهته على الأرض)) [2] وفي رواية: ((ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم))، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون, والبيت المعمور في السماء يقابل الكعبة في الأرض يدخله الملائكة ويطوفون به ويذكرون الله عز وجل, كل يوم يدخله سبعون ألف ملك ثم لا يعودون أي يدخل غيرهم [3].
وهؤلاء الملائكة العظام طوائف, كل منها موكل بعمل, بل كل منهم موكل بعمل ومنهم الموكلون بالوحي, هم السفرة الكرام, سفراء بين الله ورسله وعلي رأسهم جبرائيل عليه السلام, فإنه الذي وكل بسيدنا محمد فكان ينزل عليه بالوحي وأحيانا ينزل معه الوحي ومعه ملائكة آخرون أحيانا ميكائيل وإسرافيل وغيرهما كما جاء في الحديث الصحيح أن سورة الأنعام أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفها سبعون ألف ملك [4].
ولقد خلق الله تعالى جبريل على خلقة عظيمة مهيبة ورآه الرسول عليه الصلاة والسلام مرتين في تلك الخلقة, بخلقته الأصلية فرأى رفرفا أخضر قد سد أفق السماء له ستمائة جناح, رآه في أول الوحي بأجياد جالسا على كرسي بين السماء والأرض فسد الأفق ما بين المشرق والمغرب ثم رآه مرة أخرى عند سدرة المنتهى عندما عرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء, فهذا جبريل القوي الأمين, الروح الأمين, ذو مرة (أي قوي شديد) هذا هو الذي وكل بمحمد صلى الله عليه وسلم فكان ينزل بالوحي من الله رب العالمين.
وجبريل عليه السلام عدو اليهود, أبغضه اليهود وذلك أنهم كانوا ينتظرون آخر الأنبياء, فأقبل بعضهم على هذه المدينة الشريفة ينتظرون خروج ذلك النبي ويحلمون أن يكون واحداً منهم, فلما بعث سيدنا محمد العربي القرشي, حسدوه وجحدوه, وكذبوا به وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم, يعرفون أنه النبي المرسل الذين يجدون صفته عندهم مكتوبة في التوراة والإنجيل ومع ذلك جحدوا به مع أنهم يعرفون صدقه صلى الله عليه وسلم, وحسدا منهم له أبغضوا جبريل واتخذوه عدوا لهم لأنه نزل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما سمع عبد الله بن سلام وكان واحدا من يهود المدينة قدوم رسول الله, وكان في أرض يخترق فقال له: إني لسائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: أشراط الساعة وما أول طعام أهل الجنة وما الذي ينزع الولد إلي أبيه أو أمه؟ فقال النبي: ((اخبرني بهذه جبرائيل آنفا)) فقال: جبريل. قال: ((نعم)). قال عبد الله بن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين وقال صلى الله عليه وسلم في جوابه على أسئلة ابن سلام: ((أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب, أما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت, وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ينزع الولد إلي الرجل وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت))، فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فإن هم علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني فإنهم يبهتونى, فلما أقبل اليهود قال لهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من هو عبد الله بن سلام فيكم؟)) قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتم إن أسلم)). قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله بن سلام فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقالوا وقال عبد الله بن سلام: هذا ما كنت أخافه يا رسول الله.
فاليهود قوم بهت افتروا على جبرائيل وأبغضوه واتخذوه عدوا, وتبعهم في ذلك توابع من الروافض , فاتهموا جبريل عليه السلام بخيانة الأمانة وأنه كان مكلفا أن ينزل على علي بن أبي طالب فنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. ويا له من قول يا لهم من قوم لا عقول لهم, لا يكفيهم أنهم اجترؤوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, حتى اجترؤوا على مقام النبوة والملائكة ثم مقام الألوهية, فاتهموا الإله الخالق العظيم, الحي القيوم الذي لا ينام, اتهموه بالغفلة, وهذه العقيدة الرافضية الكفرية من أخبث العقائد, فإذا رأيت رافضياً يخبط على ركبتيه في الصلاة, فإنه يشير إلى هذه العقيدة, فإذا قال مع ذلك: (خان الأمين) فهذا من إخوان اليهود عليهم لعائن الله أجمعين الذين يبغضون جبريل عليه السلام ويكفرون بالله وملائكته ورسله.
فنعوذ بالله من الكفر والكافرين ومن النفاق ومن المنافقين.
أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (770).
[2] أحمد (5/173)، والترمذي كتاب الزهد (2312).
[3] البخاري كتاب بدء الخلق (3035).
[4] تفسير ابن كثير أول سورة الأنعام، فقد عزاه للطبراني.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وأهلك الزنادقة والكافرين وآمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/653)
آفات اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. 2- رب كلمة وضعت صاحبها في النار. 3- الحث
على قلة الكلام. 4- خطر اللسان على صاحبه وعلى بقية جوارحه. 5- أقوال الصحابة في
حبس اللسان. 6- من آفات اللسان السب واللعن والفحش والكذب والبذاءة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول الله عز وجل: إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:17-18].
أيها المسلمون: في هذه الآية تذكير للمؤمنين برقابة الله عز وجل التي لا تتركه لحظة من اللحظات، ولا تغفل عنه في حال من الأحوال، حتى فيما يصدر عنه من أقوال، وما يخرج من فمه من كلمات؛ كل قول محسوب له أو عليه، وكل كلمة مرصودة في سجل أعماله: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:17-18]. يسجله الملكان في الدنيا ويوم القيامة ينكشف الحساب ويكون الجزاء.
روى الإمام أحمد والترمذي عن بلال بن الحارث رضي الله عنه قال :
قال رسول الله : (( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه )) (2).
ولذلك كان علقمة رحمه الله وهو أحد رواة هذا الحديث يقول: (كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث) فكان يمتنع عن كثير من الكلام حتى لا يسجل عليه قول أو ترصد عليه كلمة من اللغو الذي لا فائدة فيه: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون [المؤمنون:1-3].
ومن هنا أيها الأخوة كان حرياً بالمسلم أن يضبط لسانه، ويسائل نفسه قبل أن يتحدث عن جدوى الحديث وفائدته؟
فإن كان خيراً تكلم وإلا سكت والسكوت في هذه الحالة عبادة يؤجر عليها، وصدق رسول الله إذ يقول: (( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) رواه البخاري ومسلم (2).
واللسان هو ترجمان القلب، وقد كلفنا الله عز وجل أن نحافظ على استقامة قلوبنا واستقامة القلب مرتبطة باستقامة اللسان، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: (( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه )) (3).
وروى الترمذي عن رسول الله قال: (( إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا )) (4).
أيها الأخوة في الله :
إن كثيراً من الأمراض التي تصيب العلاقات الاجتماعية من غيبة، ونميمة، وسب، وشتم، وقذف، وخصام، وكذب، وزور وغيرها... فللسان فيها أكبر النصيب، وإذا سمح الإنسان للسانه أن يلغو في هذه الأعراض وغيرها كان عرضة للنهاية التعيسة والإفلاس في الآخرة، وشتان بين إفلاس الدنيا وإفلاس الآخرة.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: (( أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: المفلس من أمتي من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار )) (1)
وروى الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: (( ثكلتك أمك يا معاذ. وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ )) (2) أي جزاء ما تكلموا به من الحرام.
وبالمقابل أيها الأخوة فإن ضبط المؤمن للسانه ومحافظته عليه وسيلة لضمان الجنة بإذن الله، وهذا وعد رسول الله : ((من يضمن لى ما بين لحييه (يعني لسانه) وما بين رجليه (يعني فرجه) أضمن له الجنة )) (3) أخرجه البخاري.
أيها المسلمون :
لقد كان خوف السلف من آفات اللسان عظيماً. فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (وما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان ). وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعلت أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تكلم به.
وقال عمر رضي الله عنه: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بلسانه ويقول: ويحك قل خيرا تغنم، واسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم.
فاتقوا الله عباد الله واضبطوا ألسنتكم، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تتلفظوا، فما كان خيراً فتكلموا به، وما كان سوءاً فدعوه، واحذروا من آفات اللسان فإنها لا تزال بالمرء حتى تهلكه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [الأحزاب:70-71].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
(2) صحيح البخارى : كتاب الأدب ، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره 7/ 79. وصحيح مسلم : كتاب الإيمان ، باب الحث على إكرام الجار والضيف 2/ 18.
(3) المسند 3/ 198.
(4) سنن الترمذى : كتاب الزهد باب ما جاء فى اللسان 4/ 605.
(1) صحيح مسلم : كتاب البر والصلة ، باب تحريم الظلم 16 / 135.
(2) سنن الترمذى : كتاب الإيمان ، باب ما جاء فى حرمة الصلاة 5/ 12.
(3) صحيح البخارى : كتاب الرقاق ، باب حفظ اللسان 7/ 184.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم واقتدى بهم إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله :
إن آفات اللسان كثيرة ومتنوعة، منها ما نلاحظه في بعض المجالس والاجتماعات من بذاءة في الألفاظ وفحش فى الكلام، ومن سب ولعن وشتم بأساليب عديدة، تجري على الألسنة بسهولة ويسر، ودون تفكير في العاقبة، ولا تطيب المجالس عند البعض، ولا يحلو الحديث إلا بهذه الأساليب الساقطة التي تناقض الحياء الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، والأنكى من ذلك والأشد أن بعض النفوس استمرأت عليه، ويرون أنه من باب المزاح والتسلية وقضاء الأوقات وتحلية المجالس، وما علم هؤلاء أنهم وقعوا بذلك في الفسق وأضاعوا أوقاتهم، وحملوا أنفسهم الأوزار.
يقول رسول الله : (( سباب المسلم فسوق )) (1) رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث الذي يرويه البيهقي: (( إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوى به أبعد ما بين السماء والأرض، وإن المرء ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه )) (2).
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (( إياكم والفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش )) (3).
ويقول فيما روى الترمذي : ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء )) (1).
ويقول فيما يرويه البخاري: (( وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم )) (2).
نسأل الله العافية.
فاتقوا الله أيها المسلمون وراقبوا أقوالكم وأعمالكم ولا تدعوا للشيطان عليكم سبيلاً: وقل لعبادى يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً [الإسراء:53].
اللهم اجعل في قلوبنا نوراً وفي ألسنتنا نوراً وفي أسماعنا نوراً وفي أبصارنا نوراً برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وألسنتنا من الكذب والفحش يارب العالمين.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
(1) صحيح البخارى : كتاب الإيمان ، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر 1/ 17. وصحيح مسلم : كتاب الإيمان باب سباب المسلم فسوق وقتاله كفر 2/ 54.
(2) الجامع لشعب الإيمان 9/ 127.
(3) صحيح مسلم : كتاب السلام باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام 14 / 147.
(1) سنن الترمذى : كتاب البر والصلة باب ما جاء في اللعنة 4/ 350.
(2) صحيح البخارى : كتاب الرقاق ، باب حفظ اللسان. 7/ 185.
(1/654)
دروس من السيرة النبوية
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
نزول المدثر – الحكمة من البداءة ب ( اقرأ ) – أهم صفات الداعية خطبة 2 : قصة تائب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فبعدما نزل جبريل عليه السلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآيات من صدر سورة العلق وهي قوله تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [العلق:1-5]. بعد ذلك أنزل الله تعالى عليه: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر [المدثر:1-7]. فنبئ صلى الله عليه وسلم باقرأ وأرسل بالمدثر وذلك لأن اقرأ فيها الأمر له صلى الله عليه وسلم بالعلم في ذات نفسه ولم يؤمر فيها بالتبليغ, وفي اقرأ الأمر له صلى الله عليه وسلم بالجمع بين فعل السبب والتوكل على الله, اقرأ هذا أمر بفعل السبب, باسم ربك هذا أمر بالتوكل على الله تبارك وتعالى ولما أمر بذلك نبه إلى الربوبية التي تقتضي التوكل فالله تعالى رب العالمين هو الذي خلق ودبر وربى خلقه بالنعم فعلى العبد أن يعتمد عليه ويتوكل عليه ويفوض أمره إليه وفي هذه الآيات أيضا من صدر سورة العلق ذكر حقيقة الإنسان وحقيقة أصله وأنه خلق من علق ذكر بذلك ليتواضع لربه ويحقق العبودية له سبحانه وتعالى, فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالتعلم أمر بأن يجعل ذلك باسم ربه لا باسم غيره بل يخلص في ذلك لله تعالى وحده, وفيها أيضا الدلالة على النبوة فان أعظم علم علمه الله تعالى خلقه هو النبوة الذي أنزله على رسله فذلك من أعظم المنة في قوله سبحانه وتعالى: علم الإنسان ما لم يعلم وهكذا تلقى النبي صلى الله عليه وسلم من العلم في ذات نفسه تهيئة له, تلقى كل هذه الصنوف البديعة العظيمة من العلم ولكن في ذات نفسه هذا تهيئة له صلى الله عليه وسلم لحمل الرسالة وتلقي التكليف الذي جاء في قوله بعد ذلك يا أيها المدثر قم فأنذر ففي يا أيها المدثر تنبيه له صلى الله عليه وسلم بأن مهمته لا تقتصر على نفسه بل عليه أن يبلغ رسالة ربه إلى جميع الناس فينذرهم ويحذرهم من عذاب الله تعالى, ففي اقرأ أمر صلى الله عليه وسلم بالعلم وفي يا أيها المدثر أمر بالعمل بالعلم أمر بالتبليغ أمر بأن يحمل رسالة الدعوة ولما أمر فيها بالدعوة في يا أيها المدثر تلقى صلى الله عليه وسلم فيها أهم ما يجب أن يتصف به الداعي, أهم صفات الداعي وأولها أن يعظم ربه في العلم والعمل يا أيها المدثر قم وأنذر وربك فكبر فعليه أن يعظم ربه في العلم والعمل ثم بعد ذلك يبدأ بنفسه فيصلح عيوبها ويطهرها وثيابك فطهر ثم عليه أن يفاصل الباطل وأهله فلا يكون منه أي تهاون فيما عليه قومه من شرك وفساد ووثنية بل يتبرأ من ذلك ويفاصله.
والرجز فاهجر والرجز عبادة الأصنام فأمر صلى الله عليه وسلم أن يهجرها يتبرأ منها يفاصل قومه الذين كانوا عليها ولما كان صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات قد وضع في طريق الدعوة بأمر ربه فإن عليه أن يخلص نفسه من حب الدنيا الذي جبلت عليه النفوس البشرية فلا يستكثر صلى الله عليه وسلم من الدنيا بل عليه أن يكتفي بالقليل ولا تمنن تستكثر , ولما كانت طريق الدعوة محفوفة بالمكارة والمصاعب والعقبات فقد أمر صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر أن يتسلح بالصبر فإنه القوة التي يكافح بها تلك الشدائد والمصاعب والعقبات وفي صدر هذه الآيات يا أيها المدثر في صدرها أمر صلى الله عليه وسلم أن يشمر عن ساعد الجد في تبليغ رسالة ربه وإنذار قومه, يا أيها المدثر أي انزع عنك دثارك واستيقظ من راحتك وبلغ رسالة ربك وعليك بالصبر والجدية في ذلك وعليك بالصبر ففي اقرأ أمر صلى الله عليه وسلم كما قلنا بطلب العلم وفي يا أيها المدثر أمر بالعمل به وفي اقرأ ذكر إنعام الله تعالى عليه وعلى الإنسان من حيث العموم ذكر تعالى منته على هذا الإنسان خلقه من علق لم يكن شيئا مذكورا خلقه فصار شيئا مذكورا ثم رعاه وأكرمه بالنعم وهو سبحانه حتى من إكرامه له علمه بالقلم وبغير القلم علمه من أنواع العلوم ما لم يكن يعلم ففي اقرأ ذكر إنعامه عليه وفي يا أيها المدثر ذكر حقه سبحانه وتعالى عليه على هذا الإنسان أن يعبده سبحانه هذا هو حقه سبحانه وتعالى عليه, وفي اقرأ ذكر الاستعانة بالله تعالى.
وفي يا أيها المدثر ذكر عبادة الله سبحانه وتعالى وهذا مصداق الآية وهذا مصداق قوله تعالى من سورة الفاتحة: إياك نعبد ووإياك نستعين حيث جمع فيها بين الاثنين الاستعانة والعبادة ففي اقرأ الاستعانة بالله وفي يا أيها المدثر عبادته سبحانه وتعالى وفي اقرأ ذكر معرفة الله تعالى ومعرفة الإنسان نفسه وفي يا أيها المدثر الأمر والنهى بعد أن يعرف الإنسان ربه ويعرف نفسه عليه أن يمتثل للأمر والنهى فجاء في يا أيها المدثر الأمر والنهي, الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك, وفي اقرأ أصل أسماء الله تعالى وصفاته مادمنا في صدد معرفة الله تعالى, أصل أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته وهما صفتا العلم والقدرة وفي يا أيها المدثر أصل الأوامر والنواهي كلها وهما الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك, في اقرأ ذكر بدء الخلق بدء خلق الإنسان وفي يا أيها المدثر ذكر الحكمة من هذا الخلق وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له وهكذا تلقى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والعمل من ربه عز وجل تلقى صنوفا بديعة من العلم لم يكن يعلمها ولذلك امتن الله تعالى عليه بما علمه من آياته بما علمه من العلم والحكمة فقال سبحانه: وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [النساء:113].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/655)
استقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, مساوئ الأخلاق
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
22/8/1406
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رمضان ضيف حلّ فينبغي أن نكرمه.
2- الاستعداد لاستقبال شهر رمضان.
3- الحث على تعلم الأحكام الخاصة بالصيام.
4- العزم على ترك الخصال الذميمة في رمضان.
5- حكم صيام أواخر شعبان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : معشر المسلمين :
فإن لكل غائب طالت غيبته نوع استقبال، ولكل حبيب أوشكت رجعته اهتماماً يتناسب مع مكانته ، ويتوافق مع منزلته في نفس من يستقبل ذلك العزيز الحبيب الغائب. فإذا جفوت حبيبك الغائب جفاك وأخفى عنك هداياه وعطاياه، وادخرها ليعطيها لغيرك ممن يحسن استقباله ويعد العدة للحفاوة به وإكرامه.
وإن أعظم مسافر أوشك أن ينزل ديارنا ، ويحط رحاله فى أوطاننا شهر رمضان العظيم ، سيد شهور السنة، هذا الشهر الكريم الذي يأتي حاملا معه النفحات الربانية، والعطاءات الإلهية، فتنبه الغافل وتذكر الناسي وتجدد همة الذاكر وتجمع شتات الناس وتجمع من تفرق من أهل الحي الواحد خلف إمام يقرأ لهم آيات ربهم يخاطبهم بها: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم [الزمر:53]. فتذرف دموع الحسرة على التفريط ودموع الألم على ما مضى من العمر فى معصية الله، ثم يقرأ إمامهم قول الله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً [مريم:96-97].
ليتذكر أهل الحي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي : (( إن العبد ليلتمس مرضاة الله، ولا يزال كذلك فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه فيقول جبريل: رحمة الله على فلان ويقولها حملة العرش ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السماوات السبع ثم تهبط له إلى الأرض )) (1).
ثم يسبح المصلون فى أنحاء السماوات وجنبات الأرض وبين الآيات الكونية العظيمة وهم واقفون لا تبرح أقدامهم مكانهم وذلك عندما يتلو إمامهم قول الله: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار [آل عمران:90-91].
وهكذا كلما مر إمامهم بآية قام في نفوسهم من الفيوضات الربانية، والأحاسيس الإيمانية، ما يناسب تلك الآية الرحمانية.
معشر المسلمين: سؤال أراه يفرض نفسه أمامنا أجمعين يقول هذا السؤال: كيف نعد العدة لاستقبال هذا الحبيب الذي أوشك أن يصل من غيبته ؟ وكيف نهتم باستقبال هذا الشهر الكريم شهر رمضان؟ فأقول وبالله التوفيق: إن الفرد منا يجب أن يوطن نفسه وأهله على تلاوة القرآن في شهر رمضان ، ومراجعة ما حفظه منه ، ثم النية الأكيدة والعزم الصادق على الالتزام بصلاة التروايح بقدر الإمكان.
ثانيا: تعلم أحكام الصيام الفقهية وسننه وآدابه إن كان جاهلا بها ، أو مراجعتها وتذكرها إن كان عالما بها ، وملازمة حلق العلم التي تقام فى شهر رمضان من أجل هذا الغرض.
ثالثاً: العزم على التوبة في هذا الشهر الفضيل، فأبواب رحمة الله وأبواب التوبة لا تزال مفتوحة.
رابعاً: العزم على ترك العادات الرذيلة والخصال القبيحة كالسباب والشتم والغيبة والنميمة وغير ذلك من الخصال السيئة الأخرى وإن في شهر رمضان لأعظم فرصة على ترك قبيحة جالبة للأمراض ألا وهي عادة التدخين.
ومن الناس من يتقدم صيام شهر رمضان بصوم يوم أو يومين من آخر شعبان وهو يفعل ذلك عن حسن نية، ولكن هذا محرم ومخالف لسنة المصطفى إذ يقول فى الحديث المتفق عليه : (( لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم )) (1). وروى الترمذي وأبو داود عن عمار بن ياسر قال : (( من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم )) (2). ويكره الصوم بعد منتصف شعبان لما رواه الترمذي عن أبي هريرة: (( إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا )) (3).
(1) المسند 5/ 279.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الصوم باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم أو يومين 2/230.
(2) سنن الترمذي: كتاب الصوم باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك 3/70.
(3) سنن الترمذي: كتاب الصوم باب ما جاء فى كراهية الصوم فى النصف الثاني من شعبان لحال رمضان 3/115.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/656)
من وحي قصة نوح
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, القصص
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لكل قصة وردت في القرآن مغزى وعبرة 2- نوح أول الرسل 3- الإسلام دين جميع
الرسل 4- محمد خاتم الرسل والأنبياء 5- قصص الأنبياء منهج يَتأسّى به الدعاة 6- قوم نوح
ينكثون عن التوحيد 7- نوح يدعو قومه إلى التوحيد 8- غَنَاء نوح عما عند قومه من المال
والجاه 9- صبر نوح الطويل في دعوته لقومه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد عباد الله إن الله تعالى لم يخلق عباده عبثا ولم يتركهم سدى بل خلقهم لحكمة سامية وغاية عظيمة وهي عبادته سبحانه وإقامة دينه في الأرض وقد بين لهم الطريق إلى ذلك فأرسل الرسل وأنزل الكتب ليبينوا للناس صراط الله المستقيم ويدعوهم إليه ويبشرونهم وينذرونهم ويلفتوا أنظارهم إلى آياته ودلائل وحدانيته سبحانه.
وبينوا ذلك أتم بيان ودعوا إليه أصدق دعوة وبلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة وجاهدوا في الله حق جهاده ولقوا في سبيل الله ذلك أصناف الأذى وألوان الابتلاء وأنواع الشدائد قابلوها بثبات منقطع النظير وصبر فاق كل تصور فعليهم صلوات الله وسلامه أجمعين وقد حكى القرآن لنا قصص هؤلاء الرسل وجهادهم في سبيل هذه الدعوة والمنهج الذي سلكوه وما دار بينهم وبين أممهم وأقوامهم من صراع في سبيل هذه الدعوة حتى أظهر الله دينه وأعز جنده ونصر رسله وكانت كلمته هي العليا, وإنك لتقرأ القرآن الكريم وتقرأ قصة رسول منهم في أكثر من سورة فتجد أن لها في كل صورة مقصد ومغزى وحكمة وعبرة وعظة تختلف عن السورة الأخرى وهذا من أعجاز هذا الكتاب الكريم كيف لا يكون كذلك وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ومن تتبع آيات القرآن والسنة الصحيحة عن الرسول عليه الصلاة والسلام في قصص هؤلاء الأنبياء رأى العجب العجاب من هذا المنهج القوى وهذه السيرة الطيبة وهذه الدعوى الصادقة إلى دين الله ورأى الحكم والمواعظ ورأى المنهج المستقيم الذي يجب على كل من دعا الله أن يسلكه وأن يتخذه منهجا كيف لا وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر له الأنبياء والرسل قال تعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [الأنعام:90]. وفي هذا الحديث أيها الاخوة وأحاديث أخرى بإذن الله تعالى ومشيئته ستكون لنا وقفات في مواقف من دعوة هؤلاء الرسل عليهم السلام لنستخلص منها أهم العبر والمواعظ ولنرى ذلك المنهج الذي سلكه هؤلاء الرسل صلوات الله وسلامه عليهم هذه العبر والمواعظ علها توقظ النائم وتنبه الغافل وتذكر الناسي وتأخذ بيد الحيران وتتدارك وترد المنحرف وتثبت المستقيم وتكون زادا للسائلين ومنارا للسالكين في هذا السبيل القويم سبيل الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وأولهم نوح عليه الصلاة والسلام بعثه الله ليرد الناس للإيمان بعد أن ظهر الشرك في الأرض لأول مرة.
بعثه الله ليعيد الناس إلى الصراط المستقيم الذي انحرفوا وحادوا عنه وكان أول الرسل عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى عبادة الله وحده.
وقبل أيها الاخوة قبل أن نشرع في بيان دعوة الأنبياء والمرسلين ينبغي أن نعلم أمورا هامة:
الأمر الأول أن هؤلاء الرسل عليه الصلاة والسلام كانت دعوتهم إلى توحيد الله تبارك وتعالى وكان توحيده سبحانه أول ما دعوا إليه أممهم: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [النمل:36]. التوحيد هو أول ما دعا إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام.
الأمر الثاني أن دينهم جميعا هو الإسلام: إن الدين عند الله الإسلام [آل عمران:19]. ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة:130-132]. شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليه وما أنزلنا به إبراهيم وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [الشورى:13].
الأمر الثالث: أن هؤلاء الأنبياء والمرسلين يؤمن بعضهم ببعض ويصدق بعضهم بعضا ويبشر أولهم بأخرهم: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [آل عمران:81].
الأمر الرابع أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة النبوات ورسالته خاتمة الرسالات وناسخة لها وهي رسالة الله للعالمين ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين [الأحزاب:40]. وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [سبأ:28]. قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جمعيا [الأعراف:158].
الأمر الخامس: أن قصص الأنبياء والمرسلين جاءت في هذا القرآن الكريم عبرة وذكرى ومنهجا وتسلية وتصبيرا للدعاة في دعوتهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وكبير الدعاة إلى رب العالمين الذي قال له ربه تبارك وتعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [الأنعام:90]. وأول هؤلاء الرسل نوح عليه الصلاة والسلام الذي بعثه الله ليرد الناس إلى طريق التوحيد إلى صراط الله المستقيم بعد أن ظهر الشرك لأول مرة في تاريخ البشر فقد جاء في الصحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" وقد مكثوا على الإسلام والتوحيد تلك المدة ليس للشرك بينهم مكان ولكن الشيطان لم يهدأ له بال ولم يقر له قرار والناس على توحيد الله فزين لهم ولبس واخترع الوسائل وزينها ليوصلهم في نهاية الأمر إلى الشرك والعياذ بالله تعالى فجاء إلى قوم نوح بعد أن مات منهم قوم صالحون وأوحى إليهم وزين لهم أن ينصبوا أنصابا وأن يمثلوا صورا وتماثيل لأولئك الصالحين كما جاء في الصحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما عند تفسير قوله تعالى: ولا يغوث ويعوق ونسرا ، قال رضي الله عنه: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح لما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يعلمون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسى العلم عبدت [1] هذه الوسوسة وهذا التزيين جاء إليهم الشيطان في أول الأمر بدافع الاقتداء بأولئك الصالحين ليصوروا صورهم لعلهم يتذكرونهم فيعبدون الله كعبادتهم وبقي على ذلك حتى انقرض هذا الجيل فلما جاء الجيل الذي بعده جاء إليهم وقال: إن من كانوا قبلكم كانوا يعبدون هذه الأنصاب ومازال بهم حتى عبدوها وهذا المسلك يسلكه الشيطان مع كثير من الناس في ذلك الزمن وفي هذا الزمن وفي كل زمن يأتي إليهم أول الأمر بوسائل يندفعون إليها ويحبونها فيقمص الباطل قميص الحق ويلبس البدعة ثوب السنة ويحليها بالتزين والاستحسان ويقدمها إليهم بدافع حسن النية وسلامة المقصد ويدفعهم إليها بذلك حتى يقعوا في الشرك والعياذ بالله هذا هو مسلك الشيطان وما أكثر ضحاياه في كل زمان ومكان. ما أكثر الذين يطيعون الشيطان بدافع الاستحسان إنه يأتي إلى الإنسان من السبيل الذي يندفع إليه ويزين له ويزخرف حتى يوقعه في المعصية ثم يتبرأ منه فبعث الله نوحا عليه الصلاة والسلام ليرد الناس إلى الصراط المستقيم.
ولنا مع دعوته وقفات في مواقف مع هذه الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
الوقفة الأولى في مبدأ دعوته فقد بدأ دعوته بالدعوة إلى توحيد الله حين جاء والناس قد ضلوا عن سواء الصراط ووقعوا في الشرك بالله فكان أول ما قال لهم: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [المؤمنون:23]. لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [الأعراف:59]. ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم [هود:25-26]. ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أن انذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب عظيم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون [نوح]. أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هذه الدعوة التي كانت بدايتها دعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى دعاهم إلى التوحيد وجاهد في سبيله وهكذا دعوة الأنبياء والرسل كما جاء ذكره وهكذا يجب أن تكون كل دعوة إلى الله تعالى يجب أن تبدأ بدعوة الناس إلى عبادة الله وإلى أفراده في العبادة حتى يستسلم ذلك الإنسان لربه فإذا استسلم قلبه واستسلمت جوارحه أصبح مستعدا لطاعة الله والرجوع إلى منهج الله وما أكثر تقصير الدعاة في هذا الجانب وما أقل اهتمام كثير منهم بهذا الأمر العظيم الذي اهتم به رسل الله وجعلوه مفتاح دعوتهم الوقفة الثانية في منهجه وأسلوبه في دعوته عليه الصلاة والسلام وذلك في أمور أولها التأكيد لقومه بأن هدفه من دعوته حرصه عليهم وحب الخير لهم وإنقاذهم من الهلاك والخوف عليهم من عذاب الله ومقته إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [الأعراف:59]. إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم [هود:26]. وقطع الطمع عما في أيديهم وبيان أن أجره إنما يطلبه من الله وما أسألكم عليه من أجر إن أجري على رب العالمين [الشعراء:109]. فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله [يونس:72]. ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [هود:9]. وهكذا ينبغي أن يكون كل داع إلى الله تبارك وتعالى ينبغي أن يقطع طمعه عما في أيدي الناس وأن يرتفع بدعوته من الأرض إلى السماء ليرتفع هو معها لترتفع هذه الدعوة وليرتفع رأسه مع هذه الدعوة كما كان رسل الله عليهم الصلاة والسلام وإن أهم ما ينبغي أن يحرص عليه كل من يدعو إلى الله أن يزهد في الدنيا وأن يزهد عما في أيدي الناس جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا علمته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد في ما في أيدي الناس يحبك الناس)) [2] ، وكم من دعوة حطمتها الأطماع الدنيئة وضيعتها الأهداف الوضيعة وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام رفيقا بقومه متلطفا معهم عله يصل إلى قبول منهم لدعوته وكان يظهر الشفقة والرحمة بهم ويبين لهم في الوقت نفسه حقيقة دعوته وحقيقة نفسه ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذن لمن الظالمين [هود:31]. وهذا كذلك مما ينبغي للدعاة أن يلتزموا به ويحرصوا عليه أن لا يعلقوا الناس بأطماع زائلة ولا بأهداف منقطعة بل يعلقوهم بربهم سبحانه وتعالى ويجعلوا طمعهم واتصالهم به سبحانه وتعالى لأنها دعوة الله وينبغى أن تتعلق الآمال فيها بالله وأن لا تتعلق بدنيا ولا بأحد من أهلها فإن الدنيا وأهلها زائلون وكذلك من أسلوبه ومنهجه في دعوته أنه كان يذكر قومه بنعمة الله عليهم ويلفت أنظارهم إلى آيات الله في السماوات والأرض ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا [نوح:13-16]. إلى آخر تلك الآيات يذكرهم بنعمة الله عليهم ويلفت أنظارهم إلى آيات الله سبحانه في هذا الكون علهم ينتفعوا بذلك ويرجعوا إلى هذا الصراط المستقيم.
والوقفة الثالثة أيها الأخوة في مواقف دعوته عليه الصلاة والسلام صبره العظيم في سبيل هذه الدعوة مع طول هذه المدة طول مدة دعوته فهي كما قال الله تعالى: ألف سنة إلا خمسين عاما كانت هذه الدعوة ألف عامٍ إلا خمسين عاما قضاها نوح عليه السلام صابرا محتسبا في سبيل هذه الدعوة ينوع الأساليب مع قومه ويكرر الدعوة ويواصل الجهاد علهم يقبلون دعوته قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا [نوح:5-9]. هذا الجهاد الطويل سرا وجهرا ليلا ونهارا مع كل ما كان يلاقي من الأذى ومن المهن وفي طول هذه المدة العظيمة كان صبره منقطع النظير يصبر على قومه ويدعوهم طمعا في هدايتهم وكان من أولي العزم الذين أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتأسي بهم في الصبر فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [الأحقاف:35]. وما أحوج دعاة الإسلام إلى هذا الزاد العظيم إلى الصبر على دعوتهم فلا يتملكهم اليأس حينما يرون إعراضا من الناس أو يرون أذية أو يرون امتحانا فإن تلك سنة الله في خلقه حتى مع رسله الذين هم صفوة الخلق وأحب الناس إلى الله وأفضل خلق الله عليهم صلاة الله وسلامه.
الصبر أيها الاخوة أهم زاد يتزود به الدعاة وأهم سلاح يتسلحون به وذلك ما فعله نوح عليه الصلاة والسلام. نسأل الله أن نكون من الذين يسلكون هذا السبيل سبيل الدعاة والمرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ومن سائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري بنحوه كتاب التفسير (4636).
[2] ابن ماجة كتاب الزهد (4154).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين نحمده تعالى ونشكره أثني عليه الخير كله وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه صلوات الله وتعالى عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن هذه الوقفات في هذه المواقف تستحق أكثر وأكثر من هذا الحديث ومن أراد أن يتزود وأن يطلع على هذه السيرة الطيبة فعليه بكتاب الله الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليعلم كيف مشت هذه الدعوة وكيف سارت في أطوارها وكيف تنقلت مع الأنبياء والمرسلين في هذا الصراط المستقيم في هذا السبيل الذي يوصل العبد بربه ومن سار فيه فإن معه هؤلاء الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم فلنعتبر أيها الاخوة ولنتعظ ولنتخذ من ذلك منهجا في دعوتنا إلى الله تبارك وتعالى ولنقم في سبيل هذه الدعوة ندعو إلى الله على قدر علمنا وعلى قدر استطاعتنا الشرعية وبقيت مواقف أخرى تستحق الحديث الطويل من دعوة نوح عليه السلام مواقف عظيمة لنا معها وقفات في دروس قادمة وقفة مع موقف قومه من دعوته ومع ابتلائه بزوجه ومع ابتلائه بابنه ومع إصرار قومه على الكفر ومع صنع السفينة واستهزاء قومه ومع الطوفان الذي كانت فيه نهاية الظالمين ونجاة المؤمنين.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/657)
الانتفاضة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للاهتمام بقضايا المسلمين.
2- ذلة المسلمين تركهم الجهاد.
3- بداية الانتفاضة.
4- صور من أحداث الانتفاضة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد معشر المؤمنين : فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
ولنخرج قليلاً عن حدود التفكير في ملبسنا وشرابنا وطعامنا ولننظر نظر المعتبر ولنتأمل تأمل المتدبر ، ولنهتم بأمر الإسلام والمسلمين، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ، ونخشى أن يقول الواحد منا في يوم من الأيام: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
فأعداء الدين لا يرقدون ، وحقدهم علينا مدفون، وهم يخططون ، وعلينا يتآمرون ، ولن تهدأ لهم نفس أو ترق لهم عين حتى يتخلصوا من الإسلام وأهله عن طريق فتن يشعلونها ، أو حروب بين المسلمين يسعرونها ، وحداتهم العسكرية في حربنا لا يوفرونها ، أفكارهم الهدامة بواسطة وسائل الإعلام يبثونها ، ولربما غسلوا أدمغة بعض أبناء المسلمين بقبيح فكرهم ، ونتن حضارتهم ، ورذيل تدبيرهم ، فكراً يورث البعد عن الدين وحضارة تنتج الاستخفاف بالمسلمين الملتزمين ، وتدبيراً يطفئ جذوة الجهاد في سبيل الله.
ونبينا الأمين يخبرنا أنه ما ترك قوم الجهاد إلا أذلهم الله.
هبَّ قطاع غزة من الأرض المحتلة يواجه الرصاص بالحجارة ، والدبابات اليهودية بالقنابل الحارقة والرشاشات بالسكاكين.
ففي ذكرى قرار تقسيم فلسطين هب الشعب المسلم الأعزل في الوطن السليب المحتل يعلن رفضه للاحتلال ويشكو إلى الله خذلان المسلمين له ويصيح ويهتف: الله أكبر الله أكبر والموت للمحتل.
وما إن هدأت المواجهة قليلاً حتى قامت إحدى الشاحنات العسكرية بالصعود على إحدى السيارات الفلسطينية المليئة بالركاب، فعادت الانتفاضة في كل أرجاء القطاع، واستخدم المسلمون الفلسطينيون الحجارة والعصي وكل ما تقع عليه أيديهم ، وتعجز قوات الاحتلال عن إخماد لهيب الانتفاضة رغم استخدامها القذائف المسيلة للدموع، والرصاص المطاطي ، والرصاص القاتل.
وحين ينقل المصابون الفلسطينيون إلى مستشفى دار الشفاء في غزة تلاحقهم الدبابات إلى داخل المستشفى وتعتقل الجرحى... وحين يتترسْ المتظاهرون فوق أسطح المنازل تلاحقهم طائرات الهلكوبتر برشاشاتها حتى أصبح قطاع غزة الذي لا يتجاوز طوله ( 50 ) كيلومتر، وعرضه كيلومترات ساحة معركة بين شعب أعزل إلا من الإيمان وبين قوات احتلال مدججة بكل أنواع الأسلحة الفتاكة ، ودارت مواجهات عنيفة امتدت إلى القدس بين المصلين من المسلمين الذين توافدوا لأداء فريضة الجمعة وبين الجنود الصهاينة ، كما امتدت المواجهات العنيفة إلى مخيم بلاطة قرب نابلس، وسقط خلال ثلاثة أيام حوالي (135) بين شهيد وجريح ، وأعلنت سرايا الجهاد الإسلامي ( العصيان المدني المفتوح وليذهب الكيان اليهودي إلى الجحيم ).
إن سرايا الجهاد الإسلامي المتنامية في الأرض المحتلة ظهرت على مسرح الأحداث قريباً حين صدر البيان الأول لها تعلن فيه مسئوليتها عن عملية البراق الجريئة في القدس والتي كان حصيلتها حوالي سبعين إصابة من قوات العدو بين قتيل وجريح قامت بها مجموعة من (قوات الأقصى) التابعة لها ، وقد بدأت بيانها بالآية الكريمة : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير [الحج:39].
وقالت في بيانها: ( لقد فرضت التجارب القاسية التي مرت بها الأمة الإسلامية ككل وشعبنا الفلسطيني بشكل خاص خلال نصف القرن الماضي أن يعود المجاهدون المسلمون إلى تحمل مسؤولياتهم على مختلف الأصعدة وفي مقدمتها قضية أرض الإسلام المباركة في فلسطين ).
إن الأرض المحتلة الآن كلها تشتعل بالثورة ، والمظاهرات والإضرابات الشاملة والمواجهات والمصادمات تعم كل أرجاء فلسطين المحتلة بمدنها وقراها ومخيماتها، ومن يطالع الصحف يقرأ كثيراً من التفاصيل التي لا يمكن أن تحتويها خطبة كهذه.
إننا نشعر بأن الإسلام يمشي على الأرض حين نسمع هتاف متظاهر في فلسطين يقول: ( الله أكبر... لا إله إلا الله ).
إن الرعب بدأ يدب في قلوب اليهود الذين وصفهم الله بالجبن : لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر [الحشر:14]. ووصفهم بالفرقة: بأسهم بينهم شديد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/658)
دروس من سورة يوسف عليه السلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جمال يوسف عليه السلام ظاهراً وباطناً 2- يوسف في محنتي السرّاء والضراء
3- تحذير النبي من فتنة السراء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ولما بلغ أشده أتيناه حكما وعلما وكذلك نجز ي المحسنين وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إ نه ربى أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إ نه من عبادنا المخلصين [يوسف:22-24].
لقد نشأ يوسف الصديق عليه السلام في بيت العزيز بلغ أشده وهو في بيت العزيز أصبح شابا مكتمل الخلقة كامل العقل فآتاه الله الحكم والعلم وهذا كناية عن النبوة وقد أنعم الله عليه بهذه المزية العظيمة لأنه كان أهلا لها ولقد كانت من أعظم الأسباب لعصمته وسلامته من الذنب فبينما كان يوسف يتقلب بسبب الرق يتقلب في قعر دار الترف والفساد كان مع ذلك نورا في دلجة وأنموذجا للنقاء في مجتمع ملوث. لقد تحقق في يوسف الصديق نوران نور الخلقة وكمالها ونور النبوة وجلالها فقد أوتي يوسف شطر الحسن كما أخبر بذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم [1] أي أن الحسن كله قسم نصفين فنصف لسائر الخلق ونصف أوتيه يوسف الصديق وحده. فتعلق به قلب امرأة العزيز لكنه تعلق آثم معلق بأكدار المعاصي وقاذورات الآثام. لم تشاهد امرأة العزيز في يوسف من حسن يوسف إلا جانبا واحدا وهو الحسن الجسدي ولم تبصر من جماله إلا جانبا واحدا وهو جمال الظاهر فلما أن راودته عن نفسها ودعته إلى فعل الفحشاء تجلى لها الجانب الأخر من الحسن والجمال في هذا الشاب إنه حسن الباطن وجمال النفس ونقاء السريرة فقد كان يوسف من المحسنين أخلص عبوديته لله كان مخلصا لربه فكان مخلَّصا من ربه فعصمه عاصمان: عاصم التقوى ومخافة الله تعالى التي تلجم اندفاع الغريزة وتضبط انجماح النفس، وعاصم النبوة بجلالها وبركتها فإذا بامرأة العزيز التي أذلها سعار الشهوة فأصبحت طالبة لا مطلوبة تعرض نفسها على الصديق ولكن في مستنقع المعصية إذا بها تواجه شموخ الطاعة وعزة العبودية المخلصة لله تعالى وصلابة التقوى التي ضربت سياجها حول الصديق عليه السلام فإذا بهذا الشاب الرائع الحسن المكتمل الخلقة والحيوية يرفض وبشموخ وعزة عرضها المهين المحفوف بكل أسباب الفتنة والإغراء لقد مرت بيوسف عليه السلام حتى الآن محنتان عظيمتان وخرج من كلتا المحنتين سليما طاهرا ونجى من كلتا المحنتين جميعا أما المحنة الأولى فهي اضطهاد إخوته له وتآمرهم عليه حتى ألقوه في ذلك الجب الموحش المهلك ونجاه الله تعالى وهذه المحنة هي محنة الضراء وهي على ما فيها من قهر وعذاب جسدي ونفسي أهون من المحنة الأخرى ألا وهي محنة السراء فتنة الإغراء ففي قصر العزيز أتيحت أمام يوسف كل وسائل المتعة كانت بين يديه منقادة إليه وهذه فتنة شديدة الوطأة على الإنسان قلما يقاوم الإنسان نداءها ويسلم من شرها وإغرائها فتنة السراء أشد فتكا في الناس من فتنة الضراء ولذلك كان سيدنا رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه الكرام: ((ما الفقر أخشى عليكم - لا أخشى عليكم من فتنة الفقر - ولكنى أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتتنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) [2] إن الدنيا إذا انبسطت على الناس وتوافر لهم الرخاء والعيش المترف الهنيء فإن ذلك مظنة في الغالب لغفلة القلوب عن الله تعالى وإعراض الناس عن الله وحينئذ فإن النتائج التي تترتب على ذلك أنهم يقعون في براثن الفساد العريض يغرقون في لجج الفساد العريض ولكن يوسف الصديق عليه السلام كان من المحسنين كان قمة في إيمانه كان في إيمانه محسنا والإحسان هو أن يعبد الله كأنه يراه وأن يستحضر في قلبه دائما أن الله سبحانه يراه هذا مقام المراقبة والمشاهدة هذا مقام يوسف الصديق عليه السلام ولذلك كوفئ على هذا الإحسان بالنبوة قال تعالى: فلما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين وكان يوسف الصديق عليه السلام من عباد الله المخلصين قال تعالى: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ومعنى ذلك أنه عليه السلام لما أخلص العبودية لربه تعالى جعله الله من عباده المخلصين أي المجتبين المصطفين الأخيار ولذلك واجهت امرأة العزيز جلال الطاعة من يوسف اصطدم بذل الشهوة من امرأة العزيز بعزة التقوى من يوسف فرجع الشيطان خاسئا وهو حسير يجلجل في أذنيه إعلان يوسف الصديق كأنه الأذان معاذ الله أي أعوذ بالله تعالى مما تعرضين علي ألوذ بجلاله تعالى من شر السوء والفحشاء معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون هذه ومضة من ومضات هذا الموقف الرائع العظيم الموقف الهام من مواقف هذه القصة الشريفة قصة الصديق يوسف عليه السلام وسنكمل الحديث عن هذا الموقف في الجمعة القادمة إن شاء الله وخاصة قوله: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من آيات الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] صحيح مسلم (162).
[2] البخاري :ك:الجزيه رقم (2988).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/659)
الإنفاق في سبيل الله
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
8/3/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة الإسلام للتكافل الاجتماعي. 2- البذل والانفاق من تكافل المجتمع المسلم. 3- فضل
الانفاق في سبيل الله. 4- ما نقص مال من صقدة ، بل تزده. 5- جماعات وأوبئة في بعض
بلاد المسلمين. 6- إسراف وتبذير في بلاد أخرى للمسلمين. 7- التبرع ولو بالقليل ، فهو عند
الله كثير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الإسلام جاء بالتكافل الاجتماعي فحدد أطره، ووضع عناصره، وبين سبله ، وسن ما يحث عليه ويحفظه ، فالمسلمون في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ولقد جاءت مجموعة الشرائع في مجال الأخلاق والمعاملات والعبادات لتؤكد على هذا الجانب كصلاة الجمعة والجماعة في الفرائض والأعياد ، وكآداب الجوار ، وصلة الأرحام ، وكحسن الخلق المتضمن أنواعاً عدة من محاسن الأخلاق ومجامعها.
وإن من أعظم وسائل تقوية التكافل الاجتماعى في الإسلام البذل والإنفاق، لذلك حبب الإسلام إلى بنيه أن تكون نفوسهم سخية وأكفهم ندية وأن يجعلوا تقديم الخير إلى الناس شغلهم الدائم لا ينفكون عنه في صباح أو مساء يقول تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة:274].
ومن الواجب على المسلم أن يقتصد في مطالب نفسه حتى لا يستنفذ ماله كله ، فإن عليه أن يشرك غيره معه فيما آتاه الله من فضله وأن يجعل في ثروته وماله متسعاً يسعف به المنكوبين ويريح المتعبين قال رسول الله : (( يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك ، وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف (1) وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى )) رواه مسلم (2) ، ويقول : (( السخي (3) قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله عز وجل من عابد بخيل )) رواه الترمذي (4).
ولما كانت النفس البشرية تخشى الفقر وتخاف الإنفاق فقد ضمن لها الله سبحانه وتعالى أن يخلف ما أنفقت غيره فيقول تعالى: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه [سبأ:39].
ويروي أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا )) (6). متفق عليه وعنه أن رسول الله قال : (( قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم ينفق عليك )) (7) متفق عليه.
وعندما ينفق المسلم من طيب ماله ولا يقبل الله إلا حلالاً طيباً فيجب عليه أن يعرف أن ذلك مدخر له عند ربه فعن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي : (( ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: بقي كلها غير كتفها )) ( 1) رواه الترمذي. وقال حديث صحيح.
وتحسن النفقة وتعظم بل وتتأكد عند ظهور الحاجة خاصة كانت أم عامة كمريض فقير يحتاج إلى علاج ، أو ناكح فقير يريد العفاف ، أو عائل أسن ذي عيال صغار ، أو مجاعة شاملة نتيجة قحط وجدب وإبطاء مطر وجفاف نهر.
وهذه صحف اليوم وبقية وسائل الإعلام تطلعنا أخبار مجاعة رهيبة ظهرت في مجموعة كبيرة من دول إفريقيا ، ومعظم سكانها من المسلمين، أكلت هذه المجاعة الأخضر واليابس ، وتركت مئات الألوف بل الملايين بلا طعام يطعمونه، ولا ظل يستظلونه، بل ولا ماء بارد يشربونه ، فترى هياكل عظيمة بشرية تتحرك، خيم عليها شبح الجوع والبؤس، ورفرفت عليها بوادر الموت المخيف.
ولنا أن نتصور منظر الأم التي يجود طفلها بأنفاسه الأخيرة تذرف الدمع السخي، وهو – والحالة هذه – شحيح قليل، ولنا أن نتخيل الجموع العظيمة من الناس وقد شحبت وجوهها ، وقرقرت بطونها ، والتفت على بعضها البعض ، خائرة قواها ، منتظرة أجلها المحتوم ، أو منقذا تروم ، تقلب طرفها في جوانب السماء والأرض مستبطئة الغرق ، ولنا أن نتخيل كذلك المواشي الميتة ، الملقاة يمينا ويساراً ، فهذه مراعي خضراء يبست ، وتلك أنهار إقليمية جفت ، إنها يا عباد الله حالة مؤلمة محزنة ، مبكية ، والذي يزيد في الألم وجود أعداد أخرى من المسلمين متنعمين يرمون في صناديق الفضلات طعامهم، بل ويجمعونه في قلابات، ويرمونه في التراب ، وآخرون توسعوا في الكماليات حتى كأنهم لا يعلمون بأن هذه الأموال التي تضيع في السرف واللهو ربما أنقذت عوائل كثيرة ، ويزيد في الألم مسارعة أهل الكفر والزندقة وأصحاب الأهواء من يهود ونصارى إلى اغتنام هذه الفرصة الثمينة ، فقد قامت حملات تنصيرية كبيرة للإغاثة ، ولتقديم الطعام ، والعلاج ، واللباس ، وليقدم مع هذا السم الذي يرد المسلم عن دينه فنراه يتنصر ، أو يتهود ليصبح بعد أن كان مسلماً قوة ضاربة على الإسلام.
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم ألهمنا رشدنا وبصرنا عيوبنا ، وأعنا – ربنا – على الإحساس بإخواننا ، وأن نقوم بواجبنا نحوهم ، إنك سميع مجيب ، وبالإجابة جدير.
(1) الكفاف : الذي لا يفضل عن الشيء ويكون بقدر الحاجة إليه ، النهاية في غريب الحديث والأثر 4/ 191.
(2) في صحيحه : كتاب الزكاة ، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى 7/ 126.
(3) السخي : الجواد ، الصحاح 5/ 2373.
(4) في سننه : كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في السخاء 4/ 342.
(6) صحيح البخاري : كتاب الزكاة باب قوله تعالى : ( فأما من أعطى واتقى.. ) 2/ 120 ، صحيح مسلم : كتاب الزكاة ، باب كل نوع من المعروف صدقة 7/ 95.
(7) صحيح البخارى : كتاب التفسير – سورة هود – باب قوله تعالى : (وكان عرشه على الماء ) 5/213 ، صحيح مسلم : كتاب الزكاة باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف 7/ 80.
(1) سنن الترمذي : كتاب صفية القيامة باب <<33>> 4/ 644.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه ، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراُ أما بعد :
فإن المسلم الغيور إذا سمع كلامنا الذي أسلفناه ليبادر راغباً في الإنفاق سائلا كيف يمكن أن توصل لقمة إلى تلك الأفواه الجائعة؟ ولربما سأل سائل فقال: إني لا أملك إلا القليل فما عسى هذا القليل أن يسد من الحاجة ؟ أسئلة متتابعة ويمكن أن يجاب عنها فمن أراد أن يسأل كيف السبيل إلى إيصال المساعدة لهم ؟ نجيبه بأن رابطة العالم الإسلامي دعت ولا تزال تدعو المسلمين للتبرع لإخوانهم وهي مستعدة لتلقي جميع أنواع المساعدة.
والذي يقول: إنه لا يملك إلا القليل يجاب بأن أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه (1) حتى تكون مثل الجبل )) (2) متفق عليه.
فالقليل كثير وهل كانت البحار إلا قطرات ماء تجمعت ؟ وهل كانت الجبال إلا حصى توافقت؟
ويحسن هنا أن أورد الحديث الذي يرويه أبوعمرو جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله في صدر النهار قال: ((فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي (3) النمار (1) أو العباء (2) ، متقلدي (3) السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر، فتمعر (4) وجه رسول الله ، لما رأى بهم من الفاقة (5) ، فدخل ثم خرج ، فأمر بلالاً فأذن وأقام. فصلى ثم خطب. فقال : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً [النساء:1]. والآية التي فى الحشر: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18]. تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه ، من صاع بره ، حتى قال : ولو بشق تمره. فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت. قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله يتهلل كأنه مذهبة. فقال رسول الله : (( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء )) (8) رواه مسلم.
(1) فلوه : الفلو هو المهر الصغير ، وقيل هو العظيم من أولاد ذوات الحوافر ، النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 774.
(1) صحيح البخاري : كتاب الزكاة ، باب الصدقة من كسب طيب 2/ 113 ،
صحيح مسلم كتاب الزكاة باب كل نوع من المعروف صدقه 7/ 99.
(3) مجتابي : أي لابسيها ، يقال اجتبت القميص والظلام إذا دخلت فيهما ، النهاية في غريب الحديث والأثر 1 / 310.
(1) النمار بكسر النون ، جمع نمرة وهي كل شملة مخططة من مآزر الأعراب، والمعنى أنهم جاؤوا لابسي أزر مخططة من صوف ، المرجع السابق 3/ 118.
(2) العباء : ضرب من الأكسية ، واحدها عباءة ، المرجع السابق 3/ 175.
(3) متقلدي السيوف : لابسيها في أعناقهم ، النهاية في غريب الحديث والأثر 4/ 99.
(4) فتمعر : أي تغير وأصله قلة النضارة وعدم إشراق اللون ، المرجع السابق 4/ 342.
(5) الفاقة : الحاجة والفقر ، المرجع 3/ 480.
(8) صحيح مسلم : كتاب الزكاة ، باب الحث على الصدقة وأنواعها وأنها حجاب من النار 7/ 102.
(1/660)
الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المعاني اللغوية لكلمة الإسلام ودِلالتها على هذا الدين 2- الإسلام في المجتمع يضمن السلام
3- الشرك اضطراب وظلم عظيم 4- الإسلام والطاعة سبب لرخاء المجتمع 5- الكفر
والمعصية سبب الذنوب والمهالك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فمازلنا نكتشف معاني كلمة الإسلام التي هي علم على هذا الدين الذي أنزله الله على سائر الرسل وعلى خاتمهم وإمامهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
مازلنا نكتشف معاني هذه الكلمة ومن عجيب أسرارها أنها في أصل معناها واشتقاقها اللغوي في اللغة العربية تحمل في طياتها معنى الإسلام. فالإسلام سلم وسلام كما أن الإيمان أمن وأمان هكذا في أصل المعني اللغوي وكذلك في المعني الاصطلاحي الشرعي. فقد جاء الإسلام بالسلم والسلام وجاء الإيمان بالأمن والأمان. فمن حقق الجانب الرئيسي من معني هذين الاسمين أي حقق الاستسلام والتسليم إذ إن الإسلام استسلام لله, والإيمان تسليم لله فمن حقق الاستسلام والتسليم لله وحده لا شريك له يتحقق له السلام والأمن.
أول ما يغشى السلام والأمن نفس الإنسان ثم بتضافر أفراد المجتمع وتكاتفهم على تطبيق معني الإسلام والسلام يسود معني الإسلام والسلام والأمن سائر المجتمع فإذا بكل فرد من أفراده سلام في نفسه وسلام على غيره, أمن في نفسه ومصدر أمن على غيره. الأمن الفكري والأمن الديني والأمن الاجتماعي والأمن الاقتصادي والأمن السياسي والأمن العسكري الأمن وحدة واحدة مترابطة بسائر حلقاته هذه فإذا ما اختلت حلقة منها أو سقطت جرت معها سائر الحلقات.
بتحقيق معنى الإسلام بتطبيق المعنى الحقيقي للإسلام يسود السلام سائر المجتمع لأن كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي السليم كل فرد حين إذ يتمثل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) [1] ، يتمثل قول المصطفي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) [2] ، ولهذا سمى الله تعالى في كتابه الكريم سمى الإسلام سلما فقال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة [البقرة:208]. ادخلوا في الإسلام كافة وهذا من أوجه إعجاز القرآن الكريم التي يعجز البيان عن شرحها وتحليلها. ارتباط السلم هنا ارتباط وصف السلم هنا بالدخول في الإسلام كافة والمعنى أنه بقدر ما ينقص من تطبيقك لكافة الإسلام، بسائر الإسلام تخسر من السلم بقدر ذلك.
إذا تذكرت مع ذلك قوله سبحانه: إن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام:82]. تأمل ارتباط الأمن هنا بالإيمان ولكن أي إيمان الإيمان الذي لم يخالطه ظلم وأفدح الظلم الشرك فمع الشرك لا إيمان فلا أمن ولا أمان.
أما ما دون الشرك من أنواع الظلم فقد يبقى معها إيمان ولكنه إيمان ناقص وبقدر ما ينقص من هذا الإيمان ينقص من الأمن والأمان بيان هذا في ثنايا كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بيانه إما على درجة العموم أو على وجه التفصيل ومن ذلك قوله سبحانه ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون [الأعراف:96]. آمنوا: الإيمان هنا هو جانب الاعتقاد ،و اتقوا: هذا هو جانب السلوك إيمان وتقوى هذا هو الإسلام كله. فالإيمان يمثل جانب الاعتقاد والتقوى هي التي تضبط السلوك وتحكم الحياة فإذا ما تحقق الإيمان وتحققت التقوى ماذا يحصل حين إذ انظر إلى تصوير القرآن الكريم وروعة بيانه لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض كأنما هي كانت أبواب مغلقة فتفتح بهذين المفتاحين الإيمان والتقوى فتنهمر حين إذ البركة وتهطل الرحمة بهذين المفتاحين العظيمين, الإيمان ويمثل الجانب الاعتقادي الفكري والتقوى وتمثل السلوك لأنها هي التي تضبط سلوك أفراد الأمة وتحكم حياتهم. أما في حالة العصيان إذا تفشت المعاصي وانتشر الفساد أي بمعنى آخر ضعف معنى الاستسلام وضعف معنى التسليم ضعف تمثيلنا وتحقيقنا لمعنى الإسلام ومعنى الإيمان فحينئذ تغلق أبواب البركة تغلق أبواب الرحمة بابا بعد باب بابا إثر باب لأن المقصود بالعقوبات حين إذ هو تنبيه العباد لعلهم يرجعون فإذا لم يرجعوا إذا استفحل الفساد وعم الخراب وطم وعاند العباد تأتي حينئذ العقوبات الشاملة والعياذ بالله إذا اختلت القاعدة الفكرية إذا اختلت العقائد يترتب على ذلك دائما اختلال السلوك فتنتشر المعاصي ويستخف الناس بحدود الله عز وجل فحينئذ يؤاخذهم رب العزة والجلال بفسادهم ويعاقبهم ببعض أعمالهم ولكن كذبوا هذا هو جانب اختلال العقائد الذي يقابل الإيمان ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون [الأعراف:96]. أي يقترفون ويعملون هذا هو جانب السلوك جانب التقوى إذا اختلت واقترفوا المعاصي واستخفوا بحدود الله عز وجل يؤاخذهم رب العزة والجلال بفسادهم ويعاقبهم ببعض أعمالهم لعلهم يرجعون قال الله تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون [الروم:41].
[1] البخاري كتاب الإيمان (10).
[2] البخاري كتاب الأدب (5670).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/661)
أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وأم سلمة رضي الله عنها
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثَمّة فوارق بين الذكر والأنثى 2- تساوي الذكر والأنثى في واجبات العبودية لله والجزاء
عليها 3- دور خديجة في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في صدر دعوته 4- مشورة أم سلمة يوم الحديبية
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الخالق البارئ سبحانه وتعالى، لما خلق الرجل والمرأة، كلفهما الرسالة وحملهما الأمانة؛ فعليهما الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى، والخالق الحكيم لم يجعل الرجل والمرأة متساويين في كل شيء، بل جعل بينهما فروقًا كما بين الليل والنهار، يقرر هذه الحقيقة في كتابه الكريم فيقول سبحانه وتعالى: وليس الذكر كالأنثى [آل عمران:36] إلا أنه جعل بين الرجل والمرأة أشياء يشتركان فيها؛ فهما مثلاً أمام الثواب والجزاء سواء؛ قال تعالى: ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة [النساء:124]. وقال عز وجل: من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [النحل:97].
فالرجل والمرأة سواء في عبوديتهما لله تعالى؛ فإذا قامت المرأة بواجب العبادة للخالق سبحانه دخلت الجنة، وعاشت قبل ذلك في الدنيا حياة طيبة؛ كما هو الشأن في الرجل؛ فالإنسان بشقيه ذكرًا كان أو أنثى عبد لله تعالى؛ فعليه أن يحقق هذه العبودية لله بأن يعبده وأن يخلص العبادة لله سبحانه وتعالى.
إلا أن لكل من الرجل والمرأة؛ لكل منهما واجبات ومهمات ينفرد بها، خلقه الله لها وجبله عليها.
وملخص واجبات المرأة التي هي حديثنا هذه الأيام، ملخص واجباتها ومهماتها في هذه الحياة، بعد واجب العبودية لله والعبادة له سبحانه أنها سند للرجل وسكن له؛ أي مصدر للسكينة؛ فالمرأة إذا أدت مهمتها كما أمر الله تعالى أصبحت سندًا هامًا للرجل تعينه على أداء رسالته التي حمَّله الله إياها في هذه الحياة.
ولنضرب على هذه الحقيقة مثلين من حياة أفضل الرجال وسيد الخلق خاتم النبيين سيدنا محمد :
المثل الأول: قبل أن يفجأه الوحي، قبل أن يفجأ الوحي سيدنا محمدًا كانت هناك مقدمات وإرهاصات تهيئه لاستقبال هذا الحدث العظيم؛ فإن أمر الوحي عظيم وثقيل وشديد الوطأة لا تتحمله إلا النفوس التي رباها الخالق الحكيم لذلك وهيأها لذلك. ومع تهيئته سبحانه وتعالى لنفس محمد لاستقبال هذا الحدث العظيم؛ فإنه أخذ الروع بمجامع نفسه لما بدأ القوي الأمين جبريل يتبدى له ويظهر له في أوائل الوحي ويكلمه ويسلم عليه، فكان يخاف منه ويهرب منه ، كان يظن أن هذا من فجأة الجن، فيعود إلى زوجه أم المؤمنين خديجة يبثها مخاوفه، فتقول له: أبشر يا بن العم؛ فإن السلام خير؛ لأنه يحدثها أن هذا الذي يراه يسلم عليه؛ فإذا بهذه المرأة العظيمة بذهنها الوقاد وعقلها الراجح تتبين هذا الأمر العظيم من أول وهلة فتطمئن نفس سيدنا رسول الله وتقول له: أبشر يا بن العم؛ فإن السلام خير، ثم تذهب إلى ورقة بن نوفل وكان من العلماء بالكتب، من أهل العلم بالكتب المنزلة؛ فلما قصت عليه ما رأى رسول الله ، قال ورقة: قدوس قدوس؛ لئن كنت صدقتيني يا خديجة فهذا هو الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وأن محمدًا لهو نبي هذه الأمة؛ فقولي له: فليثبت.
فترجع زوجه ، ترجع خديجة إلى سيدنا محمد فتطمئن نفسه وتذكر له قول ورقة، حتى إذا فجأ الوحي رسول الله وهو في غار حراء وظهر له جبريل واستعلن له، وأخبره بأنه رسول الله وغطه غطة شديدة وأوحى إليه بأول القرآن، فرجع رسول الله ترجف بوادره من شدة هذا الأمر العظيم خائفًا على نفسه فطمأنته زوجه رضي الله عنها خديجة وقالت: كلا، فوالله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث؛ فوالله لا يخزيك الله أبدًا [1] ، وإنك لرسول الله، فكانت هذه المرأة العظيمة أول مخلوق آمن به وصدقه كما قرر ذلك العلماء؛ أول إنسان آمن برسول الله زوجه خديجة، ومن الرجل صديقه وحبيبه أبو بكر الصديق رضي الله عن الجميع.
انظر إلى هذه المرأة العظيمة كيف كانت سكنًا وأي سكن لسيد الخلق ، كانت مصدر سكينة وتثبيت لنفس سيدنا رسول الله ؛ ولذلك لم ينسها رسول الله أبدًا حتى بعد أن ماتت كان يذكرها دائمًا ويثنى عليها كما ترويه ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
والمثل الثاني: من غزوة الحديبية، وهي غزوة عظيمة فيها مواقف هامة حرجة ودروس وعظات عظيمة.
ومن أعظم تلك المواقف في هذه الغزوة: أن سيد رسول الله لما أبرم المعاهدة مع قريش والتزم في تلك المعاهدة بأن يفسخ إحرامه وأن يرجع دون أن يدخل مكة هو وأصحابه على أن يعود من العام القابل، كان هذا مما هيج خواطر الصحابة؛ بل اضطربت خواطر كبار الصحابة حتى كان الفاروق عمر رضي الله عنه يجادل رسول الله فيقول: ((ألست نبي الله حقًا ؟! فيقول رسول الله : بلى قال : فعلام نعطي الدنية من ديننا؟! ونرجع ولما يحكم اللهبينا وبين عدونا؟!..: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنة فسنيسره للعسرى [الليل:5-10] )).
وأي عسرى تلك التي وقعت فيها تلك المجتمعات التي تمردت على هذا القانون الإلهي، وحاولت أن تعبث به؛ فإذا بالمرأة في تلك المجتمعات تغادر ميدانها وتزاحم الرجل في ميدانه؛ تزاحمه في السوق وفي العمل، تزاحمه في مجالاته، متخلية عن مهمتها، فأصبحت بدلاً من أن تكون سكنًا، أصبحت في تلك المجتمعات دمارًا وخرابًا وخللاً واضحًا في حياة أولئك المساكين.
ولم تغن عنهم قدراتهم شيئًا، ولا تطورهم ولا فكرهم ولا ثقافتهم، لم تغن عنهم أموالهم الهائلة شيئًا في حل المشكلات التي تولدت نتيجة هذا الخلل الذي ترتب على التمرد على القانون الإلهي الرباني الذي صنعه اللطيف الخبير وأمرنا بالوقوف عند حدوده؛ لم يغنهم كل ذلك شيئًا في حل تلك المشكلات؛ فقد حقت عليهم كلمة العذاب، اختل نظام الحياة عندهم، تهدم نظام الأسرة عندهم، تضعضع كيانهم وتصدع بنيانهم: وما يغنى عنه ماله إذا تردى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى [الليل:11-13].
لله سبحانه الخالق اللطيف الخبير الآخرة، وله هذه الحياة الدنيا؛ فإلى أين يفر أولئك المتمردون المساكين الذين تمردوا على هذا القانون الإلهي؛ رجالاً ونساءً؛ لله الآخرة والأولى فإلى أين يفرون؟ أين المفر؟!: فأنذرتكم نارًا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى [الليل: 14-16].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا وإياكم بما فيه من الهدى والبيان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدوء الوحي (1) باب كيف كان بدء الوحيالىرسول الله (1/4)وغيرها.
_________
الخطبة الثانية
_________
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102]، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين، فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسلمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء والأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وذي النورين عثمان، وأبي السبطين علي، وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/662)
الاستئجار
فقه
البيوع
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
15/6/1407
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أدلة حل بيع المنفعة. 2- شروط صحة الإجارة. 3- حرمة تأخير تسليم العمال أجورهم أو
تأخيره عليهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يا عباد الله: اتقوا الله ربكم وتوبوا إليه وتعلموا أمور معاملاتكم كما تتعلمون أمور عباداتكم سواء بسواء، واعلموا أن للإجارة شروطاً منها: معرفة المنفعة المعقود عليها، مثل الإجارة على بناء حائط يجب أن يذكر طوله وعرضه ومكانه، ومثل إجارة الدار تعرف صفتها وموقعها ومدة استئجارها، ومثل استئجار آدمي لخدمة سنة أو سنتين أو يوم أو أيام.
والشرط الثاني : أن يكون النفع المعقود عليه مباحاً فلا تجوز المنافع المحرمة كاستئجار الرجل أو المرأة للغناء المحرم وللزمر والطرب والنياحة، ولا يجوز إجارة دار أو دكان ليباع فيه محرم كالخمر والدخان وكأشرطة الفيديو الخليعة التي تفسد أخلاق وعقائد الناس.
ولا يجوز بل يحرم تأجير مبنى أو دار معارض ودكاكين لفرد أو مؤسسة أو شركة ربوية تأخذ أموال الناس بالباطل وتودعها لديها لترابي بها باسم العمولة والفائدة تلبيساً على الناس وحرباً لله وللرسول: يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون [البقرة:278-279].
والشرط الثالث من شروط الإجارة: معرفة الأجرة فعن أبي سعيد الخدري مرفوعاً إلى النبي أنه : (( نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره )) ( رواه أحمد ) (2).
وتصح يا عباد الله إجارة كل ما أمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدور والدكاكين والدواب، والسيارات والآدميين للقيام بعمل ما وفق الشروط السابقة.
أما ما تذهب وتفنى عينه بالاستعمال كالطعام والشراب فلا تجوز إجارته بل يجوز بيعه.
ويشترط معشر المؤمنين كذلك أن يملك المؤجر النفع المتعاقد عليه ،فلا يجوز أن يؤجر ما لا يملكه وما ليس عنده كبيت جاره أو دكان صديقه أو عامل أو بناء غيره.
ويشترط في عقد الإجارة أن يكون النفع مقدوراً على تسليمه، فلا يؤجر عبده الشارد ولا يؤجر ما غصب منه وهو لا يستطيع رده من غاصبه كمن يريد أن يؤجر بيتاً له قد غصبه منه وأخذه على وجه القوة والقهر رجل ذو سطوه أو سلطان أو نفوذ ، فلا يجوز تأجير ذلك البيت المغصوب إلا لمن يقدر على إرجاعه، وبعد بيان أنه مغصوب منه. وإذا استوفى المستأجر العمل فليعط الأجر فقد قال النبي : (( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه )) ( 3) رواه ابن ماجة.
ومن الناس من يتساهل في هذا فيؤخر أجور عماله ومستخدميه عمداً، وقد لا يستطيعون مقاضاته أو شكايته لعدم وجود ما يثبت أجورهم وحقوقهم، أو لخوفهم من كفيلهم، أو لسطوة وسلطان رب العمل، أو رغبة في البقاء في هذا البلد الطيب.
وبعض الناس يؤخر أجور عماله ليودعها في المؤسسات الربوية ليأخذ على تلك الأموال الفائدة والربا الحرام ، وهذا إفراز طبيعي للربا، فإنه ما قام في مجتمع إلا دمره ، ولا في أمة إلا أهلكها ، فتتولد منه المصائب والمشاكل وكذلك كل أمر خبيث، فإن عاقبة السيئة السيئة بعدها، وعاقبة الحسنة الحسنة بعدها.
وبعض أرباب الأعمال يؤخر أجور عماله حتى إذا ما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتكاثرت عليهم الديون وصاح أولادهم وأهليهم من الحاجة والفاقة يرضون أن يتنازلوا بعد مساومة مع رب العمل عن جزء من حقوقهم مقابل أن يحصلوا على الجزء الباقي.
ومن ظلم الأجير يا عباد الله أن يعطي رب العمل الأجر مجزءاً ومقطعاً مع إمكانية تسليمه كاملاً بحجة إمساك العامل لديه ، ومن ظلم الأجير كذلك أن يتعاقد معه في بلاده ويعرض عليه الأجر، وهذا العامل المسكين عندما يصل من بلاده ويفاجأ بأن أجره ذلك لا يكفي حتى لطعامه أو لشرابه.
ألا فلنتق الله في أجرائنا ولنعطهم أجورهم ولا نأكل منها شيئاً، يقول : (( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة: رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره )) (1).
(2) في المسند 3/59.
(3) سنن ابن ماجه : كتاب الرهون ، باب أجر الأجراء 2/817.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب البيوع باب إثم من باع حرا 3/41 ، سنن ابن ماجه 2/816 ، رقم الحديث 2442.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/663)
الاعتبار بمضي عام
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
10/1/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استقبال عام ووداع عام.
2- دعوة لاغتنام الأوقات.
3- انقضاء الأعمار بانصرام السنين والأيام.
4- الندم على فوات الأوقات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : فبالأمس القريب ودعنا عاما كاملا من أعوام العمر، فما أسرع ما مضى وانقضى ، وما أعظم ما حوى ، فكم من حبيب فيه فارقنا ، وكم من اختبار وبلاء فيه واجهنا، خيراً كان أو شراً.
وكم من سيئات فيه اجترحنا ، وكم من عزيز أمسى فيه ذليلاً، وكم من غني أضحى فيه فقيراً وكم من حوادث عظام مرت بنا ولكن أين المعتبرون المبصرون ، وأين الناظرون إلى قول النبي : (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ )) (2) ومعنى هذا الحديث أن هاتين نعمتان عظيمتان، ولكن قلة من الناس من يدرك ذلك ويعيه فيخسر لعدم إدراكه ووعيه ، إن كثيرا من الأصحاء لا يستفيدون من زمان صحتهم فيتقربون إلى ربهم ومولاهم سبحانه وتعالى، وإن كثيرا من الفارغين كذلك لا يشغلون أنفسهم بما يرضيه سبحانه وتعالى.
وقد قال الحبيب : ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك )) (3).
ومعظم هذه إن لم تكن كلها تعتمد على الوقت والاستفادة منه. قال كذلك: (( بادروا بالأعمال سبعاً )) أي أسرعوا إلى فعل الخيرات والقربات قبل أن تأتيكم سبع، يقول المصطفى : (( بادروا بالأعمال سبعاً هل تنظرون إلا إلى فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرما مفنداً، (1) أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أوالساعة، فالساعة أدهى وأمر )) (2).
إن الذي يقضي الساعات لاهيا ولاعباً ويسهر الليالي غافلاً مفرطاً فإن أهل الجنة ما يتحسرون على شيء كتحسرهم على ساعة مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله فيها – جعلني الله وإياكم من أهلها – يقول أحد الصالحين : "إنما أنت أيام، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك" ويقول: إنك تفرحين كل يوم بزيادة مالك ولا تحزنين على نقصان عمرك، وما نفع مال يزيد وعمر ينقص، ويلك يا نفس تعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليك، وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنك، فكم من مستقبل يومه لا يستكمله ، وكم من مؤمل في الخير لا يبلغه "
فلنأخذ أنفسنا بالجد ولنحافظ على أوقاتنا فلا نصرف في أمر حقير وقتاً كثيراً ولنعلم أولادنا الانتفاع بأوقاتهم وحسن تنظيمها وتوزيعها فإن الواجبات أكثر من الأوقات ، وما مات أحد انتهى من شغله فلنسدد ولنقارب ، وبالحفاظ على الوقت ترتقي الأمم، وبه مع الإخلاص والاتباع تعود العزة المفقودة لأمتنا فترهبنا الأمم وتخشانا الرمم.
وأعيذكم بالله ونفسي من حال الظالمين الذين لا ينتفعون بأعمارهم وأوقاتهم يحكي القرآن قصتهم وحالهم فيقول: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحلون (1).
اللهم اجعل يومنا خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من حاضرنا ،أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
(2) البخاري : كتاب الرقاق باب الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة 7/170.
(3) أخرجه الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقة الذهبي المستدرك 4/306.
(1) مفند : الفند ضعف العقل والفهم ، والتخليط في الكلام من الهرم.
(2) أخرجه الترمذي : كتاب الزهد باب ما جاء في المبادرة في العمل 3/ 378.
(1) سورة المؤمنون الآيات 99 ، 104.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/664)
الإيمان : حديث معاذ
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص الحديث 2- أول واجب على الإنسان هو معرفة ربّه 3- سبيل معرفة الرب الكتاب
والسنة 4- فضل سورة الإخلاص 5- سورة الإخلاص ثلث القرآن 6- اسم الله الأعظم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أول ما يجب على المسلم معرفته من أصول الإيمان معرفة الله وتوحيده أخبر بذلك الصادق المصدوق.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما [1] قال لما بعث النبي معاذًا نحو اليمن قال له إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله فإذا هم عرفوا ذلك - أي إذا هم عرفوا الله تعالى - فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة من أموالهم تُؤخذ من غنيهم فتُرد على فقيرهم فإذا هم أقروا بذلك فخذ منهم وتوقَ كرائم أموالهم.
فهذا الحديث الصحيح دليل على أن أول واجب على الإنسان معرفة الله تعالى وتوحيده، ولكن ما السبيل إلى معرفة الله والمخلوق لا يستطيع أن يحيط علمًا بالخالق لا يقوى عقله ولا بصره على إدراكه وإن كانت فطرته جُبلت على معرفة وجوده سبحانه ومعرفة ألوهيته وربوبيته سبحانه ولكن معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله تعالى شيء لا يطيقه عقل البشر بنفسه لا تدركه عقول البشر بنفسها فما السبيل إلى معرفة الله؟
لا سبيل إلى معرفة الله إلا بالله وقد أنعم وتكرم فعرفنا بنفسه في كتابه وعلى لسان رسول الله ولولا ذلك ما عرفناه، لولا أن الله تعالى عرفنا بنفسه ما عرفناه لهذا المعنى يقول خير الأمة عبد الله بن عباس لما سُئل بما عرفت ربك؟
فأجاب رضي الله عنه من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس خارجًا عن المنهاج ظاعنًا في الاعوجاج.
عرفتُ الله بما عرَّف به نفسه ووصفته بما وصف به نفسه هكذا يقول رضي الله عنه.
ومعنى ذلك الكلام النفيس أن المؤمنين لم يعرفوا ربهم بالقياس المنطقي ولا بالبرهان الجدلي ولكن الله سبحانه تعرف إليهم فعرفوه، ووصف نفسه بنفسه فوصفوه.
قال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم: قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد [الإخلاص].
روى البخاري في صحيحه [2] عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي بعث رجلاً على سرية فكان الرجل يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم قل هو الله أحد - يختم دائمًا قراءته في صلاته – بقل هو الله أحد.
فلما رجعوا ذكروا ذلك للرسول فقال: ((سلوه لماذا يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: إنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأها. أي لأن هذه السورة اشتملت على صفة الرحمن فأنا أحبها لذلك وأحب أن أقرأها دائمًا. فقال رسول الله : أخبروه أن الله يحبه)).
وكان سبب نزول هذه السورة العظيمة ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن المشركين سألوا رسول الله فقالوا: أوصف لنا ربك يا محمد - أي صف لنا ربك يا محمد - فأنزل الله قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد [الإخلاص].
فهذه السورة العظيمة عرفت الرب سبحانه وتعالى، أول ما عرفته باسمه الأعظم الله اسمه الأعظم ومعناه المألوه أي المعبود، فهو سبحانه المعبود بحق دون سواه، ثم وصفته بعد ذلك بصفتين عظيمتين الأحد الصمد وهاتان الصفتان اشتملتا على إثبات سائر صفات الكمال لله سبحانه وعلى تنزيهه سبحانه من صفات النقص فالله متصف بصفات الكمال واحد أحد فيها لا يشبهه غيره: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى:11].
وهو سبحانه منزه عن جميع صفات النقص فهو "الصمد" أي السيد الذي كَمُلَ في سؤدده، وهو سبحانه العظيم الذي كَمُلَ في عظمته الحليم الذي كَمُلَ في حلمه العليم الذي كمل في علمه، الحكيم الذي كمل في حكمته، فهو سبحانه قد كمل في سائر أنواع السؤدد والشرف هو الله، هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفء وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار.
وهو في صفات الكمال وأحديته وصمديته في الكمال تنزه سبحانه عن الولد والوالد وعن الشبيه والنظير لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وليس له نظير ولا وزير.
روى البخاري [3] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ بقل هو الله أحد يرددها في ليلته - أي لم يقرأ غيرها في تلك الليلة - يرددها إلى أن أصبح فلما أصبح ذهب ذلك الرجل إلى النبي فذكر له ما صنع ذلك الرجل كأنه يتقالها - أي يرى أنه لم يأتِ إلا بالقليل - لم يقرأ ليلته إلا بـ قل هو الله أحد.
فقال النبي : ((والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)) [4].
وروى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي قال لأصحابه: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلته ثلث القرآن فقالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ فقال : قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)) [5].
وفي لفظ لمسلم أنه قال: ((إن الله قد جزء القرآن ثلاثة أجزاء فجعل "قل هو الله أحد" جزءًا من أجزاء القرآن)).
ومعنى هذا أن القرآن الكريم أُنزل على ثلاثة أقسام فقسم منها الأحكام والتشريعات وقسم منها الوعد والوعيد وقسم منها الأسماء والصفات التي بها نعرف الرب سبحانه وتعالى.
فهذه السورة اشتملت على الأسماء والصفات الإلهية بلفظ موجز فهي ثلث القرآن بهذه المثابة.
روى النسائي [6] وأصحاب السنن عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أنه دخل بالمسجد مع رسول الله فإذا رجل يصلي يدعو يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. فقال النبي : ((والذي نفسي بيده لقد سأله باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب. الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد هذا هو اسم الله الأعظم الذي إذا سُئل به سبحانه أعطى وإذا دُعي به أجاب)).
أيها المسلمون ادعوا الله سبحانه وتعالى ادعوه بأسمائه الحسنى وصفاته العلي وتقربوا إليه بذلك فإنه سبحانه يحب ذلك يحب أن يثني عليه عبده وأن يصفه بصفات الكمال والجلال وأن يلهج لسانه بذلك وأن يتقرب لربه بذلك ويتعرف على ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى قال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون [الأعراف:180].
وقال تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيما تدعوا فله الأسماء الحسنى [الإسراء:110].
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
نسألك أن ترحمنا وتعفو عنا وتغفر لنا وتدخلنا الجنة وتعيذنا من النار يا أرحم الراحمين.
سبحان الله العظيم رب العرش الكريم سبحان الله وبحمده.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب(30) الزكاة (40) باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة(2/529) ومسلم (1/50و51).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد باب ما جاء في دعاء النبي مته إلى توحيد الله (6/2686).
[3] أخرجه البخاري في صحيح في كتاب (69) فضائل القرآن باب فضل قل هو الله أحد (4/1915).
[4] أخرجه مسلم في صحيحه (1/556).
[5] أخرجه مسلم في صحيحه (1/556).
[6] أخرجه أحمد (5/349و350و360) وأبو داود (1493) والترمذي (3475) وابن ماجة (3957) وغيرهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصمهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد... فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102]. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي (1/306).
(1/665)
التحذير من التساهل باليمين
فقه
الأيمان والنذور
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
24/3/1406
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم أمر اليمين والتحذير من التهاون فيه. 2- كثرة الحلف من صفات غير المؤمنين.
3- الأيمان الكاذبة لترويج السلع. 4- حرمة أخذ حقوق الناس باليمين. 5- من حلف على أمر
فرأى خير منه. 6- الحلف بغير الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله واعلموا أن شأن اليمين عند الله عظيم وخطر التساهل بها جسيم. فليس اليمين مجرد كلمة تمر على اللسان. ولكنها عهد وميثاق ينتهي عند حده. ويجب أن يوافى حقه.
قال : (( من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض ، ومن لم يرض بالله فليس من الله )) (2) والله تعالى يقول: واحفظوا أيمانكم [المائدة:89]. قال ابن عباس: يريد ( لا تحلفوا ) فيكون معنى الآية على هذا هو النهي عن الحلف، فلا ينبغي للإنسان التسرع إلى اليمين إلا عند الحاجة.
كثرة الحلف تدل على الاستخفاف بالمحلوف به، وعدم تعظيمه. وكثرة الحلف بالباطل من صفات الكفار والمنافقين قال الله تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين [القلم:10]. فنهى نبيه عن طاعة الحلاف وهو كثير الحلف.
وقال عز وجل عن المنافقين: ويحلفون على الكذب وهم يعلمون [المجادلة:14]. وقال عنهم: اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله [المجادلة:16]. أي جعلوا الأيمان وقاية يتقون بها ما يكرهون ويخدعون بها المؤمنين.
ومن قبلهم حلف إبليس لآدم وزوجه ليخدعهما باليمين. قال الله تعالى عنه: وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين [الأعراف:21].
أي: أقسم لهما أنه يريد لهما النصح والمصلحة: فدلاهما بغرور [الأعراف:22]. أي خدعهما بذلك القسم وأوقعهما في المعصية والمصيبة.
معشر المؤمنين: ومن الاستخفاف باليمين أن يتخذ وسيلة لترويج السلع، قال النبي : (( الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة )) (3). رواه البخاري ومسلم. ومعناه: أن يحلف صاحب السلعة أنه أعطي فيها كذا وكذا أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وهو كاذب في الحلف عاص لله آخذ للزيادة بغير حق فيعاقبه الله بمحق البركة من كسبه وربما يتلف الله ماله كله.
وقال : (( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان ، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه )) رواه الطبراني (4) ورجاله رجال الصحيح.
ومعنى ( جعل الله بضاعته ) أي جعل الحلف بالله وسيلة لترويج بضائعه، فيكثر من الأيمان ليخدع الناس فيشتروا منه اعتماداً على يمينه الكاذبة فكان جزاؤه إعراض الله عنه يوم القيامة. فلا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
وانظر – أخي المؤمن – كيف قرن بالزاني والمستكبر مما يدل على عظم جريمته نعوذ بالله من غضبه وعقابه.
وقد يتساهل بعض الناس بالأيمان في مجال الخصومات والتقاضي فيحلف الخصم ليكسب القضية ويتغلب على خصمه بالباطل دون مبالاة بحرمة اليمين والجراءة على رب العالمين.
واسمعوا ما ورد في حق هذا من الوعيد الشديد. قال تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [ سورة آل عمران:77].
وروى الإمام أحمد (2) والنسائي: (( أن رجلاً من كندة يقال له : امرؤ القيس خاصم رجلا من حضرموت إلى رسول الله في أرض فقضى على الحضرمي بالبينة فلم تكن له بينة فقضى على امرئ القيس باليمين. فقال الحضرمي : أمكنته من اليمين يا رسول الله ؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي فقال رسول الله : من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان ، وتلا رسول الله : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً... الآية )) [سورة آل عمران:77].
وروى الإمام مسلم في صحيحه (4) : (( أن رسول الله قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك )) ، وروى البخاري في صحيحه (5) : (( أن أعرابياً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال : الإشراك بالله قال : ثم ماذا ؟ قال : اليمين الغموس. قلت: وما اليمين الغموس ؟ قال : الذي يقطع مال امرئ مسلم يعني بيمين هو فيها كاذب )).
عباد الله : ومن الأيمان المنهي عنها اليمين التي يحلف بها المسلم ليمتنع بها من فعل الخير قال تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله [النور:22]. أي لا تحلفوا ألا تصلوا قرابتكم وألا تتصدقوا على المساكين والمحتاجين.
وإذا حلف الإنسان على ألا يفعل الخير، فإنه يشرع له أن ينقض يمينه ويفعل ما حلف على تركه ويكفر عن يمينه قال الله تعالى:
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم [البقرة:224].
أي لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر والصلة للرحم إذا حلفتم على تركها، وذلك بأن يدعى أحدكم إلى صلة رحمه أو عمل بر فيمتنع ويقول: حلفت ألا أفعله، وتكون اليمين مانعة له من فعل الخير بل يكفر عن يمينه ويفعل الخير.
وفي الصحيحين (3) عن النبي : (( إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ))
وإذا حلف على ترك مباح كلبس ثوب أو ركوب دابة أو أكل طعام ونحو ذلك فإنه يخير بين الاستمرار على يمينه وترك المحلوف عليه أو استعماله والتكفير عن يمينه قال الله تعالى: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [التحريم:2]. أي شرع تحليلها بالكفارة وهو ما ذكره تعالى في سورة المائدة إذ يقول: فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم [المائدة:89]. فكفارة اليمين فيها تخيير وترتيب.
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه : كتاب الكفارات ، باب من حلف له بالله فليرض قال في الزوائد : رجال إسناده ثقات.
(3) صحيح البخاري : كتاب البيوع ، باب يمحق الله الربا ويربي الصدقات 3 / 12. صحيح مسلم : كتاب المساقاة والمزارعة ،باب النهي عن الحلف في البيع 11 / 44.
(4) المعجم الصغير 2 / 21.
(2) المسند 4 / 191.
(4) كتاب الأيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار 2 / 157.
(5) كتاب الأيمان والنذور ، باب اليمين الغموس 7 / 228.
(3) صحيح البخاري : كتاب الأيمان والنذور ، باب قوله تعالى: ] لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم.. الآية [. 7 / 216. صحيح مسلم : كتاب النذر ، باب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها 11 / 112.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن من الأيمان المحرمة الحلف بغير الله فالحلف بغير الله شرك قال : (( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) (1). رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم (2) وقال :
(( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )) (3) متفق عليه. وقال : (( ومن حلف بالأمانة فليس منا )) حديث صحيح رواه أبو داود (4).
فالحلف بغير الله شرك لأن الحلف بالشيء تعظيم له، والتعظيم الذي من هذا النوع حق الله فالحلف بغيره من اتخاذ الأنداد له، وقد قال الله تعالى: فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون [البقرة:22].
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( هو أن تقول: وحياتك وحياتي)، وقد كثر في هذا الزمان من يحلف بالشرف أو يحلف بالنبي وبالأمانة، وكل هذا مما نهى عنه الله ورسوله فيجب على من صدر منه شيء من ذلك أن يتوب إلى الله تعالى، ولا يحلف إلا بالله عز وجل ليسلم من الشرك.
قال عبد الله بن مسعود: ( لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً ).
وذلك لأن الحلف بالله على الكذب محرم، ولكن الحلف بغير الله أشد تحريماً لكونه من الشرك، وسيئة الكذب أخف من سيئة الشرك، وكلاهما كبيرتان من الكبائر.
ألا فلنتق الله ولنعظم أيماننا ولا نتساهل في شأنها، ولا نحلف بغير الله عز وجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون [المائدة:89].
(1) سنن الترمذي : كتاب النذور والأيمان ، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله 4 / 110.
(2) المستدرك 4 / 250.
(2) صحيح البخاري : كتاب الشهادات ، باب كيف يستحلف 7 / 221 وصحيح مسلم : كتاب الأيمان 11/105.
(4) في سننه : كتاب الأيمان والنذور ، باب في كراهية الحلف بالأمانة 3 / 223.
(1/666)
الابتداع في الدين باسم محبة النبي صلى الله عليه وسلم (المسألة الثانية)
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ستر البدع بدعوى محبة النبي 2- أسئلة مُوجّهة لمدعي محبة النبي 3- محبة النبي يدل
عليها تعلُّقُنا بسنته وهديه وكلامه 4- تعاهد أبناءنا وأهلينا بالتربية دليل محبة النبي
5- أمور ثلاثة حققها الصحابة حين أحبوا نبي الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن المسألة الثانية من مسائل الابتداع في الدين أن كثيرًا من الناس وقعوا فريسة هذه المعصية الخطيرة، لما دعوا إليها باسم محبة النبي إذ أكثر ما يروج طواغيت البدعة لبدعهم باسم محمبة النبي ، فكم من معصية ارتكبت باسمها وكم سنة للنبي حاربها طواغيت البدعة باسم محبة النبي كل مسلم في مكنون قلبه حب النبي ولسانه يلهج بذلك ولولا ذلك لما صار مسلمًا فالقلوب مجتمعة على حب الحبيب المصطفى الذي اتخذه الرحمن خليلاً ولكن كيف نعبر عن حبنا لرسول الله ؟ كيف نحول هذا الحب إلى حقيقة مؤثرة في حياتنا لا يكفي أن ندعي محبة رسول الله ومحبة ما جاء به رسول الله على كل واحد منا أن يوجه إلى نفسه أسئلة.
السؤال الأول: هل هو في دعواه محبة النبي صادق ؟
والسؤال الثاني: هل محبته للنبي لها قيمة مؤثرة في حياته هل هي مسيطرة على حياته كلها، هل هي موجهة لحياته كلها ؟
والسؤال الثالث: ما موقفه من سنة النبي ؟
لا يكفي أن ندعي محبة رسول الله ولا يكفي أن ندعي محبة ما جاء به رسول الله دون أن تكون لذلك حقيقة في حياتنا، فإن محبة رسول الله إن لم يكن لها حقيقة في حياتنا فهي دعوى تحتاج إلى دليل، كيف تكون دعوانا صادقة وحياتنا في أغلب مظاهرها عصيان تام لرسول الله وتمرد على ما جاء به من شريعة عادلة وآداب رفيعة وعقيدة صافية أي محبة هذه لمحبوب ألسنتنا معه وحياتنا ليست معه أي محبة هذه لمحبوب نجتمع زرافات ووحدانا لنترنم بمناقبه وسيرته ونشدو بها وتشتغل بها ألسنتنا حتى إذا خرجنا إلى الحياة فإذا بنا في أسواقنا وفي بيوتنا وأسرنا وأولادنا وفي فكرنا وثقافتنا وفي تجارتنا ومصالحنا الدنيوية في ذلك كله وفي غير ذلك لا نعيش معه ولا نلتزم بمبادئه وآدابه الرفيعة وإذا رأينا هذه المبادئ وهذه الآداب النبوية تنتهك لا تأخذنا الحمية ولا نغضب، ولا ننصر رسول الله. كيف ننصر رسول الله وقد اتخذنا سنته وراءنا ظهريًا هذه سنته قد بلغها إلينا خلفاؤه من بعده كاملة غير منقوصة وخلفاء رسول الله هم رواة الحديث من بعده كم منا نحن المسلمون اليوم كم منا قرأ صحيح البخاري ومسلم وفيهما سنته موثقة بالأسانيد الصحيحة كم منا قرأ مختصر صحيح البخاري ومسلم بل مختصر المختصر بل كم تعرف أيها المسلم كم حديثًا تعرف من حديث رسول الله التي يمكنك أن تطبق سنته في حياتك. كم سنة من سنن المصطفى وكم حديثًا من أحاديثه علمته أهلك وأولادك أم أن أهلك وأولادك مشغولون عن الحبيب المصطفى بمحبوبين آخرين ومحبوبات أخريات يعكفون كل ليلة كأنهم في صلاة ساعات وساعات حول تلك الشاشة الفضية الخبيثة يتابعون سيرة أولئك المحبوبين ويا لها من سيرة قذرة سيرة الراقصين والراقصات والفاجرين والفاجرات والمتفرجنين والمتفرجنات، سيرة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، أهلك وأولادك مشغولون بذلك وأنت إن لم تكن معهم بل على رأسهم فأنت صامت مقر بذلك إذن فحب المصطفى في قلبك لا تأثير له على حياتك ولا على حياة أسرتك وأولادك.
فكيف يتوقع منك بعد ذلك وكيف ينتظر أن تجاهد وأن تحاول وأن تكافح في سبيل أن يكون لحب المصطفى أثر في مجتمعك ابدأ بنفسك أولاً ثم بمن تعول إن كنت صادقًا أيها المسلمون فلنتعلم كيف نحب الله ورسوله لنتعلم من الصحابة الكرام معنى حب النبي وحقيقة حب النبي فحب النبي في حياة الصحابة الكرام يعني ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الوعي التام الكامل بما جاء به محمد رسول الله والفهم الصحيح للأهداف التي بُعث بها بُعث من أجل أن يحققها في حياة الناس، فالواحد من الصحابة الكرام قبل أن يسلم وبعد أن يسلم كان يكفيه أن يسمع من رسول الله من فم رسول الله الشريفة آيات من القرآن الكريم أو عبارات موجزة من كلامه النبوي فيفهم المراد ويفهم معنى ذلك كله. ويبادر إلى التنفيذ بل حتى أعداؤه من مشركي قريش وغيرهم كانوا يعلمون ماذا يريد رسول الله وما هي أهداف دعوته وأهداف الدين الذي جاء به كان مشركو قريش وغيرهم يعلمون أنها ليست مجرد كلمة تُقال باللسان وإلا لقالوها ولكنها حياة كاملة ستتغير إثر تلك الكلمة.
الأمر الثاني: التنفيذ والتطبيق نحن المسلمون اليوم كثير منا يسمع كلام رسول الله وفيه الأمر والنهي حتى إذا خرج من المسجد أو من حلقة العلم نسي ما سمع كأنه لم يسمع شيئًا أنسته الحياة الدنيا، وأنساه الجري وراء فتنتها أنساه سنة رسول الله. لم يكن ذلك شأن الصحابة كانوا يسمعون ويبادرون إلى التنفيذ والتطبيق تواقين إلى ذلك. هؤلاء الأنصار لما بايعوا رسول الله بيعة العقبة كانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، بايعوا رسول الله بيعة العقبة كانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين بايعوا رسول الله على أن يمنعوه مما يمنعوا منه نسائهم وأبنائهم، أي أن يحموه ويحموا دعوته والدين الذي جاء به ويجاهدوا في سبيل ذلك، بعد أن أعطوه هذا العهد قام العباس بن عبادة وقال يا رسول الله والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا. فقال رسول الله : ((إني لم أؤمر بذلك)) [1]. الله أكبر منذ أول لحظة يلتقون فيها برسول الله يفهمون تمامًا ماذا يريد وماذا تريد دعوته وماذا يريد دينه ويبلغ إيمانهم هذا المبلغ العظيم حتى إنهم تواقين إلى المبادرة بالتنفيذ، فلو أمرهم رسول الله وهم ثلاثة وسبعون رجلاً أن يكتسحوا ما في منى من مشركي قريش لفعلوا.
روى مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك رضي الله عنه أن الرسول بايعهم في طائفة وأسر النبي إليهم كلمة خفية ألا تسألوا الناس شيئًا. انظر إلى أدب رسول الله الرفيع وهو يوصيهم بوصية خفية فيما بينه وبينهم حتى لا يحرجهم ألا تسألوا الناس شيئًا، أتدرون ماذا فعل أولئك النفر بعد ذلك لم يسألوا أحدًا أبدًا شيئًا حتى أن السوط ليسقط من يد أحدهم فلا يقول لأحد ناولني إياه من شدة امتثالهم لأمر النبي : ((ألا يسألوا الناس شيئًا)) [2].
الأمر الثالث: إذا تعارضت سنة المصطفى مع أهوائنا أو أهواء نسائنا وأبنائنا أو أهواء تجارتنا ومصالحنا الدنيوية فأي شيء نقدم؟ هذه هي القضية وهذا هو الاختبار الحاسم الذي يفترق الناس الذين ادعوا محبة النبي يفترق الناس عنده فريقين صادق في حبه لله ورسوله وآخر مسكين يعيش في الكذب والأحلام، وآخرون يعيشون فريسة لشياطين الجن والإنس الذين يزينون لهم البدع والضلالات ليشغلوهم بها عن الحب الحقيقي لسيدنا رسول الله. أما الصحابة الكرام فانظروا كيف كان حبهم لرسول الله وماذا فعل بهم حبهم لرسول الله. هذا زيد بن الدثنة وهو أحد أفراد سرية الرجيع التي بعثها رسول الله للدعوة والجهاد فوقع زيد في الأسر فلما خرج به مشركو مكة يقتلوه قال له أبو سفيان - قبل إسلامه – ((أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا مكانك الآن يضرب عنقه وأنك في أهلك فانتفض زيد وقال والله ما أحب أن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وأنا جالس في أهلي. فقال أبو سفيان ما رأيت في الناس أحدًا يحب أحدًا حب أصحاب محمد محمدًا)) [3]. هذا حب الصحابة لله ورسوله؟ فماذا فعلت الصحابيات وكيف كان حبهم لله ورسوله هذه امرأة من بني النجار من الأنصار خرج أبوها وأخوها وزوجها إلى غزوة أحد مجاهدين فقُتلوا جميعًا واستشهدوا فجاء أحد الصحابة يواسيها فقالت: ما فعل رسول الله ؟ لا تهتم بأبيها ولا بأخيها ولا زوجها وقد قتلوا، تسأل عن رسول الله هي قلقة على رسول الله يواسيها في أبيها وفي أخيها وفي زوجها فتقول ما فعل رسول الله؟ قال خيرًا وكما تحبين. فقالت أرني أنظر إليه، فلما رأت رسول الله تهلل وجهها وقالت كل مصيبة يا رسول الله، بعدك جلل. أي كل مصيبة هينة ما دمت سليمًا معافًا رضي الله عنها وأرضاها ورضى عن الصحابة الكرام. هذا هو الحب الصادق الذي يتفاعل معه القلب والروح وتتفاعل معه حياة الإنسان كلها، حتى تصير تبعًا لأمر المحبوب، وهذه هي حقيقة الإيمان الصادق كما قال رسول الله : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ومن ولده ووالده والناس أجمعين)) [4]. فتعلموا يا مسلمون كيف تحبون الرسول تعلموا من أصحاب رسول الله كيف تحبون رسول الله تعلموا منهم المعنى الحقيقي لحب الله ورسوله، أصدق وسيلة للتعبير عنه هو تعلم سنة المصطفى أن تتعلمها وتمتثل لها وتذعن وتطبقها في حياتك على نفسك وعلى أهلك وأولادك وعلى بيتك ثم تنشرها بين الناس هذا إذا كنت صادقًا في دعواك.
واحذر أيها المسلم يا محب محمدٍ احذر من البدع فوالله ليس هناك أكذب في دعواهم محبة رسول الله ليس هناك أكذب من أهل البدع لأن البدعة ضد السنة ومن ضاد السنة وحاربها فقد ضاد سيدنا رسول الله وحاربه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيل الله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [التوبة:24].
[1] أخرجه ابن اسحاق في السيرة (2/439و440) وأخرجه أحمد في مسنده (3/460-462).
[2] أخرجه مسلم في صحيحه (2/721) رقم (1043).
[3] أخرجه ابن اسحاق في السيرة (2/169-172).
[4] صحيح البخاري (15) صحيح مسلم (44) عن أنس رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/667)
التشاؤم بشهر صفر
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الطيرة والتشاؤم.
2- كيف يتعامل المسلم مع ما يجده في نفسه من التشاؤم.
3- التشاؤم بشهر صفر عادة جاهلية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فاتقوا الله يا عباد الله واعلموا أن رسولكم قد نهاكم عن الطيرة فقال : (( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا غول )) (2) ، ومعنى (لا عدوى) أنه لا يسري داء ولا مرض من صاحبه إلى غيره إلا بإذن الله ، (ولا طيرة) أي: لا تشاؤم ، (ولا هامة) وهي في الأصل: الرأس وهي اسم طائر لأنهم كانوا في الجاهلية يتشاءمون بالطيور كالبومة والغراب، فتصدهم عن مقاصدهم. (ولا صفر) أي: شهر صفر كغيره من الشهور، فليس مختصا بوقوع الشر فيه كزعم الجاهلين. (ولا غول) الغول : جنس ونوع من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة أي الخلاء والصحراء تتراءى للناس فتغول تغولاً أي تتلون تلوناً في صور شتى وتضلهم عن الطريق فتهلكهم فنفاه النبي وأبطله..
وقال : (( الطيرة شرك الطيرة شرك )) (3) قال ابن مسعود: "وما منا إلا ، ولكن يذهبه الله بالتوكل " وقال : (( إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك )) (1) ، ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو: (( من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك ، فقالوا : يا رسول الله فما كفارة ذلك ؟ قال : أن يقول أحدهم : اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك )) (2).
وقال : (( أحسنها الفأل ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك )) (3).
وقد اعتاد بعض الجهلاء أن يتشاءموا من شهر صفر فلا يزوجون ولا يتزوجون فيه ولا يسافرون ولا يتاجرون فيه، ويخافون فيه أشد الخوف لاعتقادهم أن شهر صفر يجلب الشرور ويذهب السرور، وهو شهر لعمرو الله كسائر الشهور وأيام السنة.
وقد اعتاد بعض الجهلاء أن يكتبوا آيات السلام كـ: سلام على نوح في العالمين [سورة الصافات:79]...الخ، في آخر أربعاء من شهر صفر ثم يضعونها فى الأواني ويشربونها ، ويتركونها ، ويتهادونها لاعتقادهم أن هذا يذهب الشرور، وهذا اعتقاد فاسد وتشاؤم مذموم وابتداع قبيح يجب أن ينكره كل من يراه على فاعله.
وبعض الناس يروون عن رسول الله كذباً حديثاً موضوعاً مكذوباً فيقولون: (( آخر أربعاء من شهر صفر يوم نحس مستمر )) (5) وهذا كذب واختلاق.
وآخرون يقولون كذباً عليه : (( من بشر بخروج صفر بشرته بدخول الجنة )) (1). وهذا أيضا كذب وافتراء عليه إلى غير ذلك من الأحاديث المكذوبة عليه.
وبعضهم يدعي زوراً أنه ينزل في آخر أربعاء من صفر داء من السماء فيكفؤون قدورهم ويغطون أوانيهم خوفا من أن ينزل ذلك الداء المزعوم فيها.
عباد الله: لقد أنقذنا الله من جهالة الشرك وعماية الجاهلية بحسن الاعتقاد ووضوح الرسالة وحسن الاقتداء بسيد العباد.
ولم يكن ما تقدم من الابتداع والتطير من شأنه ولا من خلقه والله يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة... الآية (2) [الأحزاب:21].
(2) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الآداب باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولاصفر 14/216.
(3) أخرجه أبو داود في سننه : كتاب الطب باب في الطيرة 4/17.
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 213.
(2) المسند 2/220.
(3) أخرجه أبو داود في سننه : كتاب الطب باب في الطيرة 4/19.
(5) أورده السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 2/458.
(1) قال العجلوني : لا أصل له اهـ. كشف الخفاء 2/309.
(2) سورة الأحزاب آية ( 21 ).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/668)
الابتداع في الدين مناقض لتوحيد الألوهية
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لله الخلق والأمر وحده 2- وجوب امتثال العباد لأمر الله تعالى وشرعه 3- التحاكم إلى
غير شريعة الله شرك ومنازعة للخالق في خصائصه 4- البدعة استدراك على الله في شرعه
5- تحذير النبي من الابتداع 6- بدعة خلق القرآن وتصدِّي أهل السنة لها 7- مناظرة مع
معتزلي
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فكما إن الابتداع في الدين فيه إخلال بالركن الثاني من كلمة التوحيد وهو شهادة أن محمدًا رسول الله وقد بينا لكم ذلك فيما سبق فإن فيه أيضا إخلال بالركن الأول من كلمة التوحيد وهو شهادة ألا إله إلا الله لأن معنى هذه الشهادة الإيمان بأن الله تعالى وحده هو المعبود بحق لا شريك له في ألوهيته كما أنه لا شريك له في ربوبيته. فكما أن الخالق الرب سبحانه فهو المستحق دون غيره للعبادة فله الخلق والأمر وهذا يقتضي أن الحكم له فهو الذي يأمر وينهي وهو الذي يشرع لعباده سبحانه وتعالى والرسول إنما هو مبلغ عن ربه وأما العباد فليس لهم إلا الطاعة والامتثال والانقياد والإذعان لأمر الله ونهيه وحكمه وتشريعه أما من نازع الله من هؤلاء العباد نازعه في شيء من ذلك فقد نصب نفسه ندًا لخالقه وهذا من أشد الجهل والظلم من نازع الله في شيء من ذلك في الحكم والتشريع في الأمر والنهي فقد نصب نفسه ندًا لخالقه وهذا من أعظم الجهل وأعظم الظلم فكما أنه ليس لمخلوق أن ينازع الخالق في الخلق فكذلك ليس لأحد أن ينازع ربه في مشيئته الدينية الشرعية التي هي الأمر، والأمر هو الحكم والتشريع ليس لأحد أن ينازع الرب سبحانه في الحكم والتشريع: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [الأعراف:54].
إن الله تعالى لم يترك لأحد مجالاً فطر السماوات والأرض وخلق الخلق بقدرته ورباهم بنعمه وهو أعلم بخلقه لطيف بعباده وهو أرحم بهم من أنفسهم شرع لهم من الدين ما تصلح به أحوالهم ويتقربون به إلى خالقهم ليس هناك مخلوق نازع ربه في الخلق لأن ذلك ليس في مقدور أحد أما المنازعة في الأمر المنازعة في الحكم والتشريع فحاصلة، كثير من الخلق اجترأ على مقام الخالق العظيم سبحانه فمارس الحكم والتشريع بغير إذن من ربه وهذا من أعظم الجهل والظلم لم يعرفوا قدر أنفسهم وقد توعدهم الله سبحانه بقوله: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم [الشورى:21] ما أظلم هذا الإنسان الذي ينازع خالقه في الأمر ينازع خالقه في الحكم والتشريع وما أجهله، ما دمت أيها الإنسان مربوبًا مخلوقًا مقهورًا لا نصيب لك في الخلق فكيف يكون لك نصيب في الأمر كيف يكون لك نصيب في الحكم والتشريع لا نصيب لك في شيء من ذلك فقد اختص الله سبحانه نفسه بكل ذلك فكيف تنازع الخالق العظيم فيما اختص به نفسه من ينازع الخالق العظيم فيما اختص به نفسه سبحانه وتعالى ؟
أيها المسلمون: اعلموا أن من ابتدع في الدين فقد شرع ما لم يأذن به الله كل من ابتدع في الدين فقد شرع ما لم يأذن به الله واجترأ على مقام الألوهية. الألوهية التي انفرد بها الرب سبحانه وتعالى، ولذلك فإن النبي حذر أمته أشد التحذير من الابتداع في الدين حفاظًا منه على إيمان الأمة ونقاء العقيدة ورأفة منه بأمته وخوفًا عليها من أن تقع فيما وقع فيه من قبلها من الزيادة والابتداع في الدين والتشريع فيه بما لم يأذن به الله، حذر النبي بل كان أكثر ما يحذر من الابتداع في الدين، وكان من كلامه دائمًا قوله : ((إن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) [1] هذا كان من كلامه في كثير من الأحيان وفي رواية أنه قال : ((غير أنكم ستحدثون ويحدث لكم فكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار)) [2]. وأخبر أمته بوقوع الفتن من بعده وتتابع الأهواء والبدع وأوصى أمته بتلك الوصية العظيمة النفيسة بقوله : ((فإن من يعش منكم بعدي فسوف يرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)). وقال : ((وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار)) [3].
وقد بين معنى البدعة ووضحه أوفى توضيح وبيان حتى لا يلتبس أمر البدعة ولا يخفى على أحد بعد ذلك، فكل أمر ديني لم يكن على عهد رسول الله وعهد أصحابه دينًا فهو بدعة وضلالة قال : ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)) [4]. وقال : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ومعنى ذلك من زاد في ديننا هذا ما ليس منه فهو مردود عليه وزيادته بدعة ضلالة، ضلالة في النار، وكل اعتقاد وكل قول وكل عمل لم يكن على عهد رسول الله وعهد أصحابه لم يكن دينًا في عهدهم فهو بدعة ضلالة وصاحبه ومرتكبه مبتدع ضال لما أحدث طواغيت المعتزلة بدعة القول بأن القرآن مخلوق وتبنى ذلك بعض الخلفاء العباسيين فأصبحت فتنة عامة طامة ابتليت بها الأمة وقتذاك أيد الله سبحانه وتعالى من علماء الأمة وأئمة السنة من تصدوا لتلك البدعة العظيمة المنكرة ودفنوها بالصدع بالسنة وإظهار السنة وكان منهم أئمة كبار كالإمام أحمد رحمه الله وغيره تحملوا الأذى ووقفوا وقفة ربانية في وجه تلك البدعة المنكرة فدفنها الله عز وجل بهم وكان ممن قيضه الله تعالى وممن سخره الله تعالى لمحاربة تلك البدعة ولإظهار السنة شيخ من أهل العلم جئ به مقيدًا إلى الخليفة العباسي الواثق وفي مجلسه أحمد بن أبي داود رأس المعتزلة رأس هذه البدعة المنكرة فأمر الخليفة الشيخ بأن يناظر أحمد بن أبي داود فناظره الشيخ مناظر عجيبة بديعة موفقة كانت سببًا لهداية ذلك الخليفة العباسي ولقمع تلك البدعة المنكرة وكان مما قاله ذلك الشيخ لأحمد بن أبي داود المبتدع المعتزلي أخبرني عن رسول الله حين بعثه الله إلى عباده هل أخفى رسول الله شيئًا مما أمره الله به في دينه. قال المبتدع: لا. فقال الشيخ: فهل دعا رسول الله الناس إلى مقالتك هذه. فسكت المبتدع. فالتفت الشيخ إلى الخليفة وقال: هذه واحدة يا أمير المؤمنين. قال الخليفة: هذه واحدة. قال الشيخ للمبتدع: فأخبرني عن مقالتك هذه أعلمهما رسول الله أم جهلها؟ فقال المبتدع: علمها رسول الله. فقال: فهل دعا الناس إليها. فسكت المبتدع. فالتفت الشيخ إلى الخليفة فقال: وهذه الثانية يا أمير المؤمنين. قال الخليفة: وهذه الثانية. فعاد الشيخ إلى المبتدع وقال: فاتسع لرسول الله إذ علمها كما زعمت ألا يطالب الأمة بها وألا يدعو أمته إليها. فقال المبتدع: نعم. قال: فاتسع لأبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. قال المبتدع: نعم. فالتفت الشيخ إلى الخليفة وقال: وهذه الثالثة يا أمير المؤمنين. قال الخليفة: وهذه الثالثة. ثم عاد الشيخ إلى المبتدع وقال له: فإن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله ولأبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي فلا وسع الله عليك. فقال الخليفة ضاحكًا: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله وأبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي فلا وسع الله علينا. وظل الخليفة يردد هذه العبارة ويتأملها حتى هداه الله عز وجل وتاب عن تلك البدعة المنكرة ورجع إلى السنة ونصر السنة وأكرم علماء السنة وأئمة السنة فالحمد لله رب العالمين ونحن نقول اليوم لجميع المبتدعين ولرءوس المبتدعين وطواغيت المبتدعين الذين انصرفوا عن سنة محمد أعرضوا عن سنة نبينا محمد وغرقوا في البدع إلى الأذقان نقول لهم: من لم يكفه ما كان عليه رسول الله وأبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي فلا كفاه الله فاتقوا الله أيها الناس إياكم والبدعة وعليكم بالسنة عليكم بسنة سيدنا محمد تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
[1] أخرجه مسلم في صحيحه (867) (2/295).
[2] أخرجه اللالكائي (1/77).
[3] أخرجه أحمد (4/126-127). وابو داود (4607) والترمذي (2676).
[4] أخرجه مسلم في صحيحه (3/1343-1344).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/669)
التكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الكبائر والمعاصي
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
11/10/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1-الكبر معصية إبليس وهي أول معصية عصي بها الله. 2- واقع الناس للكبر المال – العلم –
النسب – المنصب. 3- صفة الكبرياء لا تليق إلا بالله عز وجل. 4- الكتكبرون في النار يوم
القيامة. 5- معرفة الإنسان حقيقته تبعده عن الكبر. 6- من مظاهر الكبر الاسيال - رفض
النصيحة – الزهو – احتقار الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوا وتخلقوا بأخلاق الإسلام دين الحق، وتأدبوا بآدابه تفلحوا.
واعلموا – رحمكم الله – أن الكبر ممقوت، وهو من شر الصفات، ومن أخطر الأمراض الاجتماعية ، المتصف بالكبرياء منازع لله وعدو للإنسانية؛ وهو مقتد بإبليس – قاتله الله – الذي أخرج أبانا وأمنا من الجنة ، فالتكبر أول معصية عصي بها الله عز وجل.
تكبر إبليس عن امتثال أمر الله ولم يسجد لآدم وقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، فأبعده الله وطرده من رحمته، فمن تكبر على الناس هان عليهم ، وسقط من أعينهم ، وذل بينهم، ومن تكبر بعلمه ركة علمه، ومن تكبر بماله فقد تشبه بقارون الذي خسف الله به وبداره الأرض، وجعل بينه وبين مجتمعه حاجزا نفسيا كبيرا ، ومن تكبر بمنصبه دل على خفة عقله فالله يقول: وتلك الأيام نداولها بين الناس [سورة آل عمران:140].ومن تكبر بنسبه وحسبه يرد القرآن عليه في قوله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
إن صفة الكبرياء هي صفة مذمومة للبشر، ولكنها صفة تعظيم لله نثبتها له سبحانه وتعالى إثباتا يليق بجلاله، فمن أسمائه الجبار والمتكبر.
وهو الذي يقول في الحديث الذي يرويه مسلم ، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري قالا : قال رسول الله : (( العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته )) (1).
ولأحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : (( الكبر ردائي والعزة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار )) (2).
أما أبو هريرة رضي الله عنه فيقول فيما يرويه الإمام مسلم عن النبي : (( احتجت النار والجنة فقالت هذه: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت هذه: يدخلني الضعفاء والمساكين، فقال الله عز وجل لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء. وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها )) (3) إن التكبر من صفات أهل النار فالنبي يقول: ((ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل جواظ مستكبر )) (4) متفق عليه.
فالعتل : هو الغليظ الجافي ، والجواظ : هو الضخم المختال في مشيته.
إن الإنسان يا عباد الله لو أدرك حقيقة أمره ما تكبر وما ترفع ، إن أصله من ماء مهين، وقلبه استخلص من تراب وطين يخرج من موضع البول مرتين: مرة من أبيه، وأخرى من أمه، ويحمل بين جنبيه الأوساخ والعذرة، ثم إذا مات أصبح جيفة نتنة، فعلام يتكبر من كان هذا أمره؟ وعلام يتكبر من لا يملك شيئا من حوله ملكا حقيقيا بل لا يملك نفسه التي بين جنبيه؟
إن ملكنا للأشياء إنما هو ملك مجازي، والمالك الحقيقي لكل شيء هو الله جل وعلا.
إن من درجات الكبرياء يا عباد الله أن يترفع الرجل عن امتثال أمر من هو أفضل منه والنزول على نصحه وعاقبة ذلك وخيمة، فلقد أكل رجل عند رسول الله بشماله فقال النبي : (( كل بيمينك، قال: لا أستطيع، فقال النبي: لا استطعت. (ما منعه إلا الكبر) قال: فما رفعها إلى فيه )) (1) ( أي إلى فمه ). نعم لقد شلت يمينه نتيجة استكباره واستعلائه على خير البرية.
ومن مظاهر التكبر إسبال الإزار وجره ، وتطويل الثوب إلى ما تحت الكعبين فالحبيب يقول: (( لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً)) (2) متفق عليه.
وقد يمشي الرجل في ثياب جميلة مرجلا شعره ، مختالا في مشيته غير عالم أن إعجابه هذا بنفسه من علامات التكبر فأبو هريرة يروي أن النبي قال: (( بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد ٍأعجبته نفسه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة )) (3). ويتجلجل: ينزل.
ويقول : ((لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم )) (4) رواه الترمذي.
فانظروا – رحمني الله وإياكم – إلى عاقبة الغرور والتكبر وإلى خطورة مخالفة أمر الله الذي يقول فيه: ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً [الإسراء:37].
وقد يظن البعض لأول وهلة أن ما أسلفنا من أحاديث فيه تحريم التزين والتمتع بطيب اللباس، وليس الأمر كذلك، فعن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: (( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، قال: إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس )) (1) رواه مسلم.
ومعنى بطر الحق : رده على قائله وعدم الاعتراف به. وغمط الناس : احتقارهم، فكل يا عبد الله واشرب، ولكن دون سرف ولا مخيلة.
اللهم جنبنا سبل الجبارين وأبعدنا عن التكبر، ونسألك ألا نزهو إلا بالحق على أهل الباطل، ونسألك ألا تجعل لمتكبر مختال علينا سبيلا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
(1) صحيح مسلم : كتاب البر والصلة باب تحريم الكبر 16 / 173.
(2) مسند أحمد : 2/ 248.
(3) صحيح مسلم : ك الجنة ، ب جهنم 17 / 180.
(4) صحيح البخاري : كتاب التفسير ، باب قوله تعالى : ( عتل بعد ذلك زنيم ) 6/ 72. وصحيح مسلم : كتاب الجنة باب جهنم 17 م 187.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الأشربة ، باب آداب الطعام والشراب 13 / 192
(2) صحيح البخاري : كتاب اللباس باب من جر إزاره من غير خيلاء 7/ 34.
(3) صحيح مسلم : كتاب اللباس والزينة باب تحريم التبختر في المشي 14 / 64
(4) سنن الترمذي : كتاب البر والصلة باب ما جاء في الكبر 4/ 361.
(1) صحيح مسلم : كتاب الإيمان باب تحريم الكبر 2/ 89.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، يرفع المتواضعين ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحب المخبتين ، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله القائل للأعرابي الخائف تواضعا: (( هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد )) ، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا. أما بعد :
فإن رسول الله يقول: (( وإن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد )) (1) رواه مسلم.
وإني في خطبتي هذه سأستعرض نماذج تحصل من بعض الناس فيها ما فيها من الغرور والتكبر:
فرب الأسرة الذي لا يخالط أهله ، ويأكل ويشرب ويجلس وحده ولا يعين أحدا من أهله تكبرا مخالف لهدي الحبيب.
فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما تسأل: ما كان النبي يصنع فى بيته ؟ قالت: (( كان خرج إلى الصلاة )) (2) رواه البخاري.
وقد نرى ربة البيت عندما تخرج لمناسبة أو لزيارة ما ترافقها اثنتان أو ثلاث من الخادمات كبرا، فواحدة تفتح لها الباب، وأخرى تحمل لها حقيبتها اليدوية وتحفظ لها عباءتها – إن كان لها عباءة –، وثالثة تلاعب أطفالها الذين بصحبتها.
أو قد ترى عند أبواب بعض المدارس السائق الذي يسير ذليلا وراء الطفل أو الطفلة يحمل له أو لها الحقيبة الدراسية، وترى ذلك الطفل أو الطفلة يأمر وينهى، وهو بعد لا يجيد نطق الحروف تماما، إن من لا يربي أولاده على الاعتماد على النفس ويدعهم على هذا الحال يربي في نفسيتهم الكبرياء والدلال والغرور.
إن من يدع ابنه أو ابنته تطلب كل شيء من الخادم أو الخادمة حتى أن طفل لا يشرب بنفسه يربي ولده على الخمول والتكاسل والكبرياء فهو يخدم ولا يخدم ولو حتى نفسه.
وقد يمر بك في الشارع من لا يلقي عليك سلاما ، أو من تلقي عليه السلام فلا يرد عليك أو ترى من تعرفه وتقبل عليه، فيعرض عنك أو لا يبش في وجهك تكبراً أو غرورا.
ولا ننس منظر ذلك المختال بسيارته التي ربما حرم أهله ونفسه من أشياء كثيرة لشرائها غالية ثمنها جداً ليقال: يركب السيارة الفلانية ، ثم ليقلب نظره فيمن حوله مزدريا بهم جميعا.
وقد تدخل إلى مكتب موظف ما تراجع معاملتك، فلا يهتم بك ولا يسألك ماذا تريد ولا يجيبك، بل وقد لا يدعوك إلى الجلوس وإن كنت شيخا كبيراً.
ولربما تظاهر بأنه يتكلم بالهاتف متشدقا بضحكات عالية مستهترا بمصالح الناس؛ مسكين من هذا فعله أغضب ربه بكبريائه وخان أمانة أنيطت بعنقه، وجعل لنفسه أعداء يترصدون له قضاء حاجاته ، ولا سيما بعد خروجه من وظيفته، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذا النبي المختار خير من مشى على الأرض يقول: (( ما بعث الله نبيا إلا ورعى الغنم. فقال أصحابه : وأنت ؟ فقال: نعم.كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة )) (1) رواه البخاري.
فما أعظم تواضعك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، وإننا ممتثلون أمر الله الذي يقول فيه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
(1) صحيح مسلم : كتاب الجنة 17 / 200.
(2) صحيح البخاري : كتاب الأذان باب من كان في حاجة أهله فأقميت الصلاة فخرج 1/ 164.
(1) صحيح البخاري : كتاب الإجارة ، باب رعي الغنم على قراريط 3/ 48
(1/670)
التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
15/7/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الندب إلى التوبة النصوح. 2- شروط التوبة. 3- استغفار رسول الله وتوبته. 4- فرح الله
بتوبة عبده. 5- متى لا تقبل التوبة. 6- المسوفون في التوبة. 7- الأنبياء يدعون أقوامهم إلى التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فإن الله ندب المؤمنين إلى التوبة وحثهم قائلا : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون [النور:31]. وقال سبحانه : استغفروا ربكم ثم توبوا إليه [هود:52]. وهو سبحانه يحب من تاب وتطهر: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [البقرة:222].
وهو جل جلاله إذ ينادي عباده المؤمنين يحثهم على التوبة النصوح: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً [التحريم:8]. والتوبة النصوح هي المستغرقة الشاملة لجميع المعاصي والذنوب المخلصة لله من شوائب الرياء والشرك الجامعة لشروط التوبة.
والتوبة عباد الله كما قال العلماء واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها شروط ثلاثة:
الأول: الإقلاع عن المعصية.
والثانى: الندم على فعلها.
والثالث: العزيمة على ألا يعود إليها أبداً.
أما إذا كانت متعلقة بحق آدمي فيضاف إلى ما تقدم من الشروط شرط رابع وهو البراءة من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو حقاً رده إليه، وإن كانت حداً مقترفا مكنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها واستغفر له حتى يرى أنه أدى حقه، وإذا تاب العبد من بعض الذنوب قبلت توبته فيما تاب منه وبقي عليه وزر وإثم ما لم يتب منه.
لقد كان رسول الله وهو من هو مكانة ومنزلة عند ربه وطاعة وتقربا إلى مولاه سبحانه كان يتوب في اليوم ويستغفر الله أكثر من سبعين مرة إذ يروي البخاري بسنده أن النبي يقول: ((والله إني لأستغفر وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة )) (1).
فما بالنا اليوم ونحن في زمن الفتن لا نتوب ولا تخبت قلوبنا لخالقها وتهتدي.
إن من فضل الله وكرمه فرحته بتوبة عبده كثيراً، قال النبي : (( لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح )) (2).
وعن أبى موسى الأشعري عن النبي : ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) (3).
وللتوبة- معشر المسلمين – أمد محدود وزمن معين لا تقبل بعده فإذا طلعت الشمس من مغربها كما تقدم لم تقبل التوبة، وإذا وصلت الروح إلى الحلقوم لم تقبل كذلك قال تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدكم الموت قال إني تبت الآن [النساء:18]. ولقوله فيما يرويه الترمذي: ((إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )) (2).
ومن الناس من يسوف في التوبة ويؤخرها ويقول: إذا كبرت وشخت تبت، فيا من هذا فعله هل ضمنت عمرك وعرفت متى يأتيك أجلك؟
كم من الأصحاب كانوا بالأمس فماتوا وزالوا وأفضوا إلى ما قدموا؟ وكم سمعنا أخبار من خرج من بيته ماشيا وعاد إليه محمولاً أو كان واقفا فسقط ميتا؟
ثم على فرض أنك عشت وبلغت من العمر عتيا، أليس من سوء الأدب أن تعطي قوتك وشبابك لإبليس وجنوده وتبقي هرمك وضعفك لمن غذاك برزقه وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة؟
ثم ما عساك تستطيع أن تفعل من الطاعات إذا اشتعل رأسك شيبا وخارت قواك ووهن عظمك وأتى الموت يطلبك؟
(1) البخاري ، كتاب الدعوات ، باب استغفار النبي ، 7/14.
(2) مسلم : كتاب التوبة 17/64،63.
(3) مسند أحمد 4/395.
(2) سنن الترمذي : كتاب الدعوات ، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله بعباده 5/547.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله تسليما كثيراً وبعد.
فإنه ما حل بلاء ولا نزل قحط ولا جدب، وما طرأ ضيق في رزق ولا سقم في جسم إلا والمعاصي والذنوب سبب فيه، وما رفع ذلك إلا بتوبة ورجوع إلى الله، وذلك أن المذنب إنما يعصي الله الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، فإذا أغضب العبد ربه ضيق عليه، وإذا تاب رفع عنه وما يعفو عنه الله أكثر وأعظم.
إن للاستغفار فوائد عظيمة أتت في سورة نوح، وهذا هود عليه السلام ينادي قومه قائلاً:
ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين [هود:52].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب )) (2) رواه أبو داود.
(2) سنن أبي داود : كتاب الصلاة باب في الاستغفار 2/85.
(1/671)
الصيام والقرآن
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رمضان شهر تنزّلِ القرآن إلى بيت العزة 2- القرآن كلام الله نزل به جبريل الأمين
3- معنى ( سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ) 4- شدة الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم
5- مُدارسة جبريل والنبي القرآن في رمضان 6- التغني بالقرآن 7- هدي السلف في ختم
القرآن 8- مقاصد سورة الفاتحة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فرمضان هو شهر القرآن أنزل الله فيه القرآن الكريم في ليلة القدر منه، أنزله سبحانه جملة واحدة مكتوبًا إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك على رسول الله منجماً أي مفرقًا حسب الحوادث والوقائع كما ثبت ذلك عن عبد الله بن عباس [1] رضي الله عنهما، وإنزال القرآن الكريم جملة واحدة مكتوبًا إلى بيت العزة في السماء الدنيا لا ينافي أن الرب سبحانه تكلم به كما أنه مكتوب في اللوح المحفوظ وذلك لا ينافي أنه سبحانه تكلم به، وكما أنه سبحانه كلم موسى وكلم سيدنا محمدًا وكل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ لا ينافي هذا ذاك فقد تكلم الرب سبحانه بهذا القرآن العظيم، جاء ذلك في الصحيح [2] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان)). وفي الحديث الآخر: ((إذا أراد الله أن يقضي بالأمر تكلم بالوحي فأخذت السماوات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفًا من الله تعالى فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدًا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام فيكلمه الله من وحيه ما أراد ثم يمر جبريل على الملائكة، فما يمر على سماء إلا سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ قال: الحق وهو العلي الكبير. حتى ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمر الله عز وجل)) [3].
فهذا القرآن الكريم كلام ربنا سبحانه تكلم به وسمعه جبريل ثم نزل به الروح الأمين على قلب خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وقد وصف الله تعالى كتابه بأسماء وأوصاف فوصفه بأنه عظيم وكريم ومتين وقرآن وكتاب وفرقان وذكر وغير ذلك من الأسماء والأوصاف، ووصفه في بدء الوحي بأنه قول ثقيل فقال في سورة المزمل: إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً [المزمل:5]. قال الحسن [4] وقتادة [5] : أي العمل به ثقيل، وقد كان إذا أوحي إليه القرآن يشتد عليه ويثقل عليه، ويصيبه من الوحي كرب شديد وعناء شديد ويتغير وجهه وتصيبه الرحضاء، روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل رسول الله : كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ فقال : ((أحيانًا يأتي مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول)).
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((لقد رأيت رسول الله يأتيه الوحي ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا وكان رسول الله إذا أوحي إليه وهو على راحلته على ناقته أطت على الأرض وبركت فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه )) [6].
كل هذا لعظم شأن هذا القول الكريم الذي يتنزل على سيد الخلق فهذا قول كريم وقرآن عظيم وقرآن متين أليس هو كلام ربنا سبحانه وتعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله [الحشر:21]. كان رسول الله كل عام في شهر رمضان يأتيه جبريل فيدارسه القرآن فيعرض النبي على جبريل [7] ما أنزل عليه من القرآن الكريم وكان أجود من الريح المرسلة، جواد كريم وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان إذا قرأ هذا القرآن رتله وفسره حرفًا حرفًا، وتغنى به وترنم به فما سمع أجمل ولا أحسن من صوت رسول الله إذا قرأ القرآن حتى إن ربه سبحانه ليستمع له إذا قرأ القرآن كما أخبر بذلك في الحديث الصحيح قال : ((ما أذن الله لشيء - أي ما استمع الله لشيء - ما أذن لنبي يقرأ القرآن يتغنى به)) [8] يعني به نفسه.
وكان من عادته وسنته أنه يختم القرآن كل سبع ليال مرة واحدة ونهى عبد الله بن عمرو بن العاص أن يختمه في أقل من سبع [9] وجعل أطول مدة لختم القرآن الكريم شهرًا ولكن المفروض من المسلم أن يقرأ كل يوم ما يتيسر له من القرآن إن استطاع أن يقرأ كما كان يقرأ النبي فهو الأفضل وإلا فكما علم النبي عبد الله بن عمرو بن العاص بختمه كل شهر مرة، فإن لم يستطع فالمفروض منه أن يقرأ كل يوم ما تيسر منه كما أمر الرب سبحانه فقال: فاقرأوا ما تيسر من القرآن [المزمل:20]. و((من قرأ في ليلة الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه)) ففيهما الكفاية له كما أخبر بذلك الصادق المصدوق [10].
أيها المسلمون: هذا القرآن الكريم كلام ربنا عز وجل، هو بين ظهرانينا اليوم غض كما أنزل على سيدنا محمد ، هذا القرآن هو المعجزة الكبرى لمحمد فقد أوتي النبي من المعجزات الكونية كانشقاق القمر وتكليم الشجر والحجر له ولكن تلك المعجزات مضت في وقتها وساعتها لم يبق لنا منها إلا الخبر الصادق الذي نصدقه ونؤمن به، أما المعجزة الكبرى لسيدنا محمد وهو هذا القرآن العظيم فهو باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هو بيننا اليوم نراه ونسمعه ونقرأه فمن أقبل على هذه المعجزة بحضور قلب وفهم تكشفت له أسرارها وانهمرت عليه بركاتها، ولكن المصيبة كل المصيبة إذا اتخذنا هذا القرآن مهجورًا.
أيها المسلمون اعلموا أن هذا القرآن الكريم يدور كله بجميع موضوعاته وآياته الكريمة حول ثلاثة معانٍ وثلاثة مقاصد؛ أولها أسماء الله وصفاته، وثانيها الوعد، وثالثها الوعيد.
فبأسماء الله وصفاته عرف الله سبحانه نفسه لعباده ليعرفوه فيعبدوه فمن عبده وقام بواجب العبودية له وصرف العبادة نحوه وحده سبحانه فالوعد له كما أخبر في القرآن الكريم، وأما من استكبر عن عبادته وكفر بالله العظيم فالوعيد الشديد له كما جاء في القرآن الكريم، وقد جمع الله هذه المقاصد كلها في أول سورة من كتابه الكريم في سورة الفاتحة، ففيها من أسماء الله وصفاته: الله والرحمن والرحيم، وهذه أعظم صفات الرب سبحانه، إليها مرجع الأسماء الحسنى والصفات العلى وعليها مدارها، ثم ذكر الرب سبحانه في سورة الفاتحة أنك أيها العبد إذا عرفت ربك وجب عليه أن تعبده وتستعين به وحده لا شريك له: إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة:4]. ثم ذكر الوعد في سورة الفاتحة فمن عبد الله سبحانه وسلك طريقه المستقيم فهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وعلمنا الرب أن نطلب منه الهداية إلى ذلك الطريق المستقيم ثم ذكر الوعيد بالتحذير من طريق المغضوب عليهم والضالين، فجمع الله مقاصد القرآن كلها في سورة الفاتحة ولذلك كانت هذه السورة عنوانًا وفاتحة لهذا القرآن العظيم.
ثم جمع الله هذه المقاصد والمعاني في أول آية من كتابه في صدر سورة الفاتحة في: بسم الله الرحمن الرحيم. فمن حقق معنى هذه الآية في حياته فصار كل شأن من شئونه وكل حركة من حركاته بسم الله ولله فقد حقق معنى العبودية وقام بواجب العبادة، وهذا هو ما جاءت كل مقاصد القرآن من أجل تحقيقه، جمعه الله ولخصه في آية واحدة في بسم الله الرحمن الرحيم. ثم أودع الله سر ذلك كله في اسمه الأعظم وهو "الله" أودع الله سر كل تلك المقاصد والمعاني في اسمه الأعظم "الله" فالله معناه المألوه أي المعبود تقول العرب: تألهت له إذا عبدته.
ومعنى هذا الاسم الأعظم أن الله سبحانه هو الخالق الرازق المالك فهو المعبود بحق دون سواه وهذا هو عين معنى لا إله إلا الله، لخص وأودع سره في اسمه الأعظم "الله" فإذا عرفت أن الله هو المعبود بحق دون سواه أي الذي يجب أن تعبده دون غيره إذا عرفت ذلك فعبدته سبحانه وحققت معنى العبودية في نفسك أيها العبد فقد حققت كل ما شرحه لك القرآن الكريم.
فتدبروا القرآن أيها المسلمون ولا (تجزم) الأقفال في قلوبكم لا (تجزم) الأقفال من هموم الدنيا ومشاغلها لا (تجزم) الأقفال من الشهوات والمعاصي على القلوب فلا تعي حينئذ كلام ربها ولا تفهم هذا القرآن العظيم: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [محمد:24].
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا وجلاء همومنا وأحزاننا اللهم علمنا منه ما جهلنا وذكرنا منه ما نسينا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه النسائي في تفسيره (2/131) والطبراني (2/85) والحاكم في مستدركه (2/241و342).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه (991) (4/1736).
[3] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/227) وابن خزيمة في التوحيد (1/348، 349) والطبري في تفسيره (22/91)وغيرهم.
[4] أخرجه الطبري في تفسيره (29/127) وسنده صحيح.
[5] أخرجه الطبري في تفسيره (29/127) وسنده صحيح.
[6] أخرجه البخاري في صيحيحه (1/4).
[7] أخرجه البخاري في صحيحه (1/6-7).
[8] أخرجه البخاري في صحيحه (69) (4/1918).
[9] أخرجه البخاري في صحيحه (4/1926).
[10] أخرجه البخاري في صحيحه (69).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102]. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين عليّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن سائر الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/672)
الجمعة وآدابها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
25/5/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختصاص المسلمين بيوم الجمعة.
2- آداب الجمعة وسننها.
3- الموت في يوم الجمعة.
4- ساعة الإجابة.
5- فوت صلاة الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن المسلمين يجتمعون في يوم الجمعة من كل أسبوع لأداء صلاة الجمعة امتثالا لأمر ربهم سبحانه إذ يقول: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله [الجمعة:9] الآية.
فصلاة الجمعة فرض على كل مسلم، ذكر، بالغ، عاقل، مستوطن ببناء ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ (3)
وهذا اليوم شأنه عظيم، إذ فيه كملت جميع الخلائق ، وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح.
وهو مدخل جليل فضلت به أمة سيدنا محمد على سائر الأمم أخرج البخاري ومسلم عن النبي : (( أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضي بينهم قبل الخلائق )) (4)
فيوم الجمعة أفضل الأيام، وهو أول يوم من أيام الأٍسبوع لا آخر يوم كما يظن البعض، وهو يوم عيد المسلمين.
أخرج ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : (( إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل، وإن كان عنده طيب فليمس منه، وعليكم بالسواك )) (1).
وللجمعة آداب عدة منها :
أن يستعد لها من يوم الخميس وليلة الجمعة بالتنظيف وغسل ثيابه التي يلبسها فيها ، ويغتسل يوم الجمعة ويتزين لها ، ويقص أظافره وشاربه ، ويتعهد إبطيه وعانته ويستاك ويتطيب ، ويلبس أحسن ثيابه ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن تكون فرجة أو يكون إماما ولا يتكلم أثناء الخطبة.
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا )) (2).
وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: (( من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً )) (3).
ويستحب التبكير لها أخرج الشيخان: عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة.
فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر )) (4).
أما إذا دخل والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين ثم جلس للاستماع، ويكره الاحتباء ، والاحتباء هو أن ينصب ساقيه ويجمعهما إلى صدره بيديه.
وسنة الجمعة بعد انقضاء الصلاة في المسجد ركعتان أو أربع أو ست.
ومن خصائص الجمعة قراءة سورة الكهف في يومها أو ليلتها أخرج الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له النور ما بين الجمعتين )) (1).
ومن خصائصها كذلك أن الذي يموت في يومها أو ليلتها لا يفتن في قبره ، لما أخرجه الترمذي والبيهقي عن ابن عمر قال رسول الله : ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر )) (2).
وفي يوم الجمعة توجد ساعة الإجابة، روى الشيخان أن رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال: (( فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يقللها ) (3).
وقد أخفاها الله سبحانه وتعالى ليجتهد العبد في سائر اليوم، ويستحب الصلاة والسلام على رسول الله في يوم الجمعة ((فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي )) (4).
وأخرج البيهقي عن أنس قال : قال رسول الله : (( أكثروا من الصلاة علي في يوم الجمعة، فمن فعل ذلك كنت شهيدا أو شافعاً له يوم القيامة )) (5).
أقول قولي هذا وأستغفر الله.....
(3) الفرسخ : ( مسافة معلومة من الأرض ) النهاية في غريب الحديث والأثر 3/429. وهو يساوي ( ثلاثة أميال أو ستة ) لسان العرب 3/44.
(4) صحيح مسلم : كتاب الجمعة 6 / 114.
(1) سنن ابن ماجه : كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة 1/349.
(2) صحيح مسلم : كتاب الجمعة باب فضل من استمع وأنصت للخطبة 6/146.
(3) سنن أبي داود : كتاب الطهارة باب في الغسل يوم الجمعة 1/96.
(4) صحيح البخاري : كتاب الجمعة باب فضل الجمعة 1/213 وصحيح مسلم كتاب الجمعة 6/135.
(1) السنن الكبرى : كتاب الجمعة باب ما يؤثر به في ليلة الجمعة ويومها 3/249.
(2) سنن الترمذي : كتاب الجنائز باب ما جاء فيمن مات يوم الجمعة 3/386.
(3) صحيح البخاري: كتاب الجمعة باب الساعة التي في الجمعة 1/224وصحيح مسلم : كتاب الجمعة 6/139.
(4) سنن أبي دواد كتاب الصلاة باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة 1/275
(5) الجامع لشعب الإيمان 6/286.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أمرنا بالتزام الجمع والجماعات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيراً أما بعد :
فلقد علمنا في الخطبة الأولى من آداب وفضائل وخصائص الجمعة، وما سمعنا غيض من فيض ، وقليل من كثير ، فلقد عد بعض علماء المسلمين مزايا الجمعة فأوصلها إلى مائة مزية أو تزيد، ومن هنا يتضح لنا عظم خسارة التفريط فيها أو في آداب من آدابها، فذلك الذي لا يأتي إلا بعد أن يبدأ الإمام خطبته دون عذر فقد جزءا من الثواب ، وذلك الذي يتخطى رقاب الناس فيؤذيهم أو يسلم عليهم ويكلمهم والإمام يخطب أو يجلس في مكان خرج صاحبه لحاجة ثم يعود فيأخذ مكانه ، كل فرد من أولئك خسر جزءا كبيرا من الثواب، وبعضهم لغت جمعته وحسبت له ظهراً.
ونعجب عندما نرى من يخصص يوم الجمعة لسفرة. ألا يعلم هذا أن السفر بعد فجر يوم الجمعة محرم؟!! أو يخصصه لنزهته فيأخذ أولاده وأهله إلى منتزه ويترك صلاة الجمعة.
وكم يخسر الذي يسهر ليلة الجمعة في لهو وغفلة واستماع طرب ورؤية خنا فيفوته فجر يوم الجمعة ، وربما فاتته الجمعة ذاتها ، ولعلك ترى بعض من أكرمه الله بالذرية من الذكور فلا يحملهم على المحافظة على صلاة الجمعة ولا يأمرهم بها ، إن على الأب أن يعود أولاده حتى قبل بلوغهم على المحافظة على صلاة الجمعة بالذات ، لتصبح المحافظة عليها عادة وعبادة تجري في عروقهم مع دمائهم حتى يكبروا فلا يتركونها إلا لعذر شرعى قاهر.
أخرج مسلم عن النبي قوله: (( لينتهين أقوام عن ودعهم (1) الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين )) (2) ، وأخرج الترمذي أن رسول الله قال: ((من ترك الجمعة ثلاثة مرات تهاونا بها طبع الله على قلبه )) (3).
(1) أي تركهم.
(2) صحيح مسلم : كتاب الجمعة باب التغليظ في ترك الجمعة 6/152.
(3) سنن الترمذي : كتاب الجمعة باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر 2/ 373.
(1/673)
الحث على التناكح والتناسل
الأسرة والمجتمع, فقه
الأبناء, النكاح
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
11/10/1408
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من مشروعية النكاح.
2- صفات في المرأة التي ينبغي أن تخطب.
3- الحث على كثرة الانجاب.
4- أمور تعين على صلاح الذرية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً [النساء:1].
خلق الله العباد وأودع في كل من الجنسين ميلا للآخر، فشرع علاقة الزواج وارتضاها لأمته، وحث نبيه على التحري من ذوات الأرحام أعلاها وأطيبها وأنقاها حفظاً لجنس البشرية وسمواً به نحو استعمار الأرض بشرع الله وحكمها به، وهي المهمة التي من أجلها خلق الخلق وبسطت لهم دواوين الأجل والرزق، قال : (( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم )) (4) رواه أبو داود والنسائي.
فالمرء إذا أراد التزوج فينبغي أن يبحث عن زوجة لطيفة المعشر تحتمل أخلاقها عشرته وتربية أولاده منها، وهي الودود.
ولا تنفع لطيفة المعشر إذا كانت عقيما، ولذلك قال (الولود) ولأهمية التناسل وإكثاره في الإسلام ولما له من آثار عظيمة جدا في الدارين فقد وصف النبي للرجال وصفة بديعة فقال: (( تزوجوا الأبكار فإنهن أعذب أفواها وأنقى أرحاما وأرضى باليسير )) (1) رواه الطبراني.
وفي الزواج تناسل، وفي التناسل تكاثر، وفي تكاثر الأمة تحقيق لمباهاة نبيها وقائدها يوم القيامة ومخالفة لحال الرهبان من النصارى ، قال رسول الله : ((تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ولا تكونوا كرهبانية النصارى )) (2) رواه البيهقي.
وفي كثرة النسل من الفوائد غير ما تقدم كثير إذ فيه بقاء لعنصر الإنسان وخلود لاسمه ونسبه في الدنيا لاسيما إن صلحت تلك الذرية.
وكثرة النسل مصدر للتفاخر والعزة في الحياة ، إذ الأولاد زينة في الرخاء ، وعدة في الشدائد والملمات يحملون نعشه ويبقون ينشرون فضله ، ويوفون بعهده ، ويصلون أهل وده، فيخلد اسمه ويحفظ ذكره.
وفي الإكثار من الذرية استجلاب للرزق من رب البرية قال تعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم [الإسراء:31].
فإن النسل قوة للأمة الإسلامية ومصدر عزة لها، فالأمة التي تملك أفراداً أكثر أقدر على الغلبة في الحروب والجهاد في سبيل الله وأصبر على شدة اللقاء مع الأعداء وأهيب جانباً لدى أعدائها.
وفي عظيم عدد الذرية حفظ لمال الإنسان وميراثه بعد حياته وبقاء لملكه بعد وفاته، ولذا نرى الملوك على مر الدهور وكر العصور تحرص على تكثير نسلها وتزويج أولادها وبناتها في سن مبكر.
إن في الإكثار من الأولاد ذكوراً وإناثاً أمانا من نائبات الدهر وحوادث الزمن، فلو أصيب الوالدان ببعض أولادهما يبقى لهما آخرون، وتظهر أهمية ذلك عند تقدم الوالدين أو أحدهما في السن فيعجزان أو أحدهما عن الإنجاب.
إن من كان عنده عشرة من الأولاد فاحتمال الصلاح فيهم أكبر ممن كان عنده اثنان أو أربعة، وهذه منفعة عظيمة أخرى للتكاثر.
إن ولد الإنسان ونسله من كسبه في الدنيا والآخرة. وقد تقدم الكلام عن ذلك في الدنيا، وأما الكسب الآخر من الولد فيوضح ذلك قوله : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (1) ، رواه مسلم.
ويجمع بقية الخصال الثلاث الولد ذكرا أو أنثى إذا رباه أبواه على الصلاح فهو يتصدق من ميراث أبيه ويهدي ثوابه إليه، وهو يعلم الناس ما علمه أبوه فينتفعون به، بل إن العبد من المسلمين إذا نوى عند جماع أهله تحصيل الولد الصالح فإن له بكل ركعة يركعها ابنه أو ابنته ، وبكل سجدة يسجدها، وبكل حسنة يفعلها ، حسنة تضاف في موازين عمل أبويه.
فأكثروا يا عباد الله من الذرية الصالحة فالله أكثر وأطيب، ويقول : ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته (2) كن له حجابا من النار يوم القيامة)) (3) رواه الإمام أحمد ، وقال : (( من عال جاريتين حتى تبلغا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه )) (4) رواه مسلم والترمذي.
ألا فلنحسن اختيار أزواجنا كما علمنا رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) (5) (تنكح النساء لأربع لمالها وجمالها وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) (6)
ولتكن النية عند الجماع تحصيل الولد الصالح ، ولا ينسى المسلم ذكر الله عند جماع أهله فيقول: (( اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا )) متفق عليه.
وأسأل الله أن يبلغني وإياكم السعادة العظمى في الجنة مع أولادنا وأهلينا : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء [الطور:21].
عباد الله :
لقد وعى أعداء الأمة أن مصدر قوة الأمة يكمن في ثقتها بدينها والتزامها به ثم في كثرة عددها، ولذا كانت حرباً فكرية وغزواً ثقافياً على أمة الإسلام ثم حرباً لنسلهم فيما قدموه للأمة من داء فتاك أسموه بتحديد النسل ولبسوا على المسلمين فقالوا: تنظيم النسل ، وشجعوا على ذلك وعلى الزنا فصنعوا ثم نشروا ما يعرف اليوم بحبوب منع الحمل.
(4) سنن أبي داود كتاب النكاح باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء 2/220
(1) المعجم الكبير 10/ 10244.
(2) السنن الكبرى : كتاب النكاح باب الرغبة في النكاح 7/78.
(1) صحيح مسلم : كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته 11/ 85.
(2) جدته : غناه.
(3) المسند 4/154.
(4) صحيح مسلم : كتاب البر والصلة باب الإحسان إلى البنات 16/ 180
(5) صحيح البخاري : كتاب النكاح باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله 6/ 141
(6) سورة الطور آية 21.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/674)
الحياء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
21/3/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الحياء. 2- الحياء شعبة من شعب الإيمان. 3- حياء الرسول. 4- صور من قلة
الحياء. 5- تذكير بمآسي المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن العلماء عرفوا الحياء فقالوا : إنه خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق، وروى عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : (( الحياء لا يأتي إلا بخير )) (2) متفق عليه.
وقد عده الرسول شعبة من شعب الإيمان أي خصلة من خصاله فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: (( الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة (3) فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة (4) الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان )) (5) متفق عليه.
وهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يصف لنا حال الرسول يقول: (( لرسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها (6) فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه )) متفق عليه.
ففي هذا الحديث دلالة على أن حي الضمير ونقي المعدن يظهر أثر تأثره في وجهه بعكس الصفيق البليد الذي لا تزيده الفواحش إلا بذاءة واجتراء على الله وعلى الناس.
وأسمى منازل الحياء وأكرمها الحياء من الله سبحانه، فنحن نطعم من خيره الذي رزقنا، ونتنفس من هوائه الذي أشاعه بيننا، ونمشي على أرضه التي ذللها لنا ودحاها، ونستظل بسمائه التي من غير عمد رفعها، والإنسان إذا قدم له أخوه الإنسان نعمة استحيى منه فكيف بهذه النعم العظام الضخام التي ضمتنا ولا غنى لنا عنها ؟.
ويكون الاستحياء – عباد الله – من الله حق الحياء بحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وذكر الموت والبلى، وألا يجدنا الله حيث نهانا وألا يفقدنا حيث أمرنا.
أما الحياء من الناس : فأن نعرف لأصحاب الحقوق حقوقهم ومنازلهم ، وليس من مسلم إلا وله حق، ألا وهو حق الإسلام فيعطى كل ذي حق حقه، فالصغير يجل من يكبره، وفي هذا يقول رسول الله : (( إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم )) (1) حديث حسن رواه أبو داود.
والمتعلم مع من يعلمونه وفي الحديث: ((تواضعوا لمن تعلمون منه )) رواه الطبراني (2) ولا نعجب إذا سمعنا قول الرسول : (( الحياء والإيمان قرناء جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)) (3) حديث صحيح رواه الحاكم.
وإن مما ينذر برفع الحياء ما رأيناه إثر فوز منتخبنا من كثير من الشباب من صريخ وصفير وإطلاق لعنان منبهات السيارات ولعجلاتها تفحيطا وقياما بحركات بهلوانية جنونية آذت الركع السجد في مساجدهم، وأفزعت المرضى في مضاجعهم، وأقلقت الهجع في بيوتهم، وأخرت ذوي الحاجات عن حاجاتهم إذ آثروا السلامة بالبقاء في منازلهم.
وإنك لتعجب عندما ترى أربعين أو خمسين من الشباب يقفون وسط طريق السيارات لا يتحركون، يغنون ويرقصون وبعضهم شبه عار، ويترنحون طالبين من أصحاب السيارات مشاركتهم، وقد يؤذون من لا يستجيب لهم بإطلاق العبارات الفاحشة البذيئة أو بتأخيره عن المضي قدما في حاجته.
وإنك لتعجب كذلك حين ترى أربع أو خمس سيارات يسير بها أصحابها ببطء شديد مانعين غيرهم أن يتعداهم فتتزاحم السيارات من ورائهم، فيزهو هؤلاء ويفتخرون بما قدموا وصنعوا، والويل لك إن حاولت أن تتعداهم بعد إنطلاقهم مسرعين دون أن تؤدي ضريبة مرورك، ألا وهي إصدارك نغمة معينة بمنبه سيارتك، فإن لم تفعل تناوشوك ذات اليمين وذات اليسار وأفزعوا نساءك وأطفالك وحطموا أعصابك.
أما علم من يفعل هذا أن ترويع المسلم حرام ؟ أما علم أن في هذا إهدارا للباس الحياء ؟ أما سمع من تفحش في الكلام حديث رسول الله : ((الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاءة من الجفاء والجفاء في النار)) رواه الحاكم وصححه (1).
أما تذكروا (250) مليون مسلم يعانون الألم والجوع وسكرات الموت في أفريقيا إثر مجاعة عظيمة أكلت الأخضر واليابس ؟ أفلم يستمعوا إلى أنباء إبادة أسر كثيرة في أفغانستان ؟ هلا تفكروا في أولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين يئن جريحا تحت يهود وينتظر صلاح الدين من جديد؟!
ثارت دعابة في مجلس كان فيه صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – فضحك الجالسون إلا صلاح الدين فسألوه: لماذا لم تضحك؟ فأجاب : إنى لأستحي من الله أن أضحك وفي القدس صليبي واحد.
هلا نظر أولئك الشباب إلى أحوال المسلمين المتحينين في أمنهم ودينهم عن يمينهم وشمالهم ؟
إن الإسلام لا يمنعنا أن نفرح ولكن دون شطط أو سفه أوبطر أو إزالة للباس الحياء وترويع الآمنين، وأعيذ نفسي وكل من فعل هذه الأفعال أن نكون المعنيين بالحديث الذي يقول فيه النبي : (( إن الله إذا أراد أن يهلك عبدأ نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا (1) ، فإذا لم تلقه إلا مقيتا نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا ، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا ، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الإسلام)) (2) رواه ابن ماجة.
وقانا الله وإياكم فساد الحال وسوء المال.
(2) صحيح البخاري : كتاب الأدب باب الحياء 7/ 100 وصحيح مسلم : كتاب الإيمان باب الحياء شعبة من الإيمان 2/6.
(3) الشعبة : الطائفة من كل شيء والقطعة منه النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 477.
(4) إماطة الأذى أي تنحيته ، المرجع السابق 4/ 380.
(5) صحيح البخاري : كتاب الإيمان ، باب الحياء شعبة من الإيمان 2/ 5،6.
(6) الخدر : ناحية في البيت يترك عليها ستر فتكون فيه الجارية البكر النهاية في غريب الحديث والأثر 2/13
(1) سنن أبي داود : كتاب الأدب ، باب في تنزيل الناس منازلهم 4/261.
(2) في المعجم الأوسط ، انظر مجمع الزوائد 1/192.
(3) وقال : هذا حديث احتج الشيخان برواته ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، انظر المستدرك 1/22.
(1) ووافقه الذهبي ، انظر المستدرك 1/52.
(1) مقيتاً : بغيضاً مبغضاً ، وأصل المقت أشد البغض ، النهاية في غريب الحديث والأثر 4/346.
(2) سنن ابن ماجة : كتاب الفتن باب رفع الأمانة 2/1347 وفي إسناده ضعف لضعف سعيد بن سنان أحد رواته.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يمن على من يشاء من عباده بجلباب الحياء وردائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، تفرد بكبريائه وعظمته، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه ، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا أما بعد :
فإننا لا يمكن أن نلقي اللوم على الشباب فقط، ولكن يشاركهم في فعلهم هذا المربون وأصحاب القدوات وأخص بالذكر منهم الآباء والأمهات.
فإن الوالد لو رعى ولده حقا ووعى مسؤوليته العظيمة أمام الله في تربية أبنائه وفي تنشئتهم على الصلاح والتقى وحب الدين ومعالي الأمور لما حصل هذا.
إنه لو لم يدلل ولده وأعطاه كل ما طلب لما حصل شيء من هذا، إنه لو سأله أين تذهب وماذا تفعل ومع من تمشي لما خرج يجري ويهذي في الشارع مؤذيا الناس على تلك الصورة.
إنه لو وعى الآباء قول النبي : (( إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع )) (1) لما سمح لابنه أن يتجه سريعا في الشوارع بلا هدي،ولأمره أن يستغل أوقاته استغلالا جادا وحقيقيا في المعاهد والجامعات والمصانع وفي الابتكارات العلمية فيحرز هؤلاء أعلى الدرجات التي ترقيهم في مدارج التقدم ناهلين من نبع إيماننا وديننا رويا من سير أسلافنا وأماجدنا الشمّ الذين ما أتى الزمان بمثلهم.
شباب أمتي: لا يسبقنكم شباب الشرق والغرب فينتجون وتستهلكون، ويعملون وتقعدون، يسهرون مجدين وتنامون ، ويفرز أحشاؤهم رذيلة فتقلدون.
شباب أمتي: هذه كلمات مؤمل خير لأمته وبلاده، فهل تلقى لها صدى في نفوسكم؟ نعم إن شاء الله وما ذلك على الله بعزيز.
(1) أخرجه الترمذي في سننه : كتاب الجهاد باب ما جاء في الإمام 4/208 ، وصححه الألباني انظر السلسلة الصحيحة ح 1636.
(1/675)
الرزق
الأسرة والمجتمع, الإيمان
القضاء والقدر, قضايا المجتمع
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
3/6/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله خير الرازقين. 2- الرزق مكتوب فلا تستبطئوه. 3- الله ضامن لكل مخلوق رزقه فإن
شاءه العبد بالحلال بلغه وإلا فبالحرام. 4- الأسباب لا تهب الرزق. 5-الاقتصاد في طلب
الرزق. 6- تفاوت الأرزاق حكمة لا يعلمها إلا الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن الله سمى نفسه الرزاق: أي كثير الرزق فقال: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات:58]. بل هو سبحانه وتعالى خير الرازقين: وإن الله لهو خير الرازقين [الحج:58].
كيف لا يكون خير الرازقين وهو الذي يرسل الملك بعد مضي أربعة أشهر وبضعة أيام إلى رحم المرأة فينفخ في الجنين الروح ويؤمر بكتب أربع: يكتب: رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد.
فالرزق مقدر معلوم، والإنسان في بطن أمه لم يكتمل بناء أو تشكيلاً، فلا يزيد رزقه عند خروجه على ما كتب ولا ينقص. روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: (( إن روح القدس (4) نفث (5) في روعي (1) أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها، ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته )) (2).
نعم لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فلماذا إذا يسرق السارق ، ويرتشي المرتشي ، ويختلس المختلس ، ويرابي المرابي ويتقاضى الفائدة طالما أن رزقه آتيه لا محالة ، إنه لو استقرت هذه الحقيقة في ذهنه لما عصى الله وتجرأ على محارمه فالمولى جل وعلا ضمن حتى للبهيمة العاجزة الضعيفة قوتها: وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم [العنكبوت:60].
فكم من الطير والبهائم ما يدب على الأرض تأكل لوقتها ولا تدخر لغد فالله يرزقها أينما توجهت ، وعندما يقول لنا سبحانه: الله يرزقها وإياكم فإنه يسوي بين الحريص والمتوكل في رزقه ، وبين الراغب والقانع ، وبين القوي والضعيف فلا يغتر جلد قوي أنه مرزوق بقوته ، ولا يتصور العاجز أنه ممنوع من رزقه بعجزه، وعندما يخاطبنا الله في محكم آياته فيقول: وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [هود:6]. فإنه يضمن للخليقة جمعاء رزقها فضلا منه لا وجوبا عليه، ووعداً منه حقاً، فهو لم يخلق الخلق ليضيعهم.
ولربما يخيل للبعض أنه بعلمه وقوته وفطنته يتحصل على الرزق، وليس الأمر كذلك، فالله أضاف الرزق إلى نفسه إذ يقول: كلوا واشربوا من رزق الله [البقرة:60].
فإذا تحصل الإنسان على رزقه بوسيلة أو بسبب ما فليعلم أن الله هو واهبه هذه الوسيلة، وهذا السبب وهما كذلك من رزق الله.
نعم قد يغفل الإنسان في وقت ما فيصرف بصره تلقاء الأسباب الأرضية في الحصول على الرزق. هنا تأتي الإجابة سريعا لترد الأمور إلى نصابها ولتوقظ هذه الغفلة: وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [الذاريات:22-23].
فعندئذ يتعلق القلب بالله أولاً وآخرا لا بالسبب الأرضي الحقير، ومن يهتم بالرزق اهتماماً يجاوز الحد المشروع فإننا نقدم له حديث رسول الله الذي يرويه الطبراني وفيه يقول: (( إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله )) (2).
فالاهتمام الزائد بشأن الرزق فيه شغل للقلوب عن علام الغيوب وعن القيام بحق المعبود. وقد قال بعضهم لآخر: (اجتهادك فيما ضمن لك وتقصيرك فيما طلب منك دليل على انطماس بصيرتك).
ويقول لرجل: من أين تأكل؟ فقال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق.
ذكر الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بإسناده : أن الأشعريين أبا موسى وأبا عامر وأبا مالك في نفر منهم لما هاجروا وقدموا على رسول الله... وقد أرملوا (3) من الزاد، فأرسلوا رجلاً منهم إلى رسول الله يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله سمعه يقرأ هذه الآية: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [هود:6]. فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون الدواب على الله.
فرجع ولم يدخل على رسول الله ، فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله فوعده، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة لبن لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله ليقضي به حاجته فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله فإنا قد قضينا منه حاجتنا.
ثم إنهم أتوا رسول الله فقالوا: يا رسول الله ما رأينا طعاماً أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به قال : ما أرسلت إليكم طعاماً، فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله فأخبره ما صنع وما قال له ، فقال : )) ذلك شيء رزقكموه الله ( (.
(4) روح القدس هو جبريل عليه السلام.
(5) نفث : أوحى وألقى ، من النفث بالفور ، وهو أقل من التفل لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق ، النهاية في غريب الحديث والأثر 5 / 88.
(1) روعي : نفسي وخلدي ، المرجع السابق 2 / 277.
(2) أخرجه البغوى في شرح السنة 14 / 304. وقال: رجاله ثقات لكنه مرسل، وله شواهد كثيرة يتقوى بها الحديث ويصح روى بنحوه الحاكم 2 / 4 على شرط مسلم ، وصححه ابن حبان << 1084 >>.
(2) وأخرجه ابن أبي عاصم عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، السنة 1 / 116.
(3) أرملوا : إذا نفذ زادهم ، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل ، النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 265.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين الذي ضمن الرزق للمؤمن والكافر ، الحمد لله الذي يعطي الدنيا من يحب ومن يكره، ولا يعطي الدين إلا من يحب، بسط رزقنا وجمع فرقتنا ولم شملنا، فله الحمد حمدا كثيرا طيباً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أثنى على عباده الشاكرين ووصفهم بأنهم الأقلون فقال: وقليل من عبادي الشكور [سبأ:13].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وإمام المتقين ، فصلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فإن العبد إذا أيقن أن الرزق بيد الله وأنه آتية لا محالة تفرغ لأداء المهمة التي خلقه الله من أجلها، وهي العبادة بمفهومها الشامل (2)... وعند ذلك يمكنه أن يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم ، فلا يخشى فصلاً من عمل ، أو طرداً من وظيفة ، أو حرمانا من تجارة فرزقه فيه لا محالة.
وهو عندما يبذل سبباً للحصول على الرزق يبذله وهو عزيز النفس رافع الرأس، فليس لأحد منة عليه، بل المنة والفضل لله جميعاً.
وهناك حقيقة أخرى يجب أن تعلمها وهي أن الله عندما قسم الأرزاق جعل بينها تفاوتا: إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً [الإسراء:30].
ولو أعطى الله الخلق فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [الشورى:27].
إنه سبحانه وتعالى يرزق عباده بالقدر الذي فيه صلاحهم، فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر. جاء في الحديث القدسي: (( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لافسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه )) (1).
عباد الله إن للرزق جوالباً منها صلة الرحم ، فمن أحب أن ينسأ له في عمره ويوسع له في رزقه فليصل رحمه.
ومنها الاستغفار والتوبة وطاعة الله ، قال رسول الله : (( من لازم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ، ومن كل هم فرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب )) ( 2) رواه أبو داود.
ومنها كذلك صدق اليقين والتوكل على الله مع بذل الأسباب قال : (( لو أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً (3) وتروح بطاناً )) (4) رواه الترمذي.
(2) فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات.
(2) سنن أبي داود : كتاب الصلاة ، باب في الاستغفار 2/ 85.
(3) أي تذهب في الصباح جياعا ، وترجع مساء وهي ممتلئة الجوف ، النهاية في غريب الحديث والأثر 2/8.
(4) سنن الترمذي : كتاب الزهد ، باب في التوكل على الله 4/ 573.
(1/676)
الزكاة
فقه
الزكاة والصدقة
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصدقة مخلوفة في مال المتصدق. 2- التحذير من التهاون في أداء الزكاة. 3- ضرورة
البحث عن المستحقين للزكاة. 4- الصدقة على الأرحام. 5- الاعتكاف في العشر الأخير من
رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : أيها المسلمون اتقوا الله تعالى وأطيعوه وتقربوا إليه بصالح الأعمال ، واعلموا رحمكم الله أن من أعظم أسباب السعادة في الدنيا والآخرة ورغد العيش وتماسك الأمة وارتفاع معنوياتها هو تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ، وهذا هو المبدأ الصحيح لكل أمة تريد أن تعيش على الحق والمعروف والخير ، قال الله تعالى واصفا حال هذه الأمة بالخيرية : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:41].
فأخبر تعالى أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم مقومات وأسباب النصر المبين على الأعداء ، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم [محمد:7-8]. أي: إن تنصروا الله بإقامة دينه وتحكيم شريعته ينصركم نصرا عزيزا مؤزراً كما نصر نبيه على أعدائه بالرعب مسيرة شهر.
وقال تعالى: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [الصف:14]. أي: منتصرين على أعدائهم بالحق، فبالصلاة وصلهم سبحانه بالخيرات والبركات ، وبالزكاة زكاهم وطهرهم من داء الشح والبخل ورفعهم بعزة النفس وقوة الإيمان واليقين.
أخرج الترمذي (1) عن ابن أبي كبشة أن النبي قال: (( ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم فاحفظوه: ما نقص مال من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزة ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )) (2).
فبين بهذا الحديث وأكد بالقسم أن الصدقة لا تنقص المال إذا خرجت منه بل تباركه وتنميه وتزكيه، وهو الصادق في قوله المصدوق من ربه.
وفي الحديث بيان فضل الصدقة وآثارها الحسنة على المزكين والمتصدقين، وأنها لا تنقص المال، بل تفتح للمتصدقين أمورا عجيبة من وجود المكاسب المشروعة وتيسر الأمور وسعة الرزق والبركة فيه ، وانفساح الحياة لهم على حسب إحسانهم وعواطفهم الأخوية ، وتصديقهم بالحسنى ، ولقد وعد الله المزكين بتيسير أمورهم لليسرى فقال جل من قائل: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى [الليل:5-11]. أى: إذا بخل بزكاته وصدقته.
فهذه الأمور يا عباد الله ملموسة ومشاهدة من أحوال الناس، فإن الله بكل خير أسرع إليه.
المحسن والمتصدق ابتغاء وجه الله فإنه يخلفه ويضاعفه. يقول الله تعالى: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين [سبأ:39].
ولقد حذر النبي من البخل بالزكاة إذ يقول في رواية للنسائي: (( ما من رجل له مال لا يؤدي حق ماله إلا جعل له طوقا في عنقه شجاعا أقرع ، وهو يفر منه وهو يتبعه )) (1) ، وعن جابر عن النبي قال: (( إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره )) (2).
وقال عمر بن الخطاب: قال رسول الله : (( ما تلف مال في بر ولا في بحر إلا بحبس الزكاة )) (3) ، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : (( مانع الزكاة يوم القيامة في النار )) (4).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : (( ما خالطت الصدقة أو قال الزكاة مالا إلا أفسدته )) (5).
قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث يحتمل معنيين:
أحدهما: ما تركت الزكاة في مال ولم تخرج منه إلا أهلكتها، والثاني: أن يأخذ الرجل من الزكاة فيضعها في ماله فتهلكه.
ألا يا عباد الله فليعلم الأغنياء المالكون لنصاب الزكاة أن الدنيا غرارة متقلبة، فلينفقوا مما آتاهم الله، وليؤدوا فريضة الله، وليعلموا أن الله الذي رزقهم قادر على أن يسلبهم ما خولهم من النعم.
ألا فلنتذكر المستحقين وحاجاتهم والفقراء وفاقتهم ، ألا فلنتذكر المجاهدين في سبيل الله في كل مكان، وخاصة في أفغانستان ولا ننسى إخواننا في دول أفريقيا المتضررة بالجفاف ، ألا فلنبحث عن المستحقين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ولا سيما من الأقارب ، لا الوالدين والزوجة والأولاد ، إذ الصدقة لا تجزئ على من تلزمه نفقته.
يروي الإمام أحمد عن النبي قوله: (( الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة )) (6).
(1) في سننه : كتاب الزهد باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر 4/56.
(2) بفلظ: " ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا " الحديث كتاب البر والصلة باب استحباب العفو والتواضع 16/141.
(1) سنن النسائي : كتاب الزكاة باب التغليظ في حبس الزكاة 5/11
(2) الحاكم في المستدرك 1/390 ، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي صحيح ابن خزيمة 4/13
(3) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال أخرجه الطبراني في الأوسط مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 3/63
(4) أخرجه الطبراني في الصغير 2/58.
(5) أخرجه البزار انظر كشف الأستار عن زوائد البزار 1/418.
(6) مسند أحمد 4/18.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أكرمنا بأنواع العبادات وأصناف الطاعات عطاء فيه كرامة ، ومنحا فيها دفع للسآمة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، جعل شهر رمضان حافلا بالخيرات من الطاعات، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله قال وفعل وأخلص وعمل ، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيراً أما بعد :
فاعلموا أيها المسلمون رحمني الله وإياكم أن رسول الله سن الاعتكاف في المساجد في رمضان وغيره ، ويتأكد في رمضان للعبادة المشروعة من صلاة وتلاوة القرآن ، وتعليم علم وذكر لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (( كان رسول الله يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله )) (1) أخرجه البخاري ومسلم.
وناوي الاعتكاف يدخل المسجد آخر اليوم العشرين من رمضان إن أراد أن يعتكف الأيام العشر كلها، ويصح الاعتكاف ولو ساعة من نهار أو ليل ، ولا يخرج المعتكف من المسجد إلا لما لا بد له منه كقضاء الحاجة ، وشراء طعامه أو شرابه.
والمعتكف لا يقرب النساء لقوله تعالى: ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد [البقرة:187].
واعلموا عباد الله أن عائشة قالت في حديث في الصحيحين (3 ) : (( كان رسول الله إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله )) ، وفي رواية لمسلم (4) عنها قالت: (( كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره )).
والإمام الشافعي يقول: من شهد العشاء والصبح ليلة القدر مع الجماعة فقد أخذ بحظه منها.
وهي ليلة عظيمة ذات قيمة كبيرة وردت سورة كاملة في القرآن في بيان شأنها، فالعمل الصالح فيها أفضل من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، يقبل الله فيها التوبة ويعتق من النار وتتنزل الملائكة، ولا يحدث فيها سوء ولا داء.
روي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله قال: (( من أدرك رمضان بمكة فصام وقام منه ما تيسر له، كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواها وكتب الله له بكل يوم عتق رقبة، وفي كل ليلة عتق رقبة، وكل يوم حملان فرس في سبيل الله وفي كل يوم حسنة ، وفي كل ليلة حسنة )) (3).
وروي عن أبي ذر أن النبي قام بهم ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين ، وذكر أنه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين وهذا يدل أنه يتحرى ليلة القدر في أكثر الأوتار في ليلة سبع وعشرين.
وقد أخفيت ليلة القدر في ليالي الوتر من العشر الأواخر ليجتهد المسلمون في طلبها.
(1) صحيح البخاري : كتاب الاعتكاف باب الاعتكاف في العشر الأواخر 2/255. صحيح مسلم : كتاب الاعتكاف 8/68.
(3) صحيح البخاري : كتاب فضل ليلة القدر باب العمل في العشر الأواخر من رمضان 2/255 صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف باب الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان 8/70.
(4) المرجع السابق.
(3) أخرجه ابن ماجه في سننه : كتاب الصيام باب ما جاء في صيام شهر رمضان 1/420.
(1/677)
السفر وأغراضه الشرعية
موضوعات عامة
السياحة والسفر
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
18/5/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع السفر المحمود. 2- صور للسفر المذموم. 3- من حقد الكفار بالاستهانة بمقدرسات
المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن غايات وأهداف السفر المحمود في الإسلام متنوعة كالتفكر ف ي آيات الله ومخلوقاته والاستدلال بها على بعثه لخليقته يقول تعالى: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير [العنكبوت:20]. ويكون السفر محمودا إذا كان للاعتبار في حال السابقين ممن استخلفه الله على هذه الأرض ولم يحسن صنعا، فيسير الإنسان في الأرض ليرى ويتفكر في أحوالهم، فيتجنب حال المسيء ويقتدي سلوك المحسن قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عقبة المكذبين [سورة آل عمران:137]. ويقول سبحانه: قل سيروا في الأرض فانظرا كيف كان عقبة المجرمين [النمل:69].
ويتنقل الإنسان في جنبات الأرض ابتغاء لرزق الله وجهادا في سبيله: علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله [المزمل:20]. وقال سبحانه: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [الملك:15].
ويسافر المرء طلبا للصحة اذ يقول الرسول فيما يرويه الإمام أحمد في مسنده : (( سافروا تصحوا، واغزوا تستغنوا )) (2).
فهذا الحديث وإن كانت فيه دلالة على أن من أسباب الصحة السفر إلا أنه يوضح الغرض الرئيسي الذي يجب أن يكون من أجله السفر ألا وهو الجهاد في سبيل الله.
ويسافر المسلم ناشرا لدعوة ربه ورسالة نبيه فهل سفره عليه الصلاة والسلام إلى الطائف وغيرها من الأمصار إلا من أجل ذلك ويسافر المسلم كذلك لطلب العلم الشريف.
وسيرة سلفنا الصالح مليئة بأخبار هذه الرحلات العلمية فقد كان الرجل يقطع الفيافي والقفار من أجل الحديث الواحد والخبر من الأخبار، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى أعاده الله إلى حظيرة الإسلام.
وبالجملة فأي غرض شريف يطلبه الشرع الحنيف لا يتحصل إلا بالسفر والارتحال، فالسفر إليه مباح، وقد يكون واجبا كالحج مثلا مع الاستطاعة، فهو ركن من أركان الدين لا يتحصل للمسلم البعيد عن مكة إلا بالسفر إليها وكزيارة الأقارب والأرحام، فالسفر إليهم مشروع مندوب.
ويذم السفر إذا كانت الغاية منه اقتراف الحرام كالذين يسافرون من أجل الزنا والخمر والقمار والعياذ بالله، فهؤلاء كغيرهم ممن خرج إلى محرم لا يصح لهم استخدام رخص السفر وهي المسح لمدة ثلاثة أيام بلياليهن والفطر والجمع والقصر كما أنه لا يجوز للمسلم أن يسافر إلى مكان يغلب على ظنه أنه يقترف فيه محرما.
وقد يسافر الإنسان لتحصيل نفع ولكنه يضيع نفعا أكبر وواجبا أعظم كالمسافر لزيارة أقاربه وأرحامه ووالداه محتاجان إليه فهذا فعل واجبا وترك أمرا أوجب.
ومن الناس من يسافر ولكن نفقته في سفره من مال حرام، فهو يرتشي أو يتسول ويأكل أموال الناس بالباطل ليأخذ أسرته في عطلة من العطل ويسافر بها مستمتعا بمال حرام والعياذ بالله أو تجده يستوفي أجرة في عمله ووظيفته كاملا ويسرق أياما يتغيب فيها ويضيفها إلى إجازته.
وها هي العطلة أذنت بالقدوم وأوشكت أن تأتى، فما عسى المسلم أن يفعل ليستفيد منها؟ وما عساه إن سافر أن يفعل في سفره أيكون سفره مذموما أم محمودا؟
هل يسافر إلى بلاد تستباح فيها حرمات الله وتؤتى فيها الكبائر أم يشد رحاله إلى مسجد الحبيب ويروي ظمأ قلبه من فيض إيمان طيبة الطيبة؟.
هل يسافر إلى ربوع كافرة أو يسير في بلاده شمالا وجنوبا مبتغيا هدوء النفس وراحة البال أو قريبا يزوره ويتفقده؟.
هل يسمح والد لولده أن يسافر منفردا أو مع زمرة من رفقاء السوء إلى بلاد يعلم أنه يسافر إليها لفعل الكبائر؟
هل يسمح أب لابنته أن تسافر مع غير ذي محرم بحجة الاستمتاع بالإجازة؟
أيسافر أب بمفرده ويترك أهله أو يهيئ لهم برنامجا في إجازتهم يروح به عليهم من غير معصية الله ويزيد حصيلتهم العلمية والثقافية، ويقضي أياما معهم ليتعرف بصورة أكبر على شخصياتهم، فيصلح ما فسد ويبني ما صلح، ويعلمهم أن الإجازة إنما هي للبناء ولم تكن بحال من الأحوال ولا في يوم من الأيام للهدم.
(2) المسند 2/380.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله أما بعد:
فقد جاءني مصل كريم من مرتادي هذا المسجد عارضا علي حذاء اشترته إحدى بناته مثبتا فيه لفظ الجلالة ( الله) بطريقة لا تحتاج إلى كبير تأمل لاكتشافها سائلا إياي عما ينبغي أن يفعله المسلم الغيور في هذه المواقف.
وإنى أجد من المناسب ذكر هذا وأن أعداء الله كانوا ولا يزالون يكيدون ويحاولون تدنيس مبادئنا وتحريفها وتغييرها، وهم بمثل هذه الأفعال يكيدون لله، فويل لهم مما يكيدون فإنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين: وأملي لهم إن كيدي متين [القلم:45]. إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أملهم رويداً [الطارق:15-17].
لقد أعلن في الصحف المحلية أن وزارة التجارة تلقت أوامر من كبار المسؤولين في الدولة بمصادرة وحصر أنواع من الأحذية نزلت فى الأسواق مثبت فيها لفظ الجلالة لإتلافها حماية لاسم الله الأعظم من أن يداس.
فما على المسلم إذا اكتشف مثل هذا إلا أن يبلغ وزارة التجارة ويعلمهم بمصدر ما وجد دون أن يشعر البائع بذلك لأن بعض ضعاف النفوس عبدوا الدرهم والدينار، وقد يحمله عملهم بإبلاغ المسلم الغيور وزارة التجارة على إخفائهم تلك الأحذية وبيعها سرا.
وليست هذه الظاهرة بجديدة فقد ظهر في أسواق بعض الدول ملابس داخلية نسائية مكتوب عليها شهادة الحق ( لا إله إلا الله محمد رسول الله).
ما أعظمك ربي وما أغناك عن خلقك فقد قلت في الحديث القدسي الذي يرويه مسلم: (( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا )) (1) فسبحان من لا تكثره طاعة طائع ولا تنقصه معصية عاص.
(1) صحيح مسلم : كتاب البر والصلة ، باب تحريم الظلم 16/132.
(1/678)
نعم الله على عباده
موضوعات عامة
مخلوقات الله
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تذكير بنعم الله وبيان كثرتها 2- نعم الله تَعُمّ الغافلين والفاجرين والشاكرين 3- حلم الله
على العصاة والفجَرة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمن ذا الذي لا يحب الله، من ذا الذي له سمع وبصر وفؤاد يعقل به ولا يحب الله، ومن الذي يتقلب في نعم الكريم ويستظل برحمة الغفور الرحيم ويأوي إلى جناب الحليم ولا يحب الله.
أولاً: إن مطالعة في صفحات المنن والإحسان وأي سياحة في ملكوت النعم والآلاء التي يمن بها أكرم الأكرمين على عباده أجمعين تحمل كل إنسان على حب الله سبحانه وتعالى، وكلما ازداد الإنسان سياحة في ملكوت النعم كلما ازدادت محبته لله وتأكدت ورسخت.
أي نعمة أيها العبد تريد أن تعدها وتحصيها، خذ أدنى هذه النعم كما يبدو لك أنفاسك التي لا تلقي لها بالاً. كم نَفَسًا في اليوم تتنفس؟ مئات الأنفاس بل آلاف الأنفاس، هل تستطيع أن تستغني عنها لحظة واحدة؟
إذن كم ألفًا من النعم ترفل فيه أيها الإنسان كل يوم في هذا الجانب فقط جانب النَفَس الذي يملأ رئتيك وتريد بعد ذلك أن تعد نعمه وأنت تتقلب فيها ليل نهار.
بل في كل لحظة من لحظاتك، وفي كل خلجة من خلجاتك. تنقلب في نعم الله تحيطك عناية الله الذي سخر لك ومن أجلك كل ما في هذا الكون.
قال تعالى: قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن [الأنبياء:42].
وقال تعالى: له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [الرعد:11].
روى الترمذي والحاكم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أحبوا الله لما يغمركم من نعمه وأحبوني بحب الله)) [1].
ثانيًا: من رحمة الله تعالى بعباده ورحمته وسعت كل شيء، أنه لم يحصر نعمه تعالى في الشاكرين إنه سبحانه لينعم حتى على الجاحدين الكافرين.
إنه ينعم حتى على من يعصيه ينعم على الغافل عنه المعرض عن عبادته.
وقد جاء في بعض الآثار أنه تعالى يقول: ((أنا الجواد من أعظم مني جوادًا وكرمًا أكلأ عبادي أبيت أكلأ عبادي في مضاجعهم وهم يبارزونني بالعظائم)) أي أرعاهم وأحيطهم بعنايتي وهم نائمون في مضاجهم.
وروى الترمذيعن النبي أنه لما رأى السحاب قال: ((هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يذكرونه ولا يعبدونه)) [2].
وفي الصحيحين عنه أنه قال: ((لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله تعالى إنهم يجعلون له ولد وهو يرزقهم ويعافيهم)) [3].
يجعلون له الولد فيؤذونه بذلك سبحانه ومع ذلك هو يرزقهم ويعافيهم فهذه رحمته سبحانه وسعت كل شيء وسعت عباده كلهم.
ثالثًا: إن ربكم رءوف ودود يتحبب إلى عباده ويتودد إليهم وقد أغدق عليهم من المنن والإحسان، يتحنن إلى عباده بالمنن والنعم.
أغدق على عباده بالمنن والإحسان لقد سخر لهم ما في السماوات والأرض ومع ذلك ملأ سماواته بملائكته واستعملهم في الاستغفار لأهل الأرض. وحملة عرشه الملائكة العظام الذين يحملون عرشه استعملهم في الاستغفار لأهل الأرض. وحملة عرشه الملائكة العظام الذين يحملون عرشه استعملهم أيضًا في الدعاء والاستغفار لعباده المؤمنين ومع ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وتعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته ومع ذلك هو سبحانه ينزل كل ليلة إلى سمائه الدنيا يسأل عن عباده بنفسه ويتفقد حوائجهم، يدعو مسيئهم إلى التوبة ليتوب عليه ومحتاجه إلى السؤال ليعطيه، ومريضهم إلى الاستشفاء به ليشفيه.
ولقد بلغ من لطفه بهم وكرمه سبحانه أنهم عذبوا أوليائه وحرقوهم بالنار.
ومع ذلك هو يدعوهم إلى التوبة فيقول: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [البروج:10] فما الشأن لو تابوا ؟
لو تاب هؤلاء الذين عذبوا أوليائه وحرقوهم بالنار لتاب عليهم وغفر لهم. ثم لم يتوبوا قال بعض السلف انظر إلى كرمه عذبوا أوليائه وحرقوهم بالنار وهم يدعوهم إلى التوبة.
وهل أعظم جودًا وكرمًا من أنه سبحانه وتعالى وهو الغني الحميد يفرح بتوبة عباده، عباده الفقراء إليه المحتاجون إليه. يبارزونه بالعظائم والجرائم فإذا تابوا فرح بتوبتهم وهو الغني عنهم.
فهذه دواعي كلها تستدعي محبته سبحانه وتعالى وتستدعي الإقبال عليه تستدعي محبته سبحانه وتعالى وتستدعي الإقبال عليه فإن النفوس قد جُبلت على حب من أحسن إليها ولو بعض الإحسان فكيف يمن إحسانه إليكم ونعمه وبركاته عليكم لا تعد ولا تُحصى، لا يتخلف عن محبة من هذا شأنه إلا أردئ القلوب وأخبثها وأشدها نقصًا وأبعدها من كل خير.
أما خواص عباده وأولياؤه الذين هم أهل العلم والعمل والإيمان والإحسان فإن لهم بابًا آخر غير باب السياحة إلى النعم يدخلون منه إلى مقام المحبة.
إنه باب المعرفة، معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.
فأهل العلم كلما ازدادوا معرفة بالله تعالى وكلما ازدادوا معرفة بأسمائه وصفاته ازدادت محبتهم وشوقهم له تعالى.
فمحبتهم لله ليست بسبب النعم والمنن.
[1] أخرجه الترمذي (5/664) برقم (3789) والطبراني في الكبير (3/38-39).
[2] أخرجه الترمذي في سننه (5/403-404) برقم (3298) مطولاً.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه (5/2262) ومسلم (4/2160).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/679)
الصبر
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
8/7/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آيات تربط الصبر بكثير من أبواب الخير. 2- الصبر صبران: بدني ونفسي. 3- صور
للصبر النفسي وأسماؤه. 4- الصبر على بلاء الله للبعد بالخير وتيسير أسباب الرزق والأمن.
5- الصبر على طاعة الله وعن معصيته. 6- الصبر سبب في رحمة الله وغفران الذنوب.
7- آداب نزول المعصية. 8- فوائد للصبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن الله عز وجل ذكر الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات، وجعلها ثمرة للصبر فقال تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [السجدة:24]. وقال تعالى: وتمت كلمات ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [الأعراف:137].
والله سبحانه وتعالى يجزي بالصبر أحسن الجزاء إذ يقول : ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [النحل:96].
ثم إنه ما من قربة ولا طاعة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر إذ يقول تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10].
ولما كان الصوم من الصبر قال تعالى: (( الصوم لي وأنا أجزي به )) (5). ووعد الله الصابرين بأنه معهم وجمع لهم أمورا لم يجمعها لغيرهم إذا يقول: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [البقرة:157]. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال: (( ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر )) (1).
الصبر ضربان أي نوعان:
بدني كتحمل المشاق بالبدن وكتعاطي الأعمال كالجهاد في سبيل الله والحج واحتمال الأذى في تبليغ دعوة الله للناس كافة وغير ذلك.
والضرب الآخر هو الصبر النفساني عن مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى، وهذا النوع إن كان صبرا عن شهوة البطن والفرج سمي عفة، وإن كان صبرا في القتال سمي شجاعة ،وإن كان في كظم الغيظ سمي حلما.
وإن كان في نائبة أو مصيبة مضجرة سمي سعة صدر، وإن كان في إخفاء أمر سمي كتمان سر، وإن كان في فضول عيش سمي زهدا، وإن كان صبرا على قدر يسير وجزء قليل من الحظوظ والمتع المباحة سمي قناعة، وإن كان صبرا على مصيبة سمي صبرا فقط.
وهنا يتضح لنا كيف أن الصبر حوى مجامع الأخلاق وأفاضل أنواع السلوك الحسن المرضي لله عز وجل.
عباد الله: إن جميع ما يلقى العبد من الأمور لا يخلو من أحد امرين موافق لهواه أو مخالف له.
أما ما يوافق هواه فيدخل ضمنه الابتلاء بالسراء من صحة وسلامة ومال وجاه وكثرة عشيرة وأتباع، فالعبد محتاج إلى أن يصبر في جميع هذه الأمور فلا يركن إليها ركونا ينسيه ربه وخالقه وواجبه تجاهه ومتى لم يضبط نفسه عن الانهماك في اللذات والركون إليها أخرجه إلى البطر (1) والطغيان،
ولذلك قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [المنافقون:9].
وقال تعالى: واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة [الأنفال:28]. وقال تعالى: إن من أزوجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم [التغابن:14].
إن الابتلاء بالسراء قد يكون أخطر من الابتلاء بالضراء ولذا يقول الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف: (ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر) وقال بعض الصالحين: (المؤمن يصبر على البلاء، ولا يصبر على العافية إلا صديق ).
ذلك أن السراء تدغدغ المشاعر والنفوس أما الشدة فتسبب ردة فعل يكون معها غالبا النجاة بإذن الله.
وأما الأمر الثاني وهو المخالف للهوى فهو أقسام ثلاثة: صبر على طاعة وصبر عن معصية وصبر على المصائب والنائبات.
فالطاعة تحتاج إلى صبر لأن النفس بطبيعتها تنفر عن التكاليف والمشاق، وفي العبادة تكليف ومشقة فيصبر في تصحيح نيته وتخليصها من شوائب الشرك والرياء منذ بدء العبادة، ويصبر أثناء العبادة على مشاقها، والمعصية تحتاج إلى صبر عنها إذ يزينها للعبد هوى نفسه وشياطين الجن وقرناء السوء والمعصية هدم والهدم يسير والبناء صعب.
وليس معنى هذا أن الله يريد أن يعذب عباده لا إنما يريد بهم الخير من رفع درجة، أو حط خطيئة، أو صرف أذى أكبر. يقول تعالى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [البقرة:155].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( من يرد الله به خيرا يصيب (2) منه )) (3) رواه البخاري. وعنه أيضا رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) رواه الترمذي (4).
(5) البخاري كتاب الصوم باب فضل الصوم 2/226 ، مسلم كتاب الصيام باب فضل الصيام 8/32.
(1) البخاري كتاب الزكاة : باب الاستعفاف عن المسألة 2/129 ، مسلم كتاب الزكاة : باب فضل التعفف والصبر والقناعة 7/145
(2) البطر : الطغيان عند النعمة وطول الغنى ؛ النهاية في غريب الحديث والأثر 1/135.
(2) أي يبتليه بالمصائب ليثبته عليها النهاية في غريب الحديث والأثر 3/57.
(3) البخاري كتاب المرضى والطب باب ما جاء في كفارة المرض 7/3.
(4) سنن الترمذي كتاب الزهد باب ما جاء في الصبر على البلاء 4/602.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا أما بعد:
فإن للصبر آدابا يحسن للعبد اتباعها ليحوز الجزاء الأعظم والثواب الأوفى فمنها:
الصبر عند الصدمة الأولى فلا يظهر تسخطا بقضاء الله وقدره ولا يتكلم بكلام ربما ذهب عنه أجر وجزاء وقوع هذه المصيبة والرسول يقول: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (1) متفق عليه، ومن الآداب الاسترجاع عند المصيبة أي أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون [البقرة:156].
فهو بهذا يتأدب بأدب القرآن.
ومن الآداب سكون الجوارح واللسان ، فأما البكاء فجائز فقد بكى الحبيب عند موت ابنه إبراهيم رضي الله عنه.
ومن آداب وفوائد الصبر أن يفكر في سبب مصيبته فلعلها وقعت بسبب معصية أو ذنب فضيق عليه في رزقه أو أصيب في أهله وولده أو أصابه الغم والحزن في نفسه ويتفكر أن في مصيبته هذه عدة نعم ينبغي أن يشكر الله عليها، فأولها أنها لم تكن في دينه. وثانيها أنها ربما رفعت ووقعما هو أكبر منها. وثالثها أنه إن صبر فقد فاز بمحبة الله وأجره الذي لا يعطى إلا لمن صبر، فعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي قال: (( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب (1) ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) متفق عليه (2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: يقول الله تعالى: (( ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة )) (3 ).
(1) صحيح البخاري : كتاب الجنائز، باب زيارة القبور 2/79، مسلم كتاب الجنائز باب الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى 6/ 227.
(1) الوصب : دوام الوجع واستمراره وقد يطلق على التعب وفتور البدن ، النهاية في غريب الحديث والأثر 5/190
(2) البخاري : كتاب المرضى والطب، باب ما جاء في كفارة المرض 7/2 ، مسلم كتاب الصبر والصلة باب ثواب المؤمن فيما يصيبه 16/130.
(3) البخاري : كتاب الرقاق ، باب العمل الذي يبتغى به وجه الله 7/172.
(1/680)
الصدق والكذب
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
24/1/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر القرآن الكذب ذماً له وتحذيراً منه في مائتين وثمانين آية. 2- فضيلة الصدق والدعوة
إليه ، واتصاف الأنبياء به. 3- معنى الكذب. 4- الكذب من خصال المنافقين. 5- الكذب على
الله وعلى رسوله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن ظاهرة انتشرت في بعض الناس ذكرها القرآن الكريم في مائتين وثمانين آية، إما على سبيل الذم أو على سبيل بيان سوء عاقبة من فعلها، اتخذها البعض وسيلة للتكسب واتخذها آخرون وسيلة للتفكه والتودد والتحبب، إنها – يا عباد الله – ظاهرة الكذب.
وبقدر ما تذم هذه الخصلة التي هي من أسوأ آفات اللسان تمدح خصلة الصدق إذ يقول المنان: يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:119].
ويمدح سبحانه رجالا من المؤمنين فيقول: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه... [الأحزاب:23] الآية.
ويأمر نبيه أن يدعو فيقول: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً [الإسراء:80].
ويذكر الله عز وجل نبيه ورسوله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأفضل خصاله فيقول: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً [مريم:41].
أما السنة فيقول المصطفى في الحديث المتفق عليه من رواية الصحابي عبد الله بن مسعود: (( إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا )) (2).
والكذب عباد الله هو الإخبار بالشيء خلاف ما هو عليه على وجه العلم والتعمد.
وهو كبيرة تجر صاحبها – والعياذ بالله – إلى النار كما سبق وهي خصلة تؤدي إلى الطرد من رحمة الله يقول تعالى: قتل الخراصون [الذاريات:10]. أي لعن الكذابون.
وكما يقول جل من قائل: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب [غافر:28].
وهو من خصال النفاق كما جاء في صحيح مسلم: (( آية المنافق ثلاث – وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم – إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان )) (5).
والمؤمن يمكن أن يذنب ويرتكب الكبائر لكن لا يتأتى منه الكذب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (( يطبع المؤمن على كل شيء ليست الخيانة والكذب )) (6).
وللكذب أنواع، فهناك كذب على الله وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالأول من الكبائر العظيمة إذ كيف يكذب عبد حقير على عالم بالسر وأخفى، ويكون الكذب على الله بعدم اعتقاد وحدانيته في العبادة واستحقاقه التام لها وبإنكار ما جاء به الشرع الحنيف كما يكون بعدم صدق التوبة مع الله، ويكون كذلك في الرؤيا فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ((من أفرى الفرى أن يري عينيه ما لم تر)) (1) رواه البخاري رحمه الله.
والفرية: هي الكذبة العظيمة ومعنى الحديث أن من أعظم أنواع الكذب على الله أن يقول الإنسان رأيت في منامي كذا وكذا وهو في الحقيقة كاذب، فالرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (( من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل)) (2). رواه البخاري.
وهذا عقابا له إذ لا يستطيع أحد ان يعقد بين شعيرتين كما يعقد بين حبلين.
وأما الكذب على رسول الله فهو من الذنوب الموجبة لدخول النار. أجارنا الله منها.
فقد ورد في الحديث المتواتر الصحيح قوله :: (( ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )) (3) أي: فليعلم أن مكانه محجوز له في النار.
(2) البخاري : كتاب الأدب باب قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) 7/ 95 باختلاف يسير. مسلم : كتاب البر والصلة كتاب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله 16 / 159 ، 160.
(5) مسلم كتاب الإيمان باب خصال المنافق 2/ 48.
(6) أخرجه أحمد في المسند 5/ 252.
(1) البخاري : كتاب التعبير باب من كذب في حلمه 8/ 83.
(2) البخاري : كتاب التعبير باب من كذب في حلمه 8/ 82.
(3) أخرجه البخاري : كتاب العلم باب إثم من كذب على النبى صلى الله عليه وسلم 1/ 36 ، مسلم كتاب الزهد باب التثبت في الحديث 18 / 129.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/681)
الصلاة وأهميتها
فقه
الصلاة
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على المحافظة على الصلاة والتحذير من التهاون فيها. 2- الله يأمر أنبياءه بالمحافظة
على الصلاة. 3- المحافظة على الصلاة مهما كانت الظروف سلماً وحرباً مرضاً وعافيةً.
4- مصير التهاون والمضيع للصلاة يوم القيامة. 5- أحكام مترتبة على ترك الصلاة.
6- الخشوع في الصلاة وحال المسيء صلاته. 7- صلاة الجماعة. 8- فوائد ومنافع الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فلقد اهتم الإسلام بالصلاة، وشدد كل التشديد في طلبها ، وحذر أعظم التحذير من تركها ، فهي عماد الدين ، ومفتاح الجنة ، وخير الأعمال ، وأول ما يحاسب عليه المؤمن يوم القيامة، يذكرها القرآن في دعاء الخليل عليه الصلاة والسلام فيقول: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء [إبراهيم:40].
ويأمر كليمه بها قائلا: فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [طه:13-14].
وينطق المسيح عليه الصلاة والسلام في مهده قائلا: وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً [مريم:31]. أما سيد الأنبياء والرسل فيأمره ربه قائلا: أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة [العنكبوت:45].
ويؤكد الإسلام المحافظة عليها في الحضر والسفر ، وفي الصحة والمرض ، والأمن والخوف ، والسلم والحرب ، يقول الله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً [البقرة:238]. أي فصلوا حال الخوف والحرب مشاة أو راكبين كيف استطعتم ، وحتى بدون ركوع ولا سجود بل بالإشارة والإيماء وبدون اشتراط استقبال القبلة للضرورة: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله [البقرة:115].
والصلاة هي الشعار الفاصل بين الكفر والإيمان، قال رسول الله : (( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة )) (2).
ويقول : (( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )) (3). رواه الخمسة وابن حبان والحاكم. وذكر النبي الصلاة يوماً فقال: (( من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ،ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف )) (4). أحمد وابن حبان في صحيحه.
قال العلماء ف ي توجيه هذا الحديث: فمن شغله عن الصلاة ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسته ووزارته فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف.
فلا عجب بعد هذه التأكيدات والتشديدات في نصوص القرآن والسنة أن ذهب جماعة من أئمة الإسلام إلى أن تارك الصلاة تهاونا كافر خارج عن ملة الإسلام.
ويترتب على كفر المسلم أن يفسخ عقد نكاحه بزوجته، ولا يرث ولا يورث.
ويستتاب تارك الصلاة، فإن تاب وإلا قتل – والعياذ بالله –.
وقال أئمة آخرون فقالوا: إنه عاص فاسق مقترف لكبيرة من أعظم الكبائر يخشى عليه فقدان الإيمان ، ولكن الجميع مجمعون على كفر من أنكر وجوبها على وجه العناد والاستكبار.
والصلاة التي يريدها الإسلام ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان وحركات تؤديها الجوارح بلا تدبر من عقل ولا خشوع من قلب فالله يقول: وقوموا لله قانتين.
وكان النبي غاية ما يكون من السكينة والطمأنينة والراحة النفسية عندما يكون في الصلاة إذ هو يقول:((وجعلت قرة عيني في الصلاة))
. ويقول لبلال إذا حضر وقت الصلاة: (( أرحنا بها يا بلال )) (2). وفرق بين قوله (أرحنا بها ) وبين قول البعض: " أرحنا منها " فقول النبي رغبة فيها، وقولهم رغبة عنها ونفور منها.
والصلاة المحبوبة لله هي التي تؤدى في أول الوقت فقد أجاب النبي سائلا عن أحب الأعمال إلى الله فقال: (( الصلاة لوقتها )) ويقول : (( ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة : من تقدم قوماً وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دباراً، ورجل اعتبد محرره )) (1) رواه أبو داود. ومعنى دباراً أن يصليها بعد أن تفوته بغير عذر.
ويتألم المسلم المنيب الخاشع عند رؤيته من ينقرها كنقر الديك ، ويسرع في أداء حركاتها وكأنه في قيد وأسر يريد أن ينفك منه، كيف لا يحزن المؤمن على من هذا فعله وقد قال المصطفى : ((أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته. قالوا : يا رسول الله، كيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا يقيم صلبه في الركوع والسجود)) (2) رواه أحمد والحاكم.
وعن أبي موسى قال: صلى رسول الله يوما بأصحابه ثم جلس فدخل رجل فقام يصلي، فجعل يركع وينقر سجوده ،فقال رسول الله : (( أترون هذا ، من مات على هذا ، مات على غير ملة محمد ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم )) (3) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه.
والصلاة الكاملة المرضية عند الله هي التي تؤدى في جماعة وقد ورد الوعيد والتهديد الشديد لمن يترك أداءها جماعة من غير عذر شرعي.
(2) صحيح مسلم : كتاب الإيمان باب حكم تارك الصلاه 2/70.
(3) سنن الترمذي : كتاب الإيمان باب ما جاء في ترك الصلاه 5/14 سنن النسائي كتاب الصلاة باب حكم تارك الصلاه 1/231 سنن ابن ماجه : كتاب إقامة الصلاه والسنة فيها 1/342 ، المسند 5/346.
(4) المسند 2/ 169.
(2) أخرجه النسائي في سننه : كتاب عشرة النساء باب حب النساء 7/61.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وبعد:
فإن للصلاة فوائد ومنافع عظيمة جداً هي كثيرة يكاد يستعصي على العاد حصرها، أذكر في مقامي هذا طرفاً منها :
الفائدة الأولى: فيها تجديد للطاقة الإنسانية واسترواح وخلوص من مشاغل الحياة وعنائها، لنقف بين يدي الله في خشوع وخضوع وركوع وسجود نقرأ ونسمع كلام الله ونسبحه ونحمده، ونقدسه، ونعظمه ، ونستغفره ، ونسأله ، فهي معراج لأرواحنا التي تعرج إلى الله بعيداً عن جواذب الأرض ومشاغل الحياة.
الفائدة الثانية: تنهى من يؤديها كما أمر الله بأدائها عن فعل الفواحش والمنكرات فتوزعها على أوقات اليوم تجعل صاحبها مراقبا لمولاه عز وجل فيما بين هذه الأوقات ، يقول الله عز وجل : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [العنكبوت:45].
الفائدة الثالثة : حل للضوائق ، وتفريج للكرب ، وتنفيس للهموم ، وقضاء للحوائج، فالله يقول: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون (2) [البقرة:45-46].
الفائدة الرابعة: الركوع والسجود ذل للإنسان في الصلاة يمد المصلي بكل معاني العزة الحقيقية إذ هو لا يركع إلا لملك الملوك المهيمن على الجبابرة، وفي القرب إلى الله حال السجود والركوع من معاني الأنس بالله وبمعيته مالا يعلمه إلا الخاشعون المنيبون.
الفائدة الخامسة: حركات الصلاة تعود على المصلي بفائدة صحية في بدنه، والتهيؤ لها يجعل المصلي دائما طاهراً نظيفاً بعيداً عن الأمراض.
الفائدة السادسة: تحري القبلة والتوجه إليها يعوّد المسلم على معرفة الاتجاهات ، وجغرافية المكان، كما أن في اتحاد المسلمين في اتجاههم إلى قبلة واحدة فيه ما فيه من التعدد بمعاني الوحدة والاعتصام.
الفائدة السابعة: تحري أوقاتها يعودنا على النظام والدقة في المواعيد. وغير هذه الفوائد كثير.
إنه ما حرم من هذه الفوائد العظام إلا بسبب تهاونه في أداء صلاته أو بسبب غفلته ، وتراص جنود إبليس من الجن والإنس حوله ، أو شعوره بالحرج في أدائها لاسيما إن كان في محفل عام، أو بين قوم لاهين ، أو كان مسافراً في مطار، أو راكباً في طائرة أو قطار. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أعيذكم ونفسي أن نكون ممن عناهم الجليل بقوله: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ً إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً [مريم:59-60].
(2) سورة البقره آية (45 ، 46 ).
(1/682)
الطلاق والتسرع فيه
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, المرأة
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
- ظلم المرأة في أنظمة الجاهلية الأولى. 2- لم كان الطلاق من حقوق الزوج لا الزوجة.
3- علل تمنع دوام الحياة الزوجية. 4- تلاعب بعض الرجال بألفاظ الطلاق في المجالس
والمهاترات. 5- الطلاق التعسفي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن الله تعالى يقول: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [البقرة:229].
فالإسلام شرع لنا الطلاق وراعى فيه ضرورات الحياة وواقع الناس في كل زمان ومكان، كما أنصف المرأة من فوضى الطلاق التي كانت سائدة في عرب الجاهلية حيث لا عدد للطلقات ولا عدة للمطلقة ولا حقوق ولا التزامات لهما.
كما أنقذ الإسلام المرأة من الظلم إذ لا ترى في شرائع بعض الغربيين تشريع الطلاق مما يجعل المرأة مستمرة تحت ظلم زوجها إن كان ظالماً أو في انتظاره أبداُ إن كان غائبا غيبة منقطعة لا يعلم مكانه أو غائبا في مكان معروف متعمداً قاصداً الإضرار بها.
وجعل الله الطلاق بيد الرجل لأنه حامي البيت والقائم بواجباته من طعام ونفقة وكسوة، وهو أولا دفع المهر وتكاليف العرس والرجل في الأعم الأغلب أضبط أعصاباً، وأكثر تقديراً للنتائج في ساعات الغضب والثورة، فهو لا يقدم على الطلاق إلا عن يأس من إمكان سعادته الزوجية مع زوجته، وعن علم بما يجره الطلاق من خسارة عليه.
فنراه لا يطلق زوجته، إلا بعد استحكام خلاف وعناد منها، أو لتضييعها فرائض دينها وعدم محافظتها على نفسها، فالرجل المسلم يحب أن يكون عرضه شريفاً عفيفاً لا تطمع في مسه الأيدي مستحكما فيه.
والعلة الدافعة للطلاق قسمان : علة جنسية تمنع الاتصال الجنسي، وأخرى معدية ضارة أو منفرة بحيث لا يمكن المقام معها إلا بضرر.
ولما كان الأصل في الزواج أن يكون لسكن النفس واطمئنانها إذ يقول الله عز وجل: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم:21]. جاز له هنا أن يطلقها كما جاز لها أن تطلب الطلاق إذا ظهر مثل هذا المرض في زوجها.
ونرى اليوم مع الأسف بعض الرجال ممن لم يقدر إكرام الله له بجعل الطلاق بيده يتسرع في إيقاع الطلاق لأتفه الأسباب، غير ناظر إلى ما يجره ذلك من نتائج وخيمة عليه وعلى زوجه وذريته، فهو إن باع أو اشترى حلف بالطلاق، وإن أراد أن ينزل أحداً على رغبته طلق، أو أراد منع زوجته من شيء حلف وطلق ،بل ربما مازح بعض صحبه بالطلاق، أو راهن به، فيعود إلى بيته والمسكينة منتظرة إياه، متزينة له، معدة طعامه، فيروعها ويقول لها احتجبي عني والحقي بأهلك فقد طلقتك.
وربما ثار فيطلق ثلاثا بلفظ واحد متكرر غير آبه لذلك ولا مهتم أنه طلق طلاقاً بدعياً ناسياً أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، فإذا ما هدأت نفسه، وتذكر صيحات أطفاله يركضون ويعبثون ببراءة في جنبات البيت، وتذكر ما كان غائبا عن ذهنه حين الغضب من صفات زوجته الحميدة، إذا ما تذكر كل هذا عض أصابع الندم وذرف دموع الحسرة والألم وسارع يلتمس الفتاوى لإرجاعها ويتتبع الآراء الضعيفة مذلا نفسه مضيعاً وقته، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن الرجال من يطلق للمتعة فهو يطلق واحدة ويتزوج أخرى لمجرد الاستمتاع بزوجة جديدة مستغلا ما خوله الله وأعطاه من رزق وجاه استغلالاً سيئاً، وهو لا يعلم كيف ينظر بعض أفراد المجتمع إلى المرأة المطلقة وكم تظلم ويساء بها الظن.
ومن أشد أنواع الطلاق، الطلاق التعسفي إذ هنالك حالتان يكون الطلاق فيهما تعسفاً وعدواناً.
أولها: المريض مرض الموت الذي يطلق زوجته طلاقاً بائناً ليحرمها من إرثها منه يقترف عدواناً لا يرضاه الله وتأباه المروءة وهي بالرغم من تطليقه إياها ترث منه ولو مات بعد انتهاء عدتها ما لم تتزوج زوجاً آخر قبل موته.
والحالة الثانية من حالات طلاق التعسف أن يطلقها لسبب غير معقول وقد تكون فقيرة أو عجوزاً لا أمل من زواجها مرة ثانية، فبقاؤها من غير زوج ينفق عليها إضرار بها، ولؤم في معاملتها وهو آثم بلا شك فيما بينه وبين الله تعالى إذ استغل زهرة شبابها، ولم يكن عندها ما يحفظ لها كرامتها.
لقد أكرم الحبيب امرأة عجوزاً زارته، ولما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال: (( إنها كانت تغشانا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان )) (1).
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 1 / 16. كتاب الإيمان / حسن العهد من الإيمان.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وبعد:
فإن الله حث على تزويج الأيم وهي التي فقدت زوجها سواء بالموت أو الطلاق يقول جل من قائل: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم [النور:32].
فلا ينبغي لولي المتوفى عنها زوجها، أو المطلقة طلاقاً بائنا لا رجعة فيه أن يمانع إذا جاء الخاطب الكفء في تزويجه إياها امتثالاً لأمر الله سبحانه ولعدم الإضرار بموليته المسكينة.
فإن المسارعة في تزويج الأيم أولى من المسارعة في تزويج البكر، إذ البكر يكثر خطابها بعكس الأيم، كما وأن الأيم قد ذاقت طعم النكاح ويخشى عليها من الفتنة، ثم إنها موضع سوء ظن بعض الجهلة.
أما المطلقة طلاقاً رجعياً فلا يجوز لوليها إذا رغبت هي وزوجها في الرجعة أن يمانع بحجة تأديبه أو تأديبها يقول تعالى :
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:232].
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى الله أن يمنعوها.
وقد روي أن هذه الآية نزلت في ( معقل بن يسار المزني) وأخته.
روى الترمذي عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله فكانت عنده ما كانت. ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب. فقال له: يالكع (1) أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك. قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن [البقرة:232]. إلى قوله تعالى: وأنتم لا تعلمون فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربي وطاعة ثم دعاه فقال : أزوجك وأكرمك (3).
(1) لكع : نداء للئيم، وقيل الوسخ، وقد يطلق على الصغير، النهاية في غريب الحديث والأثر 4 / 268.
(3) سنن الترمذي : كتاب التفسير، باب ( ومن سورة البقرة ) 5 / 216.
(1/683)
العبر من زلزال إيران وحادث نفق المشاة بمنى
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, أعمال القلوب
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
24/1/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البهائم هي التي لا تعتبر ولا تكترث بما يكون حولها من أحداث. 2- فداحة الخطب في
الحدثين. 3- بيان عجز الإنسان وضعفه وقرب الموت إليه. 4- المواقف والأهوال العظيمة يوم
القيامة. 5- الأمن من الله في الدنيا ينقلب خوفاً يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ياعباد الله، واعلموا أن المسلم جزء من عالمه وجزء من مجتمعه يتفاعل مع حوادثه وينظر بتأمل ويتفكر ويتدبر في مجرى ومسارح الأحداث وإلا كان حاله كحال البهائم ، والمسلم يمعن في المقام الأول بأحوال إخوانه المسلمين قبل غيرهم يسره ما سرهم ويسوؤه ما ساءهم ، يفرح لفرحهم ويترح لترحهم، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
نقلت إلينا الأخبار نبأ حادثين أليمين أصابا المسلمين، الأول بديار الفرس بإيران والثاني بمشعر من المشاعر الحرام بمنى جوار بيت الله الحرام.
الأول زلازل مدمرة وخسوف مهلكة ابتلعت عشرات القرى وقتلت عشرات الألوف من المسلمين ، ربى عدد القتلى على أربعين ألف مسلم إيراني، قرى بأكملها بسكانها ، وبهائمها، وسياراتها ، وشوارعها ، وحوانيتها ، وحقولها ، ومزارعها، وأسواقها، ومصانعها ابتلعتها الأرض بأمر ربها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والحادث الثاني : قوم متوجهون لإتمام نسكهم متلبسين بإحرامهم يرجون رحمة ربهم يؤملون الرجعة إلى أقوامهم وديارهم، فالهدايا قد اشتريت ، والتذاكر قد ضمنت، والمقاعد في البر أو البحر أو الجو قد حجزت ولم يبق من النسك إلا تمامه ، والصحة موفورة فيأتي أمر الله فيموت أكثر من ألف وأربعمائة حاج مسلم بغير سكين أو سلاح ، وبغير مرض أو زلزال وبغير حادث أو افتعال ، وإنما بأبسط ما يمكن تصوره احتباس هواء وازدحام ، مات الرجال والنساء والشباب والشيوخ والمسن والأسن، وطار النبأ الحزين ليصيب جميع جنبات العالم ال إسلامي الكبير ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لنا ياعباد الله مع هذين الحادثين محطات تأمل ومنازل تفكر واعتبار منها :
بيان عجز الإنسان وضعفه وإحاطة قوة الله وقدرته به من كل الجهات من فوقه ، ومن تحته ، وفي أرضه ، وسمائه ، وهوائه ، وكأني بملائكة الموت قد نزلت على أرض إيران وعلى جنبتي نفق الموت بمنى تنتظر الأجل المحتوم ، والموعد المرسوم ، لقبض الأرواح واستيفاء الأعمار، ما أغنت عن الناس أجهزة ولا استعدادات ، ولا عمائر أو ثكنات، ولا جند أو حرس إنما هي لحظات فوقع الحادث الأليم وألم بالناس القضاء.
بيان عظيم بطش الله وقهره وجبروته وشدته وقوة محاله وعظمته: إن بطش ربك لشديد [البروج:12]. وما قدروا الله حق قدره وال أرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [الزمر:67].
كل ذلك ليرعوي الضالون ، ويتفكر الغافلون ، فأين المؤمن بالقدر؟ وأين الالتجاء من درك القضاء ؟!
بيان أن الموت أقرب لأحدنا من شراك نعله، فبالله عليكم هل كان أحد ممن أصيب يدور بمخليته أنه عما قريب جد قريب سينتقل من دار إلى دار.
قال سلمان الفارسي : أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث : ضحكت ممن تعامل للدنيا والموت يطلبه، وغافل عمن لا يغفل عنه ، وضاحك ملء فيه لا يدري أسخط ربه أم رضي.
وأبكاني ثلاث : فرقة الأحبة محمد وحزبه وهول المطلع عند غمرات الموت والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار أصير أم إلى الجنة.
ما حصل إنما حصل في الدنيا بل في بعض من أجزاء الدنيا من الأرض فكيف بالله: إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت [الانشقاق:1-4].
وكيف بالله: إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت [التكوير:1-2]. كيف بالله: إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت [الانفطار:1-4]. قل صدق الله [سورة آل عمران:95] وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير [النحل:77].
لا ينبغي أن يأمن مكر الله بر ولا فاجر إذ لا يجمع الله على عباده أمنين ولا خوفين، فمن أمن الله في الدنيا خافه في الآخرة ومن خافه في الدنيا أمنه في الآخرة: أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض [النحل:45]. ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير [الملك:15-16]. استشعار نعمة الله وفضله بنجاة الناجين وسلامة الباقين والوقوف عند أمر الله وقدره وحقيقته صدقا لا كذبا أو تلفيقا وتلبيسا: وكان أمر الله قدراً مقدوراً [الأحزاب:38]. إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً [الطلاق:3].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/684)
الغاية التي خلقنا من أجلها
التوحيد
الألوهية
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
20/4/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلق البشر عبادة ربهم. 2- معنى العبادة الشامل الذي أراده الله منا.
3- الإخلاص لله يجعل كثيراً من الأفعال الاجتماعية عبادة. 4- أمثلة لذلك من كلام النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى بين الغاية التي من أجلها خلقنا فيقول :
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56]. وقال نوح وغيره من الأنبياء لأقوامهم: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [الأعراف:59].
وبين الله عز وجل أن بعثه الرسل للأمم من أجل العبادة: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة [النحل:36].
ويأمر سبحانه رسوله بعبادته حتى الموت فيقول: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [الحجرات:99].
وعندما يصف الله حبيبه وخليله وصفوته من خلقه في أكمل أحواله وفي مقام الاصطفاء بالعبودية يقول: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله [الإسراء:1].
فما هي هذه العبادة التي خلقنا من أجلها وأمرنا في نصوص كثيرة بفعلها ؟
يظن بعض الناس أن العبادة لا تتعدى نطاق ركعات يصليها الفرد وأيام يصومها ، أو فريضة حج يؤديها ، أو زكاة مال يخرجها ؟؟! وهذا الفهم لعمرو الله فهم فاسد للعبادة حرفه أعداء الإسلام عن طريق غزو ديار المسلمين عسكريا، فبقوا قابعين ضمن جدران المساجد وفي عرصات المشاعر المقدسة فقط ليقصروهم عن قيادة البشرية جمعاء.
إن العبادة اسم جامع لكل ما يحب الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام وتربية الأولاد، والوفاء بالعهود إلى آخر مجامع الأخلاق والأعمال ومحاسنها، فهذه كلها من العبادة لا بعضها فقط.
لقد أفسح الإسلام مجال العبادة ، ووسع دائرتها بحيث شملت أعمالاً كثيرة لم يكن يخطر ببال الناس أن يجعلها الدين عبادة وقربة لله ، إن كل عمل اجتماعي يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادات ما دام قصد فاعله الخير لا قصد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس، كل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون أو يخفف به كربة مكروب ، أو يضمد به جراح منكوب، أو يتبرع له ببعض من دمه، أو يسد به رمق محروم، أو يعين به مظلوما، أو يقضي به دين غارم مثقل، أو يهدي حائراً، أو يؤوي غريبا، أو يدفع به شراً عن مخلوق، أو أذى عن طريق، أو يسوق إحسانا لحيوان، كل واحد مما سبق عبادة مقربة إلى الله إذا صحت فيها النية وكان موافقا لكتاب الله وسنة مصطفاه.
والنصوص في بيان هذا كثيرة أكثر من أن نحصيها في مثل هذا المقام.
ويروي لنا النبي مشهداً من المشاهد البديعة يوم القيامة في صورة حوار بين الله وعباده أن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين. قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه. أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني. قال: يارب كيف أسقيك وأنت رب العالمين. قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ) (1) رواه مسلم.
إن الإسلام لا يستحب هذه الأعمال فقط، وإنما يدعو إليها ويأمر بها فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : (( سألت رسول الله ماذا ينجي العبد من النار ؟ قال الإيمان بالله. قلت: يا نبي الله مع الإيمان عمل؟ قال : أن ترضخ مما خولك الله ( أي تعطي مما ملكك الله ) قلت: يا نبي الله فإن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ ؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
قلت : فإن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ؟ قال : فليعن الأخرق ( وهو الجاهل الذي لا يعلم صنعة ولا يقدرعلى تعلم صنعة ) قلت : يا رسول الله رأيت إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مظلوما. قال : ما تريد أن تترك لصاحبك خيرا ، ليمسك أذاه عن الناس. قلت : يا رسول الله أرأيت إن فعل هذا يدخل الجنة؟ قال: ما من مؤمن يطلب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة )) رواه البيهقي.
من هذا الحديث نعلم أن الإسلام لم يخص طائفة معينة من الناس بالعبادة بل الجميع له سبحانه عبيد، فلم يجعل العبادة مالية فقط فينفرد بها الأغنياء ، ولا بدنية فينفرد بها الأقوياء، ولا ثقافية علمية فيختص بها العلماء. بل كل إنسان يؤدي عبادة على قدر طاقته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه.
(1) صحيح مسلم ، ك: البر والصلة والآداب : فضل عيادة المريض 16/125.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده ، وأشهد أن لا إله إلا الله يوفق من أطاعه لهداه ويذل ويخزي من عصاه وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ورحمته المهداة، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيراً أما بعد :
فمما سبق يتضح لنا شمول وعموم معنى العبادة ، وأن الأعمال العادية كذلك يمكن أن تتحول إلى عبادة ولكن بتحوير بسيط في النية ، فالذي يأكل الطعام يقوم بأمر عادي ، أما إن حوله في نيته فجعل تناول الطعام ابتغاء إعفاف نفسه وتقويتها للعبادة وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون أكله وهضمه للطعام عبادة، والذي يعمل لكسب معاشه يقوم بعبادة بشرط أن يكون العمل مشروعا لا محرما، فلا يعمل والعياذ بالله في جهاز يتعامل بالربا والفائدة، ولا في آخر يتخذ من إلهاء الناس وإفساد أخلاقهم بالباطل مكسبا ومغنما ، وبشرط حسن النية وأن يؤدي العمل بإتقان وإحسان يقول الحبيب : (( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه )) رواه البيهقي في شعب الإيمان، وبشرط التزام دين الله فلا يظلم ولا يخون ولا يغش، مع الموازنة بين عمله الدنيوي وبقية فروض الدين.
ويجمع جميع هذه الشروط كلمتان إخلاص النية واتباع الكتاب والسنة.
إن الإنسان ليأتي أهله ويقضي منها وطره ويكون له أجر بشرط استحضار النية كذلك، فينوي رضى ربه بإعفاف نفسه وغض بصره ، وتحصيل الذرية الصالحة التي يكون منها العالم العامل، والمجاهد في سبيل الله ، والسائر برضوان الله ، والأنثى التي تصبح أماً فيما بعد تنجب العالم والمجاهد ، والأم كذلك.
وهو بهذا يكثر أمة النبي الخاتم الذي يقول: ((وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر )) رواه مسلم (1).
بعد هذا كله يتضح لنا خطأ من يقول: "ساعة لربك وساعة لقبلك " فالوقت عند هذا القائل قسمان : قسم يصلي فيه ويصوم، وآخر ينسى ربه – والعياذ بالله – فيه وقد يعصيه.
فالأوقات كلها لله بشرط حسن النية والاتباع، فأعطى الإسلام الأجر والثواب حتى على الجماع وعلى ترويض الخيل أمامه وبين يديه.
(1) صحيح مسلم : كتاب الزكاة ، باب كل نوع من المعروف صدقة 7/92.
(1/685)
المخدرات في التشريع الإسلامى
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها. 2- حرمة أنواع المخدرات ودليله من
القياس بجامع علة الإسكار. 3- نقل أقوال العلماء في تحريم أنواع من المخدرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يا عباد الله: فقد جاءت الشريعة لحماية خمسة أمور عظيمة هي: الدين والعقل والنفس والعرض والمال، فكل ما يتلف هذه الأمور قد تناوله الشرع بالتحريم، والناظر إلى شرائع الله الكثيرة يراها جميعاً تنصب لحفظ هذه الأمور الخمسة، الدين والعقل والنفس والعرض والمال.
وقد يظن ظان أن الخمر وحدها حرام بنص الكتاب الكريم والسنة المطهرة.
وقد يستحل بعض الناس الحشيشة، والأفيون، والإبر المخدرة، والحبوب المنومة، والهيروين، والكوكايين وغير ذلك، استناداً إلى أنه لا يوجد نص في كتاب الله وسنة رسوله يحرمها بأسمائها، والواقع غير ذلك فقد قال من أعطي جوامع الكلم: (( كل مسكر حرام)) (1). رواه مسلم وقال : (( ما أسكر كثيره فقليله حرام)) (2) ولم يفرق بين نوع ونوع لكونه مأكولاً أو مشروباً.
وروى مسلم كذلك عن أم سلمة رضي الله عنها قولها: (( نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر )) (1) فكل ما يدعو إلى الخمول والكسل وكل ما يدفع بالإنسان إلى التخدير وغيبوبة الوعي فهو حرام.
تصد المخدرات عن الصلاة وعن ذكر الله وتغيب العقل الذي كرم الله به الإنسان، وإذا غاب العقل لم تحفظ النفس وضيع العرض، يبيع الرجل أملاكه، ويستهين بعرضه، ويبذله للمروجين، فيتعلم الدياثة، ويفقد المروءة من أجل الحصول على المخدر.
يقول صاحب كتاب الدر المختار: (ويحرم أكل البنج والحشيشة والأفيون لأنه مفسدة للعقل ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ولأن من أكثر منه أخرجه إلى حد الرعونة، وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم). ونقل ابن حجر رحمة الله عليه عن بعض العلماء: (أن في أكل الحشيشة مضرة دينية ودنيوية).
وأما ابن تيمية فقد نقل عنه أن من قال بحلها (أي بحل الحشيشة والمخدرات) فقد كفر وأقره على ذلك علماء مذهبه من الحنابلة.
ونقل عن الجامع وغيره أن من قال بحل البنج والحشيشة زنديق مبتدع.
يقول الإمام ابن القيم: إن الخمر يدخل فيها كل مسكر مائعاً كان أو جامداً، عصيراً أو مطبوخاً، فتدخل فيها لقمة الفسق والفجور أي: الحشيشة لأن هذا كله خمر بنص قول رسول الله : (( كل مسكر خمر )) (2) رواه مسلم وغيره.
يقول تعالى: يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتبنوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [المائدة:90-91].
(1) صحيح مسلم : كتاب الأشربة ، باب بيان أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام13/170.
(2) سنن النسائي : كتاب الأشربة باب تحريم كل شراب أسكر كثيره 8/301. وسنن الترمذي 4/192 ، رقم الحديث 1865.
(1) أخرجه أبو داود في سننه : كتاب الأشربة ، باب النهي عن المسكر 3/32.
(2) صحيح مسلم13/172. أخرجه أبو داود 3/327 رقم الحديث 3680 مسند أحمد 2/16.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/686)
الهجرة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة النبي في مكة وأذى قريش له ولأتباعه. 2- رسول الله يعرض نفسه في الحج على
قبائل العرب. 3- استجابة الأنصار للدعوة. 4- هجرة الصحابة إلى المدينة. 5- هجرة النبي. 6- استقبال الأنصار له. 7- الدعوة إلى مساعدة ومد يد العون للمهاجرين المسلمين
الهاربين من أوطانهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا أيها المسلمون : تمر علينا هذه الأيام ونحن نفتتح عاماً هجرياً فتذكرنا بحدث من أهم أحداث السيرة سيرة رسول الله وأصحابه التي ينبغي أن نقف على وقائعها في كل وقت وأن نقتدي من خلالها برسولنا في إيمانه وصبره وفي جهاده وأخلاقه وفي ثباته وتضحيته وفي صفاته كلها : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب:21].
أيها الأخوة في الله:
لقد مكث رسول الله بعد بعثته بمكة ثلاثة عشر عاما يوجه الناس إلى عبادة الله لينقلهم من ظلمات الشرك والجاهلية والخرافة والدجل إلى نور الإيمان وسعادة الدنيا والآخرة ، ولكن المشركين في مكة وقفوا في وجه هذه الدعوة المباركة وما تركوا من وسيلة للقضاء عليها إلا واتبعوها ، من سخرية وغمز وإيذاء واضطهاد له ولأصحابه رضوان الله عليهم.
ولكن هذه الطائفة المؤمنة صبرت وضحت وثبتت على هذا الدين حينما اقتنعوا بأن الجنة جزاء الصابرين وعندما آمنوا إيمانا خالطت بشاشته قلوبهم.
واشتد أذى المشركين، والرسول مستمر في البحث عن كل وسيلة مشروعة لينصر بها هذا الدين وينشره في الأرض، وكان ينتهز فرصة الحج ليعرض الإسلام على القبائل ويسألها النصرة والمعاونة، وفي أحد المواسم أراد الله عز وجل لنبيه أن يقابل نفراً من الخزرج من المدينة فاستمعوا إليه وآمنوا به، وفي العام القادم بايعته مجموعة أخرى منهم على نصرته وحمايته، وبذلك تكونت للإسلام قاعدة في المدينة.
وجاء الإذن والأمر من الله للمؤمنين بالهجرة إلى المدينة، فصار المسلمون يخرجون تباعاً من مكة ويلتحقون بإخوانهم الأنصار في المدينة.
وأحست قريش بخطر هذه الهجرة وخافوا أن يخرج رسول الله فاجتمعوا وتشاوروا واتفقوا على قتله: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك [الأنفال:30].
ونجى الله رسوله حيث خرج هو وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه إلى غار ثور بأسفل مكة، وبقيا به ثلاث ليال تعمية على المشركين وعملاً بالأسباب ، والعمل لا ينافي التوكل على الله عز وجل.
وانطلق المشركون في البحث عنه ووصلوا بالقرب من الغار ويسمع أبو بكر رضي الله عنه وقع أقدامهم فيضطرب خوفاً على رسول الله لا خوفاً على نفسه ويقول : يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا ، لكن الرسول يبقى ثابتاً متصلاً بربه عز وجل واثقاً بنصره ومعيته ويقول عز وجل : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].
ووصل الرسول إلى المدينة واستقبلته بشوق وفرح ، وهناك اجتمع المهاجرون والأنصار وتكون بهم المجتمع الإسلامي الأول الذي رفع راية الإسلام فيما بعد وأخضع تحتها ملوك الفرس والروم.
أيها المسلمون:
لقد اتضحت في هذه الهجرة معالم الإيمان الصادق حينما يثبت في النفوس ، فلقد ضحى المهاجرون رضوان الله عليهم بأموالهم وتجارتهم ومساكنهم في مكة وتركوها في سبيل أن يستعلي إيمانهم وأن يتمكنوا من تطبيق منهج ربهم عز وجل كما صبروا من قبل على الإيذاء والاضطهاد والسخرية في مكة في سبيل أن يثبتوا على الحق الذي أمنوا به واقتنعوا به: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله [البقرة:207].
أما الأنصار في المدينة فقد قدموا أكبر المثل في الإيثار والأخوة والمحبة في الله عز وجل، فقد استقبلوا إخوانهم المهاجرين وآووهم دون سابق معرفة سوى الاجتماع على فكرة الإيمان ، وفتحوا لهم قلوبهم قبل بيوتهم، وكان الواحد منهم يأخذ أخاه من المهاجرين فيعرض عليه أن يقتسم معه ماله ومسكنه وزاده وتجارته، والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9].
فلنتق الله يا عباد الله لنستفد من هذه الحادثة العظيمة والقدوة في الثبات على دين الله مهما كانت الإغراءات والعقبات، والتضحية من أجله والعمل لإعلاء رايته والتمكين له في الأرض، وفي الشعور بالأخوة الإيمانية لكل من يحمل عقيدة الإسلام ومنهج الإسلام ، ومد يد المساعدة بكل ألوانها إلى إخواننا الذين يلاقون عنت الكافرين وإيذاءهم ورغبتهم في القضاء على دين الله في الأرض.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/687)
بمناسبة اقتحام أعضاء الكنيست للمسجد الأقصى
العلم والدعوة والجهاد, فقه
المساجد, المسلمون في العالم
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
12/5/1406
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حوادث تكررت لتدنيس المسجد الأقصى. 2- مخطط هدم الأقصى وإقامة الهيكل. 3- زعم
اليهود بأحقيتهم بالقدس وفلسطين. 4- المسلمون في فلسطين يردون على العدوان بصدورهم
العارية. 5- صور من الأحداث. 6- محاولاة لتهويد القدس. 7- محاولاة هدم ونسف الأقصى.
8- لمحة مختصرة عن تاريخ القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فلقد تواترت الأنباء في الآونة الأخيرة عن اقتحام اليهود للمسجد الأقصى وقبة الصخرة ، وتصدى أهلنا وإخواننا العزل في الأرض المحتلة لهؤلاء اليهود واشتبكوا معهم ليصدوهم عن جريمتهم النكراء، ولم تكن هذه الهجمات هي الأولى التي يقوم بها اليهود منذ احتلال القدس عام 1967، كما لم يكن التصدي لها هو الأول من نوعه من قبل جماهيرنا المسلمة المؤمنة هناك في فلسطين السليبة، ولكن الملفت للنظر هذه المرة أن هذه الهجمات لم يقم بها أفراد معتوهون كما كانت تزعم اليهود ولا منظمات متطرفة، وإنما هم أعضاء الكنسيت الإسرائيلي وأعضاء من الحكومة الإسرائيلية.
لقد تقدم في الأيام الماضية عشرة من أعضاء الكنيست مجموعة تضم (35) يهودياً ليدنسوا المسجد الأقصى وهم ينشدون أناشيد الحقد الذي يمتلئ بها تلموذهم وتزخر بها بروتوكولاتهم المسماة ( بروتوكولات حكماء صهيون ).
دخلوا إلى مسرى الرسول وأولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين جهاراً نهاراً ، وعلى مسمع المصلين وأمام أبصارهم، ثم تقدم في اليوم التالي وزير الحرب السابق ووزير التجارة الحالي سفاح صبرا وشاتيلا أربيل شارون ليكرر نفس ما فعله أعضاء الكنيست هؤلاء وهو الخبيث الذي طالما نادى بالخلاص من المسلمين العرب سواء بالطرد أو الإبادة لتكون فلسطين خالصة لليهود، وهذا يعني أن مخطط هدم المسجد الأقصى وإقامة ما يسميه اليهود بهيكل سليمان مكانه قارب التنفيذ.
إن هذه المحاولات لتزيد من وضوح وبيان النفسية اليهودية وعدائها المتأصل للإسلام والمسلمين ولتبين أن كل دعوى للسلام معهم باطلة.
يدفعهم لنقض العهود ويدفعهم لنقض تلك المحاولات خلقهم الخبيث، فهم المشهورون بنقض العهود، ويدفعهم كذلك إلى نقضها عداوتهم الشديدة للإسلام والمسلمين: لتجدن أشد الناس عدواة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا [المائدة:82].
وإليكم معشر الإخوة البراهين تلو البراهين من واقع اليهود الحالي، فهذا وزير خارجيتهم يقول إثر الاعتداء الأخير على الأقصى يقول : "إن على الجميع عدم المضي في التوهم بأن علما آخر غير العلم الإسرائيلي قد يرفع فوق الحرم القدس الشريف"، ثم يستطرد قائلا : " إنه لا ضرورة بالنسبة للإسرائيليين للقيام بمظاهرات من أجل إثبات حقيقة كون القدس والحرم القدسي جزءاً لا يتجزأ من دولة إسرائيل، وهذا رئيس وزارتهم يقول مؤخراً : " إن سيادة دولة إسرائيل على كل أجزاء القدس ومنها الحرم واقع قائم لا رجعة فيه ".
وهذا وزير صحهتم الحالي وأحد قادتهم العسكريين في الماض ي يقول: " إن هناك ضرورة لضمان حق كل يهودي في الدخول إلى ساحة حرم المسجد الأقصى " ، وهذا مجرم آخر من أكابر مجرميهم يقول : "على المسلمين إعادة منطقة جبل البيت، وهو الاسم الذي يطلقونه على المسجد الأقصى إلى أيدي إسرائيل لإقامة مركز يهودي فيها "، وعبارة مركز يهودي هي عبارة مخففة، فالهدف هو هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم مكانه، إن هذه الاعتداءات الصهيونية على المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة ليست جديدة ولن تكون الأخيرة، إنها الحقيقة، إنها حلقة من مسلسل التآمر على المقدسات الإسلامية في فلسطين، والهدف من هذه الاعتداءات هو جس النبض واستكشاف ردود الفعل عربياً وإسلاميا على كافة المستويات في العالم الإسلامي، يريدون أن يروا هل ما يزال عند المسلمين حرص على مقدساتهم أم انغمسوا في لذاتهم وشهواتهم ونسوا قضاياهم؟ يريدون أن يعرفوا هل ينتبه المسلمون إلى ما يفعله اليهود بمسرى رسولهم أم حال أغلبهم كما قال الشاعر :
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
ويريدون أن يعرفوا أفعالهم الشنيعة تلك هل هناك بواعث انتفاضة إسلامية عالمية ترد الحق إلى نصابه أم أن النكبات تلو النكبات على المسلمين أضعفتهم عن المطالبة بحقوقهم فضلا عن القتال والجهاد في سبيلها؟ وبحسب ردود الفعل ستكون الخطوة اليهودية القادمة.
إن إخواننا داخل القدس العزل من كل سلاح إلا سلاح الإيمان وأكرم به من سلاح لم يتركوا اليهود يعيثون فسادا [ وتدنيسا داخل مسجد القدس بالمصلين الذين يؤمونه للصلاة وانتهاء بالمارة وأهل المدينة المقدسة والمدن والقرى والمخيمات البعيدة ].
لقد تنادى الناس وعلى رأسهم الشباب المسلم وتصدوا بأجسادهم لليهود المعتدين المحميين بقوات الجيش والشرطة اليهودية، واشتبكوا معهم بالأيدي والعصي وقضبان الحديد وما وقعت أيديهم عليه من أدوات المقاومة ، وركزوا ضرباتهم على أعضاء الكنيست اليهودي، فأصيب بفضل الله أحدهم بإصابات خطيرة ، كما تعرض عضو آخر من أعضاء الكنيست لعدة لكمات من المدافعين المسلمين، وكان مؤذن المسجد قد نادى(حي على الجهاد) فهتفت الجماهير (نفدي المسجد الأقصى بأرواحنا)، فاشتبكت مجموعة منهم مع المهاجمين ، والتفت مجموعات أخرى حول المسجد من الخارج ، واشتبكت مع الجنود الصهاينة، وتحدت جماهير المسلمين حصاراً فرضته قوات العدو على مدينتي الخليل والقدس، وانتفضت الجماهير في مخيم الأمعرى القريب من رام الله، وهاجم سكان القدس دوريات وجنود العدو وما يسمى بحرس الحدود بالحجارة والزجاجات الحارقة، وأصيب العديد من الشباب والفتيان واعتقل المئات من الشباب المسلم.
إن أحلام اليهود ومخططاتهم لهدم المسجد الأقصى وتحويله إلى هيكل ظهرت منذ احتلالهم للقدس عام 1967 م ، حيث عقد مؤتمر لحاخامات اليهود في القدس تحدث فيه وزير الأديان الصهيوني حينئذ فقال : " إن جبل البيت هو لنا بحكم الشراء لأن أبانا إبراهيم اشتراه، وبحكم الاحتلال لأن الجيش الإسرائيلي يحتل أورشليم الآن : لابد أن نعيد الهيكل على جبل البيت.
ولقد جرت محاولات سابقة لحرق الأقصى عام 1969م، وجرى اقتحام المسجد الأقصى وقتل المصلين فيه عام 1982م وجرت محاولات لنسفه عام 1984، ولكن الله نجى مسجده من كيد الكائدين ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [الأنفال:30].
ولقد أمعنوا في الحفر أسفل المسجد الأقصى بزعم التنقيب عن آثار الهيكل ولم يعثروا على شيء ، وقد تضاربت آراء علماء الآثار وحاخاماتهم حول مكان الهيكل، فالبعض يزعم أن الأقصى المبارك هو موقع الهيكل الصحيح وأن صخرة المعراج كانت حجر الأساس للهيكل الأول، ويطلق اليهود على حائط البراق نسبة إلى البراق التي ركبها النبي في إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى يطلق اليهود على هذا الحائط اسم (حائط المبكى) زاعمين أنه من بقايا الهيكل متجاهلين أن الهيكل الأول الذي بناه سليمان عليه السلام عام (1005 ق. م) قد هدمه بختصر في عهد الكلدانيين عام (587 ق.م) ، ومتجاهلين أيضا أن الهيكل الثاني الذي بناه هيرودس عام (018 ق.م) قد هدمه تيطس الروماني عام (70 م)، وأزال آثاره بالكامل هدريان عام (135م).
فأي هيكل هذا الذي تزعم يهود أنها تبحث عنه وهذا التاريخ يشهد بكذبهم وافترائهم: وذلك إفكهم وما كانوا يفترون [الأحقاف:28].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/688)
حقيقة الصيام
العلم والدعوة والجهاد, فقه
التربية والتزكية, الصوم
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مَقدَم شهر رمضان 2- سِمات شهر رمضان 3- النفس الأمّارة بالسوء لا تُصَفّد حين
تُصَفّد الشياطين 4- تيسير الله على هذه الأمة في صيامها 5- الصيام تزكية للنفس وردع لها
عن المعاصي 6- الإسراف ليس من شأن المسلم 7- زهد النبي في الدنيا
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد هل عليكم هلال شهر كريم وموسم مبارك كان رسول الله إذا أقبل هذا الشهر بشر أصحابه فابشروا أيها المؤمنون بشهر رمضان شهر شرع الله فيه الصيام وأنزل فيه القرآن وجعله موسمًا للعبادة والمجاهدة والخير والبركة وجعله من أفضل الأوقات للعمل والجهاد فهذه السمات الأربعة: الصيام والقرآن والعبادة والعمل والجهاد هي أبرز عطايا هذا الشهر الكريم وخصائصه لو يسر الله وأعان فسنتحدث عن هذه السمات الأربعة في جمع هذا الشهر الكريم إن شاء الله تعالى.
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء - وفي لفظ في الصحيحين: فتحت أبواب الجنة - وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين)) [1] وفي رواية في السنن: ((إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن)) [2].
وهذا الكلام معناه أن إغراءهم للناس يقل في هذا الشهر الكريم وتقل فيه الشرور والمعاصي فإن أسباب المعاصي ودواعيها كثيرة وأعظمها شرًا وأخبثها الشياطين ولكن ليس كل جنود إبليس يصفدون في هذا الشهر بل دلت الرواية الأخرى على أن الذي يسلسل هم الشيطان ومردة الجن ولذلك فإن المعاصي والشرور وإن كانت تقل في هذا الشهر إلا أنها لا تنقطع، فهناك من أسباب العصيان والفساد يبقى شيء كثير، هناك النفس الخبيثة الأمارة بالسوء التي تصحبك أيها الإنسان دائمًا بين جنبيك وهناك شياطين الإنس، وهناك الغرائز البشرية وهناك باقي جنود إبليس الذين لم يسلسلوا ولكن كل هذه الدوافع والأسباب ينقص أثرها على الصائمين ويخف خطرها على الصائمين فإن للصيام بركة على نفس الصائم.
أيها المسلمون هذا شهر رمضان شهر الصيام فقد فرض الله فيه الصيام على المسلمين يمتنعون في نهاره عن الطعام والشراب وعن النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فإذا غربت الشمس حل للصائم الأكل والشرب ووطء النساء، وقد كان ذلك محظورًا على من قبلنا فلم يكن يحل لهم أيام الصيام أن يقربوا النساء حتى في الليل وإذا نام أحدهم قبل أن يأكل أو يشرب ثم استيقظ في الليل لم يحل له الأكل والشرب بل يواصل صومه إلى اليوم الثاني، لكن هذه الأمة رحمها الله سبحانه فمن كرمه ومنه عليها أحل لها ذلك ورفع عنها الإصر والأغلال التي كانت على من قبلها فإذا غربت الشمس حل للصائم من هذه الأمة الأكل والشرب ووطء النساء قال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر فريضة الصيام: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون [البقرة:185]، وقال في موضع آخر ممتنًا على هذه الأمة: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [البقرة:187]. أي أن ذلك لم يكن حلالاً لمن قبلكم فأحل لكم يا أمة محمد.
ومن يسر هذا الدين ورحمة هذا الدين الذي جاء به سيدنا محمد رحمة للعالمين، من يسر هذا الدين أن المريض والمسافر يفطران في رمضان ويقضيان العدة أيامًا أخر بعد رمضان والشيخ العاجز الطاعن في السن الذي لا يستطيع احتمال الصوم ومثله المريض الذي لا يرجى برؤه يفطران في رمضان ويطعمان عن كل يوم مسكينًا ولا يقضيان، وليس من البر أن يصوم المسافر في السفر، وليس من الأفضل للمريض أن يصوم في المرض، إذا كان الصيام يشق عليه فإن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
ثم اعلموا أيها المسلمون أن الصيام جنة كجنة القتال أي أن الصيام وقاية بينك أيها المسلم وبين المعاصي، فهذا الشهر الكريم فرصة لك أيها المسلم لتزكي نفسك وتخلصها من آثار الآثام والمعاصي وفرصة لك أيها المسلم فاغتنمها، فإن رمضان فرصة للمسلم ليتخفف من أعباء الشهوات ومن الإسراف في الطيبات، من مستلزمات الصوم أن تتخلص من عادات الإسراف، الإسراف حتى فيما أحل لك من الشهوات؛ شهوة الفرج وشهوة الطعام وشهوة الكلام عليك أن تتخلص من عادة الإسراف في هذه الشهوات.
بعض الناس لم يفهم حقيقة الصوم، يمتنع في نهار رمضان عن الطعام والشراب لكنه لا يتوب عن المعاصي لا يقلع عن الظلم إن كان ظالمًا ولا يكف عن معصية من المعاصي التي كان يقترفها أو إذا كف عن المعاصي في نهار رمضان أفطر على المعاصي في ليل رمضان فنهاره جوع وعطش وليله عكوف على المعاصي تراه هو وأهله وأولاده عاكفين على شاشة التليفزيون يشتغلون بما فيها من الموبقات طول الليل، وبعض الناس لم يفهم حقيقة الصوم يمتنع في النهار عن الطعام حتى إذا أقبل الليل انقض على الطعام بنهم فالتهم نصيب الليل والنهار معًا لم يصنع له صومه إلا أنه نقل وقت شهوته بدل أن تكون النهار صار في الليل نقل له وقت الإسراف في هذه الشهوة وإن كانت مباحة لكن الإسراف فيها غير مباح نقل له صومه من النهار إلى الليل فإذا أقبل الليل صففت أمامه أنواع الأطعمة لا يكتفي بنوع واحد تصفف أمامه أنواع الأطعمة ليحشرها جميعًا في بطنه، هذا الصائم لو سمع قول النبي في الصحيح قال النبي : ((إن المؤمن يأكل في معىً واحد وإن الكافر أو المنافق يأكل في سبعة أمعاء)) [3] وفي رواية عند الطبراني بسند جيد ذكر فيها قصة هذا الحديث أن رجلاً اسمه أبو غزوان حل ضيفًا على النبي والنبي أكرم الكرماء حلب له سبع شياه فشرب لبنها كله، فقال له النبي : ((هل لك يا أبا غزوان أن تسلم؟ فقال: نعم. فأسلم فمسح النبي على صدره حتى إذا أصبح حلب له النبي شاة واحدة فلم يتم أبو غزوان لبنها، فقال له النبي : مالك يا أبا غزوان؟ فقال: والذي بعثك نبيًا لقد رويت. فقال النبي : إنك كنت أمس لك سبعة أمعاء عندما كنت كافرًا وأنت اليوم ليس لك إلا معىً واحد)) [4].
هذا الكلام النبوي معناه أن من شأن المؤمن المسلم التقلل من الطعام والزهد في الدنيا والإعراض عن الشهوات فالمؤمن لا يأكل ليتمتع بشهوة الأكل إنما يأكل ليبتلع وليسد رمقه وليتقوى على العبادة بينما الكافر الذي لا يؤمن باليوم الآخر يقبل على الطعام بنهم من شدة حرصه على الدنيا وشدة حرصه على إشباع شهواته ونهمه يأكل كما تأكل البهائم كما وصفه الله في قرآنه حيث قال: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم [محمد:12].
أيها المسلم اكتف بنوع واحد من الأكل لا تكن مثل بني إسرائيل لا يصبرون على طعام واحد أيها الصائم إذا صففت أنواع الأطعمة أمامك وحشرت على المائدة حشرًا فتذكر قبل أن تهجم عليها وتسرف فيها تذكر أن سيد الخلق وإمام المرسلين وخاتم النبيين محمدًا كان يمر عليه الشهر والشهران ما يوقد في بيته نار، إنما طعامه وطعام أهل بيته الأسودان: (التمر والماء) [5] ، الشهر والشهران!! لا تظنن ذلك كان عجزًا منه فلو قدر على التمتع بأطايب الطعام وأصنافها لفعل؟! كلا. كان ذلك زهدًا منه وإعراضًا من الدنيا وتقرباً لله الخالق المعبود وإلا فإن ربه سبحانه عرض عليه أن يفتح عليه خزائن الأرض وكنوزها ليعيش كما تعيش الأباطرة والأكاسرة والقياصرة في رفاهية وترف فاختار أن يعيش مسكينًا يأكل كما يأكل العبد ويجلس كما يجلس العبد، وكان يقول: ((اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين)) [6].
أيها المسلمون أيها الصائمون ليكن هذا الشهر الكريم فرصة لنا نغتنمها لنتخلق بتلك العادات والأخلاق النبوية السامية، ولنتخلص من عادات السرف الحيوانية، ليكن هذا الشهر الكريم فرصة لكل واحد منا ليزكي نفسه ويسمو بها عن سفاسف الدنيا والشهوات ويرتفع بها إلى سماوات الإيمان يرتفع بها عن ضيق العيش، من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وإن قاتله أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم. والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، إنه ترك طعامه وشرابه وشهواته من أجلي)) يقول الله تعالى: ((الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها)).
اللهم بارك لنا في هذا الشهر الكريم اللهم بارك لنا في هذا الشهر الكريم واجعله عتقًا لنا من النار وطريقًا لنا إلى الجنة وأعنا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا يا كريم يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه (36) (2/671و672) برقم 1898-1899.
[2] أخرجه الترمذي في سننه (3/57-59) برقم (682) وابن ماجة (1/526) برقم (1642)والحديث ضعفه البخاري والترمذي.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه (73) الأطعمة (11) باب المؤمن يأكل في معىً واحد (5/2061) برقم 5394 ومسلم (3/1631).
[4] أخرجه الطبراني في (5/32) ، (6/239).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه (5/2372).
[6] أخرجه الترمذي في سننه (4/577) والبيهقي في سننه (7/12) قال الترمذي حديث غريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام لكلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71]. وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين عليّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن سائر الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/689)
ختام شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الهمة العالية بعد رمضان علامة قبوله 2- دعوة للمداومة على الطاعة في سائر الشهور
3- صيام السِّتِ من شوال 4- صيام النافلة وأفضله صيام داود 5- أحكام خاصة بصيام المرأة
6- دعوة للمداومة على قراءة القرآن 7- مقدار زكاة الفطر وأحكامها 8- سنن صلاة العيد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فهذا شهر رمضان هذا الشهر الكريم الذي أظلنا بظله الوافر المبارك، قد آذن بالرحيل وأعلن الفراق، فسلوا الله تعالى أن يجعله فراقا إلى تلاقي، وأن يعيده علينا وعليكم باليمن والبركة وأن يجعلنا من عتقاء رمضان، ومن المقبولين الفائزين عند توزيع الجوائز يوم الدين، اللهم تقبل منا طاعتنا أجمعين، تقبل منا صلاتنا وقيامنا وصيامنا وقراءتنا يا كريم يا غفور يا رحيم.
ثم اعلموا أيها الصائمون أن من علامات القبول في هذا الشهر الكريم أن تجد نفسك أيها المسلم بعد رمضان وهمتك متواصلة بالطاعة ورغبتك مستمرة في العبادة.
ومن علامات الخذلان والعياذ بالله أن تفتر النفس بعد رمضان تفتر النفس عن الطاعة بعد رمضان وتنصرف عن العبادة وتعود إلى ما كانت تقترفه من أنواع المعاصي، العمر ليس رمضان والزمان أوسع من رمضان والحساب مستمر في رمضان وغير رمضان والثواب والعقاب على رمضان وشوال وشعبان، والسؤال آت عن عمرك كله فيم أتممته وكيف قضيته، عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((لا تزول قدما عبد، وفي رواية لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه)) [1].
فيا أيها المسلم لا يكن آخر عهدك بالصيام وقراءة القرآن وغيرهما من العبادات هو رمضان، واعلم أن سيدنا رسول الله قد ندبك إلى الاستمرار في الطاعة والعبادة. اجعل عمرك كله عبادة وعبودية لله الواحد القهار، سبحانه وتعالى ندبك رسول الله إلى صيام ست من شوال يبدأ من اليوم التالي بعد العيد قال رسول الله : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر كله)) [2] ، ثم بعد ذلك تخير لنفسك أيها المسلم ما تطيقه وتحتمله من صيام التطوع، فالخير كثير وأبواب الخير كثيرة طوال العام بل طوال عمرك كله فهناك ثلاثة أيام من كل شهر كان سيدنا رسول الله لا يدع صيامهن أبدًا والأفضل أن يكن الأيام البيض [3] من كل شهر الثالث عشر ويومان بعده، وهناك يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال كان رسول الله يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فسُئل عن ذلك فقال: ((إن أعمال الناس تُعرض على الله يوم الاثنين ويوم الخميس وأُحب أن يُعرض عملي على ربي وأنا صائم )) [4].
وأفضل صوم التطوع أن تصوم يومًا وتفطر يومًا إذا كنت تطيق ذلك. قال رسول الله : ((أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا)) [5].
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فأني أطيق أكثر من ذلك.
قال رسول الله لعبد الله بن عمرو: ((لا أكثر من ذلك)) [6] متفق عليه.
فأفضل الصيام إذا تطوعت هو هذا الصيام أن تصوم يومًا وتفطر يومًا، ويُكره بل يُقال يحرم أن تواصل الصيام ولو كنت تطيق ذلك، وحث رسول الله على صيام أيام معينة من السنة كيوم عرفة حث غير [7] الحاج على صيامه، وأخبر أن صيام يوم عرفة يكفر السنة التي قبله [8] والسنة التي بعدها. ويوم التاسع والعاشر من محرم حث رسول الله على صيامهما وأخبرنا بأن صيامهما يكفر السنة التي قبله.
فهذه أيام معينة من السنة حثنا رسول الله على صيامها وأخبرنا بهذه المنقبة العظيمة في ذلك، واعلم أيها المسلم أن صوم يومي العيدين محرم، يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى حرم الله صيامهما [9] ، وحرم الله صيام يوم الشك وهو آخر يوم من شعبان، وحرم الله على المرأة أن تصوم إلا بإذن زوجها، وإذا لم يأذن زوجها لا يكون لها الصوم تطوعًا أو إذا علمت أنه كاره لقول رسول الله : ((لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه)) [10] متفق عليه.
ولا يصح صيام الحائض والنفساء فإن صامتا في رمضان فلم يجزئهما وعليهما القضاء وكذلك المريض الذي يخشى على نفسه من الصيام يحرم عليه الصيام تطوعًا أو غير تطوع لقول الله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا [النساء:29].
أيها المسلم هذا القرآن الكريم كلام الله تعالى لا تتخذه طوال العام مهجورًا ولا يكن آخر عهدك به رمضان، فأنت إذا تلوت القرآن الكريم فأنت تناجي ربك وتحادثه لأن هذا القرآن كلام الله تعالى فكيف تعرض عنه وكيف تهجره اقرأ هذا القرآن إن استطعت كل سبع ليالٍ مرة وهذا هو الورد الأعظم والأفضل، ورد النبي ، فإن لم تستطع فاقرأه كل شهر مرة، فإن لم تستطع فاقرأ كل يوم ما تيسر لك من القرآن واقرأ القرآن في بيتك واجهر به وارفع به صوتك فذلك طرد للشيطان من البيت.
ثم اعلموا أيها المسلمون أن رسول الله علينا زكاة الفطر على الناس على الذكر والأنثى والصغير والكبير، صاعًا من طعام أي صاعًا من قمح أو صاعًا من تمر أو صاعًا زبيب، أو صاعًا من شعير أو صاعًا من أقط، فهذه [11] الزكاة مفروضة على كل قادر على إخراجها كل مسلم فضل عنه شيء من قوت يومه أو قوت عياله عليه أن يخرج هذه الزكاة عن نفسه وعن من يعولهم، والصاع يساوي هذا اليوم ثلاثة آلاف وثمانمائة غرام وقيل ألفين وسبعمائة وواحد وخمسين غرام.
فخذ الحيطة لدينك وأخرج هذه الصدقة، واعلم أن وقت خروجها يبدأ من غروب شمس ليلة العيد وينتهي بانتهاء صلاة العيد، فمن أخرجها إلى ما بعد ذلك فهي صدقة من الصدقات كما قال ولكنها لا تسقط عنه ويلزمها إخراجها، ويجوز تعجيل هذه الزكاة قبل يوم العيد بيوم أو يومين، ولكن لا يجوز تعجيلها أكثر من ذلك لأن المقصود بها كما أخبرنا إغناء الفقراء عن المسألة يوم العيد، هذا هو المقصود من هذه الصدقة أو من أهم مقاصد هذه الصدقة قال عبد الله بن عباس [12] رضي الله عنهما فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم ثم من اللغو والرفث وفعلة للمساكين.
ثم اعلموا أيها المسلمون أن من سنن رسول الله يوم العيد أن تخرج إلى صلاة العيد ماشيًا إن استطعت وإن ذهبت راكبًا فلا حرج.
ومن سنته أن تعود من غير الطريق التي سلكتها في الذهاب وإن عدت من نفس الطريق فلا حرج، ومن سنته [13] أن تفطر فجر يوم العيد قبل الصلاة، قبل أن تغدو إلى الصلاة تأكل ثلاث تمرات فأكثر، فقد كان لا يغدو [14] يوم الفطر إلى صلاة العيد حتى يأكل تمرات وترًا.
ومن سنته يوم العيد أن تغتسل قبل [15] صلاة العيد وتتطيب وتلبس أحسن [16] ثيابك وتذهب إلى صلاة العيد في أحسن هيئة وتكثر من التكبير.
هذه هي سنن رسول الله في شأن يوم العيد أعاده الله علينا جميعًا باليمن والبركات نسأله تعالى أن يحيينا أجمعين على طاعته، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم اجعلنا من المقبولين المرحومين وفي هذا الشهر الكريم من الفائزين الغانمين أجمعين يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه الترمذي (4/612) والدارمي (1/144-145) وابو نعيم في الحلية (10/232).
[2] أخرجه مسلم في صحيحه (13) باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعاً لرمضان (2/822) رقم (1164).
[3] أخرجه في البخاري في صحيحه في كتاب الصوم (59) صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة (2/699).
[4] أخرجه أحمد في مسنده (5/201) والنسائي في سننه (4/202) ومسنده حسن.
[5] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (25) التهجد (7) باب من نام عند السحر (1/380).
[6] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصوم، باب صوم الدهر (2/697) ومسلم يف صحيحه في كتاب الصيام (35) باب النهي عن صوم الدهر (2/812).
[7] أخرجه أحمد (2/304و446) وابو داود (1/741) برقم (2440) والنسائي في الكبرى (2/155).
[8] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام (36) باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس (2/818-819) برقم (1162).
[9] أخرجه البخاري في صحيحه في الصوم (65) باب صوم يوم الفطر (2/702).
[10] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (70) النكاح (84) باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعاً (5/1993).
[11] أخرجه البخاري في صحيحه (31) أبواب صدقة الفطر (2/547).
[12] أخرجه أبو داود (1/505-506) وابن ماجة (1/585) ومسنده لا بأس به وقال الألباني حسن.
[13] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العيدين (24) باب من خالف الطريق (1/334).
[14] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (19) العيدين (4) باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج (1/325).
[15] أخرجه ابن ماجة في سننه (1/417) (والبيهقي في الكبرى (3/278) وهو حديث ضعيف الاسناد.
[16] أخرجه البخاري في كتاب العيدين (1) باب في العيدين والتجمل فيهما (1/323).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/690)
بمناسبة هطول الأمطار
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, مخلوقات الله
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
10/3/1406
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منافع الأمطار. 2- منة الله علينا في المطر. 3- المطر علامة رحمة الله ومغفرته لذنوب
العباد. 4- كثرة المطر قد تكون عقوبة يغرق الله بها البلاد العاصية. 5- بعض الصور السيئة
التي نراها في إساءة الناس في حال الطر. 6- حال رسول الله عند نزول المطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فيكفى أن من أسماء المطر الغيث، دلالة على عميم نفعه وعظيم وقعه.
ولما كانت الامطار ذات اثر نافع عظيم على العباد والبلاد ذكرها الله سبحانه وتعالى فى العديد من المواطن فى كتابه المجيد الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فمن منافع الامطار: جريان الانهار قال تعالى: وارسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الانهار تجرى من تحتهم [الأنعام:6].
وسيلان الأودية: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها [الرعد:17]. وسريان الينابيع من الأرض: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع فى الارض [الزمر:21].
وامتلاء الارض بالمياه الجوفية ليرجع الناس إليها عند حاجتهم وليجدوا ماء ربهم عندما تخوي آبارهم في أرضهم: وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض [المؤمنين:18]، ولو لم يسخر الله ماء المطر لمات الناس عطشا، فحق للمولى سبحانه أن يمن علينا ويقول: أفرءيتم الماء الذى تشربون ءأنتم أنزلتم من المزن أم نحن المنزلون [الواقعة:69].
ويقول: وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقينكموه [الحجر:22]. ويقول: هو الذى أنزل من السماء ماء لكم منه شراب [النحل:10].
إنه لو لم يسخر الله لنا المطر، ولو لم يسق الماء فى الارض لماتت بهائمنا التى تحمل أثقالنا الى بلاد لا نبلغها إلا بشق الأنفس: أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [السجدة:27].
إن دوام جريان الأنهار والبحار إنما يحصل من جراء هطول الامطار، ففي الأنهار تبحر المراكب والعبارات، وفي البحار تمخر السفن فتنقل الأحمال والأرزاق والمؤن والتجارة، ويعيش السمك فى طياتها، ويستخرج بنو الإنسان اللحم الطري الذى يأكلونه والحليه والجواهر كاللؤلؤ والمرجان وخلافه: الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [الجاثية:12].
ومن أعظم منافع الماء استخدام الإنسان إياه فى حاجاته اليومية من طبخ وغسل وتنظيف وفى طهارته لعبادته وإزالة حدثه فيتوصل الى مرضاة ربه وأنزلنا من السماء ماء طهوراً [الفرقان:48].
وكما أن الماء شراب الإنسان فهو وسيلة لإثبات طعامه: وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ [الأنعام:99]. والماء وسيلة لوجود الحدائق التى ترطب الجو وتبهج النفس وتظل من الحر: وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة [النمل:60].
ولا ننسى أن المطر علامة لرحمة الله لعباده: وهو الذى ينزل الغيث من بعد ماقنطوا وينشر رحمته [الشورى:28]. والمطر علامة لغفران الذنوب: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً [نوح:10].
وهذا هود عليه السلام يخاطب قومه كما خاطب نوح قومه فيقول: وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً [هود:52].
ومن لطيف قدرة الله ورأفته بعباده أن الأمطار إنما تهطل على هيئة قطرات، ولو سقط ماء المطر جملة واحدة لأتلف الأنفس والأموال.
معشر المؤمنين: كما أن الماء مظهر من مظاهر رحمة الله، فهو جندى مطيع من جنود الله يسلطه الله على هلكة العاصين من عباده الكافرين كما حصل مع قوم نوح المكذبين الذين لم تنفع دعوة رسول الله نوح عليه وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام – والتي استمرت ألف سنة إلا خمسين عاما، ويحكى المولى عز وجل قصتهم فيقول: كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كُفِر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر [القمر:16-25].
وما حادثة بركان كولومبيا التى نقلت أخباره إلينا منا ببعيد، فهذا بركان تفجر وأذاب طبقة عظيمة من الجليد تحولت إلى ماء فأغرقت المدينة وغمرتها بالفعل فما أعظم قدرة الله، وما أقوى جنده، ولله جنود السموات والارض.
إننا لنحمد الله إذ لم تكن الامطار التى هطلت علينا مؤخرا أعاصير مدمرة كما يحصل فيمن حولنا، ونشكره سبحانه وتعالى عليها.
وإنه بقدر مادخلت نفوسنا الفرحة الغامرة برحمة الله ساءنا ما شاهدنا من غش بعض المنفذين للطرقات، فتجمعت المياه فى تلك الطرقات وجمعت الاوحال والاوساخ فيما بعد اسرابا من الحشرات.
إن منفذ تلك الطرقات ومستلمها شريكان فى الوزر والإثم أمام الله أولا ثم أمام من كلفهم من المسؤولين في الدولة ثم أمام عامة الناس المتضررين من هذا الغش، ولكم يتألم الإنسان عندما يرى غش مقاول وبناء لم يحكم البناء الموكل له، فترى السقف مثلا يخر من ماء المطر أو النوافذ تسرب الماء، فتفسد أثاث البيوت، ويعجب الانسان من حال بعض من استوفى الأجر من منفذي شبكات المجاري، فمد شبكة للمجاري فى منطقة ما يعجب الإنسان عندما يرى الماء يخرج منها بدلا من أن تستوعبها، فاجتمع على الناس فى بعض الأحياء ماء ينزل من السماء، وآخر يخرج من الأرض، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ويتألم المسلم ذو الحس المرهف لبعض المستهترين ممن يسير بسرعة جنونية فى مياه الأمطار فيؤذي المارة، ويرش عليهم مما في الأرض، فيقذر ملابسهم ويملأ بالأقذار أجسامهم.
كما ويؤلم المسلم ما يراه من استغلال بعض الناس فرصة امتلاء الشوراع بمياه الامطار فيسلطون مضخات كهربائية تنفث في الشوارع محتويات مجاري وفضلات خزانات صرف هؤلاء.
إن أمثال هذه التصرفات السيئة تضاد سمو خلق المسلم وتقلب رحمة الله وفرحة عباده المؤمنين بأمطاره إلى نقمة ونكد، فلا يتمنى أحد بعد ذلك هطول مطر ولا نزول غيث.
كان النبي صلى الله عليه وسلم اذا عصفت الريح قال: (( اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ما أرسلت به )) (1) رواه مسلم.
وكان عبد الله بن الزبير إذا سمع الرعد ترك الحديث فقال : سبحان الذى يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: (( اللهم لا تقتلنا بغضك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك )) (2).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كما يروي البخاري : ((إذا رأى المطر قال: اللهم صيبا (3) نافعا )) (4).
ويروي مسلم عن أنس قال: (( أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه )) (5).
(1) صحيح مسلم : كتاب استقاء باب التعوذ عند رؤية الريح 6/ 196.
(2) سنن الترمذي : كتاب الدعوات ، با بما يقول اذا سمع الرعد 5/ 503
(3) صيبا : منهمرا متدفقا ، النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 64
(4) سحيح البخاري : كتاب الاستفتاء ، باب ما يقال إذا أمطرت 2/ 21
(5) صحيح مسلم : كتاب الاستفتاء باب الدعاء في الاستفتاء 6/ 195
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/691)
الخلوة بالنساء
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من خلوة الأجنبي بالمرأة. 2- تحريم وصف المرأة للأجنبين. 3- تحريم الدخول
على النساء في غيبة أزواجهن. 4- الحمو الموت. 5- آفات إجتماعية للخلو بالنساء أو النظر
إليهن خاصة قريبات الزوجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يا عباد الله: هل يرضى عاقل بإدخال الموت على زوجه وذوي قرابته؟ أو هل يقدم متزن على إدخال السم الزعاف على عرضه وشرفه؟ هل يقبل غيور على أهله تبادل البسمات وتراشق النظرات مع أجنبي غير ذي محرم ؟! وهل تطمئن نفس مؤمن إلى أن يترك ابنته أو أخته أو زوجته في خلوة مع غير ذي محرم؟
يا عباد الله الخلوة بالأجنبية السوس الذي ينخر جسم العرض والشرف والفضيلة، تماماً كالسوس الذي ينخر الخشب من داخله ، تحسبه خشباً قوياً صلباً ثم لا تلبث وأن تفاجأ بتحطمه وتكسره وبالبلاء العظيم الذي أتى على أصله.
عباد الله الخلوة بالأجنبية السرطان الذي يتفشى بالجسم ثم لا يلبث حتى يحطم جسم صاحبه ، عباد الله الخلوة بالأجنبية مفتاح الإثم وباب الفجور ومدخل الزنا وطريق اختلاط الأنساب وتداخل الأعراض، لقد نهى النبي المرأة أن تصف المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها، فما بالكم بالله عليكم فيمن يتطوع ويتبرع راضياً مختاراً بإدخال الأجنبي على أهله ويعتبر ذلك من الثقة وحسن الظن.
روى البخاري رحمه الله تعالى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( لا تباشر المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها )) (1) ، إن دعوى الثقة وحسن الظن ساقطة لأن النبي قال فيما يرويه الشيخان: (( إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال : الحمو الموت )) (2) والحمو قريب الزوج كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه وخاله وابن خاله ، والحمو كذلك قريب الزوجة كابن عمها وابن خالها.
والمعنى أن خلوة الحمو أشد خطراً من خلوة الغريب وفي كل خطر، وذلك لأن دخول القريب لا يثير ريبة ولا يلفت الأنظار، فكان صدور الخطر منه أسهل فهذا وإراقة الدماء سواء، وهو أقدر على فعل الحرام لتيسير المكان ووجود الإمكان.
هذا الحديث يشهد بسقوط دعوى الثقة، وهذا صحابي جليل يقول: (( لو أمنتني على خزائن الأرض لأديتها إليك كاملة، ولو أمنتني على جارية سوداء لخشيت أن لا أؤدي )) ، أو كما قال رضي الله عنه، كم من رجل يا عباد الله يعول أولاد زنا أخيه أو قريبه بزوجته وهو يحسب أنهم أولاده ، يرثونه وهم أولاد زنا ، ويدخلون على محارمه وهم أولاد زنا ، وكم من رجل طلبت زوجته الطلاق منه لتتزوج بأخيه أو قريبه الذي كان يخلو بها ويدخل عليها، بل وكم من مطلق زوجته ليتزوج بأختها وقريبتها الذي مكن من الخلوة بها والنظر إليها.
لقد رد النبي رجلا عن الجهاد حتى لا تخلو امرأته بأجنبي أو تسافر مع غير ذي محرم. روى الشيخان عن النبي أنه قال: (( لا يخلون رجل بامرأة إلا معها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال: انطلق فحج مع امرأتك )) ( 1 ).
كيف يأمن -بالله عليكم- رجل غيور وشهم كريم أن يخلو الأجنبي بعرضه ؟ كيف يطيب له أن يذهب إلى عمله ويترك الحمو الذي هو الموت في خلوة مع زوجته أو ذوات قرابته ؟! فرب نظرة أوقعت في القلب من إبليس سهاماً ورب خطرة أولعت في قلب الأجنبي حرقة وهياماً ؟! أما علم أنه ما خلا بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما، وما ظنكم عباد الله باثنين الشيطان ثالثهما.
العصمة يا عباد الله لا تكون إلا للملائكة الكرام أو للأنبياء والمرسلين. ومن أصر فوق ما بينا، ومن استمر بعدما شرحنا على الدخول على الأجنبيات أو على إدخال الأجنبي على قريباته فقد عصى الله عامداً متعمداً، ومن استمر على ذلك بعدما أسلفنا خشية حزن الحمو أو غضبه فقد قدم طاعة ورضا المخلوق على طاعة ورضا الخالق، ومن استمر بعد ذلك لعدم قناعته بحكم الله فإنه في دائرة الكفر قد دار، ومن استمر فوق ما ذكرنا من النصوص الصحيحة على هذه المعصية بحجة الثقة أيضا فإن صنيعه ذلك يعني أن ثقته بالحمو أعظم وأكبر من ثقته بالله وبشرع الله وبحكم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1) صحيح البخاري : كتاب النكاح ، باب لا تباشر المرأة فتنعتها رجلا إلا ذي محرم.
(2) صحيح البخاري : كتاب النكاح، باب لا يخلو رجل بأمرأة إلا ومعها ذو محرم والدخول على المغيبة 6/ 1259. وصحيح مسلم :
(1) صحيح البخاري : كتاب الجهاد والسير ، باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة وكان له عذر هل يؤذن له 4/18
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/692)
تحريم السب والشتم
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريم الشريعة السباب والشتائم والتجريح. 2- حالات يجوز فيها جرح الأشخاص.
3- ذم ما يصدر عن الناس من لعن وشتم وبذاءة لسان. 4- حسن القرآن في تعبيراته.
5- تحريم السباب واللعن والتكفير. 6- حرمة العاصي والعبد. 7- تحريم البذاءة بين الأصدقاء
وسواهم.8- تحريم لعن المعين ولو كان وابه. 9- جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين.
10- حرمة الأموات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإننا لو فتشنا وبحثنا لما وجدنا أعظم حرصاً من شريعتنا على نظافة المسلم معنوياً وحسيا، فهي تأبى كل ألوان القذر والأوساخ حتى ولو كان وسخا كالسب والشتم واللعان، إن شريعتنا لتأبى كل الإباء جميع ألوان التجريح بالهيئات والأشخاص، وتأبى علينا شريعتنا كذلك جميع أصناف التهكم وأنواع السخرية بين الأفراد وجماعات المجتمع المسلم، فلا تخرج إلا عند الحاجة وبمقدار الحاجة كجرح الشهود عند الشهادة، أو جرح الرواة عند الرواية، أو جرح المستشار لمن استشاره فيمن يريد أن يزوجه ابنته، أو يودع عنده ماله، أو يوليه ولاية ونحو هذا، ولا يتكلم إلا بمقدار الحاجة.
وإن مما يؤسف له أن يسمع الفرد منا في بعض قطاعات المجتمع كبعض الشوارع أو بعض الدوائر الرسمية أو بعض أماكن تجمعات الناس أنواعا من السباب والشتم وأصنافا من عبارات القذف والتهكم، والرسول يقول: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي)) (3) رواه الترمذي ومعنى الطعان: الذي يقع في أعراض الناس بالذم والغيبة. واللعان : كثير اللعن، واللعن هو الطرد من رحمة الله. والفاحش : ذو الفحش في كلامة وفعله, والبذي : السفيه الفاحش في منطقه وإن كان كلامه صدقا.
فالمؤمن مرهف الحس يستخدم العبارات المؤدية للمعنى فترى القرآن العظيم يعبر عن الجماع بالملامسة، ونرى العرب تعبر عن قضاء الحاجة بالغائط، والغائط: المكان المنخفض، وغير هذا من الأدب في سبيل تجنب العبارات الجارحة.
عن أبي الغفاري أنه سمع رسول الله يقول: ((ولا يرمي رجلا بالفسق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك )) (1) رواه البخاري، ويقول : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )) (2) متفق عليه.
وقد يحدث خلاف بين اثنين فلا ينبغي والحالة هذه أن يلجأ كل واحد منهما إلى استخدام العبارات البذيئة، وإلى السب والشتم فإن ذلك يعقد القضية، ويجعل حل ذلك الخلاف متعسراً، وقد يكون أحدهما مظلوما حقاً، ولكن ذلك لا يسوغ له أو لزميله الشروع في السباب، فالحبيب يقول: ((المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما حتى يتعدى المظلوم )) (3) رواه مسلم.
قال الإمام النووي يرحمه الله : معناه إن إثم السباب الواقع بينهما يختص بالبادي منهما كله إلا أن يجاوز الثاني قدر الانتصار، فيؤذي الظالم بأكثر مما قاله.
والصبر – معشر الإخوة – والعفو أفضل قال تعالى: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى:43].
ولم يبح لنا ديننا حتى سب العاصي، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: ((أتي النبي برجل قد شرب. قال: اضربوه. قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال له القوم أخزاك الله قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان )) (1) رواه البخاري.
ومعنى أخزاك الله : أي أهانك الله وأذلك، قال ابن علان الصديقي رحمه الله : "وجه عونهم الشيطان بذلك أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية حصول الخزي فإذا دعوا عليه به فكأنهم قد حصلوا مقصود الشيطان فالرسول يقول: (( من قذف مملوكه بالزنى يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال )) (2) متفق عليه.
ومن هذا الحديث العظيم يتبين لنا جرم من يقذف الناس ولو كان المقذوف عبدا ًمملوكا فكيف حال من يعتبر أن من صدق العلاقة -أقصد الصداقة بينه وبين زميله – أن يسبه أو يقذفه ولا يتأثر هو بذلك، فيتهمه بالزنى بأمه أو بأخته أو نحو هذا وهو مسرور يضحك، ويعتبر هذا من حسن الصداقة، وقوة العلاقة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن أنواع السباب والشتم – معشر الإخوة – اللعن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : (( لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا )) (3) رواه مسلم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة )) (4) رواه مسلم.
ويقول فيما يرويه أبو داود والترمذي: (( لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار )) (5).
روى ثابت بن الضحاك قال رسول الله : ((من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال، ومن قتل نفسه على يمين بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر في شيء لا يملكه ))، ((ولعن المؤمن كقتله )) (1) متفق عليه.
ومعنى من حلف على يمين بملة غير الإسلام : كأن قال: والله إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني، فهو كما قال إذا أراد التدين والعزم عليه، فمن فعل هذا يصير كافرا حالا لأن العزم على الكفر كفر.
أما إذا أراد المبالغة في منع نفسه من ذلك ولم يعتقد أبدا الخروج من الملة فتلك معصية يستغفر الله منها.
ومعنى:((لعن المؤمن كقتله)) أي جرم من لعن المؤمن كجرم من قتله.
وقد يلعن ويسب العبد دابته أو سيارته أو بيته أو أي شيء من خصوصياته وحاجياته، وليس هذا جائزا.
فعن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال : (( بينما رسول الله في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله فقال: خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة، قال عمران : فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد )) (2) رواه مسلم.
ويجوز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين كما قال تعالى: ألا لعنة الله على الظالمين [هود:18].
وفي الحديث: (( لعن رسول الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه )) (1) وأنه قال: (( لعن الله من غير منار الأرض )) (2) أي حدودها، وقال الله: (( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده... )) (3) ، وأنه قال: (( لعن الله من لعن والديه )) (4) وأنه قال: ((اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله ورسوله )) (5). وأنه قال : (( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال )) (6)
فهنا نرى أن الرسول لم يلعن إنسانا بذاته أو بعينه، وإنما لعن من يفعل هذه الأفعال مبالغة منه في الزجر والردع والإبعاد من هذه الأفعال.
نعوذ بالله من حال الملعونين، ونسأله سبحانه وتعالى – وهو البر الرحيم – أن يجنبني وإياكم سبيل الهالكين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(3) سنن الترمذي : كتاب البر والصلة باب ما جاء في اللعنة 4/ 350.
(1) صحيح البخاري : كتاب الأدب باب ما نهي من السباب واللعن 7/ 84
(2) صحيح البخاري : كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر 1/ 17، 18. وصحيح مسلم : كتاب الإيمان باب سباب المسلم فسوق وقتاله كفر 2/ 54.
(3) مسلم : كتاب البر والصلة باب ما ينهى من السباب واللعن 7/84
(1) صحيح البخاري : كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال 8/ 14
(2) صحيح البخاري : كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة باب قذف العبيد 8/ 34، بلفظ مختلف. وصحيح مسلم : كتاب الإيمان باب التغليط على من قذف مملوكا بالزنا 11/ 131.
(3) صحيح مسلم : كتاب البر والصلة باب النهي عن لعن الدواب 16/ 148.
(4) المرجع السابق 16/ 149
(5) سنن أبي داود : كتاب الأدب باب في اللعن 4 / 277، سنن الترمذي : كتاب البر والصلة باب ما جاء في اللعنة 4/ 350.
(1) صحيح البخاري : كتاب الأدب باب ما ينهى من السباب واللعن 7/ 84 بلفظ مختلف، صحيح مسلم : كتاب الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه 2/ 119.
(2) صحيح مسلم : كتاب البر والصلة باب النهي عن لعن الدواب 16 / 147.
(1) أخرجه أبو داود في سننه : كتاب البيوع، باب في أكل الربا 3/ 244. رقم الحديث 3333
(2) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله 13/ 141
(3) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الحدود باب لعن السارق إذا لم يسم 8/15. ومسلم في صحيحه كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها 11/ 185.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الأضاحي باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله 13 / 141.
(5) صحيح مسلم : كتاب فضائل الصحابه باب فضائل غفار وأسلم وجهينة..،16 / 73
(6) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب اللباس، باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال 7/ 55. وأصل الحديث: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من... الحديث )).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على فضله وامتنانه نشكره ونسأله المزيد من إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله علا وجل شأنه، وأشهد أن سيدنا وقدوتنا محمدا عبد الله ورسوله القائل: (( ما كان الفحش في شيء إلا شانه وما كان الحياء في شيء إلا زانه )) (1) صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فقد حرم الإسلام في جملة ما حرم سب الأموات بغير حق ومصلحة شرعية وحذر من إيذاء الميت بسبب بدعته أو فسقه، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : (( لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا )) (2) رواه البخاري.
ومعنى أفضوا إلى ما قدموا أي وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر، ففي الحديث نهي عن سب أموات المسلمين عموما.
ومما هو منتشر – مع الأسف – بين بعض الناس سبهم لأولادهم ودعاؤهم عليهم، بل قد يدعو البعض على نفسه وخادمه وماله، فعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : (( لا تدعوا على أموالكم لا توافق من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم )) (3) رواه مسلم.
وعن أبي رضي الله عنه قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده )) (1) رواه الترمذي.
فسبحان الله ما أعظمه من دين وما أسماه من شرع إنما يتبعه المتقون ويلتزم به المهديون، وما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا وصفها لنا فهل نحن ملتزمون.
نعم بإذن الله نحن ملتزمون وعلى نهج المصطفى سائرون وبأدبه متأدبون.
(1) سنن الترمذي : كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الفحش والتفحش 4/349. سنن ابن ماجة : كتاب الزهد، باب الحياء 2/ 1400.
(2) صحيح البخاري : كتاب الرقاق، باب سكرات الموت 7/ 193.
(3) صحيح مسلم : كتاب الزهد، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر 18 / 139.
(1) سنن الترمذي : كتاب البر والصلة، باب ما جاء في دعوة الوالدين 4/ 314.
(1/693)
خطر البدعة في الدين
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الدين والشرائع قبل موته صلى الله عليه وسلم 2- شمولية شرائع الإسلام لمناحي
الحياة المختلفة 3- بيان رسول الله لكل شرائع الإسلام 4- الابتداع في الدين من أضَرِّ الذنوب
على العبد 5- الابتداع تخوينٌ للنبي صلى الله عليه وسلم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الله تعالى لما أنزل على رسوله الإشارة بإكمال الدين وهي قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:3]. علم بذلك أن هذا الدين لا يحتاج إلى إضافة أو زيادة من أحد فقد بلغه سيدنا محمد فأتم البلاغ فجزاه ربه عن الأمة خير الجزاء ديننا والحمد لله كامل شامل بنيت عقيدته على التوحيد وتميز بالوضوح والنقاء وبنيت شريعته على العدل والإحسان وتميزت بالشمول والكمال وبنيت حركته على الدعوة والجهاد وتميزت بالرحمة والقوة مصادره ثابتة صافية لا اضطراب فيها ولا خلل ولا نقص ولا غموض لأنها مصطفاة من وحي رب العالمين؛ القرآن والسنة، والطريق إلى معرفة هذا الدين واضحة بينة، الطريق إلى معرفة هذا الدين هو العلم والتفكير وإعمال العقل لفهم التعاليم الربانية التي أنزلها اللطيف الخبير سبحانه وتعالى، ديننا والحمد لله أحكمت آياته وفرائضه وسننه، وعقيدته وشريعته لا غموض فيه ولا طلاسم ولا مكان فيه للأهواء ولا للآراء أن تلعب فيه كما لعب أحبار اليهود ورهبان النصارى في دينهم.
إن صفتي الكمال والشمول من أعظم خصائص هذا الدين فإنه يبدأ بأعظم شيء وأعلى شيء وهو عقيدة لا إله إلا الله ثم ينظم بشرائعه وآدابه كل شيء في حياة الإنسان لا يترك صغيرة ولا كبيرة، ينتظمها كلها في حماه الواسع الكريم حياة كاملة كريمة، إن الدين ينظم جميع علاقات هذا الإنسان التي تتكون من شبكتها حياته اليومية بل حياته كلها وعمره كله تنظم علاقة هذا الإنسان بالخالق سبحانه وتعالى وعلاقته بالمخلوقين تنظم علاقته بالناس أفرادًا وجماعات يدخل في ذلك العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية والعلاقات السياسية والدولية والفكرية والثقافية تنظم ذلك كله بشرائعه وآدابه.
فما على الإنسان إلا أن يتعلم هذا الدين ويتعلم شرائعه وآدابه فيجد فيها ما ينظم به سائر شئون حياته، فقد وقي المئونة لا حاجة لهذا الإنسان إلى أن يحدث من البراهين ما ينظم به شئون حياته فإن في هذا الدين ما هو كفيل بذلك كله. ولكن أعجب ما في أحوال هذا الإنسان إعراضه عن تعلم هذا الدين وعن معرفة شرائعه وآدابه حتى إذا أعوزته الحاجة إلى ما ينظم به شئون حياته أو بعض شئون حياته ذهب يبتغي إلى ذلك سبيلاً غير سبيل الله الخالق الحكيم، والخالق أعلم بخلقه: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك:14] وأعجب من هذا الإنسان أولئك الذين سلكوا من أعظم المسالك خطرًا وهو الزيادة في الدين واستحسان ما لم يستحسنه الشارع الحكيم وهذا هو ما يسمى بالابتداع، فإن الابتداع في الدين هو إحداث أمر ديني على غير مثال سابق، ومعنى ذلك أن يحدث الإنسان قولاً أو فعلاً ينسبه إلى الدين وليس من الدين فلا حجة لديه تثبت أن الدين أمر بذلك أو أن الرعيل الأول فعلوه ومعنى أن ينسبه إلى الدين أي يعتقد أنه قربة مما يتقرب به إلى الله تعالى ويوهم الناس بذلك.
فالعبادة مثلاً بجميع صورها من صلاة أو صيام أو نسك أو غير ذلك قد بينها رسول الله بين فرائضها ونوافلها وشرح طريقة أداء كل منها وفصل ذلك وبينه أتم البيان لم يؤخر سيدنا رسول الله البيان عن وقت الحاجة فإذا جاء إنسان بعد ذلك فزاد عبادته وزعم أنها مما يتقرب به إلى الله فعليه أن يثبت الحجة أنها مما شرعه رسول الله أو فعله الصحابة الكرام وإلا فإن عبادته التي أتاها بدعة ضلالة وهو مبتدع ضال وإن كانت نيته صحيحة سليمة وهي التقرب إلى الله تعالى فإن النية هنا لا تشفع للمبتدع أبدًا.
أيها المسلمون إن الابتداع في الدين أمره خطير وضرره جسيم وذنبه عظيم، بل إن العلماء اعتبروا الابتداع في الدين ذنبًا أعظم من الكبائر، وقد يجر الابتداع في الدين أصحابه إلى الكفر والإلحاد وإلى مناصبة السنة العداء إن الابتداع في الدين من أشد الذنوب ضررًا بعد الإشراك بالله تعالى لأن ضرره لا يقتصر على صاحبه بل يتعداه إلى الأمة فيفسد عليها دينها ويشوش عليها عقيدتها ويشوش عليها شريعتها ولذلك كان الابتداع في الدين من أشد الذنوب ضررًا بعد الإشراك بالله تعالى وسوف نبين هذا الوجه في مسائل إن شاء الله تعالى نبدأ منها اليوم بالمسألة الأولى وهي أن في الابتداع في الدين إخلال بعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن فيها امتهان لسيدنا محمد رسول الله بأنه قصر في بلاغه، فبقي شيء من الدين لم يدل الأمة عليه وهذا نقض للركن الثاني من لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن شهادة المكلف بأن محمدًا رسول الله إيمان واعتقاد منه بأن سيدنا محمد نبي مرسل من ربه وأنه بلغ رسالات ربه وأدى الأمانة كاملة والتزام من المكلف بإتباع هذا النبي الكريم ففي الابتداع وفي الزيادة في الدين إخلال بركن المتابعة لهذا النبي الكريم وإخلال بالاعتقاد بأنه أدى الرسالة كاملة وبلغ أتم البلاغ.
قال الإمام مالك إمام دار الهجرة إمام هذه المدينة النبوية في عهد التابعين قال رحمه الله: من ابتدع في الإسلام بدعة يرى أنها حسنة فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة لأن الله تعالى يقول: اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة:3]. وما لم يكن يومئذ دينًا فما يكون اليوم دَيناً. رحمه الله ما أحكم عبارته هذه ما لم يكن في حياة نبينا رسول الله والوحي يتنزل عليه من ربه فكيف يكون اليوم دينًا وقد انقطع الوحي وكثرت الفتن واشتدت الغفلة.
إن رسول الله ما أشد رحمته وشفقته بالأمة، والله ما ترك خيرًا إلا دلها عليه، ولا شرًا إلا حذرها منه، وسكت عن أشياء رحمة بها وليس نسيانًا من الشارع الحكيم. قال : ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها)) [1] صلى الله وسلم وبارك عليه.
[1] أخرجه الطبراني في الكبير (22/221-222) برقم (589) والدارقطني في سننه (4/183-184) وابو نعيم في الحلية (9/17) والبيهقي في سننه الكبرى (10/12-13) وغيرهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/694)
الكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكبرياء صفة لله لا ينبغي أن ينازعه فيها عبد 2- الكبر شيء يستقر في القلب ويقود إلى
الكفر 3- الكبر رد الحق واحتقار الناس 4- قارون وفرعون مثالين للمتكبرين في الأرض
5- التفاخر بالأنساب والأجناس 6- ليس من الكبر حسن الملابس والهندام 7- لبس الذهب والحرير
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الكبرياء والجبروت والعظمة عرفنا أنها من صفات الألوهية فلا يليق لأحد من العباد أن ينتحل شيئًا من هذه الصفات. فمن تكبر أو تجبر أو تعاظم لم يدخل الجنة كما أخبر بذلك سيدنا محمد حيث قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) [1].
فما هو هذا الكبر الذي يمنع الإنسان من دخول الجنة في نفس الحديث إشارة إلى أنه شيء يستقر في القلب ويقود إلى الكفر لأن الجنة لا يُمنع من دخولها الموحدون؟
وقد أخبر أنها لا يدخلها المتكبرون بل إن من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فهو من أهل الجنة، إذن فالكبر هو شيء يستقر في القلب ويقود إلى الكفر والعياذ بالله لأن عاقبة الكبر الختم والطبع على القلب فيحرم حينئذ من كل خير قال الله تعالى: كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار [غافر:35].
فالكبر إذن شيء يستقر في القلب ويقود إلى الكفر والعياذ بالله وغالبًا ما يكون هذا حال المتكبرين والمتجبرين أنهم لا يرون حقًا ولا يدركون خيرًا، إذ قلوبهم مقفلة وأبصارهم مظلمة، فإذا سمعوا من يذكرهم بالله ويعظهم بالحق أعرضوا عن الحق ترفعًا وتكبرًا وتجبرًا بل ربما أنكروا ذلك الحق وناوءوه وحاربوه، وهذا من أعظم علامات الكفر أن يكره القلب ذكر الله تعالى ويشمئز منه قال تعالى: وإذا ذُكر الله وحده اشمئزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة [الزمر:45].
فإذا وجد الإنسان في قلبه شيئًا من ذلك فليحذر أشد الحذر ويعلم أنه على خطر عظيم على طرف من الكفر والكبر، عليه أن يبادر إلى معالجة قلبه وإدراك قلبه قبل أن يفوت الأوان، فليعالجه بذكر الله تعالى دائمًا وبأن يقصر نفسه على الخضوع لأوامر الله تعالى.
أيها المسلم النبي في هذا الحديث لمّا قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))، قال له أحد أصحابه يا رسول الله فإن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا فقال : ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) إذن فالكبر هو رد الحق ومدافعته وإنكاره تجبرًا وعلوًا وتكبرًا وهو أيضًا احتقار الناس وازدراؤهم والتجبر والترفع عليهم وغالبًا ما يكون ذلك بسبب إعجاب المرء بنفسه ويرى نفسه أعلى وأرفع من باقي عباد الله، هذا هو معنى غمط الناس وأكثر ما يوقع الإنسان في غمط الناس وفي التكبر والتجبر عن الناس أكثر ما يوقع المتكبرين في ذلك كثرة الأموال وعظم الجاه وشرف النسب، فأكثر ما يتكبر المتكبرون ويتعاظم المتعاظمون بسبب كثرة أموالهم أو بسبب عظم جاههم أو بسبب أنسابهم.
فهذا قارون لمّا رأى كثرة أمواله: قال إنما أوتيته على علم عندي [القصص:78]. فخسف الله به وبداره الأرض.
وذلك فرعون اغتر بجاهه وسلطانه حتى قال: ما علمت لكم من إله غيري [القصص:38]أفكان من المغرقين.
وأما الإنساب فالتفاخر بها كان من أمر الجاهلية، ثم جاء الإسلام فأبطل ذلك، فكل من تعاظم على الناس بنسبه فهو جاهلي، وكل من فاخر بأصله وعرقه فهو جاهلي.
قال رسول الله : ((إن الله قد أذهب عنكم وعبية صح الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم لآدم وآدم من تراب)) [2].
وقال : ((ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية)) [3].
لمّا وقعت مشادة بين أبي ذر الغفاري الصحابي الجليل وبين بلال الحبشي فقال أبو ذر من الغضب لبلال يا بن السوداء فبلغ ذلك النبي فغضب من أبي ذر غضبًا شديدًا وقال له: ((أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية)) [4] ، فلما رأى أبو ذر ذلك ذهب إلى أخيه ووضع خده على الأرض وقال له يا بلال ضع قدمك على خدي. وروي عن أبي عقبة وكان مولى من أهل فارس قال شهدت أحداً مع رسول الله فضربت رجلاً من المشركين فقال له خذها وأنا غلام فارسي، فالتفت إلىّ النبي : ((هلا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري)) [5].
انظر كيف عدل به النبي عدل به عن النعرة العرقية، والعصبية الجاهلية إلى الحمية الإسلامية، فالحمية الإسلامية هي في نصرة الدين، والانتساب إلى الدين وأحساب المسلمين هي في درجات إيمانهم وتفاوتهم في أعمالهم وسبقهم إلى الإسلام ونصرتهم للدين، هذه هي الحمية الإسلامية وهذه هي الأحساب الإسلامية، كما وجه لذلك سيدنا رسول الله.
أيها المسلمون بين النبي أنه ليس من الكبر أن يحب الإنسان أن يكون له ثوب حسن أو نعل حسنة والتمتع بما أباح الله تعالى من الزينة أمر مشروع: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [الأعراف:32].
ولكن إذا لبست الحرير والذهب وأسبلت خيلاء فهذا من الكبر. قال : ((الإزار والقميص والعمامة من أسبل شيئًا منها لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) [6].
إذن فالمطلوب من المسلم أن يجرد ظاهره وباطنه من الكبر فإذا بدت الخيلاء على ظاهر الإنسان فهي نذير سوء بأن قلبه ربما استقرت فيه بذرة الكبر.
على المسلم أن يتواضع في ظاهره وباطنه لله تعالى، والتواضع لله عودة بالإنسان إلى حقيقته وإنقاذ له من وهم الكبرياء الزائفة. فحقيقة الإنسان هي العبودية لله تعالى فما للعبد يتكبر ويتعاظم بين يدي سيده ألا يخاف أن يغضب عليه سيده ومولاه أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون [يونس:23].
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب (1) الإيمان (39) باب تحريم الكبر وبيانه (1/93) برقم (91) (149).
[2] أخرجه الأمام أحمد في مسنده (2/361و523و524) وابو داود (2/752)برقم (5116) والترمذي (5/734و735) برقم (3955و3956).
[3] أخرجه أبو داود في سننه (2/753) برقم (5121).
[4] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان (2) (1/20) برقم (30) ومسلم في صحيحه (3/1282-1283) برقم (1661).
[5] أخرجه الأمام أحمد في مسنده (5/295) وأبو داود (2/754) برقم (5123) وابن ماجة (2/931) برقم (2784).
[6] أخرجه أبو داود (2/457) برقم (4094) والنسائي (8/208) وابن ماجة (2/1184) برقم (3576) وغيرهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في صلاة (17) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد (1/306) رقم (408).
(1/695)
آدم عليه السلام
موضوعات عامة
مخلوقات الله
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة خلق الكون بعد العدم 2- قصة خلق آدم 3- صفة آدم الخلْقية 4- خلق حواء من
ضلع آدم 5- القلب مَلِك الأعضاء 6- سكن آدم وحواء في الجنة ثم خروجه منها
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن من أسماء الله سبحانه أنه الخالق البارئ المصور، خلق الخلق فصورهم فأحسن صورهم فتبارك الله أحسن الخالقين: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم [الروم:27].
روى البخاري في صحيحه بسنده عن رسول الله أنه قال: ((كان الله ولم يكن قبله شيء)) [1] صدق رسول الله. الله سبحانه هو الأول وليس قبله شيء وهو الآخر وليس بعده شيء وأول ما خلق الله سبحانه الماء ثم خلق عرشه على الماء ثم خلق القلم فقال له اكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكتب الله سبحانه المقادير قبل أن يخلق الأرض بخمسين ألف سنة ثم خلق السموات والأرض وزين السماء الدنيا بالكواكب والنجوم.
قال قتادة [2] رحمه الله: "خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأمل فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به". ثم خلق الله آدم بيده خلقه من تراب ثم جعله طينًا ثم تركه حتى إذا كان حمأً مسنونًا خلقه فصوره ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار كان إبليس يمر به فيقول: لقد خُلِقتَ لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من روحه فكان أول ما جرى فيه الروح منه بصره وخياشيمه فعطس آدم فقال الحمد لله، فقال الله له سبحانه يرحمك ربك. روى ذلك الترمذي [3] والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعًا.
وروي البخاري بسنده عن رسول الله أنه قال: ((خلق الله آدم وطوله ستون ذراعًا ثم قال له اذهب إلى أولئك من الملائكة فسلم عليهم فاستمع ما يحيونك به فهو تحيتك وتحية ذريتك، فقال لهم آدم: السلام عليكم فقالت الملائكة: السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله. قال رسول الله فكل من يدخل الجنة مثل آدم في صورته فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)) [4].
وفي رواية عند البخاري أيضًا أن رسول الله قال: ((إن الله خلق آدم على صورته وطوله ستون ذراعًا)) [5].
وروي عن أبي بن كعب مرفوعًا قال رضي الله عنه: ((إن الله خلق آدم رجلاً طوَّالاً أي عظيم الطول كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق)) [6].
ثم إن الله عز وجل خلق لآدم من نفسه زوجة، خلق المرأة من ضلع آدم.
قال رسول الله مخاطبًا الرجال: استوصوا بالنساء فإن المرأة خُلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه (أي أعوج شيء في المرأة لسانها) قال : ((إن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته تركته وهو أعوج فاستوصوا بالنساء)) [7].
إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ذكرًا كان أو أنثى في أحسن تقويم فشق سمعه وبصره وجعل له فؤاده وجعل له من الأعضاء في جسمه ما تستقيم به حياته والقلب في الإنسان هو الملك والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده وإن خبث الملك خبثت جنوده.
قال رسول الله : ((ألا إن في الجسد مضغة فإن صلحت صلح سائر الجسد لها وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) [8].
ثم إن الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أسكن أبانا آدم وزوجه الجنة في حياة نعيم لا تعب فيها ولا نصب، فلما عصى آدم ربه أهبطه الله سبحانه وزوجه وحكم على ذريته بذلك. أهبطهم إلى دار الأرض دار التكليف والابتلاء والامتحان وفي هذا الإهباط والإنزال إلى الأرض حكم إلهية وأسرار إلهية جُلاّ، فإن الله سبحانه وتعالى لما رأى آدم قد عصاه أنزله إلى دار التكليف ليعود إلى الجنة بعد ذلك وهو على أحسن حال، بعد أن يقوم هو وذريته بواجب التكليف فتكون عودتهم إلى الجنة لها مقدار عظيم عندهم، بعد أن يذوقوا عناء التكليف ويذوقوا هموم الدنيا وغمومها، ثم يعودون إلى الجنة إلى دار السلام لا لغو فيها ولا تأثيم والله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العُلى، فأحب سبحانه أن يظهر أثر أسمائه الحسنى وصفاته العلى على آدم وذريته من بعده في دار التكليف، فهو سبحانه الغفور الرحيم فأراد أن يغفر لمن شاء منهم ويرحم من شاء وهو سبحانه العزيز ذو الانتقام فأراد أن يظهر عزته فيعز من شاء ويذل من شاء، ويرفع من شاء ويخفض من شاء وينتقم ممن شاء ويعطي من شاء ويمنع من شاء ويبسط الرزق لمن يشاء ومن ذرية آدم ويقبضه عمن يشاء هكذا أراد سبحانه بحكمته أن يظهر أثر أسماءه الحسنى وصفاته العلى في ذرية آدم في هذه الدار دار التكليف.
والله سبحانه هو الملك المبين والملك يأمر وينهى ويثيب ويعاقب فأراد سبحانه بإهباط آدم وذريته أن يجري عليهم أحكام الملك أحكام ملكه سبحانه وتعالى فيثيب المحسن منهم ويعاقب المسيء ويأمرهم وينهاهم فمن أطاع وأحسن أثابه أحسن الثواب ومن عصى وأساء وتمرد عاقبه أشد العقاب سبحانه وتعالى هو العزيز الحكيم.
ومن أعظم تلك الأسرار والحكم في إهباط أبينا آدم من الجنة إلى الأرض دار التكليف أنه سبحانه أراد بذلك أن يميز الخبيث من الطيب، أراد بذلك أن يتخذ من ذرية آدم أناسًا يحبهم ويحبونه ويتخذ شهداء ويتخذ أنبياء ورسلاً، وهذه من أعظم نعمه على ذرية آدم فسبحانه هو العزيز الحكيم العليم الخبير.
ثم اسمعوا هذا الحديث الجليل وتأملوا ما فيه من الدروس والعبر روى البخاري بسنده عن رسول الله قال: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكًا بأربع كلمات عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد)). قال : ((فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار)) صدق رسول الله.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل. ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه.
[2] أخرجه عبد بن حميد في تفسيره (3/489شغليق) والحافظ ابن حجر في تغليف التغليق (3/489) ومسنده صحيح.
[3] أخرجه الترمذي (3368) والنسائي في عمل اليوم والليلة (218و220). أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (219).
[4] أخرجه البخاري في صحيحه (64) في كتاب الأنبياء (2) (3/1210).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه في (82) في كتاب الاستئذان باب بدء السلام (5/2299).
[6] أخرجه ابن سعد في الطبقات(1/31) الحاكم في مستدركه (2/288) وأخرجه ابن سعد (1/31و32) والحاكم في مستدركه (2/59).
[7] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (64) الأنبياء (3/1212).
[8] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان (37) باب فضل من استبرأ لدينه (1/28).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/696)
حال الناس عند أزمة الخليج
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مظاهر ضعف اليقين في الأمة أمام هذا الحدث. 2- سبب المشكلة عصياننا لله. 3- حلها
أن نطهر أنفسنا أفراد ومجتمعات من محارم الله. 4- ما حدث بلاء وابتلاء من الله يوجب
الضراعة إليه. 5- الابتلاء يكون بالشدة ويكون بالرخاء وسعة الأرزاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله يا عباده الذين آمنوا: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18].
أصاب الناس يا عباد الله الهلع والذعر مما تلاحق من أحداث، ولهذا الهلع ولذلك الذعر مظاهر، ومن هذه المظاهر تسارع الناس إلى التخلص من عملتهم المحلية وشراء الدولار عملة أعداء الله التي ارتبطنا بها، فنجم عن ذلك ارتفاع في سعر عملتهم وانخفاض في سعر عملتنا، ومن ذلك تسارع الناس إلى شراء أكداس مكدسة وأكياس مكيسة من السكر والأرز والقمح والدقيق وبقية المواد التموينية ، وتلاحق الناس على محال الأجهزة الكهربائية ليشتري كل منهم مذياعا يستمع فيه أخبار المنطقة وما يجري فيها حتى لقد رأينا في المجلس الواحد أكثر من شخص، مع كل واحد مذياع، وكل يسمع محطة غير محطة صاحبه، فذاك يسمع مثلا مونت كارلو المحطة الصليبية التنصيرية ، وهذا يسمع إذاعة لندن المحطة اليهودية الصهيونية، وانتشر بين الناس نشرات تحذيرية من إلقاء الغازات الكيميائية القاتلة بألفاظ مرعبة وبتأييس من رحمة الله حتى كان من عبارات بعضها : (إذا كنت خارج المنزل فليس بوسعك أن تفعل شيئا) أي أنك ستموت وقام الناس يفكرون بشراء الكمامات وإحكام إغلاق المنافذ والشبابيك، بل إن بعضهم غادر البلاد هربا وآخرون تركوا بيوتهم ومحالهم وممتلكاتهم وانتقلوا إلى أمكنة بعيدة عن الحوادث.
ولما دخلت القوات الأمريكية اطمأن الناس وتباشروا ، وهدأت نفوس كثير منهم وتشاءم آخرون من احتمال حدوث حرب مدمرة تهلك الحرث والنسل وتبيد خضراء الأرض، وتباهى غير أولئك بما حوت الترسانة الأمريكة من الأسلحة، تباهوا لما لا يملكون ، وتفاخروا بما لا يحوزون، وقام الصغار والكبار والرجال والنساء يتحدثون عن صفحات سوداء لحزب البعث مطوية وعن جرائم كانت لحاكم العراق مخفية، وصور بالأمس القريب بطل الأمة العربية والآخذ بزمامها نحو النصر..
يا عباد الله هذه الصور نراها متكررة، وهناك غير ما ذكر، والمخرج من هذا النفق المظلم الذي دخلت فيه هذه الأمة يكون بمعرفة الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج ومن ثم العلاج.
المشكلة يا معاشر المؤمنين هي مشكلتنا مع الله تعالى أولا: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس [ الروم:41]. وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً [الإسراء:16]. وقال سبحانه وتعالى: وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً [الطلاق:8]. وقال أيضا: وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعو ن [النحل:112].
نصر الله والتمكين مرتبط ومقترن بتطبيق شرع الله ظاهرا وباطنا قولا وعملا حقيقة لا ادعاء: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلوة وآتوا الزكوة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:40-41].
فهل أقمنا الصلاة حقا، إقامة تنهانا عن الفحشاء والمنكر؟ وهل أدينا الزكاة أم عطلناها وحولناها إلى مجاملات ودعايات ومسابقات؟ هل طهرنا أسماعنا من الغناء وأعيننا من النظر المحرم ؟ هل طهرنا معاملاتنا من الربا ؟ والربا حرب من الله ورسوله هل شاع خلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيننا والرسول يقول: (( اؤمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم )) (3).
عباد الله إن الله تعالى لا يقدر إلا خيرا، وحاشاه أن يقدر شرا محضا، فليس هذا من حكمته وله وحده الحكمة البالغة، وما من شر يقع إلا وفيه خير، وما يوقع الله على عباده من البلاء ليعتبروا وليرتدعوا ولتضرعوا.
فهل وقفنا مع كتاب ربنا ونظرنا فيه واستمعنا إليه في هذه الأيام أم اتخذناه ظهريا؟ على الأقل هل استمعنا إليه كما نستمع للإذاعات الخارجية؟ هل قرأناه على الأقل كما نقرأ الصحف والمجلات في هذه الأيام؟ أخشى أن يكون الجواب: لا.
من رحمة الله بعباده أنه يصيبهم ببعض البلاء ليرتدعوا ويرجعوا، فإذا لم يحصل ذلك منهم دمرهم وجعلهم عبرة لغيرهم.
تعالوا معي ولنفتح كتاب الله على قوله: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العلمين [الأنعام:41-45].
القلب الذي لا ترده الشدة إلى الله قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة، ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس.
والرخاء ابتلاء كابتلاء الشدة وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة، والله يبتلي عباده بهذا وذاك، والتعبير القرآني: فتحنا عليهم أبواب كل شيء [الأنعام:44] يصور الأرزاق والخيرات والمتاع والسلطان المتدفقة كالسيول بلا حواجز وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد ولا حتى محاولة.
فإذا ما غرت الناس الخيرات والأرزاق واستغرقوا فيها بلا شكر ولا فكر ولا ذكر وخلت قلوبهم من ذكر المنعم ومن خشيته وتقواه جاءهم العذاب وداهمهم العقاب وباغتهم الاستئصال ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(3) أخرجه بن ماجه في سننه : كتاب الفتن ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2/1327.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/697)
شجرة الإيمان
العلم والدعوة والجهاد
أمثال القرآن والسنة, القتال والجهاد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"العمل والجهاد من صميم الإيمان – أهمية العمل والجهاد – مثلان للإيمان في كتاب الله نواقض الإيمان – أمثلة لأهمية العمل "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فقد بينا أن دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بنيت على أربعة مبادئ وهي العلم والتوحيد والعمل والجهاد قد ذكرنا بعض حقائق عن العلم ثم ذكرنا بعض الحقائق عن التوحيد ونتحدث اليوم بإذن الله عن المبدأين الأخيرين العمل والجهاد فالعمل والجهاد من صميم الإيمان ومن دعائم الإسلام الإيمان والتوحيد بالقلب وبالجوارح أما ما كان بالقلب فقط ولم يظهر أثره على الجوارح فلا قيمة له ولا اعتبار بل لابد أنها الغفلة العمل والجهاد هما أثر الإيمان وثمرة التوحيد فإن الإيمان ليس شيئا ميتا إنه قوة ربانية وطاقة نورانية محركة إذا استقرت في القلب ظهر أثرها حالا على الجوارح على أقوال الإنسان وأفعاله وحركاته وسكناته الإيمان قوة وطاقة ربانية محركة تغير كيان الإنسان وتصنع منه كيانا جديدا فمن توهم أن الإيمان في القلب فقط أوأن التوحيد بالقلب فقط دون أن يكون له أثرا على الأعمال فقد توهم أن الإيمان شيء ميت ومن توهم ذلك لم يعرف حقيقة الإيمان أبدا في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ضرب للإيمان مثلين ضرب له مثل الشجرة الطيبة وضرب له مثل بالجمل بالإبل أما المثل الأول ففي قوله تعالى : ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون [إبراهيم:24-25]. وهذه الشجرة المشار إليها في هذه الآية هذه الشجرة الطيبة هي النخلة فسرها بذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح [1] عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فالنخلة هذه الشجرة الطيبة لها جذور وعروق ثابتة في أعماق الأرض ولها جذع ولها فروع وأغصان شامخة في السماء فكذلك الإيمان الإيمان كالنخلة له أصول وجذور ثابتة في أعماق قلب كل مؤمن ولها جذع ولها أوراق وفروع مرتفعة نحوالسماء أما جذع الإيمان وأصول الإيمان في قلب كل مؤمن فهوالتوحيد وأما جذع شجرة الإيمان وفروعها وأغصانها فهي أعمال الإيمان وأعمال الإيمان هذه تتفاوت فمنها من لا يكون الإيمان بدونه، لا يتصور الإيمان بدونه، كالأركان الخمسة الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج فهذه الأركان لا تقوم للإيمان قائمة بدونها فهي كالجذع من شجرة الإيمان إذا قطع ذلك الجذع سقطت شجرة الإيمان،وماتت، وهناك من أعمال الإيمان ما لا يفوت الإيمان بدونه إذا فقد لا يهدم الإيمان ولكن ينقص الإيمان بنقصانه وتلك الأعمال كالفروع والأغصان لشجرة الإيمان وأعلى هذه الفروع وأعلى هذه الأغصان الجهاد ومن تلك الفروع والأغصان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر الواجبات والمندوبات، فكل ما ازداد المؤمن، كلما أتى المؤمن بشيء من تلك الأعمال، ازدهرت شجرة إيمانه ونمت وترعرعت وتلألأت أنوارها ودنت قطوفها وثمارها، وهناك آفات وعلل خاصة للإيمان قد تطرأ على شجرة الإيمان فتصيبها بالوهن والضعف هذه الآفات والعلل هي المعاصي والكبائر منها على وجه الخصوص، إذا أتى المؤمن شيئا منها أضعفت شجرة إيمانه وأصابتها بالوهن وكلما ازداد اقتراف تلك المعاصي كلما ازداد ضعف شجرة الإيمان حتى يخشى عليه من ذهابها وزوالها وبعض تلك الآفات والعلل بمجرد أن يطرأ على شجرة الإيمان يقضي عليها فمثلا الشك والشبهة والريب إذا استقر شيء من ذلك في قلب المؤمن احرق شجرة إيمانه من أصولها وجذورها وقضى عليها بالكلية ومنه الشرك الأكبر إذا وقع في شباكه المؤمن قضى على شجرة إيمانه قضاءا مبرما وذهب بها هباء منثورا، ومثل هذه الآفات المهلكة لشجرة الإيمان انتاقص شيئا من أمور الدين أوالسخرية بأمر من أمور الدين أوالاستهزاء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أوالاستهزاء بشيء من آيات القرآن الكريم كل هذه الآفات إذا خطرت على الإنسان عصفت بشجرة إيمانه وأحرقتها وقضت عليها بالكلية ومن أعظم هذه الآفات التي تقضي على شجرة الإيمان الكبر فالكبر إذا استقر في قلب العبد الكبر عن الطاعة والامتثال لأوامر الله تعالى إذا استقر في قلب العبد فإنه يلحق بإبليس كسلفه إنما أهلكه الاستكبار على الاستسلام والانقياد والافتخار بالنفس وإلا فهومن أعلم الخلق بربه هومن أعرف الخلق بربه علما ومعرفة وتصديقا بربه ولكن أهلكه الاستكبار على الانقياد والاستسلام قال تعالى : فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ص:73-76]. وقال سبحانه وتعالى: قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال انظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما اغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين قال اخرج منها مذءوماً مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين [الأعراف:12-18].
فمن استكبر عن الطاعة والامتثال والانقياد لله ورسوله يلحق بسلفه إبليس في جهنم وبئس المصير خفي على أقوام حقيقة شجرة الإيمان فتوهموا أنه يمكن أن تقوم هذه الشجرة بجذعها وفروعها وأغصانها دون أن تكون لها أصول أوجذور ثابتة في قلب المؤمن فهم يصرفون عنايتهم إلى تحسين تلك الفروع والأغصان صرفوا عنايتهم إلى الأعمال والفضائل وتركوا التوحيد أهملوا أن يثبتوا التوحيد في القلوب وهوأصل الإيمان وجذعه وصرفوا عنايتهم للفروع والأغصان فكيف تقوم لشجرة الإيمان قائمة بلا جذوع ولا أصول تكون ثابتة في أعماق القلب كما أن هناك آخرين جهلوا حقيقة شجرة الإيمان هذه فتوهموا أنها يمكن أن تعيش بأصولها وجذورها فقط دون أن تكون لها فروع وأغصان شامخة مرتفعة نحوالسماء فقالوا الإيمان في القلب وهم لاهون عن الواجبات والفروض غارقون في المعاصي والمنكرات وقالوا التوحيد في القلب وهم غافلون عن مستلزمات التوحيد غارقون في الشرك والمبتدعات نقول لهؤلاء وهؤلاء أن معرفة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والتصديق بذلك بالقلب لا يكفي أبدا بل إن حب ذلك والتلهف عليه لا يكفي أبدا حتى يصحب ذلك الانقياد والامتثال لأمر الله وأمر رسوله وحتى يصدق ما في قلب العبد العمل حتى يصدق العمل ما في القلب من انقياد وامتثال لأمر الله وأمر رسوله فهؤلاء أهل الكتاب كانوا يعرفون سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم مصدقين بنبوته وبأن ما جاء به الحق لكنهم استكبروا عن اتباعه صلى الله عليه وسلم فبقوا كافرين بل كان بعض اليهود في المدينة يأتي إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلسة فيجلس إليه ويبكي بين يديه ويظهر له التصديق بنبوته ويتبرك به وبدعائه صلى الله عليه وسلم فإذا طلب منه رسول الله أن يتبعه أبى وتمرد على الاتباع فهل أغنى عنه هذا التصديق شيئا بل لم يغني عنه أي شيء وبقي ذلك اليهودي يهوديا كافرا هرقل عظيم الروم صدق بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن ما جاء به حق بل واشتاق إلى لقائه صلى الله عليه وسلم وتلهف على لقائه وتمنى أن يصل إليه فيغسل الأرض تحت قدميه [2] صلى الله عليه وسلم لكنه لم يفعل مع مقدرته على ذلك لم يتبع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن ينقاد لأمره وأن يمتثل لأمره فهل أغنى عنه تصديقه وما وقع في قلبه من التصديق شيئا بل هل أغنت عنه لهفته للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هل أغنى عنه حبه هذا لم يغني عنه شيئا وبقي هرقل عظيم الروم كافرا بينما النجاشي رحمه الله لما بلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم على لسان أصحابه وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين بكى حتى ابتلت لحيته بدموعه وآمن وصدق برسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثل لأمره وأوى أصحاب رسول الله وأكرمهم ومنعم من عدوهم بل لم يكتف بذلك رحمه الله بل أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : إن أمرتني قدمت عليك وسجدت بين يديك فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وأخبر أنه أسلم وحسن إسلامه بل لما بلغه أنه مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب [3] فما الفرق بين هرقل والنجاشي كلاهما صدق بقلبه وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق في نبوته وأن ما جاء به الحق إلا أن النجاشي إيمانه صحيح لأنه أثمر شيئا عظيما هوالامتثال والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هرقل أعرض عن الانقياد وعن اتباع رسول الله غلبه حبه للملك والسلطان فلم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمتثل أمره فإذا فهمنا هذا فإن السر في تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم للإيمان في الحديث الذي في الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده)) [4] ثم أجاب صلى الله عليه وسلم فقال: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم)) ولم يكن الحج قد فرض بعد ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الإيمان بالامتثال والانقياد.
فسر الإيمان بالأعمال وأهم تلك الأعمال لهي الأركان وذكر الجهاد في صياغته إلى الخمس من المغنم صلى الله عليه وسلم ولذلك ذكر إمام المحدثين الإمام البخاري [5] رحمه الله فقال : الإيمان هوالأعمال ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤل: أي الأعمال أفضل فقال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بالله ورسوله)) قيل ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الحج المبرور)) صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هوالغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم (1/61).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي (1/8).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز (1/447).
[4] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان (1/29) برقم (53).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب من قال إن الإيمان هوالعمل (1/18) برقم (26).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1]. اللهم صلي وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/306) رقم (408).
(1/698)
خطبة عيد الفطر المبارك
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
1/10/1407
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التهنئة بتمام شهر الفضل (رمضان). 2- تحذيرات من أخطاء يرتكبها الناس في العيد
كالتبرج والإسراف وحفلات الموسيقى. 3- فرح المؤمن لا يخرجه إلى معصية الله. 4- أيام
العيد يظهر المؤمن فيها أثر نعمة الله عليه. 5- في العيد يتذكر المسلم إخوانه في بلاد نكبت
بغزو الكفار. 6- حديث خاص عن المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي من علينا بشهر رمضان وتمامه، ونسأله المزيد من توفيقه في شوال وسائر أيام زمانه، وفق الله عز وجل عباده فيما مضى للتنافس في التراويح وقيام الليل وتلاوة القرآن العظيم، وبذل الصدقات والإحسان إلى ذوي الحاجات من الأقارب والجيران والمعوزين، عملاً بقوله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]، شرع لنا ربنا الشرائع فما كلفنا فوق طاقتنا: لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]. ومن شرائعه الكبيرة الفرحة بيوم العيد وأداء صلاة العيد، ولكنه الفرح الشرعي الذي لا يدعو إلى أشر ولا يجر إلى خيلاء وكبر وبطر، فرح لا إسراف فيه ولا تبذير: وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:27].
فرح لا تهتك فيه ولا تبرج، ولا تزين أو تعطر للرجال الأجانب: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ [الأحزاب:33]. فرح لا اختلاط فيه، وليس فيه الغناء المشجع على الزنا وعلى الحب والخنا، ولا آلة زمر أو لهو أو طرب، يقول الرسول فيما يرويه البخاري: ((ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) [1] ، أو كما قال ، فرح لا غفلة فيه، لا إضاعة للصلوات، لا نظر فيه إلى المحرمات: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
فرح لا إقبال فيه على العصيان ولا نسيان لما كان في رمضان.
إن المؤمن يفرح ولكن لا ينسى ذكر الله عز وجل، والذاكر لا يغفل ولا يبطر ولا ينسى مصاباً بفاقة، إن المؤمن الذاكر شعاره في عيده قول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، إن المؤمن لا ينسى قول الله بعد آيات الصيام في كتابه: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، إن نبينا يقول: ((أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)) [2].
فهو يأكل ويشرب ولكن في إطار توجيه ربه: وكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31].
إن المسلم يلبس في العيد أحسن ثيابه لتوجيه نبيه : ((إن الله يحب إذا أنعم على عبده أن يرى أثر ذلك عليه)) [3] ، فلا يلبس ما شف عن عورته، وما انجر ذيله على الأرض، لأن الله لا ينظر إلى العبد الذي يجر ثوبه خيلاء وكبراً.
إن المؤمن يمارس بعض أنواع الترفيه البريء الذي لا يؤدي إلى حقد أو صرف عن الفرائض، فالأحباش كانوا يلعبون بالحراب والدرق في مسجد رسول الله [4] ، إن المسلم يستمتع في عيده إلى الأناشيد الإسلامية والقصائد التي تحث على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور وعظائم الهمم. إن المسلم لا ينسى إذا أعجبه شيء أو جاء عيد أن يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إن المؤمن إذا فرح في عيده فإنه يفرح وفي قلبه غصة وفي نفسه حسرة وألم لما آل إليه حال المسلمين اليوم من تفرق فيما بينهم، ونسيان دينهم وربهم، وتداعي الأمم عليهم، يحزن وهو يتذكر حال كثير من المسلمين اليوم من موالاة وتحالف مع اليهود: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ?لآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ ?لْكُفَّـ?رُ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لْقُبُورِ [الممتحنة:13].
إن المسلم الحق لا ينسى في العيد إخوانه الأفغان المجاهدين الصناديد، ولا ينسى ما فعله البعد عن الدين من تفرق بين الأشقاء وتنازع وتحارب، ولا ينسى إذا ما طعم لذيذ الطعام وذاق حلو الشراب إخوانه الفقراء في بلده أو فيما جاوره من البلدان، الذين يعانون من الجوع والعطش والقحط والجدب.
إن المسلم إذا سمع الله أكبر الله أكبر في العيد يطأطئ رأسه لوقوع الأقصى تحت اليهود الأنجاس المناكيد الذين كتب الله عليهم الذلة إلى يوم القيامة، ولكن لما بعدنا عن ديننا أصبحنا أضعف منهم، وأصبح منا من يسارع في ابتغاء رضاهم، ويئن المسجد الأقصى جريحاً يقول ويصرخ وينادي: أين المجاهدون في سبيل الله؟! أين الذين لا يرضون بالذل والهوان؟! أين الذين يفضلون موت الشرفاء على عيش الدهماء؟! أين الذين يحبون الله؟! أين المسلمون لينقذوني من تبجح يهود؟ أماتت الهمم؟! أذهبت المروءات والشيم؟! أفي القوم أحياء أم أدركهم الفوات؟! أما في القوم مثل عمر بن الخطاب؟! أعجزت النساء أن تلد صلاح الدين من جديد؟! أين موسى بن نصير وطارق بن زياد ؟! وأين محمد بن القاسم ؟! بل أين خالد بن الوليد وأسامة بن زيد؟!
لا، لا، يا أيها المسجد الأقصى ولكنها نبوءة تحققت، فقد قال رسول الله : ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) [5].
أقول لك أيها المسجد الأقصى، أقول لكم أيها الممتحنون في دينكم: إن المسلمين قادمون، وبحول الله عائدون، وبكتاب الله وسنة رسول الله متمسكون، لا بالشرائع والنظم والقوانين الغربية، وإنا عازمون بإذن الله على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ به قوام الأمم: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [سورة العصر].
[1] أخرجه البخاري معلقا مجزوما به في : الأشربة ، باب: ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه (5590) من حديث أبي مالك الأشعري.وهو داخل في شرط البخاري كما ذكر ذلك ابن تيمية في الاستقامة (1/294)، وكذا قال غيره.
[2] أخرجه مسلم في : الصيام ، باب: تحريم صوم أيام التشريق (1141) بلفظ : ((أيام التشريق أيام أكل)) من حديث نبيشة الهذلي رضي الله عنه.
[3] أخرجه الترمذي في : الأدب ، باب: ما جاء إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (2819) والحاكم (1/150) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بنحوه ، وحسنه الترمذي وقال: "وفي الباب عن أبي الأحوص عن أبيه وعمران بن حصين وابن مسعود". وكذا عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد (2/311) ، وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ، وصححه الألباني في غاية المرام (75).
[4] أخرجه البخاري في الصلاة، باب: أصحاب الحراب في المسجد (455)، ومسلم في صلاة العيدين، باب: الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد (892) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه أحمد (5/278)، وأبو داود في : الملاحم ، باب: في تداعي الأمم على الإسلام (4297) واللفظ له من حديث ثوبان رضي الله عنه ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3610).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/699)
خطبة عيد الفطر: الإحسان بعد رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الكبائر والمعاصي
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
1/10/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حمد الله على منّة تمام رمضان. 2- دعوة للاستقامة على العمل الصالح بعد رمضان.
3- دعوة لإخلاص العبادة لله. 4- دعوة لصلة الأرحام والإحسان للوالدين. 5- التحذير من
التبذير في العيد. 6- الدعوة إلى تيسير زواج البنات. 7- تذكير بمصائب المسلمين في العالم.
8- التحذير من تبرج النساء. 9- دعوة لصيام ستة أيام من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لهنتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي فضل شهر رمضان المبارك على سائر الشهور وجعله موسما عظيما من مواسم الخيرات، فيه يتنافس المؤمنون على الطاعات والبذل والمعروف والحسنات، تضاعف فيه الأعمال الصالحات، وتقال فيه العثرات، وترفع فيه الدرجات، وتجاب الدعوات، وهو شهر الخيرات والبركات، وشهر المواساة، يزاد فيه رزق المؤمن، ويزداد المؤمنون إيمانا إلى إيمانهم، فيتنافسون فيه على التراويح وقيام الليل وتلاوة القرآن العظيم وبذل الصدقات والإحسان إلى ذوي الحاجات من الأقارب والجيران والمعوزين عملا بقوله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]. وقوله تعالى : وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
والآيات التي تدعو إلى الإحسان كثيرة كثيرة، ألا فلنواصل الإحسان في رمضان بالإحسان في شوال وبقية الشهور، فرب الزمانين واحد، واعلموا رحمكم الله أن علامة قبول الحسنة عمل الحسنة بعدها، ومن علامة ردها عمل السيئة بعدها، إن هذا مما ينبغي أن يعلمه العبد الذي يفرح برحيل رمضان ثم يبادر إلى مبارزة ربه بالتمرد والعصيان.
الله أكبر كلما صام صائم وأفطر، وكلما أورق الشجر وأثمر، وكلما هلل هلال وأقمر، وكلما هطل المطر وانهمر، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، أنيبوا إلى الله وادعوه مخلصين له الدين، أخلصوا العبادة، وأخلصوا الدعاء، وأخلصوا الخوف والرجاء، وتوكلوا في كل أموركم عليه، واستعينوا به فهو المعين وهو نعم الوكيل، وهو المغيث وهو القريب المجيب لمن دعاه بصدق وإخلاص قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، فلنستجب لله ولنؤمن برسوله ولنتذكر باجتماعنا هذا اجتماع الأمم بين يدي الله يوم القيامة في ساحة المحشر وهم حفاة عراة، كما بدأهم الله يعودون ويحشرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فالمؤمنون تتلقاهم الملائكة بالبشارات والتهاني بالأمان من العذاب، يقول الملائكة للناجين يوم القيامة: أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]. ويصف الله المؤمنين في ذلك اليوم فيقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَـ?حِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38، 39].
أما الكفار فيصفهم بقوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَفَرَةُ ?لْفَجَرَةُ [عبس:40-42].
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر عدد ذنوبنا حتى تغفر.
سبحان من تعطف بالعز وتكرم به، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له: فَسُبْحَانَ ?للَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ ?لْحَمْدُ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17، 18]. اللهم كما بعثت فينا نبيك محمدا فاعمر لنا منازلنا ولا تؤاخذنا بسوء أفعالنا وارحمنا يا أرحم الراحمين، اللهم كما لطفت بعظمتكم فوق اللطفاء، وعلوت بعزتك على العظماء، اجعل لنا من كل هم وغم أصبحنا فيه فرجا ومخرجا، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد بن عبد الله نبي الرحمة ورسول الهدى عدد من صلى عليه منذ بعثته إلى يوم القيامة، اللهم صل وسلم عليه عدد من يصلي عليه من يومنا هذا إلى يوم القيامة، اللهم شفعه فينا واحشرنا تحت زمرته وتحت لوائه واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدا، اللهم ارزقنا عيشا قارا ورزقا دارا وعملا بارا، الله اجعل اجتماعنا هذا مرحوما وتفرقنا بعده معصوما.
عباد الله، جملوا عيدكم بالطاعات وبمواصلة فعل الخيرات، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والعطف على الأقارب والفقراء والأيتام، وسارعوا إلى إصلاح ذات البين، فهذا العيد أعظم مناسبة لذلك، وأوفوا الكيل والميزان، وقدموا حكم الله على هوى النفس فلا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول واعلموا أن: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) [حديث متفق عليه] [1] ، وقال رسول الله : ((من ضار ضار الله به، ومن شاق شق الله عليه)) [رواه الترمذي] [2].
ألا فلنربِّ أولادنا على الإسلام، ولنعلمهم الاقتصاد في الإنفاق وحسن التدبير، وصرف الأموال في مواضعها في العيد، ولنحصن البالغين بالزواج عملا بقوله : ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)) [3] ، فيا أيها الشباب المستطيع للزواج هلا بادرت إلى ذلك؟؟.
ويا أيها الولي الذي ائتمنك الله على البنات هلا سارعت إلى تزويجهن وتيسير مهورهن؟ لا يأتي العيد المقبل إلا وقد زوجتهن بالأكفاء الذين يحافظون عليهن.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
[1] أخرجه البخاري في المظالم والغصب، باب: الظلم ظلمات يوم القيامة (2447)، ومسلم في: البر والصلة، باب: تحريم الظلم (2579) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في الخيانة والغش (1940)، وأبو داود في: الأقضية، باب: من القضاء (3635)، وابن ماجه في: الأحكام، باب: من بنى في حقه ما يضر بجاره (2242)، من طريق لؤلؤة عن أبي حرمة، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب". وفيه لؤلؤة مقبولة كما في التقريب (8775) ولم يرو عنها سوى محمد بن يحيى، لكن له شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الحاكم (2/57-58) والبيهقي (6/69)، ولذا حسنه الألباني في صحيح الترمذي (1584).
[3] أخرجه البخاري في: النكاح، باب: من لم يستطع الباءة فليصم (5066)، ومسلم في: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، أحمده سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إليه المرجع والمآب وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً إمام الأتقياء وسيد الأولياء، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا.
اعلموا عباد الله أن الصدقة تمحو الخطيئة وتطفئ غضب الرب وتقي مصارع السوء، فلا ينبغي للمؤمن أن ينسى من حرم من إخوانه المسلمين من فرحة العيد بمجاعة أهلكت أو حرب دمرت، واعلموا أن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، فلنتذكر الفقراء والمحتاجين ولا سيما إخواننا المتضررين بالجفاف في أفريقيا، ولنتذكر المجاهدين في سبيل الله في كل مكان ولا سيما في بلاد الأفغان، اللهم أيدهم بنصرك وأعزهم بقدرتك، اللهم سدد سهامهم، وزلزل الأرض تحت أقدام أعدائهم، وألف ذات بينهم يا سميع الدعاء.
ألا فليحذر المسلمون من التكبر ومظاهره، فإن المتكبرين يحشرون يوم القيامة كأمثال الذر يدوسهم الناس بأقدامهم، ولتحافظ الحرة المسلمة على زينتها فلا تتبرج ولا تتعطر ولا تظهر زينتها لغير المحارم فالله يقول: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأولَى? [الأحزاب:33].
فلنفرح بدون بطر، ولنتنزه دون تكشف واختلاط، ولنكبر الله فإن التكبير شعار المسلمين في أعيادهم.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ولا ننسى صيام ستة أيام من شوال فالرسول يقول: ((من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر كله)) [رواه مسلم] [1].
[1] أخرجه مسلم في: الصيام، باب: استحباب صوم ستة من شوال إتباعاً لرمضان (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
(1/700)
قصة المجادلة
التوحيد
الأسماء والصفات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة الله الخالق دليلها عظمة مخلوقاته 2- قصة المجادلة التي سمع الله نداءها
3- سعة علم الله 4- احتجاب الله عن خلقه 5- تجلي الله للجبل في قصة موسى
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: من عرف عظمة الله سبحانه فكيف يعصيه، ومن عرف رحمة الرحمن الرحيم التي وسعت كل شيء فكيف يقنط من رحمة ربه سبحانه ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة سبحان الله العظيم، إن من عظمة الله سبحانه أنه علا فوق خلقه وهو سبحانه فوق عرشه وعرشه فوق سماواته وسماواته فوق أرضه قال تعالى: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [الأعراف:54].
أتدرون ما هذه السماوات هذا الخلق العظيم الذي خلقه الواحد القهار سبحانه وتعالى قال عبد الله بن مسعود فيما رواه عنه البيهقي بسند حسن: ((ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام وما بين السماء السابقة والكرسي خمسمائة عام وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام والكرسي فوق الماء والله سبحانه وتعالى فوق العرش الذي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم)) [1].
هذا من عظمته سبحانه وتعالى أنه وهو في عليائه في علوه تعالى فوق عرشه وعلمه في كل مكان يسمع ويرى كل ما يجري في ملكوته لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه أتدرون ما المجادلة؟ أتعرفون قصة المجادلة؟
تلك التي أنزل الله فيها قرآنًا. روى البيهقي [2] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر مع نفر من أصحابه فاستوقفته عجوز فوقف عليها ووضع يده على منكبيها حتى قضت حاجتها ، فلما فرغت قال رجل من أصحابه تحبس رجالات قريش على هذه العجوز، فقال عمر رضي الله عنه. ويحك أتدري من هذه العجوز هذه عجوز سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات.
هذه إذن خولة بنت ثعلبة تلك المجادلة التي جاءت إلى رسول الله تشكو إليه حالها وورطتها مع زوجها الذي ظاهر عليها حلف عليها أنها كظهر أمه فجاءت تشكو إلى رسول الله تهمس إليه بحالها ومشكلتها.
تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في قصة المجادلة: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء [3] ، وفي لفظ [4] : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي تكلمه وأنا في ناحية من البيت ما أسمع ما تقول وأنزل الله تعالى: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير [المجادلة:1].
سبحانه أوعى سمعه كل شيء، سبحانه وسع سمعه الأصوات.
هذه خولة بنت ثعلبة تهامس النبي وبالقرب منها عائشة ما تسمع ما تقول، وسمع الله تحاورها مع النبي وهو فوق سبع سماواته، والله تعالى في علوه وفوق عرشه ومع ذلك لا يخفى عليه حال خلقه مطلع على أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم وما في ضمائرهم لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى.
روى البخاري [5] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي أي نزل ضيفًا على النبي فأرسل النبي إلى نساءه فقلن ما عندنا إلا الماء - ليس في بيوت رسول الله أكرم الخلق وأعظم الخلق إلا الماء - فقال الرسول الله من يضيف هذا ؟
فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله.
فأخذه وانطلق به إلى امرأته وقال لها: أكرمي ضيف رسول الله.
فقالت امرأته: ما عندنا إلا قوت صبياني.
ما كان حال هذا الأنصاري ببعيد عن حال رسول الله.
ليس في بيته إلا قوت صبيانه كما تقول زوجه.
فقال لها: هيئي طعامك وأصلحي سراجك ونومي صبيانك إن أرادوا عشاءً، فهيأت طعامها وأصلحت سراجها ونومت صغارها، ثم قامت إلى السراج كأنها تصلحه فأطفأته ثم طفقا - أي الأنصاري وامرأته - يريان ضيفهما أنهما يأكلان معه في الظلام حتى يطمئن الضيف فيأكل، حتى أكل الضيف وشبع هنيئًا مريئًا وباتا طاويين جائعين هما وصبيانهما فلما أصبح غدا على رسول الله فقال : قد ضحك الله من فعالكما الليلة، أو قد عجب الله من فعالكما الليلة.
وأنزل الله في تلك الليلة: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9].
سبحان الله العظيم ذلك الأنصاري الغريب وامرأته ومع ضيفهما في ظلمة ذلك الليل في جوف ذلك البيت ومع ذلك الله من فوق عرشه اطلع على فعالهما وضحك من فعالهما وعجب من فعالهما ورضي عنهما إذ آثرا ضيفهما على نفسيهما وعلى صبيانهما، سبحان من وسع سمعه الأصوات، سبحان من وسع بصره الأشياء، سبحان من وسع كل شيء علمًا وأحاط بكل شيء علمًا.
ومن عظمة الله سبحانه أنه احتجب عن خلقه لا تدركه أبصار خلقه ولا يحيط به علم المخلوق وحجاب ربه سبحانه النور [6] لو كشف عن وجهه لأحرقت سبحات وجهه سبحانه ما امتد إليه بصره في السماوات والأرض كما ثبت عن رسول الله ، هذا سيد الخلق رسول الله وقد عُرج به إلى السماوات ووصل إلى أعلى مقام ممكن أن يصل إليه مخلوق دنا من ربه عز وجل حتى لم يبقى بينه وبين ربه إلا الحجاب ومع ذلك لم ير النبي إلا الحجاب لما سئل أرأيت ربك قال:- رأيت [7] نوراً ومرة قال:- نور [8] أنى أراه. أي حجابه النور فأنى أراه سبحانه وتعالى. فأما موسى عليه السلام فقد طمع في الرؤية غلبه شوقه عليه السلام إلى رؤية ربه فنسى مقامه نسى أن الإنسان لا يدرك ببصره الخالق العظيم فقال: أرني أنظر إليك فأدبه الرب سبحانه ذلك التأديب الإلهي العجيب قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترانى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقاً [ الأعراف:143].
سبحان الله العظيم لما تجلى الله للجبل هذا المخلوق العظيم لم يطق ذلك فذهب هباء منثوراً ونسف نسفاً لما تجلى الله للجبل وخر موسى عليه السلام مغشياً عليه من هول هذا الموقف فلما أفاق قال سبحانك إنى تبت إليك وأنا أول المؤمنين [ الأعراف 143 ]. سبحان الله العظيم رب العرش الكريم.
وأخيراً أيها المسلمون اسمعوا لهذا الحديث عن النبي في وصف عظمة الله سبحانه يوم القيامة، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: ((جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي فقال:- يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر والزرع والخلائق على إصبع فضحك النبي حتى بانت نواجذه - ضحك النبي تعجباً وتصديقاً لما يقول ذلك الكتابي - ثم قرأ قوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [الزمر:67].
أيها المسلمون: اعرفوا عظمة الله تبارك وتعالى، تعرفوا على عظمة الخالق العظيم الجليل الكريم جبار السموات والأرض ومن عرف عظمة القهار الجبار وجب أن يخاف قهره وجبروته ويتقى غضبه وسخطه ويثني عليه الخير كله.
كان رسول الله يلهج لسانه بهذه الدعوات يقول : ((اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن لك الحمد أنت نور السموات والأرض قولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والساعة حق، اللهم أسلمت إليك وآمنت بك وتبتُ إليك وتوكلت عليك وخاصمت بك وحاكمت إليك فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله غيرك)) [9].
[1] أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (2/290) برقم (851) والدارمي في الرد على الجهمية برقم (81) والطبراني في الكبير (9/228) برقم (8987) وغيرهم.
[2] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/3342) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/322) برقم (886).
[3] أخرجه الطبري في تفسيره (28/5) وغيره واللفظ الآخر (الحمد لله.. ) أثبت وأصح إسنادا من هذا.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (66) فضائل الصحابة (40) (3/1382).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (66) (3/1382).
[6] أخرجه مسلم في صحيحه (1) في كتاب الإيمان (79) باب قوله عليه السلام (أن الله لا ينام) وفي قوله حجابه النور لو كشفه لا حرقت سبحات.. (1/161-162) برقم (178) (291).
[7] أخرجه مسلم في صحيحه (1/161).
[8] أخرجه مسلم في صحيحه (1/161).
[9] أخرجه البخاري في صحيحه (25) باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (1/532-533).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصي الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة (17) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد (1/306) برقم (408).
(1/701)
دروس من الحج
فقه
الحج والعمرة
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
14/12/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة إلى اغتنام الأوقات بصالح الأعمال. 2- لباس الإحرام وتذكرة الموت. 3- استقبال
البيت وذكريات البيت. 4- أعمال الحج تعظيم لشعائر الله. 5- زحام الحجيج يذكرنا يوم الحشر
الأكبر. 6- نفرة مزدلفة تذكرنا نفخة الصور والصدور من القبور. 7- رمية الجمار وعداوة
إبليس. 8- الحج الوحدة الإسلامية. 9- الهدي وذكرى إسماعيل الذبيح.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فاتقوا الله يا عباد الله ، واعلموا أنكم ملاقوه ، وعما قليل صائرون إليه ، وليكن لكم فيما مر من الأيام حسن الاعتبار، واغتنموا أعماركم بالأعمال الصالحة، فإنها تنقضي سريعة.
واعلموا أن أياما مضت هي من أعظم أوقات الفضائل ، فالسعيد من تنبه لها ، وفطن لفضلها ، فاستغلها واستعمرها بطاعة ربه ، والمسكين المسكين من مرت به ولما يزل قلبه بعد قاسيا، وعن مولاه وربه سبحانه وتعالى بعيدا ونائيا ، وإن من تمام السعادة والاستفادة أن يتفكر الإنسان فيما أقدم عليه من مناسك وأعمال وتدبر ماذا عسى أن يكون من العبر وراءها.
فإنك يا أخي الحاج عندما أحرمت أولا تجردت من المخيط امتثالا لأمر الله وتذكرا لدار عما قليل ستصير إليها، وقبر عما قريب سترحل إليه، فما لباس الإحرام إلا كفن تلبسه وتمشي به، ولعل لبسك إياه ذكرك بأنه لا يبقى معك عند رحيلك من الدنيا إلا عملك الصالح: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:281].
ثم إنك إذا وقفت في الميقات لتحرم عنده علمت كيف يدعوك الإسلام إلى امتثال النظام، وكيف يدربك عمليا على ذلك فلا تحرم قبل الميقات ، ولا دونه ، بل من عنده أو بمحاذاته.
ثم لما وصلت إلى مكة واستقبلت بوجهك البيت العتيق تذكرت أياما عظيمة خلت وتاريخا مجيدا مر بالبيت وكيف أن أمما مرت وبادت استقبلت هذا البيت كما استقبلته أنت ، ومضت إلى ربها محسنة أو مسيئة ، ولعلنا أن نكون من المحسنين.
ثم نتذكر كيف كان هذا البيت مهد الدعوة الإسلامية الأول، وأن في جنباته مشى الصحب الأطهار وسجد لله وركع سيد الأبرار عليه أفضل الصلوات والسلام، ثم إن خروجك إلى منى رمز إلى تقديسك لأوامر الله وشعائره: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج:32].
فقد تركت العمران وصرت إلى الخلاء رضى للغفار ، وسرت بعد ذلك إلى عرفات ، فوقفت فيها لله أنت وجميع الناس في حرارة الشمس، ولفح الهجير ، متذكرا يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، يكون حال الناس فيه بحسب أعمالهم ، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يصل العرق إلى حقويه، ومنهم من يصل العرق إلى كتفيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، ومنهم من يحشر مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، يظلهم عرش الرحمن بظله.
ويتذكر الإنسان في يوم عرفة ما مر به من العصيان، فيتجرد منه مستغفرا وتائبا إلى الملك الحنان المنان، مستحضراً نزول ملائكة الرحمن، متمنيا على الله أن يكون ممن يباهي بهم ملائكته ، ويعتق من النيران رقبته.
ثم إذا قام الناس بعد غروب الشمس ونفروا إلى مزدلفة تذكر قول الله تعالى: خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر [القمر:7].
تذكر قيام الناس من قبورهم عند نفخة الصور وانسياقهم إلى المحشر، ثم إلى الجنة أو النار وبئس القرار.
ثم بعد ما يرمي الحاج الحجارة وبعد المبيت بمزدلفة يتذكر العدو الأول للإنسانية جمعاء إبليس قاتله الله، وأعلن الحاج برميه الجمار عداوته وكراهيته له، تذكر وعد الله بتكفير موبقة من الموبقات بكل حصاة يرميها، فكأن لسان حاله يقول: ها أنا ذا يارب أعادي من عاداك وعصاك، ولا أوالي إلا من والاك وألقي عن كاهلي أحمال المعاصي وأثقالها، فتقبل مني.
وعندما ينظر حوله عند النفرة من عرفات ومزدلفة وأثناء رمي الجمار وفي كل تجمع للحجاج عندما ينظر إلى تلك الأعداد الهائلة من الناس ويتفكر في حال الأمة اليوم يبكي قلبه حرقة وألما وحزنا ويرجو الله أن يعيد إلى هذه الأمة عزتها، ثم يتذكر أهمية الوحدة ، وحدة الأمة الإسلامية ولاسيما وحدتها على كتاب الله وسنة رسوله، وأهمية الجماعة في إنجاز أوامر الله وتحكيم شرعه سبحانه وتعالى.
وإذا ما حلق شعره كأن لسان حاله يقول: ها أنا ذا يا رب نبذت ورميت ما تبقى من شعري ابتغاء مرضاتك وطمعا في غفرانك، ولما ذبح أضحيته أو أهدى هديه تذكر رمز الفداء الأول ورمز التضحية إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلم كيف أن في طاعة أوامر الله النجاة من كل كرب ومصيبة، ثم إذا عاد إلى البيت ليطوف طواف الإفاضة، وليسعى سعي الحج فإنه يجدد العهد مع ربه وكأني بالحاج حينذاك يناجي ربه فيقول : ها أنا يا رب أعود إلى بيتك ، وأعظمه مرة بعد مرة، وها أنا يا مولاي ويا ربي منيب إليك ، فلا ملجأ ولا ملاذ منك إلا إليك.
وإن العبد إذا خاف من شيء هرب منه أما إذا خاف الله فإنه يهرب إليك.
وفي مشاهدة الناظر إلى منى بعد أن خوت من الناس ورحل عنها من كان بالأمس القريب يعمرها ، ورأى الخيام وقد هدمت بعد ما كانت بالأمس قد نصبت، في مشاهدة الناظر ذلك عبرة وأي عبرة، فهذا حال الدنيا صعود وهبوط ونزول وارتحال وتقلب في الأحوال.
ثم إذا ما جاء طائفا ومودعا البيت سكب العبرات، وكوى جنبيه ألم الفراق، وبكى لله، وتمنى أن تكون له عودة وأوبة إلى غسل النفس من ذنوبها ، وطهارتها من أدرانها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا
وبعد :
فاتقوا الله يا عباد الله وأديموا ذكره، فهو يأمركم بذلك وخاصة بعد انقضاء المناسك يقول تعالى: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب [البقرة:200-202].
(1/702)
ذكر الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
30/10/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اطمئنان القلوب بذكر الله. 2- تفريج الكروب بذكر الله. 3- من ذكر الله ذكره الله.
4- المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً. 5- شرعت العبادة لذكر الله. 6- فوائد لذكر الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإذا اضطربت النفس فلم تطمئن وحار القلب فلم يسكن وأرقت العين فسهرت ولم تنم، فما عسى المسلم حينذاك أن يفعل ؟
وإذا ما اشتدت الكروب وأحاطت المصائب والخطوب وتكاثرت الهموم والغموم، فبأي عمل نقوم لتنقشع من سمائنا الغيوم وليرجع إلينا صفاء عيشنا، أين الدواء المخلص من عضال هذا الداء داء القلق النفسي والاضطراب؟
إنه يا معشر المؤمنين ذكر الله الذ ي يصف لنا في محكم كتابه حال طائفة من عباده فيقول : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [الرعد:28].
يكفي أيها المهموم أن تقول ثلاثا: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [الأنبياء:87].
فيأتي الفرج سريعا. إنها دعوة وذكره، أنقذ الله بها يونس ذا النون من بطن الحوت، ولو لم يقلها للبث في بطنه إلى يوم يبعثون.
يكفيك أيها الخائف أن تقول: حسبي الله ونعم الوكيل ، فتنقلب بنعمة من الله وفضل منه لم يمسسك سوء، ويكفيك يا من ضاق عليك رزقك أن تذكر الله فتقول: (( أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه )) (1) فيتوسع رزقك وتقضى حاجتك، وحسبك أيها المستوحش في وحدتك، المكروب في غربتك، البعيد عن أهلك وموطنك أن تذكر الله تفوز بمعيته، قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه )).
قال ابن عباس أي: بالليل والنهار، في البر والبحر، والسفر والحضر، والغنى والفقر، والمرض والصحة، والسر والعلانية. ولقد ذم الله المنافقين فقال: ولا يذكرون الله إلا قليلاً [النساء:142]. وقال تعالى: ولذكر الله أكبر [العنكبوت:45].
قال ابن عباس أيضا: له وجهان: أحدهما: أن ذكر الله تعالى لكم أعظم من ذكركم إياه. والآخر: أن ذكر الله تعالى أعظم من كل عبادة سواه، وفرق كبير بين الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، إذ يقول الرسول : (( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت )) (4) رواه البخاري.
ويقول الحبيب أيضا يبين لنا أن الذكر مطردة للشيطان يقول: (( إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسي التقم قلبه )) (1) رواه البيهقي.
وتعظم درجة الذكر لله إذا كان ذكره لربه سبحانه بين قوم غافلين لاهين: (( ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارين )) (2) كما يقول سيد المرسلين.
إن ذكر الله عبادة عظيمة تشمل عدة أنواع من العبادة وتدخل في الكثير منها فهل كانت الصلاة إلا ذكراً أو كانت إقامتها إلا ذكرا: وأقم الصلاة لذكري [طه:14].
وهل قراءة القرآن إلا ذكر؟ بل إن من أسماء القرآن اسم الذكر، وهل يخلو الحج من ذكر الله: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم [البقرة:198].
ولا يخلو الصوم من الذكر، والدعاء ذكر والاستغفار ذكر، إن من الناس من لا يعرف ذكر الله إلا عند المناسبات كعقد قران أو عزاء في ميت، وإن ذكرت الله في غير هذه المناسبات أمامه استغرب ذلك منك ولربما رماك بالدروشة أو بالجنون، إن ديننا يأمرنا أن نذكر الله في كل الأحوال كما سبق، بل لقد عد الله من يذكره خاليا بعيداً عن الناس فتفيض عيناه عده سبحانه وتعالى فيمن يظلهم تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله سبحانه وتعالى.
جعلني الله وإياكم من الذاكرين، وجنبنا وأهلنا غفلة الغافلين الذين كان لهم الشيطان قرينا: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين [الزخرف:36].
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 17/12.
(4) صحيح البخاري : كتاب الدعوات ، باب فضل ذكر الله 7/168.
(1) الجامع لشعب الإيمان 2/578.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير 10/16.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين الحمد لله الذي أمر عبده فقال: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين [الأعراف:205]. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وبعد :
فقد أخرج أحمد والترمذي والحاكم عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله : (( ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق (الفضة)، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم. قالوا: بلى. قال: ذكر الله )) (2).
ولما كان الأمر كذلك كانت مجالس الذكر أعظم المجالس بركة وأجراً بشهادته الذي يقول فيها: (( لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده )) (3) رواه مسلم.
بل شبه النبي حلق الذكر في الدنيا برياض الجنة إذ يحث المؤمنين قائلا: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر )) (4) رواه الترمذي.
إن مجالس الغفلة هي التي لا يذكر فيها اسم الله ولا يصلى فيها على نبيه أخرج أبو داود والترمذي عن رسول الله : (( ما من قوم جلسوا مجلسا وتفرقوا منه لم يذكروا الله فيه إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار وكان عليهم حسرة يوم القيامة )) (1).
ويقول : (( ما قعد قوم مقعداً لا يذكرون الله عز وجل ولا يصلون على النبي إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب )) (2).
(2) سنن الترمذي: كتاب الدعاء باب ما جاء في فضل الذكر 5/459.
(3) صحيح مسلم : كتاب الذكر ، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 17/22.
(4) سنن الترمذي : كتاب الدعوات ، باب 83 5/532.
(1) المستدرك 1/492.
(2) مسند أحمد 2/463 وقال الهيثمي رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد 10/79.
(1/703)
ما يجب على كل مسلم
الأسرة والمجتمع, الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية, الولاء والبراء
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
واجبان عظيمان : 1- العلم 2- العمل – هكذا كان الصحابة – ما يجب نحو الخَلق ( الولاء والبراء ) ما يجب نحو الأسرة والأولاد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: سأل سائل بعدما سمع الأحاديث الماضية عن الإيمان فقال: ماذا يجب علىّ أن أفعل. ما هو الواجب على كل مسلم ؟
كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي فيقول: ((أحدهم دلنا على عمل يقربنا إلى الجنة ويباعدنا عن النار)) [1].
وسأله وفد عبد القيس [2] فقالوا: مرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة، نعم ماذا يجب على كل مسلم أن يفعل ؟ على كل مسلم واجبان هما العلم والعمل.
أما العلم: فعليه أن يتعلم الضروري من أمور دينه عليه أن يتعلم ما يصحح به إيمانه واعتقاده، وعليه أن يتعلم ما يصحح به عمله.
هذا القدر من العلم واجب على كل مسلم ومسلمة لا يُعذر أحد بتركه كائنًا من كان فإذا تعلم المسلم شيئًا قال رسول الله : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) [3].
يشير إلى ذلك القدر الضروري من تعلم أمور الدين.
فإذا تعلم المسلم شيئًا فعليه أن يطبقه. كلما تعلم شيئًا من أمور دينه عليه أن يبادر إلى تطبيقه. هكذا كانت طريقة أصحاب رسول الله كانوا رضوان الله عليهم أجمعين كلما نزلت خمس آيات أو عشر آيات تعلموا ما فيهن من العلم والعمل [4].
فإذا بدأت مسيرتك نحو العلم والعمل فاعلم أن هناك ما يجب أن تعرفه وتؤمن به وهناك ما يجب أن تعرفه وتعمله.
أما ما يجب عليك أن تعرفه وتؤمن به فأمور الإيمان الستة الأركان الستة وهى معرفة الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
وأما ما يجب أن تعرفه وتعمله وتبادر إلى تطبيقه فأن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلاً وتجاهد في سبيل الله بمالك ونفسك.
وأما ما يجب عليك نحو المخلوقين فأولاً وقبل كل شيء أن يسلم المسلمون من لسانك ويدك أن تكف أذاك وشرك عن إخوانك المسلمين.
ثم بعد ذلك تكون رحيمًا بهم ناصحًا لهم لا تظلم أحدًا منهم ولا تغشهم ولا تخذلهم.
وتحب في الله وتوالي في الله وتكره الكفر والطاغوت، يجب عليك أن تبغض الكفر والطاغوت وأهل الكفر وعبد الطاغوت وتعاديهم في الله وتجاهدهم بكل ما استطعت من نفسك ومالك وقلمك ولسانك وسعيك وجهدك وعقلك ورأيك كما يجب عليك أن تؤمن بالله وتحب أهل الإيمان وعليك أن تكفر بالطاغوت وتبغض أهل الكفر وعبد الطاغوت وتجاهدهم بمالك إن كنت ذا مال بنفسك بقلمك ولسانك بأي شيء تملك.
أيها المسلم وعليك مع ذلك كله أن تحذر من الوقوع في الكبائر. أن تحذر في الوقوع في أكبر الكبائر على وجه الخصوص وأكبر الكبائر هو الشرك بالله فإن الشرك بالله يحبط العمل كله. لو أتيت بكل ما ذكرنا وفعلت كل ما ذكرنا وبذلت فيه كل جهدك وطاقتك ثم لقيت ربك بالشرك فقد حبط عملك كله.
إن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعًا إلا الشرك فإنه لا يغفره.
قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا [النساء:48] وقال تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين [الزمر:65-66].
فاحذر أيها المسلم من الوقوع في الشرك، العبد قد يقع في الشرك فلا غفران مع الشرك ولا يستحق مرتكب هذه الكبيرة لا يستحق الرحمة أبدًا. لكن قد يقع إنسان في باقي الكبائر والمعاصي فهو حينئذ تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه بعدله وإن شاء غفر له بفضله.
قال الرب سبحانه في الحديث القدسي: ((من لقيني بقراب الأرض خطيئة (بقراب الأرض أي بملء الأرض) وهو لا يشرك بي شيئًا لقيته بقرابها مغفرة)) [5] رواه مسلم فصحح إيمانك أيها المسلم أولاً وقبل كل شيء صححه من أدران الشرك حتى تلقى ربك سبحانه بإيمان سليم غير مشوب بشرك.
صحح إيمانك أولاً حتى يصح اعتقادك ويصح عملك ولا تكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا. تغزل وتجتهد وتبذل جهدها وسعيها حتى إذا أتمت غزلها أتت عليه كله فنقضته، هذا مثال الإنسان الذي جاء بأعمال صالحة وأنواع من البر والخير ثم لم يتورع من الوقوع في الشرك وأعمال الشرك إما جهلاً منه وإما تقليدًا واتباعًا للآباء والأجداد فهذا والعياذ بالله أحبط بشركه عمله كله أحبط بشركه كل تلك الأعمال الصالحة وكل تلك الأنواع من البر والخير. كما أخبر رب العزة والجلال مخاطبًا سيده وحبيبه محمداً والمراد أمته: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [الزمر:65].
يا أيها المسلم ابدأ مسيرتك نحو الجنة لا تماطل نفسك ولا تسوف.
ابدأ مسيرتك نحو الجنة ابدأ بنفسك ثم بمن تعول. ابدأ ومعك أهلك وأولادك وأسرتك ومن حولك، لا تبدأ وتضع نفسك في طريق الجنة وتنسى أهلك وفلذة كبدك وتتركهم في طريق الهلاك والدمار.
يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6].
أول ما بدأ رسول الله بدأ بنفسه فكان وهو شاب في مقتبل حياته كان يعرض عما يقع فيه أترابه من شباب مكة وينزه نفسه عن ذلك ثم حُبب إليه الخلاء فذهب يتعبد ربه في غار حراء [6] ولبث على ذلك برهة من الزمن حتى فاجأه الوحي وهو في أحسن حال.
وبم بدأ معه الوحي، الوحي بدأ مع النبي بنفسه فقيل له: اقرأ باسم ربك الذي خلق [العلق:1] فأُمر عليه الصلاة والسلام بالعلم. ثم قيل له: قم الليل إلا قليلاً [المزمل:2] فأُمر بالعمل ثم جاءه الأمر بالبلاغ، بم يبدأ البلاغ؟ أُمر أولاً أن يبدأ بأهله فقيل له: وأنذر عشيرتك الأقربين [الشعراء:214]. الأهل والعشيرة الأقربين أولاً ثم بعد ذلك جاءه الأمر بالبلاغ العام للناس جميعًا فقيل له: فاصدع بما تُؤمر وأعرض عن المشركين [الحجر:94].
هذا هو الترتيب الرباني لهذا الأمر. فعلينا أن نرتب حياتنا كما أمرنا الله عز وجل نبدأ بما بدأ الله ونختم بما ختم الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئًا بما كنتم تعلمون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين، والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين [الطور:17-21].
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (30) الزكاة (1) باب وجوب الزكاة (2/506) برقم 1396.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان (38) باب : أداء الخمسمن الإيمان (1/29) برقم (53).
[3] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/23) برقم (15) وغيره.
[4] أخرجه ابن سعد في الطبقات (6/172) والقسوي في المعرفة والتاريخ (2/589-590) وغيرهاما عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود ومسنده صحيح.
[5] أخرجه مسلم في صحيحه (48) في كتاب الذكروالدعاء والتوبة والاستغفار (6) باب فضل الذكر والدعاء (4/2068) برقم (2687).
[6] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (1) بدء الوحي (1) باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/4) برقم (3).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن سائر آل بيتك الطيبين الطاهرين وعن زوجاته أمهات المؤمنين وعن سائر الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/704)
شكر النعم
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
17/1/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النعم تستوجب الشكر. 2- نعم الله لا تحصى وأعظمها الإسلام. 3- تعداد لبعض نعم الله.
4- كيفية حفظ هذه النعم وشكرها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن الفرد منا لو أحسن إليه أحد من العباد فأخرجه من ضائقة أو قضى له حاجة، أو أعانه على أمر، أو حتى عامله بلطف، فإنه لا يعرف كيف يشكره ويرد جميله، بل قد يقول له: إني عاجز عن الشكر، وإن لك علي لفضلا.
هذا مع عبد من العباد وفي أمر يحصل على قلة وقد لا يتكرر ، فكيف يكون موقفنا مع رب الأرباب ذي الطول والحول العزيز الوهاب ؟! الذي يقول: وءاتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها [إبراهيم:34]. وقال تعالى: وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة [لقمان:20]. يخبرنا سبحانه وتعالى أنه لا سبيل لعد وحصر نعمه فهي كثيرة متتابعة.
لكننا سنعيش مع بعض منها لنشكره جل وعلا إذ يقول: وسنجزي الشاكرين [سورة آل عمران:145]. والشكر طريق الزيادة: لئن شكرتم لأزيدنكم [إبراهيم:7].
إن من أعظم النعم نعمة الإسلام وإكمال الدين إذ بها صلاح الدارين ويمتن المولى علينا فيقول: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة:3]. ومن النعم علينا نعمتا الأمن من الخوف ، والإطعام من الجوع ، ولا يعرف قدر هاتين النعمتين إلا من فقدهما، ومن نظر إلى الأمم من حوله فكم من حروب دمرت ونسفت، وكم من مجاعات أكلت وأبادت، ومن النعم اكتمال حواسنا من سمع وبصر وأفئدة: قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون [الملك:23].
ومن نعمه سبحانه سعة ذات اليد فالنبي يقول: (( من أصبح منكم آمنا في سربه، معافاً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا )) (5) أو كما قال فليس منا اليوم أحد إلا وعنده قوت أسبوعه أو شهره، بل قل سنته أو سنواته، ولا ننسى نعمة الزوج والذرية إن صلحت.
ويعجب البعض لو علم أن نعم الله لا تنفك عنا حتى في المصائب فمن نعمه سبحانه في المصيبة إن اتصفنا بصفات الصابرين رفع الأجر، ووضع الوزر، وكونها ليست في الدين، وكونها يدفع بها بلاء أعظم منها، وكونها مقدرة وقد وقعت وانتهت.
إنها نعم كثيرة عظيمة فكيف السبيل إلى حفظها ، وبم نقيدها إنه يا عباد الله الشكر: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون [البقرة:152]. والشكر يكون بالجنان وباللسان وبالجوارح، بالجنان بإسناد النعمة إلى منعمها وبقصد الخير وإضماره لكافة الخلق.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها قبل أن يحمده عليها ، وما أذنب عبد ذنباً فندم عليه إلا كتب الله له مغفرة قبل أن يستغفره، وما اشترى عبد ثوبا بدينار أو نصف دينار فلبسه فحمد الله عليه إلا لم يبلغ ركبتيه حتى يغفر الله له )) (1)
وشكر باللسان بقوله الحمد لله في مبدأ أمرنا ، فكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أقطع – أي ناقص – وفي آخر أمرنا إذ يقول المصطفى : (( إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها )) (2) رواه مسلم. ونشكره كذلك في سائر أحوالنا وقليل من عبادي الشكور [سبأ:13]. ويكون شكر الله بجوارحنا بعبادته كما أمر ابتعاداً عن النواهي، وفعلاً للأوامر، وبإظهار نعم الله علينا بلسان الحال والمقال، فالله يقول: وأما بنعمة ربك فحدث [الضحى:11]، يقول أحد الصحابة: (( أتيت رسول الله وأنا قشف الهيئة ، قال : هل لك من مال؟ قلت : نعم. قال : من أي المال ؟ قلت : من كل ، من الإبل والخيل والرقيق والغنم. قال : فإذا آتاك الله مالاً فلير عليك )) (5) والله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده دون عجب ولا غرور أو كبر.
إنه لا يمكن أن نؤدي شكر الله، ولكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها وهذه نعمة أخرى فهو سبحانه أنعم علينا بما هو من قدره ويقبل شكرنا على قدر طاقتنا وقدرتنا، فلنر الله من أنفسنا خيراً.
اللهم لك الحمد أولاً وآخراً ، ونشكرك اللهم ولا نكفرك، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
(5) أخرجه البخاري في الأدب المفرد حديث رقم <<300>> وأخرجه الترمذي في سننه : كتاب الزهد ، باب في التوكل على الله 4/ 574 ، وابن ماجه في
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 514 وقال: لا أعلم في إسناده أحدا ذكر بجرح ولم يخرجاه.
(2) صحيح مسلم : كتاب الذكر والدعاء ، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب 17/ 51.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 25. وأخرجه أحمد في المسند 4/ 137.
بنحوه والنسائي في السنن : كتاب الزينة باب في الجلاجل ت8/ 179.
بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال والإكرام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرد بالربوبية على الدوام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله قام بشكر ربه حق القيام، صلوات ربي عليه وأزكى تحية وسلام ، وبعد :
فإننا لما عرفنا مقام الحمد والشكر وأهميته نتعرض لمقام أعيذ نفسي وإياكم منه، وهو مقام كفران النعم، فبقدر عظم فضل الشكر يكون عظم جرم الكفر، وأعني بالكفر هنا كفران النعم.
إن من كفر النعم ازدراء نعمة الله علينا، وانتقاصها، وهذا من خصال النفس الدنيئة الطماعة التي لا تشبع ولا تقنع بل تحب أن تجمع وتجمع.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( إذا أحب أحدكم أن يعلم قدر نعمة الله عليه فلينظر إلى من هو تحته ولا ينظر إلى من هو فوقه )) (1) وعنه كذلك رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله )) (2) فينبغي أن ننظر إلى من هو أسفل منا في أمور الدنيا.
أما إلى أمور الدين فننظر إلى من هو أعلى منا لأن الدنيا ضيقة والآخرة فسيحة واسعة: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون [المطففين:26].
ومن مظاهر كفران النعم ما نراه أحياناً من ممارسات خاطئة، فالذي يقود سيارته بسرعة جنونية ولا يتورع عن القيام بحركات بهلوانية، والذي يستغل الهاتف – وهو من النعم العظيمة – في إيذاء خلق الله، والذي يرزقه الله ذرية فلا يهتم بتربيتها، والذي يؤتيه الله مالاً فلا يخرج حقه وزكاته، ولا يتطوع بفضوله، والذي يعطيه الله جاها ومنصباً فيستغله في أغراضه الخاصة وفي إذلال الناس، كل واحد من هؤلاء يمارس نوعاً من كفران النعم.
والذي يسرف في مأكله ومشربه فيلقي بفضولها في الطرقات والشوارع يمثل نوعاً من كفر النعم، إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد كسرة ملقاة فأخذها ومسحها ثم أكلها وقال: ((... يا عائشة أكرمي كريماً ، فإنها ما نفرت عن قوم قط فعادت إليهم )) (2)
ولا ننسى مظاهر الإسراف في المفروشات والسفريات والحفلات وفي إقامة القصور والعمارات، وقد ضرب الله لنا مثلاً بليغاً لقوم يتفكرون، وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة [النحل:112] الآية.
وقد يظن الجاهل أن تقلبه في نعم ربه دليل رضاه عليه، وإن أسرف وعصاه، وليس كذلك ، يقول سبحانه: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [القلم:44].
قال بعض المفسرين في هذه الآية: ( أي نصب عليهم النعم ونمنعهم الشكر ) وقال آخرون: ( كلما أحدثوا ذنباً أحدثت لهم نعمة ).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ، ثم تلا رسول الله فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [الأنعام:44] (6).
ولا يظن أحد أن الشكر هو بقول الحمد لله والشكر لله فقط، فقد أسلفنا وبينا كيف يكون الشكر. فالشكر يكون باللسان والجوارح والجنان.
(1) أخرجه ابن المبارك في كتاب الزهد ص 502 ، حديث رقم << 1433>>.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الزهد 18/ 97.
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه : كتاب الأطعمة ، باب النهي عن إلقاء الطعام 2/ 112. وفي رواية لابن أبي الدنيا : حسن جوار نعم الله عز وجل الشكر ، ص 12.
(6) أخرجه أحمد في المسند 4/ 145.
(1/705)
صلاة الجماعة
فقه
الصلاة
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
4/5/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل صلاة الجماعة والحث عليها. 2- التحذير من التهاون في صلاة الجماعة.
3- ضرورة حث الأبناء وتربيتهم على صلاة الجماعة. 4- التهاون في الوظيفة بحجة صلاة
الجماعة. 5- فوائد ومنافع لصلاة الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فلقد شرع الله ما فيه صلاحنا وأكرمنا بدين وصفه بالكمال والتمام ، فهو صالح لكل زمان ومكان، ولكل طائفة متقدمة أو متأخرة من بني الإنسان: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة:3].
وإن من أعظم النعم على المسلمين صلاة الجماعة ، إذ فيها المصالح والحكم والعبر ما لا يدركه إلا من أداها كما أمر الله تعالى بأدائها وفيها يقول : (( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة )) (5) رواه البخاري وفي رواية لغيره: (( بسبع وعشرين درجة ))
ويقول الحبيب : (( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية )) (6) رواه أحمد والنسائي.
ويشدد النبي النكير على المتهاون بها فيقول: (( والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم )) (1) متفق عليه.
ولم يأذن النبي في آخر الأمر للأعمى الذي جاء يطلب الرخصة في ترك صلاة الجماعة إذ جاءه هذا الصحابي الأعمى رضي الله عنه قائلا: (( يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد ، فسأل رسول الله أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال : هل تسمع النداء بالصلاة؟ فقال : نعم. قال: فأجب )) رواه مسلم (2).
ويخشى والعياذ بالله من عدم قبول صلاة تارك الجماعة فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (( من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر – قالوا: وما العذر ؟ قال : خوف أو مرض – لم تقبل منه الصلاة التي صلى )) أخرجه أبو داود (3).
ويذوب القلب أسى وحسرة عندما يرى المسلم كثيراً من المساجد وسط البيوت وزحمة الأحياء لا تمتلئ بالمصلين وخاصة في صلاة الفجر والعشاء اللتين هما أثقل الصلاة على المنافقين ومن أعظم الصلوات بركة على المؤمن.
ويحزن القلب كذلك عندما يرى بيوت الله لا تزدان إلا بالقلة من الراكعين، وأن بعض هذه المساجد في غير ديار المسلمين فهي لا تمتلئ إلا في الجمعات والأعياد.
وتشكو صفوف بعض المساجد من قلة الشباب المصلين الذين كان أسلافهم في مثل سنهم في عهد النبي الأمين قادة وأئمة هذا الدين، ولربما رأيت أباً لا يأمر أولاده بصلاة في المسجد، أو أخا لا يغري إخوانه بالصلاة في المسجد بل قد ترى أولاد الأول وإخوان الثاني لاهين وعابثين في الشارع أمام المسجد والناس في صلاتهم قائمون، ولعلك ترى صاحب متجر لا يجيب النداء ابتغاء كسب دنيوي ، مؤملا كان أو مؤكدا ، فما عسى لعمرو الله أن يكون مقدار هذا الكسب في دقائق معدودة يصلي فيها فريضة مع الجماعة، وكم لعمرو الله تكون عظم البركة عليه وعلى ماله إذا أدى صلاته مع الجماعة.
ولعلك ترى من اتخذ صلاة الجماعة شعارا رسميا وتقليدا فهو يصلي جماعة إن كان في دائرته أو عمله، ويصلي إذا رجع إلى بيته في بيته كما تصلي النساء. وبعض من يصلي في دائرته جماعة يتخذ من صلاته هذه ستارا لهروبه من العمل وقضاء حوائج المراجعين، فهو لا يقبل مراجعة قبل الصلاة بنصف ساعة وبعد الصلاة بنصف ساعة أخرى متظاهرا بعد الفراغ منها بإطالة التسبيح والاستغفار ثم تراه يسمع نداء الله: حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يلبي، بل ربما كان منشغلا بالاستماع لأغنية ماجنة أو شريط فيديو خليع. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(5) صحيح البخاري : كتاب الصلاة باب فضل صلاة الجماعة 1/158.
(6) المسند 6/446 ، سنن النسائي كتاب الإمامة باب التشديد في ترك الجماعة 2/106.
(1) البخاري كتاب الأذان باب وجوب صلاة الجماعة 1/158.
(2) صحيح مسلم : كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب فضل صلاة الجماعة والتشديد في التخلف عنها 5/155.
(3) سنن أبي دواد : كتاب الصلاة باب التشديد في ترك الجماعة 1/151.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يوفق من يحبه للخير ، ويهديه إليه، ويحرم من يبغضه عن الخير ويصرفه عنه ، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه وبعد :
فإن لصلاة الجماعة فوائد ومنافع عظيمة إذ في أدائها إجابة لأمر الله سبحانه وتعالى ولأمر رسوله المصطفى وفي السير لها إلى المساجد تكفير للخطايا والذنوب، وفي انتظار الصلاة رباط في بيت من بيوت الله، وعمار بيوت الله هم ضيوف الله، وحق على المضيف أن يكرم زواره، ولا يعمر بيوت الله بأداء الصلوات فيها إلا مشهود له بإيمان فأبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – يقول : إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ثم يشير إلى قوله تعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر [التوبة:18].
وفي وقوف الناس خلف الإمام صفوفا متراصة مستوية دلالة على وحدة المسلمين وقوة الرابطة بينهم، ألا وهي رابطة العقيدة والدين ، التي هي أقوى من روابط النسب
ثم إن في هذا التراص إشارة إلى المساواة بين المسلمين وأن التفاضل إنما يكون بالتقوى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
فيقف الغني والفقير، والقوي والضعيف، والصغير والكبير، والرئيس والمرؤوس في صف واحد، المنكب حذو المنكب والقدم حذو القدم، ولربما قبلت الصلاة من الجمع كله إكراما لضعيف أشعث أغبر لا يؤبه له.
ثم إن في انتظام وتقييد حركات المأمومين بالإمام دلالة على وجوب طاعة القائد المسلم، وأن الطاعة للقائد المؤمن إنما تكون ذاتية لا قسرية، رغبة لا رهبة، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفي تكرار اللقاء بين أهل الحي الواحد في الصلاة تحصل المودة والألفة والتعارف: وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا [الحجرات:13].
فإذا تغيب مصل تفقده إخوانه، فإن كان مريضا عادوه، أو مسافرا كفوه مؤونة بيته وأهله وحموا عرضه، أو كان ذا حاجة أعانوه، أو مات شيعوه.
وغير هذا كثير من المنافع العظيمة التي لا يعيها إلا من حافظ على صلاته.
وأختم خطبتي بكلام الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ يقول فيما رواه أبو داود: (( حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيه صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق بين (2) النفاق ، ولقد رأيتنا وإن الرجل ليهادى (3) بين الرجلين حتى يقام في الصف، وما منكم من أحد إلا وله مسجد في بيته، ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنه نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم )) (4) كلام عظيم لصحابي جليل يوضح مدى اهتمام صحابة رسول الله بصلاة الجماعة.
(2) أي واضح النفاق.
(3) أي يمشي بينهما معتمدا عليهما من ضعفه وتمايله النهاية في غريب الحديث والأثر 5/255.
(4) سنن أبي داود : كتاب الصلاة باب في التشديد في ترك الجماعة 1/150.
(1/706)
عبر من غزو العراقى البعثي الغاشم للشقيقة الكويت
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تغير حال إلى حال. 2- بعض جرائم صدام حسين. 3- دعوة صدام للجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يا عباد الله: فاتقوا الله عز وجل وعودوا إليه، فإنما تحمون وتنصرون بالتقوى، وإنما يذل الناس ويتحكم في رقابهم أعداؤهم إذا تركوا طريق الهدى تنكبوا سبيل الله المستقيم فماذا بعد الحق إلا الضلال.
كنا يا عباد الله نحزن على إخواننا المضطهدين في مشارق الأرض وفي مغاربها ونسمع عنهم دون أن نراهم، بلاء حل بأرضهم مصائب داهمت ديارهم، وإذا الغزاة في عقر دارنا، وكنا ندعو لهم وطائفة منا تساعدهم، وإذا أعداء أمتنا يحيطون بنا وتتكشف الأنياب من سباع غادرة لا يقر لها قرار إلا بهتك أعراض المسلمين.
يا عباد الله: متى الاعتبار إذا لم يعتبر الناس اليوم ؟ أمة بأكملها تنام على فراشها آمنة في بيوتها ثم تصبح مشردة خارج أوطانها وقد كانت من أغنى الأمم وأعظمها نعيما ورفاهية شردت بحكامها وشعبها وشردت بمجنديها وعسكرييها كما شردت بمدنييها وسائر مواطنيها شردت بحضرها كما شردت ببدوها وأفاق العالم متعجبا مذهولا لم يوقظه إلا قول الله تعالى: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير [سورة آل عمران:26].
عباد الله أعداء اليوم فريقان: عدو عاجل لا يمهل.
وعدو آجل ينخر كالسوس بيننا.
أما الأول فهو البعث ممثلا بمجرم الحرب صدام حسين.
وأما الآجل فممثلا باليهود والنصارى الذين وجدوها فرصة ذهبية ليبسطوا على المنطقة نفوذهم دون ملامة من قريب أو بعيد.
العدو الأول الممثل في رأس الحربة المسمومة صدام حسين قتل من قبل في حلبجة وهي قرية للأكراد شمال العراق في ساعات معدودة خمسة آلاف مسلم سني بقنابله الكيماوية وكان مجمل ما قتله منهم ثلاثين ألفا، وهم بنو شعبه وسكان أرضه وعمار وطنه وقتل قبلها في غزاة واحة عشرة آلاف طبيب ومهندس وعالم وفيزيائي وكيماوي وإمام مسجد وشيخ طائفة من أبناء الحركة الإسلامية.
من يضبط في بلاده يتبرع للمجاهدين الأفغان أو لأي حركة جهادية إسلامية فالإعدام المباشر مصيره.
جند أكثر من نصف شعبه في جهاز مخابراته، وسمى نفسه بثمانية وتسعين اسما أعظم له، والتاسع والتسعون الذي هو الأعظم كما يفتري اسم ( صدام حسين) فأي فرية بعد هذا؟
صدام حسين هذا واحد من فرقة تحكم اليوم العديد من أوطان العالم الإسلامي والعربي تفعل هذه الأفعال وكلهم يدعي المصلحة الوطنية والأمن القومي، وهم والله كاذبون والأيام تترى، ولابد يوما أن تنكشف الأستار وتبدو الأسرار في الدنيا قبل الآخرة، وفي العاجلة قبل الآجلة.
هذا الأفاك يرفع اليوم دعوة الجهاد في سبيل الله ويدعو لتحرير المقدسات، وهو الذي ما صام ولا صلى ولا ضحى ولا زكى، هو الذي أخرج المرأة العراقية من خدرها وسفك من المرأة المسلمة عرضها وهتك منها حجابها وأخرج المرأة للسوق وحرم أي تجمع بين الإسلاميين والمسلمين إلا بإذن منه، وحدد منها المتكلمين باسم الدين في إطار رسمي ضيق فلا يسبح عالم من علماء الدين إلا بحمده وبإذنه، وفقد عراقنا الشقيق مهد الحضارات الإسلامية أكثر من مليونين من المسلمين المهاجرين خارج وطنهم يبكون دما وتئن قلوبهم جراحا يهربون ممن يتمسح اليوم بالدين وهكذا كل ظالم يجاري الدين باسمه ويقتل ويسحق ويراقب ويؤذي المتدينين بينما يرفع بيسراه راية الدين وللعلماء العاملين الصالحين الذلة والصغار والهوان ويأبى الله إلا أن يفضح من هذا شأنه عاجلا أو آجلا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/707)
المعجزة الكبرى القرآن 2
قضايا في الاعتقاد
معجزات وكرامات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن هذا القرآن العظيم هو المعجزة الكبرى لنبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد أعجز العرب ببلاغته أن يأتوا بمثله بل أن يأتوا بعشر سور من مثله بل أن يأتوا بسورة من مثله بل قال تبارك وتعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ما يأتون بمثله ولو كان بغضهم لبعض ظهيرا [الإسراء:58]. فقطع أمل الفصحاء قاطبة عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو أن ينافسوه في بلاغته وفي نظمه والعرب أمة الفصاحة والبلاغة والبيان لما سمعوا هذا القرآن علموا أن لا قبل لهم به فلم يحاول أحدا منهم أن يأتي بمثله أو أن ينافسه في نظمه وفي بلاغته لن يعرف أحد من فصحائهم أنه حاول أن يفعل ذلك إلا ما كان من شأن مسيلمة الكذاب وإنه وهو من فصحاء العرب حاول أن يفعل ذلك وأن يأتي بمثل هذا القرآن ولكن محاولته لم تكن جادة بل كانت من قبيل الألاعيب السياسية التي حاول بها أن يلهي أصحابه عن القرآن فإنه كان يخاف أن يسمعوا القرآن فيتأثروا به فينفضوا من حوله وأصحابه أنفسهم وهم من العرب الفصحاء لم يكونوا يصدقونه في مخاريفه وسخافاته التي كان يأتيهم بها لكنهم كانوا يتبعونه ويناصرونه من باب العصبية الجاهلية على حد قول القائل منهم: كذاب ربيعة خير من صادق مضر وعندما مر عمرو بن العاص بمسيلمة الكذاب وذلك قبل أن يسلم عمرو وعمرو معروف أنه من فصحاء العرب ودهاة العرب لما مر بمسيلمة حدثه الكذاب بما يأتيه من الوحي وأسمعه بعض ما ينزل عليه على حد زعمه وذلك من قبيل قوله والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا والآكلات أكلا أو قوله يا غضة يا غضعين نقي كما كنتي تنقين ونحو ذلك من مخاريفه وسخافاته وحماقاته بعد أن أسمع عمرا شيئا من ذلك سأله عن رأيه في ذلك فقال عمرو وهو يومئذ مشرك قبل أن يسلم قال لمسيلمة : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب وفي عصر الدولة العباسية واحد من أدباء العربية وأهل البلاغة والفصاحة حاول أن يؤلف كتابا يضاهي فيه القرآن وينافسه في إسلوبه ونظمه وهو عبد الله بن المقفع أديب فارسي الأصل كان مجوسياً فأسلم ثم قتل على الزندقة ولكنه كان من أهل البلاغة والفصاحة والأدب وقبل أن ينفذ محاولته وهي محاولة تدل على قلة عقله وحماقته وغروره بما أوتي من أدب وبلاغة قبل أن يفعل ذلك مر بصبي من صبيان الكتاب وهو يقرأ آية من سورة هود تتحدث الآية عن نهاية الطوفان الذي غشي أهل الأرض وأهلك أهل قوم نوح وهي قوله تعالى: وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين [هود:44]. فاندهش ذلك الأديب البليغ من بلاغة هذه الآية وقوة سبكها وغزارة معانيها وصورها البيانية مع قلة ألفاظها ووجازة إسلوبها فحينئذ أقلع عن محاولته وكف عن سفاهته وعلم أنه لا قبل لبشر بمثل هذا هذه المعجزة الكبرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي أعجزت الفصحاء والبلغاء هذه المعجزة قائمة تتحدى باقية كما أنزلت على خير الورى صلى الله عليه وسلم كاملة غير منقوصة ثم من أعجب أوجه إعجاز هذه المعجزة العظمى من أعجب أوجه إعجاز القرآن العظيم تلك الهيبة التي ألقاها الله سبحانه وتعالى عليه وتلك الروعة العجيبة التي تقع في قلب المستمع وتملك عليه مجامع قلبه ومفاتيحه وتأخذ بمجامع نفسه ولبه إلا قلبا اشتد اغلاقه بمغاليق الغفلة والعناد هذه الهيبة يستوي فيها العربي والأعجمي والكافر والمسلم حكى القاضي عياض رحمه الله فقال روي أن نصرانيا مر بقاريء يقرأ القرآن فوقف يستمع ويبكي فقيل له لم بكيت، فقال: بكيت للشجى والنظم ومعنى كلامه أنه رق قلبه وخشع وشعر بالروعة والحزن من مجرد استماع النظم مع أنه لم يفهم المعاني فإذا كان هذا وقع لأعجمي نصراني فما بالك بالعربي الفصيح الذي يفهم أسرار هذا الكلام المبين ومعانيه ويدرك مدلولاته ويعرف مراتب البلاغة فيه فها هو جبير بن مطعم القرشي العربي الفصيح سمع القرآن وهو مشرك قبل أن يسلم فأخذ بمجامع قلبه وذلك حينما وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشرك وفد إليه يفاوضه في أسرى بدر فانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي المغرب يؤم الناس في مسجده ويقرأ بسورة الطور حتى إذا بلغ قول الله تعالى: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون [الطور:35-37]. قال جبير بن مطعم [1] : كاد قلبي يطير وفي رواية أنه قال: وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي [2] ثم أسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه العربي القرشي الفصيح لما سمع هذا القرآن وخاصة بتلاوة خير الورى صلى الله عليه وسلم فهم معانيه وأحس بروعة مبانيه ومتنه وإسلوبه فكاد قلبه يطير شوقا إلى الإسلام وهكذا ما حاول أحد من عقلاء الفصحاء أن يأتي بمثل هذا القرآن، وعندما حاول سفهاء الفصحاء أن يأتوا بمثله كشف الله تبارك وتعالى عجزهم إما بأن يفضح سفافة ما أتوا به كما حدث لمسيلمة الكذاب أو بأن ييأسهم ويقنطهم من قبل أن يفعلوا كما حدث لإبن المقفع وهذه المعجزة الكبرى التي أعجزت البشر والفصحاء قاطبة من أعظم نعم الله تعالى على العبد المؤمن أن ينفعل بها عند تلاوتها أو سماعها أن ينفعل بهذا القرآن ويحس بحلاوته ويتذوقه ويدرك معانيه عند التلاوة فإن هذه نعمة عظمى ينعم الله بها على بعض عباده المؤمنين فإذا فقد المؤمن هذه النعمة فهو محروم وغالبا ما يفقدها بسبب الذنوب والمعاصي اللهم أجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء همومنا وأحزاننا وذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته أناء الليل وأطراف النهار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير (336) باب تفسير سورة الطور (4/1839).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي باب شهود الملائكة بدراً (4/1475).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين واشهد ألا إله ألا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فمن النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى عليتا بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن معجزته الكبرى بقيت على مر الدهور والعصور كاملة غير منقوصة غضة كما أنزلت على خير الخليقة صلى الله عليه وسلم فها هي بيننا لا يحول بيننا وبينها شيء بخلاف المعجزات الأخرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن لنا نصيب من مشاهدتها أما معجزته الكبرى فها هي بيننا أما المحروم فهو من لم تنفعه هذه المعجزة ولم يقدرها حق قدرها ولم يحس بعظمتها مع انه قامت الحجة عليه بها كثير من المؤمنين عند سماع هذا القرأن أو تلاوته يهز قلوبهم ويؤثر فيهم فترق قلوبهم وجلودهم من خشية الله تعالى كما قال سبحانه: تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [الزمر:23]. ولكن من أعجب الأمور وأغرب الظواهر أن كثيرا من المؤمنين ينفعلون عند سماع الدعاء دعاء الختم في التراويح فيرتفع النشيج والبكاء وذلك أمر طيب ومحمود فإن من المطلوب من المؤمن إذا وقف بين يدي ربه أن يلح في الدعاء ويلج بالبكاء يبكِ على نفسه وعلى ذنوبه بين يدي الملك العلام سبحانه وتعالى ولكن السؤال لماذا لم يبكي هؤلاء عند سماع القرآن؟ وقد تلي القرآن عليهم قبل الدعاء بأجمل الأصوات وأفصح التلاوات ومع ذلك لم ينفعلوا معه كما انفعلوا مع الدعاء والإنفعال مع الدعاء في الغالب يكون بسبب المشاركة فإن المصلين تعودوا أن ينفعل إمامهم مع الدعاء فينفعلون معه ثم يجد المصلي نفسه وسط جو مشحون بالإنفعالات فلا يملك نفسه إلا أن يشارك وفي ذلك خير ولكن لماذا لم يحدث ذلك عند تلاوة القرآن أو سماعه يجب أن يخاف كل مؤمن على نفسه من مصيبة عظمى وهي انقفال القلب عن القرآن فإن القلب قد يقفل عن القرآن من باب العقوبة فالقرآن مرتبة عليا لا يصل إليها إلا من أنعم الله عليه سبحانه وتعالى فإذا أقفل القلب عن القرآن فتلك مصيبة وأي مصيبة يسمع المؤمن القرآن فلا يحركه ولا يؤثر فيه لا ينفعل لا يبكي لا يدرك ولا يفهم معاني ومرامي ما يسمع وهذا من العقوبات على المعاصي والذنوب وعلى الغفلة وهجران القرآن العظيم قال تعالى: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [محمد:24]. فالخوف كل الخوف من تلك الأقفال وعلاج ذلك إدمان تلاوة القرآن العظيم مع التدبر والتفكر والاستعانة بما يناسبه من كتب التفسير فإن لم يتمكن من ذلك فليجلس في حلقات الذكر حلقات تفسير القرآن العظيم فإن هذا مما يعالج تلك الأقفال ويزيلها بإذن الله تعالى عن قلب المؤمن.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1] اللهم صلي وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وأرضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد (1/306).
(1/708)
عضل النساء عن النكاح
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
17/6/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الظلم معصية. 2- أنواع من الظلم يشتد النكير عليها. 3- من الظلم عضل البنات عن
النكاح. 4- النعرة العصبية سبب في عضل النساء. 5- عضل البنات عن الزواج للاستفادة من
رواتبهن. 6- عضل البنات عن الزواج بحجة إكمالهن للدراسة. 7- تسرع بعض الأولياء في
تزويج بناتهم وأخواتهم. 8- الحث على تربية البنات وبيان فضل ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
وإن هذا الظلم ليتخذ صوراً شتى وأنواعاً مختلفة ، ومن أعظم هذه الأنواع خطراً ظلم الإنسان لمن جعل الله ولايته في يده كظلم الوصي للأرملة واليتيم ، وكظلم الزوج للزوجة والأولاد ونكتفي اليوم بذكر ظلم الولي لموليته في النكاح ، فقد فشا هذا النوع من الظلم في بعض أوساط المجتمع فخطره يشتد ونذره تمتد وآثاره تحتد.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى ولاية النكاح في يد الرجل أبا كان أم ابنا ، أخاً كان أم أي قريب ذكر آخر له ولاية على امرأة وجعل الله هذه الولاية بيد الرجل لأنه أوفر عقلاً وأكثر حزماً وأبعد نظراً فعقله وعاطفته في توازن يمنع المرأة عن الزلل فى اختيار الزوج وهذا الولي لا يقوم بواجبه الذي أناطه الله به إذا عضل أي : منع موليته من النكاح أو زوجها بغير الكفء ، إذ هو بفعله هذا لا يذكر وصية رسول الله عندما يقول ، فيما أخرجه البخاري: (( استوصوا بالنساء )) (2) ، وهو - وفيما يرويه الإمام أحمد وابن ماجه – يقول: (( اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة )) (3).
إن لتزويج المرأة بغير الكفء أو منعها من الزواج بالكفء أسباباً منها : النعرة القبلية ، والعصبية الجاهلية ، فالحبيب يقول: (( إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض )) (1) رواه الترمذي وابن ماجه.
ولم يقل إذا أتاكم من ترضون قبيلته أو طبقته الاجتماعية. ونسمع ونرى عجباً من تحكم موازين جاهلية في هذه القضية فهذا قبلي وهذا حضري وذلك بدوي ، وما علم هؤلاء أن أشرف العرب زوجوا بلالاً مؤذن رسول الله وهو عبد حبشي ، وزيد بن حارثة مولى رسول الله تزوج القرشية ذات النسب والحسب زينب بنت جحش ويقول المصطفى عن هذه العصبية التي تفرق ولا تجمع وتضر ولا تنفع: (( دعوها فإنها منتنه )) (3).
وقد يعضل الرجل مولاته عن النكاح طعماً في مهر أكبر وميزات أكثر مما دفعه الكفء فتنقلب المرأة المسكينة إلى سلعة تباع وتشترى وربما دفع المهر الأكبر الولي إلى تزويج المسكينة من رجل في سن أبيها أو أكبر ، ولا يعلم الولي أن هذا الزوج المسن ربما لا يشبع رغبات هذه المرأة الفطرية الجنسية فتطلب ما يشبع رغبتها عن طريق الحرام ، ثم لا تلبث بعد أن يهن جسد زوجها المسن وتذهب قواه أن تصبح خادمة له في بيته تنتظر موته فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد يمنع الولي المرأة من النكاح استغلالاً لها في خدمة البيت أو استغلالاً لراتبها إذا كانت موظفة إذ أن زواجها يمنع هاتين الاستفادتين ، أو ربما منعها أنانية وحباً للنفس ، فالأب متيم بحب ابنته ، وشغوف بها لا يطيق فراقها فيبقيها عانساً في بيته يحرمها من متعة الزوج وإنجاب الذرية ، وعطف الأمومة ، ويقف سداً منيعاً أمام أسرة تمد الأمة بزادها من الرجال والنساء.
ونغمة جديدة أصبحنا اليوم نسمعها كحجة لمنع الفتاة من الزواج ألا وهي إكمال الفتاة تعليمها العالي ، فنرى الأب أو الأم يحبان أن يفخرا في المجتمع بذكر ابنتهما الحاصلة على الدرجات العلمية العالية ثم يفوتها ركب الزواج فتملأ الحسرة قلب الأبوين وقلبها ، ويندم الجميع حين لا ينفع الندم. يكفي المرأة المسلمة أن تتعلم ما تطيع به ربها وتكمل به عبادتها وتحسن به التبعل لزوجها وتعي التيارات الهدامة من حولها ، الرامية لإخراجها عن كونها أنثى مؤمنة إلى سلعة فاتنة مضلة هادمة ، وما زاد عن قدر هذا العلم فهو من قبيل فرض الكفاية لا بأس به إن لم يتعارض مع واجب أهم وهدف أسمى وأكبر.
وفي مقابل من يمنع موليته عن الزواج نجد من لا يتريث ويتحرى في اختيار الزوج فهو يدفعها لأول طارق طرق بابه وكأنها حمل ثقيل ناء به كاهله ، واشتد على ظهره ، فكم من عجلة يعقبها ندم طويل وحياة مريرة.
ما يلبث الولي أن يكتشف فيما بعد الزواج أن هذا الزوج فاسق وماجن مبتلى بالشراب أو بشلة سيئة من الأصحاب أو يكتشف أنه ممن تعود السفر إلى بلاد الفجور والعهر ليتمتع من الشهوة الحرام، ولربما عاد يحمل مرضاً جنسياً خطيراً من الأمراض التي تملأ تلك البلاد فيزرع هذا المرض في رحم زوجته المسكينة البريئة وليسري المرض في ذريتها إلى قيام الساعة فلله كم يحمل هذا الولي في دفع ابنته لغير الكفء من وزر وإثم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(2) صحيح البخاري: كتاب النكاح ، باب الوصاة بالنساء 6/145.
(3) المسند 2/439، سنن ابن ماجه :كتاب الأدب ، باب حق اليتيم 2/213. وإسناده صحيح.
(1) سنن الترمذي : كتاب النكاح ، باب إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه 3/394وسنن ماجه : كتاب النكاح ، باب الأكفاء 1/632.
(3) صحيح البخاري: كتاب التفسير. " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " 6/66.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي من استهداه الواقي من اتقاه المعطي من ابتغى رضاه المنعم على من والاه نحمده حمداً كثيراً طيباً أمد التمام ومنتهاه ونثني عليه بما هو أهله ثناء كاملاً عظيماً كما أثنى هو به على نفسه ، وأشهد أن لا إله إلا الله لا معبود بحق سواه وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله أرسله واصطفاه ، فصلى الله عليه وسلم عدد ما خشع مصل في صلاةه ، واهتدى مهتد بهديه أما بعد :
فإنه ما سد باب من أبواب النكاح إلا فتحت بذلك الباب أبواب من أبواب الزنا – والعياذ بالله – وإن الظلم ظلمات يوم القيامة وإن من أراد الجنة فليستمع إلى هذا الحديث الذي يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة )) (1). رواه الترمذي وأبو داود ، وقال في رواية: (( فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن )) (2).
ومن أراد أن يحشر مع النبي يوم القيامة ويدخل معه الجنة فليسمع ما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: (( من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو (وضم أصابعه) )) (3) رواه مسلم ورواه الترمذي بلفظ: (( دخلت أنا وهو الجنة كهاتين، وأشار بإصبعيه )) (4).
(1) سنن الترمذي : كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات 4 / 320.
(2) سنن أبي داود : كتاب الأدب ، باب فضل من عال يتيما 4 / 338.
(3) صحيح مسلم : كتاب البر والصلة ، باب فضل الإحسان إلى البنات 16 / 180.
(4) سنن الترمذي : كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات 4 / 319.
(1/709)
غض البصر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
11/5/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نهى الله عن الفواحش وما يقرب اليها. 2- علم الله الواسع يعلم خائنة الأعين. 3- نظر
الفجأة. 4- النظر بريد الزنا. 5- عورة الرجل والمرأة وتفصيل ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن الإسلام لا يرضى عن الفواحش ، وينهى عن قربانها فضلا عن إتيانها، وهو يحرم الوسائل ويسد الأبواب التي تؤدي إليها كتحريمه الجلوس على مائدة أو في مجلس يدار فيها الخمر وكتحريمه النظر فهو يؤدي إلى اقتراف الزنا وفساد القلب ، فكل وسيلة تؤدي إلى محرم أو منهي عنه محرم في الشريعة الإسلامية.
ولقد جاءت آيات بينات ونصوص ظاهرات في تحريم النظر إلى الأجنبية فها هو ربنا سبحانه وتعالى يأمرنا قائلا: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون [النور:30].
وهو سبحانه وتعالى يسمي اختلاس النظر إلى المحرم خيانة وذلك عندما يبين لنا سعة علمه واطلاعه فيقول: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [غافر:19]. إنه لا يحل لرجل أن ينظر إلى امرأة غير زوجته أو محارمه من النساء.
أما نظرة الفجأة فلا إثم فيها ولا مؤاخذة إذ هي خارجة عن إرادة الإنسان ، ويجب على من وقع له نظرة الفجأة أن يصرف بصره سريعاً لقوله لعلي بن أبي طالب: (( يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة )) (4) ، رواه أحمد وأبو داود وهذا هو الصحابي الجليل جرير بن عبد الله البجلي يقول : (( سألت رسول الله عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري )) (1) رواه مسلم.
إن النظر بريد الزنا وداع من دواعيه ومقدمة من مقدماته بل إن النظر بحد ذاته يسمى زنا.
جاء في الصحيحين عن النبي : (( كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أويكذبه )) (2). وهذا محمول على ما إذا كان الصادر عن هذه الحواس في معصية الله.
ولقد جعل الإسلام من حق الطريق غض البصر فقد أجاب النبي أصحابه لما سألوه: (( وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر )) (3) رواه البخاري ومسلم.
وهنا قد يسأل سائل ما هي حدود العورات التي يحرم النظر إليها؟ فأجيبه بحول الله وقوته مفصلاً وقائلا:
عورة الرجل مع الرجل وعورة المرأة مع المرأة من السرة إلى الركبة فلا يحل أن ينظر الرجل ولا المرأة إلى ما بين السرة والركبة قال : (( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة )) (4) رواه مسلم. وقال النبي لجرهد الأسلمي لما رأى فخده منكشفة: (( أما علمت أن الفخذ عورة )) رواه أبو داود وأحمد.
وأما عورة الرجل بالنسبة للمرأة فإن كان من المحارم أو من غير المحارم فمن السرة إلى الركبة ما أمنت الفتنة إلا الزوج فليس بينه وبين زوجته عورة.
وأما عورة المرأة بالنسبة للرجل فإن كانت ذات محرم فمن السرة إلى الركبة إذا أمنت الفتنة، وإن لم تكن ذات محرم فجميع بدنها عورة، وذات المحرم هي التي لا يجوز التزوج بها لسبب مؤبد، كالخالة والعمة وابنة الأخ وابنة الأخت.
أما التي لا يجوز التزوج بها لسبب مؤقت كأخت الزوجة مثلا أو ابنة أختها أو خالتها وعمتها، فهؤلاء ليسوا ذوات محرم.
مما سبق يتضح لنا سوء عمل من يجعل لنفسه كرسياً أو متكأ أمام باب منزله أو على رصيف شارع من الشوارع للتطلع إلى ما وراء حجاب المارات من العفيفات، وللاسترسال والتمعن في المتبرجات، ويتضح لنا كذلك سوء عمل من يتخذ من متجره وسيلة للنظر إلى الأجنبيات، ويتضح لنا هنا سوء عمل الناظر إلى صور النساء في المجلات الخليعة المظهرة لمفاتن النساء وفي الأفلام الماجنة التي قد تسمى خلطاً وغلطاً أفلاماً اجتماعية، ويظهر هنا كذلك جرم من يسترق النظر إلى داخل بيوت الناس جيران وغير جيران، فهذا يحل في شريعة الله أن تفقأ عينه، وهي إن فقئت فهي هدر لا يطالب بعوضها إذ يقول النبي : (( من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه )) (1).رواه مسلم.
ولا ننسى ذكر سوء عمل المترصد للطالبات عند دخولهن وخروجهن آمنات من مدارسهن.
إن الناظر إلى ما حرم الله يعيش في حسرة دائمة ونار تكوي فؤاده وفيه يقول الشاعر:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادرعليه ولا عن بعضه أنت صابر
(4) المسند5/ 351 سنن أبي داود / كتاب النكاح ، باب ما يؤمر فيه بغض البصر 2/ 246
(1) المسند 5/ 351 ، سنن أبي داود كتاب النكاح باب ما يؤمر فيه بغض البصر 2/ 246.
(2) متفق عليه واللفظ لمسلم صحيح مسلم 16/206 صحيح البخاري 7/130.
(3) صحيح البخاري : كتاب المظالم باب أفنية الدور والجلوس فيها 4/30.
(4) صحيح مسلم : كتاب الحيض باب تحريم النظر إلى العورات 4/30.
(5) سنن الترمذي كتاب الأدب باب ما جاء في الاستتار عند الجماع 5/112.
(1) صحيح مسلم كتاب الآداب باب تحريم النظر في بيت الغير 14/138
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/710)
فضائل شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
27/8/1405
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطبة رسول الله في استقبال رمضان. 2- الصيام عبادة اختص الله نفسه بمضاعفة أجرها.
3- رمضان شهر الصبر. 4- رمضان شهر الإنفاق في سبيل الله. 5- النهي عن صيام يوم
الشك. 6- متى يباح الفطر في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : أيها المسلمون اتقوا الله وأطيعوه واستبشروا خيراً فقد أظلكم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ففيه تفتح أبواب الرحمة، وتغلق أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين ومردة الجن، وفي هذا الشهر الكريم تضاعف الحسنات، وتقال العثرات، وتجاب الدعوات، وهو شهر الصبر والمواساة والصدقات، فقد سئل رسول الله : (( أي الصدقة أفضل، فقال: صدقة في رمضان )) (2) ، وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: (( خطبنا رسول الله في آخر يوم من شعبان فقال : يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم شهر مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فرضا وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قلنا : يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم ))، فقال رسول الله : (( يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مزقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن أشبع صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة. وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار )) (1) فانظروا رحمكم الله إلى هذه الخطبة النبوية البليغة، بشر فيها النبي أصحابه بشهر رمضان وأخبرهم بفضله ومضاعفة الأعمال الصالحة فيه وأنه شهر عظيم مبارك وقال : (( ما مر بالمسلمين شهر قط خير لهم منه، ولا مر بالمنافقين شهر قط أشر لهم منه )) (2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: (( كل عمل ابن آدم له ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )) (3).
وسماه شهر الصبر لما فيه من صبر على الصيام وصبر على ألم الجوع والعطش وضعف النفس ، وعن ابن عمر مرفوعا: (( الصيام لا يعلم ثوابه إلا الله عز وجل )) (4).
ولا يخفى أن مضاعفة ثواب الأعمال الصالحة تكون بأسباب منها شرف المكان كمكة المكرمة والمدينة المنورة، كما ثبت في الصحيح أن النبي قال: (( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيها سواه إلا المسجد الحرام ))، وفي رواية أنه قال: (( أفضل )) (5).
ومن خصائص هذا الشهر المبارك مضاعفة ثواب الأعمال الصالحة فيه إلى سبعمائة ضعف وفوق ذلك لمن حسنت نيته وأخلص أعماله لله وبذل الميسور من الصدقات وكانت من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا : (( فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل )) (1) متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا: ((إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع عنه ميتة السوء)) (2) ، وورد: (( إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته )) (3) وصدقة السر أفضل لقوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعلمون خبير [البقرة:271].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بالآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
(2) أخرجه الترمذي في سننه : كتاب الزكاة باب ما جاء في فضل الصدقة 3/52.
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 7/216.
(2) أخرجه أحمد في المسند 2/524.
(3) أخرجه أحمد في صحيحه : كتاب الصيام باب فضل الصيام 8/31.
(4) وأخرج البيهقي عن زيد مرفوعا بلفظ (.. والعمل الذي لا يعلم ثواب عامله إلا الله الصيام ) الجامع لشعب الإيمان 7/197.
(5) صحيح البخاري : باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 2/57.
(1) صحيح البخاري كتاب الزكاة باب الصدقة من كسب طيب 2/113.
(2) أخرجه الترمذي في سننه : كتاب الزكاة باب ما جاء في فضل الصدقة 3/52.
(3) أخرجه أحمد في مسنده 4/233.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له فرائض الدين ، اللهم صل عليه وسلم تسليما كثيرا وبعد :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجلا كان يصوم صوما، فليصم ذلك اليوم)) (1) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا)) (2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: ((من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم )) (3) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضا أن النبي قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) (4) ويباح الفطر في رمضان لأربعة أصناف :
أحدها: المريض الذي يتضرر به والمسافر الذي له القصر، فالفطر لهما أفضل وعليها القضاء، وإذا صاما أجزأهما.
الثاني: الحائض والنفساء تفطران وتقضيان وإن صامتا، والحامل والمرضع إن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا.
وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير، إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي ويعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، فإن لم يجد سقطت عنه، فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة، وإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية (1)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) (2) متفق عليه.
(1) صحيح البخاري : كتاب الصوم باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم أو يومين 2/230. وصحيح مسلم كتاب الصوم باب النهي عن تقديم رمضان بصوم يوم أو يومين 7/194.
(2) سنن الترمذي: كتاب الصوم باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان 3/115 ، وسنن أبي داود : كتاب الصوم باب في كراهية ذلك 2/301.
(4) صحيح مسلم : كتاب الطهارة باب فضل الوضوء والصلاة عقبه 3/119.
(1) نقلا من كتاب (العدة في شرح العمدة ).
(2) صحيح البخاري : كتاب الجهاد باب فضل الصيام في سبيل الله 3/123 وصحيح مسلم : كتاب الصوم باب فضل الصيام في سبيل الله 8/33.
(1/711)
فضح اليهود والطبيعة اليهودية
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفات اليهود كما أخبر بها القرآن الكريم. 2- بعض من عصيان بني إسرائيل لربهم.
3- يهودية تسمّ النبي. 4- خيانة اليهود للنبي يوم الأحزاب. 5- ضرب الله المذلة على
اليهود إلا إذا أمدهم الناس بالعز والتمكين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يا عباد الله: فإن الله تعالى يقول: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل.
لم تجتمع كل هذه الصفات إلا في اليهود – قاتلهم الله – فقد لعنهم سبحانه أي: طردهم من رحمته وغضب عليهم مبالغة وتأكيداً على جرمهم بل مسخهم إلى قردة وخنازير ، وهؤلاء عبدوا الطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله من بشر أو شجر أو حجر أو هوى نفس أو مادة أو نساء أو غرض دنيوي زائل وختم سبحانه الآية بقوله: أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل [المائدة:60]، أي أدنى منزلة من غيرهم وأبعد الناس عن طريق الهدى قد يأتي سائل فيقول ماذا فعل اليهود حتى استحقوا كل هذه الأوصاف الدنيئة والعاقبة الفظيعة؟
فأقول وبالله التوفيق :
إن بني إسرائيل ما تركوا جريمة منكرة إلا وفعلوها ولا ضلاله إلا اتبعوها والآيات الكريمة في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في وصفهم وبيان ما فعلوه كثيرة حتى إنها لتصور جرائمهم أبلغ تصوير ، فهم الذين عبدوا العجل لما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه ليلقي إليه الألواح التي فيها شرائعهم وعقائدهم: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون [البقرة:51]. ولما أنزل الله عليهم المن والسلوى وهما من أطيب أنواع الطعام وجعل السحاب والغمام ساتراً لهم من حرارة الشمس جحدوا نعمة الله عليهم وقالوا: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد [البقرة:61]، وطلبوا العدس والبصل والثوم وغير ذلك.
ولما أمرهم بدخول القرية المقدسة وهي أرض آبائهم وأجدادهم ماذا كان موقفهم ؟ لنستمع سوياً للسياق القرآني في ذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذى قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون [البقرة:58-59].
ومعنى: فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم أي: بدل أن يقولوا حطة، ومعناها: اللهم احطط عنا خطايانا وذنوبنا، قالوا حبة حنطة في حبة شعير!!
فهل رأيتم معشر المؤمنين كيف استهزؤوا بأوامر الله سبحانه وتعالى وبأوامر رسوله موسى عليه الصلاة والسلام؟!، ولم يرسل إلى أمة من الأمم مثلما أرسل إلى بني إسرائيل من الأنبياء والمرسلين، وذلك لكثرة تكذيبهم ولحقارة ودناءة نفوسهم بل لقد كانوا يقتلون أنبياءهم ويقدمون رؤوس بعضهم مهراً للبغايا من بنات الهوى عندهم.
ولتعلموا معي معشر المؤمنين عظم جرمهم فاسمعوا ماذا يقول لكم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: ( كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار ) أي يبيعون ويشترون وكأن الأمر لا يعنيهم والرسول يقول: (( أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً وإمام ضلالة وممثل من الممثلين )) (1) رواه أحمد.
لقد حاول اليهود كذلك قتل النبي لما ذهب إلى يهود بني النضير ليستعين بهم على قضاء ديتين كانتا على المسلمين ، أجلسوه تحت جدار، وأرادوا أن يلقوا على رأسه حجراً ليقتلوه بأبي هو وأمي فأتاه الخبر بذلك سريعاً ، وأمر بإجلائهم وإخراجهم من المدينة المنورة ، وسورة الحشر تبين قصتهم ومكرهم ومكر الله بهم.
ولقد سمت النبي يهودية إذ سألت من أي موضع من الشاة يحب أكله ، فأخبرت بأنه الذراع فسممت ذراع الشاة وقدمتها له هدية فأكل ولم يستسغه فتفله وقال : إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة أو كما قال وأكل معه صحابي جليل فمات رضي الله عنه.
ولما حضرت النبي الوفاة كان يعاني من أثر السم كما أخبر هو بذلك ، ولقد بلغ اليهود رتبة أسفل ومنزلة أخس من الدناءة ، إذ قد سبوا الله سبحانه وتعالى الله علواً كبيراً: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء [المائدة:64].
واليهود هم أعدى أعداء المسلمين، وعداوتهم لنا تاريخية قديمة قدم التاريخ نفسه، ويشهد بذلك ربنا ولا أعظم شهادة من الله إذ يقول: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا [المائدة:82]، ويصفهم الله بوصف قبيح فيقول: ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين [المائدة:64]، أي يجتهدون في نشر الفساد بكل أنواعه في الأرض التي خلقها الله ومن عليها لتعمر بشرع الله ولتحكم بحكم الله: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:65].
وهم في سبيل نشر الفساد الخلقي أو العقائدي أو في مجال نقض العهود – ونقض العهود من سماتهم وصفاتهم المتأصلة في طيات نفوسهم – يتوارثون هذه الصفة كابراً عن كابر وأبا من جد.
لقد نقضوا عهود موسى وعيسى وسيدنا محمد فقد خذلوا المسلمين في غزوة الأحزاب وذلك بالمفاهمة مع المشركين والاتفاق معهم أن يطبقوا على النبي من الجهتين، المشركون من جهة واليهود من خلف المسلمين، فقتل النبي مقاتلهم وكل من أنبت منهم وسبى ذراريهم ونساءهم ، ويحكي الله قصتهم مع موسى فيقول: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين [البقرة:63-64]، هذا ديدنهم، وهذه طبيعتهم: نقض العهود والمواثيق: أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون [البقرة:100].
ومن هنا يجب على المسلمين ألا يطمعوا في ود بني إسرائيل في يوم من الأيام أو في مسالمتهم، فهذا حكم القرآن فيهم، وهذا وصف الله لهم: ومن أصدق من الله قيلاً [النساء:122].
(1) المسند 12/407.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله ، نصر عبده ، وأعز جنده، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ، أيده الله ورفع شأنه صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد :
يقول تعالى عن اليهود: ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون [سورة آل عمران:112]. إن في الآية حكما عليهم بالصغار والهوان إلى يوم القيامة.
وهنا يأتي السائل الأول فيقول: كيف ضربت عليهم الذلة والمسكنة وأخبارهم تنقل إلينا كل يوم عدوانا جديداً ؟!! كيف ضربت عليهم الذلة والمسكنة وتسلطهم اليوم في مصير المسلمين ظاهر وتبجحهم علينا في كل محفل من المحافل واضح ؟!!.
كيف ضربت عليه الذلة والمسكنة وبالأمس القريب قتلوا العشرات من بني الإسلام في عقر ديار المسلمين ؟!! فأجيب – بعون الله – من يسأل وأقول له : هون عليك يا أخي وارجع إلى الآية السابقة فالله يقول: ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ، ومعنى بحبل من الله وحبل من الناس: أي بعهد الله لهم كأن يكونوا أصحاب ذمة تحت حماية المسلمين في الدولة الإسلامية ويمكن أن يكون معنى ( حبل من الناس ) أي عهد من الناس أو اتفاق يكون فيه ذل غير اليهود فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويمكن أن يكون معنى ( حبل من الناس ) أي وسيلة تؤدي إلى عز اليهود وذل المسلمين كابتعادهم عن دينهم وتفرقهم وتشتتهم فيما بينهم وتركهم للجهاد مما يمكن اليهود من التوسع في نشر الفساد الذي تنقل إلينا أخباره، فمن أقام دور السينما العالمية وركز على إخراج المرأة واستخدامها أداة إضلال وتضليل ؟ ومن أقام نوادي الدعارة السرية وأمدها بالمال ؟ ومن نشر المخدرات بين أبناء المسلمين وسعى في سبيل إفساد الجيل المحمدي بأبهض النفقات إلا اليهود قاتلهم الله.
إني لا أحب أن أصور اليهود بأنهم العدو الذي لا يقهر، والعدو الذي لا يهزم ، فهم يسعون إلى بث هذا التصور بين أبناء المسلمين لتحطيمهم معنوياً ومادياً، وإنما أدعو بني قومي إلى رجعة صادقة إلى تعاليم القرآن وإلى سنة رسول الرحمن ، إن مقدسات المسلمين وديارهم لا يعيدها إلا جهاد صادق في سبيل الله، وإلا فلا نصر ولا كرامة ولا عزة ولا هيمنة قال رسول الله : (( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم )) (1) رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم.
(1) المسند 2/ 84. وسنن أبي داود : كتاب البيوع باب في النهي عن العينة.
(1/712)
فضيلة العلم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
1/1/1407
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلم يؤدي إلى خشية الله. 2- التعلم عبادة عظيمة يتعدى نفعها إلى العباد. 3- الدنيا
مذمومة إلا ما فيها من خير وخاصة العلم. 4- أحاديث في فضل العلم والعلماء. 5- آفات العلم:
أ- الرياء. ب- كتمانه. ج- التقصير في طلبه. د-عدم تبليغ قليله. هـ- ترك العمل به.
و- عدم الدقة في بيانه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فاتقوا الله يا عباد الله واعلموا أن العلم طريق الخشية من الله وليس وراء خشيته سبحانه إلا الفوز برضوانه: إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر:28].
واعلموا أن العلم ولا سيما الفقه في الدين مظنة إرادة الخير من الله قال : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )) (7) متفق عليه.
وبالعلم يهتدي الناس، والهداية أجرها عظيم، ولقد أقسم النبي لعلي قائلا: (( فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم )) (8). متفق عليه.
وإذا أردت أن تعرف طريق الجنة فهو طريق العلم قال رسول الله : (( ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة )) (1) رواه مسلم.
وما غبط ولا حسد أحد كما حسد العلماء إذ: (( لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها )) (2) متفق عليه.
ولقد لعنت الدنيا على لسان أعظم الخلق سيدنا محمد : ((ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالم أو متعلم )) (3) ، رواه الترمذي فاشتغلوا يا عباد الله بالعلم الذي فيه الأجر والمثوبة.
كما أن الخروج في طلب العلم خروج في سبيل الله، قال النبي المختار : (( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله )) (4) ، بهذا الحديث ينشط الطالب الكسول ويستيقظ التلميذ الخامل إن كان في القلب إيمان.
ولقد أورد أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه حديثا عظيما – والله عظيم –يحتوي على كنوز من الخير، إذ فيه بيان طريق العلم، وفيه بيان علاقة المتعلم بالملائكة بل وبالحيتان التي تسبح في البحار العميقة والسحيقة، وبيان الفرق بين العالم والعابد، بل في الحديث العظيم هذا بيان موقع العلماء من الأنبياء.
لعلكم أيها الإخوة قد عرفتم وعلمتم الحديث الذي أعني ؟ إنه الحديث الذي يقول فيه النبي : ((من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر )) (1).
من كل ما مضى من استعراض وجيز للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة يتضح لنا فضل العلم ومعلمه ومتعلمه.
وحتى لا يفوتنا هذا الأجر العظيم وهذا الخير الكبير ينبغي أن نحذر من آفات العلم، وأذكر بعض تلك الآفات تحذيرا منها أولها :
1- عدم إخلاص النية فالتعلم أو التعليم من أجل الوظيفية فقط أو من أجل وجاهة أو استعلاء، أو من أجل أن يقال: فلان شيخ، وفلان دكتور أمر مغبته عظيمة، وعاقبته وخيمة، قال رسول الله : (( من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة )) رواه أبو داود (1).
2- ومن آفات العلم كتمه وعدم إظهاره إما عجزاً أو كسلاً، أو بخلاً أو خوفا من قوي جائر، أو رغبة في عرض دنيوي زائل، قال : (( من تعلم العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار )) (2) رواه الترمذي.
3- الإهمال في تعلم القراءة والكتابة فهما طريق العلم وأداته، ولقد جعل النبي الفداء لمن لم يجد من أسارى قريش في غزوة بدر أن يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، وإن كان لا يلزم ضرورة أن يجيدهما، وكم من علماء لا يستطيعونهما لعذر كعمى بصر، ولكن تعلم القراءة والكتابة أفضل وأعظم، وهي من صفات الكمال إلا في حق النبي ففقدها في حقه صفة كمال إقامة للدليل على صدق نبوته ورسالته.
4- ولقد يظن بعض الناس أن تبليغ العلم لا يكون إلا إذا كان المبلغ ذا علم غزير، وهذا خطأ في التصور، وآفة في التفكير، فأنت يا أيها المسلم إن تعلمت خيرا وعلما فبلغه غيرك وعلمه إياه ولو كان يسيراً فهذا النبي يقول: ((بلغوا عني ولو آية)) رواه البخاري (1).
5- ومن أعظم آفات العلم : ترك العمل به، فالعلم ثمرته العمل.
6- كذلك عدم الحكمة في تبليغ العلم، فإنها آفة خطيرة فيه والحكمة قدر زائد على العلم: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً [البقرة:269].
ومن مظاهر عدم الحكمة في تبليغ العلم الجفاء والغلظة والفظاظة، والتعالي بالعلم والغرور به، وعدم إعطاء القوم ما يناسبهم من العلم من ناحية القلة أو الكثرة أو من ناحية الصعوبة والسهولة أو من ناحية الحال عموما، فلكل مقام مقال.
ومن مظاهر عدم الحكمة كذلك التعصب للرأي.
7- الاعتماد على الكتب فقط دون الرجوع إلى أهل الذكر، وتعتبر هذه الآفة من آفات العلم في عصرنا الحاضر، فبعض الناس يعتمد على الأقوال الضعيفة أو الآراء الشاذة ونجده يتتبع الرخص وهذا غير جائز.
8- بعضهم يهمل الدقة في تبليغ العلم وهذا خطير، ولقد دعا النبي بالنضارة – وهي الحسن في الوجه والخلق – لمن كان دقيقا في أداء الأقوال عنه إذ قال: (( نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع )) (3) رواه الترمذي.
9- التكبر عن التعلم والسؤال فيما ينفعه، فيتعالى عن ذلك لاسيما إن كان من يريد أن يتعلم منه أصغر سناً أو أقل مكانة اجتماعية وهذا سوء فهم وتقدير.
10- هذا ومن أعظم آفات العلم النسيان، ولا يمكن التغلب عليه إلا بدوام المذاكرة والعمل بذلك العلم.
11- وهناك آفة عصرية للعلم ظهرت قريبا: ارتباط العلم بالشهادات النظامية وما قد يظنه البعض أن العلم لا يمكن أن يتحصل بدونها، فالدرجات والشهادات العلمية وإن كانت مهمة فهي ليست الطريق الأوحد لطلب العلم، فحلق العلم في الدور وفي المساجد وسيلة أخرى من الوسائل النافعة المثمرة، وما تبثه وسائل الإعلام أحيانا طريق آخر للتعليم.
إن ارتباط العلم بالشهادات – وهي وسيلة - تنقلب إلى غاية، وتجعل حلق العلم مهجورة وعلماء الأمة يتنكر لها.
( 7) صحيح البخاري : كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه (1/ 26)
(8) صحيح البخاري : كتاب الجهاد، باب دعاء النبي إلى الإسلام والنبوة 4/5. وصحيح مسلم: كتاب أصحاب النبي باب فضائل علي 15/ 178.
(1) صحيح البخاري : كتاب العلم باب العلم قبل القول والعمل وصحيح مسلم كتاب الذكر باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 17/ 21.
(2) صحيح البخاري كتاب العلم باب الاغتباط في العلم والحكمة 1/ 26
(3) سنن الترمذي : كتاب ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل 4/ 561.
(4) أخرجه الطبراني في الكبير 1/ 126.
(1) سنن أبي داود : كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم 3/ 317.
(1) في صحيحه كتاب أحاديث الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل 4/145
(3) سنن الترمذي : كتاب العلم باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع 5/34
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/713)
في أدب الضيافة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إكرام الضيف من شعب الإيمان. 2- آداب الضيافة. 3- منكرات الناس في الإجازة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
المسلم يؤمن بواجب إكرام الضيف ويقدره قدره المطلوب وذلك لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) (1) ، وقوله: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزة قالوا: وما جائزته قال: يومه وليله، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه)) (2).
ولهذا كان على المسلم أن يلتزم في شأن الضيافة بالآداب التالية:
(أ) في الدعوة إليها وهي :
أن يدعو لضيافته الأتقياء دون الفساق والفجرة لقوله : (( لا تصاحب إلا مؤمنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي )) (3)
أن لا يخص بضيافته الأغنياء دون الفقراء لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء )) (1).
أن لا يقصد بضيافته التفاخر والمباهاة بل يقصد الاستنان بسنة النبي عليه الصلاة والسلام والأنبياء من قبله كإبراهيم عليه السلام والذي يلقب بأبي الضيفان، كأن ينوي بها إدخال السرور على المؤمنين وإشاعة الغبطة والبهجة في قلوب الإخوان.
أن يدعو إليها من يعلم أنه لا يشق عليه الحضور أو أنه يتأذى ببعض الإخوة الحاضرين تجنبا لأذية المؤمن المحرمة.
(ب) في آداب إجابتها وهي :
أن يجيب الدعوة ولا يتأخر عنها إلا من عذر، كأن يخشى ضررا في دينه أو بدنه لقوله : ((إذا دعي أحدكم فليجب)) ( 2) رواه مسلم وقوله: (( لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، أو أهدي إلى ذراع أو كراع لقبلت)) (3).
أن لا يميز في الإجابة بين الفقير والغني لأن في عدم إجابة الفقير كسرا لخاطره كما أن في ذلك نوعا من الكبر، والكبر ممقوت.
ومما يروى في إجابة دعوة الفقراء أن الحسن بن علي رضي الله عنهما مر بمساكين وقد نشروا كسرا على الأرض وهم ي أكلون فقالوا له : هلم إلى الغداء يا ابن بنت رسول الله فقال : نعم إن الله لا يحب المتكبرين. ونزل من على بغلته وأكل معهم.
أن لا يفرق في الإجابة بين بعيد المسافة وقريبها وإن وجهت إليه دعوتان أجاب السابقة منهما واعتذر عن الأخرى.
أن لا يتأخر من أجل صومه بل يحضر فإن كان صاحب الدعوة يسر بأكله أفطر لأن إدخال السرور على قلب المؤمن من القرب وهذا في صيام النفل وإلا دعا لهم بخير لقول الرسول : ((إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما فليصل ( أي يدعو )، وإن كان مفطرا فليطعم )) (1) ، رواه مسلم وقوله عليه الصلاة والسلام : (( تكلف لك أخوك وصنع ثم تقول : إني صائم. كل وصم يوما مكانه)) (2).
أن ينوي بإجابته إكرام أخيه المسلم وليثاب عليه لخبر : (( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )) (3) إذ بالنية الصالحة ينال المرء الأجر الكبير وتنقلب العادة إلى عبادة.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الأدب ، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره 7/79. وصحيح مسلم كتاب الإيمان : باب الحث على إكرام الجار والضيف 2/18.
(2) صحيح البخاري كتاب الأدب : باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره 7/79 ، وصحيح مسلم كتاب اللقطة ، باب الضيافة 12/30.
(3) أخرجه أبو داود في السنن : كتاب الأدب باب من يؤمر أن يجالس ، والترمذي في سننه : كتاب الزهد باب ما جاء في صحبة المؤمن 4/259.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله 6/144. ومسلم في صحيحه كتاب النكاح باب الأمر بإجابة الداعي 9/239.
(2) صحيح مسلم : كتاب النكاح باب الأمر بإجابة الداعي الى الدعوة 11/234.
(3) صحيح البخاري : كتاب الهبة ، باب القليل من الهبة 3/129.
(1) صحيح مسلم كتاب الصيام باب ندب الصائم إذا دعي الى طعام ولم يرد الإفطار 9/236 ، والكلمة بين المعترضين ليست من الحديث إنما هي تفسيرية أي يدعو لهم (ومعناه: فليدع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة ) صحيح مسلم بشرح النووي 9/236.
(2) الدار قطني في سننه : كتاب الصوم باب الشهادة على رؤية الهلال 2/178.
(3) صحيح البخاري كتاب بدء الوحي ، باب كيف كان بدء الوحي 1/2.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد الشاكرين والشكر له استزادة منه هو أكرم الأكرمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حقا وصدقا، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله النبي المبعوث رحمة للعالمين، فصلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فاتقوا الله معاشر المؤمنين وعودوا إليه واشكروه ولا تكفروه فهو القائل سبحانه: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].
واعلموا أن من كفران النعم أن يخولنا الله الصحة والفراغ والرزق والمال ثم نعصي الله بما أولانا وأعطانا، فيسافر بعض المسلمين في عطلهم إلى بلاد الكفر أو بلاد الفسق والرذيلة فيعرضون أنفسهم للوقوع فيها، فيعود الرجل موبقا بالذنوب والمعصية لعلام الغيوب محملا بقلب يتلذذ ويحترق بالمعاصي ونفس تتوق إلى الملاهي والمنكرات، بل وربما حمل معه إلى بلاده الطاهرة مرضا جنسيا نجسا أو حشيشة قذرة مدمرة فبئس الوافد على الأهل والولد وبئس الحامل والمحمول.
والمصيبة أكبر والهول أفظع إذا حمل أهله وولده معه ينزع عن نسائه وبناته جلباب الحياء ويدرب أولاده وصبيانه على غشيان دور الخمور والبغاء، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وإن تألم فأشد ما يؤلمك أن ترى في العطلة النصفية تزاحم الرجال بل وحتى النساء على شبابيك محلات الفيديو يشترون أو يستأجرون أو يشتركون في تداول أفلام الجنس الرخيص والعبث والمجون أو تخريب الأفكار والمعتقدات أو تمجيد هذا الغربي والكتابي أو ذاك الشرقي الوثني، في غياب كبير لإعلام إسلامي فعال يقدم البديل، فيتعلم البنون والبنات الرقص والميوعة والسيئ من العادات، في صورة لباس يرسخ الإمعية والتقليد المشين، أو في صورة قصة شعر أو زي يطول تارة ويقصر أخرى حسبما يحلو لأعدائنا أن يعبثوا بنا فنصبح ألعوبة بين الأمم، ولا تسأل عن إضاعة الأوقات وفوات الصلوات.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها الوالد أيها الولي أيها المسلم ويا أيتها المسلمة اتقوا الله فيما وليتم من رعية تسترعونا أو أموال تنفقونها أو أوقات تضيعونها أو أعمار تفنونها، فإن الله سائل كل راع عما استرعاه، فليعد كل راع الجواب على هذا السؤال.
وها قد وضح النجدان واستبان السبيلان، فاختر لنفسك برد الجنان أو حر النيران.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا واجعل أعمارنا في طاعتك.
(1/714)
من فضائل بيت المقدس وفتحه
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
ابن حسن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدم المسجد الأقصى. 2- خصائص المسجد الأقصى. 3- أرض الأقصى أرض البركة
والأنبياء. 4- واجب المسلمين نحو الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
معاشر المسلمين فعظموا ما عظم الله وأحلوا ما أحل الله، فذلك من التقوى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج:32]، وقد ورد في شأن بيت المقدس – رده الله إلى المسلمين – نصوص كثيرة منها ما ورد عن أبي ذر قال: (( قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت:ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة فصل، فهو مسجد )) (2) رواه البخاري ومسلم.
وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي قال: (( لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس. سأل ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. فقال النبي : أما اثنتان فقد أعطيها، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة )) (3) ، وما ذاك معاشر المؤمنين إلا بفضل هذا الموطن المبارك.
ومن فضله أن الرحال تشد إليه قال النبي : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا )) (4).
(( فضلت الصلاة في المسجد الحرام على غيره بمائة ألف صلاة، وفي مسجدي هذا ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس بخمسمائة صلاة )) (1) أخرجه الطحاوي.
وقد ورد أن الصلاة فيه تضاعف وأن المسيح الدجال لا يدخله، عن مجاهد قال : كنا ست سنين علينا جنادة بن أبي أمية فقام فخطبنا فقال : أتينا رجلا ًمن الأنصار من أصحاب رسول الله فدخلنا عليه فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله ولا تحدثنا ما سمعت من الناس فشددنا عليه فقال: (( قام رسول الله فينا فقال: أنذرتكم المسيح وهو ممسوح العي ن، قال أحسبه قال: اليسرى، يسير معه جبال الخبز وأنهار الماء، علامته يمكث في الأرض ومسجد الرسول والمسجد الأقصى والطور. ومهما كان من ذلك فاعلموا أن الله عز وجل ليس بأعور)) (2).
ويكفي شرفاً لبيت المقدس أن إليه أسري نبينا ، ومنه كان المعراج حيث صعد منه إلى السماء وقيل: إنه هو الذي تصعد منه الأرواح إلى السماء حيث ينظر إليه العبد إذا شخص بصره عند طلوع روحه.
وقد وردت آثار في فضل من اعتمر من بيت المقدس وفعل ذلك عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما وأرضاهما –.
وفي مسجدها الصخرة المشرفة، وفيه الحلقة التي ربط النبي بها البراق وبمسجدها صلى النبي إماما بالنبيين والمرسلين. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله : (( من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس ))، وقال عبد الله بن عمر: بيت المقدس بنته الأنبياء وعمرته، وما فيه موضع شبر إلا وقد سجد عليه نبي أو قام عليه ملك.
وفي بيت المقدس بشر الله زكريا بيحيى عليهما السلام. وسخر الله لداود الجبال والطير في بيت المقدس. ويهلك الله يأجوج ومأجوج في بيت المقدس. وولد عيسى عليه السلام في المهد في بيت المقدس وأنزلت عليه المائدة فيها ورفعه الله إلى السماء منها وينزل من السماء فيها ليقتل المسيح الدجال. وصلى النبي إلى البيت المقدس قبل توجهه إلى الكعبة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً. وورد في آثار أن المحشر والمنشر في بيت المقدس. وغير هذا من الفضائل كثير.
(2) صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء ، باب يزفون النسلانفى المسجد 4/ 117وصحيح مسلم ومواضع الصلاة 5/2.
(3) سنن ابن ماجه 1/ 451 ، سنن النسائي 2/ 34 بلفظ الصلاة 5/2.
(4) أخرجه البخاري ومسلم صحيح البخاري : كتاب الصلاة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 2/56. وصحيح مسلم: كتاب الحج، باب فضل المساجد الثلاثة 9/167.
(1) أخرجه الطحاوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه مشكل الآثار 1/ 248.
(2) أخرجه أحمد في المسند 5/ 365.
_________
الخطبة الثانية
_________
مما تقدم من الفضائل العظيمة يتضح لنا ما لبيت المقدس من عظيم القيمة عند قوم موسى وقوم عيسى وقوم محمد أجمعين.
وعندما أقول قوم موسى وقوم عيسى فإنما أقصد الذين لم يحرفوا دينهم ولم يبدلوه والذين أدركوا النبي فآمنوا به فأولئك يؤتون أجرهم مرتين لأن المصطفى أخبر عمر رضي الله عنه أن موسى لو كان حيا ما وسعه غير اتباعي.
ولما ينزل عيسى في آخر الزمان يقتل المسيح الدجال، ويصلي مأموما وهو نبي خلف المهدي محمد بن عبد الله إكراماً من الله لهذه الأمة.
فالمسجد الأقصى للمسلمين لأن كل الأنبياء والمرسلين مسلمون: إن الدين عند الله الإسلام [سورة آل عمران:19].
وبنو الإسلام اليوم مطالبون أن يطهروا مصلى الأنبياء ومعراجهم إلى السماء من رجس اليهود والنصارى الذين سجل الله عز وجل عليهم سخطه في كل ركعة فالمغضوب عليهم هم اليهود. والضالون هم النصارى.
وهذا المسجد الأقصى ينادي، نساؤه وأطفاله يرمون بالحجارة، وشبابه يعتقلون من قبل اليهود المناكيد، ولسان الحال يقول: هذا المسجد الأقصى فتحه عمر وأعاده صلاح الدين، فمن له اليوم؟ قال رسول الله : (( لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قال: يا رسول الله وأين هم ؟ قال : بيت المقدس وأكناف بيت المقدس )) (2).
(2) المسند 5/260.
(1/715)
المعجزة الكبرى القرآن 1
قضايا في الاعتقاد
معجزات وكرامات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
تأييد الله لرسوله بالمعجزات – المعجزة الكبرى – استعذاب صناديد الكفر للقرآن ( أمثلة ) أثر الكبر والحسد في الكفر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لما بعث الله تبارك وتعالى خليله ومصطفاه ونبيه ومجتباه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وحمله عبء تبليغها لم يتركه هملا بل أيده بالمعجزات الظاهرات وأظهر صدقه بالآيات البينات وما من معجزة أوتيها نبي الله من قبله على مثلها آمن البشر إلا وأوتي مثلها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فأوتي من الآيات والمعجزات الكونية ما على مثله آمن البشر فكلمه الشجر والحجر وانشق له القمر وحن إليه الجذع وبرأ المريض ببركته صلى الله عليه وسلم وفاض الخير ببركته وفاض الطعام من بركة يده صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من المعجزات الكونية التي سنذكر طرفا منها إن شاء الله تعالى في الجمع القادمة أما معجزته الكبرى فكانت هذا القرآن كانت هذا القرآن كتابا يتلى فيه تفصيل كل شيء وأعجز العرب بأسلوبه وبلاغته وهم أمة الفصاحة والبلاغة والبيان للبلاغة عندهم شأن عظيم فجاءت المعجزة الكبرى من جنس ما برعوا به هذا القرآن الكريم أعجزهم ببلاغته وإسلوبه وحكم بلاغه وقوة سبكه لذلك لما سمعوه ما سمعه أحد من العرب الفصحاء إلا اهتز له وأثر فيه وملك مجامع قلبه وأخذ بلبه بقوة مضمونه وحلاوة إسلوبه وجلالة معانيه حتى أشد قريش عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به كانوا يستعذبون سماع هذا القرآن ويؤثر فيهم فعن الحافظ الزهري رحمه الله قال: حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يتسمعون للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في جوف بيته فأخذ كل رجل منهم مكانه حول بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعلم كل واحد منهم بمكان صاحبه يتسمعون القرآن بترتيل خير الخليقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فمكثوا كذلك حتى أصبحوا فلما أصبحوا وتفرقوا جمعتهم الطريق أي إلتقوا في الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض فلو رآكم السفهاء لوقع في نفوسهم شيء لوقع في نفوسهم الإسلام والإقبال على هذا القرآن فلما كان من الليلة الثانية عادوا لمثل ذلك فلما إنصرفوا وتلاقوا تلاوموا لذلك حتى إذا كانت الليلة الثالثة وعادوا لذلك ثم تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا وتعاهدوا ألا يعودوا لذلك أبدا فسبحان الله أنظر كيف أثر هذا القرآن العظيم في نفوس هؤلاء الفصحاء مع أنهم كانوا من أشد قريش عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به على الرغم من أنه أثر فيهم مع أنهم أهل الفصاحة أهل السليقة اللغوية الراقية فأثر فيهم هذا القرآن العظيم بحلاوة إسلوبه وقوة مضمونه ولكنهم لكبريائهم وعنادهم لم ينقادوا إلى الحق وعن جابر بن عبد ال [1] له رضي الله عنه قال : قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد إنتشر عليكم أمر محمد فإلتمسوا رجلا يعرف السحر والكهانة والشعر فيكلمه ثم يأتينا ببيان من أمره فقال عتبة بن ربيعة: إني قد عرفت السحر والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي إن كان كذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتاه قال له: يا محمد وفي رواية يا إبن أخي أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال عتبة: فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ إن كان إنما بك الرياسة جمعنا لك ألويتنا فصرت فينا رأسا ما بقيت وإن كان إنما بك الباءة زوجناك بعشرة نسوة تختارهن من أي أبيات قريش شئت وإن كان إنما هو المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك والنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ساكت حتى فرغ عتبة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في بعض الرايات: ((أفرغت يا أبا الوليد)) قال: نعم قال: ((فاسمع بسم الله الرحمن الرحيم: حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ))، حتى بلغ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [فصلت:1-13]. فوثب عتبة حينئذ ووضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف عنه واحتبس عتبة فلم يخرج إلى أهله فقال عدو الله أبو جهل: يا معشر قريش ما أرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا لحاجة وقعت به فانطلقوا بنا إليه فأتوه فقال له أبو جهل : إنا قد حسبناك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن كان لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به عن طعام محمد فغضب عتبة وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا ثم قال لهم: إني قد أتيته وكلمته وقص عليهم القصة ثم قال: فأجابني بشيء ما هو بسحر وكهانة ولا شعر قال: بسم الله الرحمن الرحيم: حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ، حتى بلغ: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [فصلت:1-13]. فوضعت يدي على فمه يقول عتبة للملأ من قريش فوضعت يدي على فمه وناشدته الرحم أن يكف فلقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لا يكذب وإني خشيت أن ينزل بكم العذاب.
الله أكبر هؤلاء جبابرة قريش أعداء الدعوة النبوية أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به ومع ذلك فعلت هذه المعجزة الكبرى فعلها في اظهار صدقه صلى الله عليه وسلم وصدق نبوته وأقامت الحجة عليهم وانبلج صدق نبوته صلى الله عليه وسلم كالشمس وهل ينكر الشمس إلا من في عينه رمد وهم عرب فصحاء أهل فصاحة وبيان وبلاغة ويعرفون أسرار البيان والفصاحة والبلاغة ولذلك أثر فيهم هذا القرآن واستيقنت نفوسهم أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صادق إذا قال شيئا لا يكذب ولذلك تملك الرعب ذلك الجبار عتبة بن ربيعة لما سمع الوعيد وعيد هذا القرآن يقرأه عليه النبي صلى الله عليه وسلم وظن أنه واقع بهم لا محالة ووضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم ينقادوا إلى الحق كبرا وحسدا وعنادا فأنظر ماذا يفعل الكبر وماذا يفعل العناد وماذا يفعل الحسد فسبحان من بيده كل شيء من بيده أزمة القلوب يهدي من يشاء ويضل من يشاء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [طه:113].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه عبد بن حميد (3/61-62) وأبو يعلى في مسنده (1818) وغيرهما وسنده لا بأس به.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين واشهد ألا إله ألا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1] اللهم صلي وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وأرضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد (1/306) رقم (408).
(1/716)
منزلة الصحابة في الإسلام
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
3/3/1406
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
لا يصح إيمان أحد حتى يعتقد قيامه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ الكامل – قد ينتقص إيمان
البعض وهو لا يدري – الخوارج واعتقادهم ومروقهم من الإسلام – من أسباب الخروج من
الإسلام : أ- الطعن في الصحابة ب- الابتداع في الدين – خطورة الطعن في الصحابة وكونه
طعناً في الرسول صلى الله عليه وسلم , وهو من علامة المنافقين , وهو تكذيب للقرآن لأن الله
أثنى عليهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاعلموا أيها المسلمون أنه لا يصح إيمان أحد حتى يعتقد أن رسول الله محمدًا قد بلغ رسالات ربه وأدى الأمانة كاملة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده كيف وقد شهد له ربه بذلك لما أنزل عليه البشارة بإكمال الدين وإتمام النعمة، وذلك يوم الجمعة يوم عرفة من حجته المشهورة بحجة الوداع أنزل عليه قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:3].
فهذه الآية بيان من الرب عز وجل بأن دين الإسلام قد كمل وبأن شريعة الإسلام قد كملت فلا حاجة بعد ذلك إلى زيادة أحد وهي إعلام من الرب عز وجل بأن رسول الله قد أتم مهمته على خير وجه وأحسنه وقد بلغ رسالة ربه قال رجل من اليهود للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين إنكم تقرأون آية لو نزلت علينا معشر يهود لاتخذناها عيدًا قال: أي آية. قال: ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي)) فقال عمر رضي الله عنه: ((إني لأعلم حين أنزلت وأين أنزلت وأين كان رسول الله حين أنزلت يوم عرفة وأنا والله بعرفة)) [1] وفي رواية أنه رضي الله عنه قال: ((أنزلت في يوم الجمعة يوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد)) [2].
ثم أنزل الله على نبيه بعد ذلك بهذه المدينة آخ [3] ر سورة أنزلها عليه سورة (الفتح): إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [النصر:1-3]. فكانت هذه السورة إعلامًا من الرب عز وجل بأن رسوله قد أدى واجب الدعوة والجهاد أتم الأداء، وهي إيذان أيضًا بقرب رحيل رسول الله من الدنيا وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله "إذا جاء نصر الله والفتح" قال رسول الله : ((نعيت إلى نفسي)) [4] وفي رواية عنه [5] رضي الله عنه قال: ((لما أنزل الله إذا جاء نصر الله والفتح)). علم رسول الله أن قد نعيت إليه نفسه. وفي رواية: ((فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادًا في أمر الآخرة)) [6] ، وذلك استعدادًا للقاء ربه عز وجل. فهل يخطر في بال مؤمن بعد ذلك بعد إعلام الله لخلقه بهذه السورة وتلك الآية بأن سبحانه قد أكمل الدين وأن رسوله قد أتم البلاغ وأدى الأمانة وأدى الرسالة هل يخطر في بال مؤمن أن رسول الله قصر في أداء الرسالة وترك لأحد من بعده أن يكمل الدين، لو ظن هذا الظن أحد لخرج من دائرة الإسلام ولبطل إيمانه ولا ينفعه بعد ذلك صلاة ولا صيام لأنه يكون بذلك قد نقض أحد ركني شهادة الإسلام؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فالركن الأول الذي هو الشهادة لله بتوحيده في العبادة لا يتم إلا بالركن الثاني وهو الشهادة لسيدنا محمد بالرسالة فمن نقض الثاني فقد نقض الأول كما أن من نقض الأول فقد نقض الثاني. لا يرد على بال مؤمن أبدًا أن هناك نقصًا أو خللاً في الدين فقد أكمل الله الدين ولا يرد على بال مؤمن أبدًا أن رسول الله قد قصر في أداء الرسالة ولكن الغافل من المسلمين قد ينقض اعتقاده هذا وهو لا يدري وهذه مصيبة من أعظم المصائب أنه قد يخرج الرجل من دائرة الإسلام ويبطل إيمانه وهو لا يدري. بل ربما كان يحسب أنه يحسن صنعًا.
مضلات الفتن من أعظم المضلات شرًا على المسلمين، قد يخرج المسلم من دائرة الإسلام وقد يفسد إيمانه وقد ينتقض اعتقاده وهو لا يدري هؤلاء الخوارج من أعظم أهل البدع شرًا، من أشد أهل البدع شرًا، كفروا وقاتلوا بل وقتلوا رابع الخلفاء الراشدين، أبا السبطين صاحب الراية يوم خيبر الرجل الذي شهد له رسول الله بأنه يحب [7] الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كفروه وقاتلوه وقتلوا لكن هؤلاء المساكين كانوا من أهل لا إله إلا الله، بل كانوا من أشد أهل لا إله إلا الله عبادة وأكثرهم صلاة وقرآنًا، بل وصفهم رسول الله لأصحابه بقوله تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم فهل شفع لهم ذلك؟ وهل نفعتهم عبادتهم؟ لقد حكم رسول الله بنفسه فقال: ((يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قبل اليهود فمن أدركهم فليقتلهم طوبى لرجل قتلهم أو قتلوه)) [8]. لم تنفعهم لا إله إلا الله، ولم تنفعهم عبادتهم لأنهم أتوا بعد ذلك ببدعة عظيمة وفتنة جسيمة نقضت ذلك كله، فاحذر أيها المسلم من مضلات الفتن، احذر من مهلكات الفتن وتفقد إيمانك، واستوثق لدينك، واعلم أن من أكثر ما يؤتى الرجل في إيمانه ومن أشد ما يفسد على الرجل إيمانه وربما يخرجه من دائرة الإسلام أمران خطيران هما الطعن في الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، والابتداع في الدين، فهاتان فتنتان مضلتان مهلكتان أتى من قبلهما كثير من جهال المسلمين، وقد يكونان سببًا لخروج المسلم من دائرة الإسلام ولإفساد الإيمان على المؤمن ولإفساد الدين على صاحب الدين فلا ينفعه بعد ذلك لا إله إلا الله ولا تنفعه بعد ذلك عبادة ولا صلاة ولا صيام.
أما قضية الابتداع في الدين فقضية شائكة طويلة ربما نتعرض لها في الجمع القادمة بإذن الله تعالى ومشيئته وعونه وتوفيقه، وأما مسألة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فمسألة أوضح من الشمس وقد ذكرنا فيما مضى من الأيام طرفًا من هذا الموضوع وإننا مؤكدون عليه اليوم.
المهم أن نعلم أن الطعن في الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين اتهام لرسول الله بأنه لم يؤد الأمانة على الوجه المطلوب، ولم يبلغ رسالة ربه على الوجه المطلوب لأنه اتهام لسيدنا محمد بأنه لم يحسن اختيار أصحابه ولم يحسن اختيار أعوانه وأنصاره الذين يبلغون عنه دين الله للأمة اتهام لرسول الله بهذه التهمة الشنيعة التي تنقض الاعتقاد بأن رسول الله محمد قد أدى الرسالة وأتم البلاغ.
إن الطعن في الصحابة الكرام أو في أحد الصحابة الكرام هو اتهام لرسول الله بهذه التهمة الشنيعة ولذلك عد أئمة المسلمين الطعن في الصحابة الكرام نفاقًا من الرجل والطعن في واحد من الصحابة الكرام علامة على النفاق، وثبت ذلك عن رسول الله.
ففي صحيح البخاري أنه قال: ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)) [9] وقال : ((لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحب الأنصار أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)) [10] وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ من أحدهم ولا نصيفه)).
أما الطعن في الصحابة عمومًا ومن حيث الجملة كما وقع فيه بعض أهل البدع المنكرة التي أخرجتهم عن ملة الإسلام فهو تكذيب للقرآن تكذيب للآيات من سورة الحشر فقد أثنى الله عز وجل على المهاجرين من أصحاب نبيه بقوله: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [الحشر:8] وأثنى الله تعالى على الأنصار من أصحاب نبيه بقوله: والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9] والدار والإيمان اسمان من أسماء هذه المدينة المباركة.
ثم وصف الله تعالى حال المؤمنين من بعدهم، المؤمنون الذين لزموا الجماعة وتمسكوا بالسنة المؤمنون الناجون وأعظم علاماتهم حب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والدعاء للصحابة والاستغفار لهم قال تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم [الحشر:10].
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (68) التفسير – سورة المائدة (109) باب اليوم اكملت لكم دينكم (4/1683).
[2] أخرجها الطبري في تفسيره (9/526) برقم (11100) وفي انقطاع.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب (54) التفسير (4/2318) برقم (3024) عن ابن عباس موقوفاً.
[4] أخرجه أحمد في مسنده (1/217) والطبري في تفسيره
[5] أخرجه أحمد (1/344و356) البخاري في صحيحه في كتاب (68) التفسير (464) (4/1901).
[6] أخرجه النسائي في تفسيره (2/566-567) برقم (732) وغيره ومسند حسن.
[7] أخرجه البخاري في صحيحه في (16) فضائل الصحابة (9) باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي ، ابي الحسن رضي الله عنه (3/1357).
[8] أخرجه البخاري في صحيحه (92)باب قتل الخوارج والملحدين (6/2539-2540).
[9] أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (66) فضائل الصحابة (34) باب حب الأنصار من الإيمان (3/1379).
[10] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (66) فضائل الصحابة (34) باب حب الأنصار من الإيمان (3/1379).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/717)
الحلال والحرام
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
محمد النمر
الطائف
24/8/1417
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
- حكم طلب الحلال ,وأسباب وقوع الناس في الحرام – ماذا يجب فعله عند التباس الحلال
بالحرام – بعض صور الكسب الحرام – تربيته صلى الله عليه وسلم صحابته على الورع ونماذج لذلك من حياة السلف – مراتب الورع وفضله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: فإن طلب الحلال واجب على كل مسلم، وإن صار عصيا على العقول فهما، وثقيلا على الجوارح فعلا وذلك بسبب قلة الفقه في الدين والتعلق بالمادة واختلال الموازين إذ كثير من يقدر الرجل من خلال ما يملك وما يلبس وما يركب. والأمر ليس كذلك فالمرء بأصغريه قلبه ولسانه ورب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره. إن فساد التصور جرأ أناسا كثيرين على الحرام ولبس على العامة الحلال، فظنوا أن الحلال مفقود وأن السبيل دون الوصول إليه مسدود وأنه لم يبق وجه سوى الاتساع في المحرمات.
ومن تركنا على المحجة البيضاء يقول: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة.. الحديث)).
فما على من يحرص على دينه إذا التبس عليه أمر بين حل وحرمة أن يسأل إذا لم يعلم كما كان سلفنا رضوان الله عليهم الذين عناهم قول الله تبارك وتعالى: كلوا من الطيبات واعملوا صالحا. وقوله: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون.
فكل معاملة ليست على أصل شرعي واضح فهي من أكل أموال الناس بالباطل الذي حرمه الله ونهى عنه.
وكم تجرأ الناس على الكسب الحرام: عامل لا يؤدي عمله على وجه صحيح، ورب عمل يقتطع من حق أجيره، وموظف لا ينهض بمسؤولية وظيفته، وتاجر يغش في سلعته، ومتجرئ على التعامل بالربا، ومتاجر بما يفسد عقول الناس ويدمر حياتهم.
ألا ما أشد ضياع من تنكب طريق الهداية فباع نفسه للشيطان هذا رسول الله يجد ثمرة في زاوية البيت ساقطة على فراشه فيرفعها ليأكلها ثم يخاف أن تكون صدقة فيلقيها فقد روى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد الثمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها)) ، ويعيش صحابته رضوان الله عليهم بهذا الحذر من الحرام ومن شبهته هذا الصديق كان لا يأكل إلا من خراجه فجاء غلامه يوما بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: أتدري ما هذا، فقال: وما هو، قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية فأعطاني فأدخل الصديق أصبعه في فيه وجعل يقيئ حتى ظن أن نفسه ستخرج.
لقد فهموا قول نبيهم صلوات الله وسلامه عليه لسعد وقد سأل النبي أن يسأل الله له أن يجعله مجاب الدعوة فقال عليه الصلاة والسلام: ((أطب مطعمك تجب دعوتك)) ، تقول عائشة رضي الله عنها: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة؛ الورع، ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، لم يقبل ذلك منكم إلا بورع حاجز.
يقول يحي بن معاذ: الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء، وأسنانه لقم الحلال.
واسمعوا قول سهل التستري: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه أريع خصال: إذا جمل الفرائض بالسنة، وأكل الحلال بالورع، واجتنب البذيء من الظاهر والباطن، وبقي على ذلك حتى الموت.
وخذوا هذا ممن نور الله قلوبهم: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى، علم أو لم يعلم، ومن كانت طعمته حلالا أطاعته جوارحه ووفقت للخيرات.
ولقد بلغ الأمر عند السلف أنهم إذا جلس الواعظ للناس قال العلماء: تفقدوا منه ثلاثا: فإن كان معتقدا لبدة فلا تجالسوه فإنه عن لسان الشيطان ينطق،وإن كان سيء الطعمة فعن الهوى ينطق، فإن لم يكن مكين العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح فلا تجالسوه.
يقول علي بن أبي طالب : إن الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب، وزاد بعضهم وشبهتها عتاب.
ولقد كان بين الإمام أحمد ويحيى بن معين رحمهما الله صحبة طويلة فهجره أحمد إذ سمعه يقول: إني لا أسأل أحداً شيئا، ولو أعطاني الشيطان شيئا لأكلته، حتى اعتذر يحي وقال: كنت أمزح، فقال: تمزح بالدين، أما علمت أن الأكل من الدين، قدمه الله تعالى سبحانه على العمل الصالح فقال: كلوا من الطيبات واعملوا صالحا.
واعلموا رحمكم الله أن الورع له أول وهو الامتناع عما حرمته الفتوى وهو ورع العدول، وله غاية وهو ورع الصديقين وذلك هو الامتناع عن كل ما ليس لله مما أخذ بشهوة أو توصل إليه بمكروه، أو اتصل بسيئة مكروه وبينهما درجات في الاحتيال، فكلما كان العبد أشد تشديدا على نفسه كان أخف ظهرا يوم القيامة، وأسرع جوازا على الصراط، وأبعد عن أن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته وتتفاوت المنازل في الآخرة بحسب تفاوت هذه الدرجات في الورع، كما تتفاوت درجات الناس في حق الظلمة بحسب تفاوت درجات الحرام من الخبث، فإن شئت فاستكثر من الاحتياط، وإن شئت فرخص، فلنفسك تحتاط وعلى نفسك ترخص.
ورسول الله يقول: ((لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به فخافة ما به بأس)).
ويقول الفاروق عمر: كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام.
وبعد فهل عزت هذه النماذج من المتقين في واقع الناس، لا فالخير في الأمة والحريصون على دينهم كثيرون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/718)
طول الأمل
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, الموت والحشر
محمد النمر
الطائف
8/2/1418
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاشتغال بالدنيا وزينتها والغفلة عن الموت وما بعده. 2- قِصَر عُمُر الإنسان وكثرة الأعراض والأمراض وأسباب المنايا حوله. 3- استشعار السلف حقيقة الدنيا وسرعة تحولها وأثر ذلك عليهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فيا عباد الله، احتشدت المغريات على الناس فأنست كثيرين منهم مهمتهم في الحياة ومصيرهم بعدها، فأقبلوا يعبون من شهواتها بغير حدود، وربما عب بعضهم بغير قيود، تنافس خطير في الجمع من حل ومن غير حل من أجل استمتاع أكبر، وتسابق في التعمير والتوسع والزخرفة والتأثيث، والمصيبة إن كان صاحب هذا ممن غرقوا في هذا الصراع وعكفوا عليه ناسين كونهم عبادا لله ينتظرهم الموت وما يأتي بعد الموت، آمالهم عراض، وأهواؤهم جامحة.
إلى نفسي أولا وإلى كل حريص على هدي محمد بن عبد الله أسوق هذه الصور التي أخرجها الإمام البخاري في صحيحه، فعن عبد الله بن مسعود قال: خط النبي خطا مربعا، وخط خطًا في الوسط خارجا منه، وخط خطوطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: ((هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذه نهشه هذا)) ، وقد ورد في رواية أنس قال: خط النبي خطوطا فقال: ((هذا الأمل، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخطب الأقرب)) ، وقال علي : (ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل).
مسكين هذا الإنسان الضعيف؛ تغزوه الأعراض غزوا فيه إلحاح: عدوى أو سرطان أو حريق أو غرق أو سقوط أو اصطدام أو لدغة أو تسمم بطعام أو طلقة، فإذا نجا من كل ذلك كان له في الهرم وضغط الدم وارتفاع نسبة السكر تأديب أي تأديب، فإن أطال النفس اقتص منه الموت، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ، تعددت الأسباب والموت واحد، يحاصر الأمل الشارد الذي يتوهم الإفلات حصارا شديدا.
إن العاقل لو نظر ببصيرته لعرف أن أمله إنما يلفّه محيط أسود ما لم يتبع في حركته مخرجا تدل عليه التقوى، فإن العيش الرغيد لا بد من أن يتنغص، والظل الظليل يتقلص، وإن المطامع مهما كبرت فليس صاحبها لما قدّر له بمجاوز، فالأنفاس تعد، ورحاله تشد، وعاريته ترد، والتراب من بعد ينتظر الخد، وعلى أثر من سلف يمشي من خلف، وما ثم إلا أمل مكذوب وأجل مكتوب.
إن الذي يعيش مترقبا النهاية يعيش معدا لها، فإن كان معدا لها عاش راضيا بها، فإن عاش راضيا بها كان عمره في حاضر مستمر، كأنه في ساعة واحدة يشهد أولها ويحس آخرها. وبمثل هذا النظر والترقب الذي أكسبه الأنبياء عليهم السلام من قاتل معهم من الربيين صفت النفوس، وثبتت بركيزة من الطمأنينة سكنت معها وهدأت، فرأت حين زال الاضطراب الحقيقة الترابية للشهوات الدنيوية، فزال عنها التطلع لمزيد.
بكى عبد الرحمن بن عوف وعاف الطعام لما تذكر مصعب بن عمير كما روى الإمام البخاري عنه: (قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كفن في بردة؛ إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا).
ولم يكن بكاء عبد الرحمن حزنا أن لم ير أخاه مصعبا مترفا، إنما هو بكاء الخشية من بعض مباح أن يكون حسنة معجلة تمنعه الآجل، كما أفصح، ودموع حذر تخرجها روعة تجرد لجهاد يرى ذهاب أبطاله تباعا، فيخلف من بعدهم خلف تكثر في يده الأموال، من نخاف أن يتنافسوها فيتوقف نبض فتوح الهداة.
يشبه بكاء عبد الرحمن عبرة ظلّ يغص بها حلق أبي الدرداء مرارا وهو يقول: (أبكاني فراق الأحبة: محمد وحزبه)، يعبر عن خوفه من جديد طرأ على حياة الجيل الثاني. لقد صعد أبو الدرداء درج مسجد دمشق فقال: (يا أهل دمشق، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح، إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرًا، ويبنون شديدًا، ويأملون بعيدا، فأصبح جمعهم بورًا، وبنيانهم قبورا، وأملهم غرورا). وبقي في أهل دمشق سنين يخفف أثر هجمة المال، ثم أورث هذه الفكرة أهله، فكان الرجل منهم يأتي أم الدرداء يستنصحها فيقول: (إني لأجد في قلبي داء لا أجد له دواء، أجد قسوة شديدة وأملا بعيدا)، فتقول رضي الله عنها: (اطلع في القبور، واشهد الموتى).
ولقد أرجف عمر بن عبد العزيز قلوب جيلة بذكر الموت بعد أن أخذت منه الدنيا مأخذا، فكم وقف عمر مثل موقف أبي الدرداء على درج مسجد دمشق ليجد الوعظ القديم ويقرر فيقول: "إن الأمان غدا لمن حذر الله وخافه، وباع قليلا بكثير ونافذا بباق". حتى إذا أيقنوا صواب الصفقة راح يريهم من واقعهم بعين التأمل ما لا تراه عين الغفلة فيقول لهم: "ألا ترون في أسلاب الهالكين؟! وسيخلفها من بعدهم الباقون، وكذلك حتى يردوا إلى خير الوارثين، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غاديا إلى الله رائحا، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، وطوى عمله، ثم تضعونه في صدع من الأرض في بطن لحد، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، ووجه للحساب، غنيا عما ترك، فقيرا إلى ما قدم؟!". ولربما أجلس أحدهم أمامه وعلمه، كما صنع بعنبسة بن سعيد إذ قال له: "يا عنبسة، أكثر من ذكر الموت، فإنك لا تكون في ضيق من أمرك ومعيشتك فتذكر الموت إلا اتسع ذلك عليك، ولا تكون في سرور من أمرك وغبطة فتذكر الموت إلا ضيق ذلك عليك".
قال التابعي محمد بن كعب القرظي رحمه الله: لما استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعث إلي وأنا بالمدينة، فقدمت عليه، فلما دخلت جعلت أنظر إليه نظرا لا أصرف بصري عنه متعجبا، فقال: يا ابن كعب، إنك لتنظر إلي نظرا ما كنت تنظره، قلت: متعجبا، قال: ما أعجبك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أعجبني ما حال من لونك ونحل من جسمك ونفى من شعرك، فقال: كيف لو رأيتني بعد ثلاثة وقد دليت في حفرتي وسالت حدقتي على وجنتي وسال منخري صديدا ودودا.
ألا ما أعجب نتاج غرسك يا رسول الله! وما أعمق أثر توجيهاتك! وما أحوجنا إلى مراجعتها والتزامها! فقد أخذت منا الدنيا مآخذ وغلبتنا نفوسنا وشهواتنا، فاستجبنا لكل ما تريد، وصار بعضنا عبدا لها.
فاللهم إنا نسألك هداية تمن بها علينا، تعيدنا إلى سلك رسولك وصحبه وتابعيهم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الإنسان قد انطلق في رحلته في هذه الحياة منذ لحظة الولادة إلى لحظات الموت، وفي كل دقيقة يبتعد عن نقطة البداية ويقترب من هدفه وغايته، فصنف من النس اغتروا بزهرة الحياة الدنيا واطمأنوا إليها، وهؤلاء هم أبناء الدنيا، وصنف آخر جعلوا الآخرة هدفهم وغايتهم، وتعاملوا مع الدنيا كوسيلة للآخرة، فأخذوا ما يعينهم على الفوز بالآخرة، وتركوا ما يعيقهم عن ذلك.
روى الإمام البخاري عن عمر حديثا طويلا جاء فيه: ثم رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاث، فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك؛ فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان متكئا فقال: ((أوَفي شكّ أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا)) ، فقلت: يا رسول الله استغفر لي.
ودخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ فقال: إن لنا بيتا نتوجه إليه، فقال: إنه لا بد من متاع ما دمت ها هنا! فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا ها هنا.
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا ـ رحمكم الله ـ منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
فاللهم ارحم في الدنيا غربتنا، وارحم في القبور وحشتنا، وارحم موقفنا غدا بين يديك، واجعلنا من عبادك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1/719)
احفظ الله يحفظك
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
محمد النمر
الطائف
24/1/1418
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
- أثر استشعار حفظ الرب لعبده في ضوء حديث ابن عباس – كيفية حفظ العبد ربَه ( أوامر
الله ونواهيه وجوارح العبد ) – كيفية حفظ الله عبده وصوره
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فيا عباد الله: سعيد سعيد من يعيش في كنف الله وحفظه، فمن الذي يطوله بما يكره ما دام محفوظا بأمر الله تعالى، ولكن متى يبلغ الإنسان هذه المنزلة أن يكون في حفظ الله ورعايته، يدلنا نبينا على ذلك من خلال مخاطبته لابن عباس رضي الله عنهما فيقول: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
أي يقين تسكبه هذه الكلمات النبوية في القلب ليعيش المؤمن برد اليقين أنه في كنف الله وحفظه وأنه على عين الله وفي رعايته، ولن يصل العبد إلى هذا حتى يأتي بالشرط الذي بينه رسول الله إذ يقول: ((احفظ الله يحفظك)) ، فكيف يحفظ العبد الله؟ يحفظه بالوقوف عند أوامره بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم في كتابه فقال عز وجل: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب. وفسر أهل العلم الحفيظ هنا: بالحافظ لأوامر الله وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها، ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة، وقد أمر الله بالمحافظة عليها فقال: ((حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى))، ومدح المحافظين عليها بقوله والذين هم على صلاتهم يحافظون وقال عليه الصلاة والسلام: ((من حافظ عليها كان له عهد الله عند أن يدخله الجنة)) وقال: ((من حافظ عليه كن له نوراً أو برهانا ونجاة يوم القيامة)) ، وكذلك الطهارة فإنها مفتاح الصلاة يقول عليهم الصلاة والسلام: ((لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))، ومما أمر العبد بحفظه الأيمان فقال عز وجل واحفظوا أيمانكم فكم من حالف لا يحفظ ما يجب بيمينه.
ومما عهد على الإنسان أن يحفظه ما جاء في حديث ابن مسعود: ((الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى)) ، وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرم الله، والله عز وجل يقول: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا. ويتضمن مسؤول حفظ البطن أن لا يدخل الحرام إليه من المآكل والمشارب، ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل: اللسان والفرج، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة)). وقد أمر عز وجل بحفظ الفروج ومدح الحافظين لها فقال: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم وقال: والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما. وقال تعالى: قد أفلح المؤمنين.. والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون فإذا التزم العبد بحفظ ما أمره الله عز وجل به يأتي الجزاء بأن يحفظه الله فالجزاء من جنس العمل، يحفظه الله في بدنه وولده وأهله وماله وهو القائل سبحانه: له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. قال علي إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه. قال ابن عمر: لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)).
ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.
ولقد جاوز بعض العلماء المائة وهو ممتع بقوته وعقله فوثب يوما وثبة فعوتب في ذلك فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته كما قيل في قوله تعالى: وكان أبوهما صالحاً أنهما حفظا بصلاح أبيهما قال سعيد بن المسيب لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك ثم تلا هذه الآية: وكان أبوهما صالحا.
قال ابن المنكدر: "إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر".
فاللهم احفظنا في ديننا ودنيانا وأهلنا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
واعلموا رحمكم الله أن من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه والله غني عنه، ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى: هذا سفينة مولى رسول الله تكسر به المركب فيخرج إلى جزيرة فرأى الأسد فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه.
أما من ضيع الله ضيعه الله فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم كما قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي.
وحفظ الله الأكبر للعبد أن يحفظه في دينه وإيمانه، يحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان، قال رسول الله : ((إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين))، وعلّم ابن عمر أن يقول: ((اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تطع في عدوا ولا حاسدا)).
وليكن المؤمن على يقين أن من حفظ الله فإن الله حافظه، قال ابن عباس في قوله تعالى: إن الله يحول بين المرء وقلبه ، قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار.
(1/720)
نهاية العام
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
محمد النمر
الطائف
30/9/1419
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
سرعة انقضاء الأعوام والأعمار والواجب على العبد حِيال ذلك – ضرورة محاسبة النفس
والمبادرة بالتوبة – الحرص على استغلال الأوقات بالطاعة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: اليوم نودع عاما انطوت صحائفه، وما هي إلا ساعات لنستقبل عاما جديدا تنشر صحائفه، فماذا أودعنا في صحائف عامنا المنصرم، وعلى أي شيء ختمنا تلك الصحائف وكيف نستقبل العام الجديد، الذي لا ندري هل نكمله أم نكون في عداد من يرحلون إلى الآخرة، فلنحاسب أنفسنا، فإن جعلنا أيام عامنا المنتهي وعاء لأعمال خيرة صالحة فلنحمد الله، وإن جعلناها للهو وعبث وتضييع طاعات فلنراجع مسيرتنا ولنتب إلى الله عز وجل توبة صادقة فإن خير ما نختم به عامنا أن نتوب إلى الله تعالى من تقصير في طاعة أو من ذنوب قارفناها ونحمد الله عز وجل أن منحنا عمراً نستدرك فيه شيئا من تقصيرنا يقول رسول الله : ((لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب)).
أيها المسلمون: إن الليالي والأيام خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر وأعوام تتكرر، وأجيال تتعاقب على درب الآخرة، فهذا مقبل وهذا مدبر، وهذا صحيح، وهذا سقيم والكل إلى الله يسير وقد أقسم سبحانه بهذا الزمن الذي منحه للخلق أن الإنسان لفي خسر إلا من اتصف بأربعة: الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، يقول تبارك وتعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. هذه السورة العظيمة يقول عنها الإمام الشافعي: لو لم ينزل سورة إلا هذه لكفتهم.
فكم من السور والآيات التي أنزلها عز وجل ليتنبه هذا الإنسان ويرعوي ويتعهد نفسه بلزوم أوامر ربه عز وجل والشمس وضحاها... قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها يقول قتادة: قد أفلح من زكى نفسه بالطاعة وقد خاب من غلها بالمعاصي.
فانظر أيها الحبيب في صحائف أيامك التي خلت ماذا ادخرت فيها لآخرتك، واخل بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان، وماذا رأت العين، وماذا سمعت هذه الأذن أين مشت هذه القدم، ويا يد من بطشت، وأنت مطلوب منك أن تأخذ بزمام نفسك وتحاسبها يقول ميمون بن مهران "لا يكون العبد تقيا حتى يكون مع نفسه أشد من الشريك مع شريكه".
فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات ولنحاسب أنفسنا على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام تحث بنا السير إلى الآخرة، سمع أبو الدرداء رجلا يسأل عن جنازة مرت: من هذا، فقال أبو الدرداء: هذا أنت.
ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله، قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده.
فاجتهدوا أيها الأحبة من هذه اللحظة فإنما الأعمال بالخواتيم ولن ينفع: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت: كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.
فيا أيها الأحبة اغتنموا أعماركم فلا تضيعوها في الرذيلة والغفلة اغتنموا أيام القوة فزيدوا من رصيد الصالحات في صحائفكم فإن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما كما قال عمر بن عبد العزيز.
والتفتوا لقيمة الزمن فلا تضيعوه في غير قربة فشتان بين من يجلس مجلسا يذكر الله فيه وبين من يجلس مجلسا يضيع فيه الساعات في كلام فارغ لا نفع فيه أو آثم يكبه في جهنم يقول الإمام الحافظ ابن كثير عند قول الله تبارك وتعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ، يخلف كل منهما صاحبه، يتعاقبان لا يفتران إذا ذهب هذا جاء هذا جعلهما يتعاقبان توقيتا لعبادة عباده له عز وجل، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل.
واعلموا رحمكم الله أن الليل والنهار مطيتان يباعدانك من الدنيا ويقربانك من الآخرة فطوبى لعبد انتفع بعمره.
يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار تتجدد الأعوام فنقول: إن أمامنا عاما جديدا نراه طويلا لكن سرعان ما ينقضي قال عبد الله بن عمر: أخذ رسول الله منكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، فلا يركن المؤمن إلى الدنيا ولا يطمئن إليها، فهو على جناح سفر يهيئ نفسه للرحيل.
أيها الأحبة: إن مضي الليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقربان من الآخرة فطوبى لعبد انتفع بعمره فاستقبل عامه الجديد بمحاسبة نفسه على ما مضى وتاب إلى الله عز وجل وعزم على ألا يضيع ساعات عمره إلا في خير لأنه يذكر دائما قول نبيه : ((خيركم من طال عمره وحسن عمله))، وهو يلهج دائما بدعاء النبي : ((اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر)) بكى يزيد الرقاشي عند موته فقيل له لم تبكي، قال: أبكي على قيام الليل وصيام النهار ثم أجهش بالبكاء وهو يردد من يصلي لك يا يزيد، من يصوم لك، من يتوب عنك من الذنوب.
أيها المسلمون: الصحائف مفتوحة ودولاب الأيام يدور فما الذي يجعلنا نضيع أعمارنا فيما لا يفيد فكم ممن لا تفوتهم حلقة في مسلسل أو مسلسلات ولكن كم فاتتهم من صلوات وتسبيحات فحملوا أوزار أنفسهم وأوزار من اتبعهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/721)
سعيد بن عامر رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
محمد النمر
الطائف
23/12/1419
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
- منزلة الصحابة رضي الله عنهم ومكانتهم وضرورة تعليم الأبناء سيرتهم – سعيد بن عامر
وموقفه من مصرع خبيب وأثر ذلك فيه – منزلة سعيد بن عامر عند أبي بكر وعمر -
ولاية سعيد على حمص وموقف أهلها منه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: ثروة الأمة الحقيقية في أبنائها عندما يكونوا أوفياء لقيمها أمناء على مقدراتها ولن يكون كذلك إلا إذا تعهدتهم تربية تعتمد أول ما تعتمد على كتاب الله وسنة رسوله ثم تجعلهم يعيشون مع سير من رباهم رسول الله فيثعبون من تلكم السير العطرة التي زكاها الله عز وجل وشهد لها نبيه بالخيرية يقول تبارك وتعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم ، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ويقول رسول الله : ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)).
قال أبو زرعة الرازي: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق وما جاء به حق وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة.
فعلى الأمة أن تجعل من سير سلفها مادة تربية لأبنائها علهم يتأثرون بهم ويسيرون على طريقهم بدلا من أن يجعلوا من التافهين نماذج يترسمون خطاهم ويقلدونهم في كل ما يصدر عنهم. فما أجدر الأب والمربي أن يقرأ على أبنائه أو يقص عليهم من هذه السير العطرة الثابتة النافعة بإذن الله تعالى.
من أمثال قصة سعيد بن عامر الجمحي ذلكم الفتى الذي خرج إلى التنعيم ليشهد مصرع خبيب بن عدي أحد أصحاب النبي بعد أن ظفرت به قريش غدرا، رأى سعيد خبيباً وهو يقدم إلى خشبة الصلب، وسمع صوته الثابت الهادئ يقول: إن شئتم أن تتركوني أركع ركعتين قبل مصرعي فافعلوا، ثم نظر إليه وهو يستقبل الكعبة ويصلي ركعتين يا لحسنيهما ويا لتمامهما ثم رآه وهو يقبل على زعماء القوم ويقول: والله لولا أن تظنوا أني أطلت الصلاة جزعا من الموت لاستكثرت من الصلاة، ثم شهد سعيد قومه وهم يمثلون بخبيب وهم يقولون له: أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت ناج، فيقول والدماء تنزف منه، والله ما أحب أن أكون آمنا وادعا في أهلي وولدي، وأن محمدا يوخز بشوكة.
ثم يبصر سعيد بن عامر خبيبا يرفع بصره إلى السماء ويقول: اللهم أحصهم عددا وأقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحدا.
كان سعيد يرى خبيبا إذا نام، ويراه بخياله وهو مستيقظ ويتصوره أمامه وهو يصلي ركعتيه الهادئتين المطمئنتين أمام خشبة الصلب، ويسمع رنين صوته في أذنيه وهو يدعو على قريش، فيخشى أن تصعقه صاعقة أو تخر عليه صخرة من السماء.
لقد علّم خبيب سعيداً ما لم يكن يعلم من قبل: علمه أن الحياة الحقة عقيدة وجهاد في سبيل العقيدة حتى الموت، وعلمه أن الإيمان الحق يفعل الأعاجيب، وعلمه أن الرجل الذي يحبه أصحابه كل هذا الحب إنما هو نبي مؤيد من السماء، عند ذلك شرح الله صدر سعيد إلى الإسلام فقام في ملأ من الناس وأعلن براءته من آثام قريش وأوزارها وخلعه لأصنامها وأوثانها ودخوله في دين الله. ثم يهاجر سعيد ويلزم رسول الله فيشهد معه خيبر وما بعدها ثم يظل سيفا مسلولاً في أيدي خليفتي رسول الله أبي بكر وعمر، وعاش مثلا فريدا فذا للمؤمن الذي اشترى الآخرة بالدنيا، وآثر مرضاة الله وثوابه على سائر رغبات النفس وشهوات الجسد.
كان خليفتا رسول الله يعرفان لسعيد بن عامر صدقه وتقواه ويستمعان إلى نصحه، دخل على عمر في أول خلافته فقال: يا عمر أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله، وألا يخالف قولك فعلك، فإن خير القول ما صدقه العمل، يا عمر: أقم وجهك لمن ولاك الله أمره من بعيد المسلمين وقريبهم، وأحب لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك وخض الغمرات إلى الحق ولا تخف في الله لومة لائم. فقال عمر: ومن يستطيع ذلك يا سعيد، فقال: يستطيعه رجل مثلك ممن ولاهم الله أمر أمة محمد وليس بينه وبين الله أحد.
أيها الإخوة المؤمنون: هل كان هذا القول من سعيد لعمر كلاماً يبيعه سعيد على غيره ؟ كلا.
دعا عمر سعيدا فقال: يا سعيد إنا مولوك على أهل حمص، فقال: يا عمر نشدتك الله ألا تفتني، فغضب عمر وقال: ويحكم وضعتم هذا الأمر في عنقي ثم تخليتم عني، والله لا أدعك، ثم ولاه على حمص وقال: ألا نفرض لك رزقا قال: وما أفعل يا أمير المؤمنين، فإن عطائي من بيت المال يزيد على حاجتي، ثم مضى إلى حمص، ويزور عمر بلاد الشام فلما نزل بحمص لقيه أهلها للسلام عليه فقال: كيف وجدتم أميركم، فشكوه إليه وذكروا أربعا من أفعاله، فجمع عمر بينهم وبين سعيد وسألهم فقالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار فقال: ما تقول يا سعيد، فسكت قليلا ثم قال: والله إني كنت أكره أن أقول لك، أما وإنه لابد منه، فإنه ليس لأهلي خادم فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم ثم أتريث قليلا حتى يختمر ثم أخبزه لهم ثم أتوضأ وأخرج للناس، فقال عمر: وما تشكون منه أيضا، قالوا: إنه لا يجيب أحدا بليل، قال: وما تقول يا سعيد، قال: إني والله كنت أكره أن أعلن هذا أيضا، فأنا قد جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل قال: وما تشكون منه أيضا، قالوا: إنه لا يخرج إلينا يوما في الشهر، قال: وما هذا يا سعيد، قال: ليس لي خادم يا أمير المؤمنين، وليس عندي ثياب.
غير التي علي فأنا أغسلها في الشهر مرة وأنتظرها حتى تجف ثم أخرج إليهم في آخر النهار، ثم قال: وما تشكون منه أيضا، قالوا: تصيبه من حين لآخر غشية فيغيب عمن في مجلسه، فقلت: وما هذا يا سعيد، فقال: شهدت مصرع خبيب بن عدي وأنا مشرك ورأيت قريشا تقطع جسده وهي تقول: أتحب أن يكون محمد مكانك، فيقول: والله ما أحب أن أكون...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/722)
المرأة وواجباتها
الأسرة والمجتمع
المرأة
محمد النمر
الطائف
24/4/1420
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
- النظرة الخاطئة للمرأة في تصور البشرية بعيداً عن الإسلام – اضطراب الغرب عند إرادته
تصحيح خطأ نظرته وتصوراته للمرأة – طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في ظل الإسلام
ووظيفتها – فضل الزوجة الصالحة وأثرها على الزوج – نماذج من سِيَر الزوجات المسلمات
الصالحات
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فيا عباد الله: إن إدراك البشرية لبعض الحقائق اللازمة في حياتها كفيل بأن يوفر عليها أخطاء أليمة تردت فيها ومن ذلك أنها تصورت في المرأة شتى التصورات السخيفة ورأت فيها منبع الرجس والنجاسة وأصل الشر والبلاء مع أنها مخلوقة من النفس الأولى فطرة وطبعا، خلقها الله عز وجل لتكون لها زوجا وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء فلا فارق في الأصل والفطرة إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء.
ولقد تخبطت البشرية فجردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها فترة من الزمان تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له وهو أن المرأة شيطان لابد منه ووسوسة جبلية وآفة مرغوب فيها وخطر على الأسرة والبيت ومحبوبة فتاكة ورزء مطلي مموه. وهذا قول لأحد رجال الدين في أوروبا في الماضي ولكنهم عندما أرادوا معالجة هذا الخطأ في النظرة إلى المرأة اشتطوا فوقعوا في انحراف آخر فأطلق العنان للمرأة أنها إنسان خلقت لإنسان ونفس خلقت لنفس وشطر مكملها شطر وأنهما ليسا فردين متماثلين، إنما هما زوجان متكاملان تقوم علاقتهما على المودة والرحمة ومن خلال هذا المفهوم تعمل المرأة كل ما يرضي زوجها وتساعده على الارتقاء في مدارج التقى وعلى التخلص من الشيطان ووساوسه، ومن خلال المودة والرحمة يكدح الرجل ويرضي زوجته ويحصنها من انفتاح قلب أو جارحة على خطيئة هكذا فهم المسلمون علاقة كل من الجنسين بالآخر. هذه أسماء بنت يزيد رضي الله عنهما أتت النبي وهو بين أصحابه فقالت يا رسول الله: إني وافدة النساء إليك، إن الله بعثك بالحق للرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، وإنا معشر النساء قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم. وأنتم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات وشهود الجنائز وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن الرجل إذا خرج حاجا أو مرابطا أو معتمرا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفلا نشارككم في هذا الخير والأجر يا رسول الله، فالتفت بوجهه الكريم إلى أصحابه ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن من هذه عن أمر دينها، فقالوا يا رسول الله: ما ظننا امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي إليها ثم قال: ((انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من خلفك من النساء أن طاعة الزوج اعترافا بحقه يعدل ذلك وقليل منكن من تفعله)) ، فانصرفت وهي تهلل حتى دخلت على نساء قومها وعرضت عليهن ما قاله رسول الله ففرحن وآمن جميعهن. إنه الاهتمام الذي يدفع للسؤال عما يرضي الله عز وجل واسمعوا من هذه السير العطرة: تزوج شريح القاضي الفقيه بزينب ابنة جرير من بني حنظلة فحدث الشعبي عن نفسه قائلاً: ((فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت علي، فقلت: إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين، فيسأل الله من خيرها، ويعوذ به من شرها قائلا: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، فصليت وسلمت، فإذا هي من خلفي تصلي بصلاتي، فلما خلا البيت ودنوت منها، ومددت يدي إلى ناحيتها قالت: على رسلك يا أبا أمية، كما أنت، ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله، إني امرأة غريبة، لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأبتعد عنه، وقالت: إنه كان لك في قومك منكح، وفي قومي مثل ذلك، ولكن إذا قضى الله أمرا كان وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به:إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك.
قال شريح فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع فقلت: ((الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأصلي وأسلم على النبي وآله، وبعد فقد قلت كلاما إن تثبتي عليه يكن ذلك حظّك وإن تدعيه يكن حجة عليك أحب كذا وأكره كذا، ونحن سواء فلا تفرقي، وما رأيت من حسنة فانشريها أو سيئة فاستريها، قالت: وكيف محبتك لزيارة الأهل، قال شريح: ما أحب أن يملني أصهاري، قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل بيتك آذن له ومن تكرهه أكرهه، قال شريح: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء. قال شريح: فبت يا شعبي بأنعم ليلة، ومكثت معي حولا لا أري إلا ما أحب، فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء فإذا بعجوز تأمر وتنهي في البيت، قلت: من هذه، قالوا فلانة ختنك، فسُرّي عني ما كنت أجد، فلما جلست أقبلت على العجوز وقالت: السلام عليك يا أبا أمية، قلت: وعليك السلام من أنت، قالت: أنا فلانة ختنك، قلت قربك الله، قالت: كيف رأيت زوجتك، قلت: خير زوجة، فقالت: يا أبا أمية، إن المرأة لا تكون أسوأ حالا منها في حالتين: إذا ولدت غلاما أو حظيت عند زوجها، فإن رابك ريب فعليك بالسوط فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرا من المرأة المدللة، قلت: أما والله لقد أدبت فأحسنت الأدب، وروضت فأحسنت الرياضة، قالت: تحب أن يزورك أختانك، قلت متى شاؤوا)).
قال شريح: فكانت تأتيني في رأس كل حول توصيني تلك الوصية، فمكثت معي عشرين سنة، لم أعتب عليها في شيء إلا مرة واحدة وكنت لها ظالما.
ألا ما أسعد الزوج بالزوجة الصالحة التي نشئت تنشئة إيمانية عرفت حق زوجها وبيتها وأبنائها وإليكم مثلا آخر مما يملأ تاريخنا العظيم، كان عبد الله بن وداعة ممن يتلقون العلم عن الإمام سعيد بن المسيب، وحدث أن تأخر عن الدرس أياما فسأله الإمام عن سبب تخلفه، فقال: توفيت زوجتي فشغلت بأمرها، فلما انتهى الدرس وهمّ عبد الله بالانصراف، ناداه الإمام: هل تزوجت يا عبد الله بعد وفاة زوجتك، قال عبد الله: يرحمك الله ومن يزوجني ابنته وأنا لا أملك غير درهمين أو ثلاثة، فقال سعيد: أنا أزوجك ابنتي فانعقد لسان عبد الله، ذلك أن الوليد ابن عبد الملك بن مروان كان قد خطبها فأبى سعيد. ثم التفت الإمام إلى من كان قريبا وناداهم فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه وعقد له على ابنته وجعل مهرها درهمين. يقول عبد الله: فقمت وأنا لا أدري ما أقول من الدهشة والفرح ثم قصدت بيتي وكنت يومئذ صائما فنسيت صومي وجعلت أقول: ويحك يا أبا وداعة ما الذي صنعت بنفسك، ممن تستدين، وممن تطلب المال، وظللت على حالي هذه حتى أذن للمغرب فأديت المكتوبة وجلست إلى فطوري وكان خبزا وزيتا، فما إن تناولت منه لقمة أو لقمتين حتى سمعت الباب يقرع، فقلت: من الطارق، فقال: سعيد، فوالله لقد مر بخاطري كل إنسان اسمه سعيد أعرفه إلا سعيد بن المسيب ذلك لأنه لم ير منذ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، ففتحت الباب فإذا بي أمام سعيد بن المسيب فظننت أنه بدا له في أمر زواجي من ابنته شيء، وقلت له: يا أبا محمد، هلا أرسلت إلي فآتيك، فقال: بل أنت أحق بأن آتي إليك وقال: إن ابنتي أصبحت زوجة لك وأنا أعلم أنه ليس معك أحد يؤنس وحشتك فكرهت أن تبيت وحدك، فقلت: ويحي جئتني بها فقال: نعم.
ثم انصرف سعيد ودخل عبد الله على زوجته فإذا هي أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله وبحقوق الزوجية، وما إن أسفر الصبح حتى نهض عبد الله يريد الخروج فقالت زوجته: إلى أين، قال: إلى مجلس أبيك أتعلم العلم، فقالت: اجلس أعلمك علم سعيد.
هذه سير سلفكم أيها الإخوة في الله فمنها اقتبسوا وعلى نهجهم سيروا لتبلغوا المرتقى الذي وصلوا إليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
واعلموا رحمكم الله أن من واجبات الزوجة تربية أولادها والحدب عليهم، تلمح هذا من ربط القرآن الكريم المرأة بابنها ورعايته منذ يولد إذ يقول: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة معللا فضلهن على غيرهن بأنهن أحناهن على ولده، فالمرأة التي تترك أولادها للخدم أو للشارع إنما ترمي في الهاوية بمستقبلها وبمستقبل أبنائها.
إن الطفل يتعلم من أمه لغة قومه وطريقة حديثها، ومن احترامها لزوجها يقتبس أولادها ذلك، إن الأم هي معهد التربية الذي يتربى فيه الطفل وإذا قيل: إن كل عظيم وراءه امرأة فتلك المرأة أكثر ما تكون هي الأم. ومن واجبات الزوجة القناعة والحرص على مال زوجها قال الإمام الغزالي: (وأهم حقوق الزوج على زوجه أمران: أحدهما الصيانة والستر، والآخر ترك المطالبة بما وراء الحاجة، والتعفف عن لبسه إذا كان حراما)، ومن واجبات الزوجة أن تتجمل لزوجها، وليس القصد من التجمل أن تضيع وقتها إلى المرآة معجبة بنفسها وإنما القصد حثها على النظافة والترتيب، ومن المؤسف أن تهمل بعض النساء زينتهن ما دمن في بيوتهن فإذا عزمت على الخروج تجملت وتزينت مما يترك آثارا سيئة في نفس زوجها. وجماع القول أن تكون المرأة كما أرادها الله عز وجل سكنا لزوجها تغسل كل متاعبه ومعاناته في عمله باستقبالها له وحسن أخلاقها وقيامها بحفظ أولاده وبيته وماله، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، فاتقوا الله يا عباد الله في بناتكم بإعدادهم الإعداد الصحيح الذي يجعل منهن زوجات صالحات وصلوا على من صلى الله عليه.
(1/723)
البرزخ
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
محمد النمر
الطائف
17/4/1420
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
- حتمية الموت وشدته وسَكراته – حالة الإنسان عند الموت وفي القبر – أسباب الثبات عند الممات والتوفيق للشهادة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: الموت نهاية كل حي يجزع منه الأحياء ويعاني من سكراته المحتضر ولا يملك أحد أن يقدم شيئا على كثرة المحبين المشفقين أو الأطباء الحاذقين فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون نكاد نسمع صوت الحشرجة، ونبصر تقبض الملامح، ونحس الكرب والضيق من خلال هذه الكلمات، كما نكاد نبصر نظرة العجز وذهول اليأس في ملامح الحاضرين.
هنا وقد فرغت الروح من أمر الدنيا، وخلفت وراءها الأرض وما فيها، وهي تستقبل عالما لا عهد لها به، ولا تملك من أمره شيئا إلا ما ادخرت من عمل، وما كسبت من خير أو شر، هنا وهي ترثى ولا تملك الحديث عما ترى، وقد انفصلت عمن حولها وما حولها، الجسد هو الذي يراه الناظرون، ولكنهم ينظرون ولا يرون ما يجري ولا يملكون من الأمر شيئا، هنا تنفق قدرة البشر، ويقف علم البشر، وينتهي مجال البشر، هنا يعرفون أنهم عجزة عجزة،، قاصرون قاصرون، هنا يسدل الستار دون الرؤية، والعلم الإلهي، ويخلص الأمر كله لله بلا شائبة ولا شبهة ولا جدال ولا محال ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون.
وهنا يجلل الموقف جلال الله، فإذا مجلس الموت تجلله رهبة وجلال فوق ما فيه عن عجز ورهبة وانقطاع ووداع. وفي ظل هذه المشاعر الراجفة الواجفة الآسية الآسفة، يجئ التحدي الذي يقطع كل قول وينهي كل جدال فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين.
هذه الآيات من آخر سورة الواقعة تصف لنا حالة الإنسان عند الموت والروح تحشرج في صدر وهو يستدبر الحياة الدنيوية الفانية ويستقبل الحياة الأخروية الباقية ليدخل في عالم لا عهد له به ولا يملك من أمره شيئا إلا ما قدم من عمل أو كسب من خير أو شر فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم.
إنها تصور ما يكون عليه الإنسان عند الموت وفي البرزخ إلى يوم القيامة، فالمؤمن يبشر بالجنة فيزداد فرحا وسرورا ويبشر الكافر بالنار فيزداد حسرة وثبورا إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا... الآية: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية... الآية وقال تعالى عن الكفار ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق وقال تعالى عن آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب إلى غير ذلك من الآيات المؤكدة لنعيم البرزخ أو عذابه.
كما جاء النص الصريح الصحيح أن الميت إذا وضع في قبره تعاد إليه روحه ليسأل ويمتحن في قبره ولكن غير الإعادة المألوفة حتى إنه ليسمع قرع نعال مشيعيه عند انصرافهم، وقد أخبر رسول الله أن القبر أول منزل من منازل الآخرة فإن نجا منه العبد فما بعده أيسر، وإن لم ينج فما بعده أشد وفي الصحيحين قال رسول الله : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة.
وفي الصحيح والسنن قال رسول الله : إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.
كما ثبت عنه أن الميت إذا وضع في قبره أتاه ملكان يقال لأحدهما منكر والآخر نكير فيسألانه: من ربه، وما دينه، ومن نبيه، فإن نطق بالشهادتين نجا وإلا عذب، واعلم أخي المسلم أنه لا ينطق بالشهادتين في ذلك المكان المظلم الموحش وأمام الملكين المروعين إلا من رسخ الإيمان في قلبه وحققه قولا وعملا واعتقادا يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت... الآية وقد ثبت أن رسول الله قال: في هذه الآية إنها نزلت في عذاب القبر.
وفي الصحيحين أن رسول الله مر بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين فقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)).
وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)).
_________
الخطبة الثانية
_________
واعلموا رحمكم الله أن الذي عليه أهل السنة والجماعة أن كل إنسان يسأل بعد موته قبر أم لم يقبر، فلو أكلته السباع أو أحرق حتى صار رمادا ونسف في الهواء أو غرق في البحر وتفرقت أجزاؤه لسئل عن أعماله وجوزي بالخير خيرا وبالشر شرا، ولا يمتنع على من هو على كل شيء قدير أن يجعل للروح اتصالا بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها، ويكون في تلك الأجزاء شعور بنوع من اللذة أو الألم كما يقول ابن القيم رحمه الله.
والله تعالى أكرم وأرحم وأعز من أن يساوي بين روح أحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه وبدنٍ كانت فيه، وبين روح كفرت به وعصت أمره وتعدت حدوده وبدنٍ كانت فيه، فقد اقتضى عدله وأوجبت أسماؤه الحسنى وكماله المقدس تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم، فلابد أن يذيق برحمته بدن المطيع وروحه من النعيم واللذة ما يليق به، ويذيق بعدله بدن العاصي له وروحه من الألم والعقوبة ما يستحقه، فلو دفن الرجل الصالح في أتون من النار لأصاب جسده وروحه من نعيم البرزخ نصيبه وحظه، ولو علق الميت العاصي في مهاب الرياح لأصاب جسده وروحه من عذاب البرزخ نصيبه وحظه فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما، ويجعل الهواء على ذاك نارا وسموما.
(1/724)
خروج المرأة
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
محمد النمر
الطائف
26/10/1419
الهويش
_________
ملخص الخطبة
_________
- تركيز أعداء الإسلام على المرأة وإفسادها
– عناية الإسلام بالمرأة ونماذج من النساء
الصالحات وحِفاظهنّ على دينهن – وجوب العناية بالمرأة وعدم السماح لها بالخروج إلا للضرورة لتجنّب الفتنة
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد :
فيا عباد الله : أخذت الأرض زخرفها وزينتها وظن أهلها أنهم قارون عليها ، وانصرف الناس عن دينهم إليها ، وانقادوا لغرورها وافتتنوا بحضارة الغرب وزخارف الشرق ، وصادف هذا كله غفلة دعاة الحق ، لكن أعداء الإسلام لم يغفلوا عنا ، فحملوا بخيلهم ورجليهم ، وجردوا الحملات المسلمة بسهام الشهوات وسموم الشبهات لتعيث في قلوب المسلمين فسادا ، وتجرس خلال ديارهم ، لتسلخهم من دينهم الحق الذي ارتضاه الله لهم.
وقد كان هؤلاء الأعداء خبثاء ماكرين في حربهم إذ تفرسوا في أسباب قوة المسلمين وحددوها ، ثم اجتهدوا في توهينها وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكر ودهاء.
علموا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي وهم يعلمون أنها سلاح ذو حدين وأنها قابلة لأن يكون أخطر أسلحة الفتنة والتدمير ، ومن هنا كان لها النصيب الأكبر من حجم المؤامرات على تمزيق الأمة وتضييع طاقاتها ، إن المرأة تملك مجموعة من المواهب الضخمة الجديرة بأن تبني أمة ، وأن تهدم أمة ، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال : (( إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتن بني إسرائيل كانت في النساء)) ، وعن أسامة بن زيد وسعيد بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال (( ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء)).
لقد أراد أعداء الإسلام أن يفتنوا المسلمين عن دينهم فجعلوا من المرأة أهم معاول هذا المهدم وهم يتظاهرون بالشفقة عليها والحرص على حقوقها وخدعت نساء من نساء المسلمين بذلك لجهلهن بدينهم هذا الدين الذي يعتبر المرأة قسيمة الرجل لها ملكه من الحقوق ، وعليها من الواجبات ما يلائم تكوينها وطبيعتها ، وعلى الرجل بما اختص به من شرف الرجولة ، وقوة الجلو ، وبسطة اليد واتساع الحيلة أن يلي رياستها ، فهو بذلك وليها ، يحوطه بقوته ، ويذود عنها بدمه ، وينفق عليها من كسب يده ذلك ما أجمله الله عز وجل وضم أطرافه وجمع حواشيه بقوله تباركت آياته ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللجر عليهن درجة هذا في وقت كانت المجتمعات الغير إسلامية تعتبر المرأة رجسا أو تعتبر الاقتران بها شرا لابد منه لا بل ظل يناقش أمر المرأة عند أولئك إلى عصور متأخرة أهي تحمل روح إنسان أم حيوان ولم تعطها حق التملك إلا قريبا.
ولقد وعت المرأة المسلمة تكريم الإسلام لها فاعتزت به وأسهمت في بناء المجتمع الإسلامي وفي نشر الإسلام والاعتزاز به فكانت النساء مغارس حكمة ومغاوص آداب إنهن أمهات صدق أقامهن الله على نشئه واستخلفهن على صنائعه وائتمنهن على بناة ملكه وحماة حقه ، لقد كان منهن عمة رسول الله صفية إذ انقلبت لترى ما فعل المشركين بأخيها حمزة في معركة أحد وقد نفذت إليه هند بنت عتبة فبقرت بطنه ونزعت كبده وجدعت أنفقه وسلمت أذنيه ، وجاء أبو سفيان يطعنه برمحه في فمه حتى مزقه ، فاشتد حزن رسول الله وأبصر عمته مقبلة لتنظر ما فعل القوم بأخيها فقال رسول الله لابنها الزبير بن العوام (( دونك أمك فامنعها )) فلما وقف ابنها يعترضها قالت : دونك لا أرض لك ، لا أم لك فرجف بطل قريش واعتقل لسانه وكر رجاعا إلى رسول الله فحدثه حديث أمه فقال (( خل سبيلها)) فأتت أخاها فنظرت إليه ، فصلت عليه واسترجعت ، واستغفرت له ، وقالت لابنتها (( قل لرسول الله ما أرضا بما كان في سبيل الله لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله )).
ولو ذهبت استقرئ أسماء عظماء في هذه الأمة ومن كان وراءهم لطال في الأمر اقرؤوا تاريخكم : اقرؤوا عن أبناء أسماء بنت أبي بكر عبد الله المنذر وعروة أولا عبد الله بن الزبير واقرؤوا تاريخ علي وتاريخ معاوية الذي كان إذا نوزع الفخر يقول : وأنا ابن هند )) واقرؤوا تاريخ عمر بن العزيز وتاريخ عبد الرحمن الناصر وتاريخ سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث وتاريخ ابن حنبل وتاريخ الأوزاعي وتاريخ ربيعة الرأي ، كلهم قامت عليهم نساء فضليات عرفن حق الله عليهن فرعين أبناءهن خير رعاية ونشأنهم خير تنشئة.
لقد كان منهن من بلغن المنزلة الرفيعة في العلوم ، هذا الإمام مالك كان يقرأ عليه الموطأ فإن لحن القارئ في حرف أو زاد أو نقص تدق ابنته الباب فيقول أبوها للقارئ : ارجع فالغلط معك ، فيرجع القارئ فيجد الغلط.
وكان لعلاء الدين السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء ابنته فاطمة الفقهية العالمة حفظت التحفة لأبيها ، واطلبها جماعة من الملوك فلما صنف أبو بكر الكاساني كتابه ((البدائع)) وهو شرح التحفة ، عرضه على شيخه وهو أبوها ، فازدا به فرحا ، وزوجه ابنته ، وجعل مهرها منه ذلك ، فقالوا في عصره (( شرح تحفته وتزوج ابنته)).
وما أكثر أسماء من حفظ لنا تاريخنا سيرهن وعلمهن وجهادهن وحسن تربيتهن لأبنائهن ورعايتهن لأزواجهن.
فهل نقرأ هذا التاريخ ، هل تقرأ بناتنا هذه الأسفار فينشأن تلك النشأة ويحفظن حق الله عليهن أم أنهم مشغولات بمتابعة مالا يزيدهن إلا بعدا عن إسلامهن من مسلسلات هابطة في أشرطة فاسدة ومجلات لا تحمل إلا سموما قاتلة تورد وبأسلوب خبيث خادع أن لفلانة مشكلة تعرضها وتقدم المجلة الحلول التي لا نصيب لكرامة المرأة فيها شيء ولعل الأمر كله افتراض وتخيل لإثارة قضايا تدعو المرأة إلى سلوك غير سبيل الإسلام ، لا بل لتخرج المرأة من عفتها وأخلاقها فتكون سلعة تتقاذفها الأيدي القذرة ويسهل اصطيادها في مكان.
لقد جعل الله الرجال قوامين على النساء ، وهؤلاء القوام أوصياء أناء ومن حق الوصي أن يرعى الوصاية ، ويطلب لها الخير والصلاح ، وإن في طليعة ما يجب أن يعني به من حقوق هذه الوصاية توجيه النساء إلى القدوة الحسنة والتأسي بفضليات النساء في الحشمة ، والترفع عن مجالس الإثم ومزالق الخطيئة ، فالمرأة في بيتها يجب أن تكون مثال الزوجة الصالحة التي وصفها رسول الله بقوله (( خير النساء امرأة إذا نظرت إليه أسرتك وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك)).
فاتقوا الله في أنفسكم وفي نسائكم وبنائكم فأحسنوا التوجيه والتربية والقوامة فإن أخطر الفساد ما أصاب هذا النصف من المجتمع.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد فيا أيها الأخوة المؤمنون :
نحن جميعا أمناء ومسؤولية عن تطبيق أحكام هذا الدين الذي أنعم الله به علينا فإن نهضنا بذلك سعدنا في حياتنا الدنيا ورجونا أن تكون من الفائزين في الآخرة وإن فرطنا في ذلك فلابد من أن ندفع الثمن من أعصابنا وأبنائنا ومن أعراضنا ، إن كل واحد منا على ثغر فليحذر أن يؤتي الإسلام من قبله ، إن ترك النساء ويخرجن من البيوت ويزاحمن الرجال في الأسواق ويتحدثن لغير المحارم وتكشف بعضهن عما لا يجوز كشفه من أجسادهن إن كل ذلك حرام وعار ومصيره الدمار ، ولقد كان أول جرم بني إسرائيل انطلاق نسائهم متبرجات للفتنة فابتلاهم الله بالطاعون.
إذا دعت الضرورة المرأة إلى السوق فمن حق القيم عليها أن يلزمها الاحتشام ويمنعها من التبرج وإظهار وما حرم الله إظهاره على الأجانب ومن لبس أفخر الثياب ومن المرور وسط مجالس الرجال ، فقد صح عن رسول الله أنه قال ، وقد رأى اختلاط الرجال بالنساء في الطريق (( استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق ، عليكن بحافات الطريق)) ، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدران من لصوقها به ، وعنه أنه قال (( أيما امرأة استعطرت ، فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية)) ، إن تفريطا ظاهرا من جانب النساء بتعدي حدود الله وبالتبرج وإظهار الزينة فليسهن ما قال رسول الله (( صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات ، أي يلبسن ثيابا رقاقا تكشف عما تحتها ، مميلات مائلات ، أي زائغات عن الطاعة ، فمتبخترات في مشيتهن ، مميلات للقلوب بتكسره ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )).
فاتقوا الله عباد الله وقوموا بما أوجه الله عليكم من حقوق على نسائكم وبما أمركم به من رعاية أهليكم والبعد بهن عما يوجب غضب الله وعذابه.
(1/725)
الدم الحرام
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
إسماعيل الخطيب
تطوان
4/8/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أول ما يحاسب به المرء الصلاة ومن المعاملات يحاسب على الدماء مما يدل على عِظَم شأنها 2- تبيين الوعيد الشديد على من قتل نفساً بغير حق والإشار إلى أن كثرة القتل من علامات الساعة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيوم القيامة هو يوم الحساب والقضاء، والوزن والجزاء، يوم يقف فيه جبريل والملائكة صفا بين يدي الرحمن لا ينطقون بكلمة، قال تعالى: يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، في ذلك اليوم ينكشف كل مستور، ويعلم كل مجهول، ويقف كل فرد وحيدا أمام الملك الديان ليُسأل أولا عن أمرين: الصلاة والدماء، قال : ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته)) [1] ، فالصلاة هي أولى الفرائض العملية التي جاءت لتصديق عقيدة الإيمان.
وقال : ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) [2] ، فالله سبحانه يتولى يوم القيامة القضاء والحكم فيما يتعلق بمعاملات الخلق ويكون أول القضايا في الدماء وسفكها بغير حق، وفي الابتداء بالقضاء في قتل النفس بيان لعظم هذه الفعلة الشنعاء المهلكة التي تورّط صاحبها، قال عليه الصلاة والسلام: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما)) [3].
فالإنسان يبقى في فسحة وسعة يستحق رحمة الله وعفوه بأعماله الصالحة ما لم يقتل نفسا، فإن قتل نفسا ورط نفسه فأهلكها، قال ربنا سبحانه: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا.
فالله تعالى حرم القتل ظلما في جميع الشرائع وبنو إسرائيل لما فشا فيهم سفك الدماء حتى قتلوا الأنبياء، خصهم في هذه الآية بالذكر وبين تعالى أنه من أجل فعل ابن آدم الأول كتب وفرض أنه من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا. لذلك استُبعد العفو عن قاتل النفس لقوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما فالله تعالى كرّم الإنسان ووهبه الحياة، والقاتل معاند لله، ولقد ثبت النهي عن قتل الحيوان بغير حق والوعيد على ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بقتل المسلم، فكيف بقتل التقي الصالح، قال : ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت)) ، هذا في الحيوان، وقال تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، هذا في كل نفس معصومة، وقال : ((زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم)) [4] ، هذا في المسلم الذي رفع الله قدره وأعلى منزلته، قال ابن عمر: رأيت رسول الله يطوف بالكعبة، ويقول: ((ما أطيبك، وما أطيب ريحك، ما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله ودمه)) [5].
فمكانة المسلم عند الله تعالى وحرمة ماله ودمه أعظم من حرمة الكعبة، فمن اعتدى على مال مسلم بأن أخذه منه ظلما، أو اعتدى عليه بأن قتله فقد ارتكب جرما يفوق أي اعتداء على الكعبة المشرفة، لذلك حق لابن عٌمر أن يقول: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله)، ولنسأل القاتل: ماذا يكون جوابك عندما تسأل يوم الحساب، قال ابن عباس: سمعت نبيكم يقول: ((يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه (أي حاملا رأسه بيده) متلببا قاتله باليد الأخرى (أي قابضا على عنقه) تشخب أوداجه (أي تجري عروقه دما) حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني، فيقول الله عز وجل للقاتل: تعست، ويذهب به إلى النار)) ، فلو فكر الناس فيما يلحق سفاكي الدماء، من خزي يوم الجزاء، ما سفك دم حرام.
عباد الله، لعلنا اليوم نعيش في الزمن الذي قال عنه رسول الله : ((والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قَتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قُتل)) [6].
فها هي الأخبار تذاع كل يوم عن حوادث سفك الدماء لسبب أو لغير سبب، فهذا طالب بدولة غربية يطلق النار على زملائه في المدرسة، وهؤلاء لصوص أو مغتصبين لا يكتفون بجريمة السرقة أو الاغتصاب بل يضيفون إليها القتل، وهذه شعوب يباد أهلها في حروب أهلية، يتقاتل فيها الأقارب، وإن مما يدمي القلب أن جل هذا الاقتتال اللامعقول يقع في بلاد الإسلام، وبذلك يتحقق ما أخبر عنه الصادق الأمين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام عندما قال: ((إن بين يدي الساعة لهرجا))، قال الراوي: قلت يا رسول الله ما الهرج؟ قال: ((القتل))، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا، فقال رسول الله : ((ليس بقتل المشركين، ولكن بقتل بعضكم بعضا حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته))، فقال بعض القوم: يا رسول الله ومعنا عقولنا ذلك اليوم؟ فقال رسول الله : ((لا تنزع عقول أكثر ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس لا عقول لهم)) [7]. صدق رسول الله فهل من العقل ما يقع اليوم من سفك للدماء في بلاد المسلمين.
[1] أخرجه أصحاب السنن.
[2] رواه البخاري ومسلم.
[3] رواه البخاري.
[4] جامع الأصول 208-209.
[5] رواه ابن ماجة.
[6] رواه مسلم : كتاب النفس – باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل.
[7] ابن ماجة : كتاب الفتن باب 10.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/726)
اللعن والملعونون
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
إسماعيل الخطيب
تطوان
24/5/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى اللعن وبعض الأعمال التي لُعِن فاعلها 2- تحريم الشرع
للعن والسب وإشارة إلى عظمة حرمة سب الدين ولعنه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : يقول ربنا عز وجل: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون [البقرة:159].
عباد الله : إن الله تعالى يعاقب أقواما في الدنيا والآخرة بلعنهم، واللعن هو الطرد والإبعاد فالملعون مطرود من رحمة الله، لا يقبل الله دعاءه، بل هو في سخط الله إلى أن يتوب من جرمه الذي استحق بسببه اللعن، وقد ذكر ربنا في كتابه الحكيم طائفة من الملعونين، قال تعالى: إن الله لعن الكافرين. وقال عن بني إسرائيل: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم. وقال في حق من يتهم مؤمنة بالفاحشة: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة. وقال عن فرعون وجنوده: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين. وقال: فمن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيه وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما.
وأخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن طائفة من الملعونين استحقوا اللعن بسبب فساد عقيدتهم أو معاملاتهم، فقال: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) والمشركون كانوا يعبدون غير الله ويذبحون القرابين يتقربون بذبحها لمعبوداتهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يخبرهم بأنه لا يصلي إلا لله، ولا يتقرب بالذبح إلا إلى الله، قال تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. وإن من أعمال الجاهلية الذبح على عتبة الدار بعد بنائها خوفا من الجن أو الذبح تقربا لأصحاب القبور.
ولقد نهانا ربنا عن تقديم الرشوة للحكام، فقال تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام. أي لا تعطوا المال للحكام على سبيل الرشوة ليغيروا الحكم لكم، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)).
والخمر، التي تفاقم شرها، والتي هي مفتاح كل شر، والتي هي أم الخبائث، وهي رجس من عمل الشيطان والتي قال النبي في حق شاربها: ((لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))، والتي تقضي على الأخلاق وتشجع على الفساد، هذه الخمر ومنها المخدرات، ذلك أن الخمر اسم جامع لكل ما غطى العقل – ملعون كل من له يد في رواجها، فقد ((لعن النبي في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له)).
ولا شك أن الزنا فساد وأي فساد، وللزنا أسباب تشجع عليه منها الاختلاط والعري، ومنها امتناع الزوجة من معاشرة زوجها، والإسلام حريص على حسن معاشرة الزوجين، قال تعالى: وعاشروهن بالمعروف ، وكما أن للزوجة حقوقا على زوجها منها النفقة، والإحسان في المعاملة، كذلك للزوج حقوق على زوجته، فعليها أن تعمل على استرضاء زوجها، وأن تحذر من الامتناع عن معاشرته في فراشهما فإن فعلت استوجبت اللعن، قال : ((إذا باتت المرأة هاجر لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع)).
عباد الله: إذا كان الله تعالى قد لعن في كتابه الحكيم وعلى لسان نبيه الرحيم طائفة من الذين يستحقون اللعن، فإن في ذلك الإخبار دعوة للتوبة وتحذير من الوقوع فيما يسخط الله، ولذلك كان من أدب الإسلام عدم اللعن، فالنبي عليه الصلاة والسلام – كما جاء في حديث أنس الصحيح: ((لم يكن فاحشا ولا لعانا ولا سبابا)) فليس من أخلاق الإسلام اللعن، وهو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى وقد اعتبر النبي عليه الصلاة والسلام: ((لعن المؤمن كقتله))، لأنه إذا لعنه فكأنما دعا عليه بالهلاك، فلا ينبغي لعن أحد ولو كان عاصيا، قال العلماء : لا ينبغي تعيين أهل المعاصي ومواجهتهم باللعن، وإنما ينبغي أن يلعن في الجملة من فعل ذلك ليكون ردعا لهم، بل إن المتأدب بأدب الإسلام يعوّد لسانه على أن لا يقول إلا خيرا، فلا يلعن إنسانا ولا حيوانا.
إذا علم هذا علمنا ما يقع فيه أولئك الذين لا تربية عندهم ولا أخلاق ولا أدب بل أولئك الذين لا دين لهم، فلو كان عندهم دين ما سبوا الدين فلعن الدين وسبه هو مما يخرج من الملة، وقد اتفق علماء الإسلام على أن من سب الله أو الرسول أو الدين يقتل ولا يستتاب وقد سأل الرشيد مالكا في رجل شتم النبي وذكر أن فقهاء العراق افتوه بجلده فغضب مالك وقال: ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها، من شتم الأنبياء قتل، ونقول: ما بقاء الأمة بعد سب دينها، وما جدوى حياتنا إذا سب ديننا من طرف أراذلنا، ما شرفنا إذا أهين الدين ووصلت الإهانة إلى سبه، أيعقل أن يغار أحدنا لنفسه إذا سب هو، ولا يغار لدينه وهو يسمع سبه وإهانته.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/727)
المحافظة على الصلاة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
إسماعيل الخطيب
تطوان
29/5/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصلاة وعظمتها والحث على المحافظة عليها وخاصة صلاة الفجر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الصلاة بعد العقيدة هي أولى واجبات الإسلام، أمر الله بها أنبياءه ورسله وأممهم، فهي تكليف من الله تعالى للبشر كافة، التزم بها المصطفون الأخيار، ودعوا الناس للمحافظة عليها، قال تعالى: واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ، وأبوه إبراهيم أبو الأنبياء دعا ربه لنفسه ولذريته فقال: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ، ولما أراد الله تعالى أن يفرض الصلاة على أمة سيدنا محمد دعاه إلى السماء وبلغ مكانا قال عنه : ((ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام))، أي ارتفع إلى مكان صار يسمع فيه أصوات أقلام الملائكة وهي تكتب ما قضى الله تعالى وقدّر. في ذاك المكان فرض الله الصلاة على هذه الأمة، وحق للصلاة أن تعظم هذا التعظيم، فهي أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله، وهي الصفة اللازمة للمؤمنين فلا يأتي في القرآن وصف لأحوال المؤمنين وأعمالهم إلا كانت الصلاة في مقدمة ذلك، قال تعالى: قد أفلح المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون. وقال سبحانه: طَس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون. وقال تعالى: آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
والصلاة هي العلامة الحاسمة التي تميز المسلم لأنها عمل دائم يتجدد مرات في اليوم، وكان النبي إذا أسلم الرجل أول ما يعلمه الصلاة، فبها يصبح مسلما. ثم لا تسقط عنه أبدا، فهي تدوم طول عمر الإنسان، وفي كل ظروف الحياة، لا يرفعها عنه عذر من مرض ولا مانع من سفر ولا شاغل من خوف، يؤديها على أي حال كان وحيثما تيسر، قال : ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل)) [1] ، فالأرض كلها مسجد، وعبادة الله لا تنحصر في مكان محدود والمسلم لا تنفصم شخصيته، فتراه عابدا في بيت الله، فإذا خرج أتبع هواه، بل هو دائم العبادة كيفما تقلب به المكان وتغير الحال.
وأركان الإسلام التي هي واجبات عينية وحقوق لله، قد تسقط عن المسلم فالصوم والحج على المستطيع والزكاة لمن ملك النصاب، أما الصلاة فلا يسقطها عذر، إنما تخفف أركانها لرفع الحرج.
والصلاة هي أوثق أسباب القرب من الله تعالى قال تعالى: كلا لا تطعه أي من دعاك لترك الصلاة واسجد أي صل لله واقترب أي تقرب إلى الله بطاعته وعبادته، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام إن الله قال: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها..)) الحديث [2]. فولي الله الذي هو المؤمن المتقي عندما يدعوا إلى الله وينهى عن المنكر يعاديه ويحاربه الظلمة والفساق فيتعرضون بذلك لإهلاك الله لهم انتقاما لأوليائه.
وبيّن تعلى أن أداء الفرائض، وفي مقدمتها الصلاة، أحب الأعمال إلى الله، فالفرائض هي الأصل والأساس، في الإتيان بها امتثال الأمر واحترام الآمر وإظهار ذل العبودية، فكان التقرب إلى الله بالفرائض أعظم العمل، والنوافل بعد الفرائض أعظم العمل، والنوافل بعد الفرائض تحقق محبة الله لعبده، فيوفقه الله تعالى في الأعمال التي يباشرها بسمعه وبصره ويده ورجله، فهو دائما في رعاية الله وحفظه.
عباد الله، صلاة الليل أثقل على المصلي من صلاة النهار، قال تعالى: إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا ، فالناشئة وهي قيام الليل أجهد للبدن، لكنها أقوم قيلا ، فالقراءة بالليل أقوم منها بالنهار حيث الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، وقد مدح الله تعالى أولئك الصابرين الذين يغالبون النوم، ويغادرون الفراش ويتوجهون إلى الصلاة، فقال سبحانه: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة:17]. فقابل سبحانه وتعالى قيامهم بالليل لذكر ربهم والركوع والسجود بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وقابل اضطرابهم وقلقهم عند قيامهم إلى صلاة الليل بقرة الأعين في الجنة، في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مصداق ذلك في كتاب الله: فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ))، العشاء والصبح من صلاة الليل، قال : ((لو يعلمون ما في العتمة (أي العشاء) والصبح لأتوهما ولو حبواً)) ، وسمى الله تعالى صلاة الصبح قرآنا فقال: وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا فحض على صلاة الفجر بقوله: وقرآن الفجر كأنه قال: وعليك قرآن الفجر.وصلاة الفجر صلاةٌ مشهودة يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، وهي الصلاة الوسطى في قول علي وأبيّ التي حض الله عليها، حيث قال: ((حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)) مثلها، لذلك كان على الراغب في عفو الله ورحمته، وكرمه وجنته، أن يحرص عليها، وأن يهجر الفراش في وقتها، وأن يسأل العون من الله تعالى، فما التوفيق إلا منه.
[1] رواه الشيخان.
[2] رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/728)
المحصنات الغافلات
الأسرة والمجتمع
المرأة
إسماعيل الخطيب
تطوان
3/2/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحديث عن المرأة المسلمة وأن الله حرّم قذفها بما يسوء 2- أن الإسلام اعتنى
بالمرأة فأمَرها بالحجاب وألا تسافر إلا مع ذي مَحْرَم حفاظاً عليها 3- بعض ما يجب
على المرأة مراعاته لتجنّب الفتنة بها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا تعالى: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم.
عباد الله، المحصنة، وهي المرأة المسلمة العفيفة ذات الحرمة، أعلى الله قدرها، وحفظ شرفها، وفرض العقوبة على من اتهمها، فقال جل شأنه: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ، إن الإتهام بارتكاب جريمة الزنا، أخطر اتهام، وقد يكون سببا في تشتيت أسرة، وضياع أفرادها، لذلك شرع الله هذه العقوبة ردعا لأولئك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة، بأن يزول التحرج من ارتكابها، فعندما يشيع في مجتمع أن فلانا المعروف بعمله أو بصلاحه يزني، وأن فلانة المتزوجة تزني، فإن هذه الجريمة تصبح شائعة في النفوس لتشيع بعد ذلك في الواقع، عندما يقول ضعيف الإيمان: إذا كان هؤلاء، وهم من هم يزنون فكيف لا أزني، وبذلك تزول الثقة بالخير والعفة والنظافة.
وشرف المرأة أعز شيء لديها، وهي مطالبة بالحفاظ على عفتها بسلوك سبيل المؤمنات الصالحات القانتات، لذلك أرشدها الإسلام إلى طريق واضح، ومنهج سليم عندما أمرها بلباس الجلباب الذي هو عنوان وعلامة على التزامها بأمر ربها، كما أمرها بأوامر فيها حفظ لشرفها:
أمرها بأن لا تسافر إلا مع محرمها فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم)) [1] ، فالمؤمنة الملتزمة بأمر ربها لا تسافر إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو أبنها أو ذو محرم منها، بهذا نطق من لا ينطق عن الهوى [2] ، إرشادا للمؤمنات.
أمرها إن اضطرت لمخاطبة الرجال الأجانب أن لا ترقق كلامها، كما تفعل الفاسدات، فإن ذلك يطمع الفجار فيها، فقال سبحانه: فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وعليها أن تكلمهم بجد يبعث على احترامها، قال تعالى: وقلن قولا معروفا.
أمر الإسلام المسلمة بملازمة بيتها، فلا تخرج منه إلا لضرورة، قال تعالى: وقرن في بيوتكن ، فإذا خرجت فلا يجوز لها أن تظهر زينتها ومحاسنها، قال تعالى: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، والتبرج هو أن تظهر المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره، ومن ذلك استعمال الطيب قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات)) [3]. أي دون استعمال الروائح العطرية التي تثير الانتباه إليهن.
إذا علمنا هذا تبين لنا مبلغ الإنحراف الذي وصلته النساء في عصرنا، وهو انحراف يزداد يوما بعد يوم نتيجة لضعف التوجيه ولما يقوم به دعاة الابتعاد عن شرع الله من عمل مدروس تحت غطاء حقوق المرأة والمساواة والحرية، وهم يرون كما نرى المرأة وقد أصبحت سلعة رخيصة، مهانة محتقرة، أضاعت دينها وشرفها وكرامتها، فإلى الله المشتكى هو ولينا ومولانا وإليه المصير.
عباد الله: بدراستنا لما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام من توجيه للمرأة المسلمة، نعلم ما هي الأعمال التي يجوز للمرأة المسلمة أن تعملها وما هي الأعمال التي لا تليق بها، إن أعظم مكان لعمل المرأة هو بيتها وأسرتها، إلى هذه المهمة الكريمة العظيمة يشير الرسول عليه الصلاة والسلام وهو ينوه بنساء قريش الصالحات ويقول: ((خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش: أحناه على طفل وأرعاه لزوج في ذات يده)) [4].
أما أن تهجر النساء البيوت إلى المصانع والمتاجر وغيرها فهو فساد واختلال، وربما قال قائل: إذا لم يكن للمرأة مورد ولا كافل فماذا تعمل لكسب رزقها؟ نعم لها الحق شرعا وعقلا في كسب رزقها بعمل يناسبها عمل بعيد عن الفتنة والفاحشة والاختلاط عمل لا يضطرها للسفر مع غير محرمها، أما أن تعمل أي عمل كان، كما هو واقع الآن، فذاك فساد ومهانة للمرأة، ولا خير في مجتمع فسد نساؤه، وفجر رجاله.
[1] رواه مسلم.
[2] البخاري : كتاب تقصير الصلاة – باب في كم يقصر الصلاة.
[3] رواه أبو داود – كتاب الصلاة – باب خروج النساء إلى المساجد.
[4] رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/729)
المسجد الأقصى
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة
إسماعيل الخطيب
تطوان
27/7/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
مكانة المسجد الأقصى وفضله وأن المسلمين عملوا على تحريره حتى كان ذلك في عهد عمر رضي الله عنه , ثم إن النصارى احتلوه وسفكوا فيه الدماء وأن الله قيّضَ صلاح الدين الأيوبي الذي استعاده منهم , وأن اليهود احتلوه هذه الأيام وأفسدوا فيه وسوف يُهلكهم الله تعالى كما ورد بذلك الخبر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
كان الإسراء من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، وهذان المسجدان مع المسجد النبوي بالمدينة هي المساجد التي قال عنها رسول الله : ((لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) [1] ، فهي مساجد الأنبياء، الأول قبلة الناس وإليه الحج، الثاني أسس على التقوى، الثالث، كان قبلة الأمم السالفة، وظل كذلك قبلة لأمة نبينا محمد تصلي نحوه ستة عشر شهرا، ثم أمروا بالبيت، وهذه المساجد هي التي يتجه إليها المسلمون من بقاع الأرض لعبادة الله، ولقد عمل المسلمون عام 15 في خلافة عمر على ضم المسجد الثالث إلى أخويه، فما كان لهم أن يتركوا قبلتهم الأولى ومسرى نبيهم بيد من لا يؤمن بالله ورسوله، فهم يقرؤون في كتاب الله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فإذا كانت راية الإسلام قد ارتفعت فوق جبال مكة حيث كان انطلاق الإسراء، فلا يعقل أن تبقى الأرض التي أم فيها رسول الله الأنبياء تحت حكم أعداء الله، لذلك بعث عمر بن الخطاب أبا عبيدة بن الجراح لفتح دمشق وبعد فتحها اتجه إلى بيت المقدس فحاصرها، وطلب أهلها أن يأتي عمر بنفسه. فجاء ليتمّ فتح مسرى النبي على يد الخليفة الثاني عمر، فدخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله ، وصلى بالمسجد الأقصى معلنا بذلك أن القدس ومسجدها للإسلام، وبقي المسجد الأقصى آمنا يعمره أهل الإيمان إلى أن قام عباد الصليب باحتلاله يوم 23 شعبان 492 هـ، فقتلوا فيه في يوم واحد أكثر من سبعين ألف مسلم بينما لم تسقط نقطة دم عند فتحه على يد عمر وجيش الإسلام، وظل عباد الصليب يفسدون في أرض الإسراء، وساعدهم على ذلك اختلاف حكام المسلمين فيما بينهم وتنافسهم على الكراسي حتى شاء الله تعالى أن يأتي بالفرج على يد صلاح الدين الأيوبي الذي قاد جيشا مباركا، فتح به أرض فلسطين وهزم الصليبين في معركة ((حطين)) عام 583.
والنصر والفتح لا يمنحه الله تعالى إلا للمؤمنين الصادقين المجاهدين لإعلاء كلمة الدين فصلاح الدين عاد بالمسلمين إلى عهد السلف فأقام العدل وابتعد عن اللهو والعبث وأنفق الأموال في مصالح الأمة، وعندما مات لم يخلف في ملكه إلا سبعة وأربعين درهما، وكان محبا للعلماء يحرص على مجالستهم وينتفع بإرشادهم فحرص على الجهاد ورفع راية الإسلام وتحرير أرض فلسطين، فحقق الله آماله، قال تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين ، وعندما اقترب من القدس خاف الصليبيون أن يعاملوا بالمثل فطلبوا الأمان، فأجابهم لذلك، وفتح الله القدس للمسلمين مرة أخرى دون أن تسقط نقطة دم وشاء الله أن يعود بيت المقدس إلى الإسلام يوم الجمعة 27رجب عام 583 بعد أن بقي مدة 92سنة تحت الاحتلال الصليبي.
عباد الله، في سورة الإسراء نقرأ الإشارة إلى حكمة الإسراء لنريه من آياتنا وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل من هلاك وتشريد بسبب إفسادهم وطغيانهم، قال تعالى: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ، فالله تعالى يخبر أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض المقدسة التي بها المسجد الأقصى مرتين، خلال دولتين تقومان على الظلم والبغي والاستكبار، وأنهم كلما ارتفعوا وسيطروا واتخذوا ذلك وسيلة للإفساد سلط الله عليهم من عباده من يقهرهم ويدمرهم، ويذكر العلماء أن الإفساد الأول وقع بقتلهم للأنبياء، ومخالفة أحكام التوراة، وأن المرة الثانية لم تقع بعد، وما يقع الآن في أرض فلسطين مقدمة للمرة الآخرة.
فها هم بنو إسرائيل قد بلغوا من العلو والسيطرة ما لم يبلغوه من قبل، فاحتلوا أرض فلسطين والقبلة الأولى وأخضعوا أقوى دول العالم لسيطرتهم، وهيمنوا على الإقتصاد ووجهوا وسائل الإعلام، وتوددت إليهم مختلف الدول، وأصبح أمرهم هو المطاع وهم يعلنون، بكل وقاحة، أنهم سادة الدنيا وغيرهم عبيد، يقول أحد حاخامتهم (الأغيار، أي غير اليهود، مخلوقات شيطانية كلية لا يوجد فيها ما هو خير إطلاقا ووجود غير اليهودي ليس ضروريا حيث أن كل الخليقة كانت من أجل اليهود وحدهم) هذه عقيدتهم ولذلك تراهم اليوم يعملون على الهيمنة على اقتصاد البلاد الإسلامية، ليكونوا سادة مسيطرين، لكن نحن على يقين أن وعد الله حق، وأن وعد الآخرة آت لا ريب فيه فنبينا عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا يا رسول الله وأين هم قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) [2] ، وأخبر أن المسلمين سيقاتلون يهود، وأن الحجر سينطق مخبرا بأماكن وجودهم، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
عباد الله: قال نبينا : ((خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا - نقصوا - المكيال والميزان إلا منعوا القطر وأخذوا بالسنين - المجاعة - ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر)) ، فمن أسباب حبس المطر منع الزكاة، فالله تعالى يرحم من عباده الرحماء، والناس اليوم بحاجة ماسة لماء السماء، وهم قبل ذلك بحاجة إلى التوبة وأداء الحقوق والاستغفار: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا.
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث من السماء، واجعل ما أنزلت قوة لنا وبلاغا إلى حين.
[1] رواه البخاري.
[2] رواه أحمد: ( 383 22).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/730)
المسجد وآدابه
فقه
المساجد
إسماعيل الخطيب
تطوان
24/4/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
لا يعمر مساجد الله إلا مؤمن ثم ذِكر فضل المسجد وبعض آدابه والتنبيه على
فضل يوم الجمعة وبعض آدابه وحُكم صلاة الجمعة وعلى من تجب والوعيد لمن تركها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال ربنا عز وجل: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين.
عباد الله: المساجد بيوت الله، أمر تعالى بتطهيرها لعبادته، وهي أحب البلاد إلى الله، فيها تتطهر النفوس وتزكوا، وبها يجد المؤمن راحته، حيث يناجي مولاه، ويتوجه إليه بالركوع والسجود، وتلاوة الكتاب والدعاء وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا.
وقد شهد الله تعالى لعمار المساجد بالإيمان، ذلك أن من قصد المسجد ليعمره بالصلاة والتلاوة ومدارسة العلم، إنما يفعل ذلك رجاء ثواب الله ورحمته ورضاه إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله.
لذلك كان على قاصد المسجد أن يراعي آدابه التي منها أن يقول عند الدخول بعد الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وعند الخروج: اللهم إني أسألك من فضلك، وأن لا يجلس قبل صلاة ركعتين لقوله : ((إذا جاء أحدكم المسجد فليصل ركعتين من قبل أن يجلس)).
ونظافة المساجد وإبعاد الروائح الكريهة عنها من أوجب الواجبات فإذا كان النبي قد نهى آكل الثوم والبصل من الدخول إلى المسجد، فما بالك بمن فيه رائحة العرق أو الجوارب أو الدخان، فالروائح الكريهة تتأذى منها الملائكة كما يتأذى منها الإنسان.
والمؤمن مطالب بأن يلبس الثياب الحسنة عند المجيء للمسجد، خاصة لصلاة الجمعة والعيدين، قال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ، روى عن الحسن السبط أنه كان إذا قام للصلاة لبس أجود ثيابه، فسئل عن ذلك فقال: إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي، وهو يقول: خذوا زينتكم عند كل مسجد.
ومما ينبغي أن يحذره زائر المسجد، أذية عماره من المصلين بتخطي رقابهم، روى أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة أن رجلا جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي يخطب فقال له: ((اجلس فقد آذيت وآنيت)) أي تأخرت.
وينبغي للجالس بالمسجد أن يحذر من غلبة النعاس، الذي قد ينقض وضوءه، قال : ((إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره)) رواه الترمذي، وقال حسن صحيح.
وعلى الداخل للمسجد أو الخارج منه أن يمشي بالسكينة والوقار، عن أبي قتادة قال : بينما نحن نصلي مع النبي إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال: ((ما شأنكم)) قالوا استعجلنا إلى الصلاة، قال: ((لا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)) رواه الشيخان.
وينبغي الحرص على ملء الصفوف الأولى وأن لا يترك فيها فراغ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله رأى في أصحابه تأخرا عن الصف الأول، فقال لهم: ((تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من وراءكم ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل)) رواه مسلم.
وتسوية الصفوف وسد الخلل مما ينبغي العناية به قبل الدخول في الصلاة، وعلى الإمام أن يأمر بذلك، عن أنس قال: كان النبي يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول: ((تراصوا واعتدلوا)) رواه البخاري ومسلم.
ورويا عنه أن النبي قال: ((سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة)).
وإن من علامات الخير حب المساجد والمؤمن يحب بيوت الله ويعمل على عمارتها، ولقد أخبرنا النبي عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر منهم: ((ورجل قلبه معلق بالمساجد))، والعلاقة شدة الحب، وحب المساجد، علامة على حب الله، وحب دينه ورسوله.
ويوم الجمعة يوم من أيام الله فضله على أيام الأسبوع، وجعله عيدا لهذه الأمة، قال عليه الصلاة والسلام: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)) رواه مسلم.
في يوم الجمعة يجتمع المسلمون في مختلف أقطارهم في بيوت الله يذكرون الله ويتوجهون إليه ضارعين خاشعين، فينبغي للمسلم أن يراعي حرمة هذا اليوم، وأن يتأدب بالآداب اللازمة في هذا الجمع المبارك، والتي منها: التبكير إلى صلاة الجمعة، والحرص على ملء الصفوف الأولى، وعدم تخطي الرقاب، والإنصات إلى الخطبة، وعدم الكلام أثناءها، ولو كان آمرا بمعروف أو ناهيا عن منكر.
وينبغي الاجتهاد في الدعاء في هذا اليوم والإكثار فيه من الصلاة والسلام على من أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، فرسول الله سيد الأنام، ويوم الجمعة سيد الأيام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره، فاغتنموا فضل هذا اليوم، وصلوا وسلموا على من بعثه الله رحمة للعالمين.
وقد يقع تهاون من البعض في أداء صلاة الجمعة لذلك وجب التنبيه إلى أن صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم عاقل مقيم قادر على السعي إليها، خال من الأعذار المبيحة للتخلف، فصلاة الجمعة لا تجب على:
1- المرأة. 2- الصبي. 3- المريض. 4- المسافر. 5- الخائف. 6- المسجون.
هؤلاء تجب عليهم صلاة الظهر، فإن صلوا الجمعة صحت وسقطت فريضة الظهر.
أما المتهاون، فيكفي أن نذكره بقول رسول الله : ((لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيتهم)) رواه مسلم وأحمد.
وقوله: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم.
وقوله: ((من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه)) رواه الخمسة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/731)
المشكلات الزوجية
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
إسماعيل الخطيب
تطوان
8/10/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من آيات الله أن خلق الذكر والأنثى وجعل بين الزوجين مودة ورحمة
2- الحياة الزوجية عرضة للمشكلات والحثَّ على التَّعَقّل واللجوء إلى الشرع في حَلّها
3- أن الله جعل القوامة للرجل لا للتسلط والاستبداد بل هي قوامة رحمة وشفقة وتشاور
فيما يصلحهما
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا سبحانه: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ الروم:21].
عباد الله، إن من آيات الله الدالة على عظمته وحكمته خلقه للإنسان من تراب، قال تعالى: ومن آياته أن خلقكم من تراب والتراب ميت ساكن بينما الإنسان حي متحرك ، فسبحان من أخرج الحي من الميت، وسبحان من جعل قوام الحياة هذه العلاقة المتينة بين الرجل والمرأة، فكلاهما يألف الآخر ويسكن إليه ، ويجد في كنفه الاستقرار والأنس والاطمئنان، وجعل بينهما مودة وهي المحبة ورحمة وهي الرأفة والعلاقة بين الزوجين لا يمكنها أن تستمر إذا لم تكن بينهما مودة ورحمة.
غير أن الحياة الزوجية قد تعترضها خلافات ونزاعات تتسبب في نتائج لا تحمد عقباها، وقد تكون أسباب تلك الخلافات واهية ، غير أن العناد والمكابرة وقلة التفقه في الدين ، كل ذلك يدفع بالزوجين إلى تضخيم المشاكل الصغيرة ، وتحمل نتائجها السيئة.
إن الخلاف والاختلاف من طبائع البشر التي فطر الله الناس عليها ، والحياة بين الزوجين لا يمكن أن تكون بغير مشاكل، لكن يستطيع الإنسان أن يعالج كل المشاكل بهدي من كتاب الله وسنة رسوله، يقول ربنا سبحانه: وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا إن الزوج قد يكره من زوجته أشياء كتقصيرها في خدمة بيتها، أو مخالفته في أمر طلبه منها ، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون سببا في الفراق، فالآصرة الزوجية أوثق من أن تعصف بها مشكلة عابرة، فكم من امرأة كرهها وحسن معاشرته لها، فكانت أعظم أسباب هنائه وسعادته ، وليتذكر الرجل أيضا أنه لا يخلو من عيب تصبر امرأته عليه فالكمال لله تعالى وحده.
والآية ترشدنا إلى أن بعض الأشياء التي نكرهها الآن ، قد يكون فيها خير في المستقبل ، فهذه قاعدة عامة تجعل الإنسان صابرا مترويا عاقلا.
ولما كان كل من الرجل والمرأة لا يخلو من عيب كان عليهما أن ينظرا إلى المحاسن في الوقت الذي ينظران فيه إلى المساوئ، وإلى ذلك يشير قول النبي : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر)) [1]. الفرك هو البغض بين الزوجين ، والنبي عليه الصلاة السلام يرشد إلى أنه لابد أن يكون في الإنسان عيب أو نقص، فإذا وجد الزوج في زوجته أمرا يكرهه فعليه أن يتذكر ما فيها من المحاسن ، والذي يعمى عن المحاسن ولا يلاحظ إلا المساوئ، لابد أن يقلق ويظلم ويعرّض الحياة الزوجية للخطر.
وإن كثيرا من الخلافات التي تقع بين الزوجين سببها عدم التزامهما بالتشاور فيما بينهما ، وقد مدح الله تعالى المؤمنين لالتزامهم بالشورى في جميع أمورهم، قال تعالى: والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ، وقد تعتقد المرأة أن فطام الطفل من اختصاصها وحدها، لكن القرآن الحكيم يجعل الفطام مسؤولية مشتركة بين الزوجين، يقول الله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ثم يقول سبحانه: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما والفصال هو الفطام ، لأنه يفصل الولد عن أمه ، فيكون مستقلا في غذائه عنها ، فلما جعل الله تعالى مدة الرضاع حولين، أجاز الاقتصار على ما دون الحولين، بقوله سبحانه: لمن أراد أن يتم الرضاعة فالوالدان إن اتفقا على إرضاع الطفل مدة تقل عن سنتين جاز لهما ذلك لكن لابد من رضائهما وتشاورهما واتفاقهما على أن صحة الطفل تسمح له بالاستغناء عن حليب أمه قبل بلوغه الحولين. وفي هذا الأمر إرشاد إلى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة الزوجية من تشاور وتفاهم يحقق السكينة والسعادة، والمودة والرحمة.
عباد الله: لا شك أن أسباب الخلاف بين الزوجين كثيرة ومتشعبة ومتغيرة، ولا شك أن الخلاف إن طال واستمر، عكّر صفو الحياة ، كما أن الزوجين في بعض الحالات لا يستطيعان تحديد سبب الخلاف أو قد يكون الخلاف لسبب تافه كتأخر الزوجة عن إعداد الطعام ، لذلك كان على الزوجين أن يتصارحا وأن يناقشا خلافهما بهدوء ، وأن يعتذر أحدهما للآخر. فالحقوق والواجبات بينهما متساوية، قال تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ، فما يطلب من الزوجة كالطاعة والأمانة والعفة والإخلاص وحسن المعاشرة والاحترام يطلب أيضا من الرجل ، فإذا همّ الرجل بمطالبة زوجته بأمر فليتذكر أنه يجب عليه مثله ، وقد أحال ربنا سبحانه معرفة مالهن وما عليهن إلى عرف الناس المستمد من الشريعة والآداب والعادات.
وقوله تعالى: وللرجال عليهن درجة هي درجة الرئاسة ، ذلك أن كل جماعة لابد لها من رئيس ينظم أمرها، وبدونه يختل النظام ، وقد جعل الله تعالى هذه الرئاسة للرجال لحكم ظاهرة بينة ، لكنها ليست رئاسة استبدادية بل تنبني على التشاور والتناصح وتحقيق الخير لجميع أفراد الأسرة.
إن المؤمن يسأل الله تعالى أن يجعل زوجته وأولاده موضع سروره وفرحه، فيتوجه إليه ضارعا قائلا: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما.
[1] رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/732)
تخطيط الأعداء للمغرب العربي
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعداء الإسلام لا يزالون يكيدون للإسلام وأهله 2– احتلال الصليبيين لبعض مناطق المغرب العربي وأن المجاهدين استطاعوا تحرير بعضها 3– عمَل
الاستعمار على طمس هوية المسلمين في المغرب بنشر الفساد والإفساد 4- سعي المغاربة للاستقلال حتى نالوه وهذه نعمة تحتاج إلى شكر بتطبيق شرع الله في المغرب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا عز وجل: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا. ويقول سبحانه: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.
عباد الله: منذ أن بزغ نور الإسلام، وصدع رسول الحق عليه الصلاة والسلام يدعوا الناس إلى دين الله، وأعداء الإسلام خاصة من اليهود والنصارى يكيدون للإسلام، يضعون المخططات، ويدبرون المؤامرات لكسر شوكة الإسلام، ومكافحة دعوته، لقد نظر أولئك الأعداء إلى سر العظمة في أمة الإسلام، فعلموا أن هذه الأمة لم تنل العز إلا بالإسلام ولم تنتصر إلا بالإسلام، فالإسلام علّمها النظام، والإسلام دعاها إلى الجهاد والوقوف صفا واحدا في وجه الأعداء المتربصين بالإسلام والإسلام جمع شمل المسلمين رغم اختلاف أقطارهم، فأصحبوا جميعا أمة واحدة متراصة متماسكة متعاونة متحابة، معتصمة بحبل الله المتين.
نظر الأعداء في هذه الحقيقة وهي أن نهضة المسلمين إنما قامت بسبب الدين، فالإسلام هو مبعث وحدة هذه الأمة وقوتها، فسعوا إلى مقاومة الإسلام بكل الوسائل والتي منها احتلال بلاد المسلمين وفرض أنظمتهم مع استغلال خيرات البلاد لصالحهم، والعمل على نشر النصرانية بين المسلمين. فعندما وقعت النكبة الكبرى بسقوط الأندلس في يد الصليبية الحاقدة، تطلع الصليبيون إلى محاولة احتلال المغرب باعتباره الحصن المدافع عن الوجود الإسلامي في غرب بلاد الإسلام، وهكذا عمد البرتغال إلى احتلال سبتة عام 818هـ وعملت أسبانيا على احتلال مليلية عام 903هـ وحجرة بادس عام 914هـ ثم خطط الأسبان والبرتغال والإنجليز لاحتلال الشواطئ المغربية من طنجة إلى بوجدور لكن المجاهدين الأبرار استطاعوا تحرير الصويرة عام 915هـ والمهدية عام 921هـ وأزمور عام 948هـ وآسفى عام 948هـ والقصر الصغير عام 956هـ وأصيلا عام 957هـ وطنجة عام 1095هـ والعرائش عام 1101هـ والجديدة عام 1182هـ وتطوان عام 1278هـ وطرفاية من يد الإنجليز عام 1313هـ.
وما إن هل القرن الميلادي الحالي حتى خطط الاستعمار لاحتلال المغرب وتقسيمه سعيا منه لاستغلال ثرواته، وطمس معالمه الحضارية والقضاء على مقوماته وفي مقدمتها الدين واللغة.
وهكذا سعى الإستعمار إلى فتح المدارس الأجنبية لتربية أجيال من أبناء المسلمين يحملون ثقافة الإستعمار المسمومة ولا يعرفون شيئا عن دينهم ومبادئهم، وهؤلاء صاروا بعد أن رباهم الاستعمار يرفضون حتى التحدث باللغة العربية التي هي لغة القرآن، ويفضلون عليها لغة المستعمر وثقافته. وهكذا استطاع الإستعمار أن يهمش لغة البلاد وأن يفرض لغته وفكره.
كما عمد الإستعمار إلى إلغاء المحاكم الشرعية بعد أن كان في كل بلد صغير أو كبير قاض يحكم بشريعة الله، يقيم الحدود، ويحقق العدل وله السلطات المطلقة التي أعطته إياها شريعة الله، وسعى إلى إحلال القوانين الوضعية محل الشريعة الإلهية.
كما سعى إلى نشر كل الموبقات والمحرمات من خمر وقمار ودعارة ليتمكن بذلك من زرع الاستهانة بأحكام الشرع في نفوس الناس.
ذلك أن تيسير تناول المحرمات يشجع على ارتكابها حتى يتعود الناس عليها، وبذلك يضعف سلطان الإسلام في نفوس المسلمين فيتجرأ كل من هب ودب على ارتكاب المحرمات.
ولقد فطن المغاربة قاطبة لهذه المخططات الإستعمارية، فقاوموا الإستعمار بقوة السلاح لعدة سنوات، ثم انتقلت المقاومة إلى مرحلة أخرى، فقدمت العرائض والاحتجاجات التي تطالب بالإصلاح ونبذ سياسة الإفساد، وتوج ذلك برفع عريضة المطالبة بالإستقلال ليسترد المغرب حريته ووحدته.
عباد الله: يقول الله عز وجل: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر [ الحج:41].
هذا شرط شرطه الله عز وجل على الذين مكن لهم في الأرض وأصبح أمرهم بيدهم أن يقوموا بهذه الأربعة: إقامة الصلاة، بالأمر بها وزجر تاركها، وإيتاء الزكاة بتحصيلها وأدائها لأهلها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتبارها أساسا في كيان الدولة، ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا توفرا في مجتمع كبح جماح العصاة والمفسدين ولا ينتشر الفساد ويشيع إلا بسبب عدم النهي عن المنكر.
إذا علمنا هذا فلنسأل أنفسنا: هل قمنا بهذه الأربعة بعد أن منّ الله علينا بالإستقلال؟
هل حققنا لأنفسنا في مدة تزيد عن أربعين سنة، وهي المدة التي قضاها المستعمر في بلادنا، ما كنا نطالب به الإستعمار؟
هل قضينا على الموبقات والمحرمات التي نشرها الإستعمار في بلادنا، هل قضينا على الخمر والقمار والدعارة؟
هل عدنا لتحكيم شريعة الله في كل أمر من أمورنا، وهل أعدنا للغة القرآن مكانتها.
لنسأل أنفسنا قبل أن نسأل يوم السؤال ولنعلم أن الله ينصر من ينصره ويدافع عمن يدفع عن نفسه الهلاك والخسران بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه هي أسس الخير، ودعائم الإصلاح.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/733)