الخوف من الله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – بعث الله الأنبياء لتزكية نفوس البشر
2 – من وسائل تزكية النفوس الخوف من الله
3 – ما جاء في الخوف من الله في نصوص شرعية
4 – اقسام الخوف
5 – كيف نستجلب الخوف من الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وارقبوه، وامتثلوا أمره ؛ فإنه للظالمين بالمرصاد.
عباد الله!
إن من المهمات التى بعث بها نبي هذه الأمة محمد تزكية النفس؛ كما قال عز وجل ممتناً ببعثه : هو الذى بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [الجمعة:2].
وقد علق الله تعالى فلاح العبد بتزكية نفسه، وذلك بعد أحد عشر قسماً متوالياً؛ فقال عز وجل: والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [الشمس:1-10]. والتزكية معناها التطهير.
عباد الله!
ومن وسائل تزكية النفس : الخوف من الله تعالى.
وإذا كان المسلم محتاجاً إلى تزكية نفسه بالخوف من الله تعالى في كل وقت؛ فإن الحاجة إليه في هذا الزمن شديدة؛ لكثرة المغريات والفتن.
والله تعالى أمر عباده بالخوف منه، وكل أحد إذا خفته؛ هربت منه؛ إلا الله؛ فإنك إذا خفته؛ هربت إليه:
قال تعالى: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين [آل عمران:175]. فأمر الله تعالى بالخوف، وجعله شرطاً في الإيمان.
وقالى تعالى: فإياي فارهبون [البقرة:40].
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الخوف، وهى من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب، وهي فرض على كل أحد".
وقال أيضاً: "القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان؛ فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس؛ مات الطائر، ومتى فقد الجناحان؛ فهو عرضة لكل صائد وكاسر".
عباد الله!
والخائف من الله تعالى أجره عظيم ومنزلته رفيعة:
قال تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان [الرحمن:46].
وقال عز وجل: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [النازعات:40].
وقال : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله؛ اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) 1.
وقال : (( ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلن، والعدل في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر. وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه)) 2.
عباد الله!
وكل إنسان يدعي الخوف من الله، ولكن هذا الخوف: إما أن يكون صورة، أو حقيقة ؛ فمن منعه الخوف من الله من فعل المحرمات؛ فخوفه حقيقة، ومن لم يمنعه الخوف من الله من فعل المحرمات؛ وتمادى بها؛ فإن خوفه صورة لا حقيقة، وادعاؤه كاذب.
وكنتيجة لهذا الخوف الصوري رأينا انتشار المعاصي والمنكرات في أوساط المسلمين؛ فما خاف الله حقيقة من تجرأ على محارم الله، ما خاف الله حقيقة من ترك الصلاة أو تهاون فيها، وما خاف الله حقيقة من تعامل بالربا، وما خاف الله حقيقة من استمع إلى آلات اللهو المحرمة أو اشتراها بماله أو مكن من تحت يده من استماعها أو النظر إليها أو باعها أو أعان على نشرها، وما خاف الله من شرب الدخان أو باعه، وما خاف الله من ازدرى نعم الله.
وكذلك من النساء من كان خوفها من الله صورة لا حقيقية؛ فما خافت الله من تبرجت أمام.
الرجال الأجانب أو حلت بهم أو لانت بقولها للرجال، أو كانت فتنة لكل مفتون.
وبالجملة؛ فكل من ضيع أوامر الله وارتكب نواهيه؛ فما خاف الله تعالى، وعقابه عند الله أليم.
عباد الله!
النبى - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - كان أشد الناس خشية لله؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله : ((إني أرى ما لا ترون، واسمع ما لا تسمعون؛ أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع؛ إلا فيه ملك راكع أو ساجد، لو علمتم ما أعلم؛ لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم على (أو: إلى) الصعدات تجأرون إلى الله)). قال أبو ذر: والله؛ لوددت أني شجرة تعضد 1.
عباد الله!
وكذلك كان الخوف من سمات صحابة الرسول الذين هم خير القرون؛ فعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف؛ أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام، وكان صائماً، فقال: "قتل مصعب بن عمير، وهو خير منى، وكفن في بردة: إن غطي بها رأسه؛ بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه؛ بدا رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط (أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا)، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قدمت لنا. ثم جعل يبكى حتى ترك الطعام" 2.
فتفكروا عباد الله في سيرة هؤلاء واقتدوا بهم، وقارنوا بين حالنا وحال أولئك القوم ؛ فستجدون أنهم في يقظة ونحن في نوم.
عباد الله!
والخوف ينقسم إلى أقسام:
قال ابن رجب : "القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم؛ فإن زاد على ذلك؛ بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات والتبسط في فضول المباحات؛ كان ذلك فضلاً محموداً، فإن تزايد على ذلك؛ بأن أورث مرضاً أو موتاً أو وهماً لازماً؛ بحيث يقطع عن السعى في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل؛ لم يكن محموداً".
وقال بعض العلماء: الخوف له قصور، وله إفراط، وله اعتدال، والمحمود منه هو الاعتدال والوسط:
فأما القاصر منه؛ فهو الذى يجرى مجرى رقة النساء؛ يخطر بالبال عند سماع آية من القرآن، فيورث البكاء، وتفيض الدموع، وكذلك عند مشاهدة سبب هائل، فإذا غاب ذلك السبب عن الحس؛ رجع القلب إلى الفضلة؛ فهذا خوف قاصر، قليل الجدوى، ضعيف النفع.
وأما المفرط؛ فإنه الذي يقوى ويجاوز حد الاعتدال، حتى يخرج إلى اليأس والقنوط، وهو مذموم أيضاً؛ لأنه يمنع من العمل.
وأما خوف الاعتدال؛ فهو الذى يكف الجوارح عن المعاصي، ويقيدها بالطاعات.
وما لم يؤثر في الجوارح؛ فهو حديث نفس وحركة خاطر لا يستحق أن يسمى خوفاً.
قال بعض الحكماء: ليس الخائف الذى يبكي ويمسح عينيه، بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه.
فالخوف يحرق الشهوات المحرمة، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة كما يصير العسل عند من يشتهيه إذا عرف أن فيه سما؛ فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويحصل في القلب الخشوع والذل والاستكانة ومفارقة الكبر والحقد والحسد.
اللهم! اجعلنا ممن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين!
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن أخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه، ولذلك قال النبي : ((الله؛ إني لأعلمكم بالله، واشدكم له خشية)) 1.
عباد الله!
وهناك أمور يستجلب بها الخوف، وهي كثيرة:
أولها – وهو الجامع لكل ما يليه -: تدبر كلام الله تعالى وكلام نبيه والنظر في سيرته فهو سيد المتقين:
فإن تدبر هذا مما يعين على الخوف:
قال الله تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد [آل عمران:30].
وقال سبحانه: ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلاً [الفرقان:28].
وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: سمعت رسول الله يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً". قلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً؛ ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: "يا عائشة! الأمر أشد من ذلك)).
الأمر الثاني مما يستجلب به الخوف: التفكر في الموت وشدته:
قال تعالي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد [ق:19].
وقال : ((أفضل المؤمنين أحسنهم خلقاً، وأكيسهم أكثرهم للموت ذكراً وأحسنهم له استعداداً، أولئك الأكياس)) 2.
فيا أيها العاصي الذي قل خوفه من الله! أما تذكر ساعة يعرق لها الجبين، وتخرس من فجأتها الألسن، وتقطر قطرات الأسف من الأعين؟
فتذكر ذلك؛ فالأمر شديد، وبادر بقية عمرك؛ فالندم بعد الموت لا يفيد، وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد [ق:13].
الأمر الثالث : التفكر في القبر وعذابه وهوله وفظاعته:
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه؛ قال: كنا مع رسول الله في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بل الثرى، ثم قال: ((يا إخواني ! لمثل هذا فأعدوا)) 4.
وقال بعض الحكماء:
أنسيت يا مغرور أنك ميت
أيقن بأنك في المقابر نازل
الأمر الرابع: التفكر في القيامة وأهوالها:
قال تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [الحج:1-2].
وقال تعالى: فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيباً السماء منفطر به كان وعده مفعولاً [المزمل:17].
الأمر الخامس: التفكر في النار وشدة عذابها وما أعد الله عز وجل فيها لأعدائه:
قال تعالى: ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين [الأنبياء:46].
الأمر السادس: تفكر العبد في ذنوبه:
فإنه وإن كان قد نسيها؛ فإن الله تعالى قد أحصاها، وإنها إن تحط به؛ تهلكه؛ إن وكله الله إليها، فليتفكر في عقوبات الله تعالى عليها في الدنيا والآخرة، ولا يغرن المذنب النعم؛ فقد قال : ((إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه؛ فإنما ذلك منه استدراج)) ، ثم تلا: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون 4 [الأنعام:44].
وقال تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد [آل عمران:30].
وقال : ((إني لأعلم أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة البيضاء، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً)). قال ثوبان: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا أن نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: ((أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله؛ انتهكوها)) 1.
الأمر السابع: أن يعلم العبد أنه قد يحال بينه وبين التوبة:
وذلك بموت مفاجئ، أو فتنة مضلة، أو غفلة مستمرة، أو تسويف وإمداد إلى الموت أو غير ذلك، وعندها يندم حيث لا ينفع الندم.
الأمر الثامن: من الأمور التي يستجلب بها الخوف من الله تعالى: التفكر في سوء الخاتمة:
فإن العبد ما يدري ما يحدث له في بقية عمره؟!
وقد كان رسول الله يقول: ((يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)) 2.
وقال تعالى: واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه [الأنفعال:24].
وقال : ((لقلب ابن آدم أشد تقلباً من القدر، إذا اجتمع غلياناً)) 4.
عباد الله!
هذه بعض الأمور التي يستجلب بها الخوف من الله تعالى، وكل إنسان أعلم بنفسه من غيره من الناس؛ فإن كانت هذه الأمور موجودة فيه؛ فليحمد الله، وليسأل الله الثبات، وإن كانت مفقودة؛ فعليه أن يعمل على تحصيلها؛ فإن الأعمال بالخواتيم.
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
1 متفق عليه.
2 رواه البزار والبيهقي وهو حسن بطرقه.
1 رواه أحمد والترمذى وأبن ماجه والحاكم وصححه.
2 رواه البخارى.
1 رواه البخارى ومسلم.
2 رواه ابن ماجه وهو حسن بطرقة
4 رواه أحمد وابن ماجه بإسناد حسن.
4 رواه أجمد بإسناد حسن.
1 رواه ابن ماجه بسند صحيح.
2 رواه أحمد والحاكم وصححه.
4 رواه أحمد والحاكم وصححه.
(1/466)
اتبعوا ولا تبتدعوا
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكتاب والسنة يصدر عنهما كل مسلم. 2- مصادر دخيلة للتشريع أخذها المسلمون عن
غيرهم. 3- الابتداع سوء ظن بالرسول. 4- الشيطان يزين البدع في صدور أتباعها.
5- الفرقة الناجية هي المستمسكة بالهدي الأول. 6- تعريف البدعة. 7- واجب الأمر
بالمعروف لتغيير البدع والحوادث. 8- شر صاحب البدعة متعد إلى غيره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاعلموا أيها الناس، أن الدين الإسلامي كغيره من الشرائع السماوية التي أرسل الله الرسل من أجلها، دين مبني على الاتباع والاقتداء والتأسي. ولا يصير الدين دينا إلا إذا كان الخضوع فيه للحق ـ سبحانه ـ؛ حيث إنه لا يفهم دين بلا خضوع ولا اتباع.
وإن خير هدي ينتهجه المفلحون، وخير طريق يسلكه الصالحون، هو هدي رسول الله ، والطريق الذي رسمه للأمة في كل اتجاه، فلا هدي أحسن من هديه، ولا طريق أقوم من طريقه، وهيهات هيهات أن يأتي الخلف في أعقاب الزمن، بخير مما كان عليه السلف الصالح في عصور النور.
ومن غربة الدين، أن تلتصق به المحدثات، والمسلم الحصيف يتجه نحو المعين الصافي، يشرب منه فيرتوي، ويقصد مصدر النور، يقتبس من إشعاعه فيهتدي، وإن النور لا يتم إلا بهدي الله وكتاب الله وحكم الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]. صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـ?بِدونَ [البقرة:138].
أيها الناس، إن عصر المسلمين الحاضر، يعد عصر تجدد وانتقال، كما كانت عصور المسلمين الأولى، إبان اختلاطهم بالحضارات الفلسفية والثقافات الإغريقية، حين أخذوا من أهلها وأعطوهم؛ فاختلط الناس بالغازين، وبأفكارهم الأجنبية عنهم؛ فجنحوا إلى شرعة الغير، إذْ وافقت أهواءهم، واشرأبت لها شهواتهم ورغباتهم.
وتمثل ذلك جليا في أخذ أهل تلك العصور من المسلمين بما وضعه قادة الغزاة التتر، فيما أسموه بالياسق، الذي قال عنه ابن كثير ـ رحمه الله ـ: (وفيه أن من زنى قتل محصنا أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن أطعم أسيرا أو سقاه بغير إذن أهله قتل) إلى غير ذلك من البدع الكفرية والترهات البشرية، المخالفة لمنهج الله وشرعته.
في عصور الانتقال، تتعدد مسالك الحياة، وتتزاحم المذاهب الدخيلة، والدعوات الدعية، ومكان السنة بين هذه الدعوات والمذاهب، أنها دعوة كمال، فكلما تردد الإنسان بين طريقين، دعته السنة إلى خيرهما، وإن تردد العقل بين حق وباطل، دعته السنة إلى الحق، وبهذا يعلم أن دعوة السنة، كانت لأصعب الطريقين، وأشق الأمرين بالنسبة لأهواء البشر، وسبب ذلك هو أن الانحدار مع الهوى سهل يسير، ولكن الصعود إلى العلو صعب وشاق، وإن الماء ينزل وحده حتى يستقر في قرارة الوادي، ولكنه لا يصعد إلى العلو، إلا بالجهد والمضخات.
إن إبليس ـ عليه لعائن الله ـ قد احتال بفنون الحيل على الخلق، وأمال أكثرهم عن العلم، الذي هو مصباح السالك، فتركهم يتخبطون في ظلمات الجهل، وأدخل عليهم في دينهم من رهبانية ابتدعوها ما كتبها الله عليهم، جمعت لهم الإعراض عن علم الشريعة، مع سوء الفهم للمقصود منها فحدثت منهم بدع قبيحة، وألزمهم إبليس زاوية التعبد، وأظهر لهم من الخزعبلات والطقوس ما أوجب إقبال العوام عليهم فجعل إلههم هواهم.
عباد الله، إن البدع المحدثة فيها مع سوء الظن بصاحب الرسالة تشويه لجمال الدين، وطمس لمعالم السنن، وحيلولة بين الناس وبين دينهم الصحيح، والحكم الفصل في ذلك، هو الوقوف عند السنن، ورد الأمور إلى حكم الله وحكم رسوله وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
وكل سبيل غير صراط الله، عليه شيطان يدعو إليه فيحببهم في البدعة، ويبعدهم عن السنة وهي مرحلة من مراحل الشيطان، التي يتدرج بها مع المسلم؛ حيث يدعوه إلى شبهات من الابتداع زيادةً ونقصا في الاعتقاد والعمل، والمتورطون في ذلك من الأمة كثير، وللشيطان في ذلك جولات وانتصارات، إما بأن يعتقد العبد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله، من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين، التي لا يقبل الله منها شيئا.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: وهاتان البدعتان، في الغالب متلازمتان، قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى كما قال بعضهم: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال؛ فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجؤهم، إلا وأولاد الزنا يعيثون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله ـ تعالى ـ.
قال سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يرجع منها، والبدعة لا يرجع منها.
أيها الناس، قال رسول الله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [رواه البخاري ومسلم] [1] ، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) [2].
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، فكل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء. قال النووي ـ رحمه الله ـ: هذا الحديث، مما ينبغي حفظه، واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به كذلك.
وأهل السنة والجماعة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، استقر كتاب الله وسنة رسوله في سويداء قلوبهم، فمراد الله ومراد رسوله عندهم، قد خلدا بهذين الوحيين، فلا تعقيب لأحد بعد الله ورسوله، ولا يزالون منذ فتحت للفهم عقولهم، ووجه شطر العلم طلبهم، ينظرون في عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، إلى أن من عليهم الرب الكريم، فشرح لهم من معاني الشريعة، ما لم يكن في غيرهم، وألقى في نفوسهم أن الدين قد كمل، وأن السعادة فيما وضع، والطلبة فيما شرع، وما سوى ذلك فضلال وبهتان. وأن العاقد عليهما بكلتا يديه، مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وما سواها فأوهام وخيالات، تندرس بها سنة الرسول، حتى تمد البدع أعناقها، فيشكل مرماها على جمهور المصلحين.
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
قال حذيفة بن اليمان : (كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد فلا تعبدوها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالا)، وقال مالك بن أنس: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة؛ لأن الله يقول: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة :3]. فما لم يكن يومئذ دينا، فلا يكون اليوم دينا).
وصدق رسول الله إذ يقول: ((ما من نبي بعثه الله ـ عز وجل ـ إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وأن يحذر أمته من شر ما يعلمه لهم)) [رواه مسلم] [3].
أيها المسلمون، قال رسول الله : ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)) [رواه أبو داود والترمذي] [4].
والبدعة هي ما أحدث في الدين مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وهي تؤخذ في الغالب تقليدا لشيخ معظم، أو والد محترم، أو مجتمع تقدس عاداته، أو أفكار تستحسن، أو مبادئ تستورد، وما وفد على الأمم الممزقة الحائرة، من دخل وابتداع، كان نتاج التقليد الأعمى، والانقياد الأرعن، الذي أدخل عليهم ما شاء الله أن يدخل، من البدع والأهواء.
والبدع سريعة الانتشار، تنجم كقرون المعزى، تستلفت أنظار الدهماء فيعمى دونها الذين لا يبصرون، ويصم عنها الذين هم عن السمع معزولون، فتعود صغار البدع عندهم كبيرة، بعد أن كان أولها صغيرا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها فعظمت، وصارت دينا يدان بها، فخالف أصحابها الصراط المستقيم.
ولما كثرت البدع وعم ضررها، ودام الانكباب على العمل بها، والسكوت من أهل العلم والفقه عن الإنكار لها، صارت وكأنها سنن مقررات، وشرائع محررات؛ فاختلط المشروع بغيره، والتبس بعضها ببعض إلا على من عصمه الله، مع أن الداخل في هذا الأمر اليوم، فاقد المساعد إلا ما شاء الله، ينحو منحى عمر بن عبد العزيز ؛ حيث يقول: (ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره).
فرحم الله الخليفة ابن عبد العزيز؛ إذ التنبيه على البدع، أمر لا سبيل إلى إهماله، ولا يسع أحدا ممن له منّة، إلا أن يأخذ بالحزم والعزم المشوبين بالحكمة والموعظة الحسنة، في بثه بعد تحصيله، وإن كره المخالف، فكراهيته لا حجة فيها على الحق ألا يرفع مناره، وألا تكشف وتجلى أنواره.
قال سيد التابعين أويس القرني ـ رحمه الله ـ: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يدعا للمؤمن صديقا؛ نأمرهم بالمعروف، فيشتمون أعراضنا، ويجدون على ذلك أعوانا من الفاسقين، حتى والله رموني بالعظام، وايم الله، لن أدع أن أقوم فيهم بحقه).
وقال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ: (إن السلف ـ رحمهم الله ـ تشتد ألسنتهم على أهل البدع، وتشمئز قلوبهم منهم، ويحذرون الناس بدعتهم، ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس، ما كان لأحد أن يهتك سترا عليهم، ولا يظهر منهم عورة، الله أولى بالأخذ بها، وبالتوبة عليها، فأما إذا جاهروا، فنشر العلم حياة، والبلاغ عن رسول الله رحمة، يعتصم بها على مصر ملحد).
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا البدع، صغيرها وكبيرها، واعلموا أن من ابتدع بدعة في الإسلام فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ?لَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25]. قال رسول الله : ((من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئا)) [رواه مسلم] [5].
وقال : ((ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)) [رواه مسلم] [6].
فليتق امرؤ ربه، ولينظر قبل الإحداث، في أي مزلة يضع قدمه، وهو لا يدري ما الذي يوضع له في ميزان سيئاته، مما ليس في حسابه ولا شعر أنه عمله.
اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأقوال والأعمال والأهواء والأدواء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح البخاري ح (2697) ، صحيح مسلم ح (1718).
[2] صحيح مسلم ح (1718).
[3] صحيح مسلم ح (1844).
[4] صحيح ، سنن أبي داود ح (4607) ، سنن الترمذي ح (2676) ، وقال : حسن صحيح. كما أخرج أحمد (4/126-127) والدارمي ح (95).
[5] صحيح مسلم ح (1017).
[6] صحيح مسلم ح (1677) ، وأخرجه أيضاً البخاري ح (3335).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن البدع خطيرة، وشرها مستطير، ما فشت في قوم إلا كانت نذير شؤم وخطر، فكل ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أو عمل على غير مراد الله ورسوله فهو رد، كائنا ما كان، في العبادات، أو المعاملات، أو السياسات، أو الاقتصاد، أو الحكم أو الثقافة، أو غير ذلك.
وقد حذر السلف الصالح، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أشد التحذير منها، ومن مرتكبيها، وقد أوصى الخليفة الراشد، عمر بن عبد العزيز أحد ولاته فقال: (أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه ٍ وترك ما أحدث المحدثون، بعدما جرت به سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة، إلا قد مضى قبلها، ما هو دليل عليها أو عبرة منها، فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتملق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فضلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم).
ثم اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أنه ما ظهرت بدعة وفشت، إلا وأماتت معها سنة من السنن، لأن الأصل في البدعة، أنها لم تظهر إلا بعد ترك سنة، فكانت البدعة كالعلامة الدالة على ترك طريق السنة.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: (ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن).
وروى الإمام أحمد، عن غضيف بن الحارث أنه قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان، فقال: يا أبا سليمان، إنا قد جمعنا الناس على أمرين، فقلت: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد العصر والصبح. فقلت: أما إنها أمثل بدعتكم عندي، ولست بمجيبكم إلى شيء منها. قال: لم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أحدث قوم بدعة، إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة، خير من إحداث بدعة)) [1].
ثم اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن فئاما من الناس، ينشطون للعبادة في شهر رجب، وتتوق أنفسهم لها، كأنما تنحدر من صبب، واستمعوا ـ حفظكم الله ـ إلى كلام الحافظ ابن رجب عن شهر رجب، فقد أتى بما به يُقضى العجب، فقال ـ رحمه الله ـ في لطائفه: (وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة، ولم يصح شيء من ذلك. وأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، لا عن النبي ولا عن أصحابه. والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب، في أول ليلة جمعة من شهر رجب، كذب وباطل لا تصح، وأما الاعتمار فقد أنكرت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن يكون النبي اعتمر في شهر رجب؛ بل هو كغيره من الشهور. وأما الصيام، فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه، شيء عن النبي ولا عن أصحابه).
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ: (وقد أحدث الناس في هذا الشهر عبادات لم يشرعها الله ورسوله، ومن ذلك تعظيم أول خميس منه، وليلة أول جمعة منه فإن ذلك إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة، ولا يجوز تعظيم هذا اليوم؛ لأنه مثل غيره من الأيام).
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية.
[1] مسند أحمد (4/105). وذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" أن إسناده جيد.
(1/467)
الرؤيا
موضوعات عامة
الرؤى والمنامات
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – بقي من النبوة مبشرات الرؤيا الصالحة
2 – انواع الرؤيا والأحلام
3 – عدم التحديث بالرؤيا
4 – تعبير الرؤى على خير تعبير
5 – رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وتفسيرها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله، وكونوا مع الصادقين، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون.
قال تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم [يونس:62-64].
لقد أخبر تعالى في هذه الآيات بمن يستحق أن يكون من أولياء الله؛ فمن كان مؤمناً تقياً كان لله وليا، وبشرهم الله تعالى أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ أي: فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة، وأخبر تعالى أن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
عباد الله!
قال عدد من الصحابة والتابعين: إن المراد بالبشرى هي الرؤيا الصالحة:
فعن عروة بن الزبير بن العوام في قوله تعالى: لهم البشرى في الحياة الدنيا ؛ قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له.
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله : ((لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات)). قالوا: وما المبشرات؟ قال: (( الرؤيا الصالحة)) (1).
عباد الله!
والمسلم يجب أن يكون على بصيرة من أمره، حتى لا يقع في المخالفة من حيث لا يشعر.
وأمر الرؤيا من الأمور التي اعتنى بها السلف الصالح، وقبلهم كان النبي يعتني بها، وكان إذا جلس مع أصحابه؛ سألهم: هل رأى أحد منكم رؤيا؟
وفي هذا الزمن اختلط على كثير من الناس أمر الرؤيا بغيرها، وكثرت الرؤى، واختلط صحيحها بسقيمها، وبياناً للحق، ورداً لضده؛ فإني أقول:
ظن بعض الناس أن كل ما يرى في المنام؛ أنه حق، وهذا نتيجة جهله.
وقد بين النبي ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: ((إذا اقترب الزمان؛ لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزء من النبوة، والرؤيا ثلاثة؛ فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه؛ فإذا رأى أحدكم ما يكره؛ فليقم، فليصل، ولا يحدث بها الناس، قال: وأحب القيد وأكره الغل، والقيد ثبات في الدين)) (1).
قال العلماء: إنما أحب القيد لأنه في الرجلين، وهو كف عن المعاصي والشرور وأنواع الباطل وكره الغل؛ لأن موضعه العنق، وهو صفة أهل النار؛ قال تعالى: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً [يس:8]. وقال تعالى: إذ الأغلال في أعناقهم [غافر:71].
وعن أبي قتادة؛ قال: سمعت رسول الله يقول: ((الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان)) (4).
ومن الناس من إذا رأى شيئاً في منامه؛ حدث أيا من الناس به، سواء كان ما رأى ساراً أم محزناً.
ومنهم من إذا رأى الرؤيا المحزنة، يصاب بضيق في النفس، ويبيت مهموماً على وجهه؛ لسوء ما يرى.
وقد بين النبي علاج ذلك؛ فعن أبي سلمة قال: إن كنت لأرى الرؤيا، فتمرضني، حتى سمعت رسول الله يقول: ((الرؤيا الصالحة من الله؛ فإذا رأى أحدكم ما يحب؛ فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره؛ فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث بها أحداً؛ فإنها لن تضره)) (1).
عباد الله!
وقد يتساءل البعض عن السبب في ذكر الرؤيا الصالحة للمحب وعدم ذكر الرؤيا السيئة؟!
لكن النبي أجاب على ذلك؛ فعن أبي رزين العقيلي؛ قال: قال رسول الله : ((رؤيا المؤمن جزء من ست وأربعين جزء من النبوة، وهي على رجل طائر، مالم يحدث بها؛ فإذا حدث بها؛ وقعت)) (2) ، وفي رواية؛ قال: وأحسبه قال: ((ولا يحدث بها إلا لبيباً أو حبيباً)) (3).
عباد الله!
وينبغى لمن أخبر برؤيا أن يعبرها على خير:
فعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف (يعني: في التجارة)، فأتت رسول الله ، فقالت : إن زوجي غائب، وتركني حاملاً، فرأيت في المنام أن سارية بيتي انكسرت، وأني ولدت غلاماً أعور! فقال: ((خير؛ يرجع زوجك إن شاء الله صالحاً وتلدين غلاماً براً))، فذكرت ذلك ثلاثاً، فجاءت ورسول الله غائب، فسألتها، فأخبرتني بالمنام، فقلت: لئن صدقت رؤياك؛ ليموتن زوجك، وتلدين غلاماً فاجراً. فقعدت تبكي، فجاء رسول الله ، فقال: ((مه يا عائشة! إذا عبرتم للمسلم الرؤيا؛ فاعبروها على خير؛ فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها)) (1).
عباد الله!
ومن الناس من يتلاعب به الشيطان في منامه، ثم يظل يعرض هذا على من يجد من الناس؛ عله يجد تفسيراً يرتاح له، ومن وجد شيئاً من ذلك؛ فعليه كتمانه.
فعن جابر؛ قال: جاء أعرابي إلى النبي فقال: يا رسول الله! رأيت في المنام كأن رأسي ضرب، فتدحرج، فاشتددت على أثره. فقال رسول الله : ((لا تحدث الناس بتلاعب الشيطان بك في منامك)) (2).
وأخبر النبي بعظم إثم من يقول: إني رأيت في منامي وهو كاذب:
فعن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ أن رسول الله قال: ((من تحلم بحلم لم يره؛ كلف أن يعقد بين شعيرتين يوم القيامة، ولن يفعل)) (3).
عباد الله!
وأخبر النبي أن من رآه في المنام؛ فإن رؤياه ليست بأضغاث أحلام، ولا تشبيهات من الشيطان:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله : ((من رآني في المنام؛ فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي)) (4).
عباد الله!
وبالمناسبة؛ فقد شاع في أوساط النساء رؤيا خلاصتها أن امرأة رأت رسول الله في المنام، وقال لها: إن الساعة سوف تقوم قريباً، وعلامة ذلك أن تفتحي مصحفاً قديماً، فتجدي فيه شعرة أو ورقة ممسوحة!! ولم تعلم المرأة التي رأتها، ولا إسنادها!! فمن الناس من يقول: إن تلك المرأة صادقة!! ومنهم يقول: إنها صحيحة!! ومن يأمن أن يكون أحد الدجالين قد أشعاعها؛ ليثير الرعب بين الناس، وليقضي على أوقاتهم بهذه الشائعات؟!
ويا سبحان الله! كانت هذه الرؤيا المشبوهة أبلغ عند بعض الجهلة والجاهلات من قول الله تعالى: وما يدريك لعل الساعة قريب ، وقوله: وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً [الشورى:17]؟! ولم يعلم من نقلها أن ما ادعت تلك المرأة رؤيته في المنام رآه الصحابة في اليقظة، وأخبرهم رسول الله بأمارات الساعة بأحاديث صحيحة.
ولا غرابة في ذلك؛ فهذه الرؤيا تضم إلى شقيقتها المختلفة رؤية الشيخ أحمد المكذوبة.
فليحذر المسلم من أمثال هذه الشائعات، وليحذر من ترويجها.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله فيما تأتون وتذرون.
عباد الله!
إن بعض الناس يهتم جداً بالرؤى، ويتابعها، وينقلها، لكن قد يكون هذا دون تحقق من صحتها، والتحقق أمر مهم؛ لأنه يترتب عليه صحتها من عدمها، وإني أقول لهم: إن فيما ورد في السنة من الرؤى مما صح عن النبي أو عن صحابته غنية عن هذا.
وإليكم عباد الله ما رآه نبيكم ، ولا حرج في تناقلها وتجنب ما جاء فيها:
فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه؛ قال: كان رسول الله مما يكثر أن يقول لأصحابه: ((هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فيقص عليه ما شاء الله أن يقص))، وإنه قال لنا ذات غداة: ((إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق! وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة على رأسه، فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر ها هنا، فيتبع الحجر، فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصبح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به في المرة الأولى، قلت لهما: سبحان الله! ما هذا؟!). قال: (فقالا لي: انطلق انطلق! فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه، فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه). قال: (ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصبح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى). قال: (قلت: سبحان الله! ما هذا؟!). قال: (قالا لي: انطلق انطلق! فانطلقنا، فأتينا على مثل التنور؛ فإذا فيه لغط وأصوات). قال:
(فاطلعنا فيه؛ فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا. قال: (قلت: ما هؤلاء؟). قال: (قالا لي: انطلق انطلق!). قال: (فانطلقنا، فأتينا على نهر أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما سبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر له فاه، فيلقمه حجراً. فينطلق فيسبح، ثم يرجع إليه؛ فيغفر له فاه، فيلقمه حجراً). قال: قلت لهما: ما هذان؟). قال: (قالا لي انطلق انطلق!). قال: (فأتينا على رجل كريه المرآه كأكره ما أنت راء رجلاً، وإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها) قال: (قلت لهما: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق! فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط..)) الحديث.
وفيه قال: ((قلت لهما؛ فإني رأيت منذ الليلة عجباً؛ فما هذا الذي رأيت؟ ). قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر؛ فإنه الرجل يأخذ بالقرآن وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه؛ فإنه الرجل يغدو من سيئة فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور؛ فهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر؛ فإنه أكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآه الذي عند النار يحشها ويسعى حولها؛ فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة؛ فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الولدان الذين حوله؛ فكل مولود مات على الفطرة..)) الحديث (1).
فيا ويح من نام عن الصلاة المكتوبة غير مبال بها!! ويا ويح من يكذب ويشيع الكذب بين الناس!! ويا ويح من قارف الزنى وسلك سبيله!! ويا ويح من أكل الربا!! أما علموا عظم العذاب؟! ألهم جلد على ذلك؟! فليتوبوا إلى الله قبل أن يقول أحدهم: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين [الزمر:56].
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1) رواه البخارى.
(1) رواه مسلم.
(4) رواه مسلم.
(1) رواه الترمذى.
(2) رواه الترمذى.
(3) الحديث أخرجه الترمذى وأبو داود بلفظ : " رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزء من النبؤة، بدلا من ست وأربعين.
(1) رواه الدارمى.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخارى.
(4) رواه الترمذى.
(1) رواه البخارى.
(1/468)
السموم بين التاجر والمستهلك
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – تتابع المؤامرات التي يحيكها أعداء الإسلام
2 – سلاح الإعلام في مواجهة الأمة
3 – دعوة تحرير المرأة
4 – الخمور والمخدرات جزء من مؤامرة أعداء الإسلام لللإسلام
5 – آثار المخدرات على البدن والمجتمع
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، واشكروه على أن هداكم للإسلام الذي هو أعظم النعم على الإنسان، وعضوا عليه بالنواجذ، واعلموا أن كلا منكم على ثغر من ثغور الإسلام؛ فحذار أن يؤتى الإسلام من قبله.
عباد الله!
إن الإسلام منذ بزغ نجمه وأعداؤه يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون من قوة يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [التوبة:32].
وإذا عرف السبب، بطل العجب:
فالله تعالى قال: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم [البقرة:120].
وقال تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [البقرة:217].
وقال تعالى: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكون سواءً [النساء:89].
عباد الله!
لقد أخبر الله تعالى بعداوة الكافرين للمسلمين وبعيد هدفهم.
ولقد حاول أعداء الإسلام أن يقضوا عليه بشتى الوسائل؛ مرة بالعنف بصراع المسلم، ومرة بالأفكار الهدامة.
وفي هذه السنوات إلى يومنا هذا الحالي، أعداء الإسلام في حرب شعواء ضد الإسلام والمسلمين، واستعملوا سلاحاً لهذه الحرب، وهو سلاح الإعلام، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى؛ من مسموع، ومقروء، ومرئي؛ كل ذلك حبا لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ولعل نظرة عابرة في ما تزخر به وسائل الإعلام الكافرة من صحافة وإذاعة وأفلام من طغيان موجة لإباحة الدعارة التي يتفنن اليهود في نفث قذارتها كافية لتصور إلى أي مدى تستقل وسائل الإعلام المعادية للإسلام أسلوب إشاعة الفاحشة، ويظهر ذلك في عشرات – وربما مئات – الأفلام الماجنة التي يسربها اليهود إلى المجتمعات الإسلامية؛ لتكون معولاً يهدم كيان الأمة الإسلامية، وخاصة شبابها.
وهذا الأسلوب من أفتك الأساليب التي يستغلها أعداء الإسلام في تمييع أخلاق الشباب المسلم اليوم.
ولقد تغلغلت تلك الوسائل في عقر دار المسلمين؛ سواء ما كان منها عن طريق علني؛ كبعض الصحف والمجلات والأفلام، أو ما كان عن طريق ملتو؛ كالذي يصل مع العمالة الوافدة، مما يكون أشد قذارة؛ من صور عارية، وأفلام ماجنة داعرة وغير ذلك.
وتؤثر تلك الأفكار المنشورة في صحف الأعداء في بعض أبناء المسلمين، الذين يشيدون بها، وينكرون تعاليم دينهم؛ محاولة لترسم خطا الغرب.
وظهر ذلك على صفحات بعض الصحف التي تصدر في بلاد المسلمين؛ فبين الحين والآخر يصر بعضهم على إشعال ما يسمى بقضية المرأة تحت دعاوى مختلفة، ومن حين لآخر تطالبنا الحملات الصحفية والإعلامية بحمل لافتات عريضة تتحدث عن تحرير المرأة، والانتقال بها من تخلفات القرون الوسطى المظلمة – كما يدعون – إلى أنوار القرن العشرين المتلألئة!!
وبحار المرء حقا حين يربط بين هذه الدعاوى وبين واقع الأمة ككل؛ فالذين يولون وجوههم شطر ما يسمى بقضية المرأة لا يعيرون قضايا الأمة الإسلامية الأساسية اهتماماً يذكر، بل إنهم في غالب الأحيان يتحالفون مع الخطط الشيطانية التي يصنعها أعداء الأمة وتقررها أجهزتهم، بل إن الكثيرين منهم لا يعدون أن يكونوا أعوانا لسادتهم في المعسكرين الكبيرين، يتباكون على واقع المرأة والمرأة ليست بحاجة إلى تباكيهم.
أين هم من قضايا المسلمين وقضايا الأمة الإسلامية؟!
إنهم يأتون إلينا – مع الأسف – بأخبار أي داعرة في العالم تصاب بنزلة برد، أو حتى عطل في سيارتها، أو موت مغن يملأ اسمه صفحات الصحف!!
أين هم من أخبار أفغانستان ومآسي أفغانستان وأخبار الجهاد الأفغاني لينقلوها إلى المسلمين في كل مكان؟!
أين هم من الجرائم التي يرتكبها اليهود في فلسطين وفي لبنان وغيرها؟!
أين هم مما يتعرض له المسلمون في الفلبين وفي الهند وفي الحبشة وأرتيريا والبوسنة والهرسك وبلغاريا، وغيرها من البلاد؛ حيث ينهمر الدم الإسلامي بدون حساب، وتزهق الأرواح المسلمة بدون حساب، وتترك الجثث طعاماً للخنازير؟!
إن مآسي المسلمين هذه لا تجد بضع سنتيمترات في صحفنا أو دقائق في إذاعاتنا على حد قول القائل:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
أما علم دعاة تحرير المرأة أن الإسلام هو أول من حرر المرأة تحريراً حقيقياً وأول من خرج بها من ظلمات الجاهلية إلى أضواء الحق والسكينة؟!
ثم: هل المرأة الآن معطلة؟!
إنها تعمل فيما يلائمها في ظل الشرع؛ لتدريس بنات جنسها.
وما أحسب الملحين على ما يسمى بتحرير المرأة؛ إلا باحثين عن هدف غير خير!!
وخير مثال وأكبر دليل على ذلك دندنتهم حول تدريس المرأة للطلاب في الصفوف التعليمية الأولى، وجعلها مختلطة ببنين وبنات، والتي كلما برد صوتها؛ أعادت صرختها من جديد!!
ففي هذه الأيام ويلات رائحتها تفوح من أفواه من يعنون بشؤون المرأة، ولكن بحول الله لن يتم لهم ما يريدون، وهي شرارة إن تركت؛ أتت على الرطب واليابس، ولكن ولاة الأمور– وفقهم الله لإزالة الشر وقمع الأشرار – لهؤلاء بالمرصاد.
فالذين يدندنون حول قضايا المرأة هم أعداء المرأة، وليكن لهم العبرة في تجربة الشيوعيين في أفغانستان؛ فعندما تولوا الحكم بمساعدة الدبابات الروسية؛ كان أول هدف لهم نزع المرأة الأفغانية المسلمة من بيتها باسم العلم والحرية، أرغموها على خلع الحجاب والاختلاط بالرجال من غير ما ضرورة أو مبرر، وقد حصدوا نتيجة سلوكهم الإجرامي عندما تضاعف عدد المجاهدين والمجاهدات أيضاً ضد الحكم الشيوعي؛ فهؤلاء لن يحصدوا من دعوتهم إلى خروج المرأة إلا زيادة تمسك من المرأة بدينها.
ومن سهام أعداء الإسلام التي وجهوها إلى المرأة المسلمة بغية إفساد أخلاقها تلك الأزياء الفاضحة من الملابس التي تصف جسم المرأة أو تشفه – أى: إما أن تكون ضيقة، أو شفافة، أو مفتوحة من الأطراف، أو قصيرة – وكذلك تلك المجلات التي بدأت تنشر في بلادنا تبعا لبيوت الأزياء ومحلات التجميل.
ومن ذا الذي يقف وراء بيوت الأزياء، ووراء دكاكين التجميل، ووراء ستار التعري والتكشف، ووراء الأفلام والصور والمجلات وغيرها من أشكال الإعلام؟!
إن الذي يقف وراء هذا كله في العالم هم اليهود أهدافهم تلهية العالم بهذا الشعار وأشباهه، وإشاعة الانحلال النفسي والخلقي من ورائه وإفساد الفطرة البشرية، وجعل المرأة ألعوبة في أيدى مصممي الأزياء والتجميل، ثم تحقيق الأهداف الاقتصادية من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل وسائر الصناعات الكثيرة التي تقوم على هذا الشعار وتغذيه.
وقد خدم هؤلاء الأعداء بعض المسلمين؛ فبدؤوا يتاجرون بهذه السموم، وكثر المستهلكون لتلك السموم، فاستوردوا مجلات الأزياء التي أقل ما فيها كشف العورات والتشبه بلباس الكافرات، وباعوها لنساء المسلمين، وفتح بعضهم محلات للخياطة على تلك الهيئة، بل وصل الأمر إلى توزيع ما يحمل صور تلك الأزياء بالمجان، وأقرب دليل على ذلك هو ما وزع برفقة جريدة الرياض بعددها الصادر يوم السبت الثاني من ربيع الأول؛ حيث وضع في كل عدد من أعدادها دليل لتلك الأزياء، يعرض صوراً لنساء كاسيات عاريات وقد ذكر فيه أن الطلبات ترسل بالبريد.
والذي يتساءل عنه كل مسلم غيور: ما الذي حدا بالجريدة إلى هذا العمل ؟! أهو المجاهرة في الدعوة إلى الفساد؟! أم حبا لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ؟! ولكن؛ من أمن العقوبة؛ أساء الأدب.
عباد الله!
ولقد أصبح أعداء الإسلام يصدرون السموم ويتاجرون بها في بلاد المسلمين وينشرونها بين المسلمين؛ لتفتك بهم؛ فصدروا إلينا آلات اللهو؛ من شريط غناء ماجن، وفلم داعر، وأغروا بها بعض المسلمين ممن همهم اكتساب المال من أي طريق، فاستوردوها، وروجوها بين المسلمين، وهي تحمل السم الزعاف، وساعدهم أناس، فبذلوا لهم محلاتهم ليبيعوها فيها، والله أمر بالتعاون على البر والتقوى، وهؤلاء تعاونوا على الإثم والعدوان؛ فهؤلاء بحق هم تجار السموم!!
وتلك الأفلام أدت إلى الأعمال الإجرامية، وخدمت أعداء الإسلام، وفتكت بأبناء الإسلام؛ فهي مدرسة الفساد؛ إن نظرت إلى التبرج؛ فهي داعية إليه، وإن نظرت إلى الاختلاط بين الرجال والنساء فهى رائدة فيه، وإن نظرت إلى العلاقات الحرة بين الرجال والنساء وسلوك الطرق الملتوية إليها؛ فهي الدليل لذلك، وإن نظرت إلى انحلال الشباب وتفسخهم؛ وجدتها مدرسة في ذلك.
ويا سبحان الله!! نحن نعيش في زمن متناقض؛ ندخل أولادنا وبناتنا للمدارس لتعليمهم ما ينفعهم وتأديبهم على الأخلاق الحسنة وتفتح المدارس من أجل ذلك، ومع ذلك نشتري بأموالنا ما يقضي على ذلك من تلك الأفلام، ويمكث الولد أو البنت أمام هذه الأفلام أكثر مما يمكث في المدرسة!!
ألا فليعلم الذي يعمل هذا أنه إنما يساعد على تنفيذ مخطط الأعداء وسط بيته، وقد كفاهم هم أسرته وغوايتها!!
فكم من بنت مسكينة بريئة وقعت فريسة للشيطان من جراء تلك الأفلام!!
وكم حدث من الأضرار الفادحة من خلال محاكاة ما في تلك الأفلام من دعارة!!
عباد الله!
مآس يندى لها الجبين، خطط الأعداء تنفذ محكمة في بلادنا، ويساعد على ذلك حفنة من الناس ممن قل وضعف وازعهم الديني، ونخشى إن استمرت القافلة في هذا الطريق أن يسلط علينا الأعداء أعظم من ذلك؛ كما حدث لغيرنا.
اللهم! حلمك، اللهم! رحمتك.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، واحذروا من سهام أعدائكم أن تفتك بكم على غرة فلقد كثرت سهامهم في هذا الوقت العصيب.
ألا وإن من سهامهم أيضاً، بل ومن السموم التي تاجر بها الأعداء في بلادنا، ذلك الداء الوبيل والشر المستطير، ذلك هو داء المخدرات، للبلاد الإسلامية، وإذا تغلغلت المخدرات إلى بلد أو انتشرت بين أفرادها؛ فقل: عليها الفناء!!
والمخدرات هي سبب كل فتنة وشر وبلاء؛ فقلما نجد إحصائية عن مخاطر الأمراض النفسيه والعصبية؛ إلا وللمخدرات دور كبير في سبب الحدوث وكيفيته. وقلما تتابع أخباراً عن الانحراف الخلقي والفساد الاجتماعي؛ إلا والمخدرات المحرك له والساعي خلفه، بل خلف الموبقات كلها، ومن يتابع المعلومات عن الجريمة ووسائلها المخيفة وطرقها المفزعة للنفس والمزعزعة للأمن والمقلقة للراحة؛ فإنه سيجد للمخدرات دوراً كبيراً في توسيع الدائرة وإزعاج النفوس.
وقد جاء الإسلام بمحاربة المخدرات ومكافحة أخطارها؛ لما تحمل من شرور وما ينتج عنها من أضرار؛ إذ إن دين الإسلام لا يشدد في شيء إلا لمصلحة، ولا يعاقب على فعل إلا لما فيه من ضرر يجب اجتنابه، فيدافع ذلك الضرر بالعقوبة البالغة.
وإذا كان اليهود الذين عرفوا بالشرور في كل مكان خلف أي فساد خلقي؛ فإن المعلومات الاستقصائية توضح أن تجار المخدرات وصانعيها ومهربيها وزارعيها خلفهم يهود سخروا أموالهم وتفكيرهم لذلك، كما كانوا خلف مصانع الخمور في العالم، وأفلام العري والخلاعة وما إليها؛ لأنهم شعب أشربت نفوسهم بحب المال، ولا يهمهم الطريق الموصل إليه، وعلاوة على ذلك؛ فإن لهم هدفاً آخر، أملاه عليهم شرهم المستطير وحقدهم الدفين على الإسلام وأهله، وذلك بالقضاء على مقومات شباب الأمة، وإفساد ناشئة المسلمين، الذين هم رجال الغد؛ فهم يرون أنهم لن يسيطروا ويقوى نفوذهم إلا بذلك كفى الله شباب الإسلام من شرورهم وحماهم من مخططاتهم.
والبدن ليس ملكاً للإنسان يتصرف فيه كيف يشاء، بل يجب المحافظة عليه ووقايته من كل ضرر، ولا شي أشد ضرراً على البدن من تعاطي المخدرات.
فمن أضرارها أنها تحول كثيراً من الشباب الصغار إلى مدمنين ذوي إرادات مدمرة وعزيمة منهارة؛ بحيث يصبحون ألعوبة بأيدي تجار السموم، الذين لا يتورعون عن توجيههم إلى ارتكاب أبشع الجرائم في حق أهليهم ومجتمعهم.
ويكفي أن نعلم أن أول ما يتأثر في جسم الإنسان من المخدرات هو الجهاز العصبي، هذا الجهاز الذي يسيطر على أجهزة الجسم المختلفة وتأثره بهذه المخدرات يربك الوظائف التي يؤديها وبالتالي يفقد الإنسان توازنه الداخلي، وقد تؤدي الجرعات الكبيرة إلى الغيبوبة، وأحيانا إلى الوفاة.
ومن أخطر آثار المخدرات إضعاف القدرة على التركيز والانتباه، ولعلنا نتذكر المآسي الخطيرة الناتجة عن حوادث السيارات المروعة من قتل وإعاقة للسائقين أنفسهم ولأبرياء آخرين.
وبجانب المآسي السلوكية التي تحيط بالفرد المدمن على المخدرات نجد أن هذه المآسي تتسع لتشمل أفراد أسرته، والوصول بها إلى الطلاق، وبالأولاد إلى التشرد والضياع.
عباد الله!
إن أعداء الإسلام لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، يحاولون الفتك بالمسلمين وبشباب الإسلام، حتى إنهم لجؤا إلى طريقة في تصنيع المخدرات، يكون تناولها وحملها سهلاً على الصغار قبل الكبار، وذلك ما يسمى بالحبوب المخدرة التي قد صغروا حجمها ليسهل حملها، ولكن ضاعفوا السموم فيها، حتى انتشرت لدى كثير من شباب المسلمين مع الأسف، وجعلت بعضهم وديع المستشفيات النفسية وبعضهم وديع السجون أو دور الملاحظة.
وتقوم العمالة الوافدة الكافرة التي تعمل داخل البيوت بالجهد الكثير في نشر هذا البلاء في صفوف من يقيمون بينهم؛ لأنهم سفراء في بلادنا لنشر الفساد.
فكم صغير جنى عليه أبوه بسبب استقدامه لذلك النوع من العمالة، فجعله فريسة لأعدائه !! ولا شك أنه سيسأل عما صنعت يداه في فلذة كبده.
إن كثيراً من أبناء المسلمين قد وقعوا ضحايا للمخدرات، ودخلوا ميدان الإدمان عن طريق التقليد والمحاكاة لأناس مجرمين قد أعمتهم شهوة جمع المال؛ بحيث أصبح الواحد منهم لا يبالى من أي طريق يجمعه، حتى ولو كان هذا الطريق محطماً لشباب صغار في عمر الزهور، حتى ولو كان قاضياً على أسر بأكملها ومعرضاً أفرادها للضياع.
ويعلم الله كم ازدادت مشاكلنا حينما فتح علينا الأعداء هذا البلاء وحينما وفد إلينا الأعداء.
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/469)
العلم بـ لاإله إلا الله والزواج
الأسرة والمجتمع, التوحيد
شروط التوحيد, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
11/7/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
شروط لا إله إلا الله التي ينتفع بها العبد : الشرط الأول : العلم بمعناها : معنى هذا الشرط
وأهميته – العلم بها إجمالاً وتفصيلاً – العلم بفضلها ووصفها في القرآن وأنها العروة الوثقى
والكلمة الطيبة والكلمة الحسنى والمثل الأعلى – العلاقة بين مسألة الزواج والإكثار من النسل -
مشروعية التعدد والتسليم لحكم الله , وشبهات أذناب الفرنج حوله – بديل التعدد المشروع عند
الفرنج وأذنابهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد بينا فيما مضى أن لا إله إلا الله إنما ينتفع بها صاحبها بسبعة شروط ذكرناها على سبيل الإجمال وهى العلم بمعناها واعتقاد واليقين في هذا الاعتقاد والصدق فيه والإخلاص والانقياد والمحبة، أي محبة معنى هذه الكلمة ومدلولها ومحبة أهلها العاملين بها وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلون وعلى رأس الأنبياء والمرسلين خاتمهم وإمامهم سيدنا محمد هذه هي الشروط السبعة بيناها على وجه الإجمال.. ولنبدأ منذ اليوم بعون الله عز وجل بيانها على وجه التفصيل.
فنبدأ بالشرط الأول الذي هو العلم بمعنى لا إله إلا الله.
يجب عليك يا مسلم أن تعلم معنى لا إله إلا الله ومدلولها حتى تعتقده وتستيقنه وتعمل به وتعمل بمقتضاه أما إذا لم تعلم معناها ماذا تعتقد إذن وماذا تستيقن وتعمل به وتعمل بمقتضاه ، يجب عليك يا مسلم أن تعلم معنى لا إله إلا الله ولو على سبيل الإجمال ولكن كما أنه لا يستوي من يعلم معنى لا إله إلا الله ومن لا يعلم معناها فإنه لا يستوي أيضًا من يعلم معناها على وجه الإجمال، ومن يعلم معناها على وجه التفصيل: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب [الزمر:9].
فعموم المسلمين عليهم أن يعلموا معنى هذه الكلمة ولو على وجه الإجمال. إذ ليس كل أحد يقدر على أن يعرف التفصيل.
أما علم التفصيل فالغالب أنه يختص به العلماء، فالعلماء يعلمون من أسرار هذه الكلمة ومدلولاتها ما يزيد خشيتهم لله عز وجل وتعظيمهم له وحبهم له، وخوفهم من عقابه وحسابه، قال سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر:28].
أتراه يريد العلماء بالنحو أو الشعر، العلماء بالفيزياء أو الكيمياء العلماء بالهندسة أو الطب كلاّ إنما أراد في هذه الآية العلماء بـ "لا إله إلا الله" هؤلاء العلماء هم الذين يصفهم الرب في كتابه بهذا الوصف دائمًا، ويسميهم أولي العلم وأهل العلم وقد قرن شهادتهم بشهادته عز وجل وشهادة ملائكته في قوله سبحانه: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم [آل عمران:18].
عليك يا مسلم أن تعلم أن لا إله إلا الله هي العروة الوثقى التي ذكرها الله عز وجل في قوله: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها [البقرة:256].
وهى العهد الذي ذكره في قوله: لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا [مريم:78]. وهى كلمة الحق التي ذكرها في قوله عز وجل: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون. وهى كلمة التقوى المذكورة في قوله عز وجل: وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها [الفتح: 27].
وهى الكلمة الطيبة المذكورة في قوله عز وجل: ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء [إبراهيم: 24].
فأصل هذه الكلمة "لا إله إلا الله" أصلها الذي هو الإيمان ثابت في قلب كل مؤمن وفرعها الذي هو العمل الصالح في السماء صاعد إلى الله عز وجل.
وهذه الكلمة هي الحسنى المذكورة في قوله سبحانه: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى [الليل: 5-7] وهى الحسنة على أحد التفسيرين هي الحسنة المذكورة في قوله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [الأنعام:160]. قاله زين العابدين وإبراهيم النخعي رحمهما الله.
وعن أبي ذر رضى الله عنه مرفوعًا إلى النبي قال: ((هي أحسن الحسنات وهى يمحو الله بها الذنوب والخطايا ويمحو الله بها الذنوب والخطايا)) [1].
وهى المثل الأعلى المذكور في قوله عز وجل: ولله المثل الأعلى في السموات والأرض
[النحل:60].
قاله قتادة ومحمد بن جرير ورواه مالك عن محمد بن المنكدر رحمهم الله.
ثم اعلم أن لا إله إلا الله هي سبيل النجاة حقق معناها واستوفِ شروطها واعمل بمقتضاها ثم أبشر بعد ذلك بالنجاة فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن النبي سمع مؤذنًا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله فقال : ((خرجت من النار)) [2]. صدق رسول الله.
هذه الأوصاف الكثيرة المتنوعة في القرآن الكريم التي وصف الله بها هذه الكلمة العظيمة كلمة الشهادة ومفتاح دار السعادة: "لا إله إلا الله" أراد الله جل جلاله بها تنبيه العباد إلى عظم قدر هذه الكلمة وجلال معناها فهي مدار رسالات الرسل وما أنزل عليهم من وحي وكتب ما بعث الله نبيًا ولا رسولاً في أي أمة من الأمم إلا وصلب رسالته وجوهر دعوته لا إله إلا الله، قال الله عز وجل: وما أرسلنا قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [النحل:25] وقال سبحانه وتعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل:36] وهذا هو معنى لا إله إلا الله، عبادة الله وحده والكفر بالطاغوت.
وسنبين إن شاء الله تعالى في الجمعة القادمة شيئًا مما في معناها من النفي والإثبات أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[2] صحيح مسلم (382) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: لماذا أثرنا مسألة الزواج والتعدد، بينما كان حديثنا عن الأولاد وتربية الأولاد، كان ذلك لأمور منها الصلة الوثيقة بين إكثار النسل والاستكثار من الذرية والأولاد التي دعانا إليها الحبيب المصطفى وبين مسألة الزواج والتعدد ومنها أننا أردنا تنبيه أخواتنا المؤمنات إلى شرط الانقياد ومقتضى الاعتقاد وثمرة اليقين في لا إله إلا الله.
فالمؤمنة التي تعلم معنى لا إله إلا الله وتعتقده وتؤمن به وتستيقنه وتنقاد لمدلوله ومقتضاه كالمؤمنة التي هذا حالها لا تشك في أي حكم من أحكام الله عز وجل ولا تناقشه أو تعانده، والله سبحانه الخبير بعباده قد شرع لنا شريعة الزواج مطلقًا ولو بواحدة وجعله واجبًا على كل قادر.
ثم شرع شريعة التعدد، حكم التعدد وجعله سنة وعزيمة ندب إليه القادرين عليه من أهل الوفاء والعزيمة والعدل، إنه ولو لم يوجب هذه السنة عليهم لكنه ندبهم إليها ورغبهم فيها والله عز وجل إذا حكم بحكم، بالمؤمن والمؤمنة يعلمون جميعًا أن في حكم الله العدل والرحمة، وفيه المصلحة كل المصلحة.
يجب أن تعلم المؤمنة أن التعدد حكم نص الله عليه في كتابه وفعله حبيبه المصطفى ولو كان في التعدد أي ظلم للمرأة أو بخس لحقها ما حكم الله به ولا فعله الحبيب المصطفى ونحن هنا لسنا بصدد تبرير هذا الحكم وبيان ما يترتب عليه من مصالح وإنما نريد أن نشير إلى أنه مما دفعنا إلى إثارة هذه المسألة ما لاحظناه أخيرًا من أن هناك في مجتمعاتنا أصواتًا خبيثة للمنافقين أذناب الإفرنج بدأت ترتفع لتصور للمؤمنين والمؤمنات لتصور لهم شريعة التعدد على أنها ظلم للمرأة وقهر للزوجة الأولى صرنا نطالع ذلك أحيانًا في بعض الصحف والمجلات وقد نشاهده في بعض المسلسلات التليفزيونية أو التمثيليات والبرامج الإذاعية وربما ألف أذناب الإفرنج في ذلك كتبًا، أو قصصًا وربما أنشأوا من أجله جمعيات ماذا يريد أذناب الإفرنج أذناب أمريكا وأوربا، أذناب اليهود والنصارى، ما هو البديل عندهم للتعدد الشرعي الذي شرعه الله عز وجل، البديل عند أذناب الإفرنج هو الانحلال والإباحية فبدلاً من تعدد الزوجات الشرعي تعدد الزوجات معززات مكرمات لأن الشرع وإن أباح للزوج أن يتزوج بأكثر من امرأة فإنه ضمن للمرأة حقها فألزم الرجل بالعدل بينهن، وأداء حقوقهن، البديل لهذا عند أذناب الإفرنج هو تعدد الخليلات والعشيقات والمومسات أي الفساد العريض والفتنة الكبرى.
دمار الأخلاق وضياع الأنساب والأعراض وانتشار الجرائم وخاصة جرائم الفواحش والزنا والاغتصاب كما هو المشاهد الملموس في بلاد الإفرنج وما لحقها من بلاد المسلمين، هذا هو البديل عند أذناب الإفرنج لحكم الله عز وجل.
فأين يكمن العدل وأين تكمن المصلحة، يا مؤمنة ويا مؤمن أهو في هذا البديل الذي يريده ويدعو إليه ويخطط له المنافقون من أذناب الإفرنج في مجتمعاتنا يريدون زوجة واحدة ينصرف عنها زوجها إلى عشرات الخليلات، ومئات المومسات كما هو المشاهد الملموس في بلاد الغرب، في أمريكا وأوربا وغيرها من البلاد الإفرنجية.
وتلك الحكومات التي حرمت التعدد الشرعي، حرمت التعدد الشرعي في بلادها أباحت في مقابل ذلك البغاء بشكل مباشر أو غير مباشر، وفتحت المجال للمومسات، أين يكمن العدل وتكمن المصلحة أيها المؤمنون والمؤمنات، ومتى هي المرأة مظلومة مقهورة أتحت ظل حكم الله عز وجل؟ أم تحت ظل هذا البديل الخبيث الذي يدعوها إليه أذناب الإفرنج؟. قال الله عز وجل: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا [النساء:27].
أن تميلوا عن منهج شرع الله وعن حكم الله وعن فطرة الله التي فطر الناس عليها هذا هو ما يريده أتباع الشهوات وحبيس الشهوات من أتباع الإفرنج: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفًا [النساء:28].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة والجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ولو كنا قلة على ذلك ومن شذ شذ في النار.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/470)
ولذكر الله أكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذكر حياة القلوب وجلاؤها. 2- فضيلة عبادة الذكر. 3- دور الذكر في حرب المؤمن
للشيطان. 4- دور الذكر في عون المؤمن على شؤونه الدنيوية. 5- الذكر يكون على كل حال.
6- الذاكرون الغافلون. 7- مجالس الغفلة عن ذكر الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل ، اتقوه في السر والعلن ، اتقوه واعبدوه ، واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
أيها الناس :
إن قلوب البشر طُرا ، كغيرها من الكائنات الحية ، التي لا غنى لها عن أي مادة من المواد التي بها قوام الحياة والنماء ، ويتفق العقلاء جميعا ، أن القلوب قد تصدأ كما يصدأ الحديد ، وأنها تظمأ كما يظمأ الزرع ، وتجف كما يجف الضرع ؛ ولذا ، فهي تحتاج إلى تجلية وري ، يزيلان عنها الأصداء والظمأ ، والمرء في هذه الحياة ، محاط بالأعداء من كل جانب ؛ نفسه الأمارة بالسوء ، تورده موارد الهلكة ، وكذا هواه وشيطانه ، فهو بحاجة ماسة ، إلى ما يحرزه ويؤمنه ، ويسكن مخاوفه ، ويطمئن قلبه. وإن من أكثر ما يزيل تلك الأدواء ، ويحرز من الأعداء ، ذكر الله والإكثار منه لخالقها ومعبودها ؛ فهو جلاء القلوب وصقالها ، ودواؤها إذا غشيها اعتلالها.
قال ابن القيم رحمه الله : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : الذكر للقلب مثل الماء للسمك ، فكيف يكون السمك إذا فارق الماء ؟
عباد الله :
العلاقة بين العبد وبين ربه ليست محصورة في ساعة مناجاة في الصباح ، أو في المساء فحسب ، ثم ينطلق المرء بعدها ، في أرجاء الدنيا غافلا لاهيا ، يفعل ما يريد دون قيد ولا محكم ؛ كلا هذا تدين مغشوش ، العلاقة الحقة ، أن يذكر المرء ربه حيثما كان ، وأن يكون هذا الذكر مقيدا مسالكه بالأوامر والنواهي ، ومبشراً الإنسان بضعفه البشري ، ومعينا له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه.
لقد حث الدين الحنيف ، على أن يتصل المسلم بربه ، ليحيا ضميره ، وتزكوا نفسه ، ويطهر قلبه ، ويستمد منه العون والتوفيق ؛ ولأجل هذا ، جاء في محكم التنزيل والسنة النبوية المطهرة ، ما يدعوا إلى الإكثار من ذكر الله عز وجل على كل حال ؛ فقال عز وجل : يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً [سورة الأحزاب:41-42].
وقال سبحانه : والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا ًعظيماً [سورة الأحزاب:35]. وقال جل شأنه : واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون [سورة الأنفال :45]. وقال تعالى : فاذكروني أذكركم [سورة البقرة:152]. وقال سبحانه: ولذكر الله أكبر [سورة العنكبوت :45].
وقال : ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم )) متفق عليه.
وقال : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا : وذلك ما هو يا رسول الله ، قال :. ذكر الله عز وجل )) رواه أحمد.
وقال : ((من قال : سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة )) رواه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه.
عباد الله :
ذكر الله تعالى ، منزلة من منازل هذه الدار ، يتزود منها الأتقياء ، ويتجرون فيها ، وإليها دائما يترددون ، الذكر قوت القلوب الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا ، وعمارة الديار التي إذا تعطلت عنه صارت دورا بورا ، وهو السلاح الذي يقاتل به قطاع الطريق ، والماء الذي يطفأ به لهب الحريق.
بالذكر أيها المسلمون ، تُستدفع الآفات ، وتستكشف الكربات ، وتهون به على المصاب الملمات ، زين الله به ألسنة الذاكرين ، كما زين بالنور أبصار الناظرين.
فاللسان الغافل ، كالعين العمياء ، والأذن الصماء ، واليد الشلاء.
الذاكر الله ، لا تدنيه مشاعر الرغبة والرهبة من غير الله ، ولا تقلقه أعداد القلة والكثرة ، وتستوي عنده الخلوة والجلوة ، ولا تستخفه مآرب الحياة ودروبها.
ذكر الله عز وجل ، باب مفتوح بين العبد وبين ربه ، ما لم يغلقه العبد بغفلته.
قال الحسن البصري رحمه الله : تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة ، وفي الذكر ، وقراءة القرآن ، فإن وجدتم ، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق.
إن الذنوب كبائرها وصغائرها لا يمكن أن يرتكبها بنو آدم ، إلا في حال الغفلة والنسيان لذكر الله عز وجل ؛ لأن ذكر الله تعالى ، سبب للحياة الكاملة التي يتعذر معها أن يرمي صاحبها بنفسه في أتون الجحيم ، أو غضب وسخط الرب العظيم ، وعلى الضد من ذلك ، التارك للذكر ، والناسي له ، فهو ميت ، لا يبالي الشيطان أن يلقيه في أي مزبلة شاء.
قال تعالى : ومن يعْشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين [سورة الزخرف:36]. وقال تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى [سورة طه :124].
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، فإذا ذكر الله خنس.
وكان رجل رديف النبي على دابة ، فعثرت الدابة بهما ، فقال الرجل: تعس الشيطان ؛ فقال له النبي : ((لا تقل : تعس الشيطان ؛ فإنه عند ذلك يتعاظم حتى يكون مثل البيت ، ولكن قل : بسم الله. فإنه يصغر عند ذلك حتى يكون مثل الذباب )) رواه أحمد وأبو داود وهو صحيح.
وحكى ابن القيم رحمه الله عن بعض السلف ، أنهم قالوا : إذا تمكن الذكر من القلب ، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإنسي ، كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان ، فيجتمع عليه الشياطين ، فيقولون : ما لهذا ؟ فيقال : قد مسه الإنسي.
الإكثار من ذكر الله ، براءة من النفاق ، وفكاك من أسر الهوى ، وجسر يصل به العبد إلى مرضاة ربه ، وما أعده له من النعيم المقيم ، بل هو سلاح مقدم ، من أسلحة الحروب الحسية التي لا تثلم ، فقد ثبت عن النبي في فتح القسطنطينية : (( فإذا جاءها نزلوا ، فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم ، قالوا : لا إله إلا الله والله أكبر ؛ فيسقط أحد جانبيها ، ثم يقولوا الثانية : لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر ، ثم يقولوا الثالثة : لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا.. الحديث )) رواه مسلم في صحيحه.
أيها الناس :
ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال ، وأطهر ما يمر بالفم ، وتنطق به الشفتان ، وأسمى ما يتألق به العقل المسلم الواعي ، والناس بعامة قد يقلقون في حياتهم أو يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم من كل جانب ، وهم أضعف من أن يرفعوها إذا نزلت ، أو يدفعوها إذا أوشكت ، ومع ذلك فإن ذكر الله عز وجل ، يحيي في نفوسهم استشعار عظمة الله ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن شيئا لن يفلت من قهره وقوته ، وأنه يكشف ما بالمعنى إذا ألم به العناء ، حينها يشعر الذاكر بالسعادة وبالطمأنينة يغمران قلبه وجوارحه الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [سورة الرعد:28].
أيها المسلم :
لا تخش غما ، ولا تشك هما ، ولا يصبك قلق ، ما دام قرينك هو ذكر الله. يقول جل وعلا في الحديث القدسي : (( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم )) رواه البخاري ومسلم.
واشتكى علي وفاطمة رضي الله عنهما إلى رسول الله ، ما تواجهه من الطحن والعمل المجهد ، فسألته خادما ، فقال رسول الله : ((ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم ، إذا أويتما إلى فراشكما ، فسبحا الله ثلاثا وثلاثين ، واحمداه ثلاثا وثلاثين. وكبراه أربعا وثلاثين ؛ فتلك مائة على اللسان وألف في الميزان )).
فقال علي : ما تركتها بعدما سمعتها من النبي ، فقال رجل : ولا ليلة صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين. رواه أحمد وليلة صفين : ليلة حرب ضروس دارت بينه وبين خصومه رضي الله عنهم أجمعين.
عباد الله :
لو كلف كل واحد منا نفسه ، في أن يحرك جفنيه ، ليرى يمنة ويسرة ، مشاهد متكررة ، من صرعى الغفلة وقلة الذكر ، أفلا ينظر إلى ظلمة البيوتات الخاوية من ذكر الله تعالى ، أولا ينظر إلى المرضى المنكسرين ، أوكلهم الله إلى أنفسهم لما نسوه ، فلم يجبروا عظما كسره الله، وازدادوا مرضا إلى مرضهم ، أولا ينظر إلى المسحورين والمسحورات ، وقد تسللت إليهم أيدي السحرة والمشعوذين ، والدجاجلة الأفاكين ، فانتشلوا منهم الهناء والصفاء ، واقتلعوا أطناب الحياة الهادئة ، فخر عليهم سقف السعادة من فوقهم.
أو لا يتفكر الواحد منكم في أولئك المبتلين بمس الجان ومردة الشياطين يتوجعون ، ويتقلبون تقلب الأسير على الرمضاء ، تتخبطهم الشياطين من المس فلا يقر لهم قرار ، ولا يهدأ لهم بال ، أرأيتم عباد الله ، لو كلف كل واحد منكم نفسه بهذا ، أفلا يُسائل نفسه أين هؤلاء البؤساء من ذكر الله عز وجل ؟! أين هم جميعا من تلك الحصون المكينة ، والحروز الأمينة ، التي تعتقهم من عبودية الغفلة والأمراض الفتاكة ؟!! أما علم هؤلاء جميعا ، أن لدخول المنزل ذكرا وللخروج منه ؟! أما علموا أن للنوم ذكرا وللاستيقاظ منه ؟! أو ما علموا أن للصباح من كل يوم ذكرا ، وللمساء منه ؟ ! بل حتى في مواقعة الزوج أهله ، بل وفي دخول الخلاء – أعزكم الله – والخروج منه ؟ بل وفي كل شيء ذكر لنا منه الرسول أمرا ، علمه من علمه وجهله من جهله.
والواقع أيها الناس ، أنه إنما خذل من خذل من أمثال هؤلاء الغافلين ، لأنهم على عجزهم وضعفهم ، ظنوا أنفسهم شيئا مستقلا ، لا سباق لهم في ميدان ذكر الله ، بينما نجد آخرين عمالقة في قوتهم ، وهم من ذلك ، يرون أنفسهم صفرا من دون ذكر الله تعالى ، فكانت النتيجة أن طرح الله البركة واليمن على من ذكروه ، فنجوا وأفلحوا ، ورفع رضوانه وتأييده عمن اعتز بنفسه ، فتركه مكشوف السوءة عريان العورة.
وفي حضارتنا المعاصرة ، كثر المثقفون ، وشاعت المعارف الذكية ، ومع ذلك كله ، فإن اضطراب الأعصاب وانتشار الكآبة داء عام. ما الأمر وما السبب في ذلك ؟ إنه خواء القلوب من ذكر الله ، إنها لا تذكر الله كي تتعلق به وتركن إليه ، بل كيف تذكر ، من تتجاهله ؟!!!
إن الحضارة الحديثة ، والحياة المادية الجافة ، مقطوعة الصلة بالله إلا من رحم الله ، والإنسان مهما قوي فهو ضعيف ، ومهما علم فعلمه قاصر وحاجته إلى ربه أشد من حاجته إلى الماء والهواء ، وذكر الله في النوازل عزاء للمسلم ورجاء الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [سورة الرعد :28]. ولو تنبه المسلمون لهذا ، والتزموا الأوراد والأذكار ، لما تجرأ بعد ذلك ساحر ، ولا احتار مسحور ، ولا قلبت بركة ، ولا تكدر صفو ، ولا تنغص هناء.
عباد الله :
هناك من الناس من يذكرون الله ، ولكنهم لا يفقهون معنى الذكر ، فتصبح قلوبهم بعيدة عن استشعار جلال الله ، وقدره حق قدره ، وذكر الله عز وجل ، كلام تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، غير أن الناس مما ألفوا منه ، وما جهلوا من معناه ، لا يرددونه إلا كما يرددون كلاما تقليديا ، وإلا فهل فكر أحد في كلمة ((الله أكبر)) التي هي رأس التكبير وعماده ، وهي أول ما كلف به الرسول حين أمر بالإنذار يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر [سورة المدثر:1-3].
إنها كلمة عظيمة ، تحيي موات الأرض الهامدة ، لصوتها هدير كهدير البحر المتلاطم ، أو هي أشد وقعا.
إنها كلمة ، ينبغي أن تدوي في أذن كل سارق وناهب ؛ لترتجف يده ، ويهتز كيانه. وكذا تدوي ، في أذن كل من يهم بإثم أو معصية ، ليقشعر ويرتدع ، وينبغي أن تدوي في أذن كل ظالم معتد متكبر ، ليتذكر إن كان من أهل الذكرى ، أن هناك إلها أقوى منه ، وأكبر من حيلته واستخفافه ومكره ، أخذه أقوى من أخذ البشر ومكرهم وخديعتهم ، فالله أكبر ، الله أكبر كبيرا.
فاتقوا الله أيها المسلمون ، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ، واتق الله أيها المسلم الغافل ، فإن كنت بعد هذا ، قد أحسست أنك ممن قد فقد قلبه بسبب غفلته ، فلا تيأس من وجوده بذكر الله ،
فقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا أيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [سورة المنافقون:9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد :
فاتقوا الله معشر المسلمين ، واعلموا وفقكم الله ، أن لسائل أن يسأل : ما بال ذكر الله سبحانه، مع خفته على اللسان وقلة التعب منه ، صار أنفع وأفضل ، من جملة العبادات مع المشقات المتكررة فيها ؟
فالجواب : هو أن الله سبحانه جعل لسائر العبادات مقدارا ، وجعل لها أوقاتا محدودة ، ولم يجعل لذكر الله مقدارا ولا وقتا ، وأمر بالإكثار منه بغير مقدار ، لأن رؤوس الذكر هي الباقيات الصالحات ؛ لما ثبت عن النبي أنه قال : ((خذوا جُنتكم. قلنا : يا رسول الله ، من عدو قد حضر ؟ قال : لا ، جنتكم من النار ، قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فإنهن يأتين يوم القيامة منجبات ومقدمات وهن الباقيات الصالحات )) رواه الحاكم وصححه.
ثم ليعلم كل مسلم صادق ، أن المؤثر النافع ، هو الذكر باللسان على الدوام ، مع حضور القلب ؛ لأن اللسان ترجمان القلب ، والقلب خزانة مستحفظة الخواطر والأسرار ، ومن شأن الصدر ، أن ينشرح بما فيه من ذكره ، ويلذ إلقاءه على اللسان ، ولا يكتفي بمخاطبة نفسه به في خلواته حتى يفضي به بلسانه ، متأولا قول الله عز وجل : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين [سورة الأعراف:205].
فأما الذكر باللسان ، والقلب لاه ، فهو قليل الجدوى ، قال رسول الله : ((اعلموا أن الله لا يقبل الدعاء من قلب لاه )) رواه الحاكم والترمذي وحسنه.
وكذا حضور القلب في لحظة بالذكر ، والذهول عنه لحظات كثيرة ، هو كذلك قليل الجدوى؛ لأن القلب لا يخلو من الالتفاف إلى شهوات الدنيا ، ومن المعلوم بداهة أن المتلفت لا يصل سريعا ؛ ولذا فإن حضور القلب على الدوام أو في أكثر الأوقات هو المقدم على غيره من العبادات ؛ بل به تشرف سائر العبادات وهو ثمرة العبادات العملية.
ولذا فإن رسول الله حذر من أن تنفض المجالس دون أن يذكر الله عز وجل فيها بقوله : (( ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة )) رواه أبو داود والحاكم.
فهذا رسول الله يمقت مجالس الغافلين ، وينهى عن كل تجمع خلا من ذكر الله ، وأن المجالس التي ينسى فيها ذكر الله ، وتنفض عن لغط طويل ، حول مطالب العيش ، وشهوات الخلق ، في تهويش وتشويش ، وهمز ولمز ؛ هي مجالس نتنة ، لا شيء فيها يستحق الخلود ، إنما يخلد ما اتصل بالآخر سبحانه وتعالى ، ولذا فقد قال صلوات الله وسلامه عليه : ((من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك. إلا كفر الله له ما كان في مجلسه ذلك )) رواه الترمذي وابن ماجة.
هذا ، وصلوا رحمكم الله على خير البرية وأفضل البشرية.
(1/471)
هادم البيوت (الطلاق)
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة الطلاق وتعظيم شأنها وأثرها. 2- تكدر المعيشة بين الزوجين فرع عن الثأرة
والأنانية. 3- الزواج من ذات يذلل سبل حل المشكلات والمنازعات. 4- تربية الإسلام للزوجة
على محبة وطاعة زوجها. 5- الحياة الزوجية لن تخلوا بحال من كدر. 6- دور الإعلام في
إفساد الحياة الاجتماعية. 7- قوامة الرجل وحقوق المرأة. 8- أسباب لكثرة الطلاق. 9- نماذج
من نساء السلف اللاتي أحسن التبعل لأزواجهن. 10 وصية الله ورسوله بالنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، اتقوه حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واحذروا المعاصي، فإن أقدامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم. الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
عباد الله، يحكي واقع كثير من الناس اليوم، صوراً شتى من اللامبالاة، بقيم الألفاظ ودلالات الكلام وثمراته، ترى الكلمة تخرج من فم المرء، لا يلقي لها بالا، ربما أهوت به في مسالك الضياع والرذيلة، استحقر بعضهم حجم الكلمات، واستنكف عن معانيها، وما علم أولئك،
أن النار بالعيدان تذكى وأن الحرب مبدأها كلام.
أيها الناس، أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تكون معولا صُلبا، يهدم به صرح أسر وبيوتات؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها من سعادة وهناء، إلى محنة وشقاء؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تحرك أفرادا وجماعات، وتنشئ تزلفا وشفاعات، لرأب ما صدعت وجمع ما فرقت؟ أتدرون أي كلمة هذه؟
إنها كلمة أبكت عيونا، وأجهشت قلوبا، وروعت أفئدة، إنها كلمة صغيرة الحجم، لكنها جليلة الخطب، إنها كلمة ترعد الفرائص بوقعها، وتقلب الفرح ترحا والبسمة غصة، إنها كلمة الطلاق، إنها كلمة الطلاق، وما أدراك ما الطلاق؟! كلمة الوداع والفراق، والنزاع والشقاق، فلله كم هدمت من بيوت للمسلمين! وكم قطعت من أواصر للأرحام والمحبين! يالها من ساعة رهيبة، ولحظة أسيفة، يوم تسمع المرأة طلاقها، فتكفكف دموعها، وتودع زوجها! يالها من لحظة تجف فيها المآقي، حين تقف المرأة على باب دارها، لتلقي النظرات الأخيرة، نظرات الوداع على عش الزوجية، المليء بالأيام والذكريات! يا لها من لحظة عصيبة، حين تقتلع السعادة أطنابها، من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك!
عباد الله، العِشرة الزوجية ضرب خاص من المحبة في النفس، ليس له في أنواعه ضريب، فهو الذي يسكن به الزوجان، وهو الذي يلتقي به بشران، فيكون كل منهما متمما لوجود الآخر، ينتجان بالتقائهما بشرا مثلهما وَ?للَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْو?جِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72].
إن اختلال العشرة بين الزوجين، يذكي نار الفرقة، وكثرة الخصام تضرم [1] أوارها [2] ، ولو أحب الأزواج أنفسهم حبا صادقا، وسكن بعضهم إلى بعض، لود كل منها الآخر، وود لأجله أهله وعشيرته؛ لأن المودة بين الزوجين سبب من أسباب سعادة العشيرة، وسعادة العشيرة للأمة المؤلفة من العشائر، المؤلفة من الأزواج، فهذا التآلف والتأليف، هو الذي يتكون من مزاج الأمة، فما يكون عليه من اعتدال وكمال، يكون كمالا في بنية الأمة واعتدالا، وقرة عين لمجموعها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال، يكون مرضا للأمة، يوردها موارد الهلكة، فمن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لأمته، قال رسول الله : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) [أخرجه الترمذي بإسناد صحيح] [3].
عباد الله، لقد قال المصطفى في الحديث المشهور: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [متفق عليه] [4].
هذه هي الزوجة التي يحث الشارع على تحصيلها والرضا بها، ويدعو على من أراد غيرها، وزهد فيها ورغب عنها. ومن المعلوم بداهة؛ أنه لا يرغب في الظفر بذات الدين، إلا من كان قلبه معلقا بالدين، وكانت نفسه من النفوس الزكية، ومن هذه حاله، فلا غرو أن يرزق المودة بينه وبين زوجه؛ لأنها من ثمرات المشاكلة في السجايا والصفات الفاضلة، وعلى العكس من ذلك، المشاكلة في الصفات الرديئة، والسجايا الدنيئة، فهي لا تثمر محبة، ولا تورث توددا.
قال رسول الله : ((خير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) [رواه مسلم] [5].
إنه متى كان الدين بين كل زوج وزوجته، فمهما اختلفا وتدابرا، وتعقدت أنفسهما، فإن كل عقدة من العقد لا تجيء إلا ومعها طريقة حلها ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، وهو اليسر والمساهلة، والرحمة والمغفرة، وهو العهد والوفاء، وهو اتساع الذات، وارتفاعها فوق ما تكون به منحطة أو وضيعة.
ومن كانت هذه حاله، فلن يستنكف أن يكون ممتثلا لما خوطب به من قول المصطفى : ((لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)) [أخرجه الترمذي وهو صحيح] [6]. وقوله : ((استوصوا بالنساء خيرا)) [متفق عليه] [7].
وثمرة الدين في المرأة يظهر في مثل قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكم عليكن، لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحر وجهها).
فما أحمق الرجل يسيء معاشرة امرأته! وما أحمق المرأة تسيء معاملة بعلها.
أيها الناس، الطلاق كلمة، لا ينازع أحد في جدواها، وحاجة الزوجين إليها، حينما يتعذر العيش تحت ظل واحد، وإذا بلغ النفور بينهما مبلغا، يصعب معه التودد، فالواجب أن يتفرقا بالمعروف والإحسان، كما اجتمعا بهذا القصد وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ?للَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ ?للَّهُ و?سِعاً حَكِيماً [النساء:130].
إن الله ـ عز وجل ـ لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان، أنهما مخلوق واحد، يعيشان في أوهام؛ إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر برأسه، وكيف تريد هي منه، أن يحس بقلبها وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
إن النسيم لا يهب عليلا داخل البيت على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع، وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوع وهم، ومن العقل توطين النفس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها. فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]. وقال رسول الله : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر)) [رواه مسلم] [8].
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهرَ صاحبُ
بيد أن بيوتات كثيرة فقدت روح التدين، فهي تتنفس في جو من الشراسة والنكد، واكتنفتها أزمات عقلية وخلقية واجتماعية، فقد تطلق المرأة اليوم، في رطل لحم، علق الرجل به طلاقها إن قامت بشرائه، فيخبط هؤلاء خبط العشواء [9] ، ويتصرفون تصرف الحمقى؛ فيقعون في الإثم والحيف [10].
عباد الله، لقد كثر الطلاق اليوم، لما فقدت قوامة الرجل في بعض المجتمعات، إبان غفلة تقهقر عن مصدر التلقي من كتاب وسنة، وركن فئام من الناس إلى مصادر مريضة، قلبت مفاهيم العشرة، وأفسدت الحياة الزوجية، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وتولى كِبْرَ [11] تلك المفاهيم الإعلام بشتى صوره، من خلال مشاهدات متكررة يقعِّد فيها مفاهيم خاطئة، ومبادئ مقلوبة في العشرة الزوجية، حتى وضع الزوجات تاريخهن.
ولرب منظر يشهده ألف امرأة بمرة واحدة، فإذا استقر في وعيهن، وطافت بهنّ الخواطر والأفكار، سلبهن القرار والوقار، فمثلنه ألف مرة، بألف طريقة، في ألف حادثة، فلا تعجبوا حينئذ إذا استأسد الحَمَل، واستنوق الجمل! والعجب كل العجب، أنه في ثنايا المناقشة يقرر الإعلاميون أن دور الإعلام مع المرأة، إنما هو كالتلقيح بمصل بعض الأدواء المعدية، والتسليم بميكروبها، بزعم أنها تكسب صاحبها مناعة، تقيه من أن يعي بوبائها.
وحقيقة الأمر أنهم بالذي وضعوا زادت العقد، وإن ما يذكره الإعلاميون، هو التعرض لعدوى الوباء في عنفوان شدته، وصدق من قال:
وكانت دوائي وهي دائي بعينه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
والواقع ـ أيها المسلمون ـ أن داخل البيت المسلم يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة إذا عصفت في الخارج، تسللت إلى الداخل، فلم ينج من بلائها إلا من عصم الله.
الحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولابد لكل اجتماع من رئيس يرجع إليه عند الاختلاف في الرأي والرغبة، والرجل أحق بالرياسة؛ لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ، بما أودع الله فيه من ذلك. وإن ما تتلقنه المرأة من الأجواء المحيطة بها، على منازعة الرجل قوامته، لمن الانحراف الصَّرْف، والضلال المبين.
وإن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحه حق الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية، ليس عقد استرقاق، ولا عقد ارتفاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأجل.
وكل من الزوجين بشر تام، له عقل يتفكر به، وقلب يحب به ويكره، فوجب الحق للمرأة حتى مع قوامة الرجل وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228]. كما أن قوامة الرجل، لا تعني استغناءه عن زوجه، فالله ـ عز وجل ـ يقول: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187].
عباد الله، لقد كثر الطلاق اليوم، لما صار المطلق أحد رجلين: إما رجل أعمل سلطته وأهمل عاطفته؛ فكان في بيته سيدا، ولكنه لم يذق طعم المحبة والسعادة، ولا عرف الصفاء والهناء. وإما رجل تبع عاطفته فأطاعها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبدا رقيقا.
لقد كثر الطلاق اليوم لما كثر الحسدة والواشون، فنكسوا الطباع، وعكسوا الأوضاع، وصيروا أسباب المودة والالتئام، عللا للتباغض والانقسام. ولربما كان لأهل الزوجين مواقف ظاهرة، بدت سببا مباشرا في كثير من الخلافات، فقد يتدخل الأب، وقد تتدخل الأم أو الأخ، أو الأخت، فيحار الزوج من يقدم؟ والديه، الذين عرفاه وليدا، وربياه صغيرا؟ أم زَوْجَهُ التي هجرت أهلها، وفارقت عشها من أجله؟ إن هذه لمُرتَقَيَاتٌ صعبة، أهونها أصعب الصعاب، وأحلاها أمرّ من المر.
إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية، لهي مكمن الخطر لدى كثير من الأسر، فما بال أولئك يهجمون على البيوت؟ فيأتونها من ظهورها، ويمزقون ستارها، ويهتكون حجابها، وينتزعون الجرائد من أكنافها، والفرائد من أصدافها، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأزواج. ماذا يكون أثر هؤلاء في البيوت التي تتكون منها الأمة، في الأمة المكونة من البيوتات؟! إنه لا يغيب عن فهم عاقل، أن شرهم مستطير، وأن ما يفعلونه فتنة في الأرض وفساد كبير.
عباد الله، إن العلاقات الزوجية، عميقة الجذور، بعيدة الآماد، فرحم الله رجلا محمود السيرة، طيب السريرة، سهلا رفيقا، لينا رؤوفا، رحيما بأهله، لا يكلف زوجته من الأمر شططا، وبارك الله في امرأة لا تطلب من زوجها غلطا، ولا تحدث عنده لغطا، قال رسول الله : ((إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشرها)) [رواه أبو داود] [12].
وقال : ((إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)) [رواه ابن حبان] [13].
وبهذا كله، يفهم الرجل أن أفضل ما يستصحبه في حياته، ويستعين على واجباته، الزوجة اللطيفة العشرة، القويمة الخلق، وهي التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره، إن هذه الزوجة هي دعامة البيت السعيد، وركنه العتيد.
فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ [النساء:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] تضرم: توقد (القاموس ، مادة ضرم).
[2] الأُوَار: حّر النار (القاموس ، مادة أور).
[3] صحيح ، سنن الترمذي ح (3895) وقال : حسن غريب صحيح ، وأخرجه ابن ماجه ح (1977).
[4] صحيح البخاري ح (5090) ، صحيح مسلم ح (1466).
[5] صحيح مسلم ح (1467).
[6] سنن الترمذي ح (1159) ، كما أخرجه أبو داود ح (2140) ، وابن ماجه ح (1852).
[7] صحيح البخاري ح (5186) ، صحيح مسلم : كتاب الرضاع ح (60).
[8] صحيح مسلم ح (1469).
[9] يقال: خطبه خبط عشواء أي : ركبه على غير بصيرة. والعشواء: الناقة لا تبصر أمامها (القاموس ، مادة عشو).
[10] الحيف: الجور والظلم (مختار الصحاح ، مادة حيف).
[11] كِبْر الشيء: معظمه (مختار الصحاح ، مادة كبر).
[12] سنن أبي داود ح (4870) ولفظه : ((إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة...)) وفي إسناده : عمر بن حمزة العمري. قال الذهبي في الميزان. 3/192) : وضعّفه يحيى بن معين والنسائي ، وقال أحمد : أحاديثه مناكير)). وانظر آداب الزفاف للألباني ص 142-143.
[13] صحيح ، صحيح ابن حبان (الإحسان ح 4163).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن أحدنا لتمر عليه فترات، لا يرضى فيها عن نفسه، ولكنه يتحملها، يتعلل بما يحضره من المعاذير، وإذا كان الأمر كذلك، فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين، يلتمس كل منهما لقرينه المعاذير فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات؛ ولابد من غض الطرف عن الهفوات والزلات، حتى تستقيم العشرة،
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
ولا شيء يخفف أثقال الحياة، وأوزار المتاعب، عن كاهل الزوجين، كمثل أحدهما للآخر، ولا شيء يعزي الإنسان عن مصابه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل، والرجل للمرأة؛ فيشعر المصاب منهما بأن له نفسا أخرى، تمده بالقوة، وتشاطره مصيبته.
فهذه أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي ، كانت له في المحنة قلبا عظيماً، وكانت لنفسه كقول: (نعم)، فكأنما لم تنطق قط (لا)، إلا في الشهادتين، وما زالت ـ رضي الله عنها ـ، تعطيه من معاني التأييد والتهوين، كأنما تلد له المسرات من عواطفها، كما تلد الذرية من أحشائها؛ بمالها تواسيه، وبكلامها تسليه (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك تصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) [1].
وحدث أنس بن مالك ، عن أمه أم سليم، بنت ملحان الأنصارية ـ رضي الله عنهما ـ قال: مرض أخ لي من أبي طلحة، يدعى أبا عمير، فبينما أبو طلحة في المسجد، مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد، وقد تطيبت له وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، وقدمت له عشاءه، فتعشى هو وأصحابه، ثم أتما ليلتهما على أتم وأوفق ما يكون، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شق عليهم، قال أبو طلحة: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك فلانا، كان عارية من الله فقبضه إليه، فاسترجع وحَمِد الله وقال: والله لا أدعك تغلبينني على الصبر. حتى إذا أصبح، غدا على رسول الله فلما رآه قال: ((بارك الله لكما في ليلتكما)) [متفق عليه] [2].
الله أكبر! بمثل هذا فلتكن العشرة أيها الأزواج، بمثل هذا فلتكن الحياة الهانئة السعيدة، في النفس والولد والمال.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن لكلا الزوجين حقا على الآخر؛ فحقٌ على الزوج أن ينفق عليها، ولا يكلفها من الأمر مالا تطيق، وأن يسكنها في بيت يصلح لمثلها، وأن يعلمها، ويؤدبها، ويغار عليها، ويصونها، وألا يتخونها، ولا يلتمس عثراتها، وأن يعاشرها بالمعروف، قال رسول الله : ((استوصوا بالنساء خيرا)) [متفق عليه] [3].
وسئل : ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: ((تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تُقَبِّح، ولا تهجر إلا في البيت)) [رواه أبو داود] [4].
ومن حق الزوج على زوجته، أن تطيعه في المعروف، وأن تتابعه في مسكنه، وألا تصوم تطوعا إلا بإذنه، وألا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه، وألا تخرج بغير إذنه، وأن تشكر له نعمته عليها ولا تكفرها، وأن تدبر منزله وتهيئ أسباب المعيشة به، وأن تحفظه في دينه وعرضه. قال رسول الله : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) [رواه الترمذي والحاكم] [5].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
[1] أخرجه البخاري ح (3).
[2] صحيح البخاري ح (5470) ، صحيح مسلم ح (2144) ، وأخرجه أحمد (3/105-106) واللفظ له.
[3] تقدم تخريجه أول الخطبة.
[4] صحيح ، سنن أبي داود ح (2142). وأخرجه أيضاً أحمد (4/447) وابن ماجه ح (1850).
[5] سنن الترمذي ح (1161) وقال : حسن غريب ، ومستدرك الحاكم (4/173) وقال: صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي. ولكن الذهبي نفسه في ميزان الاعتدال (4/95) يقول عن مساور الحميري : ((مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة ، فيه جهالة ، والخبر منكر)). وقال ابن حجر في التقريب (6631) : مجهول. وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (1426).
(1/472)
مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الاتباع
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
14/7/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
معنى شهادة أن محمداً رسول الله ومقتضاها – من لوازم محبته صلى الله عليه وسلم إجلاله
وإجلال سنته وطاعته , وحال الصحابة في ذلك والتابعين – منزلته صلى الله عليه وسلم عند
ربه – الواجب على المرء عند ذكره صلى الله عليه وسلم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد. فإن شهادة أن محمدًا رسول الله معناها تجريد لمتابعة له ومقتضى ذلك محبته ومحبته تقتضي أن يكون هواك تبعًا لما جاء به فتقدم طاعته واتباع سنته على رأيك وهواك ويكون حبك له أعظم من حبك لغيره من الخلق فوالله لا تؤمن حتى يكون رسول الله أحب إليك من نفسك ومن ولدك ووالدك والناس أجمعين، ومحبته يجب أن تولد في صدرك الهيبة له والإجلال لشخصه والإجلال لسنته وإلا فقل لي بربك أيحب رسول الله من لا يجلّ سنته ولا يوقر شخصه ولا يحفظ له في صدره المهابة والإجلال، أيحبه من كان هذا شأنه.
كلا والله لقد كان أصحاب رسول الله من شدة محبتهم لسيدنا رسول الله وعظم هيبته في صدورهم لا يجرؤن على رفع أبصارهم في وجهه مهابة وإجلالاً له ولا يجرؤن على سؤاله إلا نادرًا مهابة وإجلالاً له ولذلك كانوا يفرحون ويستبشرون إذا قدم الأعراب على رسول الله لأنهم كانوا أجرأ على سؤاله ولقد أدب الله عز وجل عباده مع نبيه ومصطفاه فأمر عباده بتوقير النبي وإجلاله فأمرهم ألا يرفعوا أصواتهم عنده، لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته، أمرهم أن يغضوا أصواتهم عند رسول الله، وأمرهم ألا ينادوه من وراء الحجرات وأمرهم ألا ينادوه باسمه المجرد، بل ينادونه بوصف الرسالة أو النبوة توقيرًا له كل ذلك وغيره من مقتضيات توقيره وإجلاله الذي أمرنا به ربنا عز وجل، وكيف لا نجله كيف لا نعظم شخصه ونسجل سنته ونحفظ له هذه المهابة والإجلال في صدورنا وهو أكرم الخلق عند الله عز وجل قد خصه بأعظم مكانة وأجل رسالة وأنزل عليه أعظم كتاب وأوحى إليه بأكمل شريعة ثم اختصه بعد ذلك من التكريم بما لم يحظ به مخلوق قبله ولا بعده فعرج به إليه حتى التقى به رسول الله ، السبعة الطباق وأدناه ربه إليه وقربه إليه عز وجل فوصل سيدنا محمد إلى مكانة لم يصل إليها أحد قط حتى القوى الأمين جبريل عليه السلام.
ولذلك كان التابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام المرضيون كانوا إذا ذكر النبي أو ذكرت سنته تغشاهم محبته وتحضرهم محبته هذا الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، هذه المدينة النبوية في عهد التابعين، كان إذا حضر مجلس الحديث حديث رسول الله يتطيب ويتزين، ويحضر مجلس الحديث بأبهى حلة.
وكان إذا ذكر النبي يتغير وجهه وينحني من مهابة رسول الله حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يومًا في ذلك، أي أنكر عليه بعض جلسائه هذه الحال فذكر الإمام مالك رحمه الله عن حال شيوخه من التابعين أعجب من ذلك في مهابتهم لرسول الله وإجلالهم لذكره فقال الإمام مالك: لو رأيتم ما رأيت ما أنكرتم علىّ ما ترون، لقد رأيت محمد بن المنكدر سيد القراء - وهو شيخ من شيوخ مالك من التابعين - لا نكاد نسأله عن حديث من حديث رسول الله إلا بكى حتى نرحمه، ولقد رأيت جعفر بن محمد - يقول مالك رحمه الله - وكان كثير الدعابة والتبسم إذا ذُكر النبي يتغير لونه وتذهب عنه دعابته وتبسمه وذلك من إجلاله رحمه الله لرسول الله.
يقول مالك ولقد رأيت عبد الرحمن بن القاسم إذا ذُكر النبي عنده اصفر لونه وجف لسانه من هيبة رسول الله.
ولقد رأيت الزهري - والحافظ الزهري من أعظم أئمة المسلمين وأعلمهم بسنة رسول الله إمام عظيم من أئمة الحديث من التابعين وكان من شيوخ مالك - يقول مالك: ولقد رأيت الزهري وإنه لمن أهنأ الناس وأقربهم إذا ذكر رسول الله فكأنه ما عرفك ولا عرفته أي مما تحضره من مهابة رسول الله فكأنه ما عرف الحاضرين عندهم ولا عرفهم ويقول مالك ولقد رأيت عامر بن عبد الله بن الزبير وكان إذا ذُكر عنده رسول الله بكى حتى يرحمه جلساؤه.
هكذا كان سلفكم أيها المؤمنون محبة للنبي وإجلالاً له وإجلالاً لسنته ولحديثه وهذا من عظم تجريدهم المتابعة لرسول الله ومن كمال إيمانهم بنبوته ورسالته.
فيا أيها الناس إذا ذكر سيدنا رسول الله فاستحضروا محبته في نفوسكم وإذا ذُكرت سنته فاستحضروا هيبته في نفوسكم، استحضروا هيبته في صدوركم يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم والله غفور رحيم [الحجرات:1-5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا فاستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/473)
القدر سر الله في خلقه
الإيمان
القضاء والقدر
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكون يدل بتناسقه على حكمة الله الحكيم وقدرته. 2- استسلام المؤمن لقضاء الله وقدره مع
عجزها عن الإحاطة به. 3- من الكفر اعتراض البعض على قضاء الله. 4- من عظيم قدر الله
خفاء حكمته عن البشر حتى الخير سبباً للشر ، والشر سبباً للخير. 5- انتشار شركات التأمين
مظهر من ضعف الإيمان بالقضاء والقدر. 6- الإيمان بالقدر لا يعني ترك الأسباب.
7- الإيمان بالقدر يبعد المؤمن عن أكل الحرام. 8- الإيمان بالقدر جعل سلفنا الكرام أشمع الناس. 9- سادس أركان الإيمان الإيمان بالقضاء والقدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي عماد المؤمن في الدنيا، وأنيسه في قبره، ودليله في الأخرى يوم يلقى الله، إلى جنات النعيم.
أيها الناس، لقد خلق الله السماوات والأرض، وبنى الأجسام والعوالم، بناء متقنا، دالا على حكمته وكمال علمه وقدرته، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، خلق كل شيء فأحسن خلقه، وقدر كل شيء تقديرا، خلق الثقلين الجن والإنس، فجعل منهم كافرا وجعل منهم مؤمنا، قدر مقادير الخلائق فلم يبق ولم يذر، وأجرى مقاديره حتى على غرز الإبر، أعجز العقول والأفهام عن إدراكه، أو الإحاطة به علما، تجلت عظمة الله في القضاء والقدر، وعجزت العقول المسلمة، عن تعليله؛ فبقيت مبهوتة، عالمة قصورها عن درك جميع الأمور، فأذعنت مقرة بالعجز، مؤمنة بأن الكل من عند الله، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا [ آل عمران:7]. سلموا لله في أفعاله، وعلموا أنه حكيم ومالك، وأنه لا يقدر عبثا، فإن خفيت عليهم حكمة فعله، نسبوا الجهل إلى نفوسهم وسلموا للحكيم المالك.
وإن أقواما نظروا إلى قضاء الله وقدره بمجرد عقولهم، فرأوها كما لو صدرت من مخلوق، نسبت إلى ضد الحكمة؛ فنسبوا الخالق إلى ذلك، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وهذا هو الكفر المحض، والجنون البارد.
وأول من فعل ذلك، إبليس ـ عليه لعائن الله ـ، فإنه قد رأى ربه فضل جنس الطين على جنس النار، فأبى واستكبر وقال: أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [ الأعراف:12].
واعترض أبو جهل على الخالق وحكمته، حينما قال في نبوة محمد : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي، يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانُ عَلَى? رَجُلٍ مّنَ ?لْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [ الزخرف:31-32].
واعترض ابن الراوندي، الذكي المشهور، في القرن الثالث الهجري، اعترض على قضاء الله وقدره، وعطل حكمته، واستنكف عن قسمته ورزقه، فقد جاع يوما واشتد جوعه، فجلس على الجسر، وقد أمضَّه الجوع، فمرت خيل مزينة بالحرير والديباج، فقال: لمن هذه؟ فقالوا لعلي بن بلتق، غلام الخليفة، فمر به رجل، فرآه وعليه أثر الضر فرمى إليه رغيفين، فأخذهما ورمى بهما وقال: هذه الأشياء لعلي بن بلتق وهذان لي؟ فنسي هذا الجاهل الأحمق، أنه بما يقول ويعترض ويفعل، أهل لهذه المجاعة. قال الذهبي ـ رحمه الله ـ: فلعن الله الذكاء بلا إيمان ورضي الله عن البلادة مع التقوى.
عباد الله، إن تطبيق مقاييس البشر ومفاهيمهم على قضاء الله وقدره، هو مكمن الخطر، واعتراض ضعاف النفوس على قسمة الله ورزقه؛ حيث جعل هذا مؤمنا وذاك كافرا، وذاك غنيا وهذا فقيرا، وأخذه للشاب في شبابه، وما بلغ بنيانه بعض المقصود، وأخذه الطفل من أكف أبويه يتململان، والله الغني عن أخذه، وأبواه أشد الخلق فقرا إلى بقائه، وإبقائه لهرم، لا يدري معنى البقاء، كل ذلك يجد الشيطان به طريقا للوسواس، ويبتدي بالقدح في حكمة الله وقدره. ولو ملئت قلوب أولاء بالإيمان واليقين، والرضا بالله ربا، لما كان للشيطان مسلك ولا مستقر في أفئدتهم، ولأيقنوا أن الله لم يقدر شيئا إلا لحكمة، وأن الحكمة قد يعلمها الإنسان وقد تختفي عنه وفق إرادة العزيز الحكيم.
ألا ترون أيها المسلمون، أن الاعتداء على السفينة بخرقها يعد ظلما واعتداء؟ ومع ذلك فقد يظهر لكم أن ذلك الخرق، كان طريقا للنجاة من هلكة. وهذا ما وقع للخضر مع موسى ـ عليه السلام ـ: أَمَّا ?لسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـ?كِينَ يَعْمَلُونَ فِى ?لْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [ الكهف:79].
وانظروا ـ حفظكم الله ـ، إلى يوسف عليه السلام، لما اتهم بالفاحشة، وسجن بها؛ ليكون ذلك السجن سبيلا إلى جعله على خزائن الأرض حفيظا عليما.
ويعيش محمد يتيم الأبوين، معذبا في أهله وماله ونفسه، تصد الأبواب دونه، ويرمى بالحجارة، ويلقى عليه سلا الجزور، ثم هو بعد ذلك، سيد ولد آدم، ومن لم يحبه كفر بالله وبما أنزل على محمد.
أيها المسلمون، مضت سنة الله في خلقه، بأن للأعمال القلبية، سلطانا على الأعمال البدنية، فما يكون في الأعمال من صلاح وفساد، فإنما مرجعه، فساد القلب وصلاحه، فطمأنينة فؤاد المسلم، وركونه إلى ربه بعد أن يؤدي ما عليه من واجب، إنما هو إيمان منه، بأن زمام الأمور كلها تحت مشيئة الله النافذة، فهو يتوكل على ربه، دون توتر ولا قلق؛ ومن ثم، فإنه يستقبل الدنيا بشجاعة ويقين، ولسان حاله، يقول ما قاله علي بن أبي طالب:
أي يوميّ من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم لا يقدر لا أحذره ومن المقدور لا ينجو الحذر
إن قلق كثير من الناس، وخواء أفئدتهم من الإيمان بقضاء الله وقدره، وفزعهم من المستقبل، والشعور بالوهن عن حمل المصائب، هو سر قيام التدجيل والتكهن والعرافة والتنجيم، وهو سر تعلق عدد من المجتمعات ليس بالقليل، بما يسمى شركات التأمين، التي قرر حرمتها علماء الملة. والتي تؤمن على المال والأرواح والأعراض، الذي استولت من خلاله على قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، استقطبتها من هلع المذعورين وخشية الخوافين على أعمارهم حينا، وعلى أموالهم حينا آخر.
ومن الفرق الذي استحوذ على الجبناء عندما يدفعهم الشك إلى ترقب الموت كامنا في كل أفق، فيفزعون من الهمس، ويألمون من اللمس.
ولن تقر نفوس هؤلاء، إلا إذا خالطها الإيمان بالله، والتسليم له، والرضا بقضائه وقدره. قال رسول الله : ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا)) رواه الترمذي [1].
وقال : ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)) رواه الترمذي [2].
عباد الله، إن شأن الناس مع القدر عجيب، فذاك تاجر يؤرقه السهود، لأنه من خوفه على رزقه، يتوجس انهيار تجارته بين الحين والآخر، وآخر غط في نوم عميق، فهو لا يتجشم مؤنة سعي؛ لأن الأرزاق مقسومة. والحقيقة كلها، في التوسط بين الطرفين، فالمسلم يؤدي العمل المطلوب، فيعقل ويتوكل، وينفي الريب عن فؤاده، بعد أن يؤدي ما عليه، عملا بقول المصطفى : ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) متفق عليه [3].
ولذا، فإن أحاديث القدر، علاج للقلق والتشاؤم، وليست ذريعة كسل أو خمول. إذ ما عساك ـ أيها المسلم ـ أن تفعل، إذا أصابك ما تكره؟ إن كان تغيير المكروه في مقدورك، فالصبر عليه بلادة، والرضا به حمق. وإن كان ما عراك، فوق ما تطيق، فهل هناك حيلة، أفضل من الاتزان ورباطة الجأش؟ وهل هناك مسلك أرشد من الرضا والتسليم للخالق، الذي يحول الداء دواء، والمحنة منحة؟ أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:2-3].
أيها الناس، إن الله ـ عز وجل ـ قسم المعاش وقدر الأرزاق، والناس أجمع لا يملكون عطاء ولا منعا، وإنما الناس وسائط، فما أعطوك، فهو بقدر الله وما منعوك فهو بقدر الله، وما كان لك، فسوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك فلن تناله بقوتك، وما عليك إلا أن تجد وتعمل، وتضرب في آفاق الأرض، وتأخذ بأسباب الرزق، فمن جد وجد، ومن زرع حصد، فلا كسب بلا عمل، ولا حصاد بلا زرع، ومسألة الرزق أدق من أن تدرك، وأبعد من أن تنال. وانظروا إلى الناس، ترون منهم الغواصين، الذين جعل الله رزقهم في أعماق البحار، والطيارين، الذين جعل الله معاشهم في بحار الهواء بين السماء والأرض، وأصحاب المناجم يجدون خبزهم، مخبوءا في الصخر الأصم، فلا ينالونه إلا بتكسيره. ومُروِّضُ [4] الأسود والفيلة، الذي يترصده الموت كل حين، يجد مصدر رزقه، بين أنياب الأسود أو تحت أرجل الفيلة: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـ?تٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [ الزخرف:32].
فلا تجزعوا من الفقر عباد الله، فإن الفقر قد يسمو، كما سما فقر المصطفى ولا تغتروا بالغنى؛ فإن الغنى قد يدنو، كما دنى غنى قارون وأبي جهل.
واجعلوا الفقر والغنى مطيتين، لا تبالون أيهما ركبتم، إن كان الفقر، فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى فإن فيه البذل. وأبشروا بقول المصطفى : ((إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت، حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملن أحدكم، استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله ـ تعالى ـ، لا ينال ما عنده إلا بطاعته)) أخرجه ابن حبان وأبو نعيم في الحلية [5].
أيها المسلمون، إن الإيمان بالقضاء والقدر، يثمر الإقدام، وخلق الشجاعة والتسليم بأقدار اليوم والغد، وهذا ما ذكره الله في قوله: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا [ التوبة:51]. وقوله: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ?لْحُسْنَيَيْنِ [ التوبة :52]. يعنون بذلك كسب المعركة بالنصر، أو الموت دون الظفر بها، وهو حسن كذلك؛ لأن ما عند الله خير وأبقى.أما الذين لا إيمان لهم، فهم إن انتصروا أو انهزموا، بين عذابين، آجل وعاجل. وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ?للَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ [ التوبة :52]. فهم يحيون بفؤاد هواء، تلعب به الأحداث والظنون، وأشباح الموت والمصائب.
إن الذي يعتقد أن الأجل محدود، والرزق مكفول، والأشياء بيد الله يصرفها كيف يشاء، كيف يرهب الموت والبلى؟ وكيف يخشى الفقر والفاقة مما ينفق من ماله؟ ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [ آل عمران:173-174].
ومن هنا اندفع السلف الصالح، إلى الممالك والأقطار يفتحونها، فأدهشوا العقول، وحيروا الألباب، وقهروا الأمم، فكسروا كسرى، وقصروا قيصر، ودمروا بلادا، ودكدكوا أطوادا، وسحقوا رؤوس الجبال تحت حوافر جيادهم. أرجفوا كل قلب، وأرعدوا كل فريسة، وقائدهم في ذلك كله، الإيمان بالله وبقضائه وقدره.
بهذا الاعتقاد، لمعت سيوفهم بالمشرق، وانقضت شهبها على الحيارى من أهل المغرب، فالله أكبر ما أعظم الإيمان بالقدر! والله أكبر، ما أعظمه من مطهر للنفوس، من رذيلة الخور والدعة، العائقين عن بلوغ الرشد والدرجات العلى!
اللهم إنا نسألك إيمانا بك، وبملائكتك، وكتبك ورسلك، واليوم الآخر، وبقدرك خيره وشره، إنك قريب مجيب الدعوات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي ح (2623) وقال : حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضاً مسلم ح (34).
[2] سنن الترمذي ح (2144) ، وقال عنه: حديث غريب. وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (2439).
[3] أخرجه البخاري ح (4949) ، ومسلم ح (2647).
[4] المروض: المذلِّل.
[5] لم أجده في صحيح ابن حبان بعد طول البحث ، وأخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (10/26- 27) وهو صحيح بشواهده.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيرا طيبا مباركا، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإيمان بالقضاء والقدر، دعامة من دعامات هذا الدين، فهو الركن السادس من أركان الإيمان، ضل فيه من ضل، ممن حرم هداية الله، ولم يوفق للتوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، والمخالفون في القدر، بين الغالي فيه، والجافي عنه، والقول الحق هو الوسط؛ قول أهل السنة والجماعة، بين الغالي فيه والجافي عنه كما قال بعض أهل العلم، من بين فرث ودم، لبنا خالصا سائغا للشاربين.
وأهل السنة والجماعة يقولون: إن على العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما، ليس فيه ناقض ولا معقب، ولا مزيل، ولا مغير، ولا زائد ولا ناقص من خلقه، في سماواته وأرضه، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن للعبد مشيئة وإرادة تحت مشيئة الله وإرادته وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ?للَّهُ رَبُّ ?لْعَـ?لَمِينَ [ التكوير:29].
وقال تعالى: وَكُلَّ شىْء أَحْصَيْنَـ?هُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ [ يس:12]. وقال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـ?هُ بِقَدَرٍ [ القمر:49]. وقال : ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) رواه مسلم [1].
والفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، تؤمن بالقدر خيره وشره، ويقولون: إن أصل القدر سر الله في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل. والتعمق والنظر في ذلك، ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، فالحذر كل الحذر من ذلك، نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر على أنامه ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى في كتابه: لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [ الأنبياء:23]، فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
[1] صحيح مسلم ح (2653).
(1/474)
الشرف الزائف
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مثل للحياة الدنيا في القرآن الكريم. 2- كل البشر يبحثون في الدنيا عن الشرف في أبواب
الدنيا المختلفة. 3 إفساد الحرص على الشرف للنفس الإنسانية. 4- الحرص على الشرف في
طريق طلب الإمارة. 5- الحرص على الشرف الدنيوي في طريق الدين. 6- الشرف الحقيقي
هي شرف الإيمان والسبق إلى صالح الأعمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، إذ لا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيمن سمعها ألا يعمل بها، فتقوى الله عز وجل طريق الفلاح، وعنوان الصلاح فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ي?أُوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
عباد الله، قال الله عز وجل: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لأَمْو?لِ وَ?لأَوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
أيها المسلمون، هذا هو مثل الدنيا في القرآن، يعرف من خلاله استنكار الضراعة، التي تظهر على بعض الناس، حين يتطلعون إلى الدنيا، فيبكون ما فقدوا من حطام، وتؤثر فيهم المعاني النفسية التي تعلو بعرض من الدنيا، وتهبط بعرض، وكلما أحدثت خلة من خلالهم هدما في الحياة أو شرخا في الدين، ظنوا أن المال يرممها، وأن الشرف والتفاخر يرأب الصدع فيها.
أيها الأحبة في الله، لو راجع الإنسان نفسه، وأصغى لمناجاة نفسه، لوجد في وجدانه ميلا قويا، وحرصا شديدا، يدفعه إلى طلب الشرف والرفعة، وعلو المنزلة في أبناء جنسه، ولو رفعت بصرك ـ أيها المسلم ـ إلى سواد أمة بتمامها، لوجدت مثل ذلك في مجموعها، كما هو حاصل في أفرادها، تبتغي شرف المكانة في نفوس الأمم سواها، ذلك كله أمر جبليّ، جَبَل الله عليه بني الإنسان مجتمعين ومنفردين.
فعلى مستوى الأفراد، يتفق العقلاء من البشر وذوو الفطر السليمة، على أن الإنسان إذا طلب الشرف من طريق مزيفة تشبه تفنن المتسولين، فهو بشر شاذ المسلك، مريض يستحق العقاب، وطالب الشرف من أمثال هذا، إما غني فيه طمع، أو فقير عنده قلق، غني لم يكتف حين استوفى، ولم يشكر حين قدر، فوقعت مآسي الترف والفسق وحب الشرف، وفقير أخرجه فقره عن رشاده، ولم يرض بقسمة الله ورزقه، فاعترى الغنى والفقر مرضان مرض شهوة، ومرض شبهة.
ومن هنا أسرف الغني على نفسه فكان حيوانا، واضطرب الفقير بقلقه فكان شيطانا.
وعلى مستوى المجتمعات، فإن المجتمع الذي يملك ثروة هائلة، ولديه تراث ديني خصب، يعد مجتمعا ساذجا إذا نسي ما لديه من كنوز، وما يقتني من مصادر الشرف والضلال، أو يصطبغ بلون من ألوانها، سيرا في ركاب التقدم، المفضى إلى الانحراف، بعد أن شرفه الله بصبغة واحدة. صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـ?بِدونَ [ البقرة :138].
ومن هنا، اختلفت نظرات الناس وتوجهاتهم حول ما يثيرونه من معاني الشرف، ففئة من الناس ترى الشرف تشييد القصور، والتعالي في البنيان، ووفرة الخدم والحشم. وفئة أخرى تتوهم أن الشرف يكمن في وفرة الفاخر من الثياب والحلي وأشباهها. وفئة أخرى، تتخيل الشرف، في الألقاب الرفيعة، أو في رتب الوظيفة وعلو أسمائها. وفئام من الناس، يرون الشرف، في أن يسلب الرجل مال أخيه، ونهب ثروات أقاربه وذويه، أو بني ملته وأهل دينه ليشيد بما يصيب من السحت بيتا، ويرفع بناء، ويظن بذلك أنه نال مجدا أبديا، وفخارا سَرْمَدِيا، وراق لهؤلاء أن يعنونوا لحالهم بعنوان الشرف.
وآخر من الناس، يسهر ليله، ويقطع نهاره بالفكر، في وسيلة ينال بها لقبا من الألقاب أو يحصل بها على وسام، أو يستفيد وشاحا، وسواء عنده الوسائل يطلبها، أيا كان نوعها، وإن أفضت إلى خراب بيته، أو تذليل نفسه وأهله، أو تمزيق دينه، انطلاقا من قاعدة، قعدها شياطين من البشر، في جثمان إنس، يقولون: [الغاية تبرر الوسيلة] فكل ما ترى أنه غاية لك ـ أيها الإنسان ـ، فإن الوسائل المؤدية إلى تلك الغاية لك أن تسلك منها ما تشاء ولو كان على حساب الآخرين، أو بالغدر والفتك والحسد.
ويا للأسف الشديد! إنك تجد بعضا ممن ينتسبون إلى الدعوة والتعليم يقعون في هذه الأوحال تعصبا لحزب، أو طمعا في منصب، أو كرها لمستقيم صادق. فهؤلاء يعيشون ويحيون على هذه القاعدة، ويتمرغون بأخلاقهم فيها، ينقلب على المجتمع من صنع تلك القاعدة ناس دودا كطبع الدود، لا يقع في شيء إلا أفسده أو قذره، أو سوسا كطبع السوس، لا ينال شيئا إلا نخره أو عابه، فهم يوقعون الخلل في أنفسهم وفي نظام مجتمعهم.
وصدق رسول الله إذ يقول: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح [1].
فهذا مثل عظيم جدا، ضربه النبي لفساد دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس أقل من فساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين باتا في الغنم قد غاب عنها رعاؤها ليلا، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان فيها، ومن المعلوم بداهة، أنه لا ينجو من الغنم ـ والحالة هذه ـ إلا قليل.
عباد الله، الحرص على الشرف صفة ملازمة لكثير من الناس على اختلاف طبقاتهم وتوجهاتهم، كل ينافس أهل طبقته في أسباب الكرامة بينهم، ويأنف من احتقارهم له، فيحرص أشد الحرص على ما يحله من قلوبهم محل الاعتبار، حتى إذا بلغ الغاية مما به الرفعة عندهم تخطى حدود تلك الطبقة، ودخل في طبقة أخرى، ونافس أهلها في المال والجاه، ويظل يتبع سيره ما دام حيا، حتى لا يستطيع أن يقنع نفسه أنه بلغ من الكمال الزائف حدا ليست بعده غاية.
سبحان الله! ماذا أخذت محبة الشرف من قلب الإنسان؟ وماذا ملكت من أهوائه ورغباته؟ يعد الشرف ثمرة حياته، وغاية وجوده، حتى إنه يحقر الحياة عند فقده والعجز عن دركه، يتجشم المصاعب للوصول إليه، ويبلغ من محبة الشرف حدا لا يراه غذاء لروحه فقط، بل يعده من مادة النماء لبدنه، فهو يفرق خوفا إذا عرض وهم لفواته، خشية من هلاكه وذهاب حياته، كل هذا يحتمله، طلبا لشرف يكسبه لذاته، أو ابتغاء مجد يحصله لشهوة نفسه.
ماذا يشعر به المفاخر بنفسه وجاهه، أو علمه وماله، إذا تجرد وخلى بنفسه؟ إن لم يكن لذاته حلية من الفضيلة، وزينة من السمو. ألا يكون هو وعراة الفقراء سواء؟
أولا يجد من سره عند المفاخرة أنه يجول مع الغانيات وربات الخدور في ميدان واحد؟ ماذا يتصور الزاهي برتبته، المعجب بوسامه، إن لم يكن قبل أوسمته، أو الصعود لرتبته على حال تجل، أو علو يبجل، أليس يشعر، أنه لو سلب الوسام، أو نزع منه الوشاح، يعود إلى منزلته من الاحتقار؟ فإن نال الكرامة عند بعض السذج، واللقب معلق عليه، أليس ذلك تعظيما للقب لا للملقب به؟ ألا تكون هذه الكرامة عارضا سريع الزوال، بل رسما ظاهرا، لا يمس بواطن القلوب؟ فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ [ الرعد:17].
نعم أيها المسلمون، لهذه الألقاب الرفيعة شأن، يرتفع به نظر الناس، إذا سبق بعمل يعترف عموم الناس بشرفه، وكان اللقب دليلا عليه أو مشيرا إليه، كما يكون لمثلها حال يسقط به الاعتبار، إذا تقدمها فعلة يمقتها العقلاء من بني الإسلام.
عباد الله، ذكر بعض أهل العلم أن طلب الشرف تشتد خطورته إذا حرص عليه من طريقين:
الطريقة الأولى:
طلب الشرف بالولاية والرياسة والمال، وهذا خطر جدا، وهو في الغالب، يمنع خير الآخرة، وشرفها وكرامتها، قال تعالى: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [ القصص:83].
وقل من يحرص على ولايات الدنيا بطلبها فيوفق، بل يوكل إلى نفسه كما قال لعبد الرحمن بن سمرة : ((يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها)) رواه البخاري ومسلم [2].
قال بعض السلف: ما حرص أحد على ولاية فعدل فيها. والولاية هي كل ما يتوكل به على أمر من أمور المسلمين الخاصة والعامة.
وثبت أن رجلين قالا للنبي : يا رسول الله، أمِّرنا، قال: ((إنا لا نولي أمرنا هذا من سأله ولا من حرص عليه)) رواه البخاري [3].
وحب الشرف بالولاية إذا قصد به الحرص على نفوذ الأمر والنهي، وتدبير أمور الناس، وعلوا المنزلة عليهم، والتعاظم على الخلق، وإظهار حاجة الناس وافتقارهم إليه وذلهم له في طلب حوائجهم منه، فهذا نفسه مزاحمة لربوبية الله وإلاهيته، وهو لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له.
قال رسول الله : ((يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما عذبته)) رواه أحمد وأبو داود [4].
فمن هنا كان خلفاء الرسل وأتباعهم، من أمراء العدل وأتباعهم وقضاتهم، لا يدعون إلى تعظيم نفوسهم البتة، بل إلى تعظيم الله وحده، وإفراده بالعبودية والربوبية.
الطريقة الثانية:
طلب الشرف والعلو على الناس، بالأمور الدينية، كالعلم والعمل والدعوة والإرشاد والتوجيه، فهذا أفحش من الأول، وأقبح وأشد فسادا وخطرا؛ فإن العلم والعمل والدعوة، إنما يطلب به ما عند الله، فإذا طلب به المال فقد طلبه بالأسباب المحرمة، قال رسول الله : ((من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا في الدنيا، لم يجد رائحة الجنة يوم القيامة)) رواه أحمد وغيره [5].
وسبب هذا هو أن العلم يدل على الجنة، ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه، حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات، فلم يستعملها إلا في أخس الأمور وأحقرها.
كتب وهب بن منبه إلى مكحول: (أما بعد، فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفا ومنزلة، فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تنازع الأخرى).
وبكل حال ـ أيها المسلمون ـ فإن طلب شرف الآخرة يحصل معه شرف الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه، وطلب شرف الدنيا لا يجامع شرف الآخرة ولا يجتمع معه، والسعيد من آثر الباقي على الفاني، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ?لرَّحْمَـ?نُ وُدّاً [ مريم:96] أي في قلوب عباده.
وفي الحديث عن المصطفى أنه قال: ((إن الله إذا أحب عبدا، نادى: يا جبريل أحب فلانا فيحبه جبريل، ثم يحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)) رواه البخاري ومسلم [6].
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى? تِجَـ?رَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ وَمَسَـ?كِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّـ?تِ عَدْنٍ ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَأُخْرَى? تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن ?للَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [ الصف:10-13].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح، سنن الترمذي ح (2376). وأخرجه أيضاً أحمد (3/456).
[2] صحيح البخاري ح (6622)، صحيح مسلم ح (1652).
[3] صحيح البخاري ح (7149)، كما أخرجه أيضاً مسلم ح (1733).
[4] صحيح، مسند أحمد (2/376)، سنن أبي داود ح (4090)، وأخرجه ابن ماجه (4174).
[5] صحيح، مسند أحمد (2/338). وأخرجه أيضاً أبو داود ح (3664)، وابن ماجه ح (252).
[6] صحيح البخاري ح (3209) ولم أجده في صحيح مسلم. ولم يذكره المزي في التحفة سوى عن البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا أن الشرف الحقيقي، ليس هو الأمنية والتشهي اللذين تطلبهما النفس تارة بعد أخرى، ويعبر عنها الإنسان بليت لي كذا وكذا من المال والفضل، لا وكلا.
إنما الشرف دين يتبعه عمل، ويصحبه حمل النفس على المكاره، وجبلها على المشاق والمتاعب، وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر، والشدائد بالجلد.
والشريف هو كل مؤمن بالله، صادق الإيمان، صحيح العقيدة، وفى لربه وأدى ما عليه وأبى الدنية في دينه، ولم يرضخ لوساوس الشيطان وألاعيبه، فدينه الإسلام ومصدر الحكم عنده كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح، فلا يرضى لدينه أن يدنس، ولا لماله أن يستباح، ولا لأهله أن تنتهك حرماتهم، وحمى شعائر الله ومقدساته ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
الشرف بهذا المفهوم بهاء للشخص، يحوم عليه بالأنظار، ويوجه إليه الخواطر والأفكار، ومشرق ذلك البهاء عمل يأتيه طالبه، يكون له أثر حسن في أمته أو بني ملته، كإنقاذ من تهلكة، أو كشف لجهالة، أو تنبيه لحق سلف، أو إيقاظ من غفلة، أو جمع كلمة، أو تجديد رابطة، أو إعادة قوة وانتشال من ضعف، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
من أتى عملا من هذه الأعمال وهو مؤمن بالله إيمانا صادقا، فهو الشرف الحق، وإن سكن غياهب الجبال، ولبس الرث من الثياب، وبات على تراب الفقر، هذا له حلية من عمله، وزينة من فضله، وبهاء من جده، يهدي إليه ضالة الألباب، وتائهة الأفئدة، تعرفه المشاعر الحساسة ولا تنكره، وله معزة مشرقة، في جباه الصالحين من المسلمين وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:26].
وأما الشرف الزائف فيمكن علاجه بدوام النظر في سنة المصطفى فإن فيها تحذيرا شديدا من سؤال الولاية أو تعلق القلب بها، وبدوام التعويد على الطاعة وهضم النفس، فإن ذلك له أثره الظاهر في كبت جماح النفس وتطلعاتها المشبوهة، وخلع تلك الأمراض من القلب والرضى بالحال التي يوضع فيها المسلم قال رسول الله : ((تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحرسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)) رواه البخاري [1].
كما ينبغي للعبد أن يتذكر منزلة الدنيا والآخرة على نحو ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه ، قُلْ مَتَـ?عُ ?لدُّنْيَا قَلِيلٌ وَ?لاْخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ ?تَّقَى? [ النساء:77]. فَمَا مَتَاعُ ?لْحَيَاةِ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [ التوبة:38]. ي?قَوْمِ إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [ غافر:39]. وغير ذلك من الآيات الكريمات.
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
[1] صحيح البخاري ح (2887).
(1/475)
نعم المال الصالح للرجل الصالح
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نظرة الإسلام إلى المال. 2- فوائد جمع المال للمؤمن. 3- الإسلام يحرض على الكسب
ويحذر من الكسل. 4- الكسل في طلب الرزق يجعل الإنسان في حاجة الناس ومسألتهم.
5- ذم طبقة الأثرياء والذين شغلتهم الدنيا عن الآخرة. 6- ذم طبقة البطالين الذين زعموا أن
الآخرة شغلتهم عن الدنيا وكسبها. 7- فائدة المال للعبد الصالح. 8- ترغيب الإسلام في جمع
المال الحلال وتكسبه وترغيبه في العمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، وكثرة حمده على آلائه إليكم، ونعمائه عليكم، وبلائه لديكم، فكم خصكم بنعمة، وأزال عنكم نقمة، وتدارككم برحمة، أُعوزتم له فستركم، وتعرضتم لأخذه فأمهلكم، فإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
أيها الناس، إن المتتبع لشريعة الإسلام في القرآن والسنة يرى اعتبار المال الصالح قوام الحياة، والحث على تحصيله وحسن تدبيره وتثميره، بل لقد أجمع الأنبياء والرسل قاطبة على الديانة بالتوحيد في مللهم، وعلى حفظ المال والنفس والعقل والعرض.
ومن المسلمات المعلومة بالضرورة، أن المال زينة الحياة الدنيا، وأنه مطلوب محبوب، وأن الإسلام لا يمنع طلبه عن طريق طيبه وحله، بل إنه يحرض على كسبه، وحسن التصرف، لتقضى به الحقوق، وتؤدى الواجبات، وتصان الحرمات.
إن المال في الحقيقة، لا يطلب لذاته في هذه الدنيا، وإنما يطلب عادة، لما يضمنه من مصالح، ولما يحققه من منافع، إنه في حد ذاته وسيلة لا غاية، والوسيلة عادة تحمد أو تعاب بمقدار ما يترتب عليها من نتائج حسنة وآثار سيئة، فالمال كالسلاح، إن كان في يد مجرم قتل به الأبرياء، وإن كان في يد مجاهد مناضل دافع به عن دينه ونفسه وأهله ووطنه، وقد قال تعالى عن المال، وما يسوقه من خير أو شر: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى? وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَ?سْتَغْنَى? وَكَذَّبَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى? وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى? [الليل :5-11].
وقال تعالى: كَلاَّ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? [العلق:6-7].
وما أسعد المسلم، حين تعتدل أمامه مسالك الحياة، فيعمل ويتصبب عرقه، فيزكيه ذلك العرق ويطهره من فضلات الكسل وجمود النفس، ويكسب الكسب الحلال الطيب، وتستقيم يده، وهي تنفق من هذا الكسب الكريم، ويدخر لنفسه، ما يحتاج إليه في غده. قال رسول الله لسعد بن أبي وقاص: ((إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) متفق عليه [1] ، وقال : ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه أحمد ومسلم بنحوه [2].
أيها الناس، نعق كذا ناعق فزعموا بحماقة وصفاقة أن الإسلام لا يريد من أهله إلا أن يكونوا فقراء صاغرين، ويقولون ضالين: إن الله إذا أعطى الدنيا لأحد حرمه من الآخرة، ويستشهدون بقول القائل:
إن الفقيه هو الفقير وإنما راء الفقير تجمعت أطرافها
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
والواقع ـ أيها المسلمون ـ أن تلك فرية عظيمة، تنسب إلى الإسلام وهو منها براء، بل إن الإسلام هو الذي يحرض على الكسب والنشاط قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـ?تِ مِنَ ?لرّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [الأعراف:32].
فالمؤمن ليس درويشا في معتكفه، أو راهبا في ديره. لا عمل له ولا كسب، الإسلام لا يعرف المؤمن إلا كادحا عاملا، مؤديا دوره في الحياة، آخذا منها معطيا لها هُوَ ?لَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ?لأَرْضَ ذَلُولاً فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ?لنُّشُورُ أَءمِنتُمْ مَّن فِى ?لسَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ?لأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ [الملك:15]. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها [هود:61]. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا [القصص :77].
وقد رأى الفاروق قوما قابعين في ركن المسجد بعد صلاة الجمعة، فسألهم من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون على الله، فعلاهم عمر بِدِرَّتِهِ ونهرهم وقال: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وإن الله يقول: فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ [الجمعة:10].
وإن الفاروق ، يشكو من متوكلين لا يعملون، ففي حياتنا المعاصرة نشكو من الأمرين معا، من متوكلين لا يعملون، ومن عاملين لا يتوكلون.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فيحجون فيأتون إلى مكة فيسألون الناس، فأنزل الله وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197]. قال محمد بن عبيد: كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوس بالمسجد الحرام، فيقول: ما يجلسكم؟ قلنا: فما نصنع؟ قال: اطلبوا من فضل الله، ولا تكونوا عيالا على المسلمين.
وسأل رجل ابن حنبل فقال: أيخرج أحدنا إلى مكة متوكلا لا يحمل معه شيئا؟ قال: لا يعجبني، فمن أين يأكل؟ قال: يتوكل فيعطيه الناس، قال: فإذا لم يعطوه أليس يتشرف حتى يعطوه؟ لا يعجبني هذا، لم يبلغني أن أحدا من أصحاب النبي والتابعين فعل هذا، ولكن يعمل ويطلب ويتحرى.
قال رسول الله : ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)) رواه أحمد والترمذي وهو صحيح [3].
وهذا الحديث أخطأ القَعَدَة في فهمه، فإن الطيور لم يأتها رزقها رغدا إلى أوكارها، وهي قابعة في أعشاشها، وإنما غدت في الصباح سعيا في طلبه، فراحت في المساء وقد شبعت من رزق الله تعالى وفضله.
أيها المسلمون، إن من المتحتم عقلا أنه لا يدعو المسلمين إلى المسكنة والافتقار والاتكال في القوت على الغير، أو يصف الإسلام بالحض على ذلك إلا أحد اثنين؛ إما جاهل بالدين الحنيف يحسبه رهبانية مبتدعة، أو تبتلا مسرفا، وإما مخادع ماكر له في تلك الدعوة مآرب خبيثة، فهو مطعون النصيحة، خبيث الغاية، كيف لا، ورسول الله يقول: ((تعوذوا بالله من الفقر والقلة، والذلة)) رواه أحمد [4] ، ويقول : ((اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)) رواه أحمد وغيره [5].
إن الشيطان بحيله ومكره يخوف المؤمنين من كسب المال، فينفر طالب الآخرة منه، ويبادر التائب يخرج ما في يده، فإذا أخرجوا ما بأيديهم بذلوا أول السلع في التحصيل، دينهم وعرضهم. ويصيرون متمندلين به، ويقفون في مقام اليد السفلى التي هي الدون، والعاقل من الناس من يسعى لكسب ماله وحفظ ما معه، لينجو من مداراة غني ظالم، أو مداهنة بطر جاهل. وقد تعرض نوائب كالمرض يحتاج فيها إلى شيء من المال فلا يجد الإنسان بدا من الاضطراب في طلبته، فيبذل عرضه أو دينه.
إن الإسلام، يريد من أهله أن يكونوا أغنياء أقوياء، لا مهازيل ضعفاء، أغنياء بمالهم ليكون سياجا للدين، ومددا لتسليحه وحمايته، فقد قال تعالى في قيمة المال، لإحراز النصر ورفع الشأن: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ?لْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـ?كُم بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـ?كُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6].
فإن الأمم تنتصر بعد توفيق الله، بالمال والبنين، ويوم يكون مالها أداة ترف، ومصدر استعلاء وطغيان، ويوم يكون به الأغنياء أحلاس لهو ولعب؛ فالويل والخسران لأمة، أورثها مالها هذه الحال. أعاذنا الله وإياكم من حال أهل النار.
أيها المسلمون، بالمال الحلال، استطاع المهاجرون إلى المدينة أن يزاحموا اقتصاد أهل الكتاب، وأن يجعلوا المال مالا إسلاميا، وهذا بحد ذاته له خطورته الظاهرة في كسب النصر للدين نفسه، فإن الاقتصاد في الأمم يوم تعبث به أيادي من لا ملة لهم ولا شرف؛ فإنهم يسخرونه ولا شك في ضرب الملة السمحة؛ ولذلك كان الإسلام شديد الحض على أن ينطلق المؤمنون في المشارق والمغارب يكسبون رزقهم ويطلبون من فضل الله، في فجاجه العميقة، هنا وهناك، أو المخبوءة تحت طباق الثرى وَلَقَدْ مَكَّنَّـ?كُمْ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـ?يِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10].
إن المتبطلين العاطلين، المكتسبين البطالة بالزمالة، يعتمدون على من سواهم، ويستغلون عرق غيرهم، فهم كدود العلق الذي يمتص الدماء، يحملقون إلى مواضع المحسنين، قد قضوا على أنفسهم أن يعيشوا مرضى بالصحة، مشغولين بالفراغ، أغنياء بالفقر، ولقد قال المصطفى : ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) رواه البخاري ومسلم [6].
قال ابن قتيبة رحمه الله: اليد العليا هي المعطية، فالعجب عندي، من قوم يقولون هي الآخذة، ولا أرى هؤلاء القوم إلا قوما استطابوا السؤال، فهم يحتجون للدناءة، فأما الشرائع فإنها بريئة من حالهم.
عباد الله، لما فقد المال الصالح من يد الرجل الصالح، بليت المجتمعات ـ إلا من رحم الله ـ بطائفتين منحرفتين:
الأولى منهما: هي: طائفة الأثرياء المترفين، الذين ضعف عند بعضهم الخلق والدين، واستخفوا بقواعد الإيمان ومبادئ الإسلام، يأكلون كما تأكل الأنعام ويشربون شرب الهيم، دون أن يؤدوا واجبا لدينهم أو مجتمعهم، يتعاملون في الشرف على أصول من المعدة، لا من الروح، وإذا عظموا الدينار والدرهم فإنما عظموا النفاق والطمع والكذب، إذ إن حرصهم فوق بصيرتهم، ولهم في النفوس رائحة الخبز، دينهم في مقاييس البشر: خمس وخمس تساوي عشرة، وسجاياهم المتكررة، منع وهات؛ بل هات وهات، لكنهم مع ذلك لا يجدون في المال معنى الغنى، إذ كم من غني يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يجد!
والطائفة الثانية: طائفة المفلسين القعدة الذين استمرؤوا الكسل والبطالة والتشرد، دون مال يملكونه، أو عمل يؤدونه، ومع ذلك يطلقون لأنفسهم العنان في مباءات من الانحلال والمعاصي، فيجمعون بين السوءتين؛ ضلال وإفلاس قبيحين.
إن الذين يكسلون ولا يربحون ثم يتسولون أو يحتالون باسم التكسب أو العيش، ليسوا على سواء الطريق، والذين يحبون المال حبا جما، حتى يعميهم عن دينهم وأخلاقهم وخلواتهم القلبية وخلواتهم الروحية، ليسوا على سواء الطريق أيضا، إذ (كلا طرفي قصد الأمور ذميم)، وخير الأمور الوسط، والوسط ما قاله رسول الهدى : ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)) رواه أحمد [7].
فرحم الله عبدا كسب فتطهر، واقتصد فاعتدل، وذكر ربه ولم ينس نصيبه من الدنيا. ويا خيبة من طغى ماله عليه، وأضاع دينه وكرامته! وكان من الذين قال الله فيهم: وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـ?رَةً أَوْ لَهْواً ?نفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً [الجمعة:11].
عباد الله، إن المال غادٍ ورائح، ومقبلٌ ومدبرٌ، وما هو إلا وسيلة للإنفاق والبذل، كما قال رسول الله : ((أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى)) رواه البخاري ومسلم [8].
ولا يليق بالرجل القادر، أن يرضى لنفسه، أن يكون حِمْلاً على كاهل المجتمع، ثقيلا مرذولا، وأن يقعد فارغا من غير شغل، أو أن يشتغل بما لا يعنيه، إن هذا لمن سفه الرأي، وسذاجة العقل، والجهل بآداب الإسلام، قال عمر : (إني أرى الرجل فيعجبني شكله، فإذا سألت عنه فقيل لي: لا عمل له، سقط من عيني).
إن العمل، مهما كان حقيرا فهو خير من البطالة، وخير من سؤال أحد من ذوي المال؛ إن أعطاه فقد حمل ثقل المنة مع ذُلّ السؤال، وإن منعه فقد باء بذل الخيبة مع ذل السؤال. والعز بلا سؤال، ألذ من كل لذة بسؤال، والخروج عن ربقة المنن ولو بسف التراب أفضل، وإن نفس الحر لتحتمل الظما، حتى لقد قال الفاروق : (مكسبة في دناءة خير من سؤال الناس).
ولقد قال لقمان لابنه: (يا بني، استغن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد إلا أصابته إحدى ثلاث خصال: رقة في دينه، أو ضعف في عقله، أو وهاء في مروءته وأعظم من هذا، استخفاف الناس به).
ولا خير في نيل من ماله عزيز النوال بذل السؤال.
وصلوات الله على المبعوث رحمة للعالمين، حيث يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال)) أخرجه النسائي وأبو داود [9] ، ويقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع)) أخرجه النسائي وأبو داود [10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح البخاري ح (1295)، صحيح مسلم ح (1628).
[2] حسن، مسند أحمد (2/160)، وصحيح مسلم ح (996).
[3] مسند أحمد (1/30)، سنن الترمذي ح (2344)، وقال : حديث حسن صحيح.
[4] صحيح، مسند أحمد (2/540) وتمامه : ((... وأن تظلم أو تُظلم)).
[5] صحيح، مسند أحمد (5/36)، وأخرجه النسائي ح (1347) والحاكم (1/35) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي والألباني. تمام المنّة ص233.
[6] صحيح البخاري ح (1429)، صحيح مسلم ح (1033).
[7] صحيح، مسند أحمد (4/197).
[8] صحيح البخاري ح (5356)، صحيح مسلم ح (1034).
[9] صحيح، سنن النسائي ح (5453)، سنن أبي داود ح (1555).
[10] حسن، سنن أبي داود ح (1547)، سنن النسائي ح (5468).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإسلام رغب في العمل والكسب الحلال، والاتجار في جمع المال؛ فقد سئل رسول الله : أي الكسب أفضل قال: ((عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)) رواه الطبراني وهو صحيح [1] ، وقال : ((ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)) رواه البخاري [2]. وثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال: ((كان زكريا عليه السلام نجارا)) [3].
وروى الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن النبي أنه قال: ((التاجر الصدوق الأمين، مع النبيين والصديقين والشهداء)) [4].
ومر رجل على النبي فرأى أصحاب رسول الله من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله : ((إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء...)) [5].
ولقد كان أبو بكر أتجر قريش، وكان الفاروق يقول: (يا أيها الناس كتب عليكم أن يأخذ أحدكم ماله فيبتغي فيه من فضل الله عز وجل، فإن فيه العبادة والتصديق، وايم الله، لأن أموت في شعبتي رحلي، وأنا ابتغي بمالي في الأرض من فضل الله، أحب إلي من أن أموت على فراشي).
وما قتل الخليفة الراشد عثمان حتى بلغت غلة نخله مائة ألف. وقال عبد الرحمن بن عوف: (يا حبذا المال، أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي).
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ: أن البطالة من أخطر المشكلات الاجتماعية وأسوئها عاقبة، وأشدها تأثيرا على طمأنينة الحياة وهناءة العيش، وهي رُقْيَةُ التسول والسرقة والغش والخداع.
والإسلام نظر إلى المكلف نظراعتبار، حيث دعاه إلى نزول ميادين العمل على أنواعها، إما مأجورا، أو حرا مستقلا، أو مشاركا في المال إن استطاع. فإذا صاحب ذلك كلَّه، صِدقٌ وأمانة، وإخلاص وتوكل، كان له النجاح والربح والبركة والنماء بإذن الله.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وسيد البشرية...
[1] المعجم الكبير للطبراني (4411).
[2] صحيح البخاري ح (2072).
[3] صحيح مسلم ح (2380).
[4] سنن الترمذي ح (1209)، سنن ابن ماجه ح (2139). قال البوصيري في الزوائد : في إسناده كلثوم بن جوشن القشيري، ضعيف.
وقال ابن حجر في كلثوم هذا: ضعيف. تقريب التهذيب (5691). وانظر غاية المرام للألباني (166).
[5] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/129). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/325) : رواه الطبراني في الثلاثة، ورجال الكبير رجال الصحيح.
(1/476)
وافق شن طبقة (في التشبه بالكفار)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, الولاء والبراء
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من التشبه بالكفار. 2- أشكال من التشبه بالكفار. 3- الدعوة للرجوع إلى الكتاب
والسنة. 4- استجابة المرأة لدعوات التشبه بالكفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه في السراء والضراء، وفي الخلوات والجلوات، ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
أيها الناس، إن الناظر المتأمل، في تاريخ الأمم والشعوب، ليعجب أشد العجب ولتأخذه الحيرة أخذا مسرعا، لما يظهر له مما يطرأ على الأمم والشعوب، من التغيرات والتقلبات، أمة قائدة رائدة، دهورا مديدة من الزمن، تعثر ركابها فسقطت رايتها، فإذا هي في مهاوي التقليد الأعمى، تتبع آثار الأمم سواها في كل نهج وسلوك، على حين أنها أمة في أعلى مراقي الحياة، وأوج العزة والقوة، إذا هي تتدهده في الحضيض الأوهد، والشقاء المؤصد، تموت بعد حياة، وتسفل بعد علو، وتذبل بعد إزهار.
كانت قد وردت مناهل هذا العلم، وتلك الحضارة الإسلامية البريئة، فصدروا عنها بملء سجلهم، وأجلبوا عليها بخيلهم ورجلهم، إلى أن خرج عنهم المفتاح فكأن الباب أغلق دونهم، وظهر من مشكاة الغرب مصابيح محرقة، فكأنما حيل بينهم وبين مصدر الرفعة الأسبق، وتسلط على عضدهم لسان من يعرف ((من أين تؤكل الكتف)). فأخذ المسلمون عنهم رسوما هي من حضارتهم مسترقة، وعلقوا أشنانهم بطبقاتهم، فوافق شن طبقه، فيالها من غنيمة باردة! لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب، ولم يزحف إليها بعدو عَيْدِيَّة، ولا بلحاق لاَحِق، وانسكاب سَكاَب [1].
أيها المسلمون، المقلد المحاكي لأهل الكفر والشرك إنما هو أذن وعين ولسان وقلم لنهجهم وفكرهم، يصلح بإفساد، ويداوي الحمى بالطاعون، فهو (كغاسل الحيض ببول أغيرا) ويعمل بتبعيته المهزومة ما يشبه قطع ثدي الأم، وهو في شفتي رضيعها المحضون. وما علم هذا الغِرُّ وأمثاله أن التقليد الأعمى للغرب، فيه ألغام مخبوءة، وأن حقوقنا ومروءاتنا مقتولة بتقليد أعمى، وغرور بليد.
أيها المسلمون، قال رسول الله : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) رواه البخاري ومسلم [2].
وللبخاري عنه أنه قال: ((لا تقوم الساعة، حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع، قيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك؟)) [3].
فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم.
كَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْو?لاً وَأَوْلَـ?دًا فَ?سْتَمْتَعُواْ بِخَلَـ?قِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلـ?قِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَـ?قِهِمْ وَخُضْتُمْ كَ?لَّذِي خَاضُواْ [التوبة:69].
قال ابن عباس : (ما أشبه الليلة بالبارحة هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم).
وقال ابن مسعود : (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟).
عباد الله، لقد كان النبي ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة؛ بل قد تواتر عنه أن طائفة من أمته ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة.
فالمسلمون هم أهدى الناس طريقا، وأقومهم سبيلا، وأرشدهم سلوكا في هذه الحياة. وقد أقامهم الله تعالى مقام الشهادة على الأمم كلها وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
وإن هذا المقام مقامٌ عزيز كريم، كيف يتناسب معه أن يكون المسلمون أتباعا لغيرهم من كل ناعق؟ يقلدونهم في عاداتهم، ويحاكونهم في أعيادهم وتقاليدهم، ورسول الله نهى المسلمين جميعا أن يتلقوا عن أهل الكتاب. فعن جابر أن عمر بن الخطاب أتى إلى النبي بكتاب أصحابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب وقال: ((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) رواه أحمد وابن أبي شيبة [4].
إن الله تعالى جبل بني آدم بل وسائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر، كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط؛ ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة، بل إن الآدمي إذا عاشر نوعا من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه؛ ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة والوقار في أهل الغنم، وصار الجمالون البغالون فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق الجمال والبغال، وصار الحيوان الإنسي، فيه بعض أخلاق الناس، من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة.
وإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم؛ لأن المشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة، على وجه المسارقة والتدرج الخفي، وهذا ما يشهد به الواقع، فضلا عن بيان الشرع وموافقة العقل، وقديما قيل: (الطيور على أشكالها تقع)، وهذا مثل صحيح، يوافق سنة الله في خلقه، وصدق رسول الله حيث يقول: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد وأبو داود [5].
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: وقد رأينا اليهود والنصارى، الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى، هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام.
عباد الله، إن التشبه بأهل الكفر والشرك في أزيائهم وعاداتهم وأحكامهم وسياساتهم واقتصادهم قد جرى في كثير من أوساط المسلمين جريان الدم في العروق، وسرى سريان النار في يابس الحطب، بل ولربما صار المتفرنج المحاكي موضع إجلال الدهماء وإكبارهم، يحتذيه لهازم الناس وأغرارهم، حتى يساير ذلك كله الغوغاء من أبناء هذه الأيام، مترفهم ومثقفهم، بل وحتى من كان على فراش الإملاق منهم. أفٍّ للتقليد والتبعية! ما أثقل أغلالهما! وما أشد عتمة مسالكهما! وما أبخس صفقة الذين لا يتزحزحون عنها!
نعم، أف ثم أف، للتقليد ومسايرات الغرب! فكم أوقفت بعض الأجيال في سجون ضيقة مظلمة، من التبعية الماحقة، وحجبت عنهم أنواع التفكر والتبصر والعزة، وغممت عليهم مطالع السعادة الحقيقية للنفوس.
أف ثم أف للتقليد والتبعيات! فهي قاطعة الطريق على نتائج العقول، تزج بها في مهاوي العدم، أو تذرها في سجن أقفر، ممنوعا عنها كل ما يحييها.
إن الأمة المسلمة يجب أن تكون متبوعة لا تابعة، وقائدة لا منقادة، ويجب ألا تغتر بما تراه من زخرف الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت عراها وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:131].
وإن حضارة الغرب، كالسراب، الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد، كأنه بحر طام وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـ?لُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ?لظَّمْانُ مَاء حَتَّى? إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ?للَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـ?هُ حِسَابَهُ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [النور:39].
ألا فليعلم الضعفاء والمغفلون منا، الذين يحاولون في تبعيتهم أن يؤلفوا الأمة على خلق جديد، ينتزعونه من المدنية الغربية، ألا فليعلموا أن الخلق الطارئ لا يرسخ بمقدار ما يفسد من الأخلاق الراسخة، وإذا كان البعض يشعر في قرارة نفسه أنه لابد للأمة في نهضتها من أن تتغير، فإن رجوعنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا ، أعظم ما يصلح لنا من التغير، وما نصلح به منه إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11].
إننا إذا أخذنا في أسباب القوة، وتمثلت فينا الأخلاق المتينة، من الإرادة والتقوى والإقدام، والحمية الإسلامية، وإذا جعلنا لنا صبغة خاصة تميزنا عن سوانا، وتدل على أننا أهل دين وخلق، إذا كان ذلك كله، فلعمر الله، أي ضير في ذلك كله، وهل تلك إلا الأخلاق الإسلامية الحقة، وهل في الأرض نهضة ثابتة تقوم على غيرها صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـ?بِدونَ [البقرة :138]. أَفَغَيْرَ ?للَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ?لَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ?لْكِتَـ?بَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114].
وأما أن نأخذ من الغرب الكافر عادات وطبائع أجنبية عن ديننا، فلنتذكر أن الإسلام إسلام، وأن الكفر كفر، وأن القوم في نصف الأرض، ونحن في نصفها الآخر، ولقد كنا سادة قبل أن كانت هذه العادات الغربية التي رأينا فيها ومن أثرها في المجتمعات المسلمة الحرة ما أفسد رجولة بعض رجالها وأنوثة بعض نسائها خاصة، لأنهن يندفعن اندفاعا محموما وراء المجهول، في حلبة التقليد الأعمى، لقد راعهن من الغرب بريق مصانعه وطرافة منتجاته، فرضين بالسير وراء الهابطات من نسائه، حتى أصبحن لا يرضين عن أثوابهن إلا بمقدار انطباقها على نماذجهن، الواردات في أزياء نساء الغرب وأشباههن، فإذا رأيت ثوب إحداهن كاسيا يستر بعض العورة، فاعلم أنه صورة من ذلك الأنموذج الجديد. قال عنهن المصطفى : ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن)) رواه البخاري ومسلم [6].
ولما أنشده الأعشى أبياته التي يقول فيها: ((وهن شر غالب لمن غلب)) جعل النبي يرددها ويقول: ((وهن شر غالب لمن غلب)) رواه أحمد [7]. ولذلك امتن الله على زكريا عليه السلام حيث قال: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]. وقال: فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ [النساء :34].
أيها المسلمون، إن القيود التي يفرضها الدين على الإنسان، لا يريد بها عذابه ولا حرمانه، إنما يريد بها أن يرتفع بها من الحيوانية الهابطة، إلى الإنسانية الصاعدة، وبذلك ينتصر المسلم على التبعية التحررية، ويتغلب الإيمان والتقوى على الشهوة البَهَميَّة السبعية، وإن كل مجتمع يخرج على هذه القيود أو يهون من شأنها، فإنه يعرض نفسه للخطر ويقرب بها من حافة الهاوية وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة:229].
ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [القصص:50].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] لاحق وسكّاب فرسان للعرب مشهوران ، والعيدية هي النوق النجائب ، منسوبة إلى بني العيد.
[2] صحيح البخاري ح (7320) ، صحيح مسلمح (2669).
[3] صحيح البخاري ح (7319).
[4] حسن ، مسند أحمد (3/338) ، مصنف ابن أبي شيبة (6/228).
[5] صحيح ، مسند أحمد (2/50) ، سنن أبي داود (4031) ، وانظر فتح الباري (10/274).
[6] صحيح البخاري ح (304) ، صحيح مسلم ح (79).
[7] مسند أحمد (2/201-202). قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (ح6885) : إسناده صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي، هدي محمد ، وشر الأمور ما أحدث على غير هدً من الله، أو سنة سنها محمد بن عبد الله، فلقد ـ نهى بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ـ عن كل ما يفضي إلى مشابهة الكفار، حتى لقد قال اليهود عنه: ((ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه)) رواه مسلم [1].
وقد نهى فيما رواه مسلم في صحيحه عن الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، ونهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعلل ذلك بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار [2].
ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها؛ ومع ذلك فقد نهى عن الصلاة في هذا الوقت، حسما لمادة المشابهة بكل طريق.
وعليه فمشابهة أهل الكتاب والكفار من الأعاجم ونحوهم لابد أن تورث عند المسلم نوع مودة لهم، أو هي على الأقل مظنة المودة، فتكون محرمة من هذا الوجه؛ سدا للذريعة، وحسما لمادة حب الكافرين، والولاء لهم، فضلا عن كونها محرمة من وجوه أخرى، بالنصوص الشرعية الواردة وغيرها.
وإننا لندرك بوضوح أن فئاما ممن يتشبهون بالكفار، في لباسهم أو سلوكهم أو عاداتهم، أو يتكلمون بلغتهم، أنهم تميل نفوسهم إلى حبهم وتقديرهم والإعجاب بهم، ومن هنا ينجح أهل الكفر، في أن يروجوا بين المسلمين دعوات مدوية يكون لها رجع الصدى في بعض النفوس المريضة إلى حضارات عالمية، وزمالات أديان، تهدف إلى إذابة الشخصية الإسلامية، حتى إن المتنكر لهم يسمى انعزاليا وانطوائيا، بل ورجعيا ضيق الأفق، معزولا عن العالم، يجب أن يموت في مهده ـ زعموا ـ.
فما المانع عندهم إذاً من أن تصلصل النواقيس، بجانب المآذن المدوية الله أكبر الله أكبر، وما المانع عندهم أن تتعانق الأديان على أرض جزيرة العرب، ناسين أو متناسين قول المصطفى : ((لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)) رواه مالك وأحمد بنحوه [3].
وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120].
وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
[1] صحيح مسلم ح (302).
[2] المصدر السابق ح (858 ، 832).
[3] موطأ مالك (2/892) وهو مرسل ، أما حديث أحمد فهو في المسند (1/22) وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال حين اشتد به الوجع: ((ايتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده)) وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال : ((أوحي بثلاث)) قال : ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب..)) الحديث.
قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (1935): إسناده صحيح.
(1/477)
الجاهلية الجهلاء
التوحيد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, نواقض الإسلام
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نظرة إلى المجتمع الجاهلي قبل الإسلام. 2- الحج في الجاهلية مزيج بين التوحيد والوثنية
والفضائل والرذائل. 3- خطبة حجة الوداع. 4- لفظة الجاهلية في القرآن. 5- أمر الله
المسلمين بمخالفة مسائل الجاهلية. 6- من مسائل الجاهلية المنبوذة الشرك والفرقة والتفاخر
وتحاكم إلى غير شرع الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فوصيتي لنفسي ولكم عباد الله هي تقوى الله سبحانه ، في السر والعلن ، والسفر والحضر ، والفرح والحزن ، في خلواتكم وجلواتكم إن الله يحب المتقين.
أيها الناس :
لقد ابتليت المجتمعات الجاهلية في غابر الأزمان ، برجس الأصنام والوثنية ، والخمر والميسر، والأنصاب والأزلام ، يتخرج منها رجال ونساء ، في الشرك والتضليل ، والجهالة والعبْيَّة الجاهلية ، حتى لقد أصبحت مقاصد الحج عندهم عبارة عن تجمعات مكثفة ، في سوق عكاظ، يقصدها الناس من شتى أنحاء البلاد ، وكان يقام فيها السوق ، شهر ذي القعدة نحوا من نصف شهر ، ثم يأتون بعد ذلك موضعا دونه إلى مكة ، يقال له : سوق مجنة ، فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر ، ثم يأتون موضعا قريبا منه ، يقال له : ذو المجاز ، فيقام فيه السوق إلى يوم التروية ، ثم يصدرون إلى منى.
كانت تجتمع في هذه الأسواق قبائل العرب ، ووفود ملوكهم ، بالهدايا والقرابين إلى الأصنام ، يتناشدون الأشعار ، ويفتخرون بالسلب والنهب ، وقتل الأنفس البريئة دون ما ذنب أو جريمة، ويمارسون وأد البنات إبان حياتهن ، ويعدون ذلك من المكرمات ، التي تهون دونها الحرمات.
عباد الله :
لقد كانت مواقف الجاهلية في الحج ، مواقف مخزية ، إنما هي خليط ممزوج ، من الأضداد والمتناقضات ، يظهر ذلك جليا في بعض المواقف المتكررة ، ومن ذلك مثلا تلبيتهم في الحج، التي يخلطون معها الشرك فيقولون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.
وكانت قبيلة عك إذا خرجت حاجة ، قدمت أمامها غلامين أسودين من غلمانهم ، فكانا أمام ركبهم فيقولان : نحن غرابا عك ، فتقول عك من بعدهما : عك إليك عانية ، عبادك اليمانية ، كيما نحج الثانية ، هذه هي تلبيتهم.
ولقد كانت قريش ومن دان بدينها ، يقفون بالمزدلفة ، وسائر العرب يقفون بعرفات ، حتى أنزل الله على رسول ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس [سورة البقرة:199].
ومن مظاهر الجاهلية في الحج – عباد الله – ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما بقوله : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ، ويحمل الحمالات ، ويحمل الديات ، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً [سورة البقرة :200].
وفي خضم الجاهلية الجهلاء يمن الرب الرحيم القادر الحليم على عباده ، بالنبي الختم ذي النفس الطاهرة ، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، فأنزلت آيات الكتاب المتلوة ، وأبلغ الرسول دعوته ، فسمع الأصم نبراته ، وأبصر الأعمى آياته ، جاء البشير النذير والسراج المنير ، فاقتلع الوثنية من جذورها واستأصل شأفتها ، بعد أن سفه أحلامهم وعاب آلهتهم في مدة من الزمن وجيزة هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [سورة الجمعة :2].
ويمن الله عليه بفتح مكة ، وتحطيم ما فيها من أصنام وأوثان ، ثم يرسل أبا بكر في السنة التاسعة حاجا ، لينادي بالناس ، ألا يحج بعد العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان ، ثم يأتي صلوات الله وسلامه عليه حاجا في السنة العاشرة ، ليختم دعوته ، بلقاء حافل مع جموع المسلمين ، في عرصات المشاعر المقدسة ، ويقول لهم : (( خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )) ، وفي عرصات عرفة ، في اليوم الذي أكمل الله فيه دينه وأنزل قوله اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [سورة المائدة:3].
في يوم عرفة عباد الله ، يرى الحبيب أن هذا الجمع العظيم ، وهذه القلوب الصافية الخاشعة، فرصة عظيمة ؛ لأن تعي ما سيقول لها ، من قواعد عظيمة ، ربما عدوها وصية مودع مشفق ، فيقف على راحلته ، ويخطب الناس خطبته المشهورة ، كما جاء في السنن لأبي داود وابن ماجة وغيرهما ، فكان مما قال فيها : ((ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمانا ، دم ابن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع كله ، وأول ربا أضع ربانا ، ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله.. )) الحديث.
إن هذه الكلمات ، المنبعثة من، مشكاة النبوة ، ليؤكد المصطفى حتمية المخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية ، ويبين بذلك أن مسمى الجاهلية ، يعني أن يكون الأمر إسلاما اولا إسلام ، فالجاهلية والإسلام أمران نقيضان ، لا يمكن أن يجتمعا في نفس واحدة البتة.
إن كلمة الجاهلية ، لم تكن نشازا من حديث النبي لا وكلا ، بل هي كلمة مطروقة ، تكرر ذكرها في غير ما موضع من كتاب الله وسنة رسوله ، فقد قال سبحانه أفحكم الجاهلية يبغون [سورة المائدة :50]. وقال عز وجل يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية [سورة آل عمران:154]. ويقول جل شأنه ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [سورة الأحزاب :33]. ويقول أيضا إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية [سورة الفتح :26].
ولقد بوب البخاري في صحيحه بابا فقال : باب المعاصي من أمر الجاهلية. وذكر فيه قول النبي لأبي ذر لما عير رجلا بأمه ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) ، قال الحافظ ابن حجر : إن كل معصية تؤخذ ، من ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية.
وعن ابن مسعود قال :قال رجل : يا رسول الله ، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال : ((من أحسن في الإسلام ، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر )) رواه البخاري ومسلم.
وقد قال ثابت بن الضحاك : نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة ، فسأل النبي : ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ )) قالوا :لا ، قال : ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ )) قالوا : لا ، فقال رسول الله : ((أوف بنذرك... )) الحديث ، [رواه أبو داود].
فيؤخذ من هذا الحديث وغيره – عباد الله – التحذير الشديد من أمور الجاهلية ، أو مشابهة أهلها ، في أي لون من ألوانها ، كيف لا ورسول الله يقول : (( ألا إن كل شيء من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع )) ، ولو لم يكن من ازدرائها وشناعة قبحها ، إلا حكم النبي بأنها تحت قدميه لكفى.
لقد أكد رسول الله مخالفة ما عليه أهل الجاهلية من الكتابيين والأميين ، مما لا غنى للمسلم في أن ينبذها وينأ بنفسه عن الوقوع في هوتها ، وأن ينسل بنفسه ، عن أشدها خطرا وآكدها ضررا ، وهو عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول ، ناهيكم عما ينضاف إلى ذلك ، من استحسان ما عليه أهل الجاهلية ، الذي تتم به الخسارة والبوار كما قال تعالى والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون [سورة العنكبوت :52]. أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرهاً وإليه يرجعون [سورة آل عمران :83].
عباد الله :
إن مسائل الجاهلية برمتها ، قد بسطها أهل العلم في كتبهم ، وسطروها بأقلامهم وألسنتهم ، حتى لقد أوصلها بعضهم إلى مائة وثلاثين مسألة ، وهي إلى الثلاثمائة أو تزيد أقرب.
وإن من أعظم التشبه ، بما كان ، عليه أهل الجاهلية ، وأكثرها إيقاعا للخلل في دين الناس ودنياهم ، أمورا ثلاثة :
أولها : أن كثيرا من الناس يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته ، يريدون شفاعتهم عند الله في حين أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ؛بل إنهم لأحوج إلى عفو الله ورحمته من أولئك الذين يدعونهم ؛ كما قال سبحانه أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً [سورة الإسراء:57].
وهذه – عباد الله – هي أعظم مسألة خالف فيها الرسول ما كان عليه أهل الجاهلية ، وعندها بدت بينه وبينهم العداوة والبغضاء أبدا حتى يؤمنوا بالله وحده ، ومن هنا افترق الناس إلى مسلم وكافر ، ولأجل هذه القضية العظمى شرع الجهاد في سبيل الله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [سورة البقرة :193].
وثاني الأمور الثلاثة : هو أن أهل الجاهلية ، متفرقون في دينهم ودنياهم ، وهم في ذلك فرق وأحزاب ، كل حزب بما لديهم فرحون ، كل منهم يرى أنه على الحق دون سواه ، فمحق الخير ، وأحيي الشر ، حتى أصبح المرء لا يعرف إلا نفسه ، ولا يهتاج بالفرح والحزن ، إلا لما يمسه هو من خير أو شر ، فماتت العاطفة ، وقل الاكتراث المبتوت الصلة ، بمشاعر الأخوة الإسلامية العامرة.
فجاء الإسلام ودعا إلى الأخوة الدينية وتلا رسول الله قول ربه شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [سورة الشورى :13]. وتلا قول خالقه إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء [سورة الأنعام:159].
ويعلن المصطفى قولته المشهورة : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )) رواه مسلم.
ويكون بذلك مؤكدا أخوة الدين ، التي تفرض تناصر المؤمنين المصلحين ، لا تناصر العبية العمياء ، والجاهلية الجهلاء ، لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وإجارة المهضوم ، وإرشاد الضال ، وحجز المتطاول ، وهذا كله هو ثمرة قول المصطفى : ((انصر أخاك ظالما أو مظلوما )) رواه البخاري.
إن الله سبحانه رد أنساب الناس وأجناسهم إلى أبوين اثنين ، فهم جميعا من جهة التمثال أكفاء، أبوهم آدم وأمهم حواء ، وإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به ، فهو الطين والماء ، ليجعل الله من هذه الرحم ، ملتقى تتشابك عنده الصلات وتستوثق العرى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [سورة الحجرات:13]. إنه التعارف لا التفاخر ، والتعاون لا التخاذل ، وأما الشرف والرفعة فإنما هو في قوة الدين ، وتمكن التقوى من قلب العبد ، في إزالة الفوارق البشرية ، فرسول الله من أشراف قريش ، يقف مع الناس ويقول لقومه ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس [سورة البقرة :199]. تحقيقا للمساواة بين المسلمين ، وكان الرجل من أشراف قريش يأنف أن يزوج ابنته أو أخته من الرجل من عامة الناس ، فيأتي رسول الله ويزوج ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية ، من مولاه زيد بن حارثة ، ويقول عن رجل من أصحابه: ((يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه )) ، وقد كان حجاما ، رواه أبو داود والحاكم إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [سورة الحجرات:10].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد البشر ، والشافع المشفع في المحشر ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر.
أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن ثالثة الأثافي من أمور الجاهلية : هي ديدن الجاهلية ، المتمثل في ظنهم المقلوب ، أن مخالفة ولي الأمر ، وعدم الانقياد له ، فضيلة ورفعة ، وأن السمع والطاعة والانقياد ، ذل ومهانة ، ونقص في الرجولة والعلم ، فخالفهم المصطفى وأكد على مخالفتهم في ذلك ، بالسمع والطاعة في المنشط والمكره ، للولاة الشرعيين بالبيعة الشرعية ، وأمر بالصبر على جور الولاة ، وعدم الخروج عليهم ، مع بذل النصح والإرشاد لهم ، فغلظ في ذلك وأبدى وأعاد ، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ؛ حيث يقول : ((من كره من أميره شيئا فليصبر ، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية )) رواه البخاري ومسلم.
فهذه الأمور الثلاثة التي مضت ، جمعها النبي في قوله: ((إن الله يرضى لكم ثلاثا : ألا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم )) رواه أحمد.
وإن مما ينبغي التنبيه إليه عباد الله ، هو ما وقع فيه كثير من الناس في هذا العصر إلا من رحم الله ، من التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله والتراضي بأحكام البشر وقوانينهم ودساتيرهم ، وهذا وربي هو عين فعل الجاهلية أفحكم الجاهلية يبغون [سورة المائدة :50].
لقد أنكر سبحانه ، على من خرج عن حكمه ، المشتمل على كل خير ، الزاجر عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من قوانين البشر وأعرافهم ، التي وضعها رجالهم بلا مستند أو أثارة من علم ، كما كان عليه أهل الجاهلية الأولى ، وكما كان يحكم به التتار ، من السياسات المأخوذة عن سلاطينهم ، والتي اقتبسوها من شرائع شتى ، كاليهودية والنصرانية وغيرها ، فصارت فيمن بعدهم شرعة متبعة ، يقدمونها إلى الحكم بكتاب الله وسنة رسوله يصف أمثالهم لبيد بن ربيعة ويقول :
يا معشر سنت لهم آباءهم ولكل قوم سنة وإمامها
وهم بذلك ، قد كفروا وجب قتالهم لأجله حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله أ فحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون [سورة المائدة :50]. فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً [سورة النساء:65].
(1/478)
سر التوحيد وحقيقته (9)
الأسرة والمجتمع, التوحيد
الأبناء, شروط التوحيد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى العبادة وأقسامها 2- العبادة لله حق من حقوقه علينا 3- ترك عبودية الله يجعل
العبد عبداً للهوى 4- كيفية الاستسلام لله 5- دور الآباء في التربية 6- مخاطر السفر للخارج
7- غياب القدوة من أذهان شبابنا 8- ضرورة تنشئة الابن على محبة السلف وبُغض الحرام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لا إله إلا الله معناها توحيد الله بالعبادة، أن تعبده وحده ولا تشرك به أحدًا، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضى من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فمن الأفعال الظاهرة الإقرار بالتوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، ومنها أيضًا دعاؤه سبحانه واستغفاره وذكره وسؤاله والاستعانة به والذبح والنذر له والجهاد في سبيله.
ومن الأفعال الباطنة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ومنها أيضًا الأفعال الباطنة محبته سبحانه وتعالى وتعظيمه والخوف منه عز وجل، والتوكل عليه والحب والبغض فيه بموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه فعلى العبد أن يتوجه إلى الخالق سبحانه وحده بهذه الأفعال، وبغيرها يجعل وجهته وقبلته إلى خالقه وحده سبحانه وتعالى: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين [الأنعام:79].
إن العبادة من خصائص الإلهية، والله هو الإله الحق فوجب أن تصرف العبادة إليه دون غيره فهي حقه سماها سيدنا رسول الله حق الله في حديث معاذ بن جبل الذي في الصحيح قال له رسول الله : ((أتدري يا معاذ ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم. فقال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا)) [1].
فالعبادة حق الله لأنه هو الإله الحق دون سواه سبحانه وتعالى فعليك أيها المسلم أن تصرف هذه العبادات إليه وحده سبحانه وتعالى فعليك أيها المسلم أن توحد الله عز وجل في العبادة.
إذا كانت المحبة والتذلل والخوف والرجاء لله عز وجل فقد عبدته لأن الإله هو الذي تألهه القلوب، أن تعبده تذللاً ومحبة وخوفًا ورجاءً بل إن أي شيء يتعلق به قلبك أيها الإنسان إلى أن يبلغ درجة المحبة والمذلة والخوف والرجال حتى تحب من أجل ذلك المحبوب وتبغض من أجله فقد عبدته.
ألم تر أن الله سبحانه وتعالى سمّى الهوى إلهًا في قوله: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه [الفرقان:43]. أي ذلك الذي يفعل كل شيء يشتهي، كلما اشتهى شيئًا اقترفه، لا يردعه عن ذلك رادع فكل همه وشغله الشاغل هو هواه وشهوته حتى إنه ليبغض من أجلها ويحب من أجلها ويوالي ويعادي من أجلها، هذا عبد لهواه، هذا سماه الله عبدًا لهواه، وقد يكون الهوى في الدرهم والدينار نعم إن الإنسان يميل بطبعه إلى هذه الشهوة، شهوة تملك الدرهم والدينار ولكن هذا الميل إذا اشتد وزاد حتى صار محبة متسلطة في القلب تذل صاحبها لذلك المحبوب، الذي هو الدرهم والدينار وتتحكم في تصرفات الإنسان حتى يحب من أجلها ويبغض من أجلها ويوالي ويعادي من أجلها، فإنه حينئذ يكون عابدًا للدرهم والدينار هكذا سماه سيدنا رسول الله حين قال: ((تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم)) [2].
محبة القلب وتذلله وخوفه ورجاؤه إذا كان لله فإن العبد حينئذ يكون حبه وبغضه في الله وموالاته ومعاداته في الله، وتكون أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته صلاته وذبحه ومحياه ومماته كل ذلك يكون لله وعنوان هذا كله أن تقول أنه وجّه وجهه لله وحده وجَّه وجهه لخالقه وفاطره سبحانه، وحده لا شريك له.
أو نقول أسلم وجهه وقلبه لله، نقول كما قال سيدنا رسول الله أسلم وجهه وقلبه لله فإسلام الوجه معناه أن جميع تصرفات الجوارح تكون لله عز وجل.
وإسلام القلب معناه أن يكون جميع تصرفات القلب لله وحده فإذا كان هذا الإسلام تامًا كاملاً بأن يكون سليمًا من شوائب الشرك الأكبر المنافي لجميعه أو شوائب الشرك الأصغر المنافي لكماله أو مكدرات المعاصي والذنوب المحبطة لثمراته من الأعمال الصالحات والطاعات والخيرات، إذا كان إسلام الوجه والقلب سليمًا من كل هذه الشوائب فقد حقق العبد معنى لا إله إلا الله أتم تحقيق وأكمله.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم: قل إن صلاتي ونسكي ومحياى ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام:163].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (7373)، صحيح مسلم (30) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري (2887، 6435) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فيا أيها الآباء أولادكم أمانة في أعناقكم ومسئوليتكم اليوم في تربيتهم أعظم وأشد وجوبًا لأن أسباب الانحراف المغريات بالفساد الملهيات عن ذكر الله عز وجل تحيط بهم من كل جانب. نحن في عصر الفتن والفساد.
دهاقنة الفساد في العالم لم يكتفوا بما أوصلوه من أسباب إلى حد منزلك أيها الأب المسلم، فما لا يستطيع إيصاله إلى منزلك فإنهم ييسرون أسباب السفر إليه لولدك فيشدون رحلهم إلى الشرق والغرب ليعبوا من فساد الشرق والغرب وقاذورات الشرق والغرب، ثم يجدوا من يخفض لهم نفقات السفر وينظم لهم برامج السفر ويشجعهم على ذلك، أيها الأب المسلم لا تترك ولدك يلقي بنفسه في لهيب النار ليحترق وأنت تنظر إليه.
لا تترك ولدك يشد رحله إلى فساد الشرق والغرب فإنه سيرجع إليك خربًا مدمرًا قد تحمل قلبه من الفسوق والزيغ ما أتلفه إيمانيًا.
وتحمل جسمه من الجراثيم والمكروبات من جراثيم الشرق والغرب ما دمره صحيًا لو أهملت ولدك يا أيها الأب المسلم فإنه قد ينشأ ويترعرع وهو لا يعرف رسول الله ولا يعرف أصحابه الكرام الأبطال الحقيقيين.
لا يعرف أبا بكر وعمر، لا يعرف خالد بن الوليد ولا أسامة ولا أسماء بنت أبي بكر ولا ابنى عفراء الشابين الأنصاريين الذين قتلا عدو الله أبا جهل يوم بدر. لكنه يعرف الراقصين والراقصات والمغنين والمغنيات والمومسين والمومسات والمطربين والمطربات والممثلين والممثلات ماذا يمكن أن تستفيد الأمة من جيل قدوته وأسوته ومثله الأعلى المومسون والمومسات من قوادين وحشاشين وزناة، ماذا يمكن أن تستفيد الأمة من ناشئة هذا هو أسوتهم ومثلهم الأعلى، كما علموهم دهاقنة الفساد الذين يحيطون بهم من حولهم.
يا أيها الأب المسلم تتساءل ماذا تصنع؟ الأمر بيدك الحل جعله الله في يدك فقد جعلك الله راعيًا مسئولاً عن رعيتك. أنت المسئول عن رعيتك الذين هم أهلك وزوجك وولدك، أنت الراعي لهم قبل غيرك.
فعليك أن تبدأ بولدك وهو صغير أول ما يميز تلقنه لا إله إلا الله وتعرفه بربه عز وجل وتعزز في قلبه حب الله والخوف من عقابه، حتى إذا ما نما أكثر وأدرك وميز أكثر فعلمه تلاوة القرآن وعلمه الصلاة وحفظه بعضًا من سور القرآن الكريم، ولقنه مغازي سيدنا رسول الله وسير الأبطال الحقيقيين أصحابه الكرام قص على ولدك يا أيها الأب المسلم وهم صغار سير الأبطال الحقيقيين محمد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلى وخالد بن الوليد وأسامة بن زيد وذات النطاقين وفاطمة البتول وأم عمارة المرأة التي وقفت بين يدي رسول الله في أحد تنافح عنه بسيفها عندما فر الأبطال من حوله إلا قليلاً.
قص على ولدك سير هؤلاء حتى يترعرع وينشأ وقد انطبعت وانغرست في ذهنه ومخيلته هذه الصور النقية المباركة فيكون هؤلاء الكرام قدوته وأسوته ومثله الأعلى فيحاول حينئذ أن يتشبه بهم حينئذ فقط يكون إنسانًا سويًا، يكون مسلمًا مستقيمًا.
يا أيها المسلم هذه قواعد إسلامية لتربية أولادنا فاحرص عليها اعتني أنت بنفسك بهذه القواعد بتربية أولادك بغرس التوحيد في نفوسهم بتعليمهم تلاوة القرآن، بتلقينهم مغازي رسول الله وأصحابه الكرام بتعليمهم الصلاة والعبادات، بتعليمهم الصيام.
واحرص على أن تعلّم ولدك لذة الامتناع عن الشراب والطعام من أجل الله عز وجل قم أنت بنفسك بهذا الواجب ولا تتكل على المدرسة فإن المدرسة وحدها لا تستطيع أن تربي ولدك ولا تترك أولادك فريسة للشاشات الفضية الخبيثة ولا لرفاق السوء ولا لوكالات السفر فإن هذا الثالوث الخبيث، هذا هو الثالوث المدمر لناشئة المسلمين.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وإن كنتم قلة على ذلك.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى على واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/479)
يوم لا ظل إلا ظله
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العدل والإمام العادل. 2- الحسن البصري يكتب صفات للإمام العادل. 3- خطورة
مرحلة الشباب. 4- التأكيد على دور البيت والمدرسة والمجتمع في مسوؤلية التربية. 5- دور
المسجد في مرحلة صدر الإسلام. 6- فضل التآخي والتحابب في الله. 7- عفة يوسف عليه
السلام. 8- توبة الكفل ووفاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا ربكم حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى.
في الليلة الظلماء يفتقد البدر، وفي لهيب الشمس وسموم الحر، يستطلب الظل وتستجلب النفحات، وما أروع العدل حين يطغى الجور، والإنصاف حين يعلو الغمط! وما أعجب الشرخ الشاب، حينما ينتصر على الصبوة المتفتقة! ويا لعظم الحظ ووفرة التوفيق، لمن أوقف قلبه، فبات معلقا في كل مسجد! وما أهنأ الرجلين، إذ يتحابان في الله، فلا يجتمعا إلا عليه، ولا يفترقا إلا عليه، ويا حبذا العفة والخشية، حينما تظهر المغريات، وتضمحل العقبات، وما أجدى صدقة السر في إطفاء غضب الرب! وما أعذب الدموع الرقراقة في الخلوة، حينما تسيل على خد الأسيف العاني!
أيها المسلمون، إن سنة المصطفى هي المنبع الثر للهدى والحق والنور، وهي المعين الذي لا ينضب، والحق الذي لا يعطب، وإن الوقوف الدقيق عند حديث رسول الله المنبعث من مشكاة النبوة، ليحمل النفس المؤمنة، على أن تعرف أسراره، وتستضيء بأنواره، فلا ينفك، يشرح النفس ويهديها بهديه، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى ، وكلما ذكر كلام المصطفى فكأنما قيل من فمه للتو، كلام صريح، لا فلسفة فيه، يغلب الأثرة والشهوة والطمع.
روى البخاري ومسلم في صحيحيها، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق، بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) [1].
عباد الله، ما أحوجنا جميعا، إلى أن نستظل في ظل الرحمن، في يوم عصيب يعظم فيه الخطب، ويشتد فيه الكرب، يوم أن تدنو الشمس من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما. رُحماك يا رب، عفوك يا الله.
ألا ما أحوج الأمة المسلمة، في كل عصر وفي كل مصر، إلى الإمام العادل، وهو صاحب الولاية العظمى، وكذا كل من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه. الرعية عبيد، يتعبدهم العدل، العدل مألوف وهو صلاح العالم. الإمام العادل، هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه، من غير إفراط ولا تفريط، فهو أبو الرعية، والرعية أبناؤه، يعلم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويعالج مريضهم، يرى القوي ضعيفا حتى يأخذ الحق منه، والضعيف غِطريفا حتى يأخذ الحق له.
وإن تحقيق العدل، أمام الرغبات، والمصالح والأهواء، أمر في غاية الصعوبة؛ إذ حلاوته مرة، وسهولته صعبة، وحينما يستطيع المرء تخطي تلك العقبات، كان معنى ذلك، أن فيه من الإيمان والتقوى ما يجعله مستحقا لأن يكون واحدا من هؤلاء السبعة.
ولقد ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، فأرسل إلى الحسن البصري، أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكان مما كتب له الحسن: (اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل، قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وهو كالراعي الشفيق على إبله، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويُكِنّها من أذى الحر والقر، وهو كالأم الشفيقة، والبرة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، والإمام العادل يا أمير المؤمنين، وصي اليتامى، وخازن المساكين، وهو كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده. اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك).
أيها الناس، إن الشاب المسلم، الذي يستحق أن يكون واحدا من هؤلاء السبعة، هو ذاك الفتى اليافع، الذي تعلق قلبه بربه، ولما يشخ بعد، تتجاذبه مزالق الرغبات النفسية ومتطلبات الجسد، ترق عنده الحياة، فتسحره بالنظرات المغرية، وتجمع له لذائذ الدنيا، في لحظة مسكرة، أو شبهة عارضة، الشباب الذي يعيش للهوى وأحلام اليقظة وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:131]. الشاب، شأنه شأن غيره من الشباب، الذين تعتريهم في هذه السن، أنواع من التصرفات غير المتزنة، والذين هم أحرى في أن يقعوا فريسة، لمثل هذه الدركات غير المسؤولة.
إن الشباب مرحلة، هي من أخطر مراحل الحياة؛ لأنها مرحلة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة، ولما كان الشباب من العمر، وسيسأل الإنسان عن عمره، فإن رسول الله خص الشباب في قوله: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، وذكر منها: وعن شبابه فيم أبلاه؟)) رواه الترمذي [2].
إن من أكرم الناس نفعا، وأنداهم كفا وأطيبهم قلبا، وأصدقهم عزما، هو الشاب المسلم النقي التقي، الذي يجل الكبير، ويرحم الصغير، لا تسمعه إلا مهنئا أو معزيا، أو مشجعا أو مسليا، ولا تراه إلا هاشا باشا، طلق الوجه مبتسما، يبعده إيمانه بربه، عن طيش الصغر، وإصرار الكبر، فهو الجندي في الميدان، والتاجر في السوق، والعضو الفعال في الجمعيات والمنتديات الخيرة نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِ?لْحَقّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَـ?هُمْ هُدًى [الكهف:13]. قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـ?ذَا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْر?هِيمُ [الأنبياء:59،60]. وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى ?لْمَدِينَةِ ?مْرَأَتُ ?لْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَـ?هَا عَن نَّفْسِهِ [يوسف:30].
إن مما يساعد الشباب على عبادة ربه، صفاء المحضن، ممثًَلا في البيت والمدرسة والمجتمع، وكذا قيام المحضن بواجبه من توعية وإرشاد، حتى يشب الشباب عن الطوق [3] ، ((ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) [4].
ولن يستغني شاب عَبَدَ رَبّهُ، عن مطالعات حثيثة، في سير أسلافه إبان شبابهم، كابن الزبير وابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر، وأسامة وأنس، والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين. وجدير بشاب هذا شأنه، أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
عباد الله، المساجد بيوت الله، وأماكن عبادته، وهي خير البقاع، يكرم الله عمارها وزواره فيها، ويثيب على الخُطا إليها فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لاْصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لاْبْصَـ?رُ [ النور:36، 37].
ومن هنا كان فرح الباري جل وعلا، بزوار المساجد. قال رسول الله : ((ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر، إلا تبشبش الله تعالى إليه، كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم)) رواه ابن ماجه وابن خزيمة [5] وغيرهما وإسناده صحيح.
ولم يكن للمسلمين في القرون الأولى، من معاهد ولا مدارس إلا المساجد، ناهيكم عن خمس صلوات في اليوم والليلة. ففي المسجد يدرس القرآن وتفسيره، والسنة وفقهها، واللغة وأصول الدين. وأين مجلس إمام دار الهجرة. والحسن البصري، وأبي حنيفة والشافعي وأحمد إن لم يكن في المسجد. أما إنه لو رجع لبيوت الله، ما كانت عليه من إقامة الشعائر واجتماع المسلمين فيها، لتعلقت بها قلوب الكثيرين ممن أعرضوا عنها واستخفوا بشأنها وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ وَسَعَى? فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ [ البقرة:114]. اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
عباد الله، إن المؤمن في هذه الحياة، يجد صعوبة بالغة، في أن يعيش وحيدا فريدا، دون صديق أو مؤانس، صديق يناجيه، وخِلِّ يلاقيه ويواسيه، يشاطره مسرته، ويشاركه مساءته. لقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر، خداجا خداجا غير تمام، تقوم لغرض وتقعد لعرض، والإسلام دين الأخوة والمحبة والتآلف وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ?لأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [ الأنفال:63]. الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، به تقع الألفة، المتحابون في الله، دائمة صحبتهم، باقية مودتهم، لا تزيدها الأيام إلا وثوقا وإحكاما، لخلوصها من الإثم، والأغراض الدنيئة ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [ الزخرف:67]. قال رسول الله : ((أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء، على منازلهم وقربهم من الله)) ، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى إلى النبي فقال: يا رسول الله: ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم؛ انعتهم لنا. فسر وجه رسول الله بسؤال الأعرابي فقال: ((هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) رواه أحمد [6] ورجاله ثقات. اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك.
عباد الله، إذا ما يسرت للمسلم سبل الغواية، ودعت إليها الدواعي والمغريات دعا، فهو بحاجة ماسة، إلى أن يرى برهان ربه، وأن يسطع نور الهداية في فؤاده، وليس هناك امتحان، أقسى من امتحان، يتغلب فيه المرء على صبوته وغريزته، تبذل له حسناء نفسها، وهو في فحولة الرجولة. وهي في حالة رفيعة من الجمال والجاه، فاتنة عاشقة مختلية متعرضة، متكشفة متهالكة، فحينها لا ينبغي أن ييأس الرجل، إذ إن مطارق الخوف من الله ومراقبته، تعينه على أن يرى برهان ربه، وتذكره بقوله تعالى عن يوسف وَرَاوَدَتْهُ ?لَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ?لاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [ يوسف:23].
لقد اجتمع ليوسف عليه السلام، من الدواعي لإتيان الفاحشة الشيء الكثير؛ فلقد كان شابا وفي الشباب ما فيه، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [ يوسف:24]. وقد غلقت الأبواب، وهي ربة الدار، وتعلم بوقت الإمكان وعدم الإمكان فكان ماذا؟ قَالَ مَعَاذَ ?للَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لظَّـ?لِمُونَ [ يوسف:23]. استعاذة وتنزه واستقباح، ولماذا؟ وما هو السبب؟ لأنه يعبد الله كأنه يراه، فأراه الله برهان ربه وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [ النازعات:40، 41].
((كان الكفل، من بني إسرائيل، لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها، فلما أرادها على نفسها، ارتعدت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ قالت: لأن هذا عمل ما عملته، وما حملني عليه إلا الحاجة. فقال: تفعلين أنت هذا من مخافة الله، فأنا أحرى، اذهبي فلك ما أعطيتك ووالله ما أعصيه بعدها أبدا، فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه: إن الله قد غفر للكفل، فعجب الناس من ذلك)) رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه [7].
فاتقوا الله ـ معاشر المسلمين ـ وتخلقوا بأخلاق رسول الله واهتدوا بهديه تفلحوا، ويتحقق لكم ما وعدكم به من الاستظلال بظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
[1] صحيح البخاري ح (660)، صحيح مسلم ح (1031).
[2] حسن، سنن الترمذي ح (2417) وقال: حديث حسن صحيح.
[3] الطوق: حَلْي للعنق ، والعبارة التي ذكرها الخطيب مُستلة من المثل المشهور (شبّ عمر وعن الطوق) ، و(كَبر عمر وعن الطوق) يضرب لملابس ما هو دون قدره ، كما يتضح عند قراءة مورده ، والمعنى الذي رمى إليه الخطيب هو أنه لا بد من صفاء المحضن من الصغر حتى حالة النضج في الكبر ، راجع (القاموس وتاج العروس ، مادة طوق ، ومجمع الأمثال للميداني (3/14) تحقيق محمد أبو الفضل ، طبعه دار الجيل).
[4] أخرجه البخاري ح (893)، ومسلم ح (1829).
[5] سنن ابن ماجه ح (800)، صحيح ابن خزيمة ح (1491).
[6] مسند أحمد (5/343)، وأخرجه أيضًا الحاكم (4/170) وصححه ووافقه الذهبي وحسّن المنذري إسناده. الترغيب ح (4448).
[7] سنن الترمذي ح (2496) وقال: حديث حسن، ومستدرك الحاكم (4/254 ـ 255) وصححه ووافقه الذهبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم واتبع سنتهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن من الناس، من أنعم الله عليه بشيء من المال، فما أنكر فضل الله عليه، بل هو ينفق بسخاء، ويتسلل إلى المساكين لواذا، يعلم أن من الفقراء من يحرجه علنية العطاء، فذاك رجل تخطى عقبة الجشع، أنقذه الله ممن عبدوا الدينار والدرهم، فكانوا أحلاس بخل وإمساك، سجاياهم المتكررة منع وهات، بل هات وهات، قد قضوا على أنفسهم أن يعيشوا مرضى بالصحة، فقراء بالغنى، مشغولين بالفراغ، لكنهم مع ذلك لا يجدون في المال معنى الغنى؛ إذ كم من غني يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يجد، وما علموا قول النبي : ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) متفق عليه [1].
إن النفس بطبعها، تميل إلى إبراز عملها، لاسيما الصدقة، كل هذا لتحمد؛ فإذا ما جاهد المرء نفسه، حق له أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. ورحم الله مالك بن دينار؛ حيث يقول: (قولوا لمن لم يكن صادقا لا يتغنى) ولقد قال ابن عائشة، قال أبي: (سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ).
عباد الله، ما أسعدها من لحظات، يجلسها المرء خاليا فيها مع نفسه، يناجي ربه وخالقه، فيهتن دمعه عذبا صافيا، خاليا من لوثة الرياء، وإن نيران المعاصي التي تأتي على قلب المسلم، فتحيله إلى فحم أسود كالكوز مجخيا، لا يطفئها إلا تلك الدموع، التي تنهمر على إثر ذكر الخالق وخشيته، ولقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية من البكاء.
ولقد كان أيوب السختياني ربما حدث بالحديث، فيرق فيتمخط، ويقول: ما أشد الزكام! يظهر أنه مزكوم، لإخفاء البكاء، رجاء أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله. وقام محمد بن المنكدر ذات ليلة فبكى، ثم اجتمع عليه أهله، ليستعلموا عن سبب بكائه، فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم، فلما دخل هدأ بعض الشيء، فسأله عن سبب بكائه فقال: تلوت قول الله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ?للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ [ الزمر:47]. فبكى أبو حازم، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء فقالوا: أتينا بك لتخفف عنه فزدته بكاء.
روى النسائي وأحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله: ما النجاة ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك)) [2].
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا أنه لابد من الخوف والبكاء، إما في زاوية التعبد والطاعة، أو في هاوية الطرد والإبعاد، فإما أن تحرق قلبك ـ أيها المسلم ـ بنار الدمع على التقصير، وإلا فاعلم أن نار جهنم أشد حرا فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [ التوبة:82]. فانظروا عباد الله إلى البكائين في الخلوات، قد نزلوا على شواطئ أنهار دموعهم، فلو سرتم عن هواكم خطوات لاحت لكم خيامهم ولسمعتم بكاءهم ونشيجهم، ولسان حالهم يقول:
نزف البكاءُ دموعَ عينك فَاسْتَعِرْ عيناً لغيرك دمعُها مدرار
من ذا يعيرك عينَه تبكي بها أرأيت عينا للدموع تُعار؟
[1] صحيح البخاري ح (1429)، صحيح مسلم ح (1033).
[2] صحيح لم أجده في سنن النسائي، وهو في المسند (4/148) وأخرجه أيضًا الترمذي ح (2406).
(1/480)
سر التوحيد وحقيقته (10)
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الألوهية, الربوبية, شروط التوحيد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
10/8/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
جوهر معنى لا إله إلا الله : إخلاص العبادة لله – التحذير من الأعمال الشركية – كفار قريش
كانوا يُقرُّون بربوبية الله , ولكنهم لم يخلصوا العبادة لله – حديث ابن عباس : " يا غلام إني
أعلمك كلمات " وما فيه من منهج قويم لتربية الناشئة : تعليم التوحيد والتقوى والإيمان بالقدر-
دور الأسرة في تربية الأبناء ومواجهة كيد الأعداء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فجوهر معنى لا إله إلا الله أن نخلص العبادة لله ألا تعبد إلا الله على حد قوله سبحانه إياك نعبد [الفاتحة:5] أي لا نعبد إلا إياك وإياك نستعين [الفاتحة:5] أي لا نستعين إلا بك.
هذا هو جوهر معنى لا إله إلا الله فمن اعتقد أن الله هو الخالق الرازق الذي له الملك وأنه الذي يدبر الأمور ويصرفها لم يصل بعد إلى معنى لا إله إلا الله، فإذا ما اعتقد مع ذلك أنه الإله المعبود لكنه مع ذلك يصرف شيئًا من عبادته إلى غير الله لم يصل هذا أيضًا إلى معنى لا إله إلا الله ولم يحقق معنى لا إله إلا الله.
ومن قال: لا أعبد إلا الله ولكنه إذا وقعت له حاجة أو مسه خير قال: يا فلان والمدد يا فلان وأغثني يا فلان، ودخلت على الله وفلان وغير ذلك من دعاء المخلوقين والاستغاثة بالمخلوقين، هذا ليس من أهل لا إله إلا الله.
وكذلك من ظل يومه وليله يلهج لسانه بلا إله إلا الله، وحتى لو مد أمامه مسبحة طولها سبعون ذراعًا ولكنه يذبح على قبر فلان ويستغيث بفلان من الأموات ويدعو فلانًا من أهل القبور لقضاء حاجته أو دفع ضر مسه هذا أيضًا ليس من أهل لا إله إلا الله.
ولم يحقق شيئًا من معنى لا إله إلا الله بل نطق لا إله إلا الله ووقع في ضدها فإن لا إله إلا الله جوهر معناها إخلاص العبادة لله وحده، سيدنا رسول الله الذي بعثه ربه بلا إله إلا الله وأمره بأن يقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله بعثه لمن؟ من هم قومه الذين بعثه إليهم؟ وإن كان بُعث رحمة للعالمين جميعًا ولكن من هم قومه الذين بُعث إليهم أولاً؟
رسول الله لم يُبعث إلى قوم يُنكرون وجود الله أو يُنكرون أن الله هو الخالق الرازق وأنه هو الذي يدبر الأمور ويصرِّفها وأنه هو الإله المعبود لم يُبعث إلى قوم ينكرون ذلك، بل كانوا يعتقدون ذلك ويقرون به:
قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون لله فقل أفلا تتقون [يونس:31].
قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يُجار عليه سيقولون لله قل فأنّى تُسحرون [المؤمنون:86-89].
هؤلاء هم الذين بُعث فيهم سيدنا رسول الله يعتقدون هذا كله ومع ذلك عدَّهم الله مشركين.
يعتقدون أن الله هو الخالق هو الرازق هو الذي يحي ويميت هو الذي يملك السمع والأبصار هو الذي يدبر الأمر، له الأرض وله من في الأرض وهو رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وبيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يُجار عليه.
يعتقدون هذا كله ويقرون به ومع ذلك عدهم الله كفارًا ومشركين.
وبعث إليهم سيدنا محمدًا يدعوهم إلى التوحيد لماذا لأنهم لم يخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، إذا دعوا لا يدعون الله وحده يدعون معه غيره، إذا استغاثوا لا يستغيثون بالله وحده، يستغيثون معه بغيره، إذا ذبحوا لا يذبحون لله وحده يذبحون لغيره، ونذرهم ليس لله وحده ينذرون لغيره وهذا الغير لم يكونوا يعتقدون أنه إله أو له نصيب من الإلهية أبدًا يعتبرون أن هذا الغير الذي يصرفون إليه نصيبًا من عبادتهم مخلوق مملوك مربوب ومع ذلك صرفوا إليه هذه العبادات لم يخلصوا العبادة لله وحده فعدهم الله كفارًا مشركين مع أنهم يقرون له بالربوبية والألوهية لكنهم جعلوا له شركاء في العبادة فعدهم الله كفارًا ومشركين وبعث إليهم سيدنا محمد يدعوهم إلى التوحيد بدلاً من الشرك الذي هم فيه. يدعوهم إلى التوحيد مناديًا بنداء الحق عز وجل: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالهم [الأعراف:194] وهاتفًا بشعار الحق سبحانه وتعالى: فلا تدعوا مع الله أحدًاْ [الجن:18] فصل لربك وانحر [الكوثر:2] اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [الأعراف:59].
ليس جوهر التوحيد أن تقر فقط بالربوبية والألوهية.
ليس جوهر التوحيد أن تعترف فحسب بالربوبية والألوهية إنما جوهر التوحيد أن تخلص عبادتك لله الحق عز وجل، يكون دعاؤك كله لله والدعاء مخ العبادة تكون استعانتك كلها لله، يكون توجهك وتعلق قلبك كله لله.
يكون نذرك ويكون ذبحك كل ذلك لله وحده لا شريك له، هذا هو جوهر التوحيد هذا هو معنى لا إله إلا الله الذي بُعث به سيدنا رسول الله.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة [البينة:5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فيا أيها الآباء ويا أيها المربون ويا رعاة الناشئة في مجتمعاتنا المسلمة تعلموا من سيدنا رسول الله المنهج السليم السديد لتربية الناشئة والشباب.
تأملوا هذا الحديث النبوي الشريف أخرج الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي فقال يا غلام: ((إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف)) [1].
وفي رواية أنه قال له: ((احفظ الله تجده أمامك، تذكر الله في الرخاء، اذكر الله في الرخاء يذكرك في الشدة، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا)) [2] صدق رسول الله.
هذا الحديث العظيم فيه منهج كريم قويم لتربية الناشئة فتأملوه يا أيها الآباء ويا أيها المربون، تأملوا هذا المنهج النبوي الكريم القويم، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي خاطبه رسول الله بهذه الكلمات الرائعة كان غلامًا لم يتجاوز العاشرة من عمره. كان قريبًا من هذه السن فإذن كان هذا الخطاب وهذا الأسلوب لغلام في هذه المرحلة.
فتأملوا كيف اختار سيدنا رسول الله الأسلوب المناسب واللغة المناسبة لمخاطبة غلام في هذه السن ثم تأملوا تلك المعاني والمبادئ العظيمة التي أراد سيدنا رسول الله أن يغرسها في نفس ذلك الغلام المبارك.
إنه يعلمه التوحيد ((إذا سألت فاسأل الله)) هذا هو قوله: إياك نعبد [الفاتحة:5] فالسؤال والدعاء هو مخ العبادة.
وإذا ((استعنت فاستعن بالله)) هذا هو قوله عز وجل: وإياك نستعين [الفاتحة:5] وهو يعلم ذلك الغلام التقوى يغرس في نفسه مبدأ التقوى منذ الصغر ((احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك)) تجده أمامك هذا غرس نبوي تعليم نبوي رائع كريم لمبدأ التقوى للناشئة.
إنه يعلمه الإيمان بالقدر، يغرس في نفسه روح القوة والشجاعة يتسلح بالإيمان بالله بالتوحيد بالإيمان بالقدر حتى يكون قويًا في معترك الحياة صبورًا عند الشدائد صبورًا عند الجهاد.
غلامٌ لم يتجاوز العاشرة من عمره يغرس النبي في نفسه منذ الآن منذ هذه السن المبكرة روح الجهاد.
((واعلم أن النصر مع الصبر)) أي النصر في الجهاد مع الصبر على الجهاد ((وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا)) هذا تعليم على الصبر على شدائد الحياة.
هذا هو المنهج النبوي الكريم السليم القويم في تربية الناشئة وتعليم الشباب والفتيان والفتيات فماذا صنعنا نحن اليوم بناشئتنا وبأطفالنا وبشبابنا وفتياننا وفتياتنا، الظاهرة التي يلمسها كل أب مسلم يريد أن يربي أولاده على معاني الإسلام ومبادئه أنه قلما يجد الكتاب المناسب أو القصة المناسبة ونادرًا ما يجد المجلة اللائقة أو يجد الشريط المسموع أو الشريط المرئي المسموع، نادرًا ما يجد الأب المسلم أو المربي المسلم المادة الصالحة لتربية الناشئة على مبادئ الإسلام ومعاني الإسلام، أصبحت هذه عملة نادرة فأين أنتم أيها المربون؟ ويا رعاة الشباب ماذا تصنعون؟ لماذا لا نجد المادة المناسبة، المواد المناسبة لتربية ناشئتنا على الإسلام الشباب لا ينتظرون والأعداء يقرعون الأبواب فأين أنتم يا مربون ويا رعاة الشباب ماذا تصنعون؟ بل إن الأعداء قد كسروا الأبواب اقتحموا علينا الأبواب واختطفوا منا شبابنا وفتياننا وأطفالنا وفتياتنا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله. وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وإن كنتم قلة على ذلك.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان، وأبي السبطين علىّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] سنن الترمذي (2516، 3784).
[2] مسند أحمد (1/307).
(1/481)
لن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الطهارة, فضائل الأعمال
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- زعم بعض الناعقين أن الوضوء شريعة شرعت لظروف معينة وقد انقضت. 2- الوضوء
شرط لصحة الصلاة. 3- الوضوء علامة لأمة الإسلام يوم القيامة. 4- الوضوء عبادة ترفع
الدرجات وتغفر الذنوب. 5- الوضوء مطردة للشيطان والغضب. 6- مشروعية الوضوء في
عدد من المواضع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، فهي وصيته للأولين والآخرين وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [سورة النساء:131]. فبتقوى الله، رفع الإسلام سلمان فارس، وبفقدها وضع الشرك الشقي أبا لهب، فاتقوا الله واعبدوه واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
أيها الناس، إن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا، هي نعمة الإسلام، نعمة الحنيفية السمحة، وهي الاستسلام لله ـ تعالى ـ، والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله. والأحكام والشرائع من مقتضاها الإيمان بها، والتسليم المطلق للشارع الحكيم ـ سبحانه ـ: ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ?لالْبَـ?بِ [آل عمران:7]. قُولُواْ ءامَنَّا بِ?للَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]. صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـ?بِدونَ [البقرة:138]. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ سُبْحَـ?نَ ?للَّهِ وَتَعَـ?لَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68].
أيها المسلمون، صدق الكلمة، وأمانة الحديث والتسليم للشارع الحكيم، سمة غداف. لها وقعها البالغ في نفوس الناس، إذا تحققت طلبتها في أقلام الإعلاميين وممتهني الصحافة، وبفقدانها وإعواز طلابها، تجني الصحافة على الدين والأدب.
وفي عناقيد الأقلام المحبرة، نفوس مريضة، تجاوزت نطاقها، وخلعت جلبابها الساتر، وانتماءها الزائف، حكموا عقولهم فخالفوا كل منقول، وصادموا بها المشروع. أقحموا أنفسهم مدعين علم ما لم يعلموا، فنعق منهم ناعق، هو من جهال بعض المعطلين، العميان المنكوسين، والأغبياء المركوسين، فانتقد بشدة وتشنج جعل الوضوء من الدين، وادعى أنه إنما شرع الوضوء في غابر الزمن، إزالة لقذارة الأعراب، ورعونة العيش في إبانهم، ولأجل أن العرب كانوا قليلي العناية بالنظافة، لقلة الماء عندهم، ولقرب أهل الحضر منها من البدو، في قلة التأنق والترف.
ويقول الغر كاذبا: إن الطهارة والآداب، يجب أن تؤتى، لمنفعتها وفائدتها المترتبة عليها دنيويا ودينيا. ويضرب بالغرب مثالا يحتذى، في النظافة والتطهر، وهم مع ذلك غير مسلمين، في عصر الحضارة والنضارة، وأن هذا من منطلق حقائق الفلسفة.
والحق المسلم أيها الناس، أنه لا نصيب لمثله منها إلا السفه، والتقليد في الكفر من غير بينة ولا عذر؛ لأنه من عُمْيِ القلوب عموا عن كل فائدة، لأنهم كفروا بالله تقليدا.
عباد الله، الوضوء لفظة مشتقة من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة، سمي الوضوء بذلك؛ لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا، وهو فرض من فروض الأعيان في الإسلام، بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين قاطبة، فلقد قال الله ـ تعالى ـ في آية المائدة: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ?لصَّلو?ةِ ف?غْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ?لْمَرَافِقِ وَ?مْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ?لْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَ?طَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى? سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ ?لْغَائِطِ أَوْ لَـ?مَسْتُمُ ?لنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَ?مْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـ?كِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
وقال رسول الله : ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)) رواه مسلم [1] ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) أخرجه الشيخان [2].
فكيف إذاً بعد هذا ـ عباد الله ـ، أيستهان بالوضوء ويقلل من شأنه، وقد تواتر النقل فيه تواترا قطعيا، لا يدع مجالا للشك أو الريبة، بل لا يستهين به، ولا يشك في أمره، إلا أغرار مأفونون، ولهازم يهرفون بما لا يعلمون، والله أعلم بما يوعون؟ كيف لا ورسول الله يقول: ((ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) [رواه أحمد وابن ماجة] [3] ، فما بالكم عباد الله، بمن لا يحافظ عليه؟ بل ما ظنكم بمن يتطاول عليه، بكل ما يملك من عنجهية وسفه؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!.
ألا فاعلموا عباد الله، أن آية المائدة هذه، من أعظم آيات القرآن مسائل، وأكثرها أحكاما في العبادات، وبحق ذلك، فإنها في الوضوء وهو شطر الإيمان كما صح بذلك الخبر عن المصطفى عند مسلم في صحيحه [4].
قال أبو بكر بن العربي: لقد قال بعض العلماء: إن في آية المائدة هذه، ألف مسألة، واجتمع أصحابنا بمدينة السلام، فتتبعوها فبلغوها ثمانمائة مسألة ولم يقدروا أن يبلغوها ألفا، وهذا التتبع، إنما يليق، بمن يريد تعريف طرق استخراج العلوم من خبايا الزوايا اهـ.
ولقد قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله عن سورة المائدة: هي أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم والأمر والنهي، ولهذا افتتحت بقوله ـ تعالى ـ: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]. والعقود هي العهود. فكيف إذاً يفقه الوضوء من لم ينقه بعد، ألم يعلموا أن هذا الوضوء من خصائص أمة محمد ، التي اختصت بها عن سائر الأمم بدليل قول المصطفى : ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء)) رواه البخاري [5] ، فرسول الله يعرف أمته يوم القيامة بهذه السيماء، فقبحا وسحقا، ويا للضيعة لمن لم يلامس الوضوء بشرته!.
قال أبو حازم: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء ؟ فقال: يا بني فروخ، أنتم هاهنا، لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي يقول: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) [رواه مسلم] [6].
عباد الله، الوضوء للصلاة، فرضه الله ـ تعالى ـ على هيئة يسيرة، فالمرء المسلم يطهر في وضوئه أربعة مواضع من أعضائه فقط، وهي الوجه واليدان إلى المرفقين غسلا، والرأس مسحا بلا غسل، والرجلان إلى الكعبين غسلا.
ففي الوجه ـ عباد الله ـ النظر والشم والكلام، وفي الرأس السمع والفكر، وفي اليدين البطش، وفي الرجلين الخطى.
ولما كان عمل المرء في هذه الحياة، لا يكاد يخرج عن عضو من هذه الأعضاء، ولما كان المرء بطبعه خطاء، فقد يأكل الحرام أو يتكلم به، أو ينظر إليه أو يشمه، وقد يسمع الحرام أو يمشي إليه أو يمسك بالحرام أو نحو ذلك كان بحاجة ماسة، إلى ما يعينه، على تطهير أدرانه، وتكفير ذنوبه التي اقترفها بتلك الجوارح، فشرع الله برحمته وحكمته الوضوء، يزيل به الإصر والغل.
فإذا ما توضأ العبد المسلم فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه، مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قط الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب.
بذلكم أيها المسلمون صح الخبر عن المصطفى عند مسلم في صحيحه [7]. ولقد روى في صحيحه أيضا عن النبي أنه قال: ((ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره.. )) [8] الحديث.
والمكاره تكون بشدة البرد، أو ألم الجسم، أو حرارة الماء أو نحو ذلك.
إن هذا الوضوء المتجدد كل يوم مرات ومرات، هو الدرع الواقي بأمر الله، الذي يحفظ اليدين من القذر، والذراعين من الأوساخ، والفم من النتن، والأنف مما يعلق به، والعينين من الرمص [9] ، والرجلين من رائحتهما الكريهة، وهو فوق ذلك كله، يلطف حرارة الجسم، ويزيل عنه الخمول والتثاقل، ويبعث فيه النشاط. فيكون جديرا بأن يقيم الصلاة على وجهها؛ إذ يعسر مثل ذلك في حال الفتور والاسترخاء والملل، الذي يعقب خروج الفضلات من البدن فالحاقن [10] من البول والحاقب [11] من الغائط، والحازق [12] من الريح كالمريض، كل منهم تكره صلاته على هذه الحال؛ أخذا من قول المصطفى : ((لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)) [13] ، فإذا توضأ المرء المسلم، زال عنه ذلك كله فنشط وانتعش.
عباد الله، بالوضوء يخمد ثوران النفس، وتنطفئ نارها؛ لأن الغضب والتشنج من الشيطان، والشياطين، خلقت من نار، وأجدى ما يطفئ الناس هو الماء ولأجل ذا قال المصطفى : ((فإذا غضب أحدكم فليتوضأ )) [رواه أحمد] [14].
كما أنه قد صح عن النبي عند مسلم وغيره أنه (أمر بالوضوء من لحوم الإبل) [15] ولعل السر في ذلك والله أعلم، هو أن الإبل مخلوقة من الشياطين كما صح ذلك عند ابن ماجة وغيره فناسب إزالة الخيلاء والأنفة المنبعثين من الجان، بالوضوء بالماء، بل إن في الوضوء منجاة من جنس الشيطان، وقطعا لدابره، قال رسول الله : ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكل عقدة يضرب عليك ليلا طويلا، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدتان..)) [الحديث رواه البخاري ومسلم] [16].
وفي رواية للبخاري: ((إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه)) [17].
وبعد عباد الله، فإن الوضوء المتجدد، يذكرنا بنعمة عظيمة، مَنَّ الله بها على عباده وهي نعمة الماء الطهور وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]. وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء طَهُوراً [الفرقان:48]. وما ذلك إلا ليكون ريا للظمأ، وإنباتا للزرع، وإدرارا للضرع، وتطهيرا للأبدان وجمالا في المنظر. فهل بعد هذا الحديث عن الوضوء وفضائله وآثاره، يسوغ لنفس سوية، أن تحقر من شأنه، أو تقصر منفعته، أو أن تخوض في لجة مغرقة، من القول على الله بلا علم؟! سبحانك يا رب! سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
[1] صحيح مسلم ح (224).
[2] صحيح البخاري ح (135، 6954)، صحيح مسلم ح (225).
[3] صحيح، مسند أحمد (5/2760 ـ 277)، سنن ابن ماجه ح (278).
[4] صحيح مسلم ح (223) ولفظه: ((الطهور شطر الإيمان...)).
[5] صحيح البخاري ح (136)، وأخرجه أيضًا مسلم: كتاب الطهارة ح (35).
[6] صحيح مسلم ح (250).
[7] المصدر السابق ح (244).
[8] المصدر السابق ح (251).
[9] الرَّمص: وسخ يجتمع في الموق ، فإن سال فهو غمص وإن جمد فهو رمص (مختار الصحاح ، مادة رمص).
[10] الحاقن: الذي به بول شديد (مختار الصحاح ، مادة حقن).
[11] يقال: حَقِب أي : تعسّر عليه البول (القاموس ، مادة حقب).
[12] الحازق: من ضاق عليه خفه (القاموس ، مادة حزق) استعاره الخطيب للمعنى المذكور.
[13] المصدر السابق ح (560).
[14] ضعيف، مسند أحمد (4/226) وانظر السلسلة الضعيفة (582).
[15] صحيح مسلم ح (360).
[16] صحيح البخاري ح (1142)، صحيح مسلم ح (776).
[17] صحيح البخاري ح (3295)، وأخرجها أيضًا مسلم ح (238).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد البشر، والشافع المشفع في المحشر، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ممن قضى نحبه أو غبر.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الوضوء شأنه عظيم وأمره جسيم. وهو لم يكن مقتصرا يوما ما على رفع الحدث أو عند إرادة الصلاة، بل إنه مشروع في مواضع كثيرة خارجة عن الصلاة؛ كشرعيته عند الغضب، وكذا عند النوم، كما قال رسول الله للبراء بن عازب: ((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاةإ)) الحديث رواه البخاري [1] ، وكذا يشرع عند الأكل لمن كان جنبا، فلقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ((كان رسول الله إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة )) [رواه مسلم] [2].
وكذا قال فيما رواه مسلم: ((إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ)) [3].
والوضوء مشروع للعائن، ليصبه على من عانه. فلقد اغتسل سهل ابن حنيف بالخرار، فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر: وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد فقال له عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء، فوعك سهل مكانه فأخبر رسول الله بذلك فقال: ((علام يقتل أحدكم أخاه ؟ ألا بركت عليه، إن العين حق توضأ له)) ، فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله. [رواه مالك في الموطأ] [4].
عباد الله، وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن الوضوء مرتع خصب، يجول الشيطان من خلاله على قلوب بني آدم، فقد يوسوس إليهم بالنية فتراه يقول: ارفع الحدث، أو يقول: استعد للصلاة، ونحو ذلك من ألفاظ جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس، يحبسهم عندها، ويعذبهم فيها، وربما لبس على بعضهم بكثرة استعمال المال، وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة، أو فاتته الجماعة، أو توضأ بما يعادل بركة ماء. صبا صبا ودلكا دلكا، تعذيبا لأنفسهم، وما علموا أن النبي كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وكان أبو الوفاء بن عقيل قد دخل رباطا فتوضأ فضحكوا لقلة استعماله بالصاع، وسأله رجل موسوس فقال: إني لأنغمس في النهر ثم أخرج منه، وأشك أن وضوئي قد صح، فقال له: سقطت عنك الصلاة؛ لأن رسول الله يقول: ((رفع القلم عن ثلاثة)) وذكر منهم: ((المجنون حتى يفيق)) [5].
كل ذلك من استيلاء إبليس على الموسوسين، حتى إنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السُّفْسَطائية، الذين ينكرون حقائق الموجودات، فهؤلاء أحدهم يغسل عضوه غسلا يشاهده ببصره، ثم يشك هل فعل ذلك أم لا، حتى إنه يعذب نفسه بكثرة استعمال الماء، وإطالة العرك، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان، بل قد يبلغ الأمر ببعضهم أن يرى أنه إذا توضأ رسول الله فوضوءه باطل. أعاذنا الله وإياكم من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس.
[1] صحيح البخاري ح (247)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (2710).
[2] صحيح مسلم، كتاب الحيض ح (22).
[3] المصدر السابق ح (308).
[4] موطأ مالك (2/938) وإسناده صحيح.
[5] صحيح، أخرجه أحمد (1/118)، وأبو داود (4399)، والترمذي ح (1423) وقال: حسن غريب، والنسائي ح (3432)، وابن ماجه ح (2041). وانظر إرواء الغليل (297).
(1/482)
سر التوحيد وحقيقته (11)
التوحيد, فقه
الألوهية, الربوبية, الزكاة والصدقة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
24/8/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
علاقة الدعاء والاستغاثة والاستعانة بـ لا إله إلا الله , وأهمية ذلك – معنى الاستغاثة , وقِسماها-
من كمال التوحيد العلم بأن النفع والضر كله بيد الله – حكم دعاء أصحاب القبور , وحكم من
يفعل ذلك , والدليل عليه – الفرق بين مشركي اليوم ومشركي العرب قديماً – خطورة الشرك
ولا نجاة إلا بالتوحيد الخالص – وجوب المبادرة إلى الصدقة لنجدة المسلمين المضطهدين
والمكروبين – فضل الإنفاق في سبيل الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ففي مجال بيان معنى لا إله إلا الله من المهم جدًا أن نعرف ثلاثة أمور لها أوثق الصلة بهذه الكلمة العظيمة، وهى الدعاء والاستغاثة والاستعانة هذه الأمور الثلاثة من المهم جدًا أن نعرفها، ونتعلم ما يتعلق بها لأن أسوأ انحراف عن لا إله إلا الله إنما وقع في هذه الأمور، إنما وقع من خلال هذه الأمور الدعاء معناه: الطلب والاستغاثة والاستعانة من أنواعه.
أما الاستغاثة فمعناها: طلب الغوث، والغوث معناها: رفع الشدة والاستعانة طلب العون ولا خلاف في أن الاستعانة بالمخلوق والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه أن ذلك جائز شرعًا.
قال تعالى: فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه [القصص:15] وقال سبحانه: وتعاونوا على البر والتقوى [المائدة:2].
وذلك مثل الاستنصار، هذه الاستغاثة وهذه الاستعانة بالمخلوق والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه هي مثل الاستنصار بالمخلوق إذا كان يقدر على نصرته كقوله تعالى: وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر [الأنفال:72].
أما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يُستغاث فيه إلا بالله وذلك كالغفران وكالهداية وكالرزق. قال تعالى: ومن يغفر الذنوب إلا الله [آل عمران:135].
وقال سبحانه لنبيه: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [القصص:56].
وقال جل من قائل: يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض [فاطر:3].
فما لا يقدر عليه إلا الله لا يُستغاث فيه إلا بالله عز وجل.
ولكن عليك أن تعلم أن الغياثة في الحقيقة هي بيد الله عز وجل كله بيده الله وما كان منه في يد المخلوق فإنما صار منه في يده بتسخير الله سبحانه وتعالى فمن كمال التوحيد أن تعلم أن المغيث على الحقيقة هو الله وحده هو غياث المستغيثين ومعين المستعينين ومجيب السائلين ويسمع دعاء الداعين هو سبحانه وتعالى هو المغيث على الحقيقة ومن كمال التوحيد أن يكون تعلق قلبك في سائر الأحوال بالله وحده.
ولكن إذا استعنت بمخلوق إذا استغثت بمخلوق إذا استنصرت بمخلوق فيما يقدر عليه. عليك أن تعلم أن الذي يقدر عليه المخلوق قادرًا على إعانتك أو نصرتك أو إغاثتك إنما الله وحده.
ومن كمال التوحيد أن تعلم أن النفع والضر كله بيد الله، فإن كان شي منه في يد مخلوق من المخلوقين فإنما صار في يده بإذن الله ولو شاء لسلبه إياه فلا يملك النفع والضر على الحقيقة إلا الله وحده، لا يمكن لأحد من المخلوقين أن يملك شيئًا من ذلك على سبيل الانفراد والاستقلال.
لو كان يمكن لأحد من المخلوقين أن يملك شيئًا من ذلك لكان سيدنا محمد أولى الخلق بذلك لعظم مكانته عند الله عز وجل لكنه وهو أكرم الخلق وهو سيد ولد آدم قال له ربنا تعالى: ليس لك من الأمر شيء [آل عمران:128] وقال له ربنا عز وجل: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [القصص:56] وقال له ربنا عز وجل: قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا [الأعراف:188].
والمسيح عيسى بن مريم عليه السلام جعله الله آية للعالمين في خلقته وفي طريقة إيجاده وبعثه نبيًا ورسولاً إلى بني إسرائيل وآتاه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وأجرى على يديه من المعجزات؛ فأبرأ الأكمة والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله، فافتتن به النصارى فعبدوه من دون الله وقالوا: هو الله. فماذا قال الله ردًا عليهم في عيسى عليه السلام: قل فمن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير [المائدة:17].
من هذا نعلم أن أولئك العاكفين على القبور الذين ينادون الأموات يستغيثون بهم ويدعونهم ويسألونهم لقضاء حاجاتهم وكشف كرباتهم ومصيباتهم ونصرهم على خصومهم وأعدائهم، أولئك الذين فعلوا ذلك لم يبقوا شيئًا من معنى لا إله إلا الله.
لأنهم صرفوا الدعاء بأنواعه من استعانة واستغاثة واستنصار- والدعاء مخ العبادة - صرفوا ذلك الدعاء لغير الله، صرفوه للمخلوقين، صرفوه لمخلوقين لا يملكون من أمرهم شيئًا، مخلوقين لا يقدرون على نفعهم ولا على الاستجابة لهم لأنهم ماتوا وأفضوا إلى ربهم عز وجل، وهؤلاء الذين يدعون الأموات ما دعوهم ولا استغاثوا بهم ولا استجاروا بهم ولا استعانوا بهم ولا استنصروهم، ما قائل قائلهم: أدركني يا فلان ولا قائل قائلهم: أغثني يا فلان وأعني يا فلاني وانصرني يا فلان. ما قالوا ذلك إلا وهم يعتقدون في قرارة قلوبهم أنهم يملكون لهم نفعًا أو ضرًا، أنهم ينفعونهم أو يضرونهم ومن فعل ذلك معتقدًا ذلك الاعتقاد فقد خرج من ملة لا إله إلا الله لأنه لم يبق أي شيء من معنى لا إله إلا الله. ألغى معناها، مسح معناها لم يبقى له شيء من معنى لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله كلمة عظيمة لها مدلول عظيم نحن مكلفون بمدلولها ومعناها إنها ليست كلمة جوفاء، ليست لفظة خاوية لا مدلول لها ولا معنى.
قد يقول قائل ما الفرق بين هؤلاء وبين أولئك العرب المشركون الذين بُعث فيهم سيدنا محمد أولئك العرب المشركون الذين دعوا اللات والعزى ومناة وهبل لا فرق بينهم وبين هؤلاء الذين عكفوا على القبور ودعوا الأموات.
هؤلاء عبدوا الأموات وأولئك المشركون العرب عبدوا الأصنام، فإذا قال قائل: ولكن هؤلاء مسلمون في الأصل انحرفوا عن التوحيد بسبب الجهل، نقول: وأولئك المشركون العرب كانوا على ملة التوحيد في الأصل على ملة إبراهيم الحنيفية ثم انحرفوا عن ملة التوحيد ملة إبراهيم بسبب الجهل، والدليل على ذلك أنه بقى بقايا قلائل من العرب على ملة إبراهيم كانوا على ملة التوحيد كورقة بن نوفل، فإن قال قائل: ولكن هؤلاء المسلمين في الظاهر الذين عكفوا على القبور واستغاثوا بسكانها ودعوهم من دون الله لا يعتقدون أن أولئك الأموات المدعوين آلهة من دون الله، إنما يعتقدون أنهم مخلوقون، لكن لهم مكانة رفيعة عند الله لكنهم يستشفعون بهم وبمكانتهم ويتقربون بهم وبمكانتهم إلى الله عز وجل نقول إن المشركين العرب الذين بُعث إليهم سيدنا محمد كانوا يعتقدون نفس هذا الاعتقاد لم يكن المشركون من العرب الذين عبدوا اللات والعزى ومناة وهبل يعتقدون أن هذه الأصنام آلهة من دون الله ولكنهم كانوا يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فيا أيها المؤمن الموحد احذر من وساوس الشياطين وزخارف طواغيت المشركين حافظ على إيمانك. احرص على نقاء إيمانك وصفاء عقيدتك وسلامة توحيدك الذي به تنجو، يوم لا يُغفر للمشركين وأعلم أن من أعظم الخطر على الإيمان أن تكون مؤمنًا ولكنك تخلط إيمانك بالشرك هذا من أعظم الخطر وأشده عليك يا مؤمن.
قال الله عز وجل: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف:106].
واعلم أنك لا تنجو بين يدي الله إلا بالتوحيد الخالص يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد. فقد ذكرنا أخ كريم في الجمعة الماضية، ومن فوق هذا المنبر ذكرنا بأن لنا أخوة في الدين هم في أمس الحاجة إلى عوننا وإلى نجدتنا وإلى إغاثتنا ونحن نقدر على ذلك إن شاء الله، هم في أمس الحاجة إلينا وقد طحنتهم عوادي الحروب وأهلكتهم كوارث المجاعات، وكثير من هجم عليهم أهل العدوان والطغيان من أمة الكفران من نصارى وشيوعيين ومجوس وغيرهم يريدون أن يبيدوا إخوانكم في الدين أو يفتنوهم عن دينهم ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون يا أخي المسلم وقد أنعم الله عليك أنت في هذه البلاد أنعم الله عليك بنعم شتى يا من أنعم عليكم ووسع عليك وسترك إن كنت آمنًا في سربك فتذكر أن لك إخوانًا في الدين في أنحاء الأرض قد فقدوا الأمن والسلام وإن كنت شبعان ريان في بيتك فتذكر أن لك إخوانًا في الدين قد أهلكهم الجوع والظمأ وإن بت بين أهلك كاسيًا ترفل في أثواب النعيم فتذكر أن لك إخوانًا في الدين عُراة لا يجدون ما يسترون به عوراتهم، لا يجدون ما يحتمون به من القر والحر، فيا أخي المسلم يا من أنعم الله عليه بادر وقد أظلك شهر رمضان الكريم، أظلك الشهر الكريم بظله، وهبت عليك نفحاته وعبقت عليك نسماته وفاح بيننا أريجه بادر أيها الأخ المسلم إلى الإنفاق والصدق، ابحث عن المحتاجين في كل مكان عن المكروبين عن المهمومين عن المغمومين ابحث عنهم في كل مكان ابحث عنهم في المدينة النبوية أولاً وقبل كل شيء، إخوان لك في الدين وجيران لك في هذه المدينة النبوية الطيبة هم في أشد الحاجة والفاقة في كرب وفي هم وفي غم فأسهم يا مسلم في كشف كربهم وفي تنفيث همهم وكربهم، وسد حاجتهم، هذا واجب عليك أن تسهم بقدر ما تستطيع في كشف كربات المكروبين، وكشف هم المهمومين ورفع غم المغمومين وسد حاجة المحتاجين.
ثم إخوانك في الدين إخوانك في الإسلام في سائر أنحاء المعمورة المحتاجون المكروبون أسهم بقدر ما تستطيع في كشف كربهم ورفع همهم وغمهم وسد حاجتهم، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر [الأنفال:72] ، ولا تحقرن يا مسلم شيئًا من المعروف ولا قليلاً من العون والصدقة تقدمه، من كان لا يملك إلا تمرتين فليتصدق بتمرة ومن كان لا يملك إلا تمرة واحدة فليتصدق بشقها فقد حث سيدنا رسول الله على الإنفاق والصدقة ولو بشق تمرة [1] ، وتفكروا أيها المسلمون لو أن كل مسلم في سائر أنحاء المعمورة امتثل أمر النبي وتصدق بقدر ما يستطيع بقدر طاقته لو أن كل مسلم تصدق بريال سعودي واحد أو ما يعادله كم يجتمع للمحتاجين كم يجتمع للمكروبين كم يجتمع للمسلمين، يجتمع أكثر من ألف مليون ريال.
لو امتثلنا لأمر محمد فكيف إذا أخذت الأريحية كل مسلم فتصدق بأكثر من ذلك وأنفق مما يحب امتثالاً واستبشارًا بقول الرب عز وجل: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [آل عمران:92].
واعلموا أيها المسلمون أن أبواب الجنة كثيرة، الطرق إلى الجنة كثيرة ومن أعظم هذه الطرق الإنفاق والصدقة، هذا طريق عظيم من طرق الجنة ينافس طريق العبادة، طريق الصلاة والصيام، ينافس الإكثار من العبادة.
عن أبي هريرة رضى الله عنه أن امرأة ذُكرت للنبي وأنها قليلة الصيام قليلة الصلاة (من النوافل) ولكنها تتصدق بقطع من الأقط حيث ما تيسر لها ولا تؤذي جيرانها، قال سيدنا محمد : ((هي من أهل الجنة)) [2].
واعلموا أن النبي - فيما روي عنه بإسناد حسن- قال: ((ما آمن بي من بات شبعان ريان وجاره جائع وهو يعلم بذلك)).
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وإن كنا قلة على ذلك. يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56]. وقال : ((من صلى على واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) [3]. اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وجودك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح البخاري (1417)، صحيح مسلم (1016) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.
[2] مسند أحمد (2/440) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/483)
السعادة المنشودة
الإيمان
فضائل الإيمان
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السعادة مطلب الجميع. 2- السعادة هبة من الله يعطيها لمن أطاعه. 3- الهم والحزن
والأرق السهر جند من جند الله يسلطها الله على من شاء. 4- السعادة ليست كما يتصورها
البعض مالاً وقصوراً. 5- السعادة كما عرّف طريقها النبي والسلف الكرام. 6- أبواب الشقاء
كثيرة منها الغناء والنفاق والذنوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، اتقوه واعبدوه وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، وَلاَ تَلْبِسُواْ ?لْحَقَّ بِ?لْبَـ?طِلِ وَتَكْتُمُواْ ?لْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]. افعلوا الخير واسجدوا لربكم واركعوا مع الراكعين.
أيها المسلمون، لا يعرف مفقود، تواطأ الناس على البحث عنه، والإعياء في طلابه، وهم مع ذلك يسيرون في غير مساره، ويلتمسونه في غير مظانه، مثل السعادة والطمأنينة والبال الرخي، فلله ما أقل عارفيها! وما أقل في أولئك العارفين من يقدرها ويغالي بها ويعيش لها!
بل لو غلغل النظر في بعض عارفيها، لما وجد إلا حق قليل، يكتنفه باطل كثيف، حق يعرف في خفوت كأنه نجمة توشك أن تنطفئ في أعماء الليل، وما أكثر العواصف التي تهب علينا وتملأ آفاقنا بالغيوم المرعدة! وكم يواجه المرء منا بما يكره، ويحرم ما يشتهي، وهنا يجيء دور السعادة التي تطارد الجزع، والرضا الذي ينفي السخط.
السعادة التي تسير مع الإنسان حيث استقلت ركائبه، وتنزل إن نزل وتدفن في قبره، السعادة التي يعبّر عنها شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ في أوج إحساسه بها: "ما يفعل بي أعدائي؟ إن سجني خلوة، وإن قتلي شهادة، وإن تشريدي سياحة في سبيل الله".
إن الحديث عن السعادة والشقاء، سيظل باقيا ما دام في الدنيا حياة وأحياء، وإن كل إنسان على هذه البسيطة ليبحث عنها جاهدا، ويود الوصول إليها والحصول عليها، ولو كلفه ذلك كل ما يملك، ألا وإن جمعا من الواهمين يعرفون السعادة بأنهالا حقيقة لها، وأنها خيال يبتدعه الوهم ويكذبه الواقع.
والحق ـ عباد الله ـ، أن هؤلاء جاهلون أو مخادعون؛ لأنه لا يعقل ألبتة أن يخلقنا الله ثم يريد لنا أن نشقى جميعا، كيف ذلك؟ والله يقول لنبيه : طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ?لْقُرْءانَ لِتَشْقَى? [طه:1، 2]. ويقول: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123].
السعادة ـ عباد الله ـ هي جنة الأحلام، التي ينشدها كل البشر، من المثقف المتعلم في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن السلطان في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الصغير يعيش على تراب الإملاق، ولا نحسب أحدا منهم يبحث عمدا عن الشقاء لنفسه أو يرضى بتعاستها.
أيها المسلمون، إن العبد بغير إيمان مخلوق ضعيف، وإن من ضعفه أنه إذا أصابه شر جزع، وإذا أصابه خير منع، وهو في كلتا الحالين قلق هلع إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ ?لشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ ?لْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ ?لْمُصَلّينَ [المعارج:19-22].
إن فقدان السعادة من قلب المرء، يعني بداهةً، حلولَ القلق والاضطراب النفسي في شخصه، فتجتمع عليه السباع الأربعة، التي تهد البدن وتوهنه، فضلا عن كونها تحلق سعادته وتقصر اطمئنانه، ألا وهي الهم والحزن والأرق والسهر.
ولا أشد ـ عباد الله ـ، من وقوع الهم في حياة العبد، إذ هو جند من جنود الله ـ عز وجل ـ سلطه على من يشاء من عباده ممن كان ضعيف الصلة بالله، خوي الروح، مرتعا للمعاصي والذنوب وَلِلَّهِ جُنُودُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَكَانَ ?للَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [الفتح:7].
ولقد سئل علي بن أبي طالب وأرضاه: من أشد جند الله؟ قال: (الجبال، الجبال يقطعها الحديد ؛ فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد؛ فالنار أقوى، الماء يطفئ النار؛ فالماء أقوى، السحاب يحمل الماء؛ فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب، فالريح أقوى والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه؛ فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان؛ فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم؛ فأقوى جند الله هو الهم يسلطه الله على من يشاء من عباده).
فالمفهوم إذاً ـ عباد الله ـ أن السعادة والطمأنينة عطاء من الله ورحمة، كما أن الهم والقلق والضيق غضب من الله ومحنة، فقد يلتقي الملتقيان يتواجهان النفس بالنفس، وبينهما من الفوارق كما بين السماء والأرض، بل وفي أحلك الظروف، وحين تدلهم الخطوب يظهر البون شاسعا بين موفق سعيد يغبط، وبين هلع جزع يتعوذ بالله من حاله، ولقد ذكر الله مثل هذا في كتابه الحكيم عن غزوة أحد حينما ألقى النوم والنعاس على المؤمنين، في حين أن القتال قائم بعد سويعات ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ ?لْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى? طَائِفَةً مّنْكُمْ [آل عمران:154]. النعاس في هذه الحال دليل على الأمن والأمان، لمن كانوا جازمين بأن الله سينصر رسوله، وينجز له مأموله، ولهذا قال عن الطائفة الأخرى وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ ظَنَّ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ?لاْمْرِ مِن شَىْء [آل عمران:154]؛ أي من القلق والجزع والخوف، وهذا شأن أهل الريب والشك، يعيشون بين (لو) المتندمة و(ليت) المتسحرة.
عباد الله، إن السعادة عبارة يتوهم معظم الناس في تفسيرها ولا يتفقون عليها، يجلبون بخيلهم ورجلهم على ما يتوهمونه، ثم يعودون بخفي حنين وكأنهم خرف يكلم الأشباح، أو يطعن في الرياح، فصاروا كطالب اللؤلؤ في الفلاة، مجهود البدن كسير النفس خائب الرجاء. فظن الغني منهم أن سعادته كامنة في صحته وعمارة قصره، وتوهمها الفقير في الثروة والملبس الحسن، وأكد السياسي أنها في تحقق الأهداف، والمهارة في جعل الجور عدلا والقوة شرا، وجزم العاشق على أنها في الوصال، والتيم بمعشوقه، وعند فلان كذا وعند علان هي ذا...
ولكن المنصف الملهم ـ عباد الله ـ حينما يبرق بعيني بصيرته، ليعلم يقينا سخف التخمين وسحق الهوة التي يقع فيها أصحاب الأوهام المعلولة ؛ فإذا بالغني يرى أن قصره المشيد قد شاطره السعادة الموهومة فيه، خدمه وحشمه بل وكلب حراسته وفيله، فتأكد له جيدا، أن السعادة لا تتمثل في بناء الدور وتشييد القصور، وإذا بالفقير المرهق، ينظر إلى أصحاب الثروة واللباس الفاخر ملتاثين بطيف سعادة، إنما هي رجع ضوء منعكس على سحابة عما قريب ستنقشع؛ فيقول في قرارة نفسه: هذا القطن الذي يلبسونه، كان في الغابة على الأشجار، والحرير الذي يباهون به في بطن دودة تعيش في الأوكار، أما الحلي الذي يلبسونه فقد كان وسط أحجار ينقلها بغل أو حمار، فيتيقن حينئذ أن السعادة الحقة، قد تمثلت في مثل شخص الفاروق في حين إن البردة تكسوه مرقعة، والزيت أدم له والكوخ مأواه، ومع ذلك يهتز كسرى على كرسيه فرقا من خوفه وملوك الروم تخشاه.
فالسعادة إذاً ـ يا رعاكم الله ـ، ليست في وفرة المال ولا سطوة الجاه، ولا كثرة الولد، ولا حسن السياسة، السعادة أمر لا يقاس بالكم ولا يشترى بالدنانير، لا يملك بشر أن يعطيها، كما أنه لا يملك أن ينتزعها ممن أوتيها.
السعادة دين يتبعه عمل، ويصحبه حمل النفس على المكاره، وجبلها على تحمل المشاق والمتاعب، وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر، والشدائد بالجلد، والسعيد من آثر الباقي على لفاني إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ?لرَّحْمَـ?نُ وُدّاً [مريم:96]. ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
السعادة ـ أيها المسلمون ـ، هي الرضا بالله والقناعة بالمقسوم والثقة بالله واستمداد المعونة منه، من ذاق طعم الإيمان ذاق طعم السعادة، قال رسول الله : ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا)) [رواه مسلم] [1].
ولذا فإن من أضاع نعمة الرضا، أصابه سُعار الحرص والجشع؛ فهو يطمع ولا يقنع ويجمع ولا يدفع، يأكل كما تأكل الأنعام، ويشرب كما تشرب الهيم، ولقد صدق رسول الله ؛ حيث يقول: ((من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله)) [رواه الترمذي] [2].
ولقد كتب الفاروق إلى أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ يقول له: (أما بعد، فإن الخير كله في الرضى، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر).
إذاً يا عباد الله، لا تخش غمًّا ولا تشكُ هماً، ولا يصبك قلق مادام أمرك متعلقا بقول الله ـ جل وعلا ـ في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) [رواه البخاري ومسلم] [3].
بهذا الحديث وأمثاله بدت السعادة في وجوه السعداء، والتي يعبر عنها من أحس بنشوتها من أئمة الإسلام فيقول: "إننا نحس بسعادة لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بحد سيوفهم".
السعادة التي يمثلها من يغدو في خمائلها ويقول: "إنه لتمر علي ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن لكانوا إذاً في عيش طيب".
إن أمثال هؤلاء هم الذين ابتسموا للحياة حينما كشرت عن أنيابها، واستقبلوا الآلام بالرضى والتسليم، اللذين يحولانها إلى نعمة تستحق الشكر والحمد، على حين أنها عند غيرهم مصائب تستوجب الصراخ والعويل.
فإذا كانت السعادة شجرة منبتها النفس البشرية، فإن الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هو ماؤها وغذاؤها وهواؤها وضياؤها ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ ?لَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ طُوبَى? لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ [الرعد:28، 29].
[1] صحيح مسلم ح (34).
[2] ضعيف، سنن الترمذي ح (2151) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد، ويقال له أيضًا حماد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم المدني، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث.
[3] صحيح البخاري ح (7405)، صحيح مسلم ح (2675).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن العلم الذي يبصر ويهدي، والهمة التي تحفز وترقي، إنما هما في الحقيقة مفتاحا مراتب السعادة والفلاح، وإنما تفوت هذه المراتب العبد من هاتين الجهتين أو من إحداهما، فإما أن لا يكون له علم بها، فلا يتحرك في طلبها، أو يكون علم بها ولا تنهض همته إليها فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَوَكّلِينَ [آل عمران:159].
ألا فاعلموا عباد الله أن لفقدان السعادة أبوابا ينبغي إحكام إغلاقها وكشف عوراتها، فمن ذلك الغناء مزمار الشيطان، ورقية الزنا، الذي ينبت النفاق والقلق كما ينبت الماء الكلأ، يقول الله فيه: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [لقمان:6]. ولقد أقسم ابن مسعود ثلاثا على أنه الغناء.
كما أن من مهلكات السعادة، جعل البيت المسلم محلا لمردة الجن وبعد الملائكة، وذلك بنشر الصور التي حرمها الشارع على جدرانه وفي فنائه، ورسول الله يقول: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة)) [1] ، فما بال الكثيرين يغلقون أبوابهم في وجوه الملائكة ويستدعون أسباب الشقاء والقلق ثم هم ينشدون السعادة بعد ذلك؟!
وبعدُ ـ عباد الله ـ فإن من أبواب الشقاء: الذنوب والمعاصي التي قال عنها المصطفى : ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )) [رواه أحمد] [2]. وقد قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في مسنده: "وجد في خزائن بني أمية حنطة، الحبة بقدر نواة التمر وهي في صرة مكتوب عليها: هذا كان ينبت في زمن العدل".
ولذا ـ عباد الله ـ فإن سعادة القلب، المثمرة بركة الرزق منوطة بالطاعة والتقوى، ولقد جاء عند مسلم في صحيحه في وصف المهدي المنتظر الحديث وفيه: ((ويقيم الدين الذي بعث الله به رسوله، وتخرج الأرض بركتها وتعود كما كانت، حتى إن العصابة من الناس ليأكلون الرمانة ويستظلون بقحفها – أي قشرها – ويكون العنقود من العنب حمل بعير..)) الحديث [3].
ومن أسباب القلق ـ أيها المسلمون ـ التهاونُ بشأن الصلاة أو التقليل منها، ورسول الله يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة )) [رواه أحمد والنسائي] [4].
(وكان إذا حزبه أمر اشتد عليه لجأ إلى الصلاة) [رواه أحمد وأبو داود] [5]. ثم إن ترك الذكر والدعاء والاستغفار، محل للشقاء والهم والحزن، ولذا كان لزاما على من ينشد السعادة ألا يغفل هذا الأمر المهم، بل عليه أن يمسك بزمامه، ويعضّ عليه بالنواجذ، وليستحضر قول النبي : ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) [رواه أبو داود والنسائي] [6].
ولقد دخل رسول الله المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة فقال: ((يا أبا أمامة، مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟)) قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال: ((أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: الله إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)). وقال أبو أمامة: "ففعلت ذلك، فأذهب الله همي وقضى عني ديني". [رواه أبو داود] [7].
[1] أخرجه البخاري ح (3225)، ومسلم ح (2106).
[2] مسند أحمد (5/280) وأخرجه أيضًا ابن ماجه ح (4022) ولفظ أحمد: ((لا يرد القدر إلاالدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البرّ، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)). وقد ثبت الحديث دون قوله: ((وإن العبد ليحرم...)) فإن هذه الزيادة رُويت بسند فيه عبد الله بن أبي الجعد، قال عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/400): وعبد الله هذا وإن كان وُثق ففيه جهالة. وانظر السلسلة الصحيحة (154).
[3] صحيح مسلم ح (2137).
[4] صحيح، مسند أحمد (3/128)، سنن النسائي ح (3939).
[5] حسن، أخرجه أحمد (5/338)، وأبو داود ح (1319)، ولم أجده في سنن النسائي.
[6] ضعيف، سنن أبي داود ح (1518) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (456). كما أخرجه أحمد (1/248) وابن ماجه (3819) والحاكم (4/262) وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: الحكم فيه جهالة. وانظر السلسلة الضعيفة (705).
[7] سنن أبي داود ح (1555) وفي إسناده غسان بن عوف المازني. قال ابن حجر: لين الحديث. التقريب (5393).
(1/484)
الهدية حِكم وأحكام
فقه
الهبة والهدية والوقف
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشروعي الهدية. 2- الحث على قبول الهدية. 3- الهدية تذهب الوغر في الصدور.
4- هدايا العمال غلول ومثله هدايا الشهود والمدرسين وأمثالهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ؛ إذ لا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيمن سمعها ولم يعمل بها، فتقوى الله ـ سبحانه ـ طريق الفلاح وسلم النجاح وعنوان الصلاح. فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ي?أُوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
أيها الناس، لا يشك غر لبيب، طافت بخلده أطياف الأمجاد وذكريات المعالي، في أن كثيرا من النفوس المسلمة في أعقاب الزمن قد تهاوت عراها وئيدا، وانجزرت أواصر المحبة والألفة فيها انجزار البحار عن شطآنها، فأصبحت لا مطمع عندها في الإبحار ولا رجاء في الاصطياد، وعند ذلك تتجدد الحوادث، وتترادف الهموم المتلونة، فتخبو معالم الإيثار الواضحة، ويمسي ما كان بارزا جليا من معالي الأمور في الأنفس مغمورا لا يكاد يبين، وإن إحساس المرء بنفسه دون سواه، إذا زاد عن حده الجبلي، فإنه يحجبه عن الإحساس بالآخرين من بني دينه، ويحصره في نطاق ضيق، لا يرى فيه إلا صورة نفسه، فيكبر شأنه ويهوِّن غيره، في غشاوة سميكة نسجها الغرور والشراهة، بل والاستئسار لكلمة ((أنا)) فيكون من شر الناس عند الله، الذين لا يرجى خيرهم ولا يؤمن شرهم.
ولأجل ذا ـ عباد الله ـ، كان المسلمون بعامة في حاجة ماسة إلى جمع الشمل، ولم الشعث، وإدارة كل دولاب وجابية، لتصب المساقي، وينهل الناس مع بعضهم صفوا.
وإن من أعظم ما يحقق ذلك عباد الله، وأجل ما يبعث الوئام في النفوس، وما يسترضى به الغضبان، ويستعطف السلطان، ويسل السخائم [1] ويدفع المغارم، ويستميل المحبوب، ويتقى به المحذور بعد الله، الهدية الهدية، الهدية التي تزيل غوائل الصدور وتذهب الشحناء من نفوس الناس، فالهدية حلوة، وهي كالسحر تختلب القلوب، وتولد فيها الوصال وتزرعها وداً، ناهيكم عن كونها مكساة للمهابة والجلال، وهي في أوجز عبارة، مصائد للقلوب بغير لغوب، ولا غرو ـ عباد الله ـ في ذلك فأصل الكلمة من الهدى، والهدى بمعنى الدلالة والإرشاد، فكأنها تهدي القلب وترشده إلى طرق المودة والتآلف.
الهدية ـ عباد الله ـ هي تمليك عين للغير على غير عوض، فإن كانت لطلب الأجر المحض من الله غلب عليها اسم الصدقة، وإن كانت لغير ذلك فهي من ذلك – أي الهدية، وهي مشروعة بين المسلمين؛ عملا بقول النبي : ((تهادوا تحابوا)) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي بسند حسن] [2] ، وفي رواية للترمذي: ((تهادوا، فإن الهدية تذهب وَحَرَ الصدر)) [3].
والتهادي بين النبي وأصحابه أمر معروف مشهور ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة، كما أن النبي رغب في قبولها والإثابة عليها، وكره ردها لغير مانع شرعي، مهما كانت قليلة أو محتقرة، فلقد قال : ((ولو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت)) [رواه البخاري] [4] ، وللطبراني من حديث أم حكيم الخزاعية قلت: يا رسول الله تكره رد الظلف؟ قال: ((ما أقبحه! لو أهدي إلي كراع لقبلته)) [5].
وعند البخاري في صحيحه، أن رسول الله قال: ((يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) [6] والفرسن: عظم قليل اللحم.
ففي هذا كله الحض على قبول الهدية ولو قلّت؛ لما في ذلك من التأليف والتآلف، ولو كانت يسيرة ؛ لأن الكثير قد لا يتيسر كل وقت، كما أن اليسير إذا تواصل صار كثيرا، والقليل من صاحب الود لا يقال له: قليل، فتقع المودة ويسقط التكلف.
ويزداد الأمر تأكيدا على عدم رد الهدية، إذا كانت إحدى ثلاث أشار إليها النبي في قوله: ((ثلاث لا ترد، الوسائد والدهن واللبن)) [رواه الترمذي] [7] ، والدهن هو الطيب.
وحاصل الأمر ـ عباد الله ـ أن العاقل الحصيف، من يستعمل مع أهل زمانه شيئا من بعض الهدايا بما قدر عليه لذي رحمه الأقرب فالأقرب، ولجيرانه أقربهما منه بابا، لاستجلاب محبتهم إياه، وإن كان عنده الشيء التافه فلا يجب أن يمتنع من بذله، لاستحقاره أو استقلاله؛ لأن أهون ما فيه لزوم البخل والمنع، ومن حقّر شيئا منعه؛ بل يكون عنده الكثرة والقلة في الحالة سِيَّيْن، لأن ما يورث الكثير من الخصال، أورث الصغير بقدره من الفعال، وإن البشر طراً مجبولون على محبة الإحسان وكراهية الأذى، واتخاذ المحسن إليهم خلا وفيا، واتخاذ المسيء إليهم عدوا بغيضا.
ويالله، فلطالما استعبد الإنسان إحسان كريم، لا سيما إذا كان في موقف الرد على الإساءة، من غيبة أو نميمة أو نحوها، ولقد روى الحافظ ابن حبان البستي بسنده، أن أبا حنيفة ـ رحمه الله ـ لما اشتهر وعلا صيته، قال فيه بعض حاسديه: كنا من الدين قبل اليوم في سعة، حتى بلينا بأصحاب المقاييس، فبلغ ذلك أبا حنيفة، فبعث إليه بهدية جزاء ما فعل، فلما قبضها القائل ندم، وملكت الهدية قلبه فكفّر عما فعل بقوله:
إذا ما الناس يوما قايسونا بآوبة من الفتيا طريفة
أتيناهم بمقياس صحيح مصيب من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه بها وعاها وأثبتها بحبر في صحيفة
فالله أكبر! كم تزيل الهدية من السخائم؟! وكم تنسخ من الشتائم؟!
وبعد ـ عباد الله ـ فإن ما مضى من الحديث عن الهدية ببيان فضلها وأثرها وحكمها، لا يمنع كونها محل تصنيف العلماء وتقسيمهم إلى ما يجوز منها وما لا يجوز؛ ولأجل ذا فإنه يجدر بنا في مثل هذا المقام أن نشير على عجالة واختصار شديدين، إلى بعض المحاذير التي تقع فيها المجتمعات، إبان حياتهم اليومية، اجتماعية كانت أو معيشية أو وظَفِيَّة، فيما يتعلق بالهدايا المحرمة، التي قد يغفل عنها كثيرون، ويتغافل عنها مأفونون [8].
فمن ذلك ـ عباد الله ـ ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ من أنه لا يجوز للمرء المسلم إذا شفع شفاعة أن يقبل هدية ممن شفع له عند ذي سلطان مما هو مستحق له، لتكون مقابل شفاعته. وهذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار، بدليل قول النبي : ((من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً من أبواب الربا)) [رواه أبو داود [9] وهو حديث حسن].
وذلك ـ عباد الله ـ أن الشفاعة الحسنة مندوب إليها، فأخذ الهدية عليها يضيع أجرها، كما أن الربا يمحق الحلال، ولا يدخل في هذا التحريم، من استأجر لإنجاز معاملة ما أو ملاحقتها مقابل أجرة معينة فهذا من باب الإجارة الجائزة بالشروط الشرعية.
ومن ذلك ـ عباد الله ـ تحريم الهدية للقاضي إذا كانت أهديت إليه لأجل كونه قاضيا، بدليل قول النبي : ((لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم)) [رواه أحمد والترمذي] [10] ، إلا إن كان المهدي ممن له عادة بإهداء القاضي قبل أن يكون قاضيا فلا بأس بالهدية حينئذ ما لم تكن حال خصومة قائمة للمهدي عند ذلك القاضي.
ومن الهدايا المحرمة ـ عباد الله ـ هدية بعض الأولاد دون بعض، لما في ذلك من الحيف [11] والظلم؛ حيث إن بعض الناس يعجبه بر بعض أولاده به دون بعض، لما يرى فيه من الخلال الحسنة والبر الوافي، فيكافئه على هذا بتخصيص عطية له دون غيره والله ـ سبحانه ـ يقول: اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة:8].
وعن النعمان بن بشير، أن أباه أتى به إلى رسول الله فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما فقال رسول الله : ((أكل ولدك نحلته مثله؟)) فقال: لا، فقال رسول الله : ((فأرجعه)) [رواه البخاري] [12] ، وفي لفظ لمسلم: ((فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جور)) [13] ، وفي رواية لأحمد: ((أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء)) [14].
أما كيفية العدل بين الأولاد في العطية فهي أن يعطى الذكر مثل حظ الأنثيين، كما قسم الله ذلك في فريضة الميراث العادلة، وهذا هو الذي عليه المحققون من الأئمة؛ كشيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله ـ، ويستثنى من ذلك عباد الله، فيما لو أعطى أحد أولاده عطية بمسوغ شرعي، كأن تقوم به حاجة ليست في الآخرين من فقرؤوا مرض أو نحو ذلك مما يستلزم العطية.
ومن الهدايا المحرمة، ما يتناوله الشهود في المحاكم جزاء شهادتهم ويسمونها هدية فإذا طلبوا إليها دون مقابل، حلف أحدهم أنه ناسٍ لها، وأن قلبه ذو إغفال، فإذا رأى المنقوش قال: ذكرتها. يا للمذكر جئت بالآمال! وما علم أولئك أن أداء الشهادة واجب بنص الكتاب كما قال ـ تعالى ـ: وَلاَ يَأْبَ ?لشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ [البقرة:282]. وقال ـ سبحانه ـ: وَلاَ تَكْتُمُواْ ?لشَّهَـ?دَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283].
ومن ذلك ـ عباد الله ـ، ما كان من الهدايا، في مقابل التنازل عن حق الله وشرعه، أو إقرار الباطل والرضى به، كما ذكر الله ذلك عن ملكة سبأ في محاولتها مع سليمان ـ عليه السلام ـ: وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ، وقال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس، وكانت قد قالت: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَـ?نِى ?للَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَـ?كُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36]. قال ذلك منكرا عليهم: أي أتصانعونني بمال، لأترككم على شرككم.
ومن الهدايا المحرمة ـ عباد الله ـ، ما يعطاه العمال الذين يعينهم ولي الأمر على حاجات الناس فيعطون الهدايا لأجل المحاباة، بحيث لو كانوا في بيوتهم لم ينلهم منها شيء، فهذه حرام لا يجوز أخذها بدليل ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي استعمل رجلا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه قال: هذا ما لكم وهذا هدية، فقال رسول الله : ((فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا)) ، ثم خطب الناس فكان مما قال: ((والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر)) ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطه يقول: ((اللهم هل بلغت)) [15].
جعلنا الله وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين.
[1] السخائم: جمع سخيمة بمعنى الحقد (القاموس، مادة سخم).
[2] حسن، الأدب المفرد ح (594)، سنن البيهقي (6/169).
[3] سنن الترمذي ح (2130) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأبو معشر اسمه: نَجِيح مولى بني هاشم، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قِبَل حفظه. وقال ابن حجر فيه: ضعيف. التقريب (7150).
[4] صحيح البخاري ح (2568)، وأخرجه أيضًا مسلم (كتاب النكاح ح (104) ولفظه: ((إذا دعيتم إلى كراع فأجيبوا)).
[5] المعجم الكبير (25/ 162). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/149): وفيه من لم يعرف. قلت: ويكفي عنه ما سبق.
[6] صحيح البخاري ح (2566)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1030).
[7] حسن، سنن الترمذي ح (2790).
[8] مأفونون: جمع مأفون بمعنى الضعيف الرأي والعقل (القاموس، مادة أفن).
[9] سنن أبي داود ح (3541).
[10] صحيح، مسند أحمد (6/386)، سنن الترمذي ح (1336) وقال: حديث حسن صحيح ولفظه: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم....".
[11] الحيف: الجور والظلم (القاموس ، مادة حيف).
[12] صحيح البخاري ح (2586)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1623).
[13] صحيح مسلم: كتاب الهبات ح (14).
[14] مسند أحمد (4/269)، وإسناده صحيح.
[15] صحيح البخاري ح (2597)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1832).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء البررة وعلى التابعين وأتباعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من الصور المحرمة في الهدايا، ما يهدى من أشياء محرمة كآلات لهو من معازف وغيرها، وكالتماثيل والصور المحرمة، أو ما يجلب الشر ويمنع الخير، كالأقمار المستديرة وشبهها مما يجر البلاء على المسلمين، ويقضي على دينهم والصبغة التي فطروا عليها ويحلق ما تبقى من خلال حسنة.
وكذا الإهداء والتهادي بمناسبة أعياد الكفار أو ما يسمى يوم الأم، أو ما شابه ذلك مما هو مسترق من أهل الكفر، ومغلف بأغلفة مزيفة كالحب والتصافي، والبر والصلة ونحوها. فهذا كله محرم؛ لأنه من باب التشبه بأهل الكفر، والنبي يقول: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [1] [رواه أحمد وأبو داود]. وقديما قيل: (الطيور على أشكالها تقع).
ومن الهدايا المحرمة عباد الله، ما ابتلي به كثير من المجتمعات مما يسمى ((الرشوة)) التي يتفننون في تسميتها، أو يلقبونها بألقاب تخدع السذج، وتسر الغششة، حتى لقد انتشرت انتشار النار في يابس الحطب، حتى أفسدت كثيرا من الذمم، وصارت سببا لإفساد العمال على أصحاب العمل، فيجعلون الخدمة لمن يدفع جيداً، ومن لا يدفع فلا حول له ولا قوة، فلا يجد أمامه في قضاء حوائجه إلا نفوسا منهومة منكسة، حتى صار أسهلها من خلقها منعا وهات، وأحلاها هات وهات، والأصل في هذه الوظائف ـ عباد الله ـ أن يقوم رجالها على العدل بين الناس ليسود الأمن بين كافة أفرادهم، فالذي يقبل الرشوة أو يطلبها من الموظفين العاملين على خدمة الجمهور، يكون قد أخل بالأمن، وأفسد نظام الحكم، الراشي والمرتشي مجرمان أثيمان يدفع الأول أجرا على إفساد العدل، ويأخذ الثاني أجرا على الإخلال بالأمن، والمال الذي يأخذه المرتشي سحت ونار، لأنه يهدم شريعة قام عليها ركن العدل بين الناس، فلا جرم ـ عباد الله ـ إذا دعا عليهم النبي بقوله: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)) [رواه ابن ماجة] [2].
[1] صحيح، مسند أحمد (2/50)، سنن أبي داود (4031).
[2] صحيح سنن ابن ماجه ح (2313)، وأخرجه أيضًا بمعناه: أحمد (2/387) والترمذي ح (1337) وقال: حسن صحيح، وأبو داود ح (3580).
(1/485)
العين حق
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الحسد والعين. 2- الأثر العظيم للعين. 3- هل العين حق؟ 4- حديث مع المنكرين
للعين. 5- شركية تعليق التمائم والودع لدفع العين. 6- أنواع الرقى في دفع العين.
7- الاحتراز من العين قبل وقوعها. 8- العلاج من العين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، اتقوا ربكم وراقبوه في السر والعلن، فبتقوى الله ـ عز وجل ـ تصلح الأمور، وتتلاشى الشرور ويصلح للناس أمر الدنيا والآخرة.
أيها الناس، الحسد والتحاسد مجمع الآفات، ومستنقع الشرور والرذائل؛ إذ ما دخل الحسد في شيء إلا شانه، ولا نزع من شيء إلا زانه، وإن انتشار مثل هذه الملوثة المذمومة، في أوساط الناس، لأمر مؤذن بعواقب وخيمة، وأضرار جسيمة، ولو لم يكن من ذلك إلا التباغض والتدابر، والإحن والتناحر بله الغيبة والنميمة والأشر والبطر.
وإن من سهام الناس القاتلة التي تمزق من رمية الحسد هي الإصابة بالعين، وما أدراكم ما الإصابة بالعين؟! إنها نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر، يقال: أصابت فلانا عين، إذا نظر إليه عدو أو حسود، فأثرت فيه فمرض بسببها.
بذلكم ـ عباد الله ـ بين أهل العلم حقيقة العين، وبها تعلمون أن العين، إنما هي جمرة مضرمة من حطب الحسد، ابتلي بها الكثيرون على حين غفلة من الأوراد الشرعية، التي هي حروز أمنية، وحصون مكينة، فتناثرت جثث وهام، وتردت نفوس، وتهالكت أجساد من جرائها، ولقد صدق رسول الله إذ يقول: ((أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين)) [رواه البخاري في تاريخه والبزار في مسنده [1] ، وهو حديث حسن].
عباد الله، العين حق لا مماراة فيها، ثابتة بالكتاب والسنة وبواقع الأمم المتكررة، يقول الله ـ جل وعلا ـ لنبيه وَإِن يَكَادُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـ?رِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ?لذِكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم:51]. أي يعينُونك بأبصارهم، قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله ـ عز وجل ـ. ثم اعلموا عباد الله أن اللقع [2] بالعين، كان في بني إسرائيل، وقد كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يعتان أحدا، يجوع ثلاثة أيام ثم يعتانه. ولقد قال الحسن البصري رحمه الله: دواء من أصابته العين أن يقرأ هذه الآية.
ومما يدل على أن العين حق ـ عباد الله ـ قول الخالق ـ جلا وعلا ـ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لْفَلَقِ مِن شَرّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرّ ?لنَّفَّـ?ثَـ?تِ فِى ?لْعُقَدِ وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق]. قال قتادة: أي من شرعينه ونفسه، وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: كل عائن حاسد، ولما كان الحاسد أعم من العائن، كانت الاستعاذة منه، استعاذة من العائن، وقال ابن عطية: إن عين الحاسد في الغالب لاقفة. نعوذ بالله ـ عز وجل ـ من شرها. ومن لطائف هذه الآية ـ عباد الله ـ، أن بعض العامة يقولون للحاسد إذا نظر إليهم: الخمس على عينيك، ويشيرون بالأصابع الخمسة، وهذا غلط بين؛ إذ المراد بالخمس هي آيات سورة الفلق إذ كلها خمس آيات.
لقد جاءت السنة مؤكدة للقرآن ومفسرة له، ولقد قال المصطفى في ذلك: ((العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا)) [رواه مسلم] [3]. والمعنى: إن طلب من أحدكم أن يغتسل لمن أصابه بالعين فليجب. وقال : ((استعيذوا بالله من العين؛ فإن العين حق)) [رواه الحاكم وابن ماجه] [4].
وقد صح عند أحمد في مسنده عن النبي أنه قال: ((إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا فيتردى منه)) [5] ، ومعنى يصعد حالقا: أي يصعد مكانا مرتفعا.
وقال مرة لأسماء بنت عميس: ((مالي أرى أجسام بني أخي ضارعة – أي نحيفة – تصيبهم الحادة؟؟)) قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم. قال: ((ارقيهم)) قالت: فعرضت عليه فقال: ((ارقيهم)) [رواه مسلم] [6].
ثم اعلموا عباد الله أن العين عينان: عين إنسية وعين جنية، وقد كان النبي يتعوذ من عين الجان ثم من أعين الإنس، فلما نزلت المعوذتان والإنسان قد يعين نفسه إذا رأى منه ما يعجبه، واستقى بعض أهل العلم ذلك من قوله ـ تعالى ـ: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء ?للَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِ?للَّهِ [الكهف:39].
ولقد ذكر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ، أن من عرف بالعين، فإن الإمام يحبسه، ويجري له ما ينفق عليه إلى الموت، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: وهذا هو الصواب قطعا.
وما ذاك ـ يا عباد الله ـ، إلا لعظم هذا الأمر، وخطورته في المجتمع وإهلاك الأنفس به وهدم الأسر والبيوتات، مما يدل بالتأكيد على أن العين حق؟ فكفى الله المسلمين شرها.
أيها الناس، في حضارتنا المعاصرة، كثر المثقفون، وشاعت المعارف الذكية، في حين إن البعض منها، مقطوع الصلة بالله وبشرعه، والإنسان مهما قوي فهو ضعيف، ومهما اتسع تعلمه فعلمه قاصر، وحاجته إلى شريعة ربه والوقوف بالتسليم لنصوصه، أشد من حاجته إلى الماء والهواء، فما أعظمَ نعمةَ الدين الصحيح والعقل الصريح! فلا دين بلا عقل؛ إذ لا تكليف حينئذ، ولا عقل بلا دين؛ إذ إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
ولقد برزت طائفة من المعنيين بالطب وفنونه ممن قل نصيبهم من نصوص الشارع الحكيم، فأبطلت أمر العين، وادعت كاذبة أنها لا تعدو كونها أوهاما، وأطياف خيال لا حقيقة لها، ولا غرو أيها المسلمون أن يضل أمثال هؤلاء، وقد قال ربنا ـ جل وعلا ـ: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123]. وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:3].
أيها المسلمون، إن أمر العين غير خافٍ على كل ذي لب متجرد، وهذه حال غير مستنكرة ألبتة، وإنما المستنكر ـ عباد الله ـ أن يكون المتفاعل معها كالمستسمن غير سمن، وكالمستبعد غير غرب؛ إذ ظن بعض السذج أن ليس للعين سبيل إليهم بمجرد أن يعلق تميمة أو ودعة أو نابا، أو تعاويذ ورقى ملفقة، ينسجها لهم أدعياء الكهانة والشعوذة، يخدعون بها الرعاع أو يدعو أن لهم خصوصية في نفع رقاهم وتعاويذهم لأخذهم العهود على شيوخ، أو أصحاب طرق أو نحو ذلك مما لا أصل له في الدين؛ بل هو بدعة وضلال مبين، وقد قال رسول الله : ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) [رواه أحمد وأبو داود] [7].
والتمائم شيء يعلق على الأولاد من العين. وقال : ((من تعلق شيئا وكل إليه)) [رواه أحمد والترمذي] [8]. والتعلق يكون تارة بالقلب كالاعتقاد في قراءة الشيخ الفلاني، أو التعلق بها من دون الله وأنها شافية أو نحو ذلك، ويكون تارة بالفعل، كمن يعلق تميمة أو خيطا أو نحوهما، لدفع العين أو الضر، ويكون تارة بهما جميعا؛ أي بالقلب والفعل.
فمن تعلق بالله وأنزل حوائجه به والتجأ إليه، وفوض أمره إلى ربه كفاه وهداه وقرب إليه كل بعيد، ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله وتميمته ودوائه وكله الله إلى ضيعة، فما ظنكم ـ عباد الله ـ بمن تعلق بغير الله؟ بل ما ظنكم بمن وكله الله إلى نفسه أو إلى غيره من المخلوقين؟ أترونه ناجيا أم هالكا؟! أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى? وَجْهِهِ أَهْدَى? أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [الملك:22].
والله ـ سبحانه ـ هو الذي تعلق عليه الآمال وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]. وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ?للَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم:12].
إن العجب كل العجب، في أولئك المصابين بالعين، حين يستبدلون الرقى والعزائم الشركية بالرقى والعزائم الشرعية، جاهلين أو متجاهلين، خطورة هذا المسلك والهوة السحيقة التي تقذفهم إليها تبعاته. قال القرافي في فروقه عن ألفاظ الرقى: "وهذه الألفاظ منها ما هو مشروع كالفاتحة والمعوذتين، ومنها ما هو غير مشروع كرقى الجاهلية والهند وغيرهم، وربما كان كفرا؛ ولذلك نهى مالك وغيره عن الرقى العجمية لاحتمال أن يكون فيه محرم".
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ: "نهى علماء الإسلام عن الرقى التي لا يفقه معناها؛ لأنها مظنة الشرك، وإن لم يعرف الراقي أنها شرك"، فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: ((اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى مالم يكن فيه شرك )) [رواه مسلم] [9].
كل اسم مجهول، لا يجوز لأحد أن يرقي به فضلا عن أن يدعو به، وأما جعل الألفاظ الأعجمية أو الحروف المقطعة شعارا للرقى، فليس من دين الإسلام، كقول أرباب الدجل في رقاهم وتعاويذهم: "كركدن دهده، شراهيا جلجلوات" وأمثالها مما هو دجل فوق دجل وخرافة فوق خرافة، مما ليس من دين الإسلام في شيء.
بيد أن كثيرا من الناس في هذا العصر، قد كبا كبوة مثيرة، وزل زلة خطيرة، فجمهورهم قد أصابهم لوثات هذه العلل، قد أسلموا عقولهم لأيادي الهدم، التي لبست قفاز التدين واستطاعت من وراء هذا القفاز، أن تصافح كثيراً من ضعاف النفوس بسبب تخلفهم، وإبان غفلة من علمائهم وأولي الأمر منهم فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولسان حالهم يقول: (وداوني بالتي كانت هي الداء). فزادوهم مرضا إلى مرضهم، واقتلعوا أطناب حياتهم الهانئة، فخر عليهم سقف السعادة من فوقهم وما خذل أمثال هؤلاء إلا حينما لجؤوا إلى ذئاب الظلام، وركنوا إلى هرائهم وأهازيجهم، ناسين شرعة الله وصبغته وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:50].
فإذا عباد الله يستخلص من ذلك أن الرقى تكون مشروعة إذا تحقق فيها شروط ثلاثة: أولها: أن لا يكون فيها شرك ولا معصية؛ كدعاء غير الله أو الإقسام بغير الله. وثانيها: أن تكون بالعربية وما يعرف معناه. وثالثها: أن لا يعتقد كونها مؤثرة بنفسها.
قال ابن أبي العز الحنفي: "اتفقوا على أن كل رقية وتعزيم أو قسم فيه شرك بالله، فإنه لا يجوز التكلم به، وإن أطاعته الجن أو غيرهم".
وبعدُ ـ عباد الله ـ، فإن كون العين حق، أمر ثابت شرعا وواقعاً وعقلا، وحينما تظهر أمامنا هذه الحقيقة جلية، فإن من الأخطاء الشائعة، والبلايا المعقدة أن يصبح المرض بالعين شبحا مروعا أو هاجسا متدليا إلى الذهن عند كل وخزة ألم، أو نكسة نفس، حتى يصل الأمر بذلك إلى درجة الوهم لدى الناس، فإذا ما عطس امرؤ قالوا: هذه عين، وإذا أخذته سعلة قالوا: إنها العين، وإذا ما أصيب أو ابتلي قالوا: يالها من عين! حتى لقد أخذ الوهم من البعض مأخذه، يمشي وأمامه العين، وينام كذلك ويصبح كذلك، وهذا هو الداء العُضَال؛ إذ لا يزيد الوهم إلا وهنا.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وبادروا بالرقى والأذكار الشرعية إصابات العين، وليتق الله العائن وليذهب من قلبه الحسد إن وجد، وإلا فليطفئ نار إعجابه بالشيء بذكر الله ـ سبحانه ـ، وليدفع شر عينه بقوله: (اللهم بارك عليه) كما قال النبي لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: ((ألا بركت)) [10] ؛ أي قلت: اللهم بارك عليه.
أعاذنا الله وإياكم بكلماته التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
[1] التاريخ الكبير للبخاري (4/360)، وعزاه ابن حجر في فتح الباري (10/204) للبزار بإسناد حسن.
[2] يقال: لَقَعَ فلانٌ فلاناً بعينه، أي: أصابه بها (القاموس ، مادة لقع).
[3] صحيح مسلم ح (2188)، وأخرج البخاري الجملة الأولى منه ح (5740).
[4] صحيح، مسند ابن ماجه (3508)، مستدرك الحاكم (4/215) وصححه ووافقه الذهبي.
[5] صحيح مسند أحمد (5/146).
[6] صحيح مسلم ح (2198).
[7] صحيح، مسند أحمد (1/381)، سنن أبي داود ح (3883).
[8] حسن، مسند أحمد (4/310)، سنن الترمذي ح (2072).
[9] صحيح مسلم ح (2200).
[10] أخرجه مالك في الموطأ (2/938) وإسناده صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه، ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين واعلموا أنه لا بأس على المرء، في أن يتحرز من العين، بستر محاسن من يخاف عليه العين، بما يقيه منها، أو أن يعوذه منها بالتعويذ الشرعي، فلقد قال ـ سبحانه ـ عن يعقوب ـ عليه السلام ـ: وَقَالَ يبَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَ?دْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ ?للَّهِ مِن شَىْء إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُتَوَكّلُونَ [ يوسف:67]. قال ابن عباس وغيره: (إنه خشي عليهم العين)؛ وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة، فإن العين حق، تستنزل الفارس عن فرسه، وهذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه؛ فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع؛ ولذا قال يعقوب: وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ ?للَّهِ مِن شَىْء [يوسف:67].
وكان رسول الله يعوذ الحسن والحسين يقول: ((أعيذكم بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة )) ويقول: ((هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ)) [رواه البخاري وأصحاب السنن] [1].
وبعد ـ عباد الله ـ، فإن العين داء عضال، ونار آكلة لم يهمل الشارع الحكيم جانبها، بل بينها ووضحها، وأبدى للناس علاجها، وإن من أعظم ما يزيل العين والسحر بأمر الله: الرقية الشرعية من الكتاب والسنة، يقول أبو محمد بن حزم: "جربنا من كان يرقي الدمّل [2] الحاد القوي الظهور في أول ظهوره، فيبدأ من يومه ذلك بالذبول ويتم يبسه في اليوم الثالث، جربنا من ذلك ما لا نحصيه، وكانت امرأة ترقي أحد دملين قد دفعا في إنسان واحد، ولا ترقي الثاني فيبس الذي رقت ويتم ظهور الذي لم ترق، وشاهدنا من كان يرقي الورم المعروف بالخنازير، فيندمل ما يفتح منها، ويذبح مالم ينفتح ويبرأ".
والرقية ـ عباد الله ـ تكون بآيات القرآن، كالفاتحة وآية الكرسي والإخلاص والمعوذتين، وغيرهما من آيات القرآن الذي أنزله الله هدى وشفاء، وكذا بالأدعية النبوية الثابتة عن المصطفى كتعويذه للحسن والحسين، وكرقية جبريل له بقوله: ((بسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك باسم الله أرقيك)) [رواه مسلم] [3].
ومن أدوية العين الناجعة، ما ذكرت عائشة ـ رضي الله عنها ـ بقولها: (كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين) [رواه أبو داود] [4].
كما أن من العلاج ـ عباد الله ـ، عسل النحل بشتى أنواعه لثبوت ذلك في الكتاب والسنة، وكذا ماء زمزم، فهو لما شرب له، وهو طعام طعم وشفاء سقم كما صح الخبر بذلك عن النبي [5].
[1] صحيح البخاري ح (3371)، سنن أبي داود (4737)، سنن الترمذي ح (2060) وقال: حديث حسن صحيح، سنن ابن ماجه ح (3525).
[2] الخُراج.
[3] صحيح مسلم ح (2186).
[4] سنن أبي داود ح (3880) وإسناده صحيح.
[5] أخرج الإمام أحمد في المسند (3/357) وابن ماجه في سننه (3062) عن جابر أن النبي قال: ((ماء زمزم لما شُرب له)) وهو حديث صحيح.
وأخرج مسلم ح (2473) عن أبي ذر رضي الله عنه في حديث إسلامه وهو طويل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن زمزم: ((إنها مباركة، إنها طعام طُعم)).
وأخرج البزار عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((زمزم طعام طعم، وشفاء سقم)). قال المنذري في الترغيب ح (1754): رواه البزار بإسناد صحيح.
(1/486)
لماذا السفر
موضوعات عامة
السياحة والسفر
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نداء لحجاج بالاستقامة على الطاعة. 2- السفر الممدوح والمذموم. 3- سهولة السفر وتعدد
وسائله نعمة تستحق الشكر. 4- فوائد السفر. 5- الوقوع في شرك الربوبية. 6- من سمت
المسلم الفأل وعدم التطير. 7- ذكر بعض آداب السفر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله حق التقوى، والاستمساك من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى، فاتقوا الله واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون.
حجاجَ بيت الله، يا من أديتم مناسككم فوقفتم بعرفات، وانحدر بكم الشوق إلى المزدلفة فسكبتم عند المشعر الحرام العبرات، فلله كم من خائف منكم أزعجه الخوف من الله وأقلقه، وراج أحسن الظن بوعد الله فصدقه؟ وكم من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، وبلغ الأماني عشية عرفة؟
حجاج بيت الله الحرام، ليس السابق اليوم من سبقت به راحلته، إنما السابق من غفر له ذنبه وقبل عمله، فأخلصوا لله حجكم، واتبعوا سنة نبيكم تفلحوا، ومن قصر في جنب الله فليرجع إلى جهاد النفس، فهو الجهاد الأكبر، وحذار حذار، أن تحلقوا رؤوس أعمالكم بالذنوب؛ فإن الذنوب حالقة الدين، ليست الشعر وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92]. فلله ما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة! وما أقبح السيئة بعد الحسنة! فالحذر الحذر ـ عباد الله ـ من العمى بعد الهدى ومن الحور بعد الكور.
عباد الله، إن الحج المتكرر في كل عام، منذ أن أذن إبراهيم ـ عليه السلام ـ في الناس بالحج، وهم يغدون إلى بيت الله العتيق من كل فج عميق، رجالا وعلى كل ضامر، لهو أمر دال باللزوم على أن السفر وقطع الفيافي والقفار، أمر ذو بال في واقع كل امرئ حي.
وما أكثر ما يسافر الناس لشؤون حياتهم! مادية أو معنوية، ولقد سافر رسول الله مرات ومرات، إبّان شبابه قبل البعثة، وبعد نبوته ما بين حج وعمرة، وجهاد وتجارة.
والسفر غالباً يعري الإنسان من الأقنعة التي كانت تحجب طبيعته، وما سمي السفر سفرا إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، ولذا فإن السياحة في الأرض, والتأمل في عجائب المخلوقات، مما يزيد العبد معرفة بربه ـ عز وجل ـ، ويقينا بأن لهذا الكون مدبرا، لا رب غيره ولا معبود بحق سواه.
فالمسافر يتأمل ثم يتدبر ثم يخشى، كل ذلك حينما يرى عجيب صنع الله وعظيم قدرته صُنْعَ ?للَّهِ ?لَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88]. ولقد أنكر الله ـ سبحانه ـ على من فقد هذا الإحساس المرهف بقوله وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [ يوسف:105].
السفر عباد الله معترى بحالتين اثنتين: حالة مدح وحالة ذم؛ فالخروج من الملل والسآمة والضيق والكآبة من الناس والمكان للتأمل في خلق الله، أو طلب علم نافع، أو صلة قريب أو أخ في الله هو سمة السفر الممدوح، وهو مذموم أيضا، من جهة كونه محلا للمشاق والمتاعب؛ لأن القلب يكون مشوشا والفكر مشغولا من أجل فراق الأهل والأحباب؛ ولذا قال فيه النبي : ((السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله)) [رواه البخاري ومسلم] [1].
والمراد بالعذاب ـ عباد الله ـ، الألم الناشئ عن المشقة، لما يحصل في الركوب والسير من ترك المألوف.ولقد ذهب بعض أهل العلم كالخطابي وغيره، إلى أن تغريب الزاني، إنما هو من باب الأمر بتعذيبه ـ والسفر من جملة العذاب ـ ولقد سئل إمام الحرمين: لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: لأن فيه فرقة الأحباب.
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ، أن السفر في هذه الآونة، يختلف عن السفر في قرون مضت، فقد مهدت الطرق، وجرت عليها العربات الآلية بشتى أنواعها المبدعة، فهي تسير بهم على الأرض إن شاءوا أو تقلّهم الطائرات السابحة في الهواء إن رغبوا، أو تحملهم الفلك المواخر في البحر إن أرادوا، كما أن الأزمنة قد تقاصرت، فما كان يتم في شهور بشق الأنفس، أضحى يتم في أيام قصيرة بل ساعات قليلة، وبجهود محدودة بل وربما عطس رجل في المشرق فشمته آخر في المغرب، وهذا مصداق حديث النبي من أن تقارب الزمان من علامات الساعة كما عند البخاري في صحيحه [2].
ومع هذه الراحة الميسرة فإن الأخطار المبثوثة هنا وهناك لم تنعدم، ففي الجو يركب المرء طائرة يمتطي بها ثبج الهواء، معلقا بين السماء والأرض، بين مساومة الموت ومداعبة الهلاك فوق صفيحة مائجة، قد يكون مصيره معلقا بأمر الله في خلخلة مسمار أو إعطاب محرك، مما يؤكد الاحتماء بالله وارتقاب لطفه المترجم بلزوم آداب السفر، والبعد عن معصية الله في هوائه بين سمائه وأرضه، والمستلزمة وجوبا، إقصاء المنكرات من الطائرات، والتزام الملاحين والملاحات بالحشمة والعفاف والبعد عما يثير اللحظ أو يستدعي إرسال الطرف، وإن تعجب ـ أيها المسلم ـ، فعجب ما يفعله مشركو زمان النبي من اللجوء إلى الله في الضراء فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ?لْفُلْكِ دَعَوُاْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ?لْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]. وبعض عصاة زماننا سراؤهم وضراؤهم على حد سواء، فقبح الله أقواما؛ مشركو زمان النبي أعلم بلا إله إلا الله منهم.
أيها المسلمون، إن التقارب في الزمان والمكان بما هيأ الله من أسباب السرعة، لهو نعمة عظيمة ورحمة جُلَّى [3] ، تستوجبان الشكر للخالق والفرار إليه، في مقابل التذكر، فيما فعله الله ـ جل وعلا ـ بقوم سبأ الذين كانوا في نعمة وغبطة، من تواصل القرى، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ?لْقُرَى ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـ?هِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ?لسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءامِنِينَ [سبأ:18]. ولكن لما بطروا نعمة الله ومالت نفوسهم إلى ضد حالهم فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـ?عِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـ?هُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـ?هُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ:19]. ففرق الله شملهم بعد الاجتماع، وباعد بينهم بعد التقارب، حتى صاروا مضرب المثل؛ ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ.
وبعدُ ـ عباد الله ـ، فإن من أعظم فوائد السفر، وأكثرها تعلقا بالله، معرفةَ عظمته وقدرته، بالنظر إلى ما ابتدعه ـ جل وعلا ـ، خلقا جميلا عجيبا، من حيوان وموات، وساكن وذي حركات، وماذرأ فيه من مختلف الصور التي أسكنها أخاديد الأرض، وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها، من أوتاد ووهاد، فصار فيها جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن ذوات أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى? [النازعات:26]. كونها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة، ونسقها على اختلافها بلطيف قدرته ودقيق صنعه، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه، ومنها مغموس في لون صبغ، قد طوِّق بخلاف ما صبغ به وَمِنَ ?لنَّاسِ وَ?لدَّوَابّ وَ?لاْنْعَـ?مِ مُخْتَلِفٌ أَلْو?نُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر:28].
فسبحان من أقام من شواهد البينات على عظمته وقدرته! ما انقادت له العقول معترفة به ومسلمة له، فبان لها أن فاطر النملة هو فاطر النخلة.
فالويل كل الويل لمن جحد المقدر وأنكر المدبر، زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع، ولا لاختلاف صورهم صانع، وغاب عن عقولهم المختلة، وأذهانهم المعتلة، من عقله أكبر من حضارتهم بعبارات ثرة على أعرابيته وبداوته: سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج وأثر يدل على المسير، وبعرة تدل على البعير، ألا يدل ذلك كله على اللطيف الخبير. إِنَّ ?للَّهَ فَالِقُ ?لْحَبّ وَ?لنَّوَى? يُخْرِجُ ?لْحَىَّ مِنَ ?لْمَيّتِ وَمُخْرِجُ ?لْمَيّتِ مِنَ ?لْحَىّ ذ?لِكُمُ ?للَّهُ فَأَنَّى? تُؤْفَكُونَ فَالِقُ ?لإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ?لَّيْلَ سَكَناً وَ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ حُسْبَاناً ذ?لِكَ تَقْدِيرُ ?لْعَزِيزِ ?لْعَلِيمِ [الأنعام:95، 96].
أيها الناس، لربما رفع أحد منا عقيرته فقال: إن مثل هذا الحديث، داخل في توحيد الربوبية الذي لم ينازع في إثباته حتى مشركو زمان النبي ، أفيخص بالحديث ؟ فالجواب: نعم، بيد أن الإشراك في توحيد الربوبية، قد داخل فئاما من الناس في القديم وفي الحديث، ففي الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني قال: صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس قال: ((أتدرون ماذا قال ربكم؟)) ، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلكم مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) [4].
فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ، أليس هذا حديثا عن توحيد الربوبية؟ بلى وربي، ومع ذلك حذر النبي من الوقوع في الشرك فيه، بل لقد وقع ثلة من الناس في براثن هذا الشرك في عصرنا الحاضر قصدوا أو لم يقصدوا، فأخذوا يلجؤون إلى المشعوذين والدجاجلة الأفاكين، بقايا مسيلمة الكذاب وابن صياد من مدعي علم الغيب بالكهانة والتنجيم وقراءة الأكف والفناجين والذين يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين، ومسترقي السمع من السماء، فيقرقرونها في آذانهم كقرقرة الدجاج، فيخلطون مع ما يصدقون فيه مائة كذبة، ومما يزيد القرح، ويشعل المد أن لهم رواجا في أوساط الناس، في بقاع شتى من هذه البسيطة، وفي جانب عظيم من جوانب توحيد الربوبية، ألا وهو علم الغيب، الذي استأثر الله بعلمه فلا يطلع عليه نبي مرسل ولا ملك مقرب، إلا بما يوحي إليهم ربهم.
بل لقد امتد القصور في توحيد الربوبية على غرار ما جاء في حديث زيد بن خالد الآنف الذكر، إلى ما يطلعه العالم في حياته اليومية، عبر الأثير المسموع والمرئي، في تفسير الظواهر المتكررة من زلازل وفيضانات ومنخفضات جوية ومرتفعات ورياح وبراكين، تفسيرا ماديا بحتا مبتوت الصلة بالله ومشيئته، مستقى من فلسفات يونانية وأخرى إغريقية قررها ملاحدة، ولاقت رجع الصدى من قبل بعض المسلمين المعجبين بما عند الغرب.
بل لقد جاوز الأمر قنطرته بمطالعات الصحافات المتكررة في أقطار شتى عما يسمى: مستقبل الأبراج، وما لها من آثار مكملة في شرخ توحيد الربوبية وربط المسلم بالأسباب المادية الجافة، أو التعبير من قبل بعض ضعاف النفوس، في الاهتياج بما يفرحه بقوله: "من حسن الطالع أن كاد الأمر كذا" وبما يسوئه بقوله: "من سوء الطالع كذا... ".
فأصبحوا يتناوشون الطوالع والأبراج، يبحثون عن سعادتهم في برج الميزان، وينأون بأنفسهم عن أن يكونوا من أهل برج العقرب، وهكذا تحيا الخرافة، ويتجدد مذهب مسيلمة وابن صياد، فالله المستعان، ولقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ أن علي بن أبي طالب عندما أراد المسير لقتال الخوارج عرض له منجم فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسافر، فإن القمر في العقرب، وإنك إذا سافرت والقمر في العقرب هزم أصحابك، فقال : ((بل نسافر ثقة بالله وتوكلا على الله وتكذيبا لك)) ، فسافر فبورك له في ذلك حتى قتل عامة الخوارج.
ومثل ذلك، ما فعله المنجمون الأفاكون مع الخليفة المعتصم، حينما أراد فتح عمورية، استجابة لصرخة امرأة مسلمة، فنهوه أن يغزوهم قبل أن ينضج التين والعنب، فرد قولهم وسافر، فأكذب الله المنجمين وأعز المسلمين وسار بتسعين ألفا كآساد الشرى، نضجت أعمارهم قبل أن ينضج التين والعنب.
ولذا فقد كان المسلم مأمورا بالفأل ونبذ التطير، في سائر شؤونه ومنها السفر.
ولقد ذكرت الطيرة عند رسول الله فقال: ((أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)) [رواه أبو داود] [5].
ولأحمد من حديث ابن عمروا قال :قال رسول الله : ((من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)) [6].
فانظروا ـ عباد الله ـ كيف وقع بعض الناس أسارى في هذا الشرك فوطئتهم هوته بكلكلها، وتمعكت عليهم بكواهلها، فأصبحت نفوسهم بذلك ساجية مقهورة وفي حكمة الذل منقادة أسيرة، حتى صيروا أنفسهم في حوزة خشناء، يغلظ كلامها، ويخشن مسُّها، ويكثر العثار فيها، فلا جرم أن المتخلص منها بعد الإدمان فيها كراكب الصعبة من الإبل إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم، فيمنى لعمر الله بخلط وخبط، حتى لا يرى في عينه إلا القذى [7] وليس في حلقه إلا الشجا [8] ، إلا بعون من الله ورضوان، فمن وفق للتوحيد رزق التسديد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قد قلت ما قلت إن صوابا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
[1] صحيح البخاري ح (1804)، صحيح مسلم ح (1927).
[2] صحيح البخاري ح (7121).
[3] الجُلَّى : الأمر العظيم ، جُلَل. (القاموس ، مادة جَلَل).
[4] أخرجه البخاري ح (845)، ومسلم ح (71).
[5] سنن أبي داود ح (3919). قال المنذري في مختصر سنن أبي داود (5/379): عروة ـ هذا ـ قيل فيه: القرشي، كما تقدم، وقيل فيه: الجهني، حكاهما البخاري، وقال أبو القاسم الدمشقي: ولا صحبة له تصح. وذكر البخاري وغيره أنه سمع من ابن عباس، فعلى هذا يكون الحديث مرسلاً. انتهى كلام المنذري.
[6] صحيح، مسند أحمد (2/220).
[7] القذى: ما يسقط في العين والشراب (مختار الصحاح ، مادة قذى).
[8] الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه (القاموس ، مادة شجو).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة من عصيانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن الإسلام قد عُنِيَ بالسفر عناية فائقة؛ فجعل له أحكاما تخصه من سنن وآداب وواجبات، ومحرمات ومكروهات ينبغي ألا يغفل عنها كل مسافر. كما يؤكد على إحياء السنن المندثرة عند السفر، من ذكر الوداع بقوله لمن يودعهم: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه [1] ، وكذا دعاء الركوب على الدابة [2] ، والتكبير على كل شرف والتسبيح إذا هبط واديا [3] ، وذكر إقبال الليل أثناء السفر بأن يقول: ((يا أرض ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، ومن شر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك، وأعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد)) [4].
وأن يقول إذا نزل منزلا: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) [5] ، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك.
وقد قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: هذا خبر صحيح علمنا صدقه دليلا وتجربة، منذ سمعته عملت به، فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغتني عقرب ليلة فتفكرت فإذا بي نسيته.
كما يستحب للمسافر ـ عباد الله ـ، إذا بدا له الفجر وهو في السفر أن يقول ما ثبت عن النبي أنه قال حينما بدا له الفجر: ((سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا، عائذا بالله من النار)) [رواه مسلم] [6].
وغير ذلك من السنن كثير وكثير يطول المقام بذكره، غير أنا نوجه بأن وصايا النبي بآداب السفر من ذكر وتكبير وتسبيح كأنه يعني بالتعريض أن القافلة المسافرة كلها في صلاة، وما هي إلا صور تجعل من تمجيد الله شغل قافلة السفر، ومن ذكره والثناء عليه، السمو الذي تطمئن به قلوب ذاكريه، ومن ثم يشعر المسافر، باختصار السفر وسهولته فينجو من وعثائه وكآبته.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (2/7)، وأبو داود ح (2600 ـ 2601)، والترمذي ح (3442) وقال: حديث غريب. وابن ماجه ح (2826).
[2] صحيح مسلم ح (1342 ـ 1343).
[3] صحيح البخاري ح (2994 ـ 2995).
[4] أخرجه أحمد (2/132) وأبو داود ح (2603). وفي إسناده: الزبير بن الوليد الراوي عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال الذهبي في ميزان الاعتدال (2/68): تفرّد عنه شريح بن عبيد. يعني أنه مجهول. والله أعلم. انظر صحيح ابن خزيمة (2572) بتعليق الألباني.
[5] أخرجه مسلم ح (2708).
[6] المصدر السابق ح (2718).
(1/487)
حقوق الإنسان الزائفة
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحكام الله كلها عدل وحكمة ونصفة. 2- تكريم الله للإنسان. 3- مبادئ حقوق الإنسان
الوافدة من الغرب. 4- الشعار الأجوف: الحرية - المساواة – الإخاء. 5- في أمتنا سماعون
لهم مرددون لباطهم. 6- مناقشة لمعنى الحرية. 7- مناقشة لمعنى المساواة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فمهما يكن من شيء بعدُ، فوصيتي لكم ونفسي بتقوى الله ـ سبحانه ـ؛ فهي عماد المؤمن في الدنيا، وأنيسه في قبره، وسلوانه في وحشته، ودليله في الأخرى يوم يلقى الله ـ سبحانه ـ إلى جنات النعيم.
عباد الله، إننا لنعلم بالضرورة أنه لا يجوز للناس أن يتخذوا غير الله ربا أو حكما، وأن من فعل ذلك أو هم به فهو جاحد للحق خائن للنعمة، وكذا من اتبع غير ما شرعه الله، أو حكم بغير ما أنزل الله، إنما هو مهمل للتشريع الإلهي، ومعتنق للقوانين البشرية، في عبث شائن وجاهلية منكرة أَفَغَيْرَ ?للَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ?لَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ?لْكِتَـ?بَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114].
إنها لم تترك أحكام الله إلا ببواعث الهوى، غير أنه منظم ومزوّق [1] ، كأنه منطق العقل الشديد، وهدي المصلحة الزائفة، التي لا تتصل بحنايا القلوب ?لْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُمْتَرِينَ [يونس:94]. إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ [يوسف:40]. وَلَهُ ?لْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70].
إن الشريعة الإسلامية ضمان للصالح العام، وهي مبنية على الرحمة والعدل، والخير الذي يأمر الله عباده به ـ وما يأمر إلا بخير ـ تعود غايته لإسعاد الناس في عاجلهم وآجلهم، والشر الذي نهاهم عنه ـ وما ينهى إلا عن شر ـ ليس إلا وقاية لهم، من أذى قريب أو بعيد، أو من سوء مغبة جلية أو خفية؛ ولذا سما الإسلام بالإنسان روحا وجسدا، وعقلا وقلبا، لم يضع في عنقه غلا، ولا في رجله قيدا، ولم يحرم عليه طيبا، كما أنه لم يدعه كالكرة تتخطفها مضارب اللاعبين، فتتهادى في كل اتجاه، بل خاطبه ربه خطابا صريحا ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ?لْكَرِيمِ ?لَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]. ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَـ?قِيهِ [الانشقاق:6].
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "اعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ اختص نوع الإنسان من بين خلقه، بأن كرمه وفضله وشرفه، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات|".
ومن ثم ـ عباد الله ـ، فإن الناس في هذه القضية طرفان، فالماديون التحرريون قالوا: إن الإنسان يعيش لنفسه ومتاع الدنيا، فإذا كان الأحمق منهم يعيش ليأكل، فإن العاقل منهم يأكل ليعيش.
وأما المؤمنون الموحدون فقالوا: إنما يعيش الإنسان لربه الأعلى، ولحياته الباقية الأخرى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
بيد أن أهل الكفر ـ عباد الله ـ قد بذلوا غاية وسعهم في الدعوة إلى قضية كبيرة، وراءها ما وراءها من الخطورة على الفكر، والدعوة في المسلك، ألا وهي ما أسموها: "مبادئ حقوق الإنسان"، وجعل الحريات حسب مفهومهم العلماني، الرافض للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها سببا يبيحون به تدمير الأخلاق، ويشيعون به فوضى الغرائز في ديارهم، والبلاد التي تشبهها أو تقتدي بها، حتى تلتبس بلباس العلمانية، المخيط من جراء التحرر وتنحيته عن واقع من بابته ؛ حيث إن حلوها مر، وسهلها صعب، ودماثتها دميمة من الدين.
ولقد صدقوا ظنهم، فاتبعهم أغرار ولهازم، من مفكرين وكُتَّاب، في العلوم بأنه مخالف الحياة.
وهم يزعمون أنها مبادئ الحضارة والتقدم والرقي، من خالفها وكابر فيها رموه بمبادئ حقوق الإنسان، وليست من الحق في ورد ولا صدر، ولا هي من السياسية والاقتصادية والقانونية، وعلم الاجتماع، وأخذوا في الدعوة إلى حقوق الإنسان على ما يريده الغرب، ومن عامة الناس أشياع لهذه الدعوات ولِدَاتٌ، ويتنكرون لأصول دينهم، إبان سنة من ذوي الإصلاح والتوجيه، ويظنون في مبادئ حقوق الإنسان، النضج والخروج من المأزق، وأن ما يأتي من ديار الإسلام قديم بال، حتى وقعت مواقع بين الطرفين، وكان سلاحها من أولئك قذائف الزندقة والكفر، ومن أولاء دروع الاستكانة والتخاذل عن القيام بالواجب.
هذه المبادئ التي أرادوها بشعار الحرية والمساواة والإخاء، ويالله! إلى أي مدى بلغت هذه المبادئ من تضليل الشعوب، بيد أن الجميع غير قادرين على أن يصلوا إلى نقطة ارتكاز ينبثق منها هذا المبدأ المزعوم، فماذا تعني عندهم كلمة الحرية والمساواة والإخاء، أهي في الفكر؟ أم الاقتصاد؟ أم الصحافة؟ أم الاجتماع؟!.
وإذا سلمنا جدلا أنها تعني هذه المعايير كلها، فمن الذي يحدد نسب هذه الحريات وحدودها؟ أهو السلطان؟ أم الشعوب؟ أم الشعار نفسه؟!.
الواقع المشاهد ـ عباد الله ـ، أن منشئ معاني هذه المبادئ لم يصلوا إلى تحديد الوجهة، ولا زالوا يعانون من مشكلات هذه الأطروحة، والحق أن من كان خصب الحدس واسعه، علم أن هذا كله كان ألفاظا ورسوما لمقررات اليهود وحكمائهم، التي أخذ العميان يرددونها في كل مكان دون تَرَوٍّ، بل إنها جلبت لنا أعوانا من جميع أنحاء الدنيا، والحق ـ عباد الله ـ أنه مخطئ من ظن يومًا أن للثعلب دينا.
أيها المسلمون، إن الكثيرين يسمعون ويشاهدون في صحف العالم تارة، وفي المنتديات المقنعة تارات، لغطا جهولا، مصحوبا بقلم متعثر، وفكر في كل واد منه شعبة، حول قسوة القيود، التي جاء بها الشارع الحكيم، ورميها بأحد العبارات المسفهة، ودهماء الناس مشغولون بالجدل والحوار حول ما يثيرونه، ويتوهمون أنها مشكلات حقيقية، لابد لها من حلول، فيقدمون في التشريع، ويهوشون في الحدود، ويفتحون ملف المرأة على أنها مهضومة الحق، أسيرة الكبت، ولا قدم لها في المنتدبات أو الدوائر المكشوفة، وأنها متى رغبت في أخذ حقها المزعوم، أو التعبير عن رأيها الفاضح، فليس لها إلا أن تتسلل لواذاً على تخوف لا يزيله إلا تقادم الأيام ومر الليالي.
ونظن أن خطورة مثل هذه القضية قد تبدت خطوطها، ولا يظن بالطبع أن ما بقي من ألوانها ورسومها بمعجزنا أن نتخيله، فمواقعوها صنف من الناس يتمددون بالحرية، وينكمشون بالإسلام ـ وكفاكم من شر سماعه ـ وتلكم ـ شماله نعيذكم بالله ـ من غائلتها، يشوشون حق المرأة، ويطلبون إنصافها، فطلبوا بذلك زكاما، في حين أنهم ما أحدثوا إلا جذاما، وحللوا بزعم منهم عقدا، وبالذي وضعوه زادت العقد.
ولا غرو أن يحصل هذا ـ عباد الله ـ، إذا نطقت الرويبضة، ولا جرم أن لا يصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا، ومن يثني الأصاغر عن مرادهم إذا جلس أكابرهم في الزوايا؟!.
إني أسائلكم ـ عباد الله ـ ما هذه الحرية التي يطبلون لها ويزمرون، ويجعلون الاعتداء عليها أو التطرق لنقدها كفرا بها وبالديمقراطية، ما هذا كله ؟ أهي حرية المرأة في أن تخلع جلباب حيائها، وتكشف من جسدها ما تريد ؟ أو هي حرية الفسوق والعصيان اللذين كرّههما الله إلى السلف الصالح وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ?لْكُفْرَ وَ?لْفُسُوقَ وَ?لْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لرشِدُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَنِعْمَةً وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7، 8].
إنهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما انهم يهرفون بما لا يفقهون، وإما انهم يتسترون بالألقاب والمسميات الخلابة، من حرية وإخاء، وفكاك من إصر وأغلال، والله أعلم بما يوعدون، والمثل السائد: "تحت الرغوة اللبن الصريح"، وإلا فأي أمة تصنع هذا الصنيع، وهي تريد أن تكون ممن يرد حوض نبينا ؟ أتريد أن تكون بدعا من الأمم، تأخذ من كل أمة شر ما عندها، وتدعو إلى أن تبدأ حياتها الاستقلالية بهذه الأخلاط من الشرور، المركبة تركيبا مزجيا يمنعها من الصرف والعدل، إنه والله طريق الموت الحاضر لا طريق الحياة.
قال رسول الله : ((كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى)) قالوا: من يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [رواه البخاري] [2].
ولكن من مبلغ عنا الرعاع من بني قومنا، أن دعاة حقوق الإنسان وأبواقهم قد رأوا الناس يدخلون في دين الله أفواجا، وخافوا بذلك أن تفوتهم حظوظ من الدنيا، بانقطاع لذائذهم، وانتشال علائقهم، فتقدموا حاقدين، ضامرين الغدر ناسين أن الله سميع بصير، وأنه خير حافظا وهو أرحم الراحمين ، كما أنه كتب على نفسه أنه سيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى لا يدع بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، ولمثل هذا فليبك الباكي.
قال رسول الله : ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي، ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) [رواه مسلم] [3].
ومن هنا برزت لنا حقوق الإنسان على ما أراده الشارع الحكيم، في مثل خطاب النبي في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) [4] ، وقد ترجم البخاري في صحيحيه بابا يقول: ظهر المؤمن حمى إلا من حدٍّ أو حق [5] ، وتفسير هذه القاعدة يتمثل في أن حقوقه محمية إلا إذا ارتكب ما يوجب العقوبة عليه، كما أنها تعني كذلك: وجوب تطبيق الحدود، والغيرة على حرمات الله، لقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (والله ما انتقم رسول الله لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله) [رواه البخاري] [6].
ومن معاني القاعدة أيضا: المساواة أمام العقوبات بين الشريف والوضيع ؛ لأن الغاية هي المحافظة على حقوق الجميع، عملا بقوله : ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركونه على الشريف، والذي نفسي بيده لوأن فاطمة فعلت ذلك لقطعت يدها)) [رواه البخاري] [7].
كما أن من معاني تلكم القاعدة العظمى: المحافظة على حقوق أهل الذمة، وهم الكفار الذين يدخلون في ذمة المسلمين، فإن دخلوا تحت أحكامهم حفظوا لهم حقوقهم ما داموا في ذمة الله ورسوله ، وأقاموا عليهم الحدود، فيما يعتقدون تحريمه؛ كالزنا ونحوه، فعن البراء بن عازب قال: مرّ على يهودي محمما مجلودا، فدعاهم النبي فقال: ((هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم)) قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: ((أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟)) قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فقلنا: إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلناه التحميم والجلد مكان الرجم، وقال رسول الله : ((اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه)) ، فأمر به فرجم، فأنزل الله : ي?أَيُّهَا ?لرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ?لَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ?لْكُفْرِ مِنَ ?لَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْو?هِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ?لَّذِينَ هِادُواْ سَمَّـ?عُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـ?عُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَو?ضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـ?ذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَ?حْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ?للَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ?للَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ?للَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى ?لدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41]. [رواه مسلم] [8].
[1] مُزيّن.
[2] صحيح البخاري ح (6851).
[3] صحيح مسلم ح (153).
[4] أخرجه البخاري ح (67)، ومسلم ح (1679).
[5] كتاب الحدود ـ الباب رقم (9) [فتح الباري 12/85].
[6] صحيح البخاري ح (3560). وأخرجه أيضًا مسلم ح (2327).
[7] صحيح البخاري ح (6788)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1688).
[8] صحيح مسلم ح (1700).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد البشر الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله السادة الغرر.
أما بعد:
فإننا ـ عباد الله ـ من هذا المقام، لنذكر المصلحين من أمتنا، بوجوب الدفاع عن الشريعة الإسلامية، من منطلق عقدي صحيح، وبيان مقاصد الشريعة في حدودها، وما تنطوي عليه من حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، كل حسب طاقته وسعته، مع كشف الجوانب المظلمة، التي تضمنتها مبادئ حقوق الإنسان، والرد على من أسموا أنفسهم بالمفكرين أو المتنورين، الذين انخدعوا بتلك الشعارات، وخدعوا الأمة الإسلامية بها، وما طرحنا لهذه القضية، إلا كنفثة مصدور، ولابد للمصدور أن ينفث.
والمشاهد ـ عباد الله ـ أن الكأس تفيض عند امتلائها، كما أنه ينبغي التنبه إلى أمر مهم، قد يخفى على البعض منا، وهو أن من مستلزمات الأخذ بمبادئ حقوق الإنسان هو الجلوس على موائد أهل الكفر المستديرة في ندواتهم ومقرراتهم، التي مفادها هدم ركن ركين، وأصل للمؤمنين، والبراء من الكافرين، الذي هو من لوازم كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وذلك اللازم المؤكد في مثل قوله ـ تعالى ـ: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [آل عمران:28]. وفي مثل قول المصطفى لجرير بن عبد الله البجلي لما بايعه على الإسلام حين قال له: ((أن تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر)) [رواه أحمد] [1].
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، العالم المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر: "فأما صفة الكفر بالطاغوت: فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها وتبغضها، وتكفر أهلها، وتعاديهم".
وذكر ـ رحمه الله ـ من نواقض الإسلام: "من لم يكفر المشركين، أو يشك في كفرهم، أو يصحح مذهبهم كفر". قال ـ رحمه الله ـ: "ومظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين كفر، والدليل قوله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51]".
[1] مسند أحمد (4/358) وأصله عند البخاري ح (57)، ومسلم ح (56).
(1/488)
من يرد الحوض
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نفس جهنم في الصيف والشتاء. 2- ظمأ يوم القيامة. 3- حوض النبي. 4- الذين يذادون
عن حوض النبي. 5- سقوط الإعلام وغرابة ما يتصدر عنه. 6- أصناف ثلاثة عارضت
الشرع بعقولها القاصرة ، وهذه لأصناف لا ترد الحوض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الوصية المبذولة لي ولكم عباد الله، هي تقوى الله ـ سبحانه ـ، في السر والعلن، في الرغبة والرهبة، في الغضب والرضا، إنما يتقبل الله من المتقين، الذين تدفعهم تقواهم إلى تقديم مرضاة ربهم على رضاء خلقه وعبيده.
أيها الناس، لقد منّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ على عباده بفصول أربعة، يتقلب فيها الزمن، على حر صيف، ويبس خريف، وبرد شتاء، وحسن ربيع، وجعل لكل فصل من هذه الفصول حكمة، يرعوي إليها من به ادكّار فهل من مدكر؟!
في الصحيحين أن النبي قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم)) [1].
ولقد جعل الله ـ سبحانه ـ أشياء كثيرة تذكر بالنار ولهيبها، كالأزمنة المفرطة في الحر أو البرد، فبردها يقرقف [2] ، ويذكر بزمهرير جهنم، وحرها يأخذ بالأنفاس ويذكر بحر جهنم وسمومها، قال الحسن البصري: "كل برد أهلك شيئا فهو من نفس جهنم، وكل حر أهلك شيئا فهو من نفس جهنم"، وقال قتادة في معرض هذا: هل لكم بذلك يدان أم لكم عليه صبر ؟ طاعة الله ورسوله أهون عليكم يا قوم، فأطيعوا الله ورسوله.
أنسيت لظى عند ارتكابك للهوى وأنت توقى حر شمس الهواجر
أيها المسلمون، إن الله ـ جل وعلا ـ سيحشر الأموات جميعا، من قبورهم بعد البعث إلى الموقف حفاة عراة غرلا، كما بدأ أول خلق يعيده وَحَشَرْنَـ?هُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:47]. يجمع الناس في عرصات القيامة، أولهم وآخرهم على صعيد واحد، فيموج بعضهم في بعض، وتدنو الشمس منهم حتى تكون كمقدار ميل، فيبلغ الناس من الكرب والغم ما لا يطيقون ولا يحتملون، فمنهم من يبلغ به العرق إلى كعبيه، ومنهم من إلى ركبتيه، ومنهم من إلى حَقْوَيْه [3] ، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، فيكون الناس أحوج ما يكونون إلى ما يروون به غليلهم، ويشفون عليلهم، أحوج ما يكونون إلى ما يقطعون به ظمأ الهاجرة، وغصة الحشر المهول، إنهم ـ يا رعاكم الله ـ يطمعون في ورود حوض نبيهم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْنَـ?كَ ?لْكَوْثَرَ فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ?لأَبْتَرُ [سورة الكوثر]. قال رسول الله : ((هل تدرون ما الكوثر؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هو نهر أعطانيه ربي ـ عز وجل ـ في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة..)) الحديث.. [رواه أحمد] [4].
إننا بحاجة ماسة ـ عباد الله ـ إلى أن نلبث مليا حول هذه النعمة المسداة المنصوبة في عرصات القيامة، لنأخذ منها دروسا وعبرا، علها أن توقظ غافلنا، وأن تبصر جاهلنا، بأنه لا عيش إلا عيش أهل الآخرة، إنا لنعمى مرات والعيون ناظرة، فالله مولانا ونعم المولى، وقل لمن يعصيه أولى أولى، ما هو إلا عفوه وحلمه، سبحان من لا حكم إلا حكمه.
جاء عند مسلم في صحيحه :أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة [5]. الحوض ـ عباد الله ـ قبل الصراط، عند وجود الناس في المحشر، يرده المؤمنون ويذاد عنه الكافرون، طوله شهر، وعرضه شهر، كما بين المدينة وصنعاء، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه [6] كنجوم السماء في عددها ونورها ولمعانها، وهو أبرد من الثلج، وأحلى من العسل، من شرب منه لا يظمأ بعدها أبدا، يصب فيه نهر الكوثر الذي حافتاه قباب الدر المجوّف، وطينه مسك أذفر، وهو موجود الآن لقوله : ((وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن)) [رواه البخاري] [7].
كل هذه الصفات ـ عباد الله ـ صح بها الخبر عن الصادق المصدوق في الصحيحين وغيرهما مما يوجب الإيمان به والطمع في وروده، بيد أن ثمة قضية تحتاج إلى إمعان النظر فيها، والصدق مع الله في طرحها، والأخذ بأسباب التوقي من أن يكون مسلم ما في عداد الملتاثين فيها، ألا وهي ما يقع يوم القيامة من المفاجآت في أناس يطمعون أن يكونوا ممن يرد حوض نبيهم، فإذا هم يذادون عنه ويحرمون النهل منه، بل إنهم بذلك يفقدون مفتاح الجنة، وهو الشرب من هذا الحوض، قال رسول الله : ((إني فَرَط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، لكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها)) [رواه البخاري] [8].
والنكتة اللطيفة ـ عباد الله ـ أنه ذكر الحوض قبل التحذير الذي بعده، ليشير إلى التخويف من فعل ما يقتضي الإبعاد عن الحوض.
وجاء عن البخاري في صحيحه أن رسول الله قال: ((إني على الحوض، حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس دوني، فأقول: يا رب، مني ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم)) وكان ابن أبي مليكة راوي الحديث يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن في ديننا [9].
وجاء عند مسلم في صحيحه أنه قال: ((إني لأذود عن حوضي رجالا كما تذاد الغريبة عن الإبل)) [10] ، والمعنى ـ عباد الله ـ أنه يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض.
أيها المسلمون، إن الأمة الإسلامية لهي في أشد الحاجة إلى أن ترد حوض نبيها، وإن هذه الأجيال المتأخرة ليخشى عليها من ظلمات لا يجد فيها الحاذق بصيص نور يهتدي به إلى سواء الصراط، أو يخلص به من ضلاله، وإن الإحداث والتغيير الذي دب في صفوف المسلمين، لهو خير شاهد على هذه القضية، ونحن اليوم ـ معاشر المسلمين ـ نعيش معركة حامية مع الازدواجية في كثير من أجوائنا الحياتية ـ إلا من رحم الله ـ يجمع بين الحق والباطل، والصحيح والضعيف، والزين والشين.
ولعل الازدواجية الصحافية في مثل هذه الأيام هي مقبض الرحى في كثير من الأقطار الإسلامية والعربية، والتي اندلعت نارها وطار في كثير من أرض الإسلام شرارها، لقد أهمل كثير من الأقلام، فلم تسخّر للإسلام، بل ما فتئ بعضها يلهو ويلعب ويسخر، وكأنه مدافع الأعياد، تتفجر بالبارود الكاذب، وسط مجتمعات مقرومة مجعومة، يتيه فيها اللبيب، وإن تعجبوا ـ عباد الله ـ فعجب أن يكون الاسم مسلما، وما يخطه البنان غريبا كل الصحفي الغرابة عنه! أين تلك الأقلام؛ لتدل الناس على ما يحفظ لهم دينهم ويحصي كيانهم، وتحذرهم من شرور الكفرة الحاقدين، وتقيم لهم الميزان العادل، فيرجعون عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يذرون.
واخجلتاه!! من أقلام محسوبة على المسلمين يموت فيهم العالم، وتبلى الأمة ببلايا ورزايا ثم لا تكتب فيها حرفا، بل هذا زاهد في حق هذا، وهذا فيه أزهد منه فيه. لقد شغلها عنها شواغل الصبيان في الأوحال، ومباهج أحلام شبابهم، وملذات الغرام التي يسمونها حتى في حال الوفاة ((أسطورية)) أيا كان هذا المتوفى رجلا أو امرأة، كافرا أو ملحدا، بغيا أو خبيث الطبع.
إن مثل هذه المشاعر الصحفية في تضخيم وفاة شخص ما، نفسها أو أحر منها، موجودة عند رواد الصحافة، وعشاق الورق في بلاد الإسلام وللأسف، وهي مشاعر يأباها الدين جملة وتفصيلا، ما دامت توهن إيمان المرء بالله وترده إلى غيره من الأحياء أو الأموات، ويالله! كم يحزننا أن يكون قلب امرئ ما فارغا من الله، مملوءا بغيره ـ بقوا أو هلكوا ـ؟
إن الانسياق مع مثل هذا جرم، وإحسان الحديث عنه زور، وإذا حكم ذوقهم على المرء بأنه حلو أو بالعكس فهو مدلس مخوف، هو وأمثاله كشجرة ((الدلفى)) تُعْجِبُ من رآها وتقتل من أكلها، وما محبوهم إلا أنوف أزكمها الغبار فاستوت عندها الروائح، أو جسوم تندت ولم ينزع مبلولها فما هي إلا الحمى ما منها بد.
عن جابر أن عمر بن الخطاب أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب وقال: ((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني )) [رواه أحمد وابن أبي شيبة] [11].
فالعجب ـ عباد الله ـ ممن يعلم خطورة الركون إلى غير الإسلام، أو ميل القلب أو العاطفة، مع أحياء غير المسلمين أو أمواتهم ـ مهما كانت الظروف التي تحيط بهم، ودوافع الرغبة أو الرهبة، التي تنبعث من قبلهم ـ؛ فإن ذلك كله لا يسوغ تحبير الأقلام فيهم، ولا خلع الجلباب الساتر، والانتماء الزائف، مهما نعق الناعقون، بأن لهذه الشخصية أعمالا خيرة، بل وإن بلغ التجرؤ ببعضهم من وصف مثل هذه الشخصية بأنها طبقت الإسلام وإن لم تكن مسلمة، في صحافة المسلمين المتنوعة.
وما علم مَنْ جَهْلُهُ مُرَكَّب أن عملا ما بلا إسلام مهما كان خيرا، فلن ينفع صاحبه في أخراه، يقول الله ـ جل وعلا ـ في حق الكافرين: وَقَدِمْنَا إِلَى? مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً [الفرقان:23]، مَّثَلُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ?شْتَدَّتْ بِهِ ?لرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى? شَىْء ذ?لِكَ هُوَ ?لضَّلاَلُ ?لْبَعِيدُ [إبراهيم:18]. وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـ?لُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ?لظَّمْانُ مَاء حَتَّى? إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ?للَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـ?هُ حِسَابَهُ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [النور:39].
قدم أبو سفيان المدينة قبل أن يسلم، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت رجل مشرك نجس [12].
هكذا فعلت أم المؤمنين في أبيها بكلمة حق، خرقت بها مثلا عربيا: كل فتاة بأبيها معجبة. ما دام أن الإيمان لم يخامر قلبه، وكلمة التوحيد لم ينطق بها لسانه.
ألا فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن رسالة المصطفى كفراشه، فمن أجلس عليه من ليس من دينه فلن يرد حوض النبي لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لإيمَـ?نَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا رَضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ ?للَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22].
اللهم ارزقنا شفاعة نبيك ، وأوردنا حوضه، واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا يا رحمن.
[1] صحيح البخاري ح (537)، صحيح مسلم ح (617).
[2] قرقف: أرعد (القاموس ، مادة قرقف).
[3] حَقويه: تثنية (حَقْو) بمعنى الكشح (القاموس ، مادة حقو).
[4] صحيح، مسند أحمد (3/102)، وأخرجه مسلم ح (400).
[5] صحيح مسلم ح (2300).
[6] كيزان: جمع كوز (القاموس ، مادة كوز).
[7] صحيح البخاري ح (6590).
[8] المرجع السابق، الحديث نفسه.
[9] صحيح البخاري ح (6593).
[10] صحيح مسلم ح (2302)، وأخرجه أيضًا البخاري ح (2367).
[11] حسن، مسند أحمد (3/338)، مصنف ابن أبي شيبة (6/ 228).
[12] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/79) بسنده إلى الزهري. وفي إسناده محمد بن عمر الواقدي شيخ محمد بن سعد. قال ابن حجر في الواقدي: متروك مع سعة علمه. التقريب (6215).
وفيه انقطاع أيضًا فالزهري لم يدرك أبا سفيان ولا أم حبيبة رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين، ثم اعلموا أن بعض أهل البدع أنكر حوض النبي ممن عرفوا بالمكابرة بعقولهم أمام نصوص الشارع الحكيم، فجعلوا آراءهم مقدمة عليها، فما وافق العقل منها قبلوه، وما لا فلا، وهذه بلية كبرى اتسع نطاقها في بقاع شتى من أراضي المسلمين، يعرفون باسم أهل الفكر المستنير، أو العقلانيين الذين يخضعون نصوص الشريعة لعقولهم لا العكس، وقد أشار ابن القيم ـ رحمه الله ـ إلى جملة ممن خالفوا الوحي بآرائهم وعقولهم، فكان من أهمهم ثلاثة أصناف:
صنف عارضوا الوحي والأخبار بعقولهم، فقالوا لأهل الشريعة: لنا العقل ولكم الشرع، فجعلوا أهل الأرض اثنين، ذا عقل بلا دين، وآخر دَيِّناً لا عقل له، وعلى هذا ثلة ممن اغترفوا من حضارة الغرب وفلسفاتها، ورضعوا من أثدائها حتى أنشزت عظامهم وأنبتت لحومهم.
والصنف الثاني: قالوا: لكم الشريعة، ولنا الحقيقة والأذواق، وهؤلاء هم أهل التصوف الذين لا يعتمدون على الوحي الصحيح.
وصنف ثالث: خالفوا الوحي بسياساتهم، فقالوا لأصحاب الشريعة: لكم الشريعة ولنا السياسة، والتي يعبر عنها آخرون بفصل الدين عن الدولة، أو دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أو بعبارة أخرى: الدين لله والوطن للجميع.
فهذه الأصناف ـ عباد الله ـ كلها، ممن لن يرد حوض نبينا ، ليس له إلا الحميم الغساق، وآخر من شكله أزواج، إلا أن يتداركهم الله برحمة منه وفضل، ويكونوا من المؤمنين المصلحين، البعيدين كل البعد عن الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب ذي الرأي برأيه؛ استجابة لقول النبي : ((إنكم سترون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض)) [رواه البخاري] [1].
[1] صحيح البخاري ح (3147). وأخرجه أيضًا مسلم ح (1059).
(1/489)
لكل شِرّة فترة
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أوبة المسلمين في رمضان وغفلتهم بعده. 2- مجاهدة النفس وحسن تربيتها. 3- خير
الأعمال أدومها وإن قل. 4- التحذير من رذيلتي الإفراط والتفريط. 5- تقلب القلوب والثبات
إنما يكون من الله. 6- دعوة للثبات على الطاعة بعد رمضان. 7- تحذير من أكور بعد الكور.
8- حالة الفتور عن العمل الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها الزمام والقوام، فتمسكوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها، ثم اعلموا إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تتناضل فيه المنايا، مع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص، لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمّر معمر منكم يوما من عمره، إلا بهدم آخر من أجله، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر، وقد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله؟! ألا فلا يستوحشن أحد في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل، ومن سلك الطريق الواضح دون فتور أو ملل ورد الماء، ومن خالف وقع في التيه.
أيها الناس، إن شعور المسلم بالاستبشار والغبطة حينما يرى إقبال الناس على الله في رمضان، وما يقلّبه من بصره هنا وهناك تجاه أوجه البر والإحسان لدى الكثيرين من أهل الإسلام، ليأخذ العجب بلبه كل مأخذ، ولربما غلب السرور مآقي المترقب، فهتن دمع الفرح والإعجاب، لما يرى ويشاهد، إلا أن العيد وما يعقبه ليصدق ذلك الظن أو يكذبه، ومن ثم ينكص المعجب، وتشخص أحداقه، لما يرى من مظاهر التراجع والكسل والفتور، ومن ثم يوقن، أنه إنما مستسمنا ذا ورم.
وما يشاهده المرء في الأعياد في أقطار شتى، من الفرح غير المشروع، وتجاوز حدود الاعتدال فيه، على هيئة وصورة تنفيان كونهم من الخائفين على رد الأعمال الصالحة، أو من الشاكرين، لبلوغ هذا العيد الذي أكرمهم الله به، ومن ثم فإن الحال على ما ذكر كالتي نقضت عزلها من بعد قوة أنكاثا؛ لأن النفس البشرية لو كان عندها شغل بالخالق لما أحبت المزاحمة بما يسخطه إِنَّ ?لَّذِينَ ?رْتَدُّواْ عَلَى? أَدْبَـ?رِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْهُدَى ?لشَّيْطَـ?نُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى? لَهُمْ [محمد:25]. ولو أنهم أحبوا الطاعة، لما تخلوا عنها طرفة عين وقديما قيل: من عشق طريق اليمن، لم يلتفت إلى الشام.
ألا فاعلموا – يا رعاكم الله – أن من قارب الفتور والكسل، بعد عنه النصب والاجتهاد، ومن ادّعى الترويح أو التسلية وكل إلى نفسه، وإن من أحق الأشياء بالضبط والقهر والأطر على العبادة والاستقامة أطرا؛ هي نفسك التي بين جنبيك.
فإياك إياك ـ أيها المسلم ـ وأن تغتر بعزمك على ترك الهوى في رمضان، مقاربة الفتنة بعده، فإن الهوى مكايد، فكم من صنديد في غبار الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه، واذكر ـ حفظك الله ـ حمزة مع وحشي رضي الله عنهما.
من تعود الفتور والكسل، أو مال إلى الدعة والراحة، فقدْ فقدَ الراحة، وقد قيل في الحكمة: إن أردت ألا تتعب، فاتعب لئلا تتعب، ولا أدل على ذلك من وصية الباري جل وعلا لنبيه ومصطفاه فَإِذَا فَرَغْتَ فَ?نصَبْ [الشرح:7]، لأن من كسل لم يؤد حقا، ومن ضجر لم يصبر على الحق، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
وليس في سياط التأديب للنفس أجود من سوط عزم، وإلا ونت وأبت؛ لأن فساد الأمر في التردد، والنفس ـ عباد الله ـ من أعجب الأشياء مجاهدة؛ لأن أقواما أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما كرهوا، وآخرين بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها، وإنما الحازم من تعلمت منه نفسه الجدّ وحفظ الأصول، فإذا ما أفسح لها في مباح، لم تتجاسر أن تتعداه، لأن تفقد النفس حياة، وإغفالها لون من ألوان القتل صبرا.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
إن الحياة الدنيا لا تخلو من عقوبة، ومن عاش لم يخل من المصيبة، وقل ما ينفعك عن عجيبة، وإن من أعظم العقوبات ـ عباد الله ـ عدم إحساس المعاقب بها، بل وأدهى من ذلك وأمرّ السرور بما هو عقوبة كالفرح بالتقصير بعد التمام، أو التمكن من الذنوب بعد الإقلاع عنها، ومن هذه حاله لا يفوز بطاعة، ولو غشَّى نفسه بعبادات موسمية ذات خداج، لوجد خفيّ العقوبة الرئيس، وهو سلب حلاوة النجاة، أو لذة التعبد، إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، من عباد رب الشهور كلها، بواطنهم كظواهرهم، شوالهم كرمضانهم، الناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، فأخلق بمدمن القرع منهم للأبواب أن يلج؛ لأنهم تغلبوا على طباعهم ذات الجواذب الكثيرة، ولذا فليس العجب أن يغلب الطبع، وإنما العجب أن يُغلب.
لقد خلق الإنسان في كبد، والمرء كادح إلى ربه كدحا فملاقيه، وإن من أعظم ما يعين النفس المسلمة على دوام الطاعة ألا تحمل من الأمر ما لا تطيق، بل لابد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف، والطريق الشاق ينبغي أن يقطع بألطف ممكن، ولا شك أن الرواحل إذا تعبت نهض الحادي ينشدها، ولذا فإن أخذ الراحة للجد جد، وغوص البحار في طلب الدر صعود، ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس، فليداوم النظر في سيرة النبي ، وليستمع إلى قوله: ((إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)) رواه أحمد [1] ، وعند البخاري في صحيحه: أن النبي قال: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) [2].
كثيرون هم أولئك الذين يشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد والتكاليف، وهم كذلك يتساقطون إعياء خلف صفوف الجادين من عباد الله، يتخللونها، ضعافا مسترخين، يخذلون أنفسهم في ساعات الشدة بَلْ تُؤْثِرُونَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَ?لأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [الأعلى:16، 17].
نعم إن هناك ضعفاً في البشر، ولا يملك الناس أن يتخلصوا منه، وليس مطلوباً منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم، ولكن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين، وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافة وأسرة وإعلاما من الثوابت التي لا تتغير، ولا تخدع بها النفس في موسم ما دون غيره، كما أنها تمنعهم في الوقت نفسه بإذن الله من التساقط، وتحرسهم من الفترة بعد الشرّة مهما قلت، ما دامت على الدوام، فرسول الله يقول: ((يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل)) رواه البخاري ومسلم [3].
ولا جرم أن نشير هاهنا إلى أن التحرر من الغلو والتشدد لا يعني الترك والإهمال، بل يعني التوسط والاعتدال، مع محافظة المرء على ما اعتاده من عمل، أو التزام في السلوك العام، قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال لي رسول الله : ((يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) متفق عليه [4].
إن الانهماك المستمر في العبادة، والإغلاق على حقوق النفس والأهلين يعد إفراطاً مذموماً ليس من هدي سيد المرسلين، وأعبد الناس لرب العالمين، بله كونه سببا في التراجع والنكوص، كما أن الأمر في الوقت نفسه إن كان تقاصراً عن العبادة، أو انشغالاً عنها، أو تركاً للحبل على الغارب مجانبة للتصحيح، أو الارتقاء بالحال على ما يريده الله ورسوله يعد تفريطاً ممقوتاً، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، ويمثل ذلك تضييع المجتمعات المسلمة، بين إفراط وتفريط، ناشئين عن جهل وضلال، كما قال علي : (لا يُرى الجاهل إلا مُفَرطا أو مُفْرطا)، ولفظ الإفراط والتفريط ـ عباد الله ـ لم يأت في القرآن على سبيل المدح إلا في نفيه عن كل صالح أو مصلح يقول سبحانه عن الملائكة حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ [الأنعام:61]. وقال عن موسى وهارون: قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى? [طه:45]. ويقول سبحانه: أَن تَقُولَ نَفْسٌ ي?حَسْرَتَى? عَلَى? مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ?للَّهِ [الزمر:56]. وقال جل وعلا عن أهل النار: قَالُواْ ي?حَسْرَتَنَا عَلَى? مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]. وقال جل شأنه: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
والمراد هنا ـ عباد الله ـ: أن يتماسك المرء المسلم والمجتمعات المسلمة، فيكون لهم من صلابة عودهم الإسلامي وحسه ما يحول بينهم وبين الفتور والضعف، أو التراجع عن الدين أو التخاذل عنه، وإذا ما بدت هفوة أو غفلة، سارعوا بالتيقظ ومعاودة التمسك، والاستجابة لكل ناصح مشفق، وهذا هو التوسط المحمود الذي اختصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم.
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]. والطغيان هنا هو ما تجاوز الحد في الأخذ أو الترك.
أيها المسلمون، كثيرا ما يناجي المرء نفسه، ماذا وكم عملت، وقليلا ما يسائل نفسه، ويبلوها، كيف كان عملي وما مدى قربه أو بعده من الله؟ وما درجة المداومة عليه وعدم الفتور عنه، أو الإعياء بحمله؟ وما ذاك ـ عباد الله ـ إلا من جهل المرء بنفسه، وتقصيره في معرفة حقيقة العبادة التي يريد الله منه في قوله: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]. إن البقاء على الطاعة في كل حين، أو التهاون عنها كرات ومرات ليعودان في المرد بإذن الله إلى القلب، وهو أكثر الجوارح تقلبا في الأحوال، حتى قال فيه المصطفى : ((إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً على بطن)) رواه أحمد [5].
ولأجل ذا كان من دعائه : ((يا مقلب القلوب ؛ ثبت قلبي على دينك)) ، وسئل عن ذلك فقال: ((إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ)) رواه أحمد والترمذي [6].
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب
إن استدامة الطاعة والمداومة على الأعمال الصالحة لهي في الحقيقة من عوامل الثبات على دين الله وشرعه إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]. ألا وإن ترك المحرمات، والعمل بما يوعظ به المرء من قبل خالقه ومولاه، لأمر يحتاج إلى ترويض ومجاهدة من أجل الحصول على العاقبة الحميدة، وحسن المغبة وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ?قْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ ?خْرُجُواْ مِن دِيَـ?رِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاَتَيْنَـ?هُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَـ?هُمْ صِر?طاً مُّسْتَقِيماً [النساء:66-68].
والتثبيت ـ عباد الله ـ يكون في الحياة الدنيا على الخير والعمل الصالح، وفي الآخرة يكون تثبيتا في البرزخ وعند السؤال يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27]. اللهم إنا نسألك الثبات قبل الممات، والإرشاد إلى استدراك الهفوات من قبل الفوات، وإلهامنا أخذ العدة للوفاة والموافاة.
[1] مسند أحمد (3/199)، قد أخرجه دون قوله: ((... فإن المنبتّ...)). والحديث حسن دون هذه الزيادة. انظر السلسلة الضعيفة (1/21) وصحيح الجامع (2246) وضعيف الجامع (2020).
[2] صحيح البخاري ح (39).
[3] صحيح البخاري ح (1970). وأخرجه أيضًا مسلم ح (782).
[4] صحيح البخاري ح (1152)، صحيح مسلم: كتاب الصيام ح (185).
[5] صحيح، مسند أحمد (4/408).
[6] صحيح، مسند أحمد (6/302)، سنن الترمذي (3522) وقال: حديث حسن.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد من يشكر النعمة، ويخشى النقمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الفضل والمنة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله معلمنا الكتاب والحكمة، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أولي النجابة والفطنة.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ معاشر المسلمين ـ وتوبوا إلى ربكم تفلحوا، تمسكوا بسنة المصطفى وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
قال الحسن البصري رحمه الله: (السنة ـ والذي لا إله إلا هو ـ بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها ـ رحمكم الله ـ، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك ـ إن شاء الله ـ فكونوا).
فيا أهل التوبة، استيقظوا، ولا ترجعوا بعد رمضان إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام، فالرضاع إنما يصلح للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، لا للرجال، وعليكم بالصبر على مرارة الفطام، لتعتاضوا عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في قلوبكم، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه يَـ?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ ?لاْسْرَى? إِن يَعْلَمِ ?للَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنفال:70].
ذنب واحد بعد التوبة، أقبح من كذا ذنب قبلها، النكسة أصعب من المرض، وربما أهلكت، فسلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات، وتعوذوا بالله من تقلب القلوب، ومن الحور بعد الكور، فما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة! وأفحش فقر الطمع بعد غنى القناعة!
ذكر عند النبي قوم يجتهدون في العبادة اجتهادا شديدا، فقال: ((تلك ضرورة الإسلام وشرته، ولكل عمل شرة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد فنعما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي فأولئك هم الهالكون)) رواه أحمد والطبراني [1].
ومعنى الحديث ـ عباد الله ـ: أن لكل عمل قوةً وشدةً، يتبعها فتور وكسل، ولكن الناس يختلفون في هذا الفتور، فمنهم من يبقى على السنة والمحافظة عليها ولو كانت قليلة، ومنهم من يدعها ويتجاوزها إلى ما يغضب الله، وبنحو هذا يقول ابن القيم رحمه الله: تخلل الفترات للعباد أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم، رجي له أن يعود خيرا مما كان ثُمَّ أَوْرَثْنَا ?لْكِتَـ?بَ ?لَّذِينَ ?صْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَـ?لِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِ?لْخَيْر?تِ بِإِذُنِ ?للَّهِ ذَلِكَ هُوَ ?لْفَضْلُ ?لْكَبِيرُ [فاطر:32]. يقول المصطفى : ((إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه)) رواه الترمذي [2].
ولقد بكى ابن مسعود عند موته، فسئل عن ذلك، فقال: إنما أبكي، لأنه أصابني في حال فترة ولم يصبني في حال اجتهاد.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
[1] مسند أحمد (2/165)، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (2/259) للطبراني وأحمد، قال: ورجال أحمد ثقات. قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6539): إسناده صحيح.
[2] صحيح، سنن الترمذي ح (2142) وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضًا أحمد (3/106).
(1/490)
سر التوحيد وحقيقته (12)
الأسرة والمجتمع, التوحيد
الأبناء, الشرك ووسائله
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
2/9/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أثر الإيمان بـ لا إله إلا الله , وفهم مدلولاتها , وأحوال أهل الشرك – أسباب الشرك :
1- مصالح خبيثة , وأهواء نجسة للطواغيت 2- الجهالة العمياء من الأتباع – أحوال القبوريين
والمشركين الأُوَل – مسألتان مهمتان في تربية الأبناء : 1- حرص السلف على تدريب الأولاد
على العبادات 2- تعليم الأولاد الصدق وتجنيبهم الكذب , والتزام الأبوين هم بذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد كان من سنة رسول الله أن يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر الكريم فنبشر إخواننا المؤمنين بشهر رمضان المبارك أبشروا فيه باليمن والبركة.
نسأل الله تعالى أن يعيننا جميعًا على صيامه وقيامه وأن يجعلنا فيه من عتقاءه من النار. أما بعد فيا مؤمن يا موحد اعلم أن نعمة لا إله إلا الله نعمة كبرى من أعظم النعم التي أنعم الله بها علينا، فإن الإيمان بلا إله إلا الله مع فهم مدلولها ومقتضاها يخرج الإنسان من ظلمات الجهالة الجهلاء وظلمات الضلالة العمياء يخرجه من جهالة الشرك وضلالة الوثنية إلى نور التوحيد وضيائه.
ومن أراد أن يعلم عظم قدر هذه النعمة. نعمة التوحيد التي وفقه الله إليها فليتأمل حال أهل الشرك وليقرأ شيئًا من أخبار أهل الوثنية.
من أراد أن يعرف عظم قدر هذه النعمة، فليطلع على أحوال أهل الشرك وليسمع شيئًا من أخبار أهل الوثنية، أهل الشرك لا عقل لهم ولا تفكير قد تعطلت عقولهم، وإلا لما عدلوا عن اللطيف الخبير وذهبوا يلتمسون آلهة أخرى يعبدونها من دون الله ولو كان لهم عقل وتفكير لما سووا بين تلك الآلهة وبين رب العالمين حتى إذا كانوا يوم القيامة ووقفوا بين يدي الجبار عز وجل وتكشفت لهم الأمور والحقائق صاحوا نادمين لما شاهدوا آلهتهم وأصنامهم لا تغني عنهم من الله شيئًا صاحوا نادمين: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [الشعراء:97]. والشرك في الناس تهيأ له سببان خبيثان:
أولهما: مصالح خبيثة وأهواء نجسة لطواغيت الشرك ورؤوس الفتنة والضلالة ما شاهدوا آلهتهم وأصنامهم لا تغني عنهم من الله شيئًا.
وثانيهما: الجهالة العمياء الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء من الأتباع. فالشرك له سدنته من الطواغيت ورؤوس الفتنة يزينون للناس يزينون للجهال الكفر والبدعة والضلالة ويستدرجونهم إلى الشرك إلى حبائل الشرك وأسوأ أولئك الطواغيت أثرًا وأعظمهم ضررًا أولئك الذين لبسوا مسوح الدين وتظاهروا بالصلاح والولاية بين العالمين ثم عكفوا عند الأضرحة والقبور يزينونها بأنواع الزينات ويسرجونها بأصناف الشموع والسرج، ويبخرونها بأنواع البخور ويصنعون عندها من التهاويل والتصاوير والزخارف ما يخلعون به قلوب الجهال ويسيطرون على قلوبهم، فيستغلونهم ويسخرون لمآربهم وأهواءهم وشهواتهم ومصالحهم الشخصية.
والجهال من وقع في الشرك من الجهال قد تعطل عقله لا عقل عنده ولا تفكير. ولذلك يؤخذ بتلك المظاهر الزائفة والأشكال والقوالب البراقة.
فتفعل فعلها في نفسه ولولا أن الجاهل الذي وقع في الشرك لم يستعمل عقله ما أمكن لأولئك الشياطين شياطين الإنس والجن أن يستغلوهم ويسخروهم ويتلاعبوا بعقولهم بتلك الوسائل والمظاهر الزائفة. يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في كتاب "الدر النضيد مسائل التوحيد" جاء رجل من الجهال إلى القبة المصنوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذي بين، فلما جاء هذا الجاهل إلى تلك القبة إلى ذلك الضريح فرأى ما فيها ووقف عند باب القبر قال مناديًا لصاحب القبر: أُمسيت بالخير يا أرحم الراحمين. فالشرك جهالة جهلاء وضلالة عمياء فاحمد ربك يا مؤمن يا موحد إذ أنقذك الله من ربقة تلك الجهالة ومن حفرة تلك الضلالة، ماذا كان المشركون من العرب قبل الإسلام يعبدون، كانوا يعبدون الأحجار والأشجار، كانوا يعبدون الأصنام من الحجر أو من الخشب أو حتى من التمر فكان بعض العرب له صنم من تمر يعبده حتى إذا جاع وقرصه الجوع أكله، يقول أبو عثمان النهدي رضي الله عنه: كنت في الجاهلية أعبد حجرًا فإذا بنا في يوم نسمع مناديًا ينادي يا أهل الرحال هلك ربكم فالتمسوا ربا، أي ضاع صنمكم الذي تعبدونه فابحثوا عن صنم آخر.
قال: فخرجنا على كل صعب وذلول نلتمس ربًا فبينما نحن كذلك نطلبه إذ سمعنا مناديًا آخر ينادي: قد وجدنا ربكم أو شبه ربكم فرجعنا فإذا حجر فعبدناه وعكفنا عنده ونحرنا عليه الجزور.
وقال عمرو بن عبسة رضي الله عنه: كنا في الجاهلية نعبد الأحجار وكان الحي إذا نزل منزلاً وليس معهم إله يعبدونه أي ليس معهم صنم يذهب الرجل يخرج الرجل فيأتي بأربعة أحجار يجعل ثلاثة منها أثافى لقدره، يجعلها أثافى يضع عليها قدره الذي يطبخ فيه طعامه، والحجر الرابع يختاره أحسنها وأجودها يختاره إليه يعبده وربما وجد قبل أن يرتحل حجرًا آخر أحسن منه فيترك الأول ويعبد الثاني.
فالحمد لله على نعمة التوحيد. وكان عمرو بن الجموح سيدًا من سادات بني سلمة وبنو سلمة من قبائل هذه المدينة النبوية، كان عمرو بن الجموع قبل إسلامه كان في جاهليته قد اتخذ صنمًا من خشب يسمى مناة، وأسلم فتيان من بني سلمة منهم معاذ بن جبل، ومعاذ بن عمرو بن الجموع ابنه وآخرون.
فكانوا يدلجون من الليل على صنم عمرو وهو نائم فيأخذونه فيطرحونه في حفرة من حفر بني سلمة فيها أوساخهم وعذراتهم يطرحونه منكسًا على رأسه في تلك الحفرة فلما أصبح عمرو بن الجموع فلم يجد صنمه، قال: ويلكم من عدا على آلهتنا الليلة ثم خرج يلتمس صنمه حتى إذا وجده أخذه فغسله وطهره وطيبه ثم أعاده إلى مكانه وقال له: والله لو أعرف من يصنع بك هذا الأخزية لنكلت به ولما عاد إلى نومه في الليلة التالية عاد الفتيان فعدوا على صنمه فصنعوا به مثل ذلك فلما طال عليه هذا الحال استخرج صنمه من المكان الذي ألقوه فيه فغسله وطهره وطيبه ثم أعاده إلى مكانه وأتى بسيفه وعلقه عليه وقال له: والله لا أدري من يصنع بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع يعني احم نفسك فهذا السيف معك. ثم ذهب ونام فجاء الفتيان المؤمنون الموحدون فأخذوا صنمه وسيفه فقرنوه مع كلب ميت في حبل ثم ألقوهما في بئر من آبار بني سلمة فيها أوساخهم وعذراتهم فلما استيقظ عمرو بن الجموع فلم يجد صنمه ذهب يلتمسه حتى إذا وجد في تلك البئر منكسًا على رأسه في تلك الحال الخبيثة القبيحة تكشف له الحال، فأبصر حقيقته فأسلم رضي الله عنه وحسن إسلامه وقال مخاطبًا ذلك الصنم..
والله لو كنت إلهًا لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن
أي موثوقًا بحبل. فاحمد الله يا مؤمن يا موحد على نعمة التوحيد. احمده سبحانه على أن هداك للتوحيد، وأحمده سبحانه على أن جعلك من أهل لا إله إلا الله واحرص إيمانك احرص توحيدك من وساوس الشياطين ومن وساوس طواغيت الشرك، ورؤوس الفتنة والضلالة.
الحمد لله الذي هدانا لنعمة الإسلام. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد. ففي مجال تربية الأولاد. من المهم جدًا أن تعرف أيها الأب المسلم وأيتها الأم المسلمة أن تعرفوا مسألتين:
أولهما: أن سلفكم أصحاب رسول الله كانوا يدربون صغارهم يدربون أولادهم الصغار على العبادات منذ صغرهم حتى قبل أن يبلغوا سن التكليف وقد أشرنا فيما مضى إلى أمر النبي للآباء بأن يعلموا أولادهم الصلاة لسبع ويضربوهم عليها لعشر وكان من سنة أصحاب رسول الله أنهم يدربون أولادهم الصغار على الصيام إذا جاء رمضان ويلهونهم باللعب إذا قرصهم الجوع وذلك على قدر ما يطيق هؤلاء الصغار.
والمسألة الثانية: أن تعلموا أن هناك قاعدة إسلامية تربوية عظيمة هي أن تعلموا أولادكم الصدق منذ الصغر وتجنبوهم الكذب وتحذروهم من الكذب.
فهذه القاعدة الإسلامية التربوية العظيمة كرسها سيدنا رسول الله بقوله: ((إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا)) [1].
فهذه قاعدة عظيمة في التربية الإسلامية: الصدق. كن أيها الأب وكوني أيتها الأم من الصادقين تحري الصدق وعلمي طفلك الصغير الصدق، فإن هذه الخصلة العظيمة تهديه إلى باقي الأخلاق إلى أحسن الأخلاق وأفضل العبادات وتقوم سلوكه كلما نشأ وترعرع، وتعلمه الشجاعة المعنوية، ومواجهة المواقف.
أما الكذب فإنه شر على الصغير والكبير فاحرص أيها الأب واحرصي أيتها الأم ألا تكذبوا أمام صغاركم. لا يتعلمون منكم الكذب ولا تحقرون شيئًا من الكذب مهما قل شأنه وصغر مقداره فإن الكذب يعتبر كذبًا في عرف الشرع، مهما قل شأنه ومهما صغر مقداره، الكذب يكتب كذباً في عرف الشرع.
عن عبد الله بن عامر رضى الله عنه قال: نادتني أمي يومًا ورسول الله قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطك فقال لها رسول الله : ((ما أردت أن تعطيه؟ قالت أردت أن أعطيه تمرة فقال : أما إنك إن لم تعطهِ شيئًا كُتبت عليك كذبة)) [2].
فانظر إلى هذه الدقة العظيمة في التربية الإسلامية النبوية. إذا قلت لولدك: تعال أعطيك شيئًا وأنت لا تريد إعطاءه شيئًا كُتبت عليك من الكذب أي سجل عليك إثمها ووزرها لأنها تعد من الكذب وإن قل شأنها في عينيك وإن ظننت أنها قليلة الشأن صغيرة المقدار.
وإذا قلت لولدك الصغير: قل لهذا الطارق الذي يطرق الباب إني غير موجود وأنت موجود سُجلت عليك كذبًا وكُتب عليك إثمه ووزره، هذا بالإضافة لما اقترفته من إفساد ولدك وتعليمه الكذب.
فيا أيها الأب المسلم وياأيتها الأم المسلمة اتقوا الله وكونوا من الصادقين وعلموا أولادكم الصغار الصدق، فإن الصدق يهديكم إلى أقوم الأخلاق كما أخبرنا بذلك سيدنا رسول الله.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ولو كنا قلة على ذلك.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان، ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله في كتابه المبين فقال جل من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وجودك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح البخاري (6094) ، صحيح مسلم ( عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] مسند أحمد (3/447) ، سنن أبي داود (4991) عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه.
(1/491)
الزواج أهمية عظمى في المجتمع
فقه
النكاح
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
1/11/1418
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الزواج سنة من سنن الحياة لا تستقيم الحياة بدونه. 2- ضرورة تيسير الزواج وخطورة
وضع العراقيل في طريقه. 3- الآثار السلبية للإعلام ووسائله المرئية والمسموعة والمقروءة
على تأخير الزواج. 4- دعوة للمصلحين وأولياء الأمور للتخفيف من عبء الزواج وتكاليفه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه ، أيها الأخوة المؤمنون: أمرٌ شرعه الله ويسره وجعل إتمامه حربا على دعاة التهتك وردعا لكل من أراد سوءا بأخلاق المجتمع أو عدوانا على الأعراض أو إهدارا للأخلاق والحياء. واقتضت حكمة ربنا جل وتبارك بقاء النسل البشري ، وحفظ النوع الإنساني من أجل إعمار الكون ، وإصلاح الأرض ، وإقامة الشرع ، والقيام بشؤون الحياة ، فَشَرَع بحكمته ما ينظم العلاقة بين الجنسين الذكر والأنثى من بني آدم ، فسن الزواج بأحكامه وآدابه ، علاقة شرعية تدعو إليها الفطرة السليمة ، وتنظمها أحكام الشرع القويمة.
بقيامه تنتظم الحياة ويحفظ الحياء ، وينعم البال ويستقيم الحال بالزواج المشروع يتحقق العفاف والحَصَان ، الذي يضمن وفاق العلاقات وأمن البيوتات ، النسل الصالح والجيل الخيُّر ، لا ينبت ولا يتربى إلا في أحضان زوجية شرعية بين أبوة كادحة ، وأمومة حانية ، في الذرية الصالحة ، والاستكثار منها في الأمة ، العز والفخار للدين والأسرة والمجتمع واذكروا إذ كنتم قليل فكثركم [الأعراف:86] ويقول جل وعز ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً [الاسراء:6]
عباد الله :
إن نعيم الحياة ومتعتها لا تكون إلا في بيت سعيد ، وسعادة البيت لا يحققها إلا دين صحيح ، وخلق سمح ، وأدب رفيع ينضّم إلى ذلك صفاء الود ، والحفظ المتبادل بين القرينين في الحضور والغيبة ، بيت سعيد ظاهره الحشمة والمهابة وباطنه العفاف والصيانة ، الزواج السعيد ينشر السعادة في المودة والصلاة بين الأقارب والأصهار وينشر بين الآل والأرحام وشائج القربى وعلائق المصاهرة.
ولهذه المصالح ولغيرها كان للزواج الأهمية العظمى في الكتاب والسنة حيث يجب على المسلمين أن يهتموا بشأنه ، ويسهلوا طريقه ، ويتعاونوا على تحقيقه ، ويمنعوا من يريدوا تعويقه أو تأخيره.
أيها الأخوة المسلمون :
إذا كانت عظيمة حكَِم الزواج وأسراره ، ومنافعه وآثاره فما بالنا نرى مجتمعاتنا الإسلامية تشكو العنوسة وتأخر سن الزواج في الفتيان والفتيات ، تتقدم السنين بهم ، والعراقيل تزداد أمامهم، والمشكلات تتفاقم في وجوههم ، كل ذلك نراه خلافا لما قضى من وقت وتاريخ لم يبعد، حيث كان الزواج يتم بأيسر الطرق وأقل التكاليف.
إن تضييق فرص الزواج علة خراب الديار ، به يُقتل العفاف ، وتوءد الفضيلة ، وذلك التضييق هو طريق الفساد ، وهتك حجب الستر والصيانة ، إنها سوءات وخبائث لا تظهر إلا إذا افتعلت الحواجز ، وتنوعت العوائق أمام الراغبين من البنات والبنين.
لقد أصبحنا ونحن نجد في مجتمعنا نساءً كبرن أو تجاوزن سن الزواج دون زواج، ولا شك أن ذلك مأساة كبيرة، وخطر عظيم، يواجهه العالم أجمع لكنها غريبة على مجتمع يعيش تعاليم شرعية، وأحكامًا إسلامية، وعادات وتقاليد سامية، بل إن هذه الظاهرة تنتشر لدى الشباب أيضا فترى بعضهم ممن يتقدمون إلى الأسر فيُردون عن الزواج لأسباب واهية تسببت في تأخير زواج كثير منهم أو زواجهم من غير مجتمعهم وبيئتهم.
إنها مشكلات وعوائق راجعة إلى خلل في التصور ، وزعزعة في الفكر ، وراجعة إلى ضعف في العقيدة ، وخلل في تطبيق الشريعة ، إنه التفكير المشوش حول المستقبل إنه تعلق بالشهادات وتأمين فرص العمل والاشتغال بالترقي في سلالم التعليم حتى يفوت الجميع قطار الزواج ، ومشاركة الوالدين وتأييدهما وقبول المجتمع له يؤكد هذا الخلل في التفكير والانقلاب في الموازين ، وتزعزع الثقة في الله ، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله [النور:32] ويقول رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه (( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )) رواه الترمذي وقال حسن غريب ، لقد اضطربت المقاييس ، وطاشت الموازين فالوظيفة والشهادة والمرتب والوجاهة هي السوق الرائجة وهي وحدها المقومات العالية، ولذلك فمن الخطر على الأب أو الولِي أن يترك الأمر مطلقا بيد النساء في المنزل بحيث تقرر البنت أو أمها مصيرها، بدعوى الحرية وعدم الإجبار وتقرير المصير، لأن البنت لا تدرك الخطر الكبير عليها من رد المتقدمين إليها لأسباب واهية إلا حينما يتقدم بها السن إلى عمر يعافها فيها المتقدمون فترى تأخرها ذلك كان شؤما عليها ولا تستطيع تعويض ما فاتها ، ولعل في المجتمع أمثلة تثبت ذلك ، ومن معوقات الزواج لدينا: الإفراط والدقة في وضع الشروط والمواصفات لزوج أو زوجة المستقبل التي قلما تُحَقق في أحد.
أيها المسلمون :
إن ما يتلقفه الناس والشباب من معلومات وأخلاقيات في المقالات والمسلسلات والصحف والإذاعات له أثره البين في اختلال النظرة إلى الحياة فانقلبت المفاهيم وفسدت الأمزجة وبُنَِيتْ علاقات الناس وروابطهم على منافع ذاتية مادية بحتة.
إن أخطر ما يتهدد الزواج ويواجهه من تحديات في عصرنا يتمثل في دعوات مشبوهة ، من جهات شتى ومنابر كثيرة إلى علاقات محرمة خالية من الضوابط الشرعية لتحل بالتدريج محل الزواج الشرعي بوصفه صمام الأمان لأمن المجتمع القيمي والأخلاقي، ويتمثل في الإعلام الهابط من الفضائيات وما يطفح في كثير من وسائل الإعلام بعرض أفكار ومواقف وندوات وأفلام ، تُهَّون من شأن الاتصال المحرم ، وتقوض من مؤسسة الأسرة ، وتجعل من العفاف الحياء والفضيلة والشرف كلمات لا معنى، لها أو ذات مضامين مهلهة تتسوغ للذين يتبعون لتندفع الشهوات فسقهم، وتزين باطلهم، وتوجه في أعين وقلوب الشباب والفتيات، فينكسر باب الحياء من خلاله شرور وآثام أخلاقية. وينبينا التاريخ أنه أيما أمة اهتز فيها جيل الأخلاق وهان فيها أمر الفضيلة فإن أمن المجتمع وتماسكه سينهار، ويُعْصف بمرتكزات دينه ودنياه.
أيها الآباء المربون:
من معوقات الزواج: المصاريف الباهظة والمظاهر الزائفة ، إذا انحدر الناس في المقاييس المادية وحكموها في علاقاتهم فقد فسد الزمان وتعطل أمر الشرع لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله [الطلاق:7] لقد اشتط الناس في النفقات ، وسرت بينهم في الحطام المنافسات ، فارتفعت المروءات في كثير من البيئات ، فزادت الحواجز ارتفاعا ، وامتدت السدود طولا حتى أن كثيرا من المقدمين على الزواج لا يستطيع إلا بمساعدة أهل الخير ومال الزكاة أو الدَّيْن وإثقال الكاهل ، قال عمر بن الخطاب : " لا تغلوا في ُصُدق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي ما أصدق عليه الصلاة والسلام امرأة من نسائه، ولا أُصْدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتا عشرة أوقية " أي مائة وعشرين ريالا. رواه الخمسة وصححه الترمذي.
أيها الناس :
إن جميل الُخُلق أبقى من جمال الخَلْق، وغنى النفس مقدم على غنى المال ، والعبرة كل العبرة في كريمَ الخصال لا في زين الأجسام وكثرة الأموال ، سُئل سعيد بن المسيب رحمه الله عن قوله e : ((خير النساء أيسرهن مهورا)) فقيل له : كيف تكون حسناء ورخيصة المهر ؟ فقال : يا هذا ، انظر كيف قلت أهم يساومون في بهيمة لا تعقل أم هي بضاعة طمع صاحبها يغلب على مطامع الناس ثم قرأ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها : إنه إنسان مع إنسانة ، وليس متاعا يطلب مبتاعا ، ا.هـ. كلامه رحمه الله.
من الخطأ الداهم التمسك بالجمال والمنصب والمال والمَرْكز للمزايدة في الثمن والمغالاة في المهر ، فصاحب الجمال والجاه قليل الدين والخلق رجلا أو امرأة ،لا يغني عنه كثرة المال شيئا. إنَّ نسب الطلاق والفراق ، وأسباب الانفصال والشقاق باتت متقدمة في هذا العصر نراها عالية عن مجتمعات سلمت من رياح هذا التقدم البائس وغباره الخانق ومادياته ومظاهره ومما نراه معوقا للزواج ما يتعارف عليه المجتمع من عادات عقيمة ذات آثار أليمة ، تحكم تلك العادات كثيرا من الناس يصعب عليهم التخلي عنه كعادة تأخير الزواج حتى سن متأخرة أي بعد الدراسة الجامعية مثلا ومن خالف ذلك لقي اللوم والتأديب ، ومن العادات مثلا تأخير زواج الأصغر أو الصغرى حتى زواج الأكبر أو الكبرى بحجة المجاملة والإحراج وخشية العيب ، ومن العادات الغريبة أن يستنكر المجتمع تعدد الزوجات وزواج الرجل الثانية أو الثالثة أو الرابعة دونما سب بالرغم من تقدمه إلى امرأة قد لا يتقدم إليها أفضل منه.
أيها الأخوة المؤمنون:
حق على أصحاب القدوة من الوجهاء والعلماء والرموز والأغنياء، أن ينشروا في الناس خلق القناعة بما يسر الله ورزق ويرسموا ذلك بفعالهم قبل أقوالهم ، إن الاغتباط والسعادة والتوفيق لا يكون إلا بالدين وحسن الخلق والاهتمام بغرس المودة ونعمة البال ، يجب أن يكون التوجيه وصرف الهم والهمة في اختيار الفتى المهذب والفتاة المهذبة، من أجل أن تستجلب راحة الضمير والإعانة على نوائب الحياة ، والتهيئة لكسب شريف وسعي كريم ، الصلاح والتقى والعفة والأمانة ، وكرم العنصر وطيب الأرومة ، كل أولئك تورث حسن الطباع ، وعزة النفس واحترام البعل.
إن الجمال ونضارة الشباب تزيلُهما السنين ، وإن المال غادٍ ورائح ولا يبقى إلا الدين القويم والخلق الكريم (فاظفر بذات الدين تربت يداك).
عباد الله :
إن منع الزواج وتأخيره، يسبب عارا وخزيا يهدد بإنهاء المجتمع، ولنقلَّب النظر عبرة في مجتمعات من حولنا عطلت الزواج، أو قللت الاهتمام به كيف انتشر فيها فساد الأخلاق وانتهاك الأعراض، وتفكك الأسر وفساد التربية وخواء البيوت من الزوجات والصالحات وكثرة العوانس حتى صارت النساء كالرجال ربات أعمال لا ربات بيوت ولا مربيات أطفال ، والسعيد من وعظ بغيره والشقي من لم تنفعه المواعظ ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم [النور:32]
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد :
فيا عباد الله : اتقوا الله وساهموا في بناء مجتمعكم بناءُ صحيحا، عبر تشجيع الزواج فيه ودعمه، وتخفيف عبئه وتكاليفه، وإن على الأب والولي أن يبحث لابنته عن الرجل الصالح ولو عرضَها عليه، فقد عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصَه رضي الله عنها على عثمان بن عفان وأبي بكر ثم تزوجها رسول الله ، كذلك على الآباء والأولياء دعم أبناءهم وبناتهم ماديا ومعنويا في الزواج حتى يسهل عليهم كذلك دعمهم بتسهيل حصول الخاطب على ما يحتاج من معلومات عن مخطوبته في حدود الشرع.
وإن مسالك العقل والحكمة تقتضي التوجيه إلى حسن المعاشرة، وفقه إدارة المنزل وبناءه على التقوى والخلق ، وإلى ما يوثق العلاقات بين الزوجين الجديدين ، ولن يكون ذلك إلا بتكاتف المجتمع، وإجماعه على دفع مسيرة الزواج بين أفراده، ورفع العقبات وتسهيلها عن طريقه.
نسأل الله أن يوفق المسلمين والمسلمات لكل ما فيه خيرهم وصلاحهم.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه...
(1/492)
اختلال الموازين
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, القصص
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
2/6/1418
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة أصحاب الأخدود. 2- الميزان الحقيقي للربح والخسارة في قصة أصحاب الأخدود.
3- خسارة الدنيا لا قيمة لها أمام ربح الآخرة. 4- كل الإنسانية خاسرة ما لم تؤمن وتعمل
صالحاً تتواصى به وتصبر عليه كما في سورة العصر. 5- التضحية بالنفس إعزازاً لدين الله
ليست تجارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله ـ تعالى ـ، أيها الأخوة المؤمنون، روى مسلم في صحيحه عن أبي يحيى صهيب بن سنان عن النبي قال في سياق قصة الغلام المؤمن: إن الغلام المؤمن قال للملك بعد ما عجز عن قتله بشتى المحاولات، من إغراق ورمي من شاهق وغير ذلك، قال له: ((إنك لن تستطيع قتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال له الملِك: وما هو؟ قال: أن تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع نخلة، ثم خذ سهما من كنانتي ثم قال: بسم الله رب الغلام فإنك إن فعلت قتلتني، فجمع الناس وصلبه على جذع ثم أخذ سهما ووضعه في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدره فمات الغلام، فقال الناس جميعا: آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس)).
نعم إخوة الإيمان، مات الغلام لكن الأمة كلها حية واستطاع الغلام أن يبلَّغ حجة ربه إلى الأمة من خلال هذا الموقف، ورأى أن إراقة دمه في هذا السبيل هي العز والربح وهي الحياة، بعد ذلك أتى الملِك بمن آمن، وحفر لهم الأخاديد وأوقَد فيها النيران، وأحرقهم فيها يقول عليه الصلاة والسلام: ((فمن لم يرجع عن دينه فأقحموه في الأخدود أو قيل له اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي يرضع فتقاعست أن تقع فيها، فأنطق الله الصبي فقال لها: يا أماه اصبري فإنك على الحق...)) [1].
إخوة الدين والعقيدة، كتاب الله ـ عز وجل ـ يهدي للتي هي أقوم، في عقائد وأحكام وشرائع متوازنة، لا مدخل فيها للهوى والمحاباة، ولا مجال فيها للمصالح الخاصة والأعراض، أحكامه وشرائعه هي العدل وهي القسطاس، توزن بها القيم وتتميز بها الحقوق، وتقاس بها الأعمال والتصرفات والتضحيات، ميزان حق وضعه الله ولم يضعه البشر: وَ?لسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ ?لْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى ?لْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ ?لْوَزْنَ بِ?لْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ?لْمِيزَانَ [الرحمن:7-9]. ومن موازين الله ـ جل وعلا ـ التي وضعها أمام الناس في هذه الدنيا ميزان الربح والخسارة، حيث الربح الذي يطمح إليه الإنسان ويسعى إليه ويقيم به الأمور، وحيث الخسارة التي ينفر منها الإنسان ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومع اختلال الموازين في مفاهيم الناس انقلب الأمر فأصبح الربح الحقيقي بميزان الشرع خسارة لدى الناس والخسارة العظيمة بمقياس الشرع ـ ربما عند بعضهم ـ، انظروا مثلا إلى قصة الغلام المؤمن قد يقول البعض إنه خسر حينما ضحى بنفسه، أو يقول: إن هؤلاء الناس خسروا حينما لم يرجعوا حتى لا يلقوا في الأخدود، فهل هي خسارة أم ربح؟ لا شكّ أنهم ربحوا أعظم الربح فهم في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز الكبير، فسماه الله ـ تعالى ـ فوزا؛ لأنه غاية الربح أما الذين خسروا فهم أولئك الجبابرة: إِنَّ ?لَّذِينَ فَتَنُواْ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ?لْحَرِيقِ [البروج:10].
أيها الأخوة المؤمنون، الإنسان منا يبحث عن الكسب والربح ويتجنب الغرم والخسران، ولكن أين الربح والخسارة؟
التاجر الذي أثرى من الحرام وجمع المال وعدده، وهو يعد نفسه أو يعده الناس من أعظم الرابحين، هل تراه بميزان الحق والعدل رابحا أم خاسرا؟ ثم هو حين يتوب من ماله الحرام ويتجرد عنه فهل خسر أم ربح؟ المؤمن بربه حين يترك شهوات نفسه وهواها، مضحيا برغباته ويتبع أمر ربه ويترك نهيه فهل خسر أم ربح؟
أو ذلك العاصي حين ترك لنفسه العنان باقتراف المعاصي وترك الطاعات هل هو رابح أم خاسرٌ؟
المصلح العالم والداعية الذي رضي بحياة العناء والتضييق، مقابل ما يدعو إليه من حق وعلم، حيث ترك زخرف الدنيا ومباهجها لأجل دينه ودعوته، وقبل بكل ما يسيء إليه ويشوه سمعته، ورضي عنه بما عند الله، واستبدل ذلك بما يدخره الله له ليوم الحساب، قد يرى كثير من الناس حاله وجهاده هذا خسارة مبينه، ويعد أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر خسارة وتضييعا للوقت وإثارة للفتنة، وما نيل منه فوزا وربحا لمن حققه.
وهكذا طاشت واختلت الموازين في أفهام الناس، وكثرت الدعاوى التي لها بريق عند المهزومين والمغلوبِ على أمرهم، لكنها عند ميزان الحق والعدل سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، إنهم يرون الربح خسارة والخسارة ربحا، فالمؤمن الذي افتدى دينه بنفسه وماله، حينما قُتل في سبيل الله أو أُوذي أصبح خاسرا للحياة، أما من باع نفسه لدنياه وأصبح عبدا لشهوته ومنصبه، فهو الرابح بمقياس البعض، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد والحق والباطل يتأرجح عندهم مع الأهواء الذاتية، والمصالح العارضة والتوجهات الفكرية، هم الخاسرون وإن حسبوا أنفسهم رابحين مع اختلال الموازين، قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لاْخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَـ?تِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَزْناً [الكهف103-105].
إخوة الإيمان، في سورة من سور القرآن العظيمة يحكم الله ـ تعالى ـ ويقسم أن الإنسان خاسر: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [سورة العصر]. روي في السير أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ، إذا لقي بعضهم بعضا ثم تفرقوا قرأ أحدهم على الآخر سورة العصر ثم انصرفوا وقد تجدد إيمانهم، وتعمق يقينهم، وصحت عزائمهم، واستقامت موازينهم، وقوي الحق عندهم؛ ولذلك قال الإمام الشافعي: لو لم ينزل الله حجة على خلْقِه من القرآن إلا هذه السورة لكفتهم.ا.هـ.
إنها حكم رباني قاطع أقسم الله عليه بالعصر ـ وهو الوقت ـ على أن جنس الإنسان في خسر، ولو كان سيدا غنيا في خسر، ولو كان صحيحا قويا في خسر، ولو كان ما كان. هذا هو الأجل إلا من استثناه الله بالربح وهم: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ. إذاً هذه السورة العظيمة هي الميزان الحق الذي توزن به الأمور وتُقَوَّم.
ولنعلم ـ إخوتي ـ أن موازين الدنيا لا تصلح مقياسا بكل حال فالذي يفقد ماله في سبيل الله هو الغني، والذي يموت في سبيل الله هو الحي: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَمْو?تاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
إن التضحية بخسارة النفس والمال والجاه والعرض، إذا كان لنشر دين الله ـ عز وجل ـ والجهر به فهذا هو الربح الذي لا يعدله شيء، روى البخاري ـ رحمه الله ـ عن النبي في معرض حديثه عن الدجال حينما يخرج في آخر الزمان، ويفتتن به الناس: ((يخرج إليه رجل من أهل المدينة فيتجاوز مسالح الدجال، والرجال المحيطين به، فيقول له الدجال: أتشهد أني أنا الله فيقول له: أشهد بأنك الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله فيقتله الدجال ويمشي بين قطعتيه ثم يقول له: قم فيستوي حيا بإذن الله ـ تعالى ـ، فيقول له بعد ذلك: أتشهد بأني أنا الله فيقول له: ما ازددت فيك إلا بصيرة أنت الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله ، فيريد بعد ذلك أن يقتله فلا يسلط عليه..)) [2]. وَمُنْذُئِذٍ يبدأ سقوط الدجال وهوان أمره، فكانت تلك الكلمة الصريحة المدوية لهذا الشاب المؤمن هي الربح وهي الأول الذي تتابعت بعده السهام، يخرج الدجال إلى الشام يجر أذيال الخيبة إلى الشام حيث ينتهي أمره هناك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح مسلم ح (3005).
[2] صحيح البخاري ح (7132) ، وأخرجه أيضاً مسلم ح (2938).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
اتقوا الله ـ إخوة الإيمان ـ الموازين المختلة إذا وجدت لدى أقوى المجتمعات، فإنها تثير الفوضى في أحكم النظم، وتجلب عقوبة رب العالمين، أما الموازين العادلة، فإنها تسد النقص في الأحوال المختلة.
والبشر موازينهم وتقويمهم للأمور إذا تركوا الشرع جانبا، تؤثر عليهم الميول النفسية والنزعات الشخصية والانتماءات الوطنية، وتصبح غالبةً عليهم ـ شاءوا أم أبوا ـ كم من عمل اشتهر بين الناس ويراه الناس حسنا على حين أنه غير ذلك هو غير ذلك: أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8].
عباد الله، يأتي التذكير بأهمية الموازين العادلة في أحكامنا وتصرفاتنا، والعالم اليومَ يموج بمبادئ وشعارات وموازين ونظم وقوانين، زعموا أنهم بها حققوا المساواة والحرية، وحفظوا بها حقوق الناس، وأقاموا بها العدل والقسط بين الناس، وواقع الناس ظلم وخلاف وفتن وبأساء وتنازع وشقاء، إلا من رحم ربي. الاعتدال في نظرهم وقاموس إعلامهم هو التساهل والتميع بالمبادئ والأخلاق ومجاملة الناس على حساب دين الله، أما التطرف والتشدد والأصولية فهو الثبات على الخُلق والمبدأ وبالتمسك بدين الله والبقاء عليه، هكذا تختل موازينهم، وهكذا الحال حين تكون الموازين أرضية بشرية، ومن خلال هذه الموازين المضطربة ينشأ جيل تبعيٌّ مقهور ليس في علمه وثقافته إلا ثقافة كافرة، لا يعجبه إلا فكرها، ولا يكبر في عينه إلا رجالها.
إخوة الدين والعقيدة، هذا هو الواقع الحزين المهين على كثير من بقاع الأرض، وعلى المؤمن الحق أن يكون مؤمنا بأن الله حافظ دينه، معلٍ كلمته، ولن يزال في أمة الإسلام موفقون، يهدون بالحق وبه يعدلون، ولا تزال في أمة محمد طائفة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ـ تبارك وتعالى ـ وهم على ذلك. وميزان الحق ظاهر مهما علاه الغبش، والحجة بيضاء، والطريق واضحة، وعلى أهل الحق أن يصدقوا في النيات، ويشمروا في العمل، فرجل الأصالة وصاحب الاستقلال والعزة بدينه وذو الميزان العدل، هو المسلم المتمسك بدينه والواثق به المعتز بتعاليمه.
نسأل الله أن يسدد الخطى ويصلح الموازين، وأن يبارك في الجهود وأن يعز الإسلام وأمته.
هذا وصلوا وسلموا يا عباد الله...
(1/493)
سر التوحيد وحقيقته (14)
الأسرة والمجتمع, التوحيد
شروط التوحيد, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
27/9/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
كلام وهب بن منبه لمن قال له : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة , ودلالة كلامه – أسنان مفتاح
" لا إله إلا الله " أداء الفرائض والواجبات واستيفاء الشرائط واجتناب النواقض – اجتناب
المعاصي والمحرمات من أسباب سلامة القلب – ليس المراد بلا إله إلا الله مجرد التلفظ بها
والأحاديث في البشارة مقيدة بالأحاديث الأخرى في استيفاء شروطها وانتفاء نواقضها
دور الماسونيين في تحديد نسل المسلمين – الدعوة إلى التكاثر من سنة سيد المرسلين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:من مات على التوحيد دخل الجنة لأن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله هي مفتاح الجنة. ما معنى ذلك ؟
روى البخاري في صحيحه تعليقًا عن وهب بن منبه رحمه الله أنه قيل له: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال: بلى ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتح لك وإلا لم يفتح لك.
مقصوده رحمه الله أن شهادة لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة تُقال باللسان فينجو بها قائلها حتى ولو لم يؤد فرائضها ويستوف شرائطها ويسلم من نواقضها ومفسداتها. حتى ولو لم يسلم من نواقضها ومبطلاتها هي المفتاح والمفتاح لا يعمل إلا بأسنان. وأسنان هذا المفتاح لا إله إلا الله هي أداء الفرائض والواجبات واستيفاء الشروط واجتناب النواقض والمفسدات ثم بعد ذلك كلما استزاد المسلم من الأعمال الصالحات كانت أسنان مفتاحه أجود، وكلما ابتعد عن المحرمات والمنكرات كان ذلك أسلم لمفتاحه.
ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله لما قيل له إن قومًا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. قال الحسن رحمه الله: من قال لا إله إلا الله وأدى حقها وفرضها دخل الجنة، وروي عنه أيضًا أنه قال لرجل ذكر شهادة أن لا إله إلا الله فقال له الحسن: هذا هو العمود فأين الطُنُب ومراده رحمه الله أن شهادة أن لا إله إلا الله هي عمود فسطاط الإسلام خيمة الإسلام، عمودها لا إله إلا الله وكما أن الفسطاط لا يقوم إلا على العمود فإنه لا يثبت إلا بالطنب والطنب هنا هي الفرائض فرائض لا إله إلا الله. وهى التي يجب أن تستوفي والمحرمات التي يجب أن تُجتنب، فإن اجتناب المحرمات ضروري لسلامة هذا العمود. لذلك قال الحسن رحمه الله للفرزدق الشاعر المشهور الذي كان يشبب بالنساء في شعره ويذكرهن في شعره وكان أحيانا يباهى في شعره بفعل الفواحش قال له الحسن رحمة الله: إن للا إله إلا الله شروطًا فإياك يا فرزدق وقذف المحصنات. إياك يا فرزدق وقذف المحصنات. لم يرد الحسن رحمه الله أن قذف المحصنة بخصوصه يفسد لا إله إلا الله أو ينقض لا إله إلا الله لكنه ضربه مثالاً على أن اجتناب المعاصي والمحرمات من حيث المبدأ من الشروط لسلامة العمود عمود فسطاط الإسلام لا إله إلا الله ، وقد يبقى هذا العمود على الرغم من ارتكاب بعض المعاصي والمنكرات لكن ارتكاب تلك المعاصي يضعفه ويشتد ضعف هذا العمود كلما أمعن المسلم في ارتكاب المعاصي والمنكرات. حتى يكاد ينهدم بل ربما انهدم يطمس القلب والعياذ بالله. فإن الله عز وجل قد يعاقب المستخف للحرمات والمنكرات، قد يعاقب المستخف للمحرمات المرتكب للمعاصي والمنكرات يعاقبه بطمس قلبه فيفسد حينئذ إيمانه ويضرب عليه النفاق.
أردنا بهذا التنبيه على أن مقولة إن شهادة لا إله إلا الله هي مفتاح الجنة ليس معناها أن قائلها بمجرد التلفظ بها ينجو من النار ويدخل الجنة.
فقد أجمع العلماء على أن من نطق بالشهادة على أن من تلفظ بالشهادة ثم سجد لصنم أو أهان المصحف متعمدًا أنه كافر خارج من ملة لا إله إلا الله.
كما أنهم أجمعوا على أن من تلفظ بالشهادة لكنه لم يعتقد معناها لم يؤمن بمعناها أو شك في معناها أو سخر من مضمونها بأنه كافر خارج من ملة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
إذن فليست هذه مجرد كلمة. ليس المراد هو مجرد التلفظ بها بل المطلوب مع التلفظ بها التلبس بحالة مخصوصة من أداء فرائضها وحقوقها واستيفاء شروطها واجتناب نواقضها ومفسداتها.
وسيدنا محمد في إجماله البشارة بالجنة لأهل لا إله إلا الله له تفصيل بينه في أحاديث أخرى وفي مناسبات أخرى، بين قبل ذلك فرائض لا إله إلا الله وشرائط لا إله إلا الله وحقوق لا إله إلا الله فإن البشارة للجنة على وجه الإجمال لأهل لا إله إلا الله كان في الغالب من أواخر كلامه حديث البشارة حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أمره فيه النبي بأن يبشر كل من يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه أن يبشره بالجنة [1] هو من أواخر كلامه فإن أبا هريرة رضي الله عنه أسلم في آخر حياة النبي أبو هريرة راوي حديث البشارة هذا أسلم في أواخر حياة النبي فإذن كان النبي قد بين قبل ذلك فرائض لا إله إلا الله وشرائطها وحقوقها ونواقضها ومفسداتها فلما اطمأن إلى أن أصحابه رضي الله عنهم قد فقهوا عنه ذلك أجمل لهم البشارة بالجنة على لا إله إلا الله معتمدًا على فهمهم لشرائطها وفرائضها وحقوقها وسوف نبين هذه المسألة بمزيد من التفصيل في الجُمع القادمة إن شاء الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلىّ أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [فصلت: 6-7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (31) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد. هتف هاتف الشياطين ونادى منادي الماسونيين ألا تتكاثروا يا معشر المسلمين، حددوا نسلكم وقللوا عددكم، وراق هذا النداء الماسوني الخبيث راق بعض الحكام من الظلمة الجائرين الذين تسلطوا على شعوبهم، فنهبوا خيراتها وضيعوا حقوقها وبددوا ثرواتها، حتى إذا فاحت روائح الظلم والفساد ولم تجد تلك الشعوب ما تستر به عوراتها وتسد به حاجاتها ذهب أولئك الطغاة الظلمة الجائرون يوارون فسادهم وظلمهم بهذه الدعوة الماسونية الخبيثة دعوة تحديد النسل.
أما أنت يا مسلم فإمامك وقائدك وحبيبك ونبيك سيدنا محمد يدعوك بعكس ما دعاك إليه الماسونيون وأذناب الماسونيين.
يدعوكم يا مسلمون إلى التكاثر كثروا نسلكم كثروا عددكم فالحبيب يقول لكم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة [1]. وفي رواية مكاثر بكم الأمم)) [2].
وعن معقل بن يسار قال جاء رجل إلى النبي فقال له: إني أصبت امرأة ذات حسن وجمال ولكنها لا تلد أفأتزوجها؟ فقال : لا فأتاه الثانية فنهاه فأتاه الثالثة فقال : ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم)) [3].
يا مسلم لا تظن بالله الظنون، تظن أن الله يخلق خلقًا ولا يرزقهم، إن كل خلق يخلقه الله جل جلاله يُكتب رزقه معه وهو في بطن أمه ويكتب شقي هو أم سعيد، أما اليهود وأذناب اليهود أما الماسونيون وأذناب الماسونيين فيقولون لكم أيها المسلمون حددوا نسلكم لتنظيم أحوالكم الاقتصادية. حددوا نسلكم لإنعاش وإصلاح أحوالكم الاقتصادية.
إنهم يريدون إضعافنا فهم يعلمون أن من أهم أسباب القوة والمنعة والعزة في الأمم هي الثروة البشرية هي الكثرة، كثرة العدد هي من أهم أسباب القوة والمنعة وخاصة إذا كان مع هذه الكثرة عدل وحرص على العدل من الرعاة والرعية فإنها حينئذ تكون قوة ومنعة لتلك الأمة.
يا مسلم اعلم أن الذرية والولد خير لك إن عاشوا بعدك وإن ماتوا قبلك.
إن عاشوا بعدك فخير لك يلحقك بعد موتك باستغفارهم ودعائهم لك إن كنت قد أحسنت تربيتهم وعلمتهم ذلك.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((يُرفع للعبد في درجته فيقول: أي رب أنى لي هذا؟ فيقول: باستغفار ولدك لك من بعدك)) [4].
وثبت عن النبي أنه قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ، وعلم يُنتفع به ، وولد صالح يدعو له)) [5].
وأحسن ما يكون للإنسان من النفع والخير والثواب من الذرية البنات إذا أحسن تربيتهن وأحسن إعالتهن فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ((من عال جاريتين - أي من قام على بنتين أو أختين بالتربية - حتى يبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا وضم أصبعيه )) [6].
وفي رواية: ((ما يكون لأحد ثلاث بنات أو بنتان أو أختان فيتقي الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنة)) [7].
وأما عن نفع الولد والذرية لك إذا ماتوا قبلك فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي حسان قال: توفي لي ابنان. فقال لي أبو هريرة سمعت حديثًا عن رسول الله يطيب أنفسنا عن موتانا. فقال أبو هريرة رضي الله عنه: نعم صغارهم - أي صغار المسلمين - دعاميص أهل الجنة إذا لقي الولد أباه أو أبويه أخذ بطرف ثوبه أو يده فلا يفارقه حتى يدخله الله وأباه الجنة [8] ، فهذا نفع عظيم وخير عظيم يشفع لك ولدك الذين ماتوا من قبلك حتى يدخلك الجنة ويدعو لك ولدك الذين عاشوا من بعدك ويستغفرون لك فيرفع الله لك درجتك بذلك.
فاحرص يا مسلم على المكاثرة بالذرية والولد كما دعاك إلى ذلك الحبيب المصطفى.
أما بعد:فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين سيدنا محمد فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن زوجاته أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند أحمد (3/158، 245) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] سنن أبي داود(2020) عن معقل بن يسار رضي الله عنه.
[3] سنن النسائي (3227).
[4] مسند أحمد (2/509) ، سنن ابن ماجة (3660) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] سنن الترمذي (1376) ، سنن النسائي (3651) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح مسلم (2631) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[7] مسند أحمد (3/42)، سنن أبي داود (5147) سنن الترمذي (1912) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[8] صحيح مسلم (2635) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/494)
نية خالصة
التوحيد
الشرك ووسائله
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
20/5/1419
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان لوجهه الكريم خالصاً. 2- ريح الرياء تعصف
بجبال الأعمال. 3- خطر المرائين على المجتمع. 4- سفاهة عقل المرائي. 5- من أعظم ما
يطلب فيه الإخلاص طلب العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله.. أيها المسلمون: الغرائز البشرية المصروفة هي قواعد السلوك العام، كطلب السلامة، والحرص على المال، والميل للفخر، والتطلع للظهور، وغيرها، والإسلام بشموله يرقب بعناية فائقة ما يصاحب أعمال الناس من نيات، وما يلابسها من عواطف وانفعالات، وقيمة العمل عنده ترجع قبل كل شيء إلى البواعث التي تسوق المرء إلى العمل، وتدفعه إلى إجادته، وتغريه بتحمل التعب فيه، أو بذل الكثير من أجله.
فالإنسان إذا أعطى هبة جزيلة يريد بها استمالة القلوب، أو ليوصف بالكرم فهذه بواعث لديه، لكن الإسلام لا يعتد بالصدقة إلا إذا خلصت من شوائب النفس، وتمخضت لله وحده على ما وصف القرآن الكريم الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى.
إن تصحيح اتجاهات القلب، وضمان تجرده من الأهواء هو الإخلاص الذي نوضحه اليوم ويدعونا الله إلى استحضاره في كل عمل.
عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله : ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) متفق عليه.
إن ألوف المسافرين يقطعون المسافة بين مكة والمدينة لأغراض شتى، ولكن نية الانتصار للدين والحياة به هي التي تفرق بين المهاجر والمسافر، وإن كانت صورة العملين واحدة.
إن صلاح النية وإخلاص الفؤاد لرب العالمين يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوي البحت، فيجعلانه عبادة متقبلة، وإنَّ خبث الطوية يهبط بالطاعات والمحضة، فيقلبها معاصي شائنة فلا ينال المرء منها بعد التعب في أدائها إلا الفشل والخسران.
إن اللذاذات التي تشتهيها النفس إذا صاحبتها النية الصالحة والهدف النبيل تحولت إلى قربات، فالرجل يواقع امرأته يريد أن يحفظ عفافه، ويصون دينه له في ذلك أجر: ((وفي بضع أحدكم صدقة)). وما يطعمه في بدنه أو أولاده وزوجته مثابة بنية الخير التي تقارنه عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله قال له: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعله في فم امرأتك)) رواه البخاري.
أيها المؤمنون بالله ورسوله: إن القلب المقفر من الإخلاص لا ينبت قبولا، كالحجر المكسو بالتراب فهو لا يخرج زرعا، وما أنفس الإخلاص وأغزر بركته، فهو يخالط القليل فينميه حتى يزن الجبال، ويخلو منه الكثير فلا يزن عند الله هباءة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((أخلص دينك يكفيك العمل القليل)) رواه الحاكم في مستدركه وعلى قدر نقاء السريرة وسعة النفع تكتب الأضعاف، قال : ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه مسلم.
فمن التقى من دينه بالشكل والمظهر، وأهمل القصد والمخبر، فقد ظلم نفسه، وفقد الأجر، وكسب الوزر، وترك الدين القيم: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة [البينه:5].
الإخلاص يسطع شعاعه في النفس، وأشد ما يكون تألقا في الشدائد المحرجة، فعندها ينسلخ الإنسان من أهوائه، ويتبرأ من أخطائه، ويقف في ساحة الله أوّابا، يرجو رحمته، ويخاف عذابه: قل من يُنَجَّيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون [الأنعام:63-64]
عباد الله :
لقد حارب الرسول الرياء في الأعمال الصالحة، واعتبره الإسلام شركا بالله رب العالمين، إن الرياء من أفتك العلل بالأعمال، وهو إذا استكمل أطواره وتمكن في النفس أصبح ضربا من الوثنية التي تقذف بصاحبها في سواء الجحيم، قال رسول الله : ((اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء والأخفياء الذين إن غابوا لم يفقدوا وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة..)) رواه الحاكم في مستدركه. وإنما كانت حملات الإسلام على الرياء وغيره من العلل الناشئة عن فقد الإخلاص على ما هي عليه من الشدة، لأنه فساد وشرك وخطر داهم على المجتمع، فالرذيلة والمنكر جريمة يراها المجتمع ويحقرها، لكنها إذا ظهرت في لباس من الطاعة، ومن ظاهره الخير فخطرها أعظم وشرها أعم، فمصيبة المجتمع من الفضلاء ظاهراً المنافقين باطنا أنكى من مصائبه التي يُنزِلها به أهل الإجرام ومن عرف به.
إن ضعف الإخلاص عند كثير من أهل الفضيلة والمواهب جعل البلاد تشقى بهم وترجع القهقرى.
إن تلويث الفضيلة بأقذار الهوى عدوان على منزلتها وإسقاط وتشويه لها.
إن الرجل الذي يقصد بعلمه وجه الناس، ويذهل عن وجه ربه، رجل لا يدري لسفاهته حطة ما يصنع، إنه ينصرف عن القوي الغني ذي الجلال والإكرام إلى الضعاف الفقراء الذين لا حول لهم ولا طول. يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة، ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمله لله أحدا، فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك..)) رواه الترمذي وحسنه.
إخوة الإيمان:
إن أعظم ما تكون فيه نية الإخلاص مهمة وعظيمة لدى العالم الذي يطلب العلِْم ويؤديه للناس ويتخذ بناء عليه المواقف، فإن العلم أشرف ما ميز الله به الأكرمين من خلقه، فمن الخطأ أن يسخر لعوامل الشر أو أن تختلط به الأهواء والفتن قال : ((من تعلّم علما مما يبتغى به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا ليصيب عرضا من الدنيا، لم يجد عُرفَ الجنة يوم القيامة)) رواه أبو داود، والعلم لا يحقق مطلبه ويصل إلى هدفه السمى إلا بالتجرد كذلك يكون الحق والتعالي عن الأغراض الدنيوية وبالتضحيات الغالية، الإخلاص مهماً وعظيما لدى المجاهد الذي يضحي بنفسه وبدمه ليكون في سبيل الله ولإعلاء كلمته لا لهوى ولا عصبية ولا يقاتل حمية وإلا ذهبت تضحيته هباء وهدراً، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رجل يا رسول الله إني أقف الموقف أريد وجه الله وأريد أن يُرى موطني، فالتفت عنه رسول الله ولم يرد عليه حتى نزلت فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً [الكهف:110]. كذلك يجب إخوتي على الموظف والمعلم، وهو في ديوانه أن يعتاد ما يكتبه وما يحسبه وما يعلمه وما يكد فيه عقله، ويتعب فيه يده عملا يقصد به مصلحة بلاده ومجتمعه ويحتسبه عند الله طلبا لرضاه، ومن المؤسف أنك ترى بعضا من الموظفين يهملون ذلك فلا يفقهون إلا منطق المال والدرجة والترقية، ويحتسبون بدينهم ودنياهم داخل هذا الأمر ما انطلاقا منه، ولذلك ترى منهم إهمالا وكسلا وعدم توفيق وإعانة من الله، كذلك ينبغي لنا أيها الأخوة المؤمنون أن نتذكر إخلاصنا لله جل وعلا وتجردنا إليه في كل عمل نأتيه ونذره، وأن نحتسب أعمالنا تلك عند الله، تقربنا إليه وتنجينا من عذابه كالصدقة، والإنفاق، وتربية الأسرة، ورعايتها، والخلق الكريم، والإصلاح بين الناس، وخدمتهم، وسائر العبادات والطاعات، نسأل الله أن يرزقنا النية الصالحة والسداد في القول والعمل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفّار.
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه... اتقوا الله تعالى عباد الله.
إن العلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة، وهي إذ استفحلت استأصلت الإيمان، وإذا قلّت تركت به ثُلَماً شتى ينفذ منها الشيطان، وإنما يسخط الله عز وجل على ذوي الأغراض والمرائين وغيرهم من عباد المال والجاه، لأن المفروض في المسلم أن يضحي بالأغراض والعلاقات والشهوات في سبيل الله، لا أن يذهل عن وجه ربه في سبيلها.
انظروا إلى قصة سحرة فرعون كيف كانوا آية في اليقين الصحيح، والإخلاص العالي لدين الله عندما رفضوا الإغراء وحقروا الإرهاب، وداسوا حب المال والجاه وقالوا للملك الجبار : فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى.. [طه:72-73]. وشتان بين هؤلاء الذين يستهينون في التقرب من كبير أو الاستحواذ على عرض حقير.
نسأل الله العظيم جلت قدرته أن يصلح أحوال المسلمين وأن يصلح لنا الدنيا والدين وصلوا وسلموا يا عباد الله...
(1/495)
توقير سنته صلى الله عليه وسلم والتحذير من ردها
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
7/10/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
مدار الدين على أصلين : ( اعبدوني ) وهذا لله وحده , و( فاتبعوني ) وهذا لرسوله صلى الله
عليه وسلم – تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن تجريد المتابعة لله -
أهم معالم تجريد المتابعة له صلى الله عليه وسلم إجلال سنته صلى الله عليه وسلم , وحال
السلف في ذلك – خطورة مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم , وَرَدِّ حديثه الثابت الصحيح
بالعقل والهوى , وأن هذا مسلك الزنادقة والمنافقين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن تجريد المتابعة لسيدنا رسول الله تضمن تجريد المتابعة لله والله عز وجل قد أمرنا أن نعبده فقال: وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم [يس:61]. ثم بين سبحانه على لسان رسوله ومصطفاه كيف نعبده وأمر نبينا أن يقول لنا: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني [آل عمران:31]. فمدار الدين كله على هذين (اعبدوني) وهذا لله وحده، (واتبعوني) وهذا لرسول الله.
فما لم تحقق هذين الأصلين العظيمين وتنقاد لهذين النصين الكريمين، إذا لم تفعل ذلك يا مسلم فلا أدري ما حظك ونصيبك من لا إله إلا الله محمد رسول الله.
اعبد الله على مراد الله وليس على مرادك أنت، اعبد الله كما شرع الله وليس كما تشاء أنت وتشتهي، إن من شهد مقام عبوديته لله عز وجل فإنه يكون دائمًا متنبهًا ومستيقظًا لما يأمره به سيده ومولاه جل جلاله فحينئذ هو يرى بعينين ويبصر ببصيرتين، بإحداهما يرى المعبود جل جلاله وبالأخرى يرى أمره ولا يمكن أن يرى المعبود ولا يرى أمره إلا بمتابعة نبيه ومصطفاه لأن علم ما يرى به ويأمرك به سيدك ومولاك جل جلاله هو عند نبيه عنده وحده لا عند غيره.
ثم اعلم أيها المسلم أن من أهم معالم تجريد المتابعة للنبي المصطفى أن يكون لكلامه إذا سمعته ولسنته إذا علمت بها هيبة في صدرك كما أن لأمر الله عز وجل ولكلامه هيبة ورهبة في صدرك. إذا سمعت قول رسول الله وبلغتك سنته أولاً إذا سمعت قوله جل جلاله وبلغك أمره فاستحضر مقامك بين يديه عز وجل كأنك واقف أنت العبد المملوك في حضرة سيدك ومولاك جل جلاله.
هل تجرؤ على معاندته هل تجرؤ على معارضته هل تجرؤ على رد أمره وقوله، وكذلك إذا سمعت أمر رسول الله وبلغتك سنته فاستحضر مقامك معه كأنك واقف بين يديه وهو إمامك وقدوتك ونبيك.
هل تجرؤ على إساءة الأدب بين يديه هل تجرؤ على معارضته ورد أمره. وعلى معارضة قوله. استحضر مقامك معه إذا سمعت قوله وسنته لا تتردد إذا سمعت أمر رسول الله في قبوله على الرأس والعين.
وإذا بلغتك سنته فلا تتلجلج ولا تتردد في الانقياد لها وفي الامتثال والطاعة أما إذا ترددت وتلجلجت وعارضت سنته وعارضت أمره بعقلك ورأيك وهواك، أما إذا فعلت ذلك فأنت على خطر عظيم توشك أن تحل بك قارعة أن تصيبك فتنة أو يصيبك عذاب أليم.
فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
عاد سيدنا رسول الله مريضًا وكان المريض شيخًا كبيرًا في السن فرأى رسول الله عليه الحمى فقال له: ((لا بأس طهور إن شاء الله)).
فقال الشيخ المريض: بل حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور فقال النبي فنعم إذن فمات الرجل من ساعته [1]. انظر كيف عوقب ذلك الشيخ البائس بمجرد مخالفة لفظية لكلام رسول الله ما أراد ذلك الشيخ البائس أن يرد كلام رسول الله ولا أن يعانده في دعائه لكنه أساء الأدب.
أساء في الجواب على سيدنا رسول الله وهو يدعو له بالشفاء والمغفرة فعوقب فورًا بهذه العقوبة بعد أن صدق النبي كلامه ولفظه فقال فنعم إذن سيصيبك ما قلت فمات من ساعته.
فكيف يكون حال من يسمع كلام رسول الله وتبلغه سنته ومع ذلك يردها ويعاندها يردها بعقله وعمله، يردها قولاً وعملاً ويعاندها قولاً وعملاً لقد كان أصحاب رسول الله إذا سمعوا أمر رسول الله أو علموا سنته لا يجاوزونها أبدًا، لا يتجاوزونها أبدًا بل يطرحون آراءهم ويتهمون عقولهم إذا هي عارضت أمر رسول الله يطرحون آراءهم وعقولهم وينقادون إلى سنة المصطفى كان لسنة المصطفى ولأمره هيبة ورهبة في صدورهم وما أعظم حرصهم على متابعته وعلى طاعته، روى أبو داود رضي الله عنه في سننه أن عمر بن الخطاب استفتاه رجل في مسألة فأفتاه عمر باجتهاده لم يكن بلغه فيها شيء عن رسول الله فأفتاه باجتهاده فقال الرجل: سألت رسول الله فأفتاني بغير ما قلت فقام عمر على الرجل بالضرة يضربه ضربًا شديدًا يقول له: لم تستفتِ في أمر أفتاك فيه رسول الله.
أفتاك رسول الله فكفاك لا تسأل عنه بعده أحدًا أبدًا بل تمتثل وتنقاد لأمره فأي قول يمكن أن يعارض قول رسول الله.
وكان أصحاب محمد وقافين عند كتاب الله وعند سنة رسول الله لا يتكلفون ما لا يعلمون، إذا علموا شيئًا عملوا به، وإذا خفي عليهم معنى شيء من كتاب الله أو من سنة رسول الله سمعوا وأطاعوا وانقادوا وقالوا آمنا به كل من عند ربنا لا يتكلفون ولا يتنطعون ولا يعارضون كلام الله ولا كلام رسوله بعقولهم ولا بآرائهم.
هذا أبو بكر الصديق لما خفي عليه معنى الأب في قوله تعالى: وفاكهة وأبًا قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن برأيي.
فاتق الله يا مسلم وأحسن متابعتك لرسول الله فإنه لا يصلح دينك إلا بذلك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (5662) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
إذا سمعتم الرجل يرد حديثًا صحيحًا ثابتًا عن رسول الله وهو يعلم ثبوته وصحته، يرده بعقله ورأيه فاتهموه في دينه فإنه المفر من الذي جرد المتابعة لسيدنا رسول الله لا يمكن أن ينصب من عقله القاصر الناقص حكمًا على سنة رسول الله. بل يتخذ كتاب الله وسنة رسوله حكمًا على عقله ورأيه وهواه وفي هذا العصر كثر الجهال كثرت رؤوس الجهال الذين اتخذهم كثيرٌ من الناس رؤوسا في العلم وهم قليلو البضاعة في العلم، قليلو البضاعة في سنة رسول الله فإذا سُئلوا أفتوا بغير علم وقالوا برأيهم ونطقوا عن عقولهم فضلوا وأضلوا وفي الآونة الأخيرة تكلم رجل من المعممين المشهورين كثيرًا، تكلم كثيرًا ورد كثيرًا من سنة المصطفى حتى قال معلقًا على حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان فيما أُنزل عشر رضعات يحرِّمن فنسخن إلى خمس رضعات [1] قال ذلك المعمم الجاهل المشهور: هذا حديث باطل كيف يثبت التحريم بمجرد أن يرضع الطفل خمس مرات فلما قيل له: ويلك هذا حديث ثابت صحيح. رواه الإمام مسلم في صحيحه قال هذا حديث باطل ولو رواه الإمام مسلم في صحيحه فإني أرده لأن عقلي لا يقبله، ونطق بغير ذلك من الكلام الخطير الذي يجترئ فيه على سنن المصطفى فيحاكمها إلى عقله ويخضعها إلى رأيه وعقله.
ومع ذلك وجد من ينوه به وينشر كلامه في الجرائد والمجلات ويكرمه ويعطيه الجوائز دون أن يشعر بهذه الجريمة المنكرة التي غرق فيها هذا الجاهل المعمم إلى أذنيه.
جريمته أنه يرد سنن المصطفى ويخصصها إلى عقله ورأيه جعل من عقله الناقص المشوش حكمًا على سنة المصطفى.
وبكلامه هذا على هذا الحديث وغيره يكرس هذا المعمم الجاهل قاعدة تخريبية عظيمة الخطورة والضرر فإذا كان لكل أحد أن يرد سنة من سنن رسول الله أو حديثًا من حديث رسول الله لأن عقله لم يقبله ولم يقتنع به فماذا يبقى من سنن المصطفى وماذا يبقى من شرائع الإسلام. كل أمر يمكن أن يبطل سنة أو يبطل شريعة بحجة أن عقله يأباه ولا يقبله ولم يقتنع به. مع ما في كلامه على حديث أم المؤمنين عائشة من مغمز خطير لراوية الحديث نفسها الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة، ومع ما فيه من جرح خطير لإمام عظيم من أئمة المسلمين الثقات هو الإمام مسلم صاحب الصحيح.
وهذا الغمز وهذا الجرح شنشنة نعرفها من بعض الزنادقة والملحدين من الباطنيين، فالباطنيون هذا شأنهم يغمزون أصحاب رسول الله ويطعنون في أئمة المسلمين فلا ندري أيدري ذلك المعمم الجاهل بأن هذه النغمة نغمة باطنية، إن كان لا يدري فتلك مصيبة، وإن كان يدري فالمصيبة أعظم، فاتق الله يا مسلم وإياك إياك من أمثال هؤلاء لا تغتر بهم وإن روجوا لكلامهم في الصحف والمجلات وفي سائر المجلات والأجهزة الإعلامية لا تغتر بمثل هؤلاء ولو كانوا معممين مشهورين. العبرة في سنة المصطفى فكل من يخالفها يُضرب برأيه وعقله وقوله عرض الحائط.
ولقد حذرنا سيدنا وقدوتنا وإمامنا وحبيبنا محمد من أمثال هؤلاء في قوله: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا من صدور العلماء ولكنه ينتزعه بقبض العلماء فإذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) [2] وفي بعض الروايات: ((فسُئلوا فقالوا برأيهم فضلوا وأضلوا)) [3].
وقد حذر منهم أيضًا أصحاب رسول الله أشد التحذير فقال الفاروق عن بن الخطاب : (إن أهل الرأي أعداء السنن) أي الذين يتكلمون برأيهم وعقولهم بغير علم ولا بصيرة من سنة رسول الله ولا من كلام الله.
إن أهل الرأي أعداء السنن قد أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها فإذا سُئلوا استحيوا أن يقولوا لا نعلم قالوا برأيهم فضلوا وأضلوا فإياكم وإياهم وقال (السنة ما سنه الله وسنه رسول الله ، لا تجعلوا خطاء الرأي سنة للأمة) فرضى الله عن الفاروق عمر كأنما يرى بنظرة الثاقب عصرنا هذا وما فيه من البلايا هؤلاء الرؤوس الجهال الذين يتكلمون بغير علم ويصادمون بعقولهم المشوشة الناقصة سنة المصطفى.
لا أدري ماذا كان يفعل الفاروق عمر بهذا المعمم الجاهل لو سمعه يجترئ على حديث رسول الله بمثل هذا الأسلوب ماذا كان يفعل به لا شك عندي أنه كان سيعاقبه كما عاقب صبيغ السلمي بضربه بعراجين النخل على رأسه حتى يدمى ثم ينفيه ويمنع الناس من محادثته حتى يصير منبوذًا كالأجرب لا شك عندي أن الفاروق عمر سيفعل بهذا المعمم الجاهل هذه العقوبة التي أنزلها بصبيغ الأسلمي الذي كان يناقش الناس بمثل هذه المتشابهات.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة في التمسك بالكتاب والسنة ولو كنا قلة على ذلك.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56]. وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىّ وعن آل بيتك الطيبين الطاهرين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (1452)
[2] صحيح البخاري (100)، صحيح مسلم (2673) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3] صحيح البخاري (7307) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(1/496)
عقيدة ضالة
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
11/5/1418
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقيدة النصارى عقيدة ضالة تتناقض مع أبسط مقررات العقل السليم. 2- تاريخ النصارى
مع المسلمين أسود عبر العصور. 3- صور من وسائل دعوتهم لدينهم وحربهم للمسلمين.
4- عداء النصارى لنا (عداء عقيدة) ومستمر عبر العصور. 5- الولاء للمسلمين والبراء من
المشركين – ومنهم النصارى – أصل من أصول الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه، عباد الله العقل نعمة أنعم الله بها على الإنسان كي يميز به بين الخير والشر والحق والباطل، وبالعقل يتميز الإنسان عن الحيوان وكثيرا ما يرَِْد في كتاب الله جل وعلا ذكر العقل: إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.. وأولوا الألباب طلب الله منهم في القرآن فهم مراد الآيات.
وإذا أهمل الإنسان عقله في ضلالات الجهل أودت به الخرافة إلى المهالك العظيمة ومن ظلمات الخرافة تنشأ الأديان المحرفة.
وحديثنا اليوم عن أحد تلك الأديان المحرفة، عن عقيدة ضالة وضلالة رائجة، إنها عقيدة من ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، إنها النصرانية، تلك العقيدة الباطلة وأولئك القوم الذين وصفهم الله عز وجل في أم الكتاب بأنهم الضالون، نقف مع عقيدتهم، ونتأمل تاريخهم المملوء حقدا وبغضا وحربا على الإسلام والمسلمين.
في هذه الديانة المحرفة المشوهة التي ينشب عليها كثير من أهل الأرض نرى كيف يضل النصارى ضلالا بعيدا، حين يقولون بفكرة التثليث، حيث الإله عندهم: الأب والابن وروح القدس، فهم ثلاثة في واحد، وحين تبحث عما يؤيد ذلك في كتبهم أو ديانتهم القديمة فلا تجد من ذلك شيئا.
وإذا رأيت عقيدتهم في النبي عيسى عليه السلام، تراهم يرونه ابناً لله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
النصارى هم الذين يقولون بعقيدة صلب المسيح عليه السلام، حيث يزعمون أنه عُلَّق على الصليب ودقت يداه بالمسامير، وجعل ينادي على الصليب يا إلهي لم تركتني. وكلّ ذلك كما يزعمون كي يفتدي خطايا بني آدم: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق.. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله. وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراًً لكم.. [النساء:171].
فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون [البقرة: 79].
وتتنوع الخرافة في الديانة النصرانية لتصبح الكنائس متفننة في الأساليب التي يعبثون بها بعقول البشر كتوزيع صكوك الغفران، التي تدخلهم الجنة وتغفر ولهم الذنوب والتي يصرفها القسس الرهبان في الكنائس. إنها النصرانية الحبلى بكل خرافة وضلال سطره الله عز وجل في حديثه عنهم في القرآن: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة:72].
هي بعض العقائد الفاسدة لأولئك القوم، وقد تكلم القرآن عنهم ورد على ضلالهم، وسماهم كافرين في حين أن بعض المسلمين يتحرج من ذلك.
النصرانية أصبحت خرافة أغارت على نبوة عيسى بن مريم عليه السلام فبدلتها، وردّت نهارها ليلا، وسلامها ويلاً، وجعلت الوحدة شركاً بعقيدة الثالوث، وانتكست بالإنسان فعلقت همته بالقرابين وفكره بالألغاز المعمّاة.
ومع هذا الضلال الكبير ترى كثيرا من المسلمين ممن أنعم الله عليهم بدين هو أسمى الأديان وأعزها، تراهم وقد أكرمهم الله بالعقل والمعرفة لا يعرف من ديانة النصرانية إلا ما ينادون به من معاني المحبة والخلاص والتسامح وتسخير حياتهم لخدمة المحتاجين وغير ذلك من الشعارات المشوهة والمبادئ المعلنة في إذاعتهم وكتبهم، وهي ذاتها المبادئ التي أثبتها الإسلام وأمر بها من غير تشويه أو تحريف.
ثم تجد بعد ذلك بعضا ممن أضله الله يسعى لفكرة تقريب الأديان بيننا وبينهم، وكأن الفروق يسيرة يمكن أن تزول في عقد تلك الاجتماعات السياسية الهدف.
إخوة الدين والعقيدة:
إن النصرانية هذا حالها عاش معها المسلمون مرحلة من العداء عبر التاريخ، ووقف النصارى منذ بزوغ فجر الإسلام حربا على الإسلام والمسلمين، فهم من قرر الله عنهم عدم قبول الإسلام، ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم [البقرة: 120].
وبدأت عداوة النصارى للإسلام يوم أشرق نوره وأسفر صبحه، حين قاتل ملك غسان النصراني رسول الله فوجهوا مائتي ألف مقاتل في مؤتة ليواجه ثلاثة آلاف من صحابة رسول الله وفي اليرموك برز النصارى للمسلمين في مائتين وأربعين ألف مقاتل يحملون الصلبان يتقدمهم القساوسة والرهبان، لكن الله كسر شوكتهم فخرج الروم من الشام ثم أخرجوا من مصر، وكان المسلمون في كل ذلك يعاملونهم معاملة الإسلام فلا يقتلون أسيرهم ولا يرعبون المدن ولا يخوفون أهلها، بل كانوا يرعون لكل ذي حق حقه في ظلال كتاب الله وسنة نبيه حتى دخل كثير منهم في الإسلام، لكن حقد النصارى الكامن في نفوسهم لم يلبث أن تحول إلى تجهيز حملات صليبية لمحاربة الإسلام في عقر داره، وكانوا يسمونها حرب الصليب المقدس برعاية أباطرتهم وقساوستهم، وقارفوا كل ما استطاعوا من الجرائم في جميع البلدان التي دخلوها، فقتلوا في معرة النعمان مثلا أكثر من مائة ألف من المسلمين، ثم سارت جموعهم بمعاونة نصارى الشام إلى بيت المقدس بألف مقاتل فدخلوا بيت المقدس بعد أن أعطوا أهلها الأمان ثم استباحوها ثلاثة أيام قتلوا فيها أكثر من سبعين ألفا من المسلمين وخاضت خيولهم في دماء وأشلاء المسلمين في القدس، واستمروا في القدس تسعين سنة حتى أخرجهم القائد المسلم صلاح الدين.
أما في الأندلس فإنه الحديث الدامي المحزن، حينما سيطر النصارى على غرناطة آخر معقل من معاقل المسلمين في الأندلس فارتكبوا فيها كل شناعة بعد أن أعطوا العهود والوعود واستخفوا بكل حرمة، ونصبوا للمسلمين محاكم التفتيش مهمتها البحث عن المسلمين وإخراجهم من دينهم وتغيير أسمائهم وعاداتهم، حتى استطاعوا أن يمحوا المسلمين من تلك البلاد إلا ما بقي من آثارهم.
ثم عادت بعد ذلك تلك الحملات الصليبية، لكنها في صورة الاستعمار البغيض للبلاد الإسلامية ونهب خيراتها بمسمى الرعاية والانتداب وتنظيم البلاد، وسلموا بلاد المسلمين التي اصطليت بنارهم لتروا أن حربهم كانت بخبث ودهاء، حرب عقيدة تنطلق من حقد دفين على الإسلام وأهله، بل هو رباط قديم يربط هؤلاء ممن يعاصرنا بالصليبيين القدماء كما يشهد لذلك فعل قادتهم المحدثين، وتحت اسم حرب الهلال والصليب رفع النصارى في بلاد المسلمين شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، فقتلوا الأبرياء مثلا في البوسنة والهرسك وكوسوفا تحت اسم التطهير العرقي وحاربوهم في الفلبين، وأبادوهم وهجروهم في أريتريا، ثم هم يسعون بمنظماتهم الكنسية وهيئاتهم الدولية إلى نشر ديانتهم المحرفة الممسوخة والترويج لها بكل ما أوتوا من وسائل وأموال يستغلون بها ضعف وجوع ومرض المسلمين لإخراجهم من دينهم في سبيل لقمة عيش تقيم أودهم، أو دواء يعالج مرضهم، أو كساء يستر عريهم.
إنها مساعدات يقدمها النصارى بيد وباليد الأخرى يقدمون الصليب في وقت غفل فيه المسلمون عما يُكاد لهم، وغرهم ما يرون منهم من تقدم مادي ودنيوي، ويمتد كيد النصارى ليسخّروا مؤساستهم المالية والإعلامية والاجتماعية لإفساد المجتمعات الإسلامية، ولشن حرب شعواء لا هوادة فيها على دين المسلمين وأخلاقهم، بإشاعة التشويه في الإسلام باسم التطرف والإرهاب، فكان لتلك الحرب الأثر الكبير على نفوس المسلمين ومجتمعاته ثم نرى النصارى بعد ذلك أولياء لكل من عادى المسلمين وحاربهم واغتصب أرضهم والذين كفروا بعضهم أولياء بعض...
نراهم وقد تسلطوا بكبريائهم وغطرستهم على قضايا المسلمين بالمكر والخديعة وباسم الحل والانهاء ومحاربة التطرف ويسر السلم فأضاعوا الحق، وقرروا الباطل وخذلوا القضية وأصبح إرهابهم سلاما ونظاما، وأصبح حصار بلدان المسلمين الدائم وتجويع أطفالهم تأديبا وعقابا لا رجعة عنه.
إخوة الإسلام:
يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [المائدة:51].
أيها المؤمنون بالله ورسوله إن قلوب الصليبيين التي أبغضونا بها لا تزال في صدورهم وإن أسلحتهم التي حاربونا بها لا تزال في أيديهم، إن الحقد الذي أعماهم يوم جاءونا غزاة مستعمرين لا تزال تغلي مراجله في صدورهم.
إن عداءهم لنا عداء عقيدة متمكن في النفوس، غائر في الصدور.
ولنعلم إخوتي أننا بالإسلام أعزة أقوياء وبدونه أذلة ضعفاء نهبا لكل معتد أثيم.
إن عز هذه الأمة، ورفعة أهل الحق لا تتم ولن تكون إلا بالعض بالنواجذ على هذا الدين عقيدة وشريعة، صدقا وعدلاً. إحلالا للحلال، وتحريما للحرام، ثباتا في الموقف، وقوة في الولاء والبراء، لا يزعزه تهديد ولا إغراء، ومن رضي بالحياة الهينة، واستثقل حمل الشدائد، وهان دينه عليه فلن يحقق مجدا، أو يحرز عزا، ويحفظ حقا.
نسأل الله جل وعلا أن يهدينا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده..... أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله...
إخوة الإيمان:
حين نتكلم عن النصارى فإننا نبين بذلك عقيدتهم التي ضلوا فيها وضلالتهم وخرافتهم، ونبرز حقيقة عدائهم على مر التاريخ، وإننا بذلك نحذر منهم ونقوي جانب الولاء والبراء في نفوس المسلمين، هذا المبدأ العظيم الذي فقد أو كاد في قلوب كثير من المسلمين حتى رأيت في قلوبهم المودة والقربى للنصارى وغيرهم، وترى البكاء والرثاء بل والترحم لفقدهم وموتهم، وترى الإعجاب برموزهم وفسّاقهم، والرحمة والتأثر لمصابهم.
فهل غفل أولئك عن عدائهم للإسلام وأهله وبغضهم له واستفادتهم منه: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق [الممتحنة:1].
إن عقيدة الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين حين تقوى في نفوس المسلمين وقلوبهم فلن يكون منهم إلى النصارى أو غيرهم ركون، ولا بهم وثوق، ولن يتخذونهم بطانة أو أولياء.
نسأل الله أن يعز الإسلام وأهله، أن يذل الباطل وأهله.
وصلوا وسلموا يا عباد الله على من أمركم...
(1/497)
سر التوحيد وحقيقته (20) النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
6/11/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
من علامات محبته صلى الله عليه وسلم النصح له , والمقصود بذلك – معنى النصيحة لله تعالى
توحيده وصحة الإيمان به – معنى النصيحة لكتابه الإيمان والعمل به وتلاوته والذب عنه -
معنى النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بنبوُّته والإخلاص في محبته والذب عن
سنته – كيفية النصيحة له صلى الله عليه وسلم بعد موته وكلام العلماء في ذلك -
آثار المحبة الصادقة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد.. فمن العلامات على المحبة الصادقة لسيدنا رسول الله النصح له قال تعالى: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم [التوبة: 91]. وأصل النصح في لغة العرب معناه الإخلاص، مأخوذ من قولهم: نصحتُ العسل إذا نقيته وخلصته من شمعه.
وقال بعضهم: النصح معناه فعل الشيء الذي به الصلاح والملاءمة مأخوذ من النصاح وهو الخيط الذي يُخاط به الثوب وعلى هذا فمعنى قوله تعالى نصحوا لله ورسوله [ التوبة: 91]. أي كانوا مخلصين في السر والعلانية ومن لوازم الإخلاص في مثل هذه الحال أن يفعل ما يلائم حبه لله ولرسوله.
أخرج مسلم في صحيحه عن تميم الداري رضى الله عنه أن رسول الله قال: ((الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله؟ قالوا: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) صدق رسول الله.
أما النصيحة لله تعالى فمعناها توحيده وصحة الإيمان به وصحة الاعتقاد به ووصفه تعالى بما هو أهله من صفات الجلال والكمال وتنزيهه تعالى عن صفات النقص، والإقبال على محابه والبعد عن مساخطه والإخلاص في عبادته.
وأما لكتابه فمعناه الإيمان به والعمل بما جاء فيه وتلاوته حق التلاوة والذب عنه من تأويل الغالين وتحريف المبطلين وتزييف الملحدين.
وأما النصيحة لرسوله فمعناها الإيمان بنبوته والإخلاص في محبته والذب عن سنته ونصرته ومؤازرته حياً وميتاً.
أما نصرته ومؤازرته بعد مماته والتحاقه بالرفيق الأعلى فمعناها مؤازرة سنته ومناصرتها وإحياؤها ونشرها بين الناس.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: من فرائض القلوب اعتقاد النصيحة لرسول الله وقال أبو بكر الآجرّى رحمه الله: النصيحة لرسول الله تقتضي أمرين:
أحدهما: النصيحة له في حياته.
والآخر: النصيحة له بعد مماته.
أما النصح له في حياته فهو ما وجب على أصحابه رضى الله عنهم أجمعين من نصرته والمحاماة عنه ومعاداة من عاداه وبذل النفوس والأموال دونه كما قال تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [الأحزاب: 23] وقال تعالى وينصرون الله ورسوله [ الحشر: 8 ].
قال في وصف أصحاب رسول الله وينصرون الله ورسوله [ الحشر: 8 ].
وأما النصح له بعد مماته كما يقول أبو بكر الآجرّى فمعناها التزام إجلاله وتوقيره وشدة المحبة له والمثابرة على تعلم سنته والتفقه في شريعته ومحبة أهل بيته وأصحابه رضى الله عنهم أجمعين، ومجانبة من رغب عن سنته وانحرف عنها، وبغض من عاداها والتحذير منه والشفقة على أمته والتعرف على أخلاقه وسيره وأحواله.
والصبر على ذلك كله، فيا أيها المؤمن يا محب رسول الله أما وقد فاتك شرف صحبته ومناصرة شخصه في حياته فعليك اليوم بمناصرة سنته ومطالعة سيرته والعمل بشريعته والتفقه فيها، عليك ببذل كل صدق المحبة له وصحة المتابعة له.
مناصرة سنته والذب عن شريعته خاصة في مثل هذا الزمان الذي نعيش فيه والذي كثر فيه أعداء سنة المصطفى واشتدت الهجمة فيه على الشريعة السمحة الغراء التي جاء بها الحبيب المصطفى.
فإحياء سنته والعمل بشريعته وتحكيمها في مثل هذه الظروف والأحوال من أعظم العلامات على صدق المحبة له ، وصحة المتابعة له.
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون [التوبة:105].
بارك الله إلى ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد : فقد حكى بعض العلماء أن ملكا من ملوك المسلمين رؤى بعد موته في النوم فقيل له ماذا فعل الله بك؟ فقال: غفر لي فقيل له: بماذا؟ قال: صعدت يوما ذروة جبل فأشرفت على جنودي وجيوشي فأعجبتني كثرتهم فتمنيت أنى حضرت رسول الله فأعنته ونصرته بجنودي وجيوشي فشكر الله لي ذلك فغفر لي.
إذا كان هذا غفر الله له وشكر له اعتقاده في قلبه نصرة سيدنا رسول الله ولاشك أنه كانت له ذنوب كثيرة ومعاصي عديدة فغفرها الله له بتمنّيه هذا أنه لو كان حاضرا بين يدي رسول الله ليعينه وينصره بجنوده وجيوشه فما بالك بمن سخر كل إمكاناته وطاقاته وما أتاه الله من سلطان أو جاه أو مال أو قلم أو لسان أو سعي وجهد وتدبير أو عقل وتفكير سخر ذلك في مناصرة سنته والذب عنها وإحياءها ونشرها بين الناس لاشك أنه موعود بمغفرة الله عز وجل على مناصرته لسنة المصطفى.
فإن المحبة الصادقة تكون متحركة ذات حيوية وفعل وتأثير وتوجه صاحبها للفعل الذي يتحقق به الصلاح والإصلاح، توجه صاحبها للفعل الملائم المناسب الذي به الصلاح والإصلاح، صلاح المحب في ذات نفسه وإصلاح الآخرين من أمة سيدنا محمد وصلاح هذه الأمة وإصلاحها إنما يكون بإحيائها سنن المصطفى وتحكيمها لشريعته.
أما المحبة التي لا تأثير لها ولا فعل لها ولا توجه صاحبها إلى السنة ولا تحمله على الذب عن سنة المصطفى فهذه محبة ميتة أو ضعيفة شديدة الضعف والهزال، ولأجل هذا المعنى والله أعلم فإن الآية القرآنية كان تعبيرها هكذا: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله [آل عمران:31].
أي قل يا محمد لأمتك من كان يحب الله أو يدعى حب الله فعليه أن يتبعني عليه أن يتبع المصطفى (فاتبعوني) ولم يقل فأحبوني مع أن هذا هو المقصود ولكنه عبر في الآية بتفسير المحبة لأن من شأن المحبة الحقيقية الصادقة للمصطفى أنها مثمرة ومؤثرة، تثمر وتؤثر، تؤثر في صاحبها وتثمر فيه الطاعة والمتابعة لرسول الله. ولذلك قال فاتبعوني والمعنى فأحبوني.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وإن كنتم قلة على ذلك.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان، ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل:- إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
(1/498)
أوفوا بالعقود
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
16/6/1418
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة التزام المسلم بالوفاء بالعهد. 2- أعظم العهود العهد الذي بين الناس وربهم (ألم
أعهد إليكم يا بن آدم..). 3- الإسلام يوصي بإحترام العقود ويأمر بإنفاذ الشروط التي تتضمنها.
4- الوفاء بالدين من أهم الأمور التي حث عليها الشرع. 5- الحذر من الاستهانة بالدّيْن ،
وضرورة الصدق في نية الوفاء. 6- فقه الدّيْن/الحذر من الاستهانة بالتقسيط المريح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله :اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
إخوة الإيمان:-
يقول الله تعالى في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وبعهد الله أوفوا، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون [الأنعام:152]. وإذا أبرم المسلم عقداً فيجب أن يحترمه ، وإذا أعطى عهدا فيجب أن يلتزمه ، ومن الإيمان أن يكون المرء عند كلمته التي قالها ، ينتهي إليها كما ينتهي الماء عند شطآنه ، ويجب أن يعُرف المؤمن بين الناس بأن كلمته ميثاق غليظ ، لا خوف من نقضها ، ولا مطمع في اصطيادها ، والعهد لابد من الوفاء به، كما أن اليمين لا بد من البر بها إن لم تكن في معصية أو إثم.
والعهود التي يرتبط المسلم بها درجات ، فأعلاها مكانة ، وأقدسها ذمة ، العهد الأعظم بين العبد ورب العالمين، فإن الله خلق الإنسان بقدرته ، ورباه بنعمته ، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة وأن يعترف بها ، وألا تشردبه المغويات ، ، فيجهلها أو يجحدها.
ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم. ووفاء الإنسان بهذا العهد أساس كرامته في الدنيا وسعادته في الأخرى.
ومن الوفاء المحمود أن يذكر الرجل ماضيه الذاهب لينتفع به في حاضره ومستقبله ، فإن كان معسرا فأغناه الله، أو مريضا فشفاه الله، فليس يسوغ له أن ينسى فضل الله عليه فيفصل بين أمسه ويومه بُِسور غليظ ، ثم يزعم أنه ما كان قط فقيرا ولا مريضا ، ويبني على غروره بحاضره مسلكا كله فظاظة وجحود وغرور بماله وقوته ، وكم من جبار جاحد قصمه الله وكم من غني جاحد أفقره الله وأذله وقصص التاريخ شاهدة.
أيها الأخوة المسلمون:
الإسلام يوصي باحترام العقود ويأمر بإنفاذ الشروط التي تتضمنها ، وفي الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله: ((المسلمون عند شروطهم)).
إن انتشار الثقة في ميدان المعاملات أساسه افتراض الوفاء في أي عهد ، ويجب أن تكون الشروط متفقة مع حدود الشريعة وإلا فلا حرمة لها ، ولا يكلف المسلم بوفائها ، وقد تتابعت آيات القرآن تحضّ على الوفاء وتخوّف من الغدر: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً وقال تعالى: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون [النحل:91]. ثم بين الله عز وجل أن الغدر ينزع الثقة ويثير الفوضى ويمزق الأواصر ويرد الأقوياء ضعافا واهنين: ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم [النحل:92].
عباد الله :
إن الرجل قد يحل عقدا أبرمه ، ينتظر ربحا أوفر من عقد آخر، وقد تطرح الأمة معاهدة بينها وبين أخرى جريا وراء مصلحة أحظى لديها ، لكن الإسلام يكره أن تداس الفضائل في سوق المنفعة العاجلة ، ويكره أن تنطوي دخائل الناس على نيات مغشوشة ، ويوجب الوفاء على الفرد والجماعة حتى تصان العقود على الفقر والغنى، وعلى النصر والهزيمة ، لا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلاً إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون [النحل:95].
إخوة الإيمان:
من الشؤون التي اهتم الإسلام بها ونوّه بقيمة الوفاء فيها الديون، فسدادها من آكد الحقوق عند الله.
وقد قطع الإسلام وساوس الطمع التي تنتاب المدين وتغريه بالمطل أو إرجاء القضاء وأول ما شرعه الإسلام في هذا أن حرم الاستدانة إلا للحاجة القاهرة.
إن مشكلة الديون أسهرت عيون الكثيرين وشعّبت أفكار المدينين ، وهي حرية بأن نستجلي حقيقة الأمر وخطره فيها وأسباب النجاة ومسالك الظفر منها إن من المشاكل التي يعاني منها كثير من الناس تلك الديون التي أرهقت القلوب وأثقلت الكواهل وأشغلت الذمم وزرعت بذور الخلاف والشقاق بين الناس حتى شغلت بها المحاكم ودور القضاء ، فافترق بسببها الأخلاء والقرناء.
أيها المؤمنون:
الديَّن همّ في الليل وذل في النهار ، وقد عظم الشرع المطهر أمر الدين ولذلك تعوّذ منه النبي فكان يدعو في صلاته: ((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) وجعل الديَّن غير داخل في المغفرة ولو أدى المرء عبادات عظيمة.
عن أبي قتادة : قال رجل: ((يا رسول الله ، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر يكفر الله عني خطاياي؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم فلما أدبر ناداه فقال كيف قلت فأعاد قوله قال : نعم إلا الديْن كذلك قال جبريل)). رواه مسلم وفي رواية أخرى ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)) رواه مسلم.
إذاً فنفس المسلم معلقة بديْنه حتى يقضي عنه ولعظم ذلك: ((كان في أول الأمر إذا قدّم إليه ميت للصلاة عليه سأل هل عليه دين؟ فإن كان عليه دين لم يُصَِل عليه، وقال لأصحابه صلوا عليه وإن لم يكن عليه دين صلى عليه)). فاتقوا الله عباد الله وإياكم والدين فإنه من يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وإننا بنظرة إلى مجتمعاتنا نشاهد مع الأسف العجب في حال كثير من الناس تساهلا في الديون والقروض دون ضرورة ولا حاجة ، وإنما هي مظاهر جوفاء ، وغنى زائف وتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، فتجد الفقير يقترض الأموال الكثيرة ليركب مراكب الأغنياء ويلبس ثياب الأثرياء ، ويسكن مساكن العظماء ، وذمته تشكوا إلى الله عظم البلاء ، إسراف وتبذير ومفاخرة وخيلاء ، طاعة لرغبات النساء وأحلام السفهاء ، إنها معصية لرب السماء فإلى الله وحده المشتكى ونسأله رفع البلاء.
لقد استهان المسلمون بالديون فاقترضوها لشهوات الغنى في البطون والفروج ، واقترضوها من اليهود والنصارى ، بالربا الذي حرمه الله وبمؤسساته التي تعلق القروض الربوية الميسرة لكافة الشؤون الخاصة والعامة فكان من آثار ذلك أن رأينا محق الله لبركة الأموال، ورأينا النكبات الجائحة في الديار والأموال ولا يزال الوفاء بتلك القروض مستعصيا لأنها بنيت على حرام في حرام.
إخوة الدين والعقيدة:
إن حديثنا عن الديْن لا يعني حرمته فالاستدانة جائزة إذا دعت إليه حاجة ملحة وضرورة كبيرة إلا أنه يجب على المستدين أن يكون دينه حلال المعاملة والشروط، وعليه أن يحسن القصد والنية بالسداد حيث أمر رسول الله بذلك: ((من أخذ أموال الناس وهو يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) رواه البخاري.
فأحسن النية يا عبد الله ليكون الله ظهرا معينا واعزم على رد القليل والكثير، وأدوا يا عباد الله الأمانات إلى أهلها كما يأمركم بذلك الله جل وعز ، فمن استدان دينا فليرده إلى صاحبه دون جحد أو مماطلة فإن مطل الغنى ظلم ، وليحسن الإنسان إلى من أقرضه فإن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه قال: ((خير الناس أحسنهم قضاء)) فبادروا إلى قضاء الناس حقوقهم قبل فوات الأوان والارتهان بالأعمال.
إخوة الإيمان:
إن من واجبات الدين وخصال المتقين وخلال الراغبين في فضل رب العالمين، إنظار المعسرين والصبر على الفقراء المدينين. يقول جل وعلا: وإن كان ذو عُسْرة فَِنظرة إلى ميسرة [البقرة:280]. ويقول : ((من أنظر معسرا أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة)) وفي رواية: ((أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)).
فاتقوا الله والتزموا أمره واجتنبوا نهيه فإنه من يتق الله يجعل له من أمره يسرا ، وإن الله عز وجل يحب الأوفياء من عباده ، وما أهلك القرى الظالمة إلا بعد أن قال في أهلها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين.
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له.... اتقوا الله عباد الله...
إن من علامات جهل الناس بتنظيم حياتهم ودنياهم تلك الديون التي نراها تضرب أطنابها في بيوت الناس ومعاملاتهم وشؤون حياتهم، وتنتشر بصورة عظيمة وتساهل كبير في الإقدام عليها ومن ثم عدم سدادها، ومن أصناف تلك الديون المنتشرة والتي يعلن عنها بوسائل مغرية ودعايات جذابة ما يسمى بالتقسيط المريح للسيارات والأراضي وغيرها، حيث يسقط أولئك المساكين الذين لا يدركون مصالحهم في هاوية الديْن ثم لا يلبث الواحد منهم أن يرى نفسه متورطا بمبالغ مترتبة السداد فلا يدرك معها راحة ولا عزة وإنما يجني التعب والمذلة وكان المسكين يبغي من وراء ذلك الفخر والمساعدة فما حصل مبتغاه.
وأما الصورة الأخرى المناقضة فهي تعامل الناس مع تلك القروض الميسرة التي تدفع للناس من خلال صندوق التنمية العقاري الذي وفرته الدولة لمساعدة الراغبين ببناء مساكنهم ثم ترى بعض من المتساهلين يهملون عهدهم وعقدهم مع الصندوق بإهمال السداد السنوي المخفض.
وإن إيفاء العقد وتأدية الأمانة صفة عباد الرحمن القائمين بمسؤولياتهم على وجهها ويراعون الودائع والعقود من جهة الحق ومن جهة الخلق.
وإن عدم سداد تلك الأقساط للصندوق معصية وضرر على صاحبها بتراكمها، وكذلك الضرر عام بما يترتب إلى عدم وفائه من عدم استفادة غيره من المتقدمين من تلك القروض وتعطيلهم.
فعلى المسلم أن يتق الله في ديونه وأن يتجنبها ما أمكنه ذلك وأن يتوكل على الله فإن من يتوكل على الله يكفيه روى علي بن أبي طالب أنه قال لمن عجز عن دينه: (( ألا أعلمك كلمات علمنيها رسول الله لو كان عليكم مثل جبل دينا أداه الله عنك قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغني بفضلك عمن سواك)) رواه الترمذي وصححه الحاكم.
اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، وكن لليتامى والأرامل والمحتاجين ، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك.
(1/499)
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاماتها
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
13/11/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
من علامات محبته صلى الله عليه وسلم والصدق في ذلك معاداة وبغض من يبغضه ويخالف
سنته – نماذج من محبة الصحابة الصادقة له صلى الله عليه وسلم : ( عبد الله بن عبد الله بن
أبي ابن سلول مع أبيه , أبو عبيدة مع أبيه , الفاروق وخالد العاص , مصعب بن عمير مع
أخيه , أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان حال كفره – أعداء سنته صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنواع
وحكم كل نوع : 1- من جاهر بإنكار السنة 2- عدم المجاهرة بذلك وإنما يشكك فيها
3- المبتدعة – معنى البدعة – وجوب التحاكم إلى سنته صلى الله عليه وسلم وحكم من رفض
ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمن أهم العلامات على صدق محبتك لسيدنا رسول الله أن تعادي من يعاديه وتبغض من يبغضه وأن تجانب من يعادي سنته ويخالفها ومن يبتدع في دينه وأن ترفض كل أمر يخالف شريعته، إن من أحب شخصًا حبًا صادقًا فإنه يحب محبوباته ويبغض مبغوضاته.
فكيف إذا كان هذا المحبوب هو أكرم الأشخاص وأولاهم بالمحبة وهو سيدنا رسول الله فقد كان سيدنا رسول الله يحب زوجه أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها ومما زاد في محبته إياها أنها آزرته وعاونته وآمنت به وكانت خير زوج له وقفت معه أيام محنته ولذلك كان بعد وفاتها يسأل عن صديقاتها فيتعاهدهن بالهدايا كما روت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها [1].
هكذا يكون الحب الصادق، يجل كل محبوبات الحبيب محبوبات المحب. ولكن لا يتصور أبدًا أن يكون الحب صادقًا ما لم يك عدو حبيبك عدوًا لك أتحبه وتحب عدوه في آن واحد، قل لي بربك كيف يجتمعان.
الحب الصادق يجعل عدو حبيبك عدوًا لك ولذلك لمّا أحب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لمَّا أحبوا سيدنا رسول الله قاتلوا آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وأقربائهم من أجل مرضاته وحبًا له.
اسمعوا هذه النماذج المشرقة من المحبة الحقيقة الصادقة التي كان يكنها الصحابة لرسول الله حتى قدموه على جميع أعزائهم وأحبابهم. قدموا حب المصطفى على حبهم لأي أحد كائنًا من كان.
في أعقاب غزوة بني المصطلق عند إياب سيدنا رسول الله من الغزوة إلى هذه المدينة النبوية في الطريق قال عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين قال قولته النفاقية الخبيثة المنتنة لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يريد بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله ، وسمع زيد بن أرقم هذه المقالة النفاقية المنتنة فأخبر بها رسول الله فغضب سيدنا رسول الله وآلمته هذه المقالة الخبيثة فلما علم عبد الله بن أبي ابن سلول ولد هذا المنافق وكان الأب منافقًا والابن مؤمنًا لمّا سمع الابن بذلك جاء إلى رسول الله يعتذر عما قال أبوه، وقال يا رسول الله إن شئت أتيتك برأسه، يعني أباه فدعا له رسول الله بالخير ونهاه عن ذلك نهاه عن قتل أبيه فامتشق عبد الله الابن المؤمن سيفه وسبق الركب فوقف على مدخل هذه المدينة النبوية حتى إذا أقبل أبوه تصدى له بالسيف وقال له والله لن تدخل المدينة حتى يأذن لك رسول الله لتعلم أنه هو الأعز وأنك أنت الأذل. فلما بلغ رسول الله هذا الموقف أرسل إلى ذلك الابن المؤمن يقول له: ((إني أذنت لأبيك فكف عنه)) فحينئذ خلى ذلك الابن المؤمن بين أبيه المنافق وبين المدينة فدخلها [2].
هكذا يكون الحب الصادق لسيدنا رسول الله.
بل أعجب من هذا وأعظم منه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أمين هذه الأمة كما سماه المصطفى قتل أباه يوم بدر وعمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه قتل خاله العاص. ومصعب بن عمير رضي الله عنه قتل أخاه. قتلوه لأنهم جاءوا يحاربون رسول الله ويعادونه ويباغضونه فقتلوهم دون أن يبالوا بصلة القرابة التي تربط بينهم، تلك الصلة انقطعت ببغضهم لرسول الله. بغض أولئك المقتولين لسيدنا رسول الله قطعت أوثق الصلات بينهم وبين أولئك المؤمنين الذين ضربوا أروع الأمثلة للحب الصادق للنبي المصطفى.
وهذا أبو سفيان بن حرب قبل إسلامه قدم هذه المدينة النبوية الطيبة يفاوض رسول الله حتى إذا دخل على ابنته أم حبيبة زوج رسول الله وذهب أبو سفيان - وهو مشرك قبل إسلامه- ذهب ليجلس على فراش رسول الله فطوت ابنته الفراش عنه، فقال: أبو سفيان يا بنية أرغبت بالفراش عني أم رغبتِ بي عن الفراش؟ فقال أم حبيبة رضي الله عنها: بل أربأ بفراش رسول الله أن يطأه مشرك.
نعم هذا هو الحب الحقيقي الصادق حتى ولو كان أبوها فإنه مشرك ومحارب لرسول الله في ذلك الحين وهى تطهر فراش رسول الله أن يجلس عليه.
هكذا يفعل الحب الصادق الذي يغمر شغاف القلب فيصبغه بصبغته ويسيطر عليه حتى يكون كل حب وكل بغض في هذا القلب تبعًا لهذا الحب الصادق.
أما أن تحب وقلبك يميل إلى عدوه وبغيضه أما أن تدعي محبته وقلبك يميل إلى عدوه وبغيضه ومخالفه ومحاربه فذلك والله هو الكذب الصراح. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم [المجادلة:22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (3816، 3818) ، صحيح مسلم (2435).
[2] سنن الترمذي (3315) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: أعداء رسول الله اليوم هم أعداء سنته وخصوم شريعته. أعداء سنته الذين ناصبوها العداوة وحاربوها بالبدعة، وخصوم شريعته الذين ناصبوها العداوة وحاربوها بالقوانين البشرية الوضعية، أما أعداء سنة المصطفى فإنهم يتصورون بصور ثلاث ويتشكلون بأشكال ثلاثة:-
أولهم: من جاهر بإنكاره سنة النبي المصطفى ، أنكرها جملة وتفصيلاً وقال: يكفينا القرآن. هذا من أخبث أعداء رسول الله هو ومن أنكر نبوة المصطفى سواء، وقد حذر النبي من ذلك فقال: ((لا ألقين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول لا نجد هذا في كتاب الله)) [1].
وثانيهم: ذلك الذي لا يجاهر بإنكاره للسنة النبوية من حيث المبدأ، لا ينكرها جملة وتفصيلاً لا يظهر ذلك لكنه يشكك فيها من جهة ثبوتها ويعارض بينها وبين القرآن، يزعم أنها تضارب القرآن وتعارضه، هذا أيضًا من أخبث أعداء المصطفى وإن لم يظهر جحوده وإنكاره للسنة النبوية إجمالاً وتفصيلاً فإن تشكيكه في ثبوتها هو في مثابة الإنكار والهدم لسنة النبي المصطفى ، وأعنى الذي يشكك في ثبوت السنة النبوية من حيث المبدأ وليس في حديث أو حديثين أو بعض الأحاديث عن فقه أو عن علم وإنما ذلك الذي يطعن في ثبوت السنة من حيث المبدأ، هذا من أخبث أعداء المصطفى فإن الله عز وجل تكفل بحفظ القرآن الكريم، ومن لوازم حفظ هذا القرآن حفظ سنة النبي التي هي شارحة له، شارحة للقرآن ومبينة له. فمن لوازم حفظ القرآن الكريم حفظ السنة النبوية.
وثالثهم: أولئك الذين يصادمون السنة بالبدعة، أولئك الذين يعارضون سنن المصطفى بالبدع ومن ابتدع شيئًا في الدين فقد اتهم سيدنا رسول الله بأنه لم يبلغ جميع رسالات ربه، سواء شعر بذلك أم لم يشعر، لأن الابتداع في الدين معناه أن يعتقد في أمر من الأمور أنه دين تتعبد به ربنا عز وجل وتتقرب به إلينا فإذا اعتقدت في أي أمر من الأمور أو فعل من الأفعال أو قول من الأقوال أنه دين وعبادة تتقرب به إلى الله عز وجل دون أن يثبت ذلك عن النبي المصطفى فأنت بلسان حالك وإن لم يكن بلسان مقالك كأنك اتهمت الحبيب المصطفى بأنه لم يبلغ جميع رسالات ربه. ورسول الله قد بلغ أمر ربه أكمل البلاغ، وأدى الرسالة أتم الأداء لم يترك صغيرة ولا كبيرة من أمور الدين، ولا من أمور العبادات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، إلا بينها لأمته فأكمل البلاغ وأدى الأمانة وشهد له ربه بذلك حين أنزل عليه قوله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا [المائدة:3].
فهذه الآية إخبار من الرب عز وجل بأن الرسول قد أكمل البلاغ وأتم الرسالة وأن الدين قد كمل وأن النعمة قد تمت فالحمد لله رب العالمين، فإياك يا محب رسول الله إياك والبدعة احذر منها وجانب أهلها فإن أهل البدع أعداء رسول الله وخصماؤه.
أما أولئك الذين حاربوا شريعة سيدنا محمد ناصبوها العداء وحاربوها بالقوانين الوضعية وبذلوا في ذلك كل الحيل والوسائل من سابق تصميم وإرادة هؤلاء لا أدري ما هو حظهم من الإسلام وقد أنزل الله عز وجل في رجل رفض حكمًا واحدًا من أحكام رسول الله حكمًا واحدًا فقط عانده ذلك الرجل ورفضه من أحكام رسول الله فأنزل فيه قوله: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا [النساء:65].
فذلك الرجل الذي رفض حكمًا واحدًا في مسألة واحدة من أحكام سيدنا رسول الله نفى الرب عز وجل عنه الإيمان إلا أن ينقاد ويرضى ويسلم لرسول الله فما هو من شأنه أن يرفض كل ما جاء عن رسول الله من شرائع وأحكام جملة وتفصيلاً ما أبعده عن الإيمان.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وإن كنتم قلة على ذلك.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تُدان، ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند أحمد (2/483)، سنن أبي داود (4605) ، سنن الترمذي (2663) وقال : حسن صحيح ، سنن ابن ماجة (13012).
(1/500)
الإحسان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, المساجد
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
16/6/1418
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الإحسان. 2- مجالات الإحسان. 3- دور المسجد في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، الحديث النبوي المنبعث من مشكاة النبوة يحمل النفس المؤمنة على أن تعرف أسراره وتستضيء بأنواره وتستهدي بهديه...
روى عمر الفاروق قال: ( بينما نحن جلوس عند رسول الله ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا ُيرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام. فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)). قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال : فأخبرني عن الإيمان. قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)). قال: صدقت، فأخبرني عن الإحسان. قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). قال : فأخبرني عن الساعة. قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)). قال: فأخبرني عن أماراتها. قال : ((أن تلد الأَمَة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاء الشاء يتطاولون في البنيان)) ثم انطلق، فلبثت مليًا، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل قال: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم)) ) رواه مسلم [1].
إخوة الإيمان:
تنشئة النفس المؤمنة وتربيتها على البر والتقوى، والعفة والأمانة، والخوف والمراقبة هي وحدها الطريقة العملية الممكنة لمعالجة الشر والانحراف لدى الفرد والمجتمع المسلم.
يشب الطفل على الخلق الكريم والنهج القويم إذا ما عُهِدَ بالتوجيه والتقويم، وينشأ شريرًا خطرًا على نفسه وعلى المجتمع إذا أهمل أمره وترك، وأعظم ما ينشأ الإنسان ويربى عليه هو مراقبة الله والخوف منه، وذلك هو الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، إنه تعبير عجيب يحمل في اختصاره حقيقة هائلة وخلة مذهلة.
عباد الله :
الإسلام دين إحسان وإكرام وتكاتف وترابط وتعاون على البر والتقوى، بل وتجاوز وتسامح ما لم تنتهك حرمات الله، وقد أمر الله بالإحسان في غير ما آية من كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله : يقول جل وعلا: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195] ويقول: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77] ، ويقول تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ [النحل: 90].
وروى مسلم عن رسول الله أنه قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) [2] ويرغب جل وعلا في الإحسان ويبين آثاره وجزاءه وعظم مردوده في أهله في الآجل والعاجل، لتتسارع النفوس الخيرة إليه، وتتسابق في طلب ما وعد الله به أهله في الآخرة، من درجات عالية ولذة دائمة ونعيم سرمدي، مع حفظ الله لهم ونصره على من ناوأهم أو خالفهم، لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ?لْحُسْنَى? وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [يونس:26]. وقال: إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].
الإحسان ـ عباد الله ـ قاعدة عظيمة يقيم عليها الإسلام بناءه، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قاعدة يقيم عليها الإسلام نظمه كلها وتشريعاته وتوجيهاته، العابد في عبادته من صلاة وصيام وصدقة ونسك، بل القضاة في قضائهم، والتُجار في اقتصادهم، والساسة في سياستهم، والآباء والأولياء في أسرهم، فنظام المجتمعات بأسرها والحياة كلها، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، تعبد الله بكل جارحة وكل خلجة بالظاهر والباطن بالسر والعلن، تعبد الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
والمسلم إذا عبد الله في عمله كأنه يراه، فإنه يستحضر قرب الله منه، ويوجب له الخشية والخوف منه والهيبة والتعظيم له، وذلك أفضل الإيمان، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ((أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت)) رواه الطبراني [3].
أيها المسلمون:
الإحسان الذي أمر الله به، هو ترك المنهيات خوف عقاب الله، وفعل ما يستطاع من المأمورات رجاء ثواب الله، خوف ورجاء.
مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان الذي أمر الله به إحسان المسلم إلى نفسه بتزكية النفس بطاعة الله، وتصفية وتنقية عقيدتها من شوائب الشرك والبدع والمحدثات، بل وحفظها وحمايتها مما قد يعرضها لسخط الله وأليم عقابه.
الإحسان الذي أمر الله به الإحسان إلى عباد الله كافة، سيما ذوي الضعف والفاقة والمسكنة والحاجة واليتم من المسلمين وفي مقدمة ذلك الإحسان إلى الوالدين وذوي القربى: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الاسراء:23، 24]. ويقول جل وعلا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?للَّهَ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ?لْقُرْبَى? وَالْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].
من الإحسان: الإحسان إلى كل ذي كبد رطبة، من حيوان وطير وغير ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: ((دخلت النار امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض)) رواه مسلم [4] ، وغفر الله لبغيٍّ من بني إسرائيل؛ لأنها سقت كلبا كاد يقتله العطش، كما قاله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم [5].
وإن من أعظم آثار الإحسان نفعا ،الإحسان إلى من ولاَّك الله أمره بسياستهم بكتاب الله وسنة رسوله ، مع البعد عن كل ما فيه حرج وعنت وإيغار للصدور وإهمال وظلم، وبهذا الإحسان يتحقق الخير والترابط والثناء والمحبة والولاء.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
إن الإحسان كما فسره ينبغي أن يتجلى في الأمة بعامة، وفي كل شأن من شؤونها.
فالعابد في عبادته لله وصلاته في محرابه، يلتزم بالإحسان، فلا يعبد الله في العلن ويعصيه في السر.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فَاسْتَحْي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
والعالم المسلم هو أولى الناس بالإحسان، وأقرب الناس إلى الإحسان، وأكثر الناس دعوة إليه، فالعالم الرباني هو من تحقق فيه ذلك، فجمّل علمه بالعمل به، وطلب علمه رغبة بثواب الله ودرجاته العُلاَ والقرب منه، والزلفى لديه، قال سفيان الثوري رحمه الله : " إنما فُضِّل العلم لأنه يُتقى به الله وإلا كان كسائر الأشياء ".
وهكذا إحسان التاجر المسلم في تجارته واقتصاده، بالبعد عن المعاملات المحرمة وعن الغش والخديعة، ونشر السماحة والصدق.
الإحسان هو التزام الموظف في وظيفته بوقتها، وبحسن الاستقبال، وأداء الواجب على أكمل وجه.
الإحسان هو عدل الحاكم في حكومته، ونزاهة القاضي في محكمته، وهو البعد عن الظلم والجور.
الإحسان هو معاملة الناس بالحسنى والالتزام بالخلق الفاضل.
الإحسان هو أن يعاشر الزوجان بعضهما بالمعروف، ويحملها الإحسان على أن يصون كل منهما عرض الآخر في غيبته.
الإحسان تربية يغرسها الإسلام في أفراده ويوجهنا إلى غرسها فيمن حولنا ليبني كل واحد منهم حياته بنفسه، فيقوم بما أوجبه الله عليه ويترك ما نهاه الله عنه، غير معتمد على مدح الناس لعبادته ولطاعته أو على ذمهم عليه لإفراطه ومعصيته.
فالإحسان هو التربية الذاتية.
إن الإحسان كتبه الله عز وجل في كل شيء، وجميع العلوم والمعارف ترجع إليه وتدخل تحته، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، ولْيُرحْ ذبيحته)) رواه مسلم [6].
فاتقوا الله أيها المسلمون وراقبوا ربكم، وتخلقوا بالإحسان تفلحوا، وتفوزوا بوعد الله لكم، أحسنوا في نفوسكم وفي أمتكم وفيمن تحت أيديكم وفيمن ائتمنتم عليه، إحسانًا متوجهًا به إلى الله سبحانه ومتبعًا فيه رسول الله ومبتعدًا فيه وبه عما يشوبُه أو يبطله من المن والأذى أو السمعة والرياء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ ءاخِذِينَ مَا ءاتَـ?هُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:15-16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
[1] صحيح مسلم ح (8) ، وأخرجه أيضاً البخاري مختصراً ح (50).
[2] صحيح مسلم ح (1955).
[3] لم أجده في المطبوع ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/60) : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، وقال : تفرّد به عثمان بن كثير. قلت: ولم أرَ من ذكره بثقة ولا جرح)) ا هـ.
[4] صحيح مسلم ح (904) ، وأخرجه أيضاً البخاري ح (3482).
[5] صحيح مسلم ح (2245) ، وأخرجه أيضاً البخاري ح (3467).
[6] تقدم تخريجه قريباً.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون، المساجد هي بيوت الله عز وجل التي يرتادها الناس للصلاة خمس مرات في اليوم والليلة مقبلين على الله، رغبة في ثوابه وخوفًا من عقابه، ولذلك يتوجب على أئمتها العناية والحرص على فائدة الناس فيها، وذلك من خلال إقامة الدروس المفيدة والنافعة فيها، حيث وردنا تعميم وزارة الأوقاف وإدارة المساجد حاثًا أئمة المساجد على إقامة الدروس النافعة ،وضرورة دعوة أهل العلم وطلبته لتذكير الناس ونفعهم، ولذلك نوصى أئمة المساجد بالاستمرار على ما تميزت به هذه البلاد ولله الحمد من عادة حميدة بالحديث بعد صلاة العصر وقبل العشاء الآخر بقراءة بعض الكتب المفيدة في الحديث النبوي وتفسير آيات الله عز وجل وكتب العقيدة والفقه المبسطة والسيرة وأشباهها من الكتب المفيدة، وأن نحافظ على ما يساعد الناس ويقوي دينهم في نفوسهم عبر هذه البرامج والدروس الدعوية المقامة في المساجد.
نسأل الله جل وعلا أن يوفق المسلمين لما فيه نفعهم وخيرهم.
وصلوا وسلموا يا عباد الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/501)
العلماء ودورهم في الأمة
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
العلم الشرعي, تراجم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
27/1/1420
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلماء وأثرهم الطيب على أهل الأرض قاطبة. 2- مصيبة الأمة بفقد علمائها وذهاب
العلم. 3- موت ابن باز والخطب العظيم. 4- حاجة الأمة للعلماء فوق كل حاجة. 5- ضرورة
المبادرة بطلب العلم قبل ذهاب أهله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا لله تعالى وتوبوا إليه. منذ أن أكرم الله هذه الأمة ببعثة نبيه محمد وأفواج الدعاة والمصلحين يتعاقبون فيها، علماء مخلصون، ومربون ربانيون من خلفاء رسول الله الراشدين، وورثته من العلماء العاملين داعين إلى الحق، حاكمين بالقسط، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر.
إن العناية بسِيَرهم، والتذكير بهم وهم مصابيح الهدى التي أضاءت الطريق، بل حولت مجرى التاريخ في ديارها، وأورثت تحولات فكرية كبرى في عقولها إن ذلك مما يجب أن تنصرف إليه الهم، ويعتني به الموجهون، ويذكر به المذكرون.
أيها المسلمون:
يقول الله جل وعلا: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات إن ممن رفعهم الله أهل العلم العاملين الذين هم أركان الشريعة وأمناء الله في خلقه فهم ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء وبهم تحفظ الملة وتقوم الشريعة، ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الضالين، فلله درهم وعليه أجرهم ما أحسن أثرهم وأجمل ذكرهم، رفعهم الله بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام والحق من الباطل، حياتهم غنيمة وموتهم مصيبة، يََُّذكرون الغافل، ويُعَّلمون الجاهل، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، هم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.
أيها المؤمنون:
إن الله تعالى قد فرض لأهل العلم الراسخين والأئمة المرضيين حقوقا واجبة وفروضا لازمة من أهمها محبتهم وموالاتهم وذلك أنه يجب على المؤمن محبة المؤمنين وموالاتهم فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض قال ابن تيمية رحمه الله: " فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله، موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء " أ.هـ كلامه رحمه الله.
فحب أهل العلم والدين قربة وطاعة فإذا رأيتم الرجل يذكر أهل العلم بالجميل ويحيَّهم ويقتدي بهم فأمَّلوا فيه الخير، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ومن حقوق أهل العلم : احترامهم وتوقيرهم وإجلالهم لأنه من إجلال الله تعالى وتوقيره، ومن حقوقهم: الذب عن أعراضهم وعدم الطعن فيهم فإن الطعن في العلماء العاملين والأئمة المهديين طعن في الشريعة الدين وإيذاء لأولياء الله الصالحين، ومجلبة لغضب الله رب العاملين الذي قال: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)) [رواه البخاري]
ومن حقوق علماء الشريعة حفظة الملة: طاعتهم فيما يأمرون من الدين فإن الله تعالى قد أمر بطاعتهم في محكم التنزيل يقول جل وعلا يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وأولوا الأمر هم العلماء بالشرع والأمراء في الخلق فالعلماء يطاعون فيما يرجع إليهم من العلم والدين، ومن ذلك الرجوع إليهم فيما يشكل على الناس من أمر الدين، قال جل وعلا: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [الأنبياء:7].
فإلى العلماء الرجوع عند التباس الأمر وخفائه، فما حكموا به فهو المقبول المسموع إذ أن كتاب الله عدتهم والسنة حجتهم ورسول الله قدوتهم.
إن من حقوق فقهاء الإسلام وعلمائه أن يؤخذ بالصحيح من أقوالهم فلا يتبع أحد من العلماء إلا حيث كان متوجها نحو الشريعة قائما بها حاكما بأحكامها جملة وتفصيلا، فإذا خالف ذلك في شيء من أقواله وآرائه لم يؤخذ به فإن من أخذ بشواذ الأقوال ونوادر العلماء اجتمع فيها الشر كله.
أيها الأخوة المؤمنون:
هؤلاء هم العلماء وتلك بعض حقوقهم على أفراد الأمة فهل قاموا بها وهل عظموا في نفوسهم؟!
فإن نفع العالم يزداد أثره ويعظم عندما يحيط به الناس ويجتمعون حوله وينتفعون بعلمه، والعالم المحبب إلى الناس هو الذي لا ينتبذ مكانا قصيا ولا ينزوي في الزوايا ويتكأ في التكايا، العالم الحق المحبب إلى الناس هو من لا يعيش في برج عاجي مرتفع عن الناس وقضاياهم، بل هو رجل العامة المحبب إليهم المدافع عن قضاياهم، يخالطهم ويسعى في قضاء حوائجهم يسمع شكاياتهم ويصبر على التعامل معهم على كافة طبقاتهم وكثرة حاجاتهم، ينزل إلى عمق المجتمع فيعيش مع كل أفراده يسمع من كل ويسعى لكل.
عباد الله إن تلك المعاني والصفات رأيناها وعاصرناها متحققة في أحد علماء هذا البلد، إنه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي انتقل إلى رحمة الله، وأخذته يد المنية بتقدير الله عز وجل وحكمته سبحانه وتعالى، إنه عالم الأمة وفقيدها الذي كان حصنا ودرعا للإسلام، بذل حياته وقبيل مماته رحمه الله في خدمة الإسلام والمسلمين ونشر الدعوة والكفاح عنها وخدمة أهلها، أصيب بالمرض منذ فترة لكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار ببذل جهوده وتقديم خدماته في نصرة دين الله وخدمة عباد الله.
أيها المؤمنون:
عندما نتحدث عن فقيد الأمة ابن باز نتحدث عن عالم حمل هموم المسلمين حيناً من الدهر يقارب قرنا من الزمان.
نتحدث عن عالم حمى الله به العقيدة من أن تسمها أقلام المبتدعة وسهام العلمنة وكيد الزندقة.
نتحدث عن عالم لم يجد اليأس إلى قلبه سبيلا ولا الإحباط إلى منهاجه طريقا.
نتحدث عن عالم كان بفتاويه وعلمه عالم الجزيرة والعالم الإسلامي كله، نتحدث عن عالم عابد عرف في الحوالك والنوازل كيف يرفع راية العلم وأعلام المروءة.
نتحدث عن عالم انعكست في مسيرته سيرة السلف بدون ادعاء، وهموم الخلف من غير يأس أو تسرع.
نتحدث عن عالم كان كالبدر في الليلة الظلماء إذا ادلهمت الخطوب والملمات لجأ إليه الناس يسألون علمه ويستفيدون من إيمانه نتحدث عن عالم خاطب بالنصيحة الحاكم والمحكوم، اقترب من الحكام ناصحا ومرشدا، ودنا من المحكومين معلما ومربيا يسعى للفقراء ليسد حاجتهم من المال ولو كان على حساب حاجته، ويذكر الأغنياء بحق الله تعالى في المال وتبصيرهم بحاجات المسلمين في كل مكان، فهو وسائل للخير في كل اتجاه حين نتحدث عن ابن باز رحمه الله وأسكنه فسيح جناته نتحدث عن عالم كان ثقة الشعب بكل طبقاته، ومحط أنظار المسلمين في العالم مهما تنوعت جهاته، يعيش في الرياض أو مكة وقلبه في كل جزء من أجزاء العالم الإسلامي، فترى المسلمين من كل حدب وصوب يرجعون إليه ويَصْدُرون عن رأيه بل ويصلح بينهم، ربما رأيت أناسا مختلفين فيما بينهم وهم في بلاد بعيدة أصلح بينهم بتوفيق الله ابن باز.
إننا نتحدث عن عالم آتاه الله بسطة في العلم والورع، وتتلمس من خلال حديثه ونصحه أو معاشرته حسن نيته وحرصه على الأمة وهذا الهم للدين ونصرته الذي يجول في صدره، وترى بذله لوقته في خدمة دين الله عز وجل حتى تتساءل أين وقت راحته، لذلك فما أن يذكر اسمه حتى شق الآذان بسماعه وتهش القلوب لذكره، بل بات اسمه رحمه الله ينتزع احترام الجميع حتى الخصوم.
أيها المسلمون:
إن هناك معان في حياة سماحة الشيخ يجب أن نتذكرها وأن نتمثلها إذا تحدثنا عن ابن باز رحمه الله، ويجب أن تبقى تلك المعاني والصفات هي النبراس والمقياس لحديثنا عن أهل العلم، نخن نرى في ابن باز رحمه الله طلبه للعلم الذي نشأ عليه وتربى عليه منذ صغره بدءا بحفظ القرآن الكريم وعلومه إلى حفظ السنة النبوية ورجال الحديث وغير ذلك من العلوم التي تراه تمكن منها كل ذلك أهَّله لمنصب الفتيا وبرز في تلك العلوم وبزّ أقرانه من خلال اجتهاده وإخلاصه فيها رحمه الله.
ومن المعاني التي نراها في حياة ابن باز رحمه الله: ورعه وتقواه وما تميز به من خلالها، ومن عاصره وعايشه عرف فيه ذلك، غير أن من المعاني المهمة في حياة سماحة الشيخ ابن باز حسن خلقه الذي تكلم عنه القاصي والداني وكسب به العدو قبل الصديق بل إنه من أعظم ميزاته التي تميز بها رحمه الله فهو بسماحته وحلمه وبعيد أناته وتواضعه يمثل لك عمليا توجيهات الإسلام في حسن الخلق ترى الناس متكبكبين عليه وحوله أينما وجد، وإنه ليصغي لكل منم في إقبال يخيل إليه أنه المختص برعايته، وأما كرمه فهي الطبيعة التي لا يملك لها رحمه الله تغييرا ولا تعديلا فمائدته المفتوحة دوما يلتقي عليها الصغير والكبير والغريب والقريب، إنها بعض من صفاته رحمه الله ومن عاشره إخوتي أو مر عليه عرف أكثر من ذلك في طبعه وتواضعه وحسن استقباله رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وإن من المعاني المهمة في حياة ابن باز رحمه الله أنك ترى جهده الدائم وعمله الدؤوب في الدعوة إلى دين الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي سبيل ذلك يبذل وقته وماله ويستعين بإخوانه من أجل ذلك، وله شجاعة في الحق يقصر عنها كثير من الناس، فهذا الرجل السهل السمح الحليم يحب الفقراء وسرعان ما ينقلب أسدا لا يرده عن إقدامه شيء إذا علم بظلم يقع على أحد من المسلمين، أو عدوان على شريعة الله، حتى في أوان مرضه كان يسعى كما في سائر حياته لمدافعة الظلم والمنكرات التي يعلمها رحمه الله، وترى همته عالية في بذل جاهه وعلمه لنصرة دين الله والمظلومين من عباد الله.
ولو قلبت مواقفه في الحياة لرأيت شجاعته في الحق واضحة أمامك وأكبر دليل على ذلك نصرة الحق وكتابته لبعض طغاة حكام المسلمين حين أمروا بإعدام علماء الإسلام ومنهم سيد قطب رحمه الله وغير ذلك من المواقف المدافعة عن الإسلام والمسلمين في حياته رحمه الله والتي كان يرى لها أهمية يتخلى من أجلها عن كل واجباته.
عباد الله بعد كل ذلك وغيره فليس بغريب إذن أن نرى كيف اجتمعت القلوب على محبته حتى أن من لم يعاشره ويعرفه يبكي َفْقده، فما بالك بمن عاشره ورآه وإن محبته تلك والبكاء لفقده هو من محبة أهل العلم ومن الولاء لهم، لأنهم أهل الله وخاصته، أعطاهم جل وعلا شرفا وفضلا وجلالة ونبلا فقال جل من قائل عليم: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما ًبالقسط [آل عمران:18]. إن احترام العلماء وتوقيرهم هو إجلال لله تعالى فنسأل الله أن يتغمد الفقيد برحمته ويسكنه فسيح جناته.
بكينا وفاء لا مرئ قل أن يرى له في الدعاة العاملين نظير
فخلوا ملامي إن ألح بي البكا فإن فراق الصالحين عسير
قال : ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له طريق إلى الجنة، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) بارك الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده.. اتقوا الله
أيها الأخوة:
اعملوا أن حاجتكم إلى العلماء فوق كل حاجة، فهم والله مصابيح الدجى وعلامات الهدى ، فلولاهم كانت ظلاما بأهلها، ولكن هم فيها بدور وأنجم، فالعلماء في الناس كالشمس للدنيا والعافية في الناس فما لهم من خلف ولا عنهم من عوض، فالناس لا يعرفون كيف يعبد الله إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحير الناس واندرس العلم بموتهم وظهر الجهل والنفاق في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء [أي بوفاتهم]، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوساء جهالا فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) ، قال؟: خراب الأرض بموت علماءها وفقهائها وأهل الخير منها. وقال مجاهد: هو موت العلماء.
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى َيمُتْ عالم منها يَمُتْ طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
إن الدنيا بغير الرجال الأفذاذ همود وجمود، وإذا أقفرت الديار من الرجال فهي إلى الوراء تتقهقر، ومن الوجوه تتلاشى، وإذا نامت الأمة شق إيقاظها وعسر بعثها إلا بعد أجيال وأجيال.
فرحم الله عالم الأمة ومفتيها ونسأل الله جل وعلا أن يأجرنا في مصيبتنا وأن يخلفنا خيرا منها وإن أملنا بالله عظيم في أن يهيئ لهذه الأمة عالما ربانيا يقودها إلى الحق والخير، وأن يبارك بمن بقي من علماء الإسلام ودعاته، وأن يطيل أعمارهم ويسدد خطاهم ويكفيهم كل الشرور وأن يجعلهم ناصرين للإسلام وقضاياه آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر إنه سميع مجيب. وإن موت أهل العلم وفقدهم - شباب الإسلام - يعطينا عظة وعبرة وتوجيها ودعوة إلى أن نبادر بأخذ العلم عن أهله قبل ذهابه، فإن ذهابه بذهاب حملته فأقبلوا أيها المؤمنون على العلوم النافعة، خذوا العلم عن الأكابر واجتهدوا في ضبطه وحفظه ووفروا أوقاتكم عليه واصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون، وقبل ذلك وبعده اجعلوا من علمكم دافعا لكم إلى العمل بهذا العلم والإخلاص فيه لله تعالى.
أيها الأخوة المؤمنون: إن طلب العلم وتحصيله وأخذه من أهله من أفضل القربات وأجل الطاعات، سيما في وقت فشا فيه الجهل بين الناس، وعظمت فيه الحاجة إلى العلماء الربانيين الذين يبلغون رسالات الله وشرائعه، فإذا قصرت منزلة أحدكم عن تحمل هذه الأمانة العظيمة فلا أقل من مجالسة أهل العلم والإفادة منهم، فإن صلاح القلوب في مجالستهم، اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل ونسألك اللهم علما نافعا وعملا صالحا.
عباد الله : إن الحُزْن على موت شيخ الأمة وعالمها ابن باز لا يمكن وصفها لكن عزاءنا في دعوات صادقة نتوجه بها إلى الرب سبحانه وتعالى بأن يرحم الشيخ وأن يبارك في عقبه، وأن يسكنه فسيح جناته وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خيرا، وأن يغفر له ويجمعنا به في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأعظم الله أجركم به وأحسن عزاءكم وجبر الله معصيتكم وجعلنا وإياكم من الصابرين.
(1/502)
السحر والسحرة (1) والمرأة
الأسرة والمجتمع, التوحيد
الشرك ووسائله, المرأة, نواقض الإسلام
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
2/5/1410
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
السحر , أثره , وصوره وحكمه في القرآن والسنة – من شُعَب السحر الاستعانة بالنجوم
لمعرفة المُغَيبات... – من لوازم الإيمان اللجوء إلى الله وحده – حكم من أتى كاهناً أو عرَّافاً -
فضل المعوذتين وأثرها – خير متاع الدنيا المرأة الصالحة ووصفها , والأسباب التي تُنكح
المرأة لأجلها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا [النساء:51-52].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الجبت هو السحر والطاغوت هو الشيطان) وقال جابر رضي الله عنه: (الطواغيت كُهّان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد) - أي في كل حي من أحياء العرب واحد من هؤلاء الكهان - وقال سبحانه وتعالى: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [البقرة:102]. أي لقد علمت اليهود الذين استبدلوا السحر بمتابعة الرسول فضلوا اتباع الوسائل الشيطانية كالسحر على متابعة المصطفى والإيمان به.
لقد علموا أن من فعل ذلك ما له في الآخرة من خلاق أي ما له في الآخرة من نصيب وقد ثبت في القرآن أن السحر علم يتعلمه من لا خلاق له في الآخرة فيكفر بتعلمه وتطبيقه واستعماله، ويؤثر في الإنسان المسحور، إما بالتفريق بينه وبين زوجه، أو بقتله أو بإلحاق غير ذلك من أنواع الأذى به، ولا يستطيعون أن يفعلوا ذلك إلا بإذن الله، إلا إذا كان الله قد كتب ذلك على الإنسان المسحور وقدره، قال تعالى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [البقرة:102].
فدلت هذه الآية على أن تعلم السحر واستعماله كفر، وهذا هو مذهب أكثر الأئمة ولهذا فإن عقوبة الساحر أو الكاهن عندهم هو القتل وهذا هو مذهب الصحابة. فقد ثبت عن جندب رضي الله عنه أنه قال، حد الساحر ضربة بالسيف. وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى ولاته وأمرائه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، وقد قتلوا الصحابة ما وجدوا من السحرة والساحرات ثبت ذلك من فعلهم رضوان الله عليهم أجمعين.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((اجتنبوا السبع الموبقات - أي السبع المهلكات - الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) [1].
فالسحر من السبع الموبقات وقد أورده رسول الله في هذا الحديث بعد الشرك بالله ومن السحر العيافة وهو زجر الطير، ومن السحر الطرق وهو الضرب على الرمل أو الحصى أو الخبط في الأرض.
ومن بعض شعب السحر الاستعانة بالنجوم لمعرفة المغيبات أو التأثيرات على الناس، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك من تعلق شيئًا وُكل إليه)) [2].
يا أيها المؤمن الموحد تعلم أن من لوازم الإيمان وواجبات التوحيد أن يكون لجوؤك دائمًا لله وحده، تستعيذ به وبكلماته التامات حتى إذا مسك ضر.
أما ما يصفه الجهال من اللجوء إلى السحرة والكهان والعرافين فهذا مثل صنيع اليهود الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت، وقد علمنا أن الجبت هو السحر والطاغوت هو الكاهن والساحر، بل كل من زعم أنه يخبر بالمغيبات بمقدمات ووسائل يتخذها كل من عقد عقدة فنفث فيها، كل من خط خطًا في الأرض أو ضرب على الرمل أو الحصى، كل من زعم أنه يرشد عن السارق أو عن مكان المسروق.
وكل من استعان بالنجوم على معرفة المغيبات والتأثيرات وزعم ذلك.
وكل من استعان بالجن والشياطين على شيء من ذلك كل هؤلاء طواغيت سحرة وكهان ومن أتاهم من المسلمين ولجأ إليهم وصدقهم بما يقول فقد أتى جرمًا عظيمًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد )) [3].
وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي وهي حفصة أن النبي قال: ((من أتى عرافًا - والعراف هو الساحر أو الكاهن أو المنجم أو الذي يضرب على الرمل أو يخط في الأرض - فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يومًا)) [4].
لماذا يلجأ بعض الناس إلى الكهان والسحرة، لماذا ينسون ربهم ويلجأون إلى الطواغيت وقد أنزل الرحيم الرحمن لهم الشفاء والدواء من مسه ضر فليس هناك من شفاء أحسن ودواء أفضل من أن يقرأ المعوذتين: قل أعوذ برب الفلق [الفلق:1]. قل أعوذ برب الناس [الناس:1].
بأن يقرأ المعوذتين ثلاثًا ثم ينفخ في كفيه ثم يمسح بهما جسده أو يقرأ على نفسه الفاتحة أو آية الكرسي أو يرقيه بهما غيره، أو يقرأ غير ذلك من آيات القرآن الكريم فالقرآن كله شفاء أو ما ثبت من أدعية المصطفى.
المؤمن الموحد إذا مسه ضر يلجأ إلى ربه عز وجل يستعيذ به وبكلماته التامات بقرآنه الذي أنزله شفاءً وهدى ورحمة للمؤمنين.
المؤمن الموحد يتيقن من أن أولئك السحرة والكهنة لا يستطيعوا أن يضروا إنسانًا أو ينفعوا إنسانًا إلا بإذن الله فإذا كان الله قد كتب ذلك للإنسان أو كتبه عليه لا يستطيع الكهنة بسحرهم وعقدهم ونفثهم ونفخهم أن يضروا إنسانًا بشيء إلا أن يكون الله تعالى قد كتبه عليه: وما هم بضارين به من أحد [البقرة:102] أي ما هم بضارين بسحرهم أحدا: إلا بإذن الله [البقرة:102].
فالمؤمن الموحد إذا مسه ضر يلجأ إلى من بيده النفع والضر: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو [الأنعام:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (2767) ، صحيح مسلم (89) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] سنن النسائي (4079).
[3] مسند أحمد (2/429).
[4] صحيح مسلم (2230).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه أجمعين.
قال الرسول : ((الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) رواه مسلم [1] وروى أحمد في مسنده أنه : ((من سعادة بن آدم المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح، ومن شقوة بن آدم المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء)).
فيا أيها المسلم يا أيها الشاب المسلم اغتنم هذه النعمة العظمى وابحث عن هذه المتعة الكبرى خير متاع الدنيا مصدر سعادتك كما أخبرك بذلك الصادق الأمين المبلغ عن رب العالمين الرءوف الرحيم بأمته.
المرأة الصالحة وأوصافها إنها التي إذا نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في نفسها وفي مالك.
وليس معنى قوله: (إذا نظرت إليها سرّتك) أنها من أجمل النساء لا يلزم ذلك وإنما معناه أنها من فقهها ومعرفتها بحق الزوج تتجمل وتتزين له دائمًا فلا يقع نظره إليها دائمًا إلا وهي في أحسن هيئة، حتى ولو كانت قليلة الحظ من الجمال فاغتنم أيها الشاب المسلم المرأة الصالحة اظفر بذات الدين تربت يداك.
كما أمرك بذلك سيدنا ونبينا محمد حينما قال: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [2] فذات الدين المرأة الصالحة التي تعلمت دينها وعرفت حقوق ربها وعرفت حق زوجها هذه خير متاع الدنيا هذه مصدر السعادة، هذه المرأة الصالحة ذات الدين قدرها عند الله عظيم، مكانتها عند الله عظيمة وأجرها عند الله عظيم.
فعن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله : ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئتِ)) [3]. فهذه المرأة الصالحة اظفر بها أيها الشاب المسلم وابحث عنها وأنتِ أيتها المسلمة اقبلي بصاحب الدين والأمانة والخلق الحسن فإن أمر النبي المصطفى حينما قال فاظفر بذات الدين تربت يداك يشملك أنت أيضًا فإذا تقدم ذو الدين صاحب الديانة والأمانة والخلق الحسن فاقبلي به واظفري به ولا تغتري بصاحب المال والثراء ولا الحسب والنسب ولا الجاه والوسامة إذا كان ضعيف الديانة والأمانة خبيث الأخلاق لا تغتري به أبدًا فإنه ليس لك إنه خراب ودمار وفساد وإفساد، إنه ليس لك أبدًا لا يصلح لكِ أبدًا إن كنتِ طيبةً وصاحبة دين وطاعة للرحمن الرحيم، فالخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [4]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (1467) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] صحيح البخاري (5090) ، صحيح مسلم (1466) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] مسند أحمد(1/191).
[4] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/503)
كوسوفا الجريحة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
23/12/1419
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كوسوفا بينت عظيم حقد النصارى على المسلمين. 2- تعريف بإقليم كوسوفا. 3- كوسوفا
تحت جحيم الشيوعية ثم النصرانية. 4- حرمة دم المسلم عند الله. 5- صور من العدوان
الهمجي الصربي. 6- مأساة لاجئي كوسوفا. 7- دعوة لمساندة مسلمي كوسوفا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول عليه للدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلٍم أمسى سليبًا ومسلمة لها حرم
وكم من مسجد جعلوه ديرا على محرابه نصب الصليب
أتسبى المسلمات بكل وثغر وعيش المسلمين إذاً يطيب
في مرور الأيام وتعاقب الأعوام وتراكم الأحداث يزداد سجل التاريخ صفحات إثر صفحات وهنا يحسن التأمل ويلزم التدبر وتتكاثر نكبات الأمة ، وتتوالى عليها الأحداث والغير ، وتتفتق فيها الجروح ، ولعمر الحق إنه لمظهر من مظاهر الهوان في كثير من أجزائها وأرجائها ، ولا تزال الأمة تبتلى بأحداث وقضايا حتى ينُسى آخرها أولها ، ويغطي حديثها على قديمها ، وأذل العدو مَّنا جباهًا وتلاشى من راحتينا الحديد، فإلى صفحات مكلومة نستذكر فيها كوسوفا الجريحة ، كوسوفا التي فضحت النصرانية وحقد أهلها ومقدار ما استودعوا من وحشية وهمجية في عصرنا الحديث ، كوسوفا التي بكت أهلها من هاجر أو قتُل أو شُرَّد ، كوسوفا التي بينت ضعف أمة الإسلام وكيف باع المسلمون بدولهم وأنظمتهم وثراوتهم أذلاء لا يستطيعون نصرة إخوانهم أو مد يد العون إلا بعد أن يؤذن لهم.
كوسوفا التي وضّحت لنا كم تغلي قلوب الأعداء حقدا علينا وكم يعضون الأنامل غيظا يريدون قطع دابر ديننا كي تغور القوى ، ويتبع الهوى ، وتعم البلوى ، يريدون ألا يعز إسلام ولا يقوى يقين وألا يتم تمكين ، يصرون بحربهم أو قصفهم على تمزيق أهل الإسلام قطعانا في بقاع الأرض لا مرعى يجود ، ولا راع يذود ، ولا دولة تؤوي ، كوسوفا التي أبانت عوار منظمات ما يسمى بحقوق الإنسان حيث يعامل أهلها كما يعامل الأرقاء ، ولا ينالون حقوقهم إلا بطريق الاستجداء ، ولا يظهرون إلا بصورة التشريد والإيذاء.
إنها كوسوفا الجريحة التي تأثرت بكل ذلك ولازالت تتأثر...
عباد الله :
إقليم كوسوفا بمساحته التي تزيد عن عشرة آلاف كيلو متر مربع، يسكنه أكثر من مليوني إنسان نسبة المسلمين منهم ثلاثة وتسعين بالمائة، ويشتمل على عدد من الثروات المهمة مما جعله مطمعا للغاصبين ، وسكانه من الألبان القدماء في هذه المنطقة ،أما الصرب فهم ممن استقدم إلى أوربا الشرقية.
وقد حصلت في كوسوفا معركة شهيرة عام ألف وثلاثمائة وتسعة وثمانين ميلادية بين المسلمين العثمانيين وبين النصارى الصرب انتصر فيها المسلمون انتصارا حاسما، وخلّصت هذه المعركة الألبان من حكم الصرب ، ولا زال الصرب يتذكرون هذه المعركة حيث أحيوا قبل عشر سنين ذكراها بأن أعلن رئيس الصرب بهذه المناسبة إلغاء الحكم الذاتي لمسلمي كوسوفا، وقال كلمته المشهورة "معركة كوسوفا بدأت قبل ستة قرون وانتهت اليوم ونحن مستعدون بأن نضحي بثلاثمائة ألف مقاتل وصربي لاستئصال الإسلام من سراييفوا إلى مكة" ومنذ ذلك الوقت بدأت الأزمة حتى اشتد أوارها في أيامنا الحالية بالرغم من النداءات التي كان يوجهها مسلمو كوسوفا إلى إخوانهم المسلمين إبان حرب البوسنة والهرسك بأن الدائرة ستدور عليهم فلم يع المسلمون ذلك إلا بعد اشتداد الأزمة.
إخوة الإيمان :
لم يكتف الصرب أخزاهم الله بما لاقاه المسلمون خلال ثمانين عاما من الحكم الشيوعي في يوغسلافيا من اضطهاد للحريات وسلب للكرامات وإلغاء لكل معالم الدين فقاموا بعد سقوط شيوعيتهم بإحياء دور الكنيسة في حربهم ضد المسلمين يدعمهم بذلك رهبان كنسائهم بجعل هذه الحرب حربا عقائدية وتطهيرية ونشرا لدينهم الفاسد فقامت حرب الإبادة في كوسوفا بشتى صورها وإليكم بعضا منها حسب آخر التقارير التي نقلتها عدد من المنظمات الإسلامية القليلة التي بدأت العمل هناك.
أيها الأخوة المؤمنون:
يقول رسول الله : ((لأن تهدم الكعبة حجرا حجرا أهون على لله من أن يراق دم امرئ مسلم )). وفي رواية ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)). رواه الترمذي والنسائي وحسنه الألباني. بالرغم من غلاء دم المسلم فإن المجازر باتت تقام للمسلمين في كل مكان وأصبح الدم المسلم رخيصا لا يقام لإراقته وزن، وتفيد آخر التقارير من داخل كوسوفا أن القتلى من المسلمين بالآلاف وأن الانتهاكات الإنسانية على أشدها داخل المدن المحاصرة، فهناك مِن المسلمين منَ يحرقون أحياء أمام ذويهم كما حصل ذلك منذ أسبوع في مدينة بيجا، ويشتد الوضع سوءا حيث أعدم بصورة بشعة ثلاثون مسلما في محافظة سوهارت، كما تم إعدام عشرين أستاذا أمام طلابهم في قرية جودن على الحدود بين ألبانيا وكوسوفا كما تم جمع عشرين ألفا من الرجال والنساء والأطفال من قرية قيرز وَوُضِعُوا في معسكر كامل محاصر من الدبابات والميليشيات الصربية حيث لا طعام ولا دواء ولا كساء أما بقية القرى والمدن فهي تعيش تحت وابل جيكوفا التي لا يستطيع أحد دخولها، يذكر شهود العيان الخارجين من حجيمها أن الجثث متناثرة في الشوارع، أما المساجد فقد تم تدمير عدد منها من خلال المدن المذكورة هذا عدا عن الاغتصاب للنساء الذي أصبح سمة للصرب في تعاملهم مع نساء المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله ويكفي أيها الأخوة المؤمنون أن نتذكر ما كان للمسلمين في البوسنة حتى نتخيل ما يمكن حدوثه لمسلمي كوسوفا ولنسائهم الحرائر كل ذلك بسبب أنهم مسلمون.
وطفلة ما رأتها الشمس إذ برزت كأنما هي ياقوت ومرجاُن
يقودها العَلْجُ للمكروه كارهة ً والعين دامعة والقلب حيرانُ
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمانُ
أما الفتيات اللاتي يقبعن في معسكرات الاعتقال فقد تجازون الألف في عدد من معسكرات الاعتقال الصربية التي تشتمل كذلك على عدد من الرجال والأسر من المسلمين ويجعلون كدروع بشرية أمام القذائف عدا ما يتعرضون له من جوع وهلاك حتى بان ذلك في أجسامهم وهم يعيشون مآساة دامية ونكبة فاجعة حلت بهم، وهم أقوام عزل حرموا في كل شيئ حتى الدفاع عن أنفسهم ،إنها مأساة رفع فيها الظلم والاضطهاد أعلامه وراجت فيها سوق المجازر الجماعية ، حدثوني عن أتباع دين أهينوا مثل هذه الإهانات حدثوني عن أمة ترى وتسمع ذلك ثم لا نرى منها سوى التنديد المتأخر ، حدثوني عن القوى الهائلة والثروات المعطلة والقنوات الفضائية العربية التي أصبحت جميعها مسخرة للرياضة والفن ومحجوبة أو مشوهة في عرض أحوال المسلمين ، إن أحد خلفاء المسلمين هب ومعه جيش عرمرم لنصرة امرأة صرخت وا معتصماه :
ولكن رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا الُيتَِّم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أيها المسلمون :
صفحتنا الأخرى عن كوسوفا الجريحة تتعلق بمظهر آخر من مظاهر الأزمة ووجه كالح أسفرت عنه الأزمة وهو تهجير النساء والأطفال والشيوخ بالقوة من ديارهم ومنازلهم وبسرعة عظيمة حتى قاربوا المليون لاجئ خلال أسبوعين ، ولا شك أن صعوبة عودة هؤلاء إلى ديارهم تتضح لنا حين نرى ما حل بلاجئي البوسنة الذين لم يعد أكثرهم إلى مواقعهم الأصلية حتى اليوم ، إن مصيبة بلاجئي كوسوفا هي بحد ذاتها عظيمة بل قد يكون وضعهم ومصيرهم أسوأ حالا وأشد ضررا مما هو في داخل كوسوفا ، وكأنه التهجير أصبح هدفا يسعى إليه النصارى بغربهم وشرقهم لتفريق هذه الجموع المسلمة في أوربا يقول تعالى لا يألونكم خبالا ودُّوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر.[آل عمران: 118]
إن هؤلاء اللاجئين من مسلمي كوسوفا الذين تعرضوا لكل بلاء على أيدي الصرب قد وقعوا ضحايا للجوع والعطش ، وفريسة للأمراض التي لا تجد لها رفعا ولا دفعا ، فلا مأوى يأوون إليه فيتقون به البرد القارس ، يهيمون في كل واد ينتظرون الموت، عزل من كل شيء فراشهم، أرض ملأى بالثلوج ولحافهم السماء ، فإلى الله نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس ، كيف أصبح اللجوء واليتم سمة للمسلمين تميزهم عن غيرهم في بقاع العالم ، تراهم يقتسمون أرغفة الخبز جوعى ، تستقبلهم منظمات كافرة ترحلهم إلى بلدانها لتغريبهم وتغيير دينهم أو تقليله في نفوسهم.
تمزقهم نيوب الجوع حتى يكاد الشيخ يعثر بالعيال
يشدون البطون على ضواء ويقتسمون أرغفة الخيال
وناموا في العراء بلا غطاء وساروا في العراء بلا فعال
كأن البيد تلفظهم فتجري بهم بيد إلى بيد خوالي
وليت جراحهم في الجسم لكن جراح النفس أفتك بالرجال
وقبل الجوع تنهشهم أياد من الأفرنج دامية النصال
أين أنتم إخوتي من صورة الأطفال الذي يحملون من معسكرات اللاجئين على وجوههم الحيرة وفي أعينهم الذهول بعد أن فقدوا أو أضاعوا آباءهم ، صورة ترجف بالفؤاد ، وتفت الأكباد صورة رأيناها لذلك الأب المسلم والدمع يتقار من عينيه وهو يحيل الدمع عن محاجرها ، يقبل أطفاله قبلات الوداع ، أما إلى أين سيذهبون ، متى سيلتقون وماذا سيواجهون ، فهذا ما لا نعلمه ولا يعلمه هو ، ترى أطفالهم خلف زجاج الحافلات منقولين إلى بلدان لا يعرفون فيها إسلامهم الذي ولدوا عليه، بل يعيش بعضهم في مراكز التنصير والكنائس حيث يودعون فيها دينهم وإسلامهم الذي نشأوا عليه.
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند جمعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان
أيها الأخوة :
هذه هي القضية ، وذلكم هو وضعها وأخواتها مثلها ، إن القضية ليست غامضة ولا ملتوية ، وما هي بالمستعصية الفهم أو الشائكة ، لكنها تحتاج إلى شيء من الفهم القرآني ، والإلمام بطبائع الأشياء واستعراض النواميس الإلاهية والسنن الأزلية.
إن إزالة أسباب الخذلان والهوان أهم وأولى من إزالة آثار العدوان ، وهذا الطغيان لن يوقفه إلا الإسلام، وان مَيْل الميزان لا يعدله إلا القرآن ، الحل بيّن والحق واضح ، إنه صراع عقائد ، ومعركة مع من كفر بالله واتخذ له صاحبة وولدا تعلى الله عما يقولون علوا كبيرا ، إنه حكم قرآني لا تشوبه شهوات ولا شبهات ، حقائق اليقين من رب العالمين ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.[البقرة: 120] خطاب قرآني يخاطب المسلم في وجدانه وعقله ولا يزالون يقاتلونكم حتى يرودكم عن دينكم إن استطاعوا معهم ومع يهود معركة حياة ومصير يتقرر بها وجود أو عدم انتصار أو اندثار يقول عن معركتنا جل وعلا كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين ،[المائدة: 64] ولنستيقن إخوتي أن كل ما نراه من مصاعب تحل بعالمنا الإسلامي إنماهي بإذن الله إرهاصات لنمو إسلامي متكامل، يشمل الحياة كلها وألا يدخل اليأس في قلوبنا، فوعد الله عز وجل بالنصر والتمكين متحقق بإذن الله بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وأهله وذلا يذل الله به الشرك وأهله ونسأل الله جل وعلا أن يعجل بالنصر لإخواننا المسلمين في كوسوفا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.[الحج:40]
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد :
فيا عباد الله : اتقوا الله تعالى واعلموا أن مشاركتنا لإخواننا المسلمين في كوسوفا مطلوبة ومهمة وآداءً لواجب النصرة ، إنها مشاركة مبعثها الاهتمام بأمور المسلمين.
والشعور بالأخوة الإيمانية المبنية على لحمة الدين والإسلام، المتجاوزة حدود اللون والجنس والوطن ، إننا نطالب كل مسلم بالمشاركة الوجدانية ، ومشاركتهم مشاعره وعواطفه إنك مطالب ، أخي المؤمن ، أن تشعر بالجسد الواحد ، أن تحس بجوعهم وهم جوعى ، وبفقرهم وهم حفاة عراة ، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ، فياليت شعري هل رأيت المرأة العجوز وهي تسعى لاهثة هربا من القذائف الصربية حتى تصل إلى الحدود وإذا بها بدلا من أن تلتقط أنفاسها تلفظ آخر أنفاسها ، بعد أن بلغت رسالتها للمسلمين الغافلين عن قضيتها غير عابئين بصرختها لأنهم لاهثون خلف كرة يشجعونها أو فن رخيص يطربون له ،ترى هل تتذكر المرأة المسلمة وهي تعيش في كنف زوج وتهنأ بالسعادة والراحة ، هل تذكرت كم من امرأة توالت عليها المحن وفقدت عشيرتها بعد أن كانت تحت كنف زوج عطوف بل تَضْحَي بيد الكافر رهينة وقد هتك بالرغم عنها سترها.
وأنت أخي المؤمن ، حين تنظر إلى أطفالك تذكر أطفالهم فكم من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية ، ويلتمس حنان الأم الرؤم ، يرنوا إلى من يمسح رأسه ويخفف بؤسه
كيف لو أبصرت طفلا لم يذق منذ رأى دنياه طعما للحنان
لم يذق إلا الأسى المر ولم يسمع سوى ، صوت الطعان يا ابنتي قولي معي : أيها العالم سحقا حينما تغدو حياة الناس مَيْدُان رهِان
حينما يفتقد الطفل الحنان
نريد الشعور بالجسد الواحد الذي أخبر عنه الذي إذا اشتكى منه عضٌو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ، إن دمعة من عينيك ، وزفرة من صدرك لهي دليل صدق الانتساب لهذا الدين بل هي عبادة تؤجر عليها ، ثم إكمالا لذلك يتحول هذا الهم وهذه المشاعر إلى بذل المستطاع في نصرتهم والوقوف معهم يقول عليه الصلاة والسلام ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة )) ، رواه مسلم وقال : ((أحب الناس إلى الله أنفعهم ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم ، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه َدْينا ، أو تطرد عنه جوعا ، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام )) رواه الطبراني وصححه الألباني ، فهلا مددنا أيدينا إخوتي بالدعم المادي والمعنوي لإخواننا المسلمين في كوسوفا حيث يستقبل مكتب هيئة الإغاثْة الإسلامية التبرعات لهم، كما أننا ندعوكم هذا اليوم لبذل اليد بالمال لإخوانكم في مسلمي كوسوفا ونستقبل تبرعاتكم لهم بعد الصلاة على يد بعض إخوانكم وستصل هذه التبرعات إليهم عبر شباب من هذا البلد في أسرع وقت بإذن الله ، وعليكم بالدعاء والابتهال إلى الله برفع البلاء وكشف اللأواء عنهم ، اللهم أنت المستعان وبك المستغاث وعليكم التكلاف ولا حول ولا قوة إلا بك ، اللهم يا كاشف الخطوب ويا مفرج الكروب ويا من يجب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء نسألك لإخواننا في كوسوفا النصر والإعانة ، اللهم كن لهم ناصرا يوم قل الناصر ، ربنا من يسمع بكاء الأطفال إلا أنت ومن يجيب نداء النساء إلا أنت ، اللهم اجعل لهم مما هم فيه مخرجا وفرجا ، اللهم نفس كربهم ، ويسر أمرهم ، وفرج همهم واخذل عداءهم إنك سميع مجيب اللهم اجعل بذل المسلمين اليوم درعا ووقاء لهم من عذاب جهنم واجعله نصرة لإخواننا المسلمين ورفعة لهم وكشفا لكربتهم بفضلك يا أرحم الراحمين استغاثة.
سبحانك ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/504)
السحر والسحرة (2) وبشارات للمرأة الصالحة
الأسرة والمجتمع, التوحيد
الشرك ووسائله, المرأة, نواقض الإسلام
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
9/5/1410
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تعلق قلب المؤمن بالله وحده – الإنسان يتعلق قلبه بالسحرة والكهنة وأمثالهم عند ضعف
إيمانه – حقيقة السحرة والدجالين , ومن السحر المذموم ما يفعله أرباب البلاغة والبيان من
قلب الباطل حقاً , من أصحاب الأدب الهدَّام والإعلام الخبيث – سبيل النجاة من الدجالين
وأمثالهم – بشارتان للمرأة الصالحة : 1- أسباب دخول المرأة الجنة كما في الحديث 2- جهاد
المرأة وشهادتها , وقيامها بتربية أولادها ورعاية بيتها وفضل ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى: أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام [الزمر: 36-37].
إن المؤمن الموحد يكون قلبه دائمًا متعلقًا بالله ربه وإلهه وسيده ومولاه الذي هو رب كل شيء ومليكه ولأجل ذلك فإنه سبحانه وتعالى يكفيه ويحفظه ويتولاه، فمن تولاه الله هل يخاف من دونه، من تولاه الله الإله العظيم القادر الذي بيده تصريف الأمور بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير. من تولاه الله هل يخاف ممن دونه، ألا يكفيه أن الله عز وجل يحميه ويرعاه: "أليس الله بكاف عبده" ولكن الإنسان إذا ضعف إيمانه وانطمست بصيرته فإنه يتوجه قلبه ويتعلق قلبه بمن دون الله.
يتعلق قلبه بالسحرة والكهنة والمنجمين لما يرى من جريان بعض الأمور على أيديهم مما يظنه من الخوارق، وحقيقة أمر هؤلاء أنهم يستعينون بشياطين الجن فيتراكب هؤلاء أي يركب بعضهم على كتف بعض حتى يسترقوا السمع من السماء فإذا سمع الشيطان خبرًا من السماء ألقاه إلى الكاهن فيضيف إليه الكاهن مائة كذبة ولكن الناس يصدقونه بسبب ذلك الخبر ولا يكذبونه بالمائة كذبة.
ولقد كان هذا الأمر مستفحلاً في الجاهلية. كان في كل حي من أحياء العرب كاهن كما أخبر بذلك جابر رضي الله عنه.
ثم ببعثة خاتم النبيين محمد حُرست السماء مُلئت حرسًا شديدًا وشهبًا تكريمًا لبعثة رسول الله ، فبعد ذلك قل من يسترق السمع من شياطين الجن، وإذا استرقوا السمع فقل من يسلم منه من الشهاب الثاقب.
لكن قد يسلم بعضهم فيلقي بالخبر إلى الكاهن ولذلك لا نزال نجد اليوم كهنة وسحرة ومنجمين يخبرون ببعض المغيبات ولكن المؤمن مأمور بألا يصدقهم فيما يخبرون ولا يعول عليهم فيما يقولون إنهم إذا صدقوا مرة يكذبون مائة مرة.
كما أخبر بذلك الصادق الأمين فكيف يصدقهم بعد ذلك مؤمن موحد كيف يعول على أقوالهم وأخبارهم ونصائحهم وبعض أرباب البلاغة والبيان مثل هؤلاء السحرة والكهنة والمنجمين.
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن من البيان لسحرًا)) [1] هذا ذم من النبي لبعض أنواع البيان. هذا البعض الذي تزيف فيه الأمور ويقلب فيه الحق باطلاً والباطل حقًا ليس هذا مدحًا كما تخيله بعض الناس.
كيف يكون مدحًا وقد شبهه الرسول بشيء محرم مذموم شبهه بالسحر والسحر أمر محرم مذموم، والمشبه تبع للمشبه به.
ثم إن سبب هذا الحديث أن رجلين من المشركين من أهل المشرق قدما إلى النبي فوقف كل منهما بين يديه خطيبًا يخطب بين يدي النبي فإذا خطب مشرك ماذا سيصدر منه إلا الفخر والخيلاء والباطل.
ولكن أُعجب السامعون بفصاحتهما فقال النبي قولته هذه: ((إن من البيان لسحرًا)) فهل يكون بذلك قد مدح الباطل الذي صدر من هذين المشركين.
كلاّ وألف كلاّ إنما أراد النبي أن ينبه السامعين الذين أعجبوا بفصاحة هذين الشاعرين المشركين إلى أن هذا البيان هو من أنواع البيان الذي يشبه السحر في قلبه للحقائق وتزييفه للأمور.
السحر يزيف الأمور ويقلب الحقائق ولكنه لا يغيرها هو أعجز من أن يغير حقائق الأشياء إنما يخيل للناس أنها تغيرت، يخيل إليهم الشيء الذي لا حقيقة له ويخيل إليهم تغيير حقيقة الشيء وهو لم يتغير، فسحرة فرعون حبالهم وعصيهم لم تنقلب إلى أفاعي وثعابين تسعى لم تتغير حقائقها بقيت حبالاً وعصيًا ولكن خيل للناس الحاضرين يومئذ ومنهم موسى عليه السلام أنها كذلك، أثر السحرة في أعينهم وفي مخيلاتهم. قال تعالى: فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى [طه:66] "يخيل إليه" أي إلى موسى فكيف بغيره، يخيل إليه أنها تسعى وليس كذلك هذا هو معنى قول "يخيل إليه" أي أن حقائق تلك الأشياء لم تتغير بفعل سحر السحرة فإن الساحر لا يفلح حيث أتى.
كذلك بعض أنواع البيان الذي يعني أصحابه بتنميقه وتذويقه وترتيبه وزخرفته يزيفون به الأمور ويحاولون قلب الحقائق والتأثير على السامعين.
ماذا يصنع الأدب الهدام في عصرنا الحديث غير هذا، القصص الهدامة وقد امتلأت بها الأشواق، الشعر الهدام وقد زودت به صفحات الجرائد والمجلات والدواوين ماذا يفعل الأدب الهدام الحديث غير هذا، ماذا يفعل الإعلام في العصر الحديث غير هذا. كثير من الناس يستمعون إلى بعض الإذاعات الأجنبية ويصدقونها ويصدقون أخبارها ويعجبون ببرامجها لأنها صدقت مرة، أو صدقت في بعض المرات يصدقونها من أجل ذلك ويعقلون عن المائة كذبة بل عن مئات الأكاذيب التي تدسها تلك الإذاعات الأجنبية.
فدسها بمهارة وإتقان ومكر وخبث للتأثير على السامعين لتزييف الأمور وقلب الحقائق على السامعين. بعض الإذاعات الأجنبية لا تسمي المجاهدين في أفغانستان مجاهدين، إن أعدائنا يحرصون على أن ينسى المسلمون حتى اسم الجهاد واسم المجاهدين فلذلك تحرص تلك الإذاعة الأجنبية على أن تسمي المجاهدين في أفغانستان المناوئين للحكومة الأفغانية.
وفي هذا الوصف ما فيه من الإيحاءات الخفية إنه نفث كنفث الكهنة والسحرة والمنجمين، فيه ما فيه من الإيحاءات الخبيثة التي يريدون أن يدسوها في نفوس السامعين يؤثرون على نفوس السامعين بمثل هذه الأساليب الماكرة الخبيثة.
فيا أيها المؤمن الموحد ليكن إيمانك عاصمًا لك من الوقوع في شباك هؤلاء وأولئك اقرأ كتاب الله عز وجل وافهم معانيه وتعلم سنن المصطفى وتفقه في أمور دينك يحميك الله ويكفيك من كل هؤلاء الطواغيت طواغيت الكهان وطواغيت البيان، سماسرة الأدب الهدام ودهاقنة الإعلام الهدام لا تصدق طواغيت الكهان ولا تصدق طواغيت البيان.
كيف تصدقهم وهم إن صدقوا مرة يكذبون مائة مرة.
كيف تصدقهم وهم أعداؤك، أعداء الإيمان الذي في قلبك أعداء هذا الدين الذي جاء به نبيك سيدنا محمد.
إنهم أعداء المصطفى يقول الرب عز وجل: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون [الأنعام:112].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (5146)
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد ذكرنا في الجمعة الماضية البشارة للمسلمات الصالحات بشارة النبي وهي قوله فيما رواه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئتِ)) [1] صدق النبي.
فهذه الأمور الأربعة إذا أفلحت المرأة المسلمة في المحافظة عليها وأفلحت في أدائها أفلحت في جميع أمورها وسائر حياتها لم يذكر النبي من الفرائض إلا هاتين الفريضتين الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وليس معنى ذلك أن باقي الفرائض لا تدخل في ذلك إنما نص النبي على الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان لأن هاتين الفريضتين تجبان على جميع النساء يشترك فيهما سائر النساء مع الرجال بخلاف الزكاة مثلاً فهي إن كانت مفروضة على الرجل والمرأة إلا أنها لا تجب إلا على من ملكت مالاً بلغ النصاب وحال عليه الحول.
والحج والعمرة وإن كانا واجبين إلا أنهما لا يلزمان المرأة إلا إذا قدرت على نفقتها ووجدت محرمًا يسافر معها. ولذلك اكتفى الرسول بذكر تلك الفريضتين الواجبتين على سائر النساء.
فإذا أدت المرأة المسلمة الصلوات الخمس ولم تضيعهن وصامت شهر رمضان ولم تضيع هذه الفريضة، وإذا بالغت في أسباب العفاف وصانت نفسها ليس عن الزنا والفواحش فحسب بل حتى عن أسبابها ودواعيها المؤدية إليها وإذا قامت بحق زوجها حق القيام وإذا رعت حياته الزوجية أحسن الرعاية فإنها من أهل الجنة ببشارة النبي ولا شك أن كل من وفقت إلى هذه الأمور الأربعة فإنها ستوفق إلى باقي خصال الخير.
وإليك أيتها المسلمة الصالحة البشارة الثانية من النبي فإن المرأة المسلمة الصالحة إذا كان الإسلام لم يتح لها ما أتاح للرجل من فضل الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل، بل منعها عن ارتياد كثير من المجالات التي شرعها للرجل فإنه اعتبرها وهي في مجالها الرئيسي إذا قامت به أحسن القيام إذا قامت به خير قيام مثل ذلك الرجل المجاهد المرابط في الأجر والثواب.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن المرأة في حملها إلى وضعها إلى فصالها كالمرابط في سبيل الله فإن ماتت فيما بين ذلك فلها أجر الشهيد)). وقد ورد في حديث آخر: ((أن التي ماتت في النفاس من الشهداء)) [2].
هذه هي البشارة الأخرى من النبي للمرأة المسلمة الصالحة في مجالها الأساسي مجال بناء الأسرة ورعاية النشء والصغار. وهي تكابد ما تكابد وخاصة في هذه الفترة التي نص عليها الرسول تكابد فيها من المشاق والتعب والنصب إذا أحسنت نيتها في ذلك واتقت الله عز وجل وأحسنت القيام بمهامها التي من أجلها خلقها الرب عز وجل، فما الفرق بينها وبين ذلك الرجل المجاهد في سبيل الله المرابط في مجاله وميدانه على ثغرة من ثغور المسلمين.
إذا كان هذا الرجل مجاهدًا في سبيل الله مرابطًا على ثغرة فهذه المرأة أيضًا مرابطة على ثغرة كلاهما مرابط مجاهد في ثغرته وفي جبهته، إذا أحسن النية واتقى الله في القيام بمهمته فهما سواء في الأجر والثواب.
فيا أيتها الأخت المسلمة الصالحة إنك وأنت تؤدين مهمتك هذه في حملك وفي وضعك وفي فصالك وفي رعايتك لأسرتك في بنائك لأسرتك في رعايتك لنشئك الصغار أنت في ذلك كالمجاهد في سبيل الله في أفغانستان، وفي فلسطين أو في الفلبين أو في غير ذلك من ثغور المسلمين، أنت في ذلك كالمجاهد في سبيل الله في الأجر والثواب سواء. هذا هو معنى كلام المصطفى النبي.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [3]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند أحمد (1/191).
[2] مسند أحمد (4/201) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/505)
بين الحلم والغضب
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, مكارم الأخلاق
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
1/8/1419
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الحلم في الإسلام. 2- سيد الحلماء محمد. 3- القوى من يملك نفسه عند الغضب.
4- الحلم فطري ومكسب. 5- الآثار الخبيثة للغضب. 6- أحوال الغضب. 7- إنما الحلم
بالتحلّم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
هاهو رسول الله يدخل مكة فاتحاً ،فيجد فيها أعداءه الذين آذوه وقاتلوه ، وعذبوا أصحابه ، وأخرجوه من بلده التي هي أحب أرض الله إلى الله وأحبها إليه ، لكنه ما لبث بعد ثمانية أعوام أن عاد إليهم وقلبه مفعم بشكر الله على نصره ، وإنجاز وعده له ، كان ممتطيا ناقته القصواء وسار بها حتى بلغ الكعبة فطاف بالبيت سبعا ، وجلس رسول الله في المسجد والناس من حوله والعيون شاخصة إليه ، ينتظرون ما هو فاعل بأهل مكة ، في تلك اللحظات تَطََّلعَ القوم إلى معرفة صنيعه بأعدائه فخطبهم ثم سألهم يا معشر قريش ما تظنون أي فاعل بكم. قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ما أجمل العفو عند المقدرة وما أجمل الحلم والصفح بدلا من الغضب والثأر، إن إيذاء أو مقاتلة أولئك الجهال لم يطيش له حلم رسول الله لأن الشُّقََّة بعيدة بين رجل اصطفاه الله رسولا خاتما وبين قوم سفهوا أنفسهم وتهاووا على عبادة الأصنام.
إنها جاهلية عالج رسول الله محوها ، كانت تقوم على نوعين من الجهالة: جهالة ضد العلم وأخرى ضد الحلم ، فأما الأولى فتقطيع ظلامها يتم بأنواع المعرفة وفنون الإرشاد ، وأما الأخرى فكف ظلمها يعتمد على كبح الهوى ومنع الفساد والجهل الذي كان العرب يفتخرون بأنهم يلقونه بجهل أشد.
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فجاء الإسلام يكفكف من هذا النزوات ، ويقيم أركان المجتمع على الفضل ، فإن تعذر فالعدل ، ولن تتحقق هذه الغاية إلا إذا هيمن العقل الراشد على غريزة الجهل والغضب ، أيها الإخوة المؤمنون.كثير من النصائح التي أسداها رسول الله للناس كافة كانت تتجه إلى تشجيع الحلم علاجا لغريزة الغضب ، ولذلك عد المسلمون مظاهرا الطيش والتصدي ، والعنف والأذى ، شرودا من القيود التي ربط بها الإسلام الجماعة المسلمة، لئلا تميد ولا تضطرب يقول عليه الصلاة والسلام : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )) رواه البخاري.
إن من الناس من لا يسكت عن الغضب فهو في ثورة دائمة ، وتغيظ يطبع على وجهه العبوس ، إذا مسه أحد بأذى ارتعش كالمحموم ، وأنشأ يرغي يزبد ، ويلعن ويطعن ، والإسلام برئ من هذه الخلال الكدرة ، قال رسول الله (( ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذئ )) رواه الترمذي وقال حديث حسن ولقد حرم الإسلام المهاترات وتبادل السباب وكم من معارك ضارية تبتذل فيها الأعراض وتنتهك فيها الحرمات ، وما لهذه الآثام من علة إلا تسلط الغضب ، وضياع الأدب ، وأوزارها تعود على المُوقِد الأول لجمرتها يقول : ((المستبّان ما قالا فعلى البادئ منهما ، حتى يعتدي المظلوم)) رواه مسلم.
أيها الأخ المسلم :
إن المسلك الأمثل في ذلك كله والذي يدل على العظمة والمروءة دائما هو أن يبلغ المرء غضبه فلا يفْجُر ، وأن يقبض يده فلا يقتص ، وأن يجعل عفوه عن المسيء نوعا من شكر الله الذي أقدره على أن يأخذ حقه إذا شاء، قال الأحنف بن قيس " احذروا رأي الأوغاد. قالوا وماهم قال الذين يرون الصفح والعفو عارا ".
إن كمال العلم في الحلم ، ولين الكلام مفتاح القلوب يستطيع المسلم من خلاله أن يعالج أمراض النفوس وهو هادي النفس مطمئن القلب ، لا يستفزه الغضب ، ولا يستثيره الحمق ، فلو كان الداعي سيء الخلق ، ، جافي النفس ، قاسي القلب ، لانفض من حوله الناس ، وانصرفوا عنه فحرموا الهداية بأنوار دينهم ، فعاشوا ضُلَّالا وماتوا جّهالا وذلك هو الشقاء وهو سببه وعلته.
وتتفاوت درجات الناس في الثبات أمام المثيرات ، فمنهم من تستخفه التوافه ، فيستحمق على عجل ، ومنهم من تستفزه الشدائد فيبقى على وقعها الأليم ، محتفظا برجاحة فكره ،وسجاحة خُلُقه وأما الرجل الحليم حقا ، هو من إذا حلّق في آفاق دنيا الناس اتسع صدره وامتد حلمه ، وعذر الناس والتمس المبررات لأغلاطهم ، فإذا ما عدا غرٌّ يريد تجريحه ، نظر إليه من علوّ وفعل ما كان قال الأحنف بن قيس رحمه الله: ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث : إن كان فوقي عرفت له فضله ، وإن كان مثلي تفضلت عليه ، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه ،انتهى كلامه رحمه الله وهو المشهور بالحلم وبذلك ساد عشيرته.
عباد الله :
اعلموا أن الحليم ، إما أن يكون حليما مفطورا على الخير مجبولا عليه، وهذا كأشج عبد القيس الذي قال له (( إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله ، الحلم والأناة ، فقال : أشيء تخلقت به أم جبلت عليه يا رسول الله ؟ فقال : لا بل جبلت عليه ، فقال الحمد لله جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله )) رواه مسلم.
وإما أن يكون الحليم ثائر النفس أزعجه مَن ظَلمه فيصبر محتسبا ويصفح قادرا ويأمره إيمانه بالعرف ، والعفو عن الجاهلين ، وهذا هو المثاب في الدنيا والآخرة ، والمشكور عند الله وعند خلقه ، وهو الموصوف بالشدة والقوة ، كما في قول الرسول : (( ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) رواه البخاري ومسلم ، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وغيره بسند صحيح ((من كتم غيظا وهو قادر أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين ، يزوجه منها ما شاء )).
أيها الناس :
قلة الحلم وكثرة الغضب آفتان عظيمتان، إذا انتشرتا في مجتمع ما قوضتا بنيانه ، وهدمتا أركانه وقادتا المجتمع إلى هوة سحيقة ، ونخرتا كما السوس في جسر المجتمع المسلم حتى يؤدي به إلى الهلاك والعياذ بالله ، ألسنا نرى ضياع المجتمعات الإسلامية ، واندثار آدابها وكثرة الخلافات بين دولها وشعوبها فساعد ذلك على تقطيع الأواصر والروابط ، وإشاعة أجواء التباغض والتدابر والتحاسد وإظهار الشماتة على الأمة المسلمة من قبل أعدائها يقول عليه الصلاة والسلام : ((إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه )) ، رواه مسلم.
انظروا مثلا إلى الحالات المتعددة والمنتشرة للطلاق أو ما يكون بين الزوجين من شقاق ، مما أدى إلى التفريق، وهدم البيوت، وتفويض الأسر، أليس ذلك في الغالب نتيجة من الغضب وقلة الحلم ؟ حيث ترى الزوج بعد ذهاب غضبه يندم ولات ساعة مندم، ويتأسف على ما مضى ، ويرى أنه قد جنى على نفسه بالحرمان وعلى زوجته بالعقوبة ولا ذنب لها ، ويتّم أولاده وهو لم يزل حيا ثم يبحث لنفسه عن المعاذير، ويقلب في الفتاوى لدى المفتين لمحو غلطة ارتكبها دون تفكير أو روية ، أو تدرجٍ في التأديب، مما تسبب في هدمٍ كان بإمكانه علاجه لو ملك عقله ، وأشهر حلمه ، وكف غضبه ، من نتائج الغضب وثمراته أنك ترى إخوة من أب واحد يختلفون فيما بينهم لأتفه الأسباب فيعمل الغضب فيهم عمله فيتعادون ويتقاطعون، فيتبدد بذلك شمل الأسر وتراهم يتسابُّون ويتشاتمون وقد أخذهم الغضب كل مأخذ.
هذا هو الغضب إخوتي الذي ينبغي علينا تجنبه والحذر منه أعاذنا الله وإياكم من الغضب ، ومن سوءه وآثاره ورزقنا وإياكم الحلم والتحلُّم إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.[آل عمران:133-134]
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام، اتقوا الله تعالى واعلموا أنه يجب علينا جميعا أن نعمل بتعاليم ديننا الحنيف ، وأن نأخذ بإرشادات نبينا صلوات الله وسلامه عليه كما يجب علينا أن نقصر أنفسنا عن الغضب ، ولا نتسرع فيما يعود علينا بالحسرة والندامة ، والمرء المسلم مطالب بكتمان غيظه وإطفاء غضبه بما استطاع من تحلم وتصبر ، واستعاذة بالله من النفس والهوى والشيطان ، وعليه أن يترفق ألاً: في أهله ، وثانيا: برعيته وجيرانه ، وعملائه ومواطنيه ، فلا يكون بغضبه عونا لزوجته على النشوز ولأبنائه على العقوق ، ولأقاربه على القطيعة ، ولجيرانه على الإساءة ، ولرعيته على التمرد ، وللناس كافة على هجره ومجانبته وهذا ما نراه دائما في حال من اشتهروا بالغضب والحرارة الزائدة.
أيها الأخوة المؤمنون:
إن الغضب يختلف في دنيا الناس باختلاف الأحوال والظروف لكنه غالبا لا يخرج عن ثلاثة أحوال :
الأول : حال الاعتدال بأن يغضب ليدافع عن نفسه أو دينه أو عرضه أو ماله ، ولولا ذلك لفسرت الأرض بانتشار الفوضى وتقويض نظام المجتمع لكن غضبه هذا ينبغي أن يكون مقترنا بالحكمة والمعرفة والعقل الرشيد.
الحالة الثانية : أن يخطوَ الغضب عن الاعتدال بأن يضعف في الإنسان أو يفقد بالكلية وهذه الحال مذمومة شرعا، لا سيما إن تعلقت بانتهاك حرمات الله تقول عائشة رضي الله عنها : ((ما ضرب رسول الله e شيئا قط بيده ، ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله تعالى )) رواه مسلم.
الحالة الثالثة : أن يطغى الغضب على العقل والدين وربما جر صاحبه إلى ارتكاب جرائم كبيرة ، وموبقات كثيرة.
ولا يمكن التخلص من هذه العقبة إلا بفعل ما أرشد إليه عليه الصلاة والسلام : ((إذا غضب أحدكم فليسكت )) روه أحمد واستّب رجلان عند النبي فاحمر وجه أحدهما غضبا فقال : ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه مايجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد)) رواه البخاري وقد ثبت عنه أنه أمر الغضبان بالوضوء لأنه يطفئ الغضب كما يطفئ الماءُ الناَر نسأل الله جل وعلا أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر نفوسنا وأن يهدينا سبل السلام وصلوا وسلموا يا عباد الله على من أمركم الله..
(1/506)
وقفات مع الإسراء والمعراج
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
السيرة النبوية, معجزات وكرامات
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
17/7/1419
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لمحة سريعة عن حدث الإسراء والمعراج. 2- الإسراء نقل للقيادة الروحية من بني
إسرائيل إلى أمة العرب. 3- الإسلام دين الفطرة. 4- لماذا شرع الله الصلاة. 5- إيمان
الصديق بهذه المعجزة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى.
أيها الإخوة المؤمنون: مرت اثنتا عشرة سنة على بعثة النبي لدعوة أهل مكة إلى الإسلام لكن جهاد هذه الدعوة الذي حمله محمد عرَّضه لعواصف عاتيه من الإيذاء والبغضاء والافتراء ومزّق شمل أتباعه فما ذاقوا مذ آمنوا به راحة الركون إلى الأهل أو المال، عذبهم أهل مكة حتى رأوا الأهوال، وكان آخر العهد بمشاق الدعوة طرد ثقيف للنبي وإيذاؤهم له ثم دخوله إلى البلد الحرام في جوار مشرك، إن هوانه ذلك على الناس جعله يجأر إلى رب الناس شاكيا راجيا.
فمن تسلية الله له ومن نعمائه عليه أن يهيئ له رحلة سماوية لتمس فؤاده المُعنَّى ببرد الراحة، وليشعر أنه بعين الله مذ قام يوحده ويعبده، ويعلم البشر توحيده وعبادته، وعلم من هذه الرحلة أن حظه من رضوان الله جزيل، وأن مكانته بين المصطفين الأخيار موطدة مقدّمة، وفي تلك الظروف الحرجة التي مر بها ومع أمل جديد بدأ يلوح من قبل يثرب وقع حادث الإسراء والمعراج، حيث أسرى برسول الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكبا على البراق، حيث صلى بالأنبياء هناك ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء فتدرج بها حتى ُرفع إلى سدرة المنتهى ثم عُِرج به إلى الجبار جل جلاله فدنا منه حتى كان قاب قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى.
أيها المسلمون:
الإسراء والمعراج يقعان قريبا من منتصف فترة الرسالة التي مكثت ثلاثة وعشرين عاما وبذلك كانت هذه الرحلة علاجا مسح متاعب الماضى ووضع بذور النجاح للمستقبل، فكان لرؤية طرف من آيات الله الكبرى في ملكوت السماوات والأرض أثره الحاسم في توهين كيد الكافرين وتصغير جموعهم ومعرفة عقباهم في قلب محمد وصحابته، لم يكن الإسراء مجرد حادثة من الخوارق أجراها الله عز وجل لنبيه لتكون دليلا على صدق دعوته، ولم يكن نوعا من المعجزات التي يؤتى بها الإمام الحجة على المعارضين، فإن القرآن الكريم وحده كاف في ذلك وإنما كان للإسراء برسول الله بالإضافة إلى ما سبق معان غابت عن أفهام كثير من الناس فلم يدركوها وخفيت على أذهانهم فمروا بها فلم يتدبروها، ومع كون الإسراء والمعراج مظهرا من مظاهر تشريف رسول الله بالمثول بين يدي الله تعالى وتحقيقا لكل معاني التكريم والإجلال التي أهدرها أهل الطائف ولم يراعوا لها حرمة عند استقباله، مع كل هذا فإن الإسراء يشتمل على عدد آخر من المعاني والوقفات يجمل بنا أن نتذكرها عند ورود هذا الحدث أو مرور زمانه علينا، فمن معاني الإسراء أننا نرى فيه كرامة الله عز وجل لهذه الأمة. فقد ظلت النبوات دهورا طوالا وهي وقف على بني إسرائيل وظل بيت المقدس مهبط الوحي ومشرق أنواره على الأرض، والوطن المحبب إلى شعب الله المختار، فلما أهدر اليهود كرامة الوحي وأسقطوا أحكام السماء، حلت بهم لعنة الله وتقرر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد ومن ثم كان مجيء الرسالة إلى محمد انتقالا بالقيادة الروحية في العالم من أمة إلى أمة ومن بلد إلى بلد ومن ذرية إسرائيل إلى ذرية إسماعيل وهذا هو سبب بغض اليهود: بئسما شروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب.[البقرة]
لكن إرادة الله مضت وحملت الأمة الجديدة رسالتها، وورث النبي العربي تعاليم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وقام يكافح لنشرها، وجمْع الناس عليها فكان الإسراء والمعراج من وصل الحاضر بالماضي، وإدماج الكل في حقيقة واحدة فاعتبر المسجد الأقصى ثالث الحرمين، ومسرى رسول الله فيكون هذا الإسراء دلالة للإيمان الذي درج قديما في رحابه وجمع الله فيه في تلك الليلة المرسلين السابقين مع صاحب الرسالة الخاتمة والنبوات يصدق بعضها بعضا ويمهد السابق منها للاحق وبذلك أخذ الله الميثاق وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [آل عمران:81] وفي السنة الصحيحة أن رسول الله صلى بالأنبياء ركعتين في المسجد الأقصى فكانت هذه الإمامة إقرارا مبينا بأن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى خلقه أخذت تمامها إلى يد محمد بعد أن وَطّأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين، ومن معاني الإسراء والمعراج: نرى أهمية سلامة الفطرة في الإسلام ففي ليلة الإسراء تأكدت صفة هذا الدين الأولى وهي أنه دين الفطرة ففي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ((ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من ماء فسمعت قائلا يقول حين عرضت عليه إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته وإن أخذ اللبن هدي وهُديت أمته قال: فأخذت اللبن فشربت منه فقال لي جبريل هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك)). إن سلامة الفطرة لب الإسلام ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة، عليل القلب، إن الفطرة الرديئة كالعين الحمئة لا تسيل إلا قذرا وسواداً وربما أخفى هذا السواد الكريه وراء ألوان زاهية ومظاهر مزوّقة بيد أن ما ينطلي على الناس لا يخدع به رب الناس، والناس الآن كلما تقدم بهم الزمان ومادياته أمعنوا في التكلف والمصانعة وقيدوا أنفسهم بعبادات وتقاليد قاسية أليست البدع التي توارثها الناس في بعض العبادات بما فيها من تكلف وتعب ومشقة هي انتكاس لحقيقة هذا الدين وجوهره وأكثر هذه التكلفات حُجُب تطمس وهج الفطرة وتعكر نقاوتها وطلاقاتها ؟! وليس أبغض إلى الله من أن تفترى هذه البدع وتمارس هذا القيود باسم الدين، وأن تترك النفوس وسجونها مغلولة كئيبة.
أيها المسلمون:
ومن معاني الإسراء والمعراج وأحداثه أن الصلوات الخمس شرعت فيه، شرعها الله لتكون معراجا يرقى بالناس كلما تدلت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا، إن الصلوات التي شرعها الله هي غير الصلوات التي يؤديها بعض الناس اليوم فالصلاة التي فرضت هي باختصار صلة بين العبد وربه، تقوَّي إيمانه، وتدعَّم يقينه، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر يؤديها بقلب خاشع لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة فهل يا ترى صلاتنا اليوم كذلك نسأل الله أن يعفو عنا وأن يهدينا صراطه المستقيم. إن علامة صدق الصلاة أنها تعصم صاحبها من الدنايا فإن لم تكن الصلاة كذلك فهي صلاة ناقصة، والصلاة بوضوئها المتكرر طهور وطهارة وكفارة للذنوب وزيادة في الحسنات فهي تؤدي خمس صلوات، عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله : ((فتنة الرجل في أهله وماله وولده ونفسه وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) أخرجه البخاري ومسلم، إن أصحاب القلوب الميتة لا تجديهم الصلاة فتيلا ولن يزالوا كذلك حتى تحيا قلوبهم أو يَطمس الران عليها.
من معاني هذا الحدث العظيم أننا نرى فيه عموم رسالة الإسلام لجميع أمم الأرض فحين وصوله عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس كان في استقباله كما ذكرنا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يكن استقبالا لمجرد الاحتفاء، وإنما كان للإقرار بنبوته وسبقه عليهم في المكانة والقدر وتوضيحا لمعنى عموم رسالته وكانت إمامته دعوة صريحة لأممهم بطاعته والائتمام به، إن صلاته إلى بيت المقدس ثم تحوله إلى الكعبة في مكة ليوحي بأنه النبي الذي يجب أن يدين له أهل القبلتين ويؤمن برسالته كل العالمين فليست دعوة محليه أو إقليمية وما كانت رحلته إلا إثباتا لذلك.
أيها الأخوة : ومن معاني الإسراء والمعراج أن في الإسراء إشارة واضحة إلى أن الدولة الإسلامية ليس لها حدود تنتهي عندها، ولا معالم يجب ألا تتخطاها، وإنما يجب أن تكون الأرض كلها دولة للإسلام، فرسول الله ولد في مكة ودعا في مكة والطائف وأُسرى به إلى بيت المقدس، وهاجر إلى المدينة، وهاجر أصحابه الحبشة، فالأرض لله يورثها عباده المؤمنين وقد عرف محمد في رحلته هذه أن رسالته ستنساح في الأرض وتتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات وتنتزع هذه البقاع من مجوسية الفرس وتثليث الروم، بل وسيكون أهل هذه البقاع حملة للإسلام جيلا في أعقاب جيل.
إخوة الإيمان:
هذا هو حدث الإسراء والمعراج الذي حدث كله في ليلة واحدة ولما كانت صبيحة هذه الليلة المشهورة حدّث رسول الله بما تم له وما شهد من آيات ربه الكبرى، فقال الناس هذا والله الأمر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة فأراد المشركون استغلال هذه الخبر في تضعيف نبوته وتوهين صحابته لكنهم واجهوا قلوبا قوية صادقة من أمثال أبي بكر الذي ذهب الناس إليه فقال: ((هل لك يا أبا بكر في صاحبك ،يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة فقال لهم أبو بكر إنكم لتكذبون عليه فقالوا : بلى، هاهو ذالك في المسجد يحدث الناس به فقال بإيمان الصادق المؤمن: والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرنى أن الخبر يأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فهذا أبعد مما تعجبون منه ثم أقبل إلى رسول الله فقال يا نبي الله : أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة قال: نعم، قال: يا نبي الله فصفه لي فإني قد جئته يقول عليه الصلاة والسلام فرفع لي حتى نظرت إليه فجعل رسول الله يصفه لأبي بكر والناس وأبو بكر يقول صدقت، أشهد أنك رسول الله حتى إذا انتهى قال رسول الله لأبي بكر وأنت يا أبا بكر الصديق فيومئذ سماه الصديق)).
هذا هو حدث الإسراء والمعراج الذي وقع في السنة الثانية عشرة وقيل في ربيع الأول وقيل في رجب، وقيل في ذي القعدة لكننا حين نتذكر هذا الحدث يجب أن تستوقفنا فيه عبره والمغازي من ورائه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير.[الاسراء:1].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/507)
التوكل
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
3/7/1419
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكل يبحث عن رزقه ، والواجب أن يطلبه في الحلال. 2- البعض يرتع في الحرام بحثاً
عن رزق الله. 3- المخرج هو التوكل على الله الرزاق. 4- معنى التوكل. 5- الله يطلب منا أن
نتوكل عليه وهو حسبنا. 6- التوكل على الله علامة إيماننا به وتصديقنا بصفاته وعظمته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها المسلمون:
طلب الرزق غريزة عند الأحياء وما أن تبدوا بوادر الصباح حتى ترى الناس بكافة أعمالهم وأعمارهم يستعدون للبدء في كدح طويل كي يحرز كل امرئ منهم قوته وقوت عياله، وهذا الكدح الطويل والسعي الحثيث امتحان للأخلاق والمسالك والثبات واليقين والطمأنينة والرضى، فاللهف على تأمين العيش واللهاث من أجل سدّ أفواه الصغار قد يضعف بعض النفوس إلى الخَتْلِ والتلويه والكذب والحيف والتدليس والغش وربما وجد ضعاف يتملقون أقوياء على حساب الأبرياء، وربما رأيت أذلاء يذوبون في أعتاب كبراء، وغير ذلك من مخالفات وأخطاء.
إن دين الإسلام يأبى أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقة إلى هذا الآثام كلها، وينهى أن يلجأ المسلم أبدا إلى عش أو ذل أو ضيم ليجتلب به ما يشاء من حطام، وصدق رسول الله : ((ألا لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله فإن الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته)) رواه الحاكم في مستدركه.
والحل وسط هذه الحال والمخرج من تلك الآثام هو التوكل على الله روى الترمذي وابن ماجة والحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله يقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)).
ويقول ابن مسعود : إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تطعمهم ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يَجُرّه حِرْصُ حريص ولا ترده كراهية كاره، وإن الله تقسطه عدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.
التوكل هو حال المؤمن القوي الذي يجب أن يكون وثيق العزم، مجتمع النية على إدراك هدفه بالوسائل الصحيحة التي تقربه إلى الله وباذلا قصارى جهده في بلوغ مأربه، وليس بالتفريط المعيب والتخاذل الذميم عن عوف بن مالك قال: قضى رسول الله بين رجلين فلما أدبرا قال المقضي عليه حسبي الله ونعم والوكيل فقال : ((إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكَيْس (العقل والفطانة) فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل)) رواه أبو داود، إذاً فالمرء إذا غُلب على أمره في أى مشاكلة من أي نوع بعد استفراغ جهده كان ركونه إلى الله عندئذ معاذا يعتصم به من غوائل الانكسار فهو على الحالين قوي بعمله أولا وبتوكله ثانيا.
أيها الأخوة المؤمنون: التوكل على الله شعور ويقين بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجوه والأفلاك والأكوان فكل ذلك محكوم بحوله وقوته سبحانه.
التوكل قطع القلب عن العلائق إن ورفض التعلق بالخلائق واعلان الافتقار إلى محول الأحوال ومقدر الأقدار لا إله إلا هو إنه صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار منه أمور الدنيا والآخرة، فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد.
التوكل صدق وإيمان وسكينة واطمئنان، ثقة بالله وفي الله وأمل يصحب العمل وعزيمة لا ينطفيء وهجها مهما ترادفت المتاعب.
بالتوكل ترفع كبوات البؤس وتزجر نزوات الطمع، فلا يكبح شره الأغنياء ولا يرفع ذل الفقراء سوى التوكل الصادق على الحي الذي لا يموت، يقول سعيد بن جبير رحمه الله: التوكل على الله جماع الإيمان.
المتوكل على الله ذو يقظة فكرية عالية ونفس مؤمنة موقنة قال بعض الصالحين: متى رضيت بالله وكيلا وجدت إلى كل خير سبيلا.
وقال بعض السلف: بحسبك من التوسل إليه أن يعلم قلبك حُسن توكلك عليه.
والتوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد المسائل المشروعة في عالم الشهادة، تسليم لله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوبات وواجبات.
التوكل الذي يقوى الإنسان به ضرب من الثقة بالله، ينعش الإنسان عندما تكتنفه ظروف محرجة، ويلتفت حوله فلا يرى عونا ولا أملا.
التوكل غذاء الكفاح الطويل الذي قاوم به النبيون وأتباعهم ودعاة دينهم مظالم الطغاة وبغي المستبدين كما بيّنه الله تبارك وتعالى: وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون [إبراهيم:12].
التوكل الحق قرين الجهد المضيء والإرادة المصممة وليس العجز والكسل، ولم ينفرد التوكل عن القوة والحزم إلى الضعف والتواكل إلا في العصور التي مسخ فيها الإسلام وأصبح بين أتباعه لهوا ولعبا.
عباد الله:
إن أول بواعث التوكل ومصادره توحيد الله وإفراده بالعبادة فالرب المعبود سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلا: وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم [الشعراء 217-220].
والتوكل أجمع أنواع العبادات وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلها وما ذلك إلا لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة والرضى العميق واليقين الثابت، ولقد جاء الأمر به في كتاب الله في أوجه مختلفة وسياقات متعددة بل لقد جعله شرطا للإسلام والإيمان يقول سبحانه وتعالى: إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين قال أهل العلم، فدل ذلك على انتفاء الإسلام وكذلك الإيمان بانتفاء التوكل، ويقول لنبيه محمد : وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً [الأحزاب:3].
ويقول لصحابته رضوان الله عليهم: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [آل عمران:173].
ويقول جل وعلا في جزاء المتوكلين: ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً.
هذا هو التوكل في حقيقته وأثره وجزائه وصفات أهله لكنه ما كان أبدا توكلا ولا اتكالية وما كان ضياعا ولا إهمالا للسنن والأسباب، أيها المسلمون إن تحقيق التوكل لا ينافي العمل والأخذ بالأسباب البينة فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة لله، والتوكل على الله بالغيب إيمان بالله، فالمتوكلون في كتاب الله هو العاملون، وإمام المتوكلين نبينا محمد رأينا في سيرته الأخذ بالأسباب فقد اختفى في الغار عن الكفار، وظاهَرَ في بعض غزواته بين درعين، وتعاطي الدواء وقال من يحرسنا الليلة، وأمر بغلق الباب، وإطفاء النار عند المبيت، وقال لصاحب الناقة (اعقلها وتوكل) وقال سبحانه وتعالى لنبيه لوط: فأسر بأهلك بقطع الليل [هود:81]. ونادى نادى أهل الأيمان: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم [النساء:71].
فليس التوكل بإهمال العواقب واطراح التحفظ بل ذلك عند العقلاء والعلماء عجز وتفريط يستحق صاحبه التوبيخ والاستهجان وجاء أمر الله بالتوكل بعد التحرر واستفراغ الوسع حين قال: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين المؤمن هو من يجمع بين فعل الأسباب والاعتصام بالتوكل فلا يجعل عجزه توكلا ولا توكله عجزا إن تعسر عليه شيء فبتقدير الله وإن تيسر له كل شيء فبتيسير الله.
المسلم المتوكل يخرج من بيته متوجها إلى عمله ومهنته تَزْدلف قدمه من عتبة بابه وهو يقول: ((باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أزلَّ أو أُزل أو أَضل أو أُضَل أو أَظلم أو أُظلم أو أَجهل أو يجهل علي)).
أخي المؤمن : ثمة موطن من موطن العمل لا يكون على وجهه ولا تتحقق غايته إلا حينما يكون التوكل لله وعموده.
إنه موطن الصبر والحق والثبات على المواقف وعدم التنازل عنها وهو الذي يحمل عبئه أنبياء الله عليهم السلام ومن اقتفى أثرهم من أهل العلم والدعوة والإيمان والصلاح والإصلاح فهم حين يتعرضون لمخاوف مزعجة لا يثبتون على الروع والغبن إلا لأملهم في الله واستنادهم عليه، لا يثبتون إلا بالتوكل الذي ينير أمامهم ظلمات حاضرهم ويعينهم على مواجهة الأخطار بعزم وثقة واطمئنان، وما نراه من صبر وثقة بالله لدى بعضهم أمرٌ قد يستغربه الضعفاء الواهنون ويستنكرونه ولذلك حين قال موسى وهارون عليهما السلام بعد أمر الله لهما بدعوة فرعون: قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [طه:45]. فأجابهما جل وعلا: قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [طه:46]. إنه الشعور الكبير والعميق بسمعية الله وعنايته ذلكم هو المؤنس في الموحشات والمشجع في الرهبات، وهذا هو أبو بكر الصديق يقول نظرت أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما وقال الله عنهم: إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبها لا تحزن إن الله معنا وحينما قال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، هذه المقولة التي تتردد عبر التاريخ ويُوَاجه بها أهل الدعوة المخلصين في كل زمان ومكان، وقد جاء الجواب على لسان خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام بقوله تعالى: قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علماً على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.
هذا هو المجد الشامخ والذي لا يخطه إلا نفر من المؤمنين المتوكلين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين.
اللهم بك آمنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر. اتقوا الله تعالى.
أيها المسلمون :
من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى، ومن لم يكن كذلك فهو يظن من ضلاله أن حظوظا عميا هي التي تقرر مصائر الحياة والأحياء.
إن المقطوعين عن الله هم عبيد الحظوظ الشاردة والأسباب المبتورة، إن التوكل على الله لا يعرفه العاطلون الباطلون،لا يعرفه ضعيف التوكل لا هو عند الوجوه يشكر رتبته، ولا هو عند العدم يرضى حالته، وإن من الجهل بالله وصفاته وضعف الإيمان بوعده ووعيده ، لن يتوقع أحد الخذلان والضياع وهو مرتبط بربه معتمد عليه والله يقول :(( أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فماله من هاد، ومن يهد الله فماله من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام)) ويقول جل وعلا: ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ، إن المحروم إخوتي لن يدرك مهما ألح وطلب، والمرزوق سوف يأتيه رزقه مهما قعد، ألا فاتقوا الله رحمكم الله وأجملوا في الطلب وتوكلوا على الله فإن الله يحب المتوكلين.
وصلوا وسلموا يا عباد الله على من أمر...
(1/508)
اتباع لا ابتداع
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
27/5/1419
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ابن مسعود ينهى عن الابتداع في الدين. 2- أحدايث في ذم الابتداع. 3- دعوة للتمسك
بالكتاب والسنة. 4- التحذير من مخالفة هدي النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله ـ تعالى ـ وتوبوا إليه، أخرج الدارمي بسند صحيح أن أبا موسى الأشعري قال لابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء، ثم أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم! هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، والذي نفسي بيده أنتم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم مريد للخير لم يصبه [1].
أيها المؤمنون، العبادات في الإسلام تتوقف على أصلين مهمين: الأول: الإخلاص لله ـ تعالى ـ في أي عبادة يقوم بها العبد والثاني المتابعة في هذه العبادة لرسول الله باتباعه فيها وعدم الابتداع بها، وقد سبق لنا الحديث في الخطبة الماضية عن الإخلاص ونحن نتحدث اليوم عن الاتباع وعدم الابتداع.
عباد الله، لقد أكمل الله للأمة هذا الدين ورضيه وأتم به نعمته، وكتاب الله وسنة رسوله محمد لم يتركا في سبيل الله الهداية قولا لقائل، ولم يدعا مجالا لمتشرع، العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى، ظافر بخيري الدنيا والآخرة، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً ً [المائدة:3].
عن النبي أنه قال: ((ما تركت شيئا يقربكم الله إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئا يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه)) رواه الطبراني بإسناد صحيح [2].
كل عبادات المتعبدين يجب أن تكون محكومة بحكم الشرع في أمره ونهيه، جارية على نهجه موافقة لطريقته، وما سوى ذلك فمردود على صاحبه، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله : ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) متفق عليه [3].
الشرع الحكيم رسم للعبادات والتكاليف طرقا خاصة على وجوه خاصة زمانا ومكانا، هيئة وعددا، وقصرا لخلق عليها أمرا ونهيا، وعدا ووعيدا، وأخبر أن الخير فيها والشر في تجاوزها وتعديها، قال أهل العلم: من زعم أن ثمة طرقا أخرى للعبادات وعَبَد الله بمستحسنات العقول، فقد قدح في كمال هذا الدين وخالف ما جاء به المصطفى الأمين، وكأنه يستدرك على الشريعة نقائص لم يفطن إليها الشارع، قال مالك ـ رحمه الله ـ: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة لأن الله تعالى يقول: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]. فما لم يكن يومئذ دينا، فلا يكون اليوم دينا " أ. هـ كلامه ـ رحمه الله ـ.
إن الابتداع وتلمس المسالك والطرق التي لم تشرع معاندة للشرع ومشاقة له، وهو محض اتباع الهوى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:50].
ولئن قصد صاحب البدعة ببدعته التقرب إلى الله والمبالغة في التعبد، فليعلم أن في هذا مداخل للشيطان عريضة في مسالك ملتوية ووسوسات مميلة، وإنَّ قصداً في سنة خير من اجتهاد في بدعة.
أيها الأخوة المؤمنون، لا شك أن من معاني الخير العظيمة المعجزة في هذا الدين أن بقي رونق الإسلام زاهيا ونوره مشرقا، بالرغم مما مر عليه طوال هذه السنين من حروب ومكائد خفية وظاهرة، وكم هي كثيرة تلك الأديان والعقائد التي لم تصمد أمام التاريخ فحرفت وتغيرت، لكن الإسلام ـ ما زال بحماية الله ـ نقيا صافيا، رغم دسائس الأعداء من داخله وخارجه الذين يريدون القضاء عليه بشتى الوسائل والمحاولات، وإن من هذه الدسائس ما هو للقضاء على الدين باسم الدين، وذلكم بأن تحدث أمور تزاد في الدين وهي ليست منه فهذه هي البدعة التي حذرنا الله منها وبين خطرها، وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. ويقول ـ جل وعلا ـ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].
ويقول : ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي)) [4] ، ويقول محذرا وموصيا: ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) [5].
يقول عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله وولاة الأمور من بعده ـ أي الخلفاء الراشدين ـ سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تغيير فيها، ولا النظر في رأي يخالفها، من اقتدى بها فهو مهتد، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"ا.هـ كلامه ـ رحمه الله ـ.
إخوة الإيمان، حين نتأمل هذه النصوص العظيمة وغيرَها، نجد الأمر واضحا باتباع الكتاب والسنة والنهي ملزما الابتعاد عن الابتداع والمبتدعين، فالبدعة إذاً هي كل ما أحدث في الدين وهو ليس منه وليس له دليل من كتاب الله وسنة رسوله أو خلفائه الراشدين وهي خاصة بالعبادات، أما بالنسبة للعادات الدنيوية على اختلاف أنواعها فهي مباحة؛ لأن الأصل في العادات والمنافع الحل إلا ما ترتب عليه ضرر واستخدم في محرم أو جاء دليل على تحريمه، كما يجب أن نعلم أن الإحداث في الدين بدعة ولو مالت القلوب وأحبتها. ولقد ضلت أمم كثيرة لأنها فتحت باب الهوى لنفسها في الدين لما رأى عمر بن الخطاب عن بعض الرهبان من النصارى وتزهدهم ورهبنتهم بكى، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكر ـ قوله تعالى ـ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـ?شِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى? نَاراً حَامِيَةً [الغاشية2-4].
أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَر?تٍ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون [فاطر:8].
إن غير سبيل المؤمنين نزعات وأهواء وضلال عن الجادة وشق لعصا الطاعة ومفارقة للجماعة. فاتقوا لله ـ عباد الله ـ واعلموا أن في ظهور البدع انطماسا لسنن، فالسعيد من عض على السنة بالنواجذ فأحياها ودعا إليها واطمأن بها قلبه فرد الله به مبتدعا، وهدى به زائغا، وأنقذ به حائرا.
كتب عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ إلى عدي بن أرطاة بشأن بعض القدرية فقال: "أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت به سنة، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر ناقد كفوا، وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل كانوا فيه أحرى، فهم السابقون، تكلموا بما يكفي ووصفوا ما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصّر فيهم قوم فجفوا، وتجاوز آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم" ا.هـ كلامه ـ رحمه الله ـ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ثُمَّ جَعَلْنَـ?كَ عَلَى? شَرِيعَةٍ مّنَ ?لأَمْرِ فَ?تَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ?للَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
[1] سنن الدارمي ح (204) وذكر الحديث، وفي آخره قال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحِلق، يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج.
[2] المعجم الكبير للطبراني ح (1647)، ولفظه: ((ما بقي شيء يقرّب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيّن لكم)). وانظر السلسلة الصحيحة (1803).
[3] أخرجه مسلم ح (1718) بهذا اللفظ. ولفظ البخاري (2697): ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)).
[4] صحيح، أخرجه الترمذي ح (3788).
[5] صحيح، أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود ح (4607)، والترمذي ح (2676) وقال: حسن صحيح، والدارمي ح (95).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعةٌ وكل بدعة ضلالةٌ وكل ضلالة في النار، فاتبعوا ـ رحكم الله ـ ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ولا تبتدعوا فقد كفيتم، قال حذيفة بن اليمان : "كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تتعبدوها فإن الأول لم يَدَع للآخر مقالا".
وإننا حين نتحدث عن البدعة ونستعرض هذه النصوص وغيرها مما هو في كتاب الله وسنة رسوله، لننظر بعين الأسف والحسرة للحالة التي وصل إليها كثير من طوائف المسلمين، حيث انتشرت البدعة فيهم، وأصبح لها أنصار وأتباع، بل ومع الأسف علماء يسوغون ضلالها ويُروّجون لها تعصبا وعمى عن حقيقة هذا الدين وجوهره، فانتشرت البدعة لدى المسلمين فنتج عنها تفرق المسلمين وشتات دينهم في نفوسهم حيث تحلقوا ببدع عليها يوالون ويعادون، ولذلك فإنه يجب علينا أن نحذر ونحذر دائما من الوقوع في شرك الابتداع كما ضل كثير من الناس وأن لا تأخذنا العاطفة في تقويم البدعة والحكم عليها، وأن يكون علاجنا لها مبنيا على حكمة وحسن توجيه.
جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ فقال: من أين أُحرم للحج؟ قال: من حيث أحرم رسول الله ، قال الرجل: فإن أحرمت قبل ذلك؟ قال: فلا تفعل فقال الرجل: ما تكره من ذلك؟ قال: أكره عليك الفتنة قال الرجل: وأي فتنة في أميال، أزيد بها من الخير فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم [النور:63]. وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خُصِصْت بفضل لم يُخص به رسول الله أو ترى أنه قد قصر فيه.
فاتقوا الله ـ يرحمكم الله ـ وخذوا بالنهج الأول وعليكم بالاتباع وابتعدوا عن الابتداع.
وصلوا وسلموا يا عباد الله...
(1/509)
تربية الأبناء
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
23/10/1415
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مداعبة رسول الله للعيال. 2- العدل بين الأولاء. 3- الصدق في وعد الأبناء. 4- رحمته بالأطفال وتقبيله لهم. 5- الأمر بتربية الأبناء. 6- جواز ضرب الأبناء والموالي لتربيتهم.
7- بيان عظيم مسئولية الوالدين في تربية أبنائهما. 8- خطر الإعلام وقنواته على أبنائنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
إخوة الإيمان ، لعلنا نقف بكم اليوم على مواقف من رسولنا الكريم وسلفنا الصالح ، في تربية أبنائهم وشبابهم ، أولئك الأبناء الذين مافتئوا بعد أن كبروا- بل وهم صغار- أن ظهرت ثمار صلاحهم في فتح الفتوحات وتدريس العلم وتدوينه وتسطير المواقف العظيمة في سجلات التاريخ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتْناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين.[الطور:21]
السلف رضوان الله عليهم وعلى رأسهم رسولنا هم قدوتنا في كل شيء ، ومنها التربية ، وقد ثبت يقينا أنهم قد نجحوا في تربية أبنائهم ، وهذا ما رأيناه في أصحاب رسول الله من الفتيان من عجائب وغرائب يقف لها التاريخ شاهدا على صدقها ، شباب ذللوا سبل المعالي ، عبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأسامة بن زيد كلهم من تربية مدرسة محمد ، روى مسلم عن أنس قال : ((ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله )) ، وعن أنس قال : ((كان رسول الله من أفكه الناس مع الصبي )) ، وقد حث على العدل، حين قال : ((إن الله يحب أن تعدلوا بين أولادكم كما يحب أن تعدلوا بين أنفسكم )). رواه الدارقطني.
ولقد اهتم الإسلام بأن يكون الأب في موضع القدوة من ابنه ، فالتميز الخلقي المتمثل بالقدوة الصالحة هو من أكبر العوامل في التأثير على القلوب والنفوس ، وما أجدر الجيل الإسلامي اليوم ، برجاله ، ونسائه ، وكباره ، وصغاره ، أن يفهموا هذه الحقيقة ، وأن يعطوا لغيرهم القدوة الصالحة ليكونوا أقمار هداية وشموس إصلاح ، ودعاة خير وحق ، وأسباب نشر وامتداد لرسالة الإسلام الخالدة ، ومن هنا كان حرص النبي على أن يظهر المربي أمام من يقوم على تربيته بمظهر القدوة الصالحة في كل شيء حتى يتطبع الولد منذ نشأته على الخير ، ويتخلق منذ نعومة أظفاره على الصفات الفاضلة النبيلة.
روى أبو داود والبيهقي عن عبد الله بن عامر قال : ((دعتني أمي يوما ورسول الله قاعد في بيتنا فقالت : يا عبد الله تعال حتى أعطيك ، فقال لها رسول الله :ما أردت أن تعطيه ؟ قالت : أردت أن أعطيه تمرا ، فقال : أما أنكِ لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة )) وعنه عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وغيره : ((من قال لصبي تعال هاك – أي خذ- ثم لم يعطه ، فهي كذبة)) ، تربية على الصدق وعدم الكذب للطفل منذ صغره ، وروى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، أن أباه أتى به إلى رسول الله فقال : ((إني نحلت ابني هذا- أي أعطيته – غلاما كان لي ، فقال رسول الله : أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال : لا ، فقال رسول الله : فأرجعه )) ، وفي رواية ، فقال : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ؛ فرجع أبي فرد تلك الصدقة )) ، وفي رواية أخرى قال رسول الله : ((يا بشير ألك ولد سوى هذا ، فقال :نعم ، أكلهم وهبت له مثل ذلك ، فقال : لا ، قال : فلا تشهدنَّ إذن، إني لا أشهد على جور ، أو قال : أشَهِْد على هذا غيري ، ثم قال : أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال :بلى ، قال: فلا إذن )).
هذا هديه في غرس العدل في قلوب الآباء من حوله ، لأن الظلم دائما وخصوصا من الأب سبب للخصومات ، ووجود الحقد مما يكون ثمرته ضياع الأبناء ولو استحضرت في ذهنك صور الخصومات والحقد بين الإخوة لرأيته ثمرة لعدم العدل ، ولقد نبه عن طريق صنيعه بضرورة الرحمة بالأبناء وعدم القسوة وذلك فيما روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((قبّل رسول الله الحسن والحسين ابني علي رضي الله عنهم ، وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع : إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت منهم أحدا قط ، فنظر إليه رسول الله ثم قال : من لا يرحم لا يرحم )) وفي الصحيحين كذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((جاء أعرابي إلى رسول الله فقال : إنكم تقبلون الصبيان ، وما نقبلهم ، فقال رسول الله : أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك )) ومتى نزعت- إخوة الإيمان- الرحمة من قلب المرء أبا أو أما أو قريبا فهل تنفع التربية مع الولد ؟ أو التلميذ ؟ هل يتقبل منه موعظة أو نصحا ؟ وما نصح أحد من راحم بمن ضل أو أوشك على الضلال.
لقد كان مثلا مجسدا للرحمة بالأبناء ، روى الترمذي وغيره عن عبدا لله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله وهو يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وعليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران ، فنزل النبي ، فحملهما ووضعها بين يديه ثم قال إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.
وروى النسائي والحاكم : (( بينما كان رسول الله يصلي بالناس ، إذ جاءه الحسين ، فركب عنقه وهو ساجد فأطال السجود بالناس ، حتى ظنوا أنه قد حدث أمر ، فلما قضى صلاته ، قالوا : قد أطلت السجود يا رسول الله ، حتى ظننا أنه حدث أمر ، فقال : إن ابني قد ارتحلني – أي صعد على ظهري ، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته )) ، وجاء في الإصابة أنه كان يداعب الحسن والحسين رضي الله عنهما فيمشي على يديه وركبتيه ويتعلقان به من الجانبين فيمشي بهما ، ويقول : (( نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما )) وفي الصحيحين عن أنس أن النبي قال : (( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي – أي أختصر – مما أعلم من وَجْد أمِه من بكائه )) وكان كما ورد في الصحيحين إذا مر على الصبيان يسلم عليهم ويحادثهم.
هذه نماذج من رحمة النبي بالأولاد والصبيان ، كان عليه الصلاة والسلام يفعلهما ولم تشغله مشاغله الكثيرة ، وأعباء الدعوة وهمومها عن كل ذلك ، فأي رحمة أعظم من هذه الرحمة فعلها عليه الصلاة والسلام وهو يعلم أثرها في تربية الولد ومحبته ، ولكنه مع هذه الرحمة العظيمة بهم فقد أمر بتأديب الولد وحضه على حسن الخلق ، فقد روى الترمذي أن رسول لله صلى لله عليه وسلم قال: لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع أي حينما تؤدبه في وقت ما أفضل من تصدقك بصاع في ذلك الوقت ، ويقول : (( من ولد له ولد فليحسن اسمه وأدبه )) إذا فتأديب الأطفال مطلوب ، وحضهم على فعل الخير مرغوب ، وإبعادهم عن مواطن الشر هو الحصن له من الضياع والفساد ، روى الإمام أحمد في مسنده عن عم أبي رافع بن عمرو يقول عن نفسه : (( كنت وأنا غلام أرمي نخلا للأنصار فأتي النبي فقيل له إن ها هنا غلاما فأتي بي إلى النبي فقال : يا غلام لِمَ ترم النخل ؟ قال : قلت آكل ، قال : لا ترمي النخل، وكل مما يسقط في أسافلها ثم مسح رأسي ، وقال اللهم أشبع بطنه )) ، إذا فوقوع الأطفال الصغار في الخطأ غير المقصود وارد ، ولذلك فيجب علاجه وعدم إهماله ، ومع الأسف أننا نرى كثير من الآباء والمربين اليوم إما أن يتشددوا على الطفل عند وقوعه في الخطأ فيخرجهم عن التربية الشرعية ، أو يهملون الصغير إذا أخطأ ولو كان خطؤه مؤذيا ، وهذا فيه إفساد لأخلاق الصبي فإن التأديب للصغير ولو كان بالضرب غير المبرح مؤثر على الصغير ولا ينساه فقد قال : (( اضربوهم عليها وهم أبناء عشر )) ، أي على من تخلف عن الصلاة ، ويقول فيما رواه أحمد في مسنده : (( وأنفق على عيالك من طولك – أي من قدرتك – ولا ترفع عصاك أدبا وأخُِفْهُم في الله )) وروى البخاري في الأدب عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله أمر بتعليق السوط في البيت ، وروى الحاكم أن رسول الله خرج في عمرة وكان معه أبو بكر وبعض من الصحابة وكان أبو بكر قد كلف غلاما له بزاملة رسول الله فنزل رسول الله في مكان في الطريق ومعه هؤلاء الصحابة وقد تأخر الغلام ثم حينما ظهر إذا به لوحده ، فقام إليه أبو بكر وكان محرما ، فقال له : أين البعير ؟ فقال : أضلني يا أبا بكر ، فأخذ أبو بكر يضرب الغلام والرسول ينظر ، ويقول : (( انظروا إلى هذا المُحْرم يؤدب غلامه وكان ينظر مبتسما )) وهذا منه إقرار.
إخوة الإيمان: وإذا نظرنا إلى هدي النبي وصحابته الكرام في تربيتهم للبنات ، نجد أنهم أشد اهتماما في إعدادهن كأمهات مربيات صالحات ، في تعويدهن على الحياء ، وعدم مخالطة الرجال وحرصهن على العلم والذكر ، ويكفي أن نقلب السير لما كانت عليه الحال لنساء المدينة وقت النبي والصحابة الكرام من بعده ، حتى نتعرف مدى ما كن عليه من تقوى وورع وحياء وتربية للأولاد بل وللرجال ، انظروا مثلا إلى سيرة فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله حتى تروا تربيته عليه الصلاة والسلام لها ، وكذلك أسماء بنت أبي بكر، وأمامة بنت أبي العاص، وغيرهن من الصحابيات رضوان الله عليهن ، نقول هذا لمن أهمل بناته أو أساء معاملتهن حتى ينتبهوا لأعراضهن من خلالهن.
وهي مسئولية على عاتق كل أب أو أم أو مربٍّ أو مربية ، بل هو تكليف رباني حمّله الله للمسؤول عن الأبناء والبنات ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.[التحريم:6]
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد : أيها الإخوة المسلمون : اتقوا الله تعالى ، واعلموا أن هذه النماذج السابقة من تربية النبي وصحابته الكرام للأولاد إنما تبين المسؤولية العظمى التي تقع على الآباء والمربين في التربية والتعليم لأبنائهم وبناتهم ، إن المتطلع إلى مجتمعنا اليوم ليرى أحوالا لأولادنا ما كنا نعرفها قبلُ ، ولا توافق ما قرأناه من نماذج رائعة ، الميوعة الزائدة والتفنن بأنواع الملابس وتزيين السيارات أصبحت طابعا وهما لبعض الشباب ، وكذلك بناتنا اللاتي أصبحن سيعنين وتعلقهن بالأسواق وما ينزل فيها من موضات وتسريحات أو ما هبط في المجلات ، وأما ما تميز به بعض الشباب فهو الإيذاء للآخرين والسهر حتى الفجر وضياع الأوقات.
إن كل هذه الأحوال والمظاهر لدى أبنائنا وبناتنا مع الأسف في هذا المجتمع المسلم ، ولا يستطيع أحد إنكارها لا ألقي باللائمة وحدها على الأب والمربي في اتجاه كثير من أبنائنا وبناتنا إلى تلك المظاهر ، ولكنني أوجه اللوم أيضا إلى بعض وسائل الإعلام ، كالقنوات الفضائية ، تلك القنوات التي نوفرها في بيوتنا وبأموالنا ثم تشترك معنا في تربية أولادنا.
إن نظرة واحدة لبرامج هذه القنوات ، وما يعرض فيها من تضييع للأخلاق ، وتعليم للمساوئ ، وتعويد على أخلاق وعادات الغير ، كل ذلك كافٍ حتى نعلم مدى الخطر الكبير الذي يؤثر على الجميع ، لقد أصبح الإعلام وبتلك القنوات اليوم يشترك مع الآباء والمربين في التربية وهكذا ضاع توجيه الأب والأم ونصح المدرس المربي ، بل ويضيع مع ذلك الدين بالجلسات بالساعات الطويلة أمام هذه المقتنيات الإعلامية والقنوات الفضائية.
إن المقلب لهموم الشباب والأولاد اليوم ليجدها بعيدة كل البعد عن هموم صحابة رسول الله وأبنائهم ، كما رأينا تربيتهم فهم شبابنا، إما في ملبسه وتَزيُنه، أو في الكرة ونواديها التي أصبحت تأخذ كل أوقاتهم أو غير ذلك من الملهيات ، إن المسؤولية العظيمة تقع عليك أيها الأب في كل ذلك ولو قلبت في أحوالك وأمورك لوجدت أنك مقصر كثيرا تجاه بيتك وأسرتك ، أليس من العيب مثلا أن ترى بعض الآباء يسهرون إلى أواخر الليل كل يوم في حوش أو مجلس أمام ورقة يقتلون فيها الوقت ، أو جلسة قيل وقال ، والأطم من ذلك أمام هذه الصحون الفضائية المسماة بالدش ، ثم أليس من العيب والخطر أن ترى بعض الآباء يهملون تربية أولادهم ومحاسبتهم على الخطر ولو عرفوه، كل ذلك بدافع عدم تخويف الولد وتعقيد نفسيته ، ثم يستفحل الأمر بعد ذلك ولات حين مندم ، أليس من الخطأ إخوة الإيمان أن نرى أبناءنا وبناتنا يصاحبون كل من هب ودب ، ولا ننبههم إلى ذلك.
إن كثيرا من المشاكل التي يقع فيها أولادنا يجد المتأمل فيها أن صديق السوء أو صديقة السوء خلفها ، إن الأب إذا لم يقم على مراقبة أهليه وأولاده وتربيتهم تربية صالحة فمن الذي يقوم عيها ؟ هل يقوم عليها أباعد الناس ، أو يترك هؤلاء الأولاد والأغصان الغضة تعصف بها رياح الأفكار المضللة والاتجاهات المنحرفة والأخلاق الهدامة فينشأ من هؤلاء جيل فاسد لا يرعى لله ولا للناس حرمة ، ولا حقوقا ، جيل فوضوي متهور لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، متحرر من كل رق إلا من رق الشيطان ، منطلق من كل قيد إلا قيد الشهوة والطغيان ، نعم لابد أن تكون هذه هي النتيجة إلا أن يشاء الله ويرعى ذلك الولد.
إن بعض الناس يقول معتذرا أنا لا أستطيع تربية أولادي إنهم كبروا أو تمردوا علي ولو سلمنا له بهذا ، ولو سلمنا له جدلا أو حقيقة واقعة ثم فكرنا لوجدنا أنك أنت أيها الأب والمربي السبب في سقوط هيبتك في نفوسهم ، لأنك أضعت أمر الله فيهم في أول أمرهم ، فتركتهم يتصرفون كما يشاءون لا تسألهم عن أحوالهم ولا تأنس بالاجتماع إليهم ، لا تجتمع معهم على طعام أو غير ذلك ، فتقع الجفوة بينك وبين أولادك فينفروا منك وتنفر منهم ، فكيف تطمع بعد ذلك أن ينقادوا لك أو يأخذوا بتوجيهاتك بل إلى من يلجئوا حينما يقعون في مشكلة وقعوا فيها أو مصيبة جروا إليها ، لو أن الآباء اتقوا الله في أول أمرهم وقاموا بتربية أبنائهم وبناتهم على الوجه الذي يرضي الله ، لأصلح الله لك أمر الدنيا والآخرة ، يقول تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً.
(1/510)
تماسك الفرد والمجتمع (سورة الحجرات)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آفات اللسان, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
12/1/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
إشارة إلى ما تحويه السورة من آداب المجتمع المسلم – قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا
يسخر قوم من قوم... إلى قوله : فأولئك هم الظالمون ) وما فيه من توجيهات لحفظ تماسك
المجتمع المسلم , ثم على مستوى الأمة في قوله : ( وإن طائفتان من المسلمين اقتتلوا فأصلحوا
وأُسس هذا الإصلاح : 1- الحزم والقوة 2- العدل والإنصاف 3- تأكيد مبدأ الأخوة الإيمانية
- أهمية هذه الأسس , وخطورة إهمالها – النهي عن السخرية , واللمز والتنابز , وخطورة هذه
الأخلاق على المجتمع – تكاتف المؤمنين وكونهم كالجسد الواحد , وواقع الأمة المؤسف اليوم
وسببه إعراضها عن دين الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الإثم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون [الحجرات:11], لقد بدأنا قبل فترة لبيان ما في هذه السورة العظيمة، سورة الحجرات من دروس ومبادئ وآداب تهم الفرد والمجتمع المسلم وها نحن نصل اليوم إلي هذه الآية، فهذه الآية الكريمة وما بعدها من الآيات فيها مجموعة من الآداب والأحكام الرفيعة الهدف منها الحفاظ على تماسك المجتمع المسلم بوشائج الاخوة الإسلامية وأواصر المحبة الإيمانية، فالشارع الحكيم عني بالحفاظ على التلاحم بين أفراد المجتمع المسلم كما عني به على مستوى الأمة كما عني بالمحافظة على هذا التلاحم على مستوى الأمة إذ فرض عليها في الآيتين اللتين قبل هذه الآية المبادرة دائماً إلى حل ما يمكن أن ينشأ من تنازع وتناحر وتقاتل بين المؤمنين إلى حله بالعدل والإنصاف والحزم والقوة, فقال تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله [الحجرات:9]. هذا هو الأساس الأول الحزم والقوة: فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين [الحجرات:9]. وهذا هو الأساس الثاني وهو العدل والإنصاف. وأما الأساس الثالث فهو مبدأ الاخوة الإيمانية ولذلك عقب سبحانه علي هذه الآية مباشرة بقوله: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [الحجرات:10], فبدون إخوة الإيمان وبدون العدل والإنصاف في العلاقات بين الفرد والجماعات وبدون الحزم والقوة في حماية مبدأ الاخوة الإيمانية وفي حراسة مبدأ العدل والإنصاف، بدون هذه الأسس الثلاثة لا يمكن أن تستقيم حياة المؤمنين ولا يمكن أن يبقى كيان المجتمع المسلم سليماً معافى، إذا لم يتأدب الجميع بهذه الآداب القرآنية الرفيعة فإن الذي سيسود على الجميع هو منطق الجاهلية الأولى الذي يجعل الأساس الأول والأخير هو القوة أي سيأكل القوى الضعيف وحيث لا تبقى هناك أية قيمة لوشائج الاخوة ولا لأواصر المحبة، إنما الذي يسود العلاقات في ظلال الجاهلية هو منطق العدوان والبغي والسلب والنهب كما قال شاعر الجاهلية الأولى:
وأحيان علي بكر أخينا
إذا لم نجد إلا أخانا
ولقد عني الشارع الحكيم بالمحافظة على التلاحم بين الأفراد كما عني بالمحافظة على مستوى الأمة فأوجب على الأشخاص مجموعة من الأحكام والآداب والأوامر عليهم جميعاً أن يلتزموا بها، فلا يسخر قوم من قوم أي لا يسخر رجال من رجال، فقوم معناها رجال إذا وردت مقابل النساء أما إذا وردت مطلقاً في لغة القرآن يدخل فيها الرجال والنساء، فهنا لا يسخر قوم من قوم أي رجال من رجال. ولا يسخر نساء من نساء ولا يلمزوا أنفسهم أي لا يحقر بعضهم بعضاً ولا يتنابزوا بالألقاب أي لا يطلق أحد علي أحد لقباً أو اسماً بغرض السخرية والاستهزاء والاحتقار وتأملوا هذا الأسلوب الرقيق الدقيق في الآية الكريمة, قال تعالى: ولا تلمزوا أنفسكم وأراد لا تلمزوا الناس فعبر بلفظة أنفسكم لأن كل مؤمن هو لأخيه المؤمن بمثابة نفسه، فالمؤمنون الحقيقيون كيان واحد وجسد واحد إذا لحق أي فرد منهم الضرر أو السوء أو الأذى فإنه يمس الباقين، فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر وكثيراً ما يقع اليوم بعض الناس في ارتكاب هذه المنهيات، كثير من الناس رجالاً ونساء يتورطون في ارتكاب هذه المنهيات فيسخر بعضهم من بعض ويحسد بعضهم بعضاً ويتنابزون بالألقاب يعير بعضهم بعضاً، إما بسبب فقره أو بسبب نسبه أو بغير ذلك من الأسباب وربما عيره بمعصية ارتكبها. حتى صاحب المعصية لا يجوز تعييره بمعصيته إنما الواجب النصح له وزجره وتخويفه من عذاب الله عز وجل فكثير من الناس يقعون في هذه المنهيات مستهينين بما يمكن أن ينشأ من سلبيات خطيرة هدامة عن ذلك ومستخفين بما يمكن أن يتولد من حقد في النفوس بناء على ذلك وحينئذ تتقطع وشائج الاخوة الإسلامية وتنهار روابط المحبة الإيمانية وفي ذلك فساد عريض للمجتمع المسلم أفراداً وجماعات. فاتقوا الله أيها المؤمنون وأصلحوا ذات بينكم وكونوا عباد الله إخواناً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن في أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس)) رواه الإمام أحمد في مسنده [1]. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن ذو الإيمان الصحيح يعيش مع إخوانه المؤمنين يألم لألمهم يعيش معهم بمشاعره وأحاسيسه، يحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم ويهتم بما يصيب المسلمون من كوارث ومصائب فالمؤمن لا يعيش وحده منعزلاً بمشاعره وأحاسيسه لا يهتم بما يصيب المسلمين ولا يشعر بمشاعرهم فتلك أنانية ليست من طبع المؤمن ولا من صفاته فالمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
و نظرة تلقيها اليوم علي حال المسلمين كفيلة بأن تقطع قلب أي مؤمن حسرة وحزناً وألماً علي ما آل إليه حالهم من تشتت وتفرق وتنازع وتناحر وتقاتل وما أصابهم الذي أصابهم من هذه الكوارث وهذا التشتت وهذا التفرق وهذه الشحناء وهذا التقاتل البغيض إلا بسبب ضعف إيمانهم وانحرافهم عن تعاليم الإسلام وتركهم آداب القرآن، أنظر إليهم اليوم كيف يتقاتلون ويغزو بعضهم بعضاً كما كان يفعل أهل الجاهلية الأولى، أهل داحس والغبراء وحرب البسوس بينما عدوهم الحقيقي الصهيوني البغيض واقف علي الأبواب يتربص بهم الدوائر وهو جاثم علي صدور إخوانهم من أهل القبلة الأولى يسومهم الذل وسوء العذاب وينكل بهم تنكيلاً ويقتلهم تقتيلاً أما كان من الأولى أن تترك القوة مادامت هناك قوة لمقاتلة هذا العدو الحقيقي بدل من مقاتلة الجار والشقيق ولكن انظروا أيها المسلمون كيف يكون الحال إذا فرطنا في الإيمان وانحرفنا عن مبادئ الإسلام وتعاليمه وهجرنا آداب القرآن فهذه عقوبات لها ذنوب ونتائج لها مقدمات وعواقب لها أسباب فعلي المسلمين أن يصلحوا الأسباب والعواقب وأن يهجروا الذنوب وأن يعودوا إلى مبادئ دينهم وإسلامهم الذي يفرض عليهم مبدأ الأخوة الإيمانية, عليهم أن يحافظوا على هذا المبدأ ويتقوا الله إن كانوا يريدوا أن يكونوا من المرحومين.
وحده سبحانه هو الذي يستطيع أن يؤلف بين القلوب ويجمع الشتات ويزيل التفرق من الصفوف ومن القلوب هو خالق هذه النفوس الجامحة المتمردة هو وحده سبحانه من يستطيع ذلك: لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم [الأنفال:63]. فنتوجه إليه سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وبصفاته العلا أن يصلح حال المسلمين. اللهم أصلح حال المؤمنين. اللهم ألف بين قلوبهم واجمع كلمتهم على الحق ورد عنهم كيد الكائدين ودسائس المفسدين. اللهم ارحم عبادك المسلمين. اللهم هيئ لهم من أمرهم رشداً.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [2] اللهم صلى وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند أحمد (5/340).
[2] صحيح مسلم (408).
(1/511)
وقفات مع غزوة الأحزاب
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
12/8/1415
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بين يدي غزوة الأحزاب. 2- بشارة الله أثناء حفر الخندق بفتح بلاد الروم والفرس.
3- ظهور خور المنافقين. 4- مؤامرة اليهود وقبائل العرب ضد المسلمين. 5- قصة حذيفة يوم
الخندق. 6- الملائكة والمسلمون يتوجهون لغزو بني قريظة. 7- مكر اليهود السيء يحيق بهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها الناس :
اتقوا الله تعالى :
ضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
نبي أتانا بعد يأس وفترة من الرسل والأوثان في الأرض تعبد
هناك عظماء كثيرون يقرأ الناس قصص حياتهم ليتعلمّوا من عناصر القوة والنبوغ فيها وليتابعوا بإعجاب مسالكها في الحياة ومواقفها إزاء ما يعرض لها من مشكلات وصعاب فكيف إذا كانت هذه المواقف شرعا منزلا من الله سبحانه وتعالى إنها سيرة محمد التي نقف عليها وإن أطلنا الوقوف حتى نستلهم منها العبر ونأخذ الدروس ونقف اليوم مع غزوة الأحزاب التي وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة وحصلت هذه الغزوة بعد أن أيقنت طوائف الكفار أنها لن تستطيع مغالبة الإسلام إذا حاربته كل طائفة لوحدها وأنها ربما تبلغ أملها إذا رمت الإسلام عن قوس واحدة، وسعت يهود وخططت فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب وخرجت غطفان وبنجد ومُرّة وأشجع.
ولما سمع بهم رسول الله اجتمع مع المسلمين للتشاور وكل أشار برأي إلا أن سلمان الفارسي أشار بحفر خندق حول سهل المدينة يصدُّ عنها كل مغير عليها وضرب الخندق على المدينة فعمل فيه رسول الله ترغيبا للمسلمين في الأجر وعمل معه المسلمين فشهدت المدينة منظرا عجبا، وجوها ناصعة تتألف منها فرق شتى تضرب بالفؤوس وتحمل التراب وتتعرّى من لباسها وزينتها، لتلبس حللا من نسج الغبار المتراكم والعرق واللغوب، قال البراء بن عازب في الحديث الذي أخرجه الشيخان كان رسول الله ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبَّر بطنه وهو يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن الله سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
يقول البراء ولقد وارى عنا التراب جلدة بطنه وكان كثير الشعر وكان الفصل شتاء والجو باردا وهناك أزمة في الأقوات تعانيها المدينة التي توشك أن تتعرض لحصار عنيف ، وعاقت المسلمين في حفرهم الخندق صخرٌة عظيمٌة كسرت معاولهم فجاء النبي وأخذ من الصحابة المعول ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها وتطاير منها شرر أضاء خلالها هذا الجوّ الداكن وكبر رسول الله وكبر المسلمون معه ثم ضربها الثانية فكبر ثم الثالثة كذلك ونظر النبي إلى صحبه وقد أشرق في نفسه الكبيرة شعاع من الأشعة الغامرة والأمل الحلو، فقال: لقد أضاءت لي الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، وفي الثانية أضاءت لي القصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها وأضاءت لي الثالثة قصور صنعاء وأمتي ظاهرة عليها فأبشروا، واستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعودٌ صادق.
ولما فرغ رسول الله من الخندق أقبلت الأحزاب في جمع كبر قريش في عشرة آلاف من رجالها ومن تبعهم من كنانة وتهامة وغطفان في طليعة قبائل نجد وبرز المسلمون بعدما جعلوا نساءهم وذراريهم فوق الآطام الحصينة ثم انتشروا على حدود مدينتهم مسندين ظهورهم إلى جبل سلع وبلغت عدتهم في هذه المعركة نحو ثلاثة آلاف مقاتل ولما انسابت الأحزاب حول المدينة وضيقوا عليها الخناق لم تظهر نفوس المسلمين شعاعا بل جابهوا واقعهم وهم وطدوا الأمل في غد كريم ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً وهنا وفي ظل مثل هذه الأزمات يبدأ الواهنون المرتابون والمخذلون ومرضى القلوب بالعمل فلقد تندّروا بأحاديث الفتح وظنوها أماني المغرورين وقالوا عن رسول الله يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا، وفيهم قال الله تعالى : وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً.[الأحزاب: 12] وهؤلاء أيضا هم الذين كانوا يتسللون لواذاً من العمل في حفر الخندق ويذهبون بغير إذن من النبي
إخوة الدين والعقيدة: إن معركة الأحزاب ليست معركة خسائر فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدّون على الأصابع ومع هذه الحقيقة فهي من أهم المعارك في تاريخ الإسلام فلقد أمسى المسلمون وأصبحوا فإذا هم كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها بالغرق ليلا أو نهارا وكان المشركون يدورون حول المدينة غضبا من هذه المكيدة ويقفون عليها قائلين والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها وعرف المسلمون ما يتربص بهم وراء هذا الحصار فقرروا أن يرابطوا في مكانهم ويتحملوا لأواء هذه الحراسة التي تنتظم السهل والخيل وتتسع ثغورها يوما بعد يوم، وهم كما وصف الله تعالى إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً.[الأحزاب: 10/11] وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول المدينة متفرِّجين فخرج عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وتيمموا مكانا ضيقا من الخندق وضربوا خيلهم فاقتحمته فأسرع فرسان المسلمين يسدّون هذه الثغرة وقاتل عليٌّ عمرو بن عبد ود فقتله بعد مبارزة شديدة بينهما ولما واجهوا ذلك فر الباقون عائدين إلى خارج المدينة وفي هذه الآونة العصيبة جاءت الأخبار أن بنى قريظة نقضوا معاهدتهم مع رسول الله وانضموا إلى كتاب الأحزاب التي تحدق بالمدينة أن حُيي بن أخطب جاء إلى كعب بن أسد سيّد قريظة وقرع عليه بابه فرفض أن يفتح له كعب فصرخ به حيي ويحك افتح لى فقال له كعب إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه وفاء وصدقا قال له حيي بعد أن فتح له: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام قال : وما ذاك ؟ قال : جئتك بقريش على سادتها وقادتها وبغطفان وقد عاقدوني وعاهدوني على أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هرق ماءه فهو يرعد ويبرق وليس مني شيء، دعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا، ولكن حُييا لم يزل بهم يزين لهم الغدر في هذه الساعة الحرجة حتى مزقوا الوثيقة التي بينهم وبين النبي ولما بعث لهم سعد بن معاذ ليستطلع الأمر قالوا له : من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد وحاول سعد أن يذكرهم بعقدهم فتصاموا عنه فلما خوفهم عقبى الغدر وذكر لهم مصير بني النضير شتموه بأقبح الشتائم، ووجم المسلمون حين عادت رسلهم تحمل هذه الأنباء المقلقة وأحاط المشركون بالمسلمين وحاصروهم قريبا من عشرين ليلة، ولما اشتد البلاء نافق ناس كثير وأتى العدو المسلمينَ من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن ننال كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط وحتى قال أوس بن قيظي : يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو فائذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة ولما رأى رسول الله ما بالناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول : (( والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة وليهلكن الله كسرى وقيصر ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله )) أخرجه البخاري ومسلم.
وتشجع صحابة رسول الله للمقاومة وهكذا تختلف طبائع النفوس وتتفاوت تفاوتا كبيرا لدى الأزمات والتضيقات منها الهش الذي سرعان ما يذوب ويحمله التيار معه كما هي ويصاب بالفتور ويضع أمامه العوائق الوهمية تحمله المياه الغثاء والأوصال ومنها الصلب الذي تمر به العواصف المجتاحة فتنكر حدتها على متنه وتتحول زبدا، أجل، من الناس من يهجم على الشدائد وعلى لسانه قول الشاعر :
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ومنهم من إذا مسه الفزع طاش لبُّه فولّى الأدبار بالأعذار وأوغل في الفرار ويزرع الشك والسب إعذارا لموقعه الدنيء.
إخوة الإيمان وأقام رسول الله وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة وأصيب سعد بن معاذ بسهم قطع منه عرق الأكحل، ونقل إلى خيمة بالمسجد ليمرَّض، قال حذيفة ابن اليمان رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن قعود وأبو سفيان ومن معه فوقنا وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا منها ما يستطيع أحدنا أن يرى إصبعه ولم يكن معي جَُنَّة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي لا يجاوز ركبتي فقال رسول الله مَنْ رجل يقوم فينظر ما فعل القوم ثم يرجع ؟ أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة ؟ فما قام رجل من القوم من شدة الخوف والجوع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني وقال يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ؟ فذهب فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام قد هلك الكراع والخف وأخلتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره فارتحلوا فإني مرتحل، وكان نعيم بن مسعود من عطفان قد أسلم أثناء الحصار وجاء إلى النبي فأوصاه النبي أن يكتم إسلامه وأن يذهب إلى المشركين وبني قريظة لينخل فيما بينهم واستطاع بذكائه أن يفعل بهم الأفاعيل وعرف له ذلك اليوم وهكذا أفلح المسلمون في فَصْمِ عُرى التحالف بين الأحزاب المجتمعة حتى دب القنوط والتخاذل في صفوف المهاجمين وطلع النهار وظاهر المدينة خلاء وارتحلت الأحزاب وانفك الحصار وعاد الأمن وأهمُّ من ذلك أن الإيمان الصادق نجح في هذه المحنة وهتف رسول الله لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده ،وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، وقال : كذلك الآن نغزوهم ولا يغزوننا ولما عادت حشود الأحزاب تحمل معها الفشل والخيبة بقي اليهود وبقيت معهم غدرتهم التي فضحت طواياهم وكانت مشاعر الغيظ والبغض في أفئدة المسلمين نحو أولئك اليهود قد بلغت ذروتها، ولما كان الظهر أتى جبريل رسول الله فقال : أوقد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : نعم. فقال جبريل : فما وضعت الملائكة بعد إن الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، فأذن بالناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلينَّ العصر إلا ببني قريظة، وأتى رسول الله بني قريظة، ونزل عند حصونهم وتلاحق به الناس وحاصرهم رسول الله خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، وعرض كعب بن أسد سيدهم عليهم ثلاثة حلول فقال يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني أعرض عليكم أن نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم إنه لنبي مرسل وإنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنون به على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا، قال إذا أبيتم علي فهلمّ نقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه فنقاتلهم لا نخشى شيئا وراءنا قالوا فما خير العيش بعد أبناءنا ونسائنا قال : فإن أبيتم فإن الليلة سبت وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا منها فانزلوا لعلنا نصيب منهم غرة قالوا : نفد سبتنا فقال لهم : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما، وحاول بنو قريظة أن يظفروا بالصلح بيد أن المسلمين أبو عليهم إلا أن يسلموا دون قيد أو شرط لجرمهم وغدرهم الشائن ثم قرروا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.
ولم ينس سعد حينذاك كيف نقضت قريظة عهدها واستقبلته بالألفاظ البذيئة عندما ذهب يناشدهم الوفاء وحكم سعد أن يقتل الرجال المقاتلين وتسبى الذرية وتقسم الأموال فقال له رسول الله لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ونفذ فيهم الحكم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديراً.[الأحزاب: 25:27]
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أمرنا بطاعته واتباع رسوله،ونهانا عن اتباع أهوائنا والقول عليه بلا علم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائل (( إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد :
أيها الإخوة المؤمنون : اتقوا الله تعالى واعلموا أن غزوة الأحزاب التي مرت على النبي وصحابته الكرام كانت أزمة مرت بهم لم يمر بهم أشد منها في المدينة حتى بلغت القلوب الحناجر كما وصف الله تعالى ولذلك فإنه في مثل هذه الأزمات يظهر النفاق وجهه الحقيقي في مجابهة الدعوة إلى الله ومقاومة أهلها وأوليائها وأما الصحابة المخلصون فقد ثبتهم الله تعالى في هذا الموقف العصيب الذي مر بهم في المدينة.
أما اليهود فإن تاريخ الإسلام حافل بكل ما هو شر وحقد على الإسلام وأهله فانظروا إخوة الإيمان ماذا فعلوا بالنبي في أحلك الظروف وأشدها تأزما هذه خلال اليهود، يسفهون إذا وجلوا ليستفيدوا منها وحدهم لا لشيء آخر أما العهود فهي آخر شيء في الحياة يقفون عنده أو تحقق لهم ما أرادوا من نيات خبيثة بالرسول وصحابته، كان ألوف المسلمين هلكى تحت أقدام الأحزاب المنسابة من كل ناحية، يحرضهم ويؤازرهم أولئك اليهود ولكن الله سلم ولقد كان مجمع الأحزاب حول المدينة أصلا بسعي حثيث من زعماء اليهود حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، ذهبوا إلى مكة وشجعوهم على غزو المدينة وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله وقالت لهم قريش يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعمل بما بيننا وبين محمد أفدينُنَا خير أم دينه قالوا بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا فاجتمعوا لذلك وقالوا مثل ذلك لغطفان فشجعوهم على حرب النبي وفيهم يقول الله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين ءامنوا سبيلاً أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً.[النساء:51/52] إن اليهود لا يدعون خسَّتهم أبدا ولا يرعون المواثيق إلا إذا كانت متمشية مع أطماعهم ومكاسبهم فإذا ذهب ذلك نبذوا تلك العهود وغدروا بالمسلمين وبمن وثق بهم ومدَّ لهم يده.
هذا وصلوا وسلموا يا عباد الله على من أمركم الله.
(1/512)
الصلاة وعظم مكانتها
فقه
الصلاة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أعظم شعب الإيمان بعد التوحيد : الصلاة – آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم الصلاة
وكذا أوصى بها عمر رضي الله عنه وهو ينازع الموت – حِكَم الصلاة وأسرارها -
ذنب إبليس عصيان الأمر بالسجود ومشابهة تارك الصلاة له – حُكم تارك الصلاة والأدلة على
ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الله تعالى لم يفرض من شعب الإيمان وشرائع الإسلام أمرًا أعظم بعد التوحيد من الصلاة، فالصلاة هي أعظم شعب الإيمان وأركان الإسلام بعد التوحيد وهى عمود الدين كما أخبر بذلك سيدنا رسول الله ، وقد سماها الله في كتابه إيمانًا فقال سبحانه وتعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم [البقرة:143].
وسبب نزول هذه الآية أنه لما نزلت آية القبلة على سيدنا رسول الله وكانت قد حضرته صلاة العصر فصلى صلاة العصر إلى الكعبة في مسجده النبوي ولم تبلغ آية القبلة أهل قباء في هذا المسجد إلا في اليوم التالي فبلغتهم وهم في صلاة الصبح فتحولوا إلى الكعبة وهم في الصلاة وأشكل على أصحاب رسول الله أمر المصلين الذين صلوا قبل أن تبلغهم هذه الآية وأمر المصلين الذين ماتوا قبل أن تنزل هذه الآية آية القبلة ما حكم صلاتهم، فأنزل [1] الله عز وجل هذه الآية ليبين حكم صلاتهم: وما كان الله ليضيع إيمانكم [البقرة:143]. أي صلاتكم.
وقد ثبت عن أنس [2] رضي الله عنه أنه قال كان آخر وصية أوصى بها النبي وهو يغرغر بها في صدره ولا يكاد يفيض بها لسانه ((الصلاة الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)).
وثبت عن عبد الله [3] بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما طُعن عمر رضي الله عنه احتملته أنا ونفر من الأنصار فأدخلناه في منزله فلم يزل في غشية واحدة حتى أسفر "أي طلع الصبح" فقلنا الصلاة يا أمير المؤمنين.
ففتح عينيه ثم قال: أصلى الناس؟ قلنا:- نعم. قال:- أما إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى رضي الله عنه وجرحه يثعب دمًا.
فهذا سيدنا رسول الله وهو في أشد حالات النزع والاحتضار يوصي أمته بالصلاة، وهذا أمير المؤمنين الفاروق عمر وهو مطعون وهو في تلك الحالة من شدة الاحتضار وكرب النزع والاحتضار وهو يسأل عن صلاة الناس ويوصي الناس بالصلاة.
وهكذا عادة جميع أصحاب رسول الله تعظيم شأن الصلاة، كانوا يعظمون شأن الصلاة ويعدونها عمود الدين فلا دين عندهم بلا صلاة، هي عمود الدين كما أخبرهم بذلك سيدنا رسول الله.
وكيف لا تكون هذه الأهمية لهذه الفريضة العظيمة وهى الصلة بين العبد وبين ربه إذا قام العبد للصلاة فقد قام بين يدي ربه عز وجل، إذا استقبل القبلة فإن الله تعالى تجاهه، العبد في الصلاة واقف بين يدي ربه يناجيه، يناجي ربه بتسبيحه وتحميده والقيام بين يديه والركوع له والسجود وذكره سبحانه وتعالى، فالصلاة هي الصلة بين العبد وربه، هي أيضًا علامة على التسليم والانقياد للرب عز وجل، الصلاة بحركاتها وأفعالها وأذكارها علامة بارزة على التسليم والانقياد لله عز وجل.
الصلاة بما فيها من قيام بين يدي الملك العلام وما فيها من ركوع وسجود وتسبيح له وتحميد وقراءة للقرآن علامة بارزة على التسليم والانقياد لله سبحانه وتعالى، فمن عصى ربه بترك الصلاة فقد أبى التسليم والانقياد لله عز وجل ولا إسلام ولا إيمان بلا انقياد ولا تسليم، قال عز وجل: فمن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [لقمان:22]. وقال : ((الإسلام أن تسلم قلبك لله)) [4].
وهذا إبليس لعنه الله ما الذي أخرجه من رحمة الله وسبب له الطرد من رحمة الله واللعنة الأبدية إلى يوم يبعثون؟
لقد أبى التسليم والانقياد لأمر الله عز وجل عندما رفض أن ينفذ. أمره عز وجل بالسجود لآدم. عندما رفض أن يسجد لآدم وإلا فإقرار إبليس بربوبية الله وألوهيته ما اعتراه نقص ولا شك ولا تردد لكنه مع توحيده لله ومع معرفته بالله عز وجل أبى التسليم والانقياد لأمره، ورفض السجود لآدم امتثالاً لله عز وجل، رفض الامتثال لأمر الله عز وجل بالسجود لآدم فكفر بذلك وأبلس أي طُرد من رحمة الله عز وجل إلى يوم يبعثون.
ومن عصى ربه بترك الصلاة فقد أبى السجود لله فهو ليس أحسن حالاً من إبليس، بل هو أسوأ حالاً من إبليس فإبليس كفر برفضه السجود لآدم، وهذا الذي ترك الصلاة رفض بتركه السجود لله رب آدم رفض السجود لله عز وجل رب آدم ولذلك فهو أسوأ حالاً من إبليس ولذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا لا يعدون شيئًا من المعاصي كفرًا إلا ترك الصلاة.
ثبت عن [5] عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنهم سألوه فقالوا: نجد في القرآن الإكثار من ذكر الصلاة الذين هم على صلاتهم دائمون [المعارج:23]. على صلاتهم يحافظون [المعارج:34].
فقال: ذلك أي على مواقيتها، يحافظون على مواقيتها.
فقالوا: إنما كنا نرى يا أبا عبد الرحمن على تركها - أي يحافظون عليها بفعلها وعدم تركها-.
فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تركها كفر.
وثبت عن عبد الله [6] بن شقيق رضي الله عنه أنه قال: كان أصحاب محمد لا يعدون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
أي كان أصحاب محمد يعدون ترك الصلاة كفرًا.
وجاء الخبر يصدقهم على هذا الفهم، جاء الخبر عن رسول الله يصدقهم على هذا الفهم، فقد ثبت عنه أنه قال: ((أنه ليس بين الرجل وبين الشرك أو الكفر غير الصلاة)) [7].
وثبت عنه قوله : ( (العهد الذي بيننا وبينهم - أي المشركين - الصلاة فمن تركها فقد كفر)) [8].
وهذا الكفر الذي وُصف به ترك الصلاة هو ليس مثل الكفر الذي وُصفت به بعض المعاصي في مثل قوله : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) [9].
ومثل قوله : ((المراء في القرآن كفر)) [10].
أو مثل قوله : ((من كفر مسلمًا فقد باء به أحدهما)) [11].
أو مثل قوله إن صح عنه ذلك: ((من أتى حائضًا فقد كفر)) [12].
الكفر الذي وُصف به ترك الصلاة ليس مثل هذا الكفر الذي وُصفت به هذه المعاصي فإن هذا الكفر الذي وُصفت به هذه المعاصي هو كفر دون الكفر الأكبر المخرج من الملة.
فإن من قاتل مسلمًا أو من كفر مسلمًا أو من جادل في بعض مسائل القرآن أو أتى حائضًا لا يخرج من الملة وإن عصى ربه عز وجل وأتى ذنبًا عظيمًا يدل على عظم هذا الذنب وصف النبي له بالكفر.
لكنه كفر لا يخرج من الملة بخلاف ترك الصلاة فإنه كفر أكبر يخرج من الملة يدل على ذلك فهم أصحاب سيدنا رسول الله.
فإنهم مع أنهم لم يفهموا من وصف الكفر الذي أُطلق على تلك المعاصي أنه كفر أكبر يخرج من الملة فهموا من وصف الكفر الذي أطلق على ترك الصلاة أنه كفر أكبر يخرج من الملة.
ويدل على صحة فهمهم هذا كتاب الله عز وجل فإننا نجد فيه أنه جعل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة علامتين على صحة الإسلام وصحة التوبة لقوله عز وجل: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين [التوبة:11].
معنى ذلك أن من أقام الصلاة وآتى الزكاة، دلت إقامته للصلاة وإيتاؤه للزكاة على صحة إسلامه وصحة توبته. أما إذا لم يفعل ذلك فإسلامه غير صحيح وتوبته غير صحيحة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في الإيمان باب الصلاة من الإيمان (1/23) رقم (40).
[2] أخرجه أحمد (3/117) وابن سعد في الطبقات (2/253) وابن ماجة (2697).
[3] أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/350) وغيره وسنده صحيح.
[4] مسند أحمد (4/114)، (5/3).
[5] أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1532-1534) وابن عبد البر في التمهيد (4/23).
[6] أخرجه الترمذي (5/14) برقم (2622) وغيره وسنده صحيح.
[7] أخرجه مسلم في صحيحه (35) برقم (82).
[8] أخرجه أحمد (5/346)، والترمذي (5/14) برقم (2621) وغيرهما والحديث صحيح.
[9] أخرجه البخاري في صحيحه (1/27) برقم (48).
[10] أخرجه أحمد (2/286و300و478) وأبو داود (4603) والنسائي (118) وابن حبان (1464) والحاكم (2/243) برقم (2883).
[11] أخرجه البخاري في صحيحه (5/2263و2264) برقم (6103-6104).
[12] أخرجه الترمذي برقم (135) وأبو داود (3904) وابن ماجة (639) وغيرهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه (1/306) رقم (408).
(1/513)
دروس من غزوة أحد
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
16/10/1415
جامع السلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها الإخوة المؤمنون ما أجمل أن نداوي الجراح المكلومة الغائرة بالسيرة العطرة المعطرة لرسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه،فسيرته بلسم للجراح وملاذ للخائف وحصٌن للراجي ، والعوذ عندما تدلهم المصائب والأزمات.
فبَكََّي رسول الله يا عين عبرة ولا أعرفنك الدهر ودمعك يجمد
وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد
تناهت وصاة المسلمين بكفه فلا العلم محبوس ولا الرأي يفند
أقول ولا يلقى لقولي عائب من الناس إلا عازب العقل مبعد
في الخامس عشر من شهر شوال أي في مثل هذه الأيام من السنة الثالثة من الهجرة وقعت معركة أحد بين المسلمين الموحدين ومشركي قريش ومهما أعدت ودبِّجت الرسائل فلن تعطي هذا الحديث ماله من حق في الدروس والعبر التي استفادها المسلمون من زمن الصحابة وحتى يومنا هذه وكأن الله عز وجل حينما قدّر أن الدائرة تدور على المسلمين في نهاية المعركة أراد بذلك أن يعطي الصحابة دروسا في بداية جهادهم ضد المشركين دروسا مؤثرة بالغة ترسخ في أذهانهم فلا ينسوها وتخلد في حياتهم فلا يجهلوها، وكذلك أن تصبح دروسا للأمة جمعاء في حياتها ومعاملاتها ولعل دروس النكبات والهزائم أعظم أثرا من غيرها في كل وقت وحين إلى الجسد المسلم بل والمتداهي، وهم بذلك يشوهون صورة الإسلام حينما يعرضون كل ذلك بالعلم ومحاربة البدعة ومنهج السلف هذه مواقف الإرجاف والنفاق من لدن نبينا محمد e وحتى الآن ، فعبد الله بن أبي إنما أراد بذلك العمل أن يضعف المعنويات وأن تخور القوى لدى الصحابة حينما يهزهم هو ومن معه من المنافقين والمرجفين في المدينة بهذا الموقف، فهي طعنة في الظهر ولذلك فقد عاتبهم الله جل وعلا بقوله وليعلم الذين نافقوا، وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لا تبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان [آل عمران:167] وهو عمل ينطوي على غدر بالإسلام في أحرج الظروف وتلك أبرز خسائر النفاق والإرجاف، ولكن الله الذي صان هذه الدعوة وحماها أراد بمثل هذه المواقف المرجفة أن تصاب الأمة بمثل ذلك لكي تعزل الخبث عنها ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب [آل عمران:179] درس لا بد من الوقوف عليه ونحن نطالع هذه الغزوة إخوة الإيمان، واستعد المشركون بثلاثة آلاف مقاتل بعد أن اصطحبوا نساءهم وعبيدهم وجواريهم وكان المسلمون حينذاك سبعمائة مقاتل مع رسول الله وعسكروا بالشَّعْب جاعلين ظهورهم إلى الجبل ووزع النبي الرماة على أماكنهم وأمر عليهم عبد الله بن جبير في خطة محكمة رائعة، وكانوا خمسين رجلا وأمرهم بأن لا يغيروا أماكنهم مهما ظهر لهم النصر وظاهر هو نفسه بين درعين وتخير من الأقوياء من يكونوا في مقدمة الجيش ،روى ثابت عن النبي وممن قتل من الصحابة حنظلة بن أبي عامر الغسيل حيث قال عنه رسول الله إن صاحبكم لتغسله الملائكة فلما سألوا أهله ما شأنه قالت : إنه خرج وهو جنب ليلة عرسه حين سمع نداء الجهاد ، الله أكبر إخوة الإيمان إن الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم وجهادهم ويوجهون زمامه بعزماتهم هم الذين صلوا هذه الحرب وبهذه التضحيات وبها وحدها وحفظوا مصير الإسلام في الأرض وممن قتل عمرو بن الجموح الذي كان أعرجا ولكنه أقسم أن يطأ بعرجته هذه في الجنة فلبى الله قسمه، وحينما رأى الرماة هذا النصر مالوا إلى المعسكر وخلوا ظهور العدو فكان يوم بلاء وتمحيص حتى وُصَِل إلى رسول الله فرُمي بالحجارة حتى وقع شقه فأصيبت رباعيته وشج في وجهه وجرحت شفته ودخلت حلقات المغفر في وجهه فأكب عليه أبو عبيدة ينزعها بفمه فما أخرجها إلا وقد سقطت ثنيتاه ونزف الدم بغزارة وجعل الدم يسيل على وجه النبي وجعل يمسح الدم وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم، ويمرّ ابن النضر بالمسلمين أثناء القتال فيقولون له مات رسول الله فيقول فما تصنعون بعدة، قوموا فموتوا على ما مات عليه، وبرزت حينئذ بطولة الصحابة رضوان الله عليهم فاجتمعوا حول رسول الله ينافحون عنه فترس أبو دجانة نفسه عن الرسول الله صلوات الله وسلامه عليه فأخذ النبل ويقع في ظهره وهومنحن عليه حتى كثر فيه النبل ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله قال سعد فلقد رأيته يناولني النبل وهو يقول : ارم فداك أبي وأمي ولما عرف المسلمون رسول الله نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام والحارث بن الضيمة وطلحة بن عبيد الله، وطلحة قد أبلى بلاء يوم أحد حتى عرف ذلك اليوم به فكان يرفع النبي ثم يقاتل المشركين ثم يأتيه فيرفعه ثم يعود للقتال حتى سمي طلحة الشهيد الحي وقال عنه حينما رأى ما صنع أوجب طلحة، أي وجبت له الجنة، ولما أسند رسول الله في الشعب أدركه أبيُّ بن خلف وهو يقول محمد لا نجوُت إن نجوتَ فقال رسول الله للقوم : دعوه فلما دنا تناول رسول الله الجربة فلما أخذها فهزها فانتهض الصحابة من حوله وتطايروا تطاير الشعراء أي الذباب عن ظهر البعير إذا انتفض بها ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنه تدحرج منها عن فرسه مرارا، وبعد نهاية المعركة وقفت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن في القتلة وبُقرت كبد حمزة ومثل بالصحابة، وخرج رسول الله يلتمس حمزة فوجده بهذه الصورة ممثلا به في بطن الوادي فحزن لذلك أشد الحزن وأمر به فسجي ببردة ثم صلى عليه وكانوا يأتون بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة.
وقال رسول الله من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع فقال رجل من الأنصار أنا فذهب يبحث عنه فوجده جريحا في القتلى وبه رمق، فقال له إن رسول الله يسأل عنك فقال سعد أنا في الأموات فأبلغ رسول الله عني السلام وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته وأبلغ قولي للأنصار السلام وقل لهم إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف ثم لم يبرح أن مات فأخبر النبي بالخبر فاستغفر له وقال رسول الله حينما أشرف على القتلى يوم أحد أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا ويبعثه الله يوم القيامة يرقى جرحه اللون لون الدم والريح ريح مسك.
ثم انصرف رسول الله راجعا إلى المدينة بعد أن أمر عليا بأن يلحق بالمشركين وكان مهموما حزينا وحينما مر ببيوت الأنصار سمع حزن نسائهم فتأثر وقال : ولكن حمزة لا بواكي له فبكت نساء الأنصار يومئذ حمزة عزاء للنبي.
ومر رسول الله بامرأة من بني دينار أثناء رجوعه ، فقالوا لها : قد مات أخوك ، فقالت لهم: ما فعل رسول الله ؛ فقالوا لها : مات أبوك ؛ فقالت لهم: ما فعل رسول الله ، فقالوا لها: مات زوجك ؛ قالت : ما فعل رسول الله ؛ قالوا : خيرا يا أم فلان بحمد الله كما تحبين، قالت : أروني حتى أنظر إليه ، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل تريد أنها صغيرة.
صورة قوية قارعة للبطولة والتضحية اصطدم بها الكفر في أول المعركة وآخرها فماذا أمامها واضطربت من تحت أقدامه الأرض فما ربح شيئا في بداية القتال ولا انتفع بما ربح آخره وهذا اللون من البطولة مسطر في التاريخ ينتظر من يلقى عليه الضوء ولن يقوم للإسلام صرح ولا ينكشف عنه طغيان إلا بهذه القوى المذخورة المضغوطة في أفئدة الصديقين والشهداء ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولم يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [آل عمران:139-142]
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه...
أيها المسلمون : اتقوا الله تعالى واعلموا أن معركة أحد قد تركت آثارا غائرة في نفس النبي تلازمه حتى آخر حياته ولما حانت وفاته جعل آخر عهده بذكريات البطولة أن يودع قتلى أحد وأن يدعوا الله لهم عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله على قتلى أحد بعد ثمان سنوات كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر فقال إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها قال عقبة فكان آخر نظرة نظرتها إلى الرسول أخرجه البخاري ومسلم.
وهكذا كانت فائدة الصحابة عظيمة من هذه الغزوة بالرغم من مصابهم فيها ولذلك فإنه يجب على الأمة أن تعلم أن الإيمان بهذا الدين يحب أن يصاحبه يقين تام بنصر الله جل وعلا لهذا الدين وتمكينه ، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر:51] والوعد الصادق من رسول الله لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك فهذه، الطائفة ظاهرة لا يضرها شيء فقد تخذلهم فئام من الناس وقد يخذلهم المرجفون والخلوف الذين يقفون بين الصفين فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم نمنعكم من المؤمنين كل هؤلاء لن يضروا الدين مهما فعلوا وإن هذا الوعد الصادق ينبغي أن يكون يقيننا به كيقيننا بهذا الدين الذي نعتقده، ونحتاج هذا اليقين أكثر في ساعات الشدة وأوقات الكرب يوم تدلهم الخطوب وتكفهرُّ الأحداث، نوقظ في النفوس صدق هذا الموعود واليقين به، ولذا كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه أشد ما يكون تفاؤلا في ساعات الشدة وأوقات الكرب يأتي إليه خباب بن الأرت وقد أمضه الألم من إيذاء المشركين ورسول الله محاَرَبْ من المشركين ويلقى المسلمون من المشركين الشدة يطردون ويؤذون في شعاب مكة فيقول يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر؟ لنا فماذا أجابه الرسول الكريم (( والله لينصرن الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام وذلا يذل به الشرك وليتمن الله هذا الجدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه)) يقوله في حين أن المسلم ذلك الوقت لا يأمن أن يسير في فجاج مكة آمنا ثم انظر إلى رسول الله وللمسلمين معه يوم الأحزاب حينما أحاط به المشركون حينما كبَّر وكبَّر المسلمون معه، وقال لهم لقد أضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ورأيت القصور الحمر في أرض الروم وأمتي ظاهرة عليها ورأيت قصور صنعاء وأمتي ظاهرة عليها فاستبشر المسلمون حينذاك، وكلما تكالبت على المسلمين الخطوب والكوارث واشتد عليهم الخطب يجب أن يفزعوا إلى يقينهم بصدق موعود الله عز وجل وأن هذا الدين له وهو الذي تكفل بنصره والتمكين له في أرضه وسمائه.
حقيقٌة ينبغي ألا تغيب مهما غامت الرؤى أو غبشت الأجواء ولم يرتبط نصر هذا الدين مصيره بالدول أو بالجماعات أو بالأفراد ولو كانوا الأنبياء قد قتلوا ومع ذلك لم يمتنع أتباعهم عن مواصلة الدعوة والعمل بل لقد عاتب الله أصحاب نبيه في يوم أحد عندما سرى فيهم الوهن عندما أشيع بين ظهرانيهم أن النبي قد قتل فقال لهم وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين [آل عمران:144]
(1/514)
خواطر الإجازة
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, الترفيه والرياضة
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية استغلال الإجازة. 2- نفاسة الوقت وضرورة استغلاله. 3- الحذر من التسويف
وطول الأمل. 4- صلة الأرحام والحذر من قطعها واستغلال الإجازة في وصلها. 5- الاستفادة
من الإجازة في تنمية المواهب وحفظ القرآن والسنة والعلم. 6- الحذر من السياحة في بلاد
الكفار وأماكن الرذيلة وإضاعة المال هناك. 7- تشجيع السياحة الداخلية لا سيما التعبدية (العمرة - الزيارة -..).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا أيها الناس : اتقوا الله حق التقوى، عباد الله يقول في الحديث الصحيح: ((نعمتان مغبون فيها كثير من الناس، الصحة والفراغ)) الحياة نعمة عظيمة ومنحة من الله كريمة ينبغي لنا أن نودع أيامها من الأعمال الجادة والمواقف الرائدة ما يعصمها من أن تصبح عبئا على أصحابها، وكابوسا على أبنائنا. إن المستفيدين من الحياة هم الذين بفضل الله أعدوا لكل يوم عمله ولكل شهر مشروعه وجعلوا من أوقات الراحة لحظات نافعة وفرصا نحو الخير دافعة.
وفي مواسم الإجازات يحسن الحديث عنها ويجمل الخطاب إلى أهلها حول استغلالها بالخير والنافع فتعالوا معاشر الإخوة لنستعرض بعضا مما يجول في الذهن من خواطر حول الإجازة.
إخوة الإيمان: من أكبر علامات المقت إضاعة الوقت، فليس الوقت من ذهب كما يقول المثل الشائع بل هو أغلى من الذهب واللؤلؤ ومن كل جوهر نفيس أو حجر كريم، إنه الحياة والعمر، والإنسان يفتدي نفسه بكل غال ونفيس، قال ابن مسعود : " ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي " نعوذ بالله من تناقص الأجل من غير زيادة في صالح العمل.
من أمضى يوما من عمره في غير حقٍ قضاه أو فرضٍ أدّاه أو مجد أصّله، أو فعل محمود حصّله، أو علم اقتبسه، َفَقَدَ يومه وظلم نفسه وخان عمره.
أيها الشباب : من المحزن حقاً أن يعيش شباب في عمر الزهور واكتمال القوى لا يبالون في إضاعة أوقاتهم سدى بل إنهم يعتدون على أوقات الآخرين ليقطعوها باللهو والباطل والشؤون الساقطة والأمور المحتقرة يجب أن ننقذ شباب الأمة من هذا الذهول المهلك غفلة عن الغد وإغراق مميت في الحاضر، مسحورون بنضرة الشباب العارضة وتضيع الأيام والليالي من غير حساب ولا محاسبة. يقول جل وعلا: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون [يونس: 8-7]
أليس من الغفلة والحرمان وسبيل فناء أمم أن يألف شباب أصحاء النوم حتى الضحى، أو ما بعده، تمرّ عليهم زهرة اليوم وهم َيغطَّون في نوم عميق قد بال الشيطان في آذانهم إذا قام أحدهم فإذا هو ثقيل الخطى خبيث النفس هزيل القوى كسلان أضاع يومه ما بين سهره ونومه.
أيها الإخوة : من أجل مزيد من حفظ الوقت والانضباط فيه علينا أن ندرك حكمة الإسلام في المداومة على العمل وإن طال فالمنقطع وذو الأمزجة لا يكاد يجدي ، ولو كان كثيرا فالعمل الدائم يبدأ صغيرا ومع المداومة وقوة العزيمة يغدو كبيرا.
إن المداومة والمسارعة في الخيرات فيها اغتنام للوقت من غير تكاسل أو تثاقل ففي حديثه عن أبي هريرة أنه قال : ((بادروا بالأعمال سبعأً هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر )) رواه الترمذي.
إن مما يحفظ الوقت التنظيم وحسن الترتيب فالوقت لا يتسع لكل شيء ومن شغل نفسه بغير المهم ضيع المهم وفوّت الأهم ، ومن وصايا أبي بكر لخليفته عمر رضي الله عنهما : " اعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار " ، ولهذا جاءت عبادات كثيرة موقوتة بأوقاتها، التقدم عليها لا يجزي والتأخر من غير عذر يوقع في المأثم والمغرم.
شباب الإسلام : تلكم أهمية الوقت فأين استغلالنا له إياكم والتسويف فإن (سوف) من جند إبليس، الموت يأتي بغتة والأكفان منسوجة والآجال عندكم غير معلومة ، كم أَمَّل شاب وشابة وخططوا في هذه الإجازة، وقف الموت فجأة دون تلك الخطط والآمال، فأين العبرة والعظة؟ إذا ضمنا الغد فمن يضمن السلامة من المعوقات من مرض طارئ أو شغل عارض أو بلاء نازل أو فتنة جائحة؟ (( اغتنم خمسا قبل خمس حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك )) ، حديث رواه الحاكم والبيهقي بإسناد حسن
من ظن من الشباب أن المستقبل أكثر فراغا فليعلم أن هذا وهم، وسراب فكلما كبرت السن كثرت المسؤوليات، وزادت العلاقات، وضاقت الأوقات، وضعفت الطاقات، فالوقت في الكبر أضيق والجسم فيه أضعف فبادروا ساعاتكم ولا تتعلقوا بغائب مجهول وما التسويف إلا تفويت للحق وخسران لليوم وتضييع للغد.
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيُع
إخوة الإيمان : من خواطر الإجازة التي ترد على البال أن نعلم أن في كل فراغ يمر بالإنسان فرصا للخير هي مشاريع زائدة وأفكار رائعة تجلب أجرا وتحط وزرا يجب على الإنسان استغلال فراغه فيها لتجعل أيامه عامرة بالخير غامرة بالنفع.
فأين نحن من صلة الأرحام؟ ولا سيما الأباعد، هذا الأمر الذي أهملناه وأصبح الحديث فيه غريبا في ظل ما عرفنا فيه من مادية وغفلة سيطرت على قلوبنا وعقولنا.
كم من قريب عققناه؟ وكم من رحم قطعناها؟ إن الإجازة فرصة لكم للم الشمل، إن الإجازة فرصة لِرَأْب الصدع إن الإجازة خير وسيلة لصلة الرحم ثم المواصلة بعدها قال : ((إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله: نعم، أما ترضين أن أَصِلَ من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك)).
ومن مشاريع الإجازة أن كثيرا من أبنائنا ولله الحمد قد رزقوا مواهب وطاقات فأين نحن من تنميتها وتوجيهها إلى الخير؟ أين رعايتنا بموهبة حفظ القرآن والسنة؟ أين عنايتنا بهم بالميل إلى الثقافة أو نظم الشعر أو الكتابة؟ بل حتى المواهب الحرَِفية كالزراعة والصناعة ينبغي تشجيعها وإنماؤها، ما المانع في أن نستغل الإجازة في إشباع هذه المواهب ودعمها بأسباب القوة لتعود على صاحبها وعلى المجتمع بالخير العميم والنفع العظيم أين اهتمامنا بالقراءة أسلوبا وهدفا فردا وأسرة فلا نقرأ للمنام ولا نقرأ دفعا للسأم، بل نقرأ كل نافع ومفيد لنقوي فكرنا وفكر أبنائنا.
أيها المسلمون : من خواطر الإجازة والأفراد أننا عند الإجازة نرى بعض الأسر ينتظرون بفارغ الصبر لتبدأ رحلات سياحية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا بدعوى الترفيه وإنني إذ أدعو كل أب إلى الترفيه المباح الحلال له ولأبنائه فيجب أن يكون هذا الترفيه متفقا مع قيمه متكاملا مع عقيدته يبني ولا يهدم ، يقدم ولا يؤخر فيزداد الأبناء بالتأمل في خلق الله من جبل ونهر وواد سهل وصحراء وبحر، كما يزدادون معرفة ببلاد الله الواسعة وعباده المنتشرين فوق الأرض ، ولكن أن تصبح السياحة هدفا للأبناء والأسر، ومرضا لا عافية معه، وتعلقا بالشهوات والشبهات وسياحة في بلاد تخلع فيها الكرامة وينسلخ بها الحياء، ثم نبذل فيها الأموال الطائلة والأوقات الضائعة بل الأهم أن الدين والخلق يقلان ويضعفان في تلك السياحة لتنتهي بخسران عظيم وألم مقيم في التفريط في جنب الله العظيم.
أيها الشاب : الدين والصحة والنعمة أمور نرفض ويرفض كل ذي عقل أن تكون ثمنا لمتعة عابرة، أو رحلة جامحة، يعود صاحبها باقتناء السراب، وافتقاد مقومات الحياة السليمة، وخسران الدنيا والآخرة، وإننا حين نصرح بذلك نطالع بعين العجب والأسف إلى جرائدنا ومجلات الإعلان وقد أصبحت مرتعا لما نُحَّذر منه فحين نُقلبَّها لا نجدها ممتلئة بشروح مفصلة لما يتعرض له المسلمون في شرق الأرض وغربها من حروب فتاكة ودماء مهدرة وأراض منهوبة وحقوق مضيعة وتلك الوسائل من فرط تأثرها بهذه المآسي أصبحت تفرغ في أعمدتها حيزا كبيرا للإعلانات عن ماذا يا ترى ؟! إنها الإعلانات السياحة والتخفيضات في التذاكر والإقامة في بلدان تغلب في أكثرها الفسوق والرذيلة، داعية الشباب والعائلات إلى السفر للخارج وبذل الأموال الطائلة لإضاعة الدين والعرض والوقت والصحة، بالله عليكم إخوة الإيمان ما الهدف من هذه الحملة الشعواء ؟ ما الفائدة العلمية والعملية ؟ إنهم يبذلون كل جهد في الدعاية لبلادهم لتصبح مهوى أفئدة أبنائنا وليصرف أغنياؤنا عندهم الأموال وتنتهك الأوقات إلا من رحم ربك وقليل ماهم.
إن لنا فيما نراه من تجارب السياحة الخارجية في إجازات مضت ما هو كفيل بإعطائنا الدروس.
إذا كنا نشكو من وفرة المال فإن هناك إخوانا لنا من المسلمين يتضورون جوعا وتهلكهم المصائب ولا يجدون من يغيثهم إذا كنا نشكو من الفراغ فلنتذكر حديث نبينا محمد الصحيح حين قال : (( لن تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به )) إذا كنا نشكو من قلة الفرص لنا ولأبنائنا فإن سبل الخير متوفرة وموجودة، ولا عذر لأحد في تجاهلها من سياحة داخلية في بلادنا العامرة، وعمرة وزيارة ومراكز صيفية بناءة وحَِلق جماعات تحفيظ القرآن وغيرها من فرص الخير.
اتقوا الله رحمكم الله وقوموا مسؤولياتكم اتقوا الله في أماناتكم في أبنائكم وشبابكم وإجازاتكم.
ولنعلم أننا أمة إن تعاونت على البر والتقوى وربت عليها الأولاد والمجتمع فلن يكون بها مكان لسماسرة الترفيه المشبوه ولا لألبسة التحرر الفكري السلوكي وستجني بلادنا وأمتنا إن شاء الله أطيب الثمار عندما نحافظ على أبنائها وبناتها ونحرص على تربيتهم وندعو الله أولا وأخيرا لتوفيقهم إنه سميع مجيب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم.[الأنفال:27-28 ]
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه... أما بعد :
فيا أيها الناس عباد الله : إن الإجازة ثروة في الوقت وأولادنا ثروة العمر فهل نتركهم في هذه الإجازة نهبا لرفقة السوء تنزع منهم في الصيف ما اكتسبوه في دراستهم من علم وأخلاق ؟
متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
هل نترك أولادنا لرفاق شر يقضون معهم سواد الليل ليبثوا فيهم سواد الفكر ؟
هل نتركهم إلى استراحات وأحواش وأزقة وشوارع تبعدهم من المساجد والجوامع؟
هل نغض الطرف عن سفرهم إلى خارج البلاد وليعودوا بأمراض الخارج الفكرية والكفرية والصحية ؟
هل ننسى أن الجد عصمة من أمراض الفراغ وحصنٌ من التهتك والإغراق؟، وقديما قالت العرب : " لئن كان العمل مجهدة فإن الفراغ مفسدة "
ولئن كانت بلادنا قبلة المسلمين في صلاتهم بتوفيق الله، فنرجوه سبحانه أن يجعل شبابنا قدوة لشباب المسلمين، وإننا حين نوفق في توجيه أولادنا التوجيه السليم لاستغلال كل إجازة تمر عليهم فسنُحَصَّل من ذلك: الابن الرضي الذي ليس بجبار ولا عصي، البارّ بوالديه، الموقر لأهل الفضل، المحافظ على بلاده وأمته حدودا ووجودا دينا ودنيا.
نسأل الله أن يوفقنا لما يرضيه وأن يكفينا شر معاصيه وأن يصلح شبابنا ويعمر بالإيمان أوقاتنا إنه سميع مجيب.
(1/515)
سوء الظن (سورة الحجرات)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أمراض القلوب, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
19/1/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
إشارة إلى ما تحويه السورة من آداب عظيمة – قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً
من الظن... ) – من معاني الأخوة الإسلامية ومراتبها وآثارها : 1- الإيثار , وهي أعلى
مرتبة وبها مدح الله الأنصار 2- مرتبة محبة لأخيه ما يحب لنفسه ما يحب لنفسه , وهي مرتبة
الإيمان الكامل 3- مرتبة الإسلام وهي كف الأذى – خطورة سوء الظن وأثره على المجتمع
المسلم – حال المؤمن في السراء والضراء – واقع الأمة المرير وبغيها على بعضها البعض
وتكالب أعدائها عليها – واجب المسلم اليوم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم [الحجرات:12].
في سلسلة تسجيلنا إلي سورة الحجرات نصل اليوم إلي هذه الآية، الآية الثانية عشرة من هذه السورة الكريمة وقد تضمنت هذه الآية مجموعة من الأحكام الجليلة والآداب الرفيعة التي تنظم العلاقات بين المؤمنين وتبنى مجتمعاً إسلامياً قوياً متماسكاً يتكون من أفراد مؤمنين متحابين يظللهم مبدأ الاخوة الإسلامية وتجمع قلوبهم وشائج المحبة الإيمانية وشعارهم المسلم أخ المسلم, هذا الشعار الذي أطلقه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون الأساس المتين الذي يقوم عليه كيان المجتمع الإسلامي، نعم المسلم أخو المسلم ومن معاني هذه الأخوة أن يؤثر المسلم أخاه المسلم ويقدمه على نفسه وهذا نموذج من أرفع نماذج هذه الأخوة ودرجة من أعلى درجاتها وهي درجة الصحابة الكرام رضوان الله عليه أجمعين، وهي الدرجة التي مدح بها الأنصار على وجه الخصوص في القرآن العظيم، فإن لم يبلغ المسلم هذه المرتبة العظيمة الرفيعة في علاقته مع أخيه المسلم فالتي تليها وهي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لا يبلغ المسلم مرتبة الإيمان الحقيقي الكامل إلا بهذا، فإن لم يبلغ المسلم في تعامله مع أخيه المسلم حتى هذه المرتبة الثانية فأقل ما يجب عليه أن يكف لسانه ويده عن أخيه المسلم فلا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يسبه ولا يغتابه ولا يلمزه ولا ينبذه ولا يحقره ولا يسيء به الظنون, هذا هو واجب المسلم على أخيه المسلم وبدون هذا ليس هناك إلا الدمار والخراب وتمزق الصفوف وتباغض القلوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) [1] أي المسلم الحقيقي الصحيح الإسلام هو من هذا حاله وشأنه إذ أن من معاني الإسلام الأمان والسلامة فإن الإنسان بدخوله في الإسلام يسلم من يد المسلمين وألسنتهم, يسلم من سيوفهم يأمن على نفسه وعلى دمه وعلى ماله وعرضه كما أن الآخرين يأمنونه على أنفسهم وعلى دمائهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم فإن هذا من معاني الإسلام فالإسلام يكون بهذا كالسياج للإنسان، هو سياج من الأمن والسلام والسلامة هذا من معاني الإسلام ومن لم يكن بهذه المثابة فإن في إسلامه خللاً كبيراً وفي إيمانه نقصاً خطيراً.
و إن من أشد الأمراض الاجتماعية فتكاً بالأفراد والجماعات، من أشد الأجواء الاجتماعية إفساداً للمجتمع المسلم وتمزيقاً لصفة وهدماً لكيانه سوء الظن والتجسس والغيبة ,و كل واحدة منها تحتاج إلى وقفة لكننا نبدأ اليوم بأولها بإشارة وجيزة لها تكملة إن شاء الله وهو سوء الظن، فعن عمر الفاروق رضي الله عنه قال: " لا تظنن بكلمة من أخيك إلا خيراً وأنت تجد لها محملاً على الخير"، لأن أخاك المسلم الأصل فيه أنه لا يريد بك إلا الخير فإذا صدرت منه كلمة أو موقف أو تصرف يحتمل احتمالات كثيرة الخير واحد منها فعليك أن تحمله على الخير. أما إن كان ليس هناك أي محمل لكلمته على الخير فأنت وذاك، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويقول: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك دمه وماله وأن لا يظن به إلا خيراً)) [2] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و روى مالك بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) [3].
كم نوفر علي أنفسنا نحن المسلمين من جهود وطاقات تبدد وكم ندرأ عن أنفسنا من مفاسد لو تأدبنا بهذه الآداب القرآنية وامتثلنا لهذه التوجيهات النبوية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (10)، صحيح مسلم (41).
[2] سنن ابن ماجة (3932).
[3] موطأ مالك : كتاب حسن الخلق – باب ما جاء في الهاجرة (15).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن شأن المؤمن كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) [1] , نعم هذا هو حال المؤمن وهذا هو شأنه قوي ثابت في كلا الحالين في الرخاء وتوافر النعم هو شاكر لربه ذاكر لربه لا ينسى ربه عز وجل ولا ينسى القيام بحقه وإن كانت هذه أصعب من الأخرى فإن الرخاء من طبائعه وعاداته أنه ينسي ويطغي. وفي الضراء عند تكالب المصائب والنقم تجد المؤمن صابراً قوياً محتسباً لأنه موقن بأن كل شيء بقضاء الله تعالى وقدره والله عز وجل لا يقضي إلا بالحق ولا يقدر شيئاً إلا لحكمة وفي هذه الأيام نعيش جميعاً في حزن وأسى لما أصاب العرب والمسلمين وقد فزعنا ببغي الإخوان وعدوان الجيران وهو أشد مرارة ومصابة في النفس من البغي والعدوان لو جاء من العدو الصريح, إنها هجمة جاهلية تدفيها دسائس أجنبية فبعد سقوط قبلتنا الأولى في يد ذلك العدو الصهيوني البغيض بدأت الآن بوادر المرحلة الأخرى وهي مرحلة خطيرة جداً المستهدف فيها أهل الإسلام والإيمان المقصود منها إشغالهم عن عدوهم الحقيقي وتمزيق صفوفهم وتمزيق كلمتهم، إن أعداء الإسلام والمسلمين لا تنتهي أطماعهم عند حد والمسلمون اليوم والعرب على وجه الخصوص يعيشون في انحطاط وتدهور سياسي نتيجة تكالب الأعداء وفساد النفوس وضعف الإيمان، تكالب الأعداء علينا من كل جانب وتسلطوا علينا وعلى مقدراتنا ولا ينجينا من هذه الشرور وهذه الفتن إلا يقظة إيمانية وصحوة إسلامية وأن نعود إلى ديننا ونهب هبة واحدة، هبة الإيمان في وجه عدونا وفي وجه أذنابه الذين كلما خمدت فتنة أوقدوا فتنة أخرى وكلما أطفأ الله ناراً للحرب أشعلوها، لا ينجينا من هذه الفتن والشرور إلا اليقظة الإيمانية والصحوة الإسلامية وأن نعود إلى ديننا ونلجأ إلى ربنا عز وجل.
أيها المسلمون استعدوا للدفاع عن أنفسكم وعن أموالكم وعن أعراضكم وعن حياضكم وعن دياركم، إذا كنتم قد نسيتم ذلك الأمر الإيماني، ألم يأمركم ربكم من قبل فقال سبحانه وتعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [الأنفال:60]. فإذا كنتم نسيتم ذلك فتذكروه الآن فها هي مصائب الزمان تذكركم بذلك وتنبهكم إلى أنكم يجب عليكم دائماً أن تضعوا هذا الأمر الإلهي نصب أعينكم في حياتكم, وأعدوا هذا الأمر الإلهي يجب علي المسلمين جميعاً أن يجعلوه نصب أعينهم دائماً, إذا كنتم قد نسيتم هذا الأمر الإلهي فتذكروه الآن وأعدوا أنفسكم فإن المؤمن الحقيقي دائماً لا يخلو من أحد حالين إما جهاد وإما إعداد للجهاد. لكن الفرق بين المؤمن وغيره أن المؤمن جهاده عن رسالة ودفاعه عن دين.
أيها المسلمون استعدوا للقاء عدوكم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا)) [2] , وهل هناك أشجع وأقوى وأثبت وأصبر من المسلم المؤمن القوى الإيمان عند اللقاء ولكنه مع ذلك ليس من دعاة الفتن ولا من هواة الحروب لكنه إذا اضطر إلى اللقاء فما أصبره علي ذلك وما أثبته على ذلك لأنه موقن بأنه لا يخلو من أحد مصيرين إما جنة عرضها السماوات والأرض وإما نصر مؤزر.
فنسأل الله تعالى أن يقينا شرور أنفسنا وأن يقينا من شرور أعدائنا وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يلهم ولاة أمورنا رشداً ويعينهم وينصرهم على ما فيه صلاح الأمة والدفاع عن الدين.
اللهم أصلح حال المسلمين. اللهم اجمع كلمتهم على الحق وألف ذات بينهم وردهم إلى دينك رداً جميلاً وادرأ عنا مكائد الكائدين وشرور المفسدين يا رب العالمين.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا علي خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [3]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارضى اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم(2999).
[2] صحيح البخاري _2966)، صحيح مسلم (1742).
[3] صحيح مسلم (408).
(1/516)
الأمانة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
16/4/1417
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضياع الأمانة من علامات الساعة. 2- الأمانة : قيام المرء بمسؤولية في كل ما يوكل إليه.
3- تحذير رسول الله من ضياع الأمانة. 4-الإمارة أمانة ، ولا ينبغي أن تعطى لغير مستحقيها.
5- تحذير العمال من الغلول وأخذ الأعطيات. 6- ما يقال في المجالس أمانة. 7- عقوبة الغادر
يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى.
في مجلس من المجالس الطيبة العطرة بحضور النبي في المدينة ذات يوم يروي لنا أبو هريرة : أنه بينما كان رسول الله في مجلسه يحدِّث القوم جاءه أعرابي فقال يا رسول الله متى الساعة؟ فمضى رسول الله يحدث فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: ((أين السائل عن الساعة؟)) قال: ها أنا يا رسول الله، قال: ((فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)) ، قال، كيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وُسَّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) رواه البخاري [1].
رسل الله عليهم الصلاة والسلام يُختارون من أشرف الناس طباعًا، وأزكاهم معادنًا. والنفس التي تظل محافظة على الفضيلة مع شدة الفقر ووحشة الغربة، هي نفس رجل قوي أمين. والمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد تتطلب خُلُقا لا يتغير بتغير الأيام، وذلك هو جوهر الأمانة.
وكان رسول الله قبل البعثة يلقب بين قومه بالأمين، وكذلك شوهدت مخايل الأمانة على موسى عليه السلام حين سقى لابنتي الصالح ورفق بهما، وكان معهما عفيفًا شريفًا: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ي?أَبَتِ ?سْتَجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ?سْتَجَرْتَ ?لْقَوِىُّ ?لامِينُ [القصص:26].
إخوة الإيمان، الإسلام يرقب من معتنقه أن يكون ذا ضمير حي، تصان به حقوق الله وحقوق الناس، ومن ثم أوجب على المسلم أن يكون أمينًا.
الأمانة في نظر الشرع صفة واسعة الدلالة، وهي تدل على معان شتى، هي بإيجاز: شعور المرء بمسؤوليته في كل أمر يوكل إليه.
وبعض الناس يقصرون فهم الأمانة في أضيق معانيها، وهو حفظ الودائع، وحقيقتها في دين الله أضخم وأجل.
إن الأمانة هي الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها ويستعينون بالله على حفظها، كما ورد في الدعاء للمسافر: ((استودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك)) [2].
وعن أنس قال: ما خطبنا رسول الله إلا قال: (( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) رواه أحمد [3].
بل كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من ضياعها، كما روى أبو داود أنه كان يقول: (( اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)) [4].
تلكم أهمية الأمانة، فتعالوا إخوتي نتأمل بعضًا من معانيها.
فمن معاني الأمانة وضع الشيء في المكان الجدير به واللائق له، فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها، فلا اعتبار للمجاملات والمحسوبيات، حتى الصحبة لا ينظر إليها انظروا إلى أبي ذر حين قال في الحديث الذي رواه مسلم: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب يده على منكبي، ثم قال: ((يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) [5].
إن الكفاية العلمية والعملية ليست لازمة لصلاح المرء لحمل الأمانة، فقد يكون الرجل حسن السيرة حسن الإيمان، لكنه ليس أهلاً للمنصب ألا ترون إلى يوسف الصديق عليه السلام حين رشح نفسه لإدارة المال، لم يذكر نبوته وتقواه، بل طلبها بحفظه وعلمه قَالَ ?جْعَلْنِى عَلَى? خَزَائِنِ ?لأرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] فالأمانة تعني أن نختار للأعمال أحسن الناس قيامًا بها فإذا مِلنا عنه إلى غيره لِهوىً أو رشوة أو قرابة، فقد ارتكبنا بتنحية القادر وتولية العاجز خيانة فادحة.
إن الأمة التي لا أمانة فيها هي من تعبث فيها الشفاعات بالمصالح وتطيش بأقدار الرجال الأكفاء لتهملهم، وتقدم من دونهم.
ومن معاني الأمانة أن يحرص المرء على أداء واجبه كاملاً في العمل المنوط به وأن يحسن فيه تمام الإحسان.
إنها الأمانة التي يمجدها الإسلام بأن يخلص الرجل لعمله ويُعنى بإجادته، ويسهر على حقوق الناس التي وضعت بين يديه. واستهانة الفرد بما كلف به هو من استشراء الفساد في كيان الأمة وسبب لتداعيه.
وخيانة الواجبات تتفاوت إثمًا ونكرًا وأشدها شناعة ما أصاب الدين وجمهور المسلمين وتعرضت البلاد لأذاه،
قال عليه الصلاة والسلام: (( إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به فيقال: هذه غدرة فلان)) [8] وفي رواية (( لكل غادر لواء يرفع له بقدر غدرته، ألا ولاغادر أعظم من أمير عامة)) رواه البخاري [9].
أي ليس أعظم خيانة ولا أسوأ عاقبة من رجل تولى أمور الناس فنام عنها حتى أضاعها.
ومن معاني الأمانة أيضًا أن يستغل الرجل منصبه الذي عين فيه لجر منفعة إلى شخصية أو قرابته، فإن التشبع من المال العام جريمة قال : ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه أبو داود [10].
أما الذي يلتزم حدود الله في وظيفته، ويأنف من خيانة الواجب الذي طوقه، فهو عند الله من المجاهدين لنصرة دينه وإعلاء كلمته قال : ((العامل إذا اسْتُعْمِل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)) رواه الطبراني [11].
وقد شدد الإسلام في ضرورة التعفف عن استغلال المنصب وشدد في رفض المكاسب المشبوهة، فعن عدي بن عمير قال سمعت رسول الله يقول: (( من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوق كان غلولاً يأتي به يوم القيامة)) رواه مسلم [12].
واستعمل النبي رجلاً من الأزد على الصدقة فلما قدم بها قال: هذا لكم وهذا أُهدي إليَّ. فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (( أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هديته، إن كان صادقا والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تعير)) ثم رفع عليه الصلاة والسلام يديه حتى رؤي بياض إبطيه يقول : ((اللهم بلغت)) [13].
الله أكبر! إنها الأمانة في أسمى معانيها التي ينبغي تحقيقها يا عباد الله.
ومن معاني الأمانة أيضًا أن يتأمل المؤمن ما حباه الله من مواهب خصه بها، أو أموال وأولاد رُزقها، ويدرك أنها ودائع الله الغالية عنده، فيجب تسخيرها في قرباته، واستخدامها في مرضاته، وإن ابتلي بنقص شيء منها فلا يستخفنّه الجزع، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ?للَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27، 28].
ومن معاني الأمانة: أن تحفظ حقوق المجالس التي تحضرها، فلا تدع لسانك يفشي أسرارها، وينشر أخبارها، فكم من حبال تقطعت ومصالح تعطلت لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله: (( إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة)) [14].
إن حرمات المجالس تصان، مالم يكن ما فيها محرمًا، حتى العلاقات الزوجية في نظر الإسلام مجالسها تصان، فما يحوي البيت من شؤون العشرة بين الرجل وامرأته يجب أن يطوى في أستار مسبلة، لا يطلع عليها أحد مهما قرب، روى أحمد في مسنده عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله والرجال والنساء قعود عنده فقال: ((لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها)) ، فأرم القوم أي سكتوا وَجِلِيْن فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن، قال: ((فلا تفعلوا، فإنما ذلك مثل شيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون)) [15]. وقال عليه الصلاة والسلام: (( إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) [16].
إخوة الدين والعقيدة، وإن من الأمانة أن يحفظ الإنسان الودائع التي توضع عنده، ويردها إلى ذويها إذا طلبوها. انظروا إلى رسول الله كيف استخلف ابن عمه علي بن أبي طالب ليسلم إلى المشركين الودائع التي حفظوها عنده [17] ، مع أنهم كانوا من الأمة التي استفزّته من الأرض واضطرته إلى ترك وطنه في سبيل عقيدته، قال ميمون بن مهران: "ثلاثة يُؤَدِّين إلى الأمانة والعقد وصلة الرحم" رواه أحمد.
وعن عبد الله بن مسعود قال: "القتل في سبيل الله يُكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال: أدّ أمانتك، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والكيل أمانة، وأشد ذلك الودائع؛ قال راوي الحديث فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى ما قال ابن مسعود؟! قال البراء: صدق أما سمعت الله يقول: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لامَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ [النساء:58].
ومن معاني الأمانة أنها تدعو إلى رعاية الحقوق وتعظيم النفس عن الدنايا، ولا تكون إلا إذا استقرت في وجدان المرء وحافظ عليها، روى مسلم عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله أنه قال: ((إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة)) [18] فالأمانة إذاً هي تمثل الكتاب والسنة في عمل الإنسان صاحب الضمير الحق، فإذا ذهب إيمانه انتزعت الأمانة، فما يغنيه ترديد الآيات ولا دراسة السنن، وأدعياء الإسلام يزعمون للناس ولأنفسهم أنهم أمناء على الأمة، ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكر للحق وأهله.
ويقول حذيفة: "ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبهـ فيظل أثرها مثل الوكت [19] ، ثم ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل [20] ، أي أقل ثم قال فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وحتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان...".
إن الأمانة ـ إخوة الإيمان ـ فضيلة ضخمة، لا يستطيع حملها الرجال المهازيل، وقد ضرب الله المثل لضخامتها، فأبان أنها تثقل كاهل الوجود كله، فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها أو يفرط في حقها ومع كل ذلك فقد تحمل الإنسان الأمانة بظلمه وجهله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا عَرَضْنَا ?لاْمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
[1] صحيح البخاري ح (59).
[2] صحيح ، أخرجه أحمد (2/7) ، وأبو داود ح (2600-2601) ، والترمذي ح (3442) ، وقال : حديث غريب. وابن ماجه ح (2826).
[3] صحيح ، مسند أحمد (3/154).
[4] حسن ، سنن أبي داود ح (1547) ، وأخرجه أيضاً النسائي ح (5468) وابن ماجه ح (3354).
[5] صحيح مسلم ح (1825).
[6] مستدرك الحاكم (4/92-93) وصححه ، وفي إسناده حسين بن قيس، ضعّفه المنذري في "الترغيب" ح (3268).
[7] مستدرك الحاكم (4/93).وصححه وفي إسناده بكر بن خنيس نقل الذهبي عن الدارقطني أنه قال فيه: متروك.
[8] أخرجه مسلم ح (1735).
[9] أخرجه البخاري ح (3188) دون قوله: ((ألا ولا غادر...)) واللفظ لأحمد (3/46).
[10] صحيح ، سنن أبي داود ح(2943).
[11] ضعيف ، المعجم الكبير للطبراني ح (281). وانظر كلام المحقق.
[12] صحيح مسلم ح (1833).
[13] أخرجه البخاري ح (2597) ، ومسلم (1832).
[14] حسن ، سنن أبي داود ح (4868) ، وأخرجه أيضاً أحمد (3/380) ، والترمذي ح (1959) ، وقال : حديث حسن.
[15] مسند أحمد (6/456-457) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/294) : وفيه شهر بن حوشب ، وحديثه حسن ، وفيه ضعف. وله شواهد يتقوى بها ، انظر إرواء الغليل للألباني رقم (2011).
[16] أخرجه أحمد (3/69) ، ومسلم (1437) بمعناه ، وفي إسناده: عمر بن حمزة العمري. قال ابن حجر في التقريب (4918) : ضعيف. وضعف هذا الحديث الذهبي في ميزان الاعتدال (3/192). وانظر آداب الزفاف للألباني ص (142).
[17] ذكره ابن إسحاق بدون سند (سيرة ابن هشام (2/485) وانظر : السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، مهدي رزق الله أحمد (ص268).
[18] صحيح مسلم ح (143).
[19] الوكت: جمع وكتة بمعنى الأثر في الشيء كالنقطة من غير لونه. (بتصرف من النهاية في غريب الحديث، مادة وكت).
[20] يقال: مَجَلت يده تمجُل مجْلاً، ومجلت تمجَل مجَلا، إذا ثخن جلدها وتعجر وظهر فيها ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصُّلبة الخشنة. (النهاية، مادة مجل). وفي مادة (مجل) في القاموس: مجلت يده..: نفطت من العمل فمرنت.. أو المجْل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/517)
الغيبة (من دروس سورة الحجرات)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آفات اللسان, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
11/2/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
خطورة الغيبة , وخطورة اللسان وأثره – الواجب على المسلم إذا رأى أخاه واقعاً في ذنب
كفارة الغيبة – ثلاثة لا تُعدُّ من الغيبة : 1- التحذير من الفاسق المجاهر ومن مُرَوِجي الفساد
2- التحذير من المبتدع وشره 3- الاستنصاح والمشاورة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد قال الله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم [الحجرات:12].
فالغيبة من أشد آفات اللسان ضررا وأعظمها إثما، فالإنسان إذا صان لسانه وفرجه فإنه ينجو ولكنه إذا سلم من الزنا والفواحش فإنه قلما يسلم من الكذب أو الغيبة أو النميمة، فالسلامة من ذلك أصعب من السلامة من تلك. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من وقاه الله شر ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) [1].
كثير من الناس لا يلقون بالا لمفاسد القول ولمخاطر الكلام ولا يخافون من حصائد الألسنة وإنما يكب الناس على مناخيرهم يوم القيامة حصائد ألسنتهم.
ومن حصائد الألسنة ما يهوي بالإنسان في النار سبعين خريفا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم الكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار)) [2]. وربما تكون هذه الكلمة هتكا لستر مسلم أو كشفا لعيوبه أو تتبعاً لعوراته وهذه هي الغيبة. وربما يحدث الوقيع بين المسلمين وفساد ذات البين وهذه هي النميمة، وربما تكون هذه الكلمة كذبا أو نقل الكذب فإن نقل الكذب مثل الكذب، وربما تكون قولا على الله بغير علم وهذا من أشد المحرمات لأن صاحبه ربما تسبب في نشر بدعة أو خرافة أو ضلالة وهو لا يشعر، ربما يكون من المبتدعين والبدعة أكثر ضررا من المعصية لذلك روي أن المبتدع لا تقبل له توبة ولا صلاة. فليحذر الذين يتكلمون باسم الدين ويقولون على الله بغير علم فليحذروا أن يكونوا من المبتدعين وهم لا يدرون.
ومما يكثر منه الناس وينتشر على الألسنة تعيير العاصي والمذنب على ذنبه في غيابه فهذا إلى جانب كونه وقيعة في عرض المسلم، فإن فيه إعانة للشيطان عليه، فإنه إذا بلغه ذلك تأذى منه وربما يدفعه إلى التمادي في العصيان فلا يجوز ذلك.
هذا ماعز الأسلمي رضي الله عنه لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأقر عنده بالزنا وطلب من الرسول أن يطهره بالحد فأمر به رسول الله أن يرجم فرجم بعد أن تثبت النبي من إقراره وحاول أن يصرفه عنه، فرجم ثم سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يتحدث أحدهما إلى الآخر فيقول: ألم ترى إلى ذلك الذي ستر الله عليه ثم لم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب سمع الرسول ذلك ثم مر حتى جاء على جيفة حمار منتنة فقال: ((أين فلان وفلان؟)) ينادي الرجلين الذين قالا تلك المقالة ثم قال لهما: ((انزلا فكلا من جيفة الحمار)) فقالا: غفر الله لك يا رسول الله أيؤكل هذا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا من هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)) [3] صدق صلى الله عليه وسلم.
فحتى المسلم المذنب لا يجوز تعييره بذنبه في غيابه بل الواجب على المسلم إذا رأى أخاه المسلم يتورط في معصية أن يستر عليه ولا يفضحه، الواجب عليه أن ينصحه فيما بينه وبينه ويخوفه عذاب الله مع ستر سره وحماية عرضه – هذا هو أدب الشرع في هذه الأحوال.
فإذا وقع المؤمن في الغيبة ثم ندم وأراد أن يكفر عن ذنبه ماذا عليه أن يصنع؟ قال بعض العلماء، عليه أن يخبر ذلك الذي اغتابه وأن يتحلل منه – وقال آخرون وهو الصحيح: بل لا يلزمه ذلك لأن إخباره يؤدي إلى تنافر النفوس بدلا من تصافيها، بل عليه أن يتوب إلى الله ويستغفره وأن يمحو غيبته بأن يستغفر له ويدعو له عن ظهر الغيب ويثني عليه أمام الناس أو في نفس المجلس الذي اغتابه فيه وأن يدافع عن عرضه، فإن في ذلك تكفيرا وتطهيرا له: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا [الاحزاب:70].
[1] البخاري بنحوه:الرقاق (619).
[2] الترمذي :الزهد(2314).
[3] أخرجه أبو بعلي في مسنده (6114) بإسناد صحيح كما قال ابن كثير في التفسير (4/331).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فثلاثة لا تعد من الغيبة:
1) ذكر الفاسق المجاهر بفسقه المعلن لمعصيته ومن باب أولى أولئك الذين يروجون للفساد وينشرون الفاحشة كأصحاب المجلات الخليعة "سيدتي" و"الهدف" ومثلها عربية كانت أو أجنبية، وكمنتجي الأفلام الرقيعة، وكأصحاب وكالات السفر والسياحة التي تستدرج شباب المسلمين ليشدوا رحالهم إلى أماكن الرذيلة، والممثلون والممثلات والمغنون والمغنيات والراقصون والراقصات، هؤلاء وأشباههم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، هؤلاء وإن كانوا مسلمين، لا حرمة لهم ولا لأعراضهم، لا غيبة لهم ولا كرامة، يجب كشف حالهم وفضح نواياهم وطواياهم وأهدافهم الخبيثة، فهم يهدمون جسم الأمة. أرأيتم لو أن مليونا من شبابنا تربوا على روح الجهاد وعلى السلاح واستعماله، كيف يكونون سندا للجيش المسلم، أيطمع حينئذ طامع فينا؟ ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عن الفاروق عمر بن الخطاب قال: ((لا حرمة لفاجر)) وعن الحسن بن علي: ((ثلاثة لا غيبة لهم – صاحب هوى (المبتدع )، والفاسق المعلن لفسقه، والإمام الجائر)).
2) ذكر المبتدع وتحذير الناس منه ومن شره ومن بدعته، فإن خطر المبتدع قد تعدى إلى غيره وربما يكون خطره على المسلمين عظيما. فإن البدعة أعظم ضررا وخطرا من المعصية ففي البدعة خللا للعقائد. فإن المبتدع إذا أصر على بدعته لا تقبل له توبة، فيلقى الله على ذلك.
3) ذكر عيوب الإنسان إذا كان في ذلك نصرة لمسلم استنصحك أو استشارك – فإذا أراد شخصا أن يزوج آخر أو يودع عنده مالا أو ما إلى ذلك، فإن كنت تعلم عن ذلك الآخر خيانة أو شيئا فإن عليك أن تنصحه. والدليل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها لما جاءته تخبره أن أبا جهم ومعاوية رضي الله عنهما قد خطباها فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: ((أما أبو جهم فإنه رجل لا يضع عصاه عن عاتقه (أي أنه كثير الضرب يضرب كثيرا )، أما معاوية فرجل صعلوك لا مال له)) [1].
وروى الحاكم في مستدركه أن أخا لبلال رضي الله عنه خطب امرأة، فقال له ذووها إن جاءنا بلال زوجناك، فأتاهم بلال فقال لهم: ((أنا بلال وهو أخي ، هو امرؤ سيئ الخلق والدين)) [2] وهو أخوه! ولكن للنصح أخبرهم بما فيه من عيب رضي الله عنهم جميعا.
[1] مسلم :الطلاق رقم (1480).
[2] أخرجه الحاكم (3/283) روحمته ووافقه الذهبي.
(1/518)
تذكروا
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الموت والحشر
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
23/12/1416
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان الغفلة التي تغلب على الناس. 2- ذكر هادم اللذات. 3- التحذير من نسيان الموت.
4- عظم الموقف بين يدي الله يوم القيامة ، وبعض صوره. 5- موعظة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا أيها الناس : اتقوا الله حق التقوى... عباد الله ، نقل ابن ماجة بسند صحيح عن النبي أنه قال : (( من كانت همه الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا راغمة ، ومن كانت همه الدنيا فرق الله عليه أمره ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له )).
إخوة الإيمان.. هذه الدنيا نسير فيها سير الواثق ، نلهث خلف سرابها الزائل ، نحث الخطى مسرعين نحو لذائذها الفانية ، وننسى في غمرة ذلك السعي الحثيث لحطامها أن نوجه أنفسنا إلى الخير فيقف بها على جادة التأمل في الحال ومراجعة الحساب.. ويسير بنا الحال وكأننا في سباق محموم مع الزمن وملذاته التي نخشى فواتها... إنه باختصار وصف لحالنا وحال نفوسنا في هذه الدنيا ، وتعالوا بنا إلى وقفة نتأمل فيها الحال ونذكر فيها النفوس في خضم الحياة وسدرة الغفلة ، وما أحوج القلوب الراكدة ، والنفوس الغافلة إلى التذكير.
عباد الله : من خاف الوعيد وقصر عليه البعيد ومن طال أمله ضعف علمه ، وإن ربكم لم يخلقكم عبثا ، ولن يترككم سدى ، فتزودوا من دنياكم ما تحرزون به أنفسكم غدا ، فالأجل مستودع ، والأمل خادع.
تمر بنا الجنائز في مشاهد يومية نرى تجهيزها ويصلي الناس عليها، ويسيرون خلفها ، نشيعها محمولة إلى مثواها الأخير فترى من يلقي عليها نظرات عابرة وربما طاف بهم طائف من الحزن يسير ، أو أظلهم ظلال من الكآبة خفيف ، ثم سرعان ما يغلب على الناس نشوة الحياة وغفلة المعاش... فيا أهل الغفلة كيف ترجى الآخرة بغير عمل، أم كيف ترجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل ، ويل لأهل الغفلة إن أعطوا لم يشبعوا وإن منعوا لم يقنعوا.
يا أهل الغفلة : هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته ، وكم مطمئن إليها صرعته ، وكم من محتال فيها خدعته ، وكم من مختال أصبح حقيرا وذوي نخوة أردته ذليلا ، سلطانها دول ، وحلوها مرّ ، وعذبها أجاج.. أحوالها إما نعمٌ زائلة ، وإما بلايا نازلة ، وإما منايا قاضية.
يا أهل الغفلة : أكثروا من ذكر الموت، بهذا أوصى نبينا محمد فقال : (( أكثروا من ذكر هادم اللذات )) ، فما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا في سعة إلا ضيقها ، ومن ذكر الموت وما بعده حق الذكر حاسب نفسه في عمله وأمانيه ، وأيم الله ليوشكن الباقي منّا أن يبلى ،والحي منا ومنكم أن يموت وأن تزال الأرض منا كما أزلنا منها فتأكل لحومنا وتشرب دماءنا كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمارها ثم نكون كما قال الله : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ،[الزمر:68] وقف رسول الله ذات مرة على شفير قبر فبكى حتى بلَّ الثرى ، ثم قال : (( يا إخواني لمثل هذا فأعدوا )) ، ويسأله عليه الصلاة والسلام رجل فيقول : من أكيس الناس يا رسول الله ؟ فقال : (( أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعداد له ، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت )) ، ومن أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث : تعجيل التوبة ، وقناعة القلب ، ونشاط العبادة... ومن نسي ابتلي بثلاث : تسويف التوبة ، وترك الرضا بالكفاف ، والتكاسل بالصلاة ، كفى بالموت للذات هادما، وللجماعات مفرقا، وللأماني مقطعا،... واستبدل الأموات بظهر الأرض بطنا ، وبالسعة ضيقا ، وبالأهل مساكنهم ، والتراب أكفانهم ، والرفاة جيرانهم ، لا يجيبون داعيا ، ولا يسمعون مناديا ، كانوا أطول منا أعمارا وأكثر آثارا ، فما أغنى عنهم ذلكم من شيء لما جاء أمر ربك فأصبحت بيوتهم قبورا ، صارت أموالهم للوارثين ، حل بهم ريب المنون ، وجاءهم ما كانوا يوعدون : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ،[المؤمنون: 115] فهل تفكرت يا عبد الله بيوم المصرع الذي ليس لدفعه حيلة ولا ينفع عند نزوله الندم ؟ هل حملنا هم الآخرة والحساب والعقاب الجزاء والثواب ؟ هل استعددنا لمواقف يوم القيامة ، وما أشدها على النفوس ؟ هل نتذكر حين يقف الإنسان بضعفه وعجزه ، يقف العبد بفقره وذله ، يقف العبد بذنبه وخطيئته ، يقف أمام جبار السماوات والأرض ، أمام القوي القهار العزيز الجبار ، من له العز كله والجبروت كله والعظمة والقهر... يقف العبد أمام رب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، يقف العبد أمام التواب جل جلاله ، وقد زالت عن هذا العبد كل مظاهر القوة الزائفة ، فذهب عن الَِملك ُملكه ، وعن السلطان سلطانه ، وعن الغَني عْناه ، وعن القوَي قواه ، لم يبق معه إلا ضعفه وذلته وفقره إلى عفو ربه يقول جل وعلا : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ،[الأنعام:94]
دخل الخليفة المهدي مسجد رسول الله فقام له كل من في المسجد إلا العالم الرباني ابن أبي ذئب ، فقد بقي مطرقا فلمّا مر به المهدي قال له أحد حاشيته :لمْ تقم لأمير المؤمنين ، فقال : " ذكرت قول الله : يوم يقوم الناس لرب العالمين فقال المهدي : كفى فوا الله لقد وقفت في بدني كل شعرة "، إنه الموقف الذي تنفع فيه الصلات وتفلس فيه العلاقات ، وتخذل فيه الإمعات ، وأعوان الطغاة الذين كانوا في الدنيا يمسكون بذيول المتكبرين والمتجبرين يبيعونهم دينهم بدنياهم ويطيعونهم في معصية ربهم ويعلمون حينذاك بأي حبل ضعيف تعلقوا.. وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ،[إبراهيم:21] إنه الموقف الذي تنكشف فيه كل حيلة ، ويظهر فيه كل زيف ، ويُخذل المنافقون الذين يصلون مع المسلمين وليس الصلاة ولا الموعظة مرادهم ، وحدث النبي فقال : (( يلقى ربكم العبد فيقول: أي فلان ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والأبل وأذرك ترأس وتربع فيقول : بلي يا رب ، فيقول :أفظننت أنك ملاقي ، فيقول : يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع ، فيقول الله الذي لا تخفى عليه خافية: هاهنا إذا : الآن نبعث شاهدنا عليك ، فيتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليه ، فيختم على فيه ، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فينطق ليعذر من نفسه وذلك الذي يسخط الله عليه )) ، إنه موقف العرض على الله حين : خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ،[طه: 108] وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً ،[طه: 111] وعًرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً ، إنه موقف عظيم تبدد فيه الأموال والقوي ، يقف فيه أمام الله ليسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟.. قال : (( يجاء بابن آدم يوم القيامة كالَحَمل الضعيف فيوقف بين يدي الله جل جلاله فيقول الله تعالى : أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك فماذا صنعت ، فيقول يا رب جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كان فارجعني آتك به ، فيقول الله : أرني ما قدمت ،فيقول معيدا : يا رب جمعته وثمَّرته وتركته أكثر ما كان ، فارجعني آتك به ، فإذا عبد لم يقدم خيرا فيمضي به إلى النار )) إنها مواقف القيامة حين المساءلة مع الله عز وجل... أما من عاشوا في هذه الدنيا يتذكرون تلك المواقف ، يتذكرون ويقولون : إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً ،[الإنسان:10] فإن الله يذكرهم ولا ينساهم... روي في الحديث عن النبي أنه قال (( يؤتى بالعبد فيوقف بين يدي ربه فيضفي عليه المولى جل جلاله كنفه أي ستره لا يفضحه ، فيكلمه ربه وهو أعلم به ، يا عبدي عملت يوم كذا وكذا ؟! عملت يوم كذا وكذا ؟! يقرره بذنوبه في الآخرة ، يقول : بلى يا رب لا ينكر من ذلك شيئا حتى إذا ظن أنه هالك ، قال له الرب الرحيم : فإنني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اغفرها لك اليوم )) ، وروى أبو ذر عن النبي أنه قال : (( إن عبدا يوقف بين يدي الله فيقول الله : اعرضوا عليه صغار ذنوبه واطووا عنه كبارها ، فتعرض عليه ذنوبه الصغار ذنبا ذنبا يقرر بها ، ويقول : بلى يا رب لا ينكر منها شيئا وهو خائف أن تعرض عليه كبارها ، فيقول الله له : فإني قد غفرتها لك اليوم وأبدلتها كل سيئة بحسنة ، فيقول : يا رب إن لي ذنوبا ما أراها هنا )) ، قالوا أبو ذر: فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه.
إخوة الدين والعقيدة... من منا تفكر في تلك المواقف عند الموت وبعده ، حين ترتعد الفرائض وتبلغ القلوب الحناجر ، وتجثو الأمم على الُّركَب ، وأيقن المذنبون بالهلاك والعطب في ذلك اليوم العظيم حين يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه حين تتطاير الكتب فممسك كتابه بيمينه وآخر بشماله حين تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، فما ظنكم بنا إخوة الإيمان في ذلك اليوم ترى ما حالنا حينذاك إن لم يتداركنا الله برحمته ؟!.
بأي حال نلاقي الله ونحن من بارزه بالخطايا واستكثرنا من الذنوب ؟! بأي لسان ننطق ونحن نرى عِظَمَ الموقف ؟! كيف الجواب لرب العزة الذي يخاطب بلا حجاب ؟ ينظر العبد يوم ذاك عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم وعن شماله فلا يرى إلا ما قدم وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار ، يسأل كل منا عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن عمله ماذا عمل به... إننا نخسر ونخسر وقبل أن يدركك الشيطان.. عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال : (( إن الشيطان قال : وعزتك يا رب ، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب عز وجل : وعزتي وجلالي ، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني )) أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي.
التوبة.. التوبة يا عباد الله قبل أن يصل إليكم الموت...
يا أيها الباني الناسي منيته لا تأمنن فإن الموت مكتوب
على الخلائق إن ُسروا وإن فرحوا فالموت حتف لذي الآمال منصوب
لا تبنين ديارا لست تسكنها وراجع النسك فيما يغفر الحوب
فيا أيها العاصي وكنا ذاك ، هلا خرجت وقد عزمت على التوبة ، يا من سود كتابه بالسيئات قد آن لك بالتوبة أن تمحوا ، يا سكران القلب بالشهوات أما آن لفؤادك أن يصحو... إنها دعوة إلى التوبة ، توبة من كل معصية يقارفها العبد في كل شؤون حياته ، في نفسه ودينه وماله وشهواته ومنصبه ، فيا رب...
أسأت ولم أُحسن وجئتك تائبا وأنى لعبد من مواليه مهرب
يؤمل غفرانا فإن خاب ظنه فما أحد منه على الأرض أخيب
اللهم اختم لنا بخاتمة الصالحين التائبين ، اللهم واجعلنا يوم الفزع آمنين ، واجعلنا ممن يؤتون كتابهم باليمين ، وممن يُرفع مقامُهم في عليين.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتَى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرّة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين.[الزمر53-59]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه... أما بعد :
فيا عباد الله : اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه ، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وإن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه إن الله وملائكته يصلون.
(1/519)
العنصريات الجاهلية وضرب الإسلام
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
25/2/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
قوله تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى... ) وما فيه من مبادئ الإسلام
الأساسية – المساواة حقيقية راسخة بين البشر , ولا تفاضل بينهم في العناصر والأنساب -
إهدار الإسلام للتفاضل على أساس الأصل والجنس والنسب , وأمثلة على ذلك : ( بلال وأذانه
زواج زيد من زينب القرنية – سلمان الفارسي ) – دعاوى القومية والعنصرية من ميراث
الجاهلية , وأثرهم الخبيث وحقدهم الدفين ( أتاتورك وهدم الخلافة – ميشيل عفلق والقومية
العربية – حزب البعث ) ما جنته الأمة من هذه الدعاوى الخبيثة – طبيعة الصراع بين الإسلام
ومبادئه والكفر ومبادئه , ودور العلمانيين الخبيث
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
هذه الآية الكريمة قدرت مبدأ عظيماً من مبادئ الإسلام الأساسية. والمبادئ الأساسية هي بمثابة الاستراتيجيات باللغة العسكرية أي هي أمور ثابتة لا تفريط فيها ولا تهاون في أمرها فهذه ثوابت الدين الرباني الذي ندين الله به ونعتقده وتصطبغ به حياتنا. فالمساواة حقيقة راسخة بين البشر أجمعين من الأصول والعناصر والعروق والأنساب فأصل الجميع واحد الأب واحد والأم واحدة وجميع الخلق جميع الناس تتسلل أصولهم وأنسابهم لتنتهي إلى عنصر واحد هو التراب فلماذا يتوهمون التفاضل فيما بينهم في الأصول وفي العناصر والأنساب؟ لا قومية ولا عنصرية فالقوميات تجعل أساس التجمع بين الناس هو الأصل والعنصر والنسب الأصل والجنس والنسب. القومية تجعل أساس التجمع ومقياس التفاضل والتمييز هو الأصل والجنس والنسب. ولو كان الأصل والجنس والنسب اعتبار في الإسلام ما أمر سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم بلالاً الحبشي الزنجي الأسود رضي الله عنه وأرضاه أمره أن يرقى على سطح الكعبة المعظمة ليصدح بالأذان وتحته أشراف العرب وشاراتهم وذلك في الفتح الأعظم وذلك عندما دخل سيدنا المصطفي رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً وخضعت له قريش التي ناوأته وحاربت دعوته أكثر من 20 عاماً لو كان لشعب أو لقبيلة أو لجنس أو لعشيرة أن يفضلوا الآخرين وأصلهم وجنسهم ونسبهم.
ما زوج رب العالمين زينب بنت جحش القرشية الهامشية من جهة أمها الأسدية من جهة أبيها. زوجها رب العالمين من عبد من مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة زوّجه منها من فوق سبع سماواته فكان ذلك إعلاناً ربانياً سماوياً بإلغاء العنصريات والقوميات والقبليات وبتحريم التفاخر بالآباء قال سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم (( يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها فالناس رجلان رجل بر تقي كريم على الله تعالى ورجل فاجر هين على الله تعالى )) [1] وقال صلى الله عليه وسلم: (( الناس لآدم وحواء طف الصاع لم يملأه إن الله لن يسألكم عن أنسابكم ولا أحسابكم يوم القيامة إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) صدق المصطفي صلى الله عليه وسلم بهذا الميزان الرباني وهذا المقياس النبوي هو الذي حكم بتفضيل بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي على أبي لهب العربي القرشي الهاشمي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك إلا لأن هؤلاء الأعاجم آمنوا بالله واتقوه ونصروا الله ورسوله وذلك العربي القرشي الهاشمي كفر وفجر بمبادئ هذا الدين الرباني وموازينه ومقايسه.
ولا محاباة فيها ولا مداهنة وإلا فمقام القربى من رسول الله صلي الله عليه وسلم كان أولى المقامات لأن ينفع صاحبه أن ينفع ذلك المشرك الذي نزل فيه قرآن يتلى إلى يوم القيامة بذمه والدعاء عليه وذلك لأنه لا محاباة ولا مداهنة في موازيين هذا الدين الرباني ومقاييسه. إن هذا الإسلام هو معين الله تعالى بسائر البشر للناس أجمعين. أنه يسع جميع الناس ولا يضيق عن أحد مع اختلاف أجناسهم وألوانهم وأصولهم أنسابهم، الإسلام يسعهم جميعاً ولا يضيق عن أحد. وسيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم الرحمة المهداة والنعمة المسداه أرسل رحمة للعالمين لجميع العالمين أرسل للناس كافة على اختلاف أجناسهم وألوانهم وشعوبهم وقبائلهم هو رحمة للجميع ورسالته للجميع ودين الله الإسلام هو دين يسع الجميع وتنصهر فيه جميع القبائل والشعوب والأجناس والأعراف متساوين في ذلك بين يدي الله لا يتفاوتون إلا بالتقوى هذا مبدأ أساسي من مبادئ هذا الدين العظيم الكريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].
[1] سنن الترمذي (3270) وقال : حديث غريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: روي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم بلغه أن ناساً من أصحابه تنازعوا فقال قائل منهم يا للمهاجرين وقال قائل منهم يا للأنصار فخرج سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم من بيته غاضباً يجر ردائه فقال أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم دعوها فإنها منتنة [1] ، لقد بعث سيدنا المصطفي صلي الله عليه وسلم للقضاء على العنصريات الجاهلية المنتنة وليقيم بدلاً منها صرح الإيمان الذي يجتمع تحت لوائه جميع المؤمنين إخواناً متحابين تربط بينهم رابطة واحدة وشيجة واحدة وهي رابطة الإيمان ووشجية الإسلام.
ولكن أعداء المسلمين نجحوا اليوم في التسلل إلى صفوفهم وزرع بذور العنصريات الجاهلية المنتنة بينهم فمزقوهم وشتتوا شملهم بعد أن كانوا أمة واحدة إسلامية مرهوبة الجانب ففي ديار الترك مثلاً الماسونيون والصهيونيون ويهود الدونمة بعد أن نجحوا في تقويض صرح الخلافة الإسلامية الذي جعل ديار الترك فترة طويلة من الزمن مركزاً للتجمع الإسلامي لتجمع المسلمين بعد أن نجحوا في تقويض ذلك الصرح زرعوا بذور العنصرية التورانية القومية التورانية بين الترك ورفع لواء هذه العنصرية الجاهلية في تركية أحزاب ماسونية مشبوهة كحزب الاتحاد والترقي أو حزب تركيا الفتاة وكان من أبرز طواغيت تلك العنصرية التورانية مصطفى كمال الذي لبث في أول أمره فترة يتمسح بمسوح الإسلام ولقب نفسه بالغازي في سبيل لله وأعلن الجهاد ليخدع المسلمين لتنطلي حيلته على السذج ولقد انطلت حيلته فعلاً حتى مدحه أحمد شوقي في قوله:
الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب
وانخدع به وظنه فعلاً مجاهداً غازياً في سبيل الله وما لبث ذلك الطاغوت العنصري اليهودي التوراني أن كشر عن أنيابه فإذا هو عدو الله ورسوله. عدو مريد للإسلام فتك بالمسلمين في ديار الترك قتل علماءهم حتى بلغت به الوقاحة أن منع الآذان من على المنابر العربية بل أوجب أن يكون الأذان بالتركية من شدة سخريته بالإسلام المسلمين ولقد رد الله كبره في نحره وكبده أذنابه فها هم الترك يتململون وينفضون عن كواهلهم غبار هذه العنصرية الجاهلية التورانية ويجددون إيمانهم بالله ورسوله، صحوة إسلامية فيما بينهم وعودة إلى دين الله رغم أنف العنصريين الجاهليين وأما نصارى العرب فقد زرعوا بين العرب العنصرية العربية الجاهلية القومية العربية وكان من أبرز حملة راية هذه العنصرية حسب البعث الذي أنشأه قبل خمسين سنه ميشيل عفلق النصراني ومبادئ هذا الحزب إن ذهبنا نشرحها يطول بنا المقام ولكن لحقها شاعر بعثي كافر خبيث بقوله فض الله فاه:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثان
فالعروبة بمعناها العنصري الجاهلي المنتن هو دين هذا الحزب العلماني العنصري الملحد الخبيث ومنذ نشأ هذا الحزب فهو وأشباهه من التجمعات العنصرية الجاهلية المنتنة يجرون الكوارث تلو الكوارث والهزائم تلو الهزائم على العرب وعلى أمة الإسلام جميعاً وكأنما يآبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يحقق وعده الذي أعلنه رسوله المصطفي صلى الله عليه وسلم منذراً أمته بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لينتهين أقوام عن تفاخرهم بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان)) [2] ، فالذل والهوان والتشتت والانقسام والتقاتل والتناصر كما كانوا يفعلون في الجاهلية قبل الإسلام. هذه هي العقوبة الإلهية للذين أعرضوا عن مبادئ الإسلام الخالدة الرفيعة السامية. مبادئ المساواة وميزان التقوى والأخوة الإيمانية الإسلامية التي تجمع بين سائر المسلمين علي اختلاف أجناسهم والوانهم هذه هي العقوبة الإلهية لمن ذهبوا يجرون لاهثين وراء العنصريات الجاهلية المنتنة وراء القوميات تورانية كانت أو فارسية هندية كانت أو بربرية جندية كانت أو عربية كلها دعاوى الجاهلية التي وصفها النبي المصطفى صلي الله عليه وسلم بأنها منتنة. طاغية العراق الذي روع الناس اليوم وهتك الحرمات وسفك الدماء وزاد الأمة تمزيقاً وفتح الأبواب للأعداء هو إفراز منتن من إفرازات ذلك الحزب العنصري الجاهلي حزب البعث كارثة مفجعة من كوارثه العديدة المتوالية. إنه ليس أول كوارثه ولن يكون آخرها الذين يتوهمون أن الصراع بيننا وبين شخص واحد مخدوعون أو مخادعون.
السياسة قلب قد يكون حليف اليوم عدواً غداً وقد يكون عدو الأمس حليفاً اليوم فالسياسة قلب.
أم المبادئ متباينة فاعلموا أيها المسلمون وتبصروا في أمر عدوكم. الحرب حرب مبدئية ثابتة والصراع طويل مديد إلي يوم الدين بين ملتين بين ملة الإسلام وملة الكفر بين مبادئ الإسلام الرائعة السامية الكريمة مبادئ المساواة وميزان التقوى والأخوة الإيمانية وبين العنصريات الجاهلية قومية بعثية تورانية عروبية إلي غير ذلك صراع مريب ثابت مستمر ولكن خذوا حذركم أيها المسلمين فتشوا بين صفوفكم وفي دياركم عن الطابور الخامس وفتشوا عن العلمانيين عن الجاهليين وعن البعثيين فإنهم قد يكونوا مندسين بين صفوفكم من أبناء بلدتكم ويتكلمون بألسنتكم ويتقطعون غيظاً عليكم مهما تمسحوا بمسوح الإسلام وتستروا ونافقوا وأظهروا لكم الموافقة وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]. ستكشف أقلامهم وأقولهم ومواقفهم وأفعالهم وخاصة في المحن تكشف ما في صدورهم من بغضاء من غيظ على الإسلام وأهل الإسلام.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
[1] صحيح البخاري (4905) صحيح مسلم (2584).
[2] مسند أحمد (2/361).
(1/520)
حقيقة الإيمان على ضوء سورة الحجرات
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, حقيقة الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
16/3/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
وضوح حقيقة الإيمان في القرآن , وليس كل من ادعى الإيمان مؤمناً – حقيقة الإيمان تتكون
من عنصرين : 1- استقرار التصديق ومحبة الله ورسوله في القلب 2- ما يتولد عنهما من
أعمال – من خصائص الإيمان وطبيعته أنه يزيد وينقص – أثر القرآن على الإيمان -
أثر القرآن على الإيمان – من خصائص الإيمان الثبات والصلابة ,وحاله صلى الله عليه وسلم في ذلك – عز سلفنا وذلنا , وسبب ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [الحجرات:15].
هذه هي حقيقة الإيمان كما بينها القرآن ناصعة كضياء الصبح واضحة كشعاع الشمس حتى لا تختلط علينا الأمور وتلتبس الحقائق وحتى نعرف مواقعنا ونتبصر بحقائقنا كما نعرف مواقع الآخرين ونتبصر بحقائقهم. ليس كل من ادعى أنه مؤمن فهو كذلك قد يكون مسلماً أي يكون مستسلماً لحكم الإسلام الظاهر قائماً بالأعمال الظاهرة ولكن قلبه خواء ليس فيه من الإيمان شيء. وما أكثر من يحمل اسم الإسلام وقلبه مظلم بظلمات الكفر والإلحاد وما أكثر كذلك من يحمل اسم الإسلام وفي قلبه إيمان ضعيف ذبالة ضعيفة تكاد تنطفئ وقد حاصرتها ظلمات الشك والارتياب وظلمات الشبهات وشهادة الإيمان درجة سامية عالية لا يبلغ حقيقتها كل من ادعى الإسلام وحقيقة الإيمان تتكون من عنصرين أولهما ما يستقر في القلب من تصديق بالله ورسوله ومحبة لله ورسوله وهذا التصديق وهذه المحبة يتصفان بصفة الثبات والقوة والرسوخ فلا تؤثر فيهم المؤثرات الخارجية ولا تزعزعهما الهجمات. هجمات الشك والارتياب وهجمات الشبهات والشهوات لا تزعزعهما هجمات الشهوات والشبهات مهما كانت عنيفة قوية عارمة والعنصر الآخر من عنصري الإيمان من العنصرين الذين تتكون منهما حقيقة الإيمان ما يولده هذا التصديق وتنتجه هذه المحبة وما يولده هذا التصديق الراسخ وتنتجه هذه المحبة القوية الصادقة من أعمال يأتي في قمتها الجهاد بالمال والنفس فإن الجهاد هو ذروة السنام. إيمان تدعونه ولا ينتج عنه أعمالاً لا ينتج جهاداً بالنفس والنفيس في سبيل الله هو دعوة مشكوك فيها فإن من خصائص الإيمان وطبيعته أنه يدفع الجوارح إلى العمل، الإيمان متحرك ومحرك، متحرك يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويحرك الإنسان ويدفعه إلي العمل ولذلك وصف القرآن بأنه روح وبأنه حياه وبأنه روح وبأنه نور وصف القرآن بأنه روح وبأنه نور لأن القرآن يولد في نفس الإنسان الإيمان والإيمان للإنسان بمثابة الروح للجسد يبث الحياة في الجسد فالإيمان يحرك الإنسان ويبعث الحياة فيه في قلبه وفي جوارحه وهو نور له يهديه إلى صراط مستقيم، نور يهديه في الظلمات الحالكة مهما اشتد سوؤها وديجورها قال الله تعالى: وكذلك أوحينا إليك رحمةً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى:52]. وإن من أبرز خصائص الإيمان أنه إذا انبعثت أنواره في القلب فإن من أبرز خصائصه الثبات المؤمن ثابت راسخ كالجبل الأشم لا تزعزعه الفتن ولا تدعيه المحن ولا تفت من عزيمته لا المغريات ولا المفزعات، هذا من أبرز خصائص الإيمان الثبات والصلابة على دين الله عز وجل وعلى التصديق بالله ورسوله وعلى محبة الله ورسوله، وأبرز وأعظم وأكرم مثل لهذا سيدنا محمد في أحلك الظروف والأحوال وهو يعاني ويواجه جبروت المشركين وطغيانهم وقهرهم وإيذاءهم له وحيداً بلا أنصار ولا أتباع ولا جند ولا سلطان ومع ذلك لم يتزعزع إيمانه لحظة واحدة بالنصر والتمكين، ولذلك كان في أشد الأحوال وأحلكها يبشر أصحابه المقهورين المضطهدين يبشرهم بنصر الله عز وجل وتمكينه وهاهو المصطفي يخرج من بلده الحبيبة على قلبه مكة يخرج طريداً شريداً مقهوراً مهاجراً بدينه ليس معه أحد من الناس ولا جند ولا أنصار ولا أتباع إلا رفيق دربه وحبيبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ودليلهما ابن أريقط وأبو بكر خائف يترقب مشفق على سيدنا رسول الله أن تنتبه إليه الأعين أو يكشفه المطاردون وقد رصد المشركون من قريش جائزة سخية لمن يأتي بسيدنا محمد حياً أو ميتاً ولذلك فأبو بكر الصديق مشفق على رسول الله وليس على نفسه وبين هم كذلك إذ يلوح في الأفق خيال فارس يعدو على فرسه يريد اللحاق بهما فارس من فرسان المشركين سراقة بن مالك سمع بالجائزة السخية فعزم على أن يلحق بهما ويأتي بهما إلى قريش ويدعو رسول الله صلي الله عليه وسلم فتسيخ قوائم فرس سراقة وتسيخ في الأرض وتتعثر ويسقط من فوقهما هكذا ثلاث مرات حينئذ أدرك سراقة بن مالك المشرك في ذلك الوقت أن هذين الرجلين الكريمين العظيمين محميان بحماية إلهية خاصة وأنه لا يستطيع أن يدنو منهما بشر وناداهما أمنهما من نفسه وممن وراءه من مشركين في أول النهار وطاردهما في آخره وأصبح حارساً لهما ذاباً عنهما عن سيدنا المصطفي ورفيقه وصاحبة الصديق ويحادث سراقة رسول الله صلي الله عليه وسلم فيبشره رسول الله ويبشره بماذا؟ يقول: ((الله كيف بك يا سراقة وقد لبست سواري كسرى)) يا عجباً هو في هذه الحالة بلا قوة ولا سلطان ولا أنصار ولا أتباع وطريد شريداً مهاجرا خارجاً من بلده الحبيبة مكة ومع ذلك يحدث سراقة عن سواري كسري، نعم، إنه الإيمان الراسخ القوي الثابت أشد شموخاً من الشم العوالي بوعد الله له ألم يعده ربه بالنصر والتمكين وقد أخبره بهذا الذي بشر به سراقة فإيمان المصطفي بوعد الله ثابت لا يتزحزح وصدق رسول الله وعده لنبيه ففي خلافة الفاروق أمير المؤمنين عمر لما فتحت جيوش المسلمين العراق وأجزاء من فارس ودخلوا عاصمة ملك كسرى المدائن جمع قائد جيوش المسلمين سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه جمع كنوز كسرى فأرسلهما إلى الخليفة الفاروق عمر في هذه المدينة النبوية فوضعهما الفاروق عمر في المسجد في مسجد رسول الله وجمع الناس حتى يروا نصر الله لدينه وإعزازه لجنده.
وقف الفاروق ودعا سراقة بن مالك وقال له: (يا سراقة اليوم يوم الوفاء) ودفعوا إليه سواري كسرى أمام جموع المسلمين ما بين تهليلهم وتكبيرهم ثم أمسك الفاروق بذراعي سراقة ورفعهما حتى يراهما المسلمين ويروا تصديق الله وعده لرسوله وقال الفاروق عمر رافعاً صوته: (الحمد لله الذي نصر دينه وأعز جنده وألبس أعرابياً من بني مدلج سواري كسري). نعم سلفكم بلغوا هذا العز وهذا النصر والتمكين لما بلغوا حقيقة الإيمان. ونحن اليوم نحن المسلمين اليوم أكثر من ألف مليون ومع ذلك نعيش في ذل وهوان قبلتنا الأولى ضائعة بيدي القردة والخنازير وها هما الحرمان المقدسان شرفهما الله وحماهما تتهددهما الأخطار وتحيد بهما الأطماع من أعداء الله ورسوله وما ذاك وما هذا الذل والهوان الذي انحدرنا إليه إلا بسبب أنا لم نبلغ حقيقة الأيمان نعم نحن مسلمون ولكننا لم نحقق حقيقة الإيمان كما حققهما سلفنا الاماجد رضوان الله عليهم أجمعين بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وإن خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن ما شئت فكما تدين تدان. صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا على النبي وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلي الله عليه وسلم (( من صلى على صلاة صلى الله عليه بها عشراً )) [1]. وبارك على محمد وعلى آل محمد. كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعلى آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
وقد روي عن رسول ا لله صلي الله عليه وسلم أنه قال (( المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والذي إذا أشرف على طمع تركه لله تعالى)) [2]. فهذه درجات المؤمنين كما وصفها سيدنا المصطفي وهي درجات كما ترونها كلها درجات لا يقو ى عليها إلا أولو العزم أصحاب الإيمان الصادق الراسخ. حتى الذي يكف شره عن الناس يكف لسانه ويده لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا كان صاحب الإيمان صادق راسخ حتى الذي إذا وقف أمام المغريات أمام بهارج الدنيا الزائلة الزائفة من أموال ومناصب ونساء وملذات وبهارج زائفة. إذا وقف أمام هذه المغريات ثم أعرض عنها طاعة لله ورسوله لا يفعل ذلك إلا من كان ذا إيمان صادق راسخ نقول هذا ونحن نر ى أ كثر الناس يتكالبون على متع الدنيا ويلهثون وراء بهارجها حتى أشغلتهم عن ذكر الله عز وجل أنستهم الله، أنستهم الدنيا ربهم عز وجل وأنستهم ذكره سبحانه وتعالي. يلهثون وراء متع الدنيا الزائفة الزائلة حتى إذا ما جاءت المحن وكشرت عن نابها فزعوا وتحيروا وزاغت منهم الأبصار وذهبوا يعدون العدة للانهزام وللفرار بأموالهم وأنفسهم وما هذا إلا لأن قلوبهم خواء ليس فيها من ال إ يمان شئ أو لأن الإيمان الذي في قلوبهم ضعيف جداً لا يصمد أمام هجمات الشك والارتياب وأمام هجمات الشبهات والشهوات وأمام مخوفات المحن والفتن والله تعالي يقول إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ومظاهر الارتياب في حياتنا لمعاصرة نحن المسلمين ما أكثرها وسوف نستعرض بعضها إن شاء الله تعالى في الخطب القادمة.
[1] صحيح مسلم (408).
[2] مسند أحمد (3/8) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(1/521)
التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توبة الله على الصحابة جزاء اتباعهم لأمر نبيه في غزوة تبوك. 2- الأمر بالتوبة بعد
الانتهاء من بعض الطاعات. 3- الله يطلب من عباده أن يتوبوا إليه. 4- الله أرحم بعباده من
الأم بولدها. 5- توبة قاتل المائة. 6- بعض صور المعاصي في مجتمعنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ يا أيها المسلمون ـ اتقوا الله عاد المسلمون من غزوة تبوك بعد سفر بعيد وجهاد لاغب، ومسافة طويلة، وشقة بعيدة، وأرض مترامية، حرارة لافحة، عادوا من غزوة العمرة التي كانت آخر غزوة غزاها النبي ، وسبقتها غزوات كثيرة وحروب مريرة. وبعد أن عاد المسلمون من وعثاء السفر، وطول البعد، والعطش الشديد، وقلة ذات اليد، وقلة الظهر والزاد.. بعد هذا كله تلقاهم الله ـ جل جلاله ـ بالترحاب والبشرى، وأنزل في سفرهم آيات تتلى، تحيى صبرهم الكبير، ومشوارهم الطويل: لَقَدْ تَابَ الله عَلَى? ?لنَّبِىّ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لاْنصَـ?رِ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ?لْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة 117]، إنها التوبة يا عباد الله ـ وإن هذا لمن أعظم ما يبين قدر التوبة وفضلها عند الله ـ عز وجل ـ. التوبة كمال للمؤمن، وقد أعطى المولى ـ جل جلاله ـ للرسول والصحابة معه هذا الكمال بعد آخر الغزوات، بعد أن قضوا نحبهم وبذلوا نفوسهم وأموالهم، وتركوا لله ـ عز وجل ـ ديارهم، فكانت مكافأتهم من الله بأن تاب عليهم، فكانت نعم الغاية ونعم المكافأة ،إنها التوبة يا عباد الله التي لا تنال شيئا إلا برحمة الله ـ عز وجل ـ، وتوفيق للعبد، ولن يستطيع أحد أن ينال شيئا إلا برحمته ـ جل وعلا ـ، حتى أنّ أفضل خلقه وأشرف خلقه وأبرّهم وأكرمهم وأتقاهم وأخشاهم يقول: ((لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمته)) [1] ، لذلك فقد كانت مكافأة الله ـ عز وجل ـ للرسول وصحابته عظيمة جليلة، بأن تاب عليهم بعد آخر غزوة. وانظروا كذلك أيها الإخوة المؤمنون، إلى رسول الله لما أتم أعظم عمل يُعمل، وأضخم إنجاز يُنجز، بعد أن بلّغ رسالات الله، وفتح مكة بلد الله الأمين، فدخل الناس في دين الله أفواجا، ودانت له أرض الجزيرة، يأمره الله قائلا: فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [النصر:3].
إنها التوبة والاستغفار بعد هذا العمل الصالح المبرور، وبعد الجهاد الطويل الذي يُختم بالتوبة والاستغفار والبشري بتوبة الله ـ عز وجل ـ إنه كان توابا.
إخوة الإيمان، نتذكر ذلك ونحن نستقبل شهرا عظيما هو رمضان بما فيه من أيام كريمة ومناسبات عظمية، وإن أعظم ما يختم به ذلك وما يبدأ به شهر رمضان، توبة صادقة مخلصة لله ـ عز وجل ـ، يعيد منها الإنسان تنظيم نفسه، فيعرف عيوبها وآفاقها، ويتخلص من الهنات. التي تُزري بنفسه أمام بارئها، ألا ترون أن النفس تستحق بعد كل مرحلة تعطفها من الحياة أن تعيد النظر فيما أصابها من غُرم أو غُنم، ألا تستحق نفوسنا أن نتعهد شؤونها بين الحين والحين، لنرى ما عراها من اضطراب فنزيله، وما لحقها من إثم فننفيه، وبدون هذه المراجعة فإن القلب يغفل وينفرط الأمر، وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، فكان تفريط الأمر، تفريط الأمر واتباع الهوى لمن غفل قلبه، وإن خير فرصة لهذه المراجعة والمحاسبة والبداية بحياة جديدة ورحلة جادة في الطريق إلى الله ـ عز وجل ـ والدار الآخرة.
رمضان، إنه فرصه للتوبة النصوح التي تنقلنا من مرارة المعصية إلى لذة الطاعة، وتنقلنا من وحشة الغفلة إلى أنس الذكر، تنقلنا من وهدة الخطيئة إلى عزة الإيمان.
وليست التوبة فترة قصيرة يعود بعدها الإنسان إلى ما ألف من فوضى وإسفاف. إن التوبة هي العودة الظافرة التي ينتصر بها الإنسان على أسباب الضعف والخمول. إنها التوبة التي يقول الله عنها: وإني وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحَاً ثُمَّ ?هْتَدَى? [طه:82]. هذا هو أثرها فبعد التوبة والإيمان وعمل الصالحات قال: ?لِحَاً ثُمَّ ?هْتَدَى? ، وهي إشارة إلى حياة تجددت بعد لى، ونقلةٍ غيرت معالم النفس.
أيها الأخوة المؤمنون، إن علينا أن نسارع بالتوبة وانتهاز اليوم، وإن انتهاز اليوم أفضل من انتظار الغد، وانتهز الصباح أولى من انتظار المساء، وأما تعليق التوبة على أمنية في الغيب فهو إرجاء لا يعود بخير، وحذارِ من أن نفهم أن التوبة لا تحدث فقط إلا بعد فاحشة ترتكب أو معصية كبيرة، ولنتذكر أن التوبة وظيفة العمر، وأن أفضل التوبة التي تأتي بعد طاعة وصفاء قلب وأنس بالله ـ عز وجل ـ، ولذا ختم الصحابة جهادهم بتوبة الله عليهم، وختم النبي بلاغه لرسالة الله باستغفار الله إنه كان توبا، ويقول الله ـ جل وعلا ـ واصفا عباده: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]، ويأمرنا رسول الله بعد كل صلاة أن نستغفر الله ثلاثا [2] ، إذاً إنها التوبة التي تأتي بعد الطاعة فهي أفضل التوبة.
فالعزم كل العزم والحزم كل الحزم، بأن نجعل رمضان بداية حياة جديدة وبداية لتعديل المسار في الحياة. وتذكروا حينما نتوب أننا نتوب إلى ربٍّ توّاب، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها، وينادينا نحن المذنبين المخطئين المسرفين، قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ وَأَنِيبُواْ إِلَى? رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ [الزمر:53، 54]، ولنتذكر حينما نتوب أن الله يفرح بتوبة العبد، روى مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) [3] ، وإننا حين نتوب ونستغفره، فإننا ندعو ونستغفر ربا غفارا ينادي عباده: ((يا عبادي، إنكم تذنبون بالليل والنهار ولا يغفر الذنوب إلا أنا فاستغفروني أغفر لكم)) [4] ، وينادي وهو الغني عن عباده: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لقيتك بقرابها مغفرة..)) [5] ، إنه الرب الرحيم الرحمن الذي كتب في كتاب عنده: ((إن رحمتي سبقت غضبي)) [6] ، وهو الذي قسم الرحمة مائة جزء أنزل منها على خلقه جزءا واحدا يتراحم به الخلق كلهم، وأبقى تسعة وتسعين جزءا يرحم بها عباده [7]. قدم على النبي بسبي فإذا في السبي امرأة تطوف بين السبي، قد زاغ بصرها، وشعث رأسها، وهي في حالة ذهول، تبحث عن فلذة كبدها، تبحث عن ولدها، وكان هذا التطواف منها بمرأى النبي فما هو إلا أن وجدت ولدها ذاك فالتزمته، وألصقته بصدرها، وألقمته ثديها تطعمه وضانا، فنظر النبي إلى عاطفة الأمومة ورحمة الأم، وتعجب الصحابة من ذلك فسألهم أترون هذه المرأة ملقية ولدها في النار. قالوا: لا يا رسول الله. فقال: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) رواه البخاري ومسلم [8] ، وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب، فأتاه فأخبره وهل له من توبة ؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله ـ تعالى ـ فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله ـ تعالى ـ، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم حكما، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقاربي، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة وغفر له)) [9].
هذه هي رحمة الله ـ جل وعلا ـ يا إخوة الإيمان، فهل ننجز التوبة، فلا نسوّفها، فلا نخلفها، ونجعل من رمضان بداية تغيير المسار إلى الأفضل، وتقويم السير في الطريق إلى الله ـ عز وجل ـ.
نسأل الله ـ جل جلاله ـ أن يعيننا على التوبة وييسرها لنا، وأن يتقبل منا الأعمال. اللهم وفقنا للتوبة وتقبلها منا وأعنا عليها إنك أنت التواب الرحيم، نستغفرك اللهم ونتوب إليك، وصلِّ اللهم وسلِّم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] أخرجه البخاري ح (6463) ، ومسلم (2816).
[2] أخرجه مسلم (931).
[3] صحيح مسلم (2747).
[4] قطعة من حديث قدسي أخرجه مسلم (4674).
[5] صحيح ، قطعة من حديث قدسي أخرجه أحمد (5/154) والترمذي (3540) وقال : حديث غريب.
[6] أخرجه البخاري (2872) ، ومسلم ح (4939).
[7] أخرجه مسلم (2852).
[8] صحيح البخاري (5999) ، صحيح مسلم (2754).
[9] صحيح البخاري (2470) ، صحيح مسلم (2766) ، مسند أحمد (3/72).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون، ونحن نودع قافلة من قوافل الزمن ومرحلة من مراحل التاريخ، نودع عاما ونتلقى عاما، ودعنا عاما حصلت فيه أحداث للأمة، حفرت أخاديد في وجه التاريخ. وإن من أعظم أنواع الغفلة، أن تمر هذه الأعوام والأحداث، ثم لا نرى بعد في الواقع أثرا، ولا تأثرا، فنعوذ بالله أن نكون ممن قال الله فيهم: أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
انظروا إلى أحداث أمتنا الإسلامية في العام الماضي، مصائب وكوارث، قتل وحرق لأفرادها، هتك للأعراض، وتشريد للأطفال، وتجهيل الأمة وإخراجها منها، ولا أبالغ حين أقول إنه لم يمر يوم من أيام السنة الماضية، إلا وكانت للأمة الإسلامية فيه حدث مؤلم أو إهانة تعرضت لها، حتى كأن وسائل الإعلام الإخبارية تخصصت في ذكر مصائب المسلمين، ولم آت لأعدد مصائب المسلمين وكوارثهم وأحزانهم، فهذا ما لا أستطيعه في هذه العجالة، ومما لا يتسع المقام لذكره.
إخوة الإيمان، جاءت هذه الأحداث للأمة، لتبين أننا أحوج ما نكون إلى الوضوح ن وتلمس الأخطاء ومعالجة العوار، والعودة إلى الدين، ولكن من الأسف لا زالت الأمة تجد وقتا فارغا وأموالا مبذولة وآذانا سامعة، للتسلية المحرمة وإفساد المجتمع بجميع فئاته، عن طريق بعض القنوات الإذاعية الجديدة التي نذرت نفسها طوال ساعات اليوم للبث والإفساد. بالأمس القريب كنا نشكو من القنوات الفضائية عبر الدشوش التي عمت وطمت ووجهت الإفساد إلى هذا المجتمع، واليوم نرى هذه القنوات الإذاعية التي خصصت للموسيقى والأغاني المائعة الماجنة، وليس هذا فقط بل وتبادل المكالمات الهاتفية، النساء مع الرجال والعكس بالعكس، وتبادل الضحكات.. ومناقشة بعض الأفكار التي ما كنا نسمعها تذاع من قبل أو يتجرأ أحد على طرقها، ولم يكفهم هذا بل راحوا يعلنون عنها في كل مكان بوسائل مغرية حتى شوارعنا ملؤوها بالإعلان عن هذه الترهات، وبأن الحال ستبدل بها دعوة للأمة للتلهي عن قضاياها المصيرية، وتغريرا بفتيان الأمة وفتياتها وتضييع اهتماماتهم، إن هذا كله إضاعة لتميز هذه الأمة وإضاعة لعقيدتها، نحن خير أمة أخرجت للناس، بم كان ذلك: تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، فهل اشتغلنا بهذا، وهل رسخنا هذه القضية في قلوبنا وقلوب من حولنا، هل جعلنا هذا همنا وهويتنا؟! أسئلة أدع إجاباتها لعقولكم.
إننا أمة ما تميزت بالفن حتى نفتخر بذلك، إننا أمة ما تميزت بالرياضة التي شغلت عقولنا وأفئدة شبابنا، إننا في هذه الجزيرة لنا ما يميزنا، ولنا الرسالة التي نحملها للدنيا، ولنا ما ندعو العالم إليه، ولنا ما نبيّنه للعالم فنقول ها نحن، وهذه بضاعتنا، إننا أتينا لنقول للعالم إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، نقول للعالم أتينا لنحرر العقل من الخرافة، ولنحرر الإنسان من العبودية إلا لله، ولنضع الناس على طريق أوله في أيديهم وآخره في الجنة، هذه رسالتنا، هذه مفاخرنا، وهذه بضاعتنا.
نحن يا فنان ما عاد لنا أذن تهفو وللحن تحن
كل ما فينا جراح ودم نازف من كبد حري تئن
أنغني للهوى في مأتم ولنا من دمنا كأس ودن
وسيوف لا نصقلها وسيوف الرقص للرقص تسن
أمتي يحميك نار ولظى ليس يحميك أغاريد وفن
نداء إلى أمة أن تعرف هدفها وغايتها لتسعى من أجلها وتنبذ ما يرديها في مهاوي السقوط والغفلة.
أسأل الله ـ جل وعلا ـ أن يرد ضال المسلمين إليه ردا جميلا، وأن يحسن عاقبتنا، وأن يجعل مآل الأمة خيرا، وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، إن الله وملائكته يصلون على النبي [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم..
(1/522)
وقفات مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
8/3/1416
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصديق الأكبر رضي الله عنه. 2- جوانب من عظمة أبي بكر وتضحياته في مهد الإسلام.
3- مكانة الصديق عند رسول الله. 4- عظمة الصديق في خلافته نموذج لأولياء أمور
المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فاتقوا الله ـ إخوة الإيمان رحمكم الله ـ. أيها المسلمون، الأمم والشعوب كما تحقق العز والمجد يمسها الضعف والهوان، وتاريخ الإسلام ليس مجرد أحداث مدونة ووقائع مسجلة، ولكنه عقيدة الأمة ودينها ومقياسها وميزانها وعظتها واستكبارها والتاريخ هو الكنز الذي يحفظ مدخرات الأمة في الفكر والثقافة والعلم والتجربة، وهو الذي يمدها ـ بإذن الله ـ بالحكم التي تحتاجها في مسيرة الزمن وتقلّبِ الأحداث. والأمة التي لا تحسن فقه تأريخها، ولا تحفظ حق رجالها أمة ضعيفة هزيلة مضيعة لمعالم طريقها.
إخوة الإيمان، نقف اليوم بكم مع رجل لا كالرجال, وفذ لا كالأفذاذ, يكفيه أنه صاحب رسول الله المقدَّم، إنه عظيم القدر رفيع المنزلة، نصر الرسول يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدقه يوم كذبه الناس، جَِهل فعله الكثير من أبناء المسلمين، ولم يقدره قدره بعض أجيالنا ورجالنا ومثقفينا وكتابنا, يعرفون عن مغنية أو مغنًّ أو لا عب رياضي أو ساقط أو ساقطة، أكثر مما يعرفون عن هذا العَلمَ، إنه أفضل الصحابة، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إنه من وُِزن إيمانه بإيمان الأمة فرجح إيمانه، لم يُؤْثر عنه أنه شرب خمرا قط، ولم يُْؤثر عنه أنه سجد لصنم قط، ولم يتعامل بربا قط، ولم يُؤْثر عنه كذب قط، إنه من لا يخفى،فهو أبو بكر الصديق وأرضاه، ولعن الله من أبغضه وعاداه من الرافضة والباطنية والضلال، نقف بكم اليوم على شيء من خبره وفيض من سيره، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى سير أمثال هؤلاء، والحال في الغالب قد تسر العدو وتحزن الصديق، ولنعلم أنه يوم تدارى أمثال هذا الرجل ظهر الفساد، وتطاول الأقزام، ونطق الرويبضة، وضيعت الأمانة.
روى ابن كثير في سيرته: عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (لما اجتمع أصحاب رسول الله ألح أبو بكر على رسول الله في الظهور وعدم الاختفاء، فقال : يا أبا بكر إنا قليل فلم يزل أبو بكر يلح حتى وافقه على ذلك، وظهر رسول الله والمسلمون، وتفرقوا في نواحي المسجد وقام أبو بكر خطيبا في الناس فكان أول خطيب دعا إلى الله، وثار عليه المشركون وثاروا على المسلمين معه، وضربوا أبا بكر ضربا شديدا حتى أن عتبة بن ربيعة دنا منه فجعل يضرب وجهه بنعلين مخصوفتين، ثم ينزو على بطنه حتى ما يعرف وجهه من أنفه وجاء بنو تيم قوم أبي بكر وأجلوا عنه المشركين، وقالوا: لئن مات لنقتلن عتبة ثأرا لأبي بكر، وأبو بكر مغمى عليه لا يتكلم بكلمة، رجع إليه قومه ليكلموه، فما تكلم إلا آخر النهار، فماذا قال ؟ لقد قال: ما فعل رسول الله ؟ هذا همه الذي يشغله حتى عن نفسه وراحت أمه تلح عليه أن يطعم شيئا وهو يقول: ما فعل رسول الله ، فتقول: والله يا بني ما لي علم بصاحبك، فيقول لها: اذهبي إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب فسليها، فخرجت إليها: فقالت: إن ابني يسأل عن محمد، فقالت لها أم جميل: أتحبين أن أذهب معك إلى ابنك، تريد سرية الأمر، فقالت: نعم، فمضت إلى أبي بكر فوجدته صريعا، فقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، فيقول أبو بكر مرددا: ما فعل رسول الله ، فقالت: إنه سالم صالح، فقال: أين هو ؟ فقالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا شرابا، حتى آتي رسول الله ، فانتظروا حتى سكن الناس، ثم خرجت أمه وأم جميل يتكأ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله ، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قبله وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله رقة شديدة لما يرى منه، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي من بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، ثم قال:يا رسول الله هذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادع الله لها وادعها إلى الله، فدعاها ودعا لها رسول الله ، فشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) [1] ، وهذا من أعظم البر...
هذا موقفه، وهذه تضحيته في سبيل الله، الذي به علا شأنه، وارتفعت مكانته، وأبو بكر كان السبب في دخول الكثير في الإسلام منهم ستة من العشرة المبشرين: عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة رضي الله عنهم.
وهو من أعتق عشرين من الصحابة من ربقة العبودية، الذين كانوا يعذبون بأشد أنواع العذاب وأقساه، وأنفق في ذلك أربعين ألف دينار، هي كل تجارته، ليحقق معنى الجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ثم إلى وقفة أخرى مع الصديق حينما أسُري وعرج بالنبي في حادثة ومعجزة غريبة لم يعتدها مشركو قريش، بل لقد تأثر بعض ضعاف المسلمين وُِفتن بأن كَذَّب بالإسراء والمعراج، وحصوله في ليلة واحدة، فيذهب بعضهم إلى أبي بكر يريدون زعزعة عقيدته وإيمانه، فيخبرونه الخبر فوقف أمامهم ثابتا، وهو يقول: (إن كان قال فقد صدق الآن..) [2] ، واستحق أبو بكر أن يلقب بالصديق.
أما حديثه في الهجرة فهو الحديث الذي لا ينقضي منه العجب، هل أحدثكم عن رغبته الملحة بمرافقة النبي ، وإعداده لهذه الرحلة وتربية أولاده لخدمة الدعوة في هذه الرحلة، أم أحدثكم عن فرحته العارمة حينما أذن الله لنبيه بالهجرة، وصحبته معه حتى أن فرحته هذه أبكته، كما تقول عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري: (ما علمت الرجل يبكي من شدة الفرح إلا يومئذ حينما رأيت أبي يبكي من شدة الفرح) [3] ، ترى هل كان فرحه لمرافقة النبي لنزهة صيفية؟، لا إنها رحلة إلى عمق الأخطار، حيث قريش تبذل مائة ناقة لمن يأتي برأس أحدهما، أم أخبركم عن محافظته على النبي في هذه الرحلة حين كان يمشي أمامه تارة ثم يرجع خلفه ثم يذهب يمينا ثم شمالا، فيسائله رسول الله عن ذلك فيقول: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إذا تذكرت الرصد تقدمت، وإذا تذكرت الطلب تأخرت، فدعا له النبي بخير وقبل دخول الغار، يدخل أبو بكر ليتفقد الغار من الحشرات الضارة ويسد خروق الغار، بيديه ورجله حفاظا على النبي [4].
إنها التضحية والفداء في سبيل نماء هذه الدعوة، وظهورها، فبذل أبو بكر والصحابة معه كل قدراتهم في سبيل ذلك فأين نحن من هذا ؟! أين دورنا مع الدعوة إلى الله ؟! أين دفاعنا عن الدعاة والعلماء والذب عن أعراضهم ؟!.
أيها الإخوة المؤمنون، أما وقفتنا التالية مع أبي بكر الصديق y فهي تبين لنا مكانته عند النبي ، أخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: (كنت جالسا عند رسول الله ، إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى ركبته، فلما رآه قال: أما صاحبكم فقد غامر، أي وقع في هول وخطر، فأقبل حتى سلم على رسول الله ثم قال: يا رسول الله: إنه كان بيني وبين عمر شيء فأسرعت إليه – أي أخطأت عليه – ثم إني ندمت على ماكان مني فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فتبعته البقيع كله حتى تحرز بداره مني، وأقبلت إليك يا رسول الله ؛ فيقول : ((يغفر الله لك يا أبا بكر يغفر الله لك يا أبا بكر))، ثم ندم عمر حين سأله أن يغفر له فلم يصفح عنه فخرج يبحث عنه، حتى أتى منزل أبي بكر، فسأل هل ثمَّ أبو بكر، فقالوا: لا نعلم، فعلم أنه عند رسول الله فأقبل إلى رسول الله ، حتى إذا سلم فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله إلى عمر ما يكره فجثا أبو بكر على ركبتيه، وقال: يا رسول الله، كنتُ أظلم كنتُ أظلم، فيقول - مبينا مكانة أبي بكر – ((إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي ؟! فهل أنتم تاركون لي صاحبي ؟! )) فما أوذي الصديق بعدها أبدا [5].
أما بذل الصديق وعطاؤه، فيصفه لنا عمر بن الخطاب فيقول: كما روى الترمذي بسند حسن: (ندب النبي وسلم للصدقة ذات يوم فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر ولم أكن أسبقه في شيء طول الدهر، فجئت بنصف مالي فتصدقت به، فقال : ما أبقيت لأهلك، قال عمر: أبقيت لهم مثله، ويأتي أبو بكر بكل ماله لم يبق قليلا ولا كثيرا، فيقول له رسول الله : ما أبقيت لأهلك، قال: أبقيت لهم الله ورسوله !! فيقول عمر: فقلت في نفسي والله لا أسابقك إلى شيء بعد اليوم أبدا) [6].
وروى الإمام أحمد أن النبي قال: ((أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي))، فقال أبو بكر وددت يا رسول الله أني معك حتى أنظر إليه، فقال له عليه الصلاة والسلام: ((أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي)) [7].
هذه مواقف أبي بكر، هذه تضحياته، هذا فضله. أما حاله حين ولي الخلافة، حين ولي مقاليد الأمة، فهو الحال الذي تفتقده أمة الإسلام اليوم في ولاتها وحكامها، وجدير بكل من ولي من أمر المسلمين شيئا أن يتأمل سيرته وحاله في ولايته، أرأيتم خطبته حين تولى فماذا قال؟!
(أيها الناس إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، لا يدع قوم الجهاد إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيتهما فلا طاعة لي عليكم ) [8] هذا هو دستور أبي بكر في خلافته وولايته، فهل كانت هذه خطبة رنانة، وأقوالا فضفاضة، كالتي تنشر على شعوب الإسلام اليوم ولا يطبق حرف؟ هل كان قوله هذا غشا أو تجارة أو دعوة لانتخابه فقط؟ لا؛ إنه أبو بكر، إنه الصديق.
أول ما عمل أن سير جيش أسامة الذي ندبه النبي فأرهب به الروم والعرب، ثم قام بحرب المرتدين، وما تهاون معهم بل قال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ؟ والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه للنبي لقاتلتهم عليه) [9] ، روي في السير عن عمر بن الخطاب قال: (كنت أفتقد أبا بكر أيام خلافته ما بين فترة وأخرى، فلحقته يوما فإذا هو بظاهر المدينة – أي خارجها – قد خرج متسللا، فأدركته وقد دخل بيتا حقيرا في ضواحي المدينة، فمكث هناك مدة، ثم خرج وعاد إلى المدينة، فقلت لأدخلن هذا البيت فدخلت فإذا امرأة عجوز عمياء، وحولها صبية صغار، فقلت: يرحمك الله يا أمة الله من هذا الرجل الذي خرج منكم الآن؟ فقالت: أنه ليتردد علينا حينا، والله إني لا أعرفه، فقلت: فما يفعل ؟ فقالت: إنه يأتي إلينا فيكنس دارنا، ويطبخ عشاءنا، وينظف قدورنا، ويجلب لنا الماء، ثم يذهب، فبكى عمر حينذاك، وقال: الله أكبر والله لقد أتعبت من بعدك يا أبكر) [10].
إننا إخوة الإيمان، تحت ضغط الحياة المادية نعتبر هذا الكلام نسج خيال، ولكنه الإيمان الذي وقر في قلوب أصحاب النبي فحولوه من أقوال إلى أعمال ومن آيات تتلى وتحفظ إلى أحكام تطبق ويعمل بها.
هذه جهود أبي بكر في الإسلام وهذا عمله، وهذه ولايته، ولذلك فقد استحق عن جدارة قول النبي فيما رواه الترمذي: ((ما من صاحب يد إلا وقد كافأناه عليها إلا أبا بكر فإن له عند الله يدا يكافئه بها يوم القيامة )) [11] ، وختم حياته أبا بكر عنه بالمسك بأن ولي عمر بن الخطاب الخلافة بعده فكانت خلافته عزًا وقوة للإسلام، وأوصى أبو بكر في حال موته، فقال: "أما قد ولينا أمر المسلمين فلم نأكل درهما، ولا دينارا، ولُكْنا خشن طعامهم في بطوننا، ولبسنا خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا شيء من فيء المسلمين، فانظروا ما زاد من مالي فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي "، فما تَرِكتُه يا ترى؟ ما تركة من كانت ميزانية الأمة تحت يديه ؟ لقد خلف عبدا حبشيا وبعيرا كان يسقي عليه وعباءة لا تساوي خمسة دراهم، فلما بعثوا بها إلى عمر بكى حين رآها حتى سالت دموعه، وقال: (رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده) [12].
نعم رحم الله أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وسائر صحابة رسول الله لقد ودع الصديق الأمة بعد أن جعل من نفسه مثلا للداعية والمجاهد والعابد والزاهد والخليفة والوالي.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ?لالْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.[يوسف:111]
[1] البداية والنهاية لابن كثير (3/29 ـ 30).
[2] أخرجه الحاكم في المستدرك (3/62 ـ 63) وصححه ووافقه الذهبي.
[3] هذه اللفظة ليست في حديث البخاري، وانظر القصة في صحيح البخاري (3906)، وقول عائشة هذا أخرجه ابن إسحاق في سيرته (سيرة ابن هشام 2/485)، وراجع فتح الباري (7/235).
[4] أخرجه الحاكم (3/6) وقال: صحيح على شرط الشيخين لولا إرسال فيه. ووافقه الذهبي.
[5] صحيح البخاري (3661).
[6] سنن الترمذي (3675) وقال: حسن صحيح.
[7] لم أجده في مسند أحمد، وأخرجه أبو داود (4652)، قال الألباني: إسناده ضعيف. مشكاة المصابيح (6024).
[8] سيرة ابن هشام (4/661).
[9] أخرجه البخاري (1400) ومسلم (20).
[10] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، كما ذكر ذلك السيوطي في تاريخ الخلفاء (1/78) بنحوه.
[11] سنن الترمذي (3661)، وصححه الألباني. صحيح الترمذي (2894).
[12] انظر تاريخ الخلفاء للسيوطي (1/78).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/523)
الأمة المؤمنة على ضوء سورة الحجرات
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, فضائل الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
23/3/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
حقيقة الإيمان ومرتبته , وتلازمه مع الجهاد – وعد الأمة المؤمنة حقاً بأربع مميزات :
1- النصر 2- الحماية الإلهية 3- التمكين في الأرض 4- العلو على باقي الأمم -
معنيا الإيمان كما أشارت إليه آية الحجرات : 1- الاعتقاد الواضح واليقين الراسخ
2- العمل والجهاد بالمال والنفس – واقع الأمة اليوم وأسباب هوانها وذلها – مقصود الجهاد في الإسلام , وخطورة التخلي عنه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فقد قال الله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [الحجرات:15].
ليس كل مسلم مؤمناً فالإيمان مرتبة سامية لها شروط سامية ولها مميزات عظيمة, الإيمان هو الاعتقاد الواضح واليقين الراسخ الذي لا تردد فيه ولا ارتياب ثم الترجمة العملية لهذا الاعتقاد ولهذا اليقين بالعمل والجهاد فالأمة المؤمنة أمة مجاهدة, الإيمان والجهاد سمتان متلازمتان من سمات الأمة المؤمنة وهذه الأمة المؤمنة هي الأمة الموعودة بالنصر وبالحماية الإلهية وبالتمكين في الأرض, هذه الأمة المؤمنة هي التي قال الله تعالى فيها: وكان حقاً علينا نصر المؤمنين [الروم:47]. وهي التي قال فيها: إن الله يدافع عن الذين آمنوا [الحج:38]. وهي التي قال فيها سبحانه: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً [النور:55]. هذه الأمة المؤمنة هي التي تستحق العلو والظهور علي باقي الأمم كما قال تعالى: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [آل عمران:139]. فهذه المميزات الأربعة العظيمة:
- النصر - الحماية الإلهية - التمكين في الأرض - العلو علي باقي الأمم.
ربطت كلها بالإيمان, ليس الإيمان بمعنى التصديق بالله ورسوله فحسب ولكنه هذا الإيمان الذي أشارت إليه هذه الآية من سورة الحجرات, الإيمان بمعنييه العظيمين الاعتقاد الواضح واليقين الراسخ الذي لا تشوبه شائبة ارتياب ولا تضعضع ولا انهزام فكري ولا نفسي ولا قلبي هذا المعني الأول.
المعنى الثاني: العمل والجهاد بالمال والنفس, إن مجرد كون الأمة مسلمة لا يؤهلها لهذه المميزات الأربعة العظيمة النصر الإلهي والحماية الإلهية والتمكين في الأرض والعلو على باقي الأمم فها نحن اليوم أمة مسلمة كبيرة العدد أكثر من ألف مليون مسلم ومع ذلك فنحن أمة مقهورة مغلوبة تتلاعب بنا القوى العالمية وتسير أمورنا كيفما شاءت على رغم أنوفنا, ونحن أمة منهوبة تسفك دماؤنا وتنتهك خيراتنا على مسمع منا وعلى مرأى من أبصارنا ومازلنا مكبلين لا نملك إلا الصياح والنواح, وهانحن اليوم أمة لا سلطان لها لا سلطة تمثلها فلا يوجد اليوم على وجه الأرض سلطة يمكن أن تمثل الإيمان تمثيلاً حقيقياً صادقاً, شعوب مسلمة نعم أمة مسلمة نعم حكومات مسلمة ربما ولكن أمة مؤمنة وسلطة مؤمنة فلا، لا يوجد هذا الحلم في واقع حياتنا المعاصرة " أمة مؤمنة تمثلها سلطة مؤمنة " وإلا لتغير وجه واقعنا المعاصر لأن أمة مؤمنة تمثلها سلطة مؤمنة لابد أن تغير وجه هذا الواقع, لابد أن تحظى بهذه المميزات الأربعة العظيمة النصر والحماية الإلهية والتمكين في الأرض والعلو والظهور على سائر الأمم, هذا وعد الله والله تعالى لا يخلف الميعاد ومن أصدق من الله قيلاً [النساء:122].
فإذا تأملتم واقعكم أيها المسلمون فوجدتموه مهلهلاً مفجعاً فلا تقولوا: لماذا نحن هكذا يا ربنا؟ أين وعدك وأين نصرك؟ فالله تعالى ما وعد المسلمين إنما وعد المؤمنين لأن الاستسلام وحده لحكم الإسلام الظاهر بالأعمال الظاهرة هذا وحده لا يكفي, هذا يشترك فيه المسلمون والمنافقون ولذلك فإن الأفراد من هؤلاء وهؤلاء يحظون بنتائجه يتمتعون بحقوق المسلم الذي استسلم في الظاهر لأحكام الإسلام وأعماله الظاهرة من صيانة للدم والمال ولغير ذلك من الأحكام ولكن هذا لا يكفي لابد من الإيمان بمعنى الاعتقاد الواضح السليم واليقين الراسخ الثابت الذي لا ارتياب فيه ولا تردد وبمعنى العمل والجهاد, فالأمة المؤمنة أمة مجاهدة لا تضع سلاحها عن عاتقها أبداً رايات الجهاد فوقها خفاقة دائماً وجحافلها المؤمنة المدربة في تعبئة دائمة ليس لقهر الشعوب الأخرى وسفك دمائها والتسلط عليها واستعمارها ولكن للذود عن حياض الإسلام ضد كيد المعتدين وأطماع الطامعين ولضمان الحرية أمام كلمة الله حتى يسمعها كل مكلف علىوجه الأرض، أي ضمان الحرية للدعوة الإسلامية على سائر الأرض في أنحاء المعمورة, هذا هو المقصود بالجهاد في الإسلام وهذه هي وظيفة الأمة المؤمنة الدعوة والجهاد, فإذا ما تخلت عن وظيفتها هذه وركنت إلى التجارة وإلى حياة اللهو واللعب والملذات والشهوات فإنها حينئذ تكون قد تقهقرت من مرتبة الإيمان إلى درجة من أدنى درجات الإسلام, هذا إذا حافظت حتى على الحد الأدنى من درجات الإسلام, وحينئذ بتقاعسها عن الدعوة وعن الجهاد تكون قد فقدت تلك المميزات الأربعة العظيمة التي وعدت بها الأمة المؤمنة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد وَفَدَ وَفْد بنو عبد القيس على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ((من القوم؟ قالوا: ربيعة. فقال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا نداما. فقالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الأشهر الحرام, وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر, فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة)). فقال لهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده, أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتصوموا رمضان وتعطوا الخمس من المغنم. ثم نهاهم صلى الله عليه وسلم عن أربعة أنواع من الأشربة المسكرة, ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: ((احفظوهن وبلغوا من وراءكم)) [1].
ففي هذا الحديث الصحيح الثابت الجليل فسر النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالأعمال إلى جانب الاعتقاد فكأنما هو تفسير لآية سورة الحجرات التي صدرنا بها, إلا أن في الحديث تفصيلاً زائداً وبياناً هائلاً فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العبادات المفروضة على كل مسلم ضمن وصف الإيمان وهي الصلاة والزكاة والصيام ولم يكن الحج قد فرض بعد , وذكر الجهاد في قوله: ((وأن تعطوا الخمس من المغنم)) , ثم ضمن النبي صلى الله عليه وسلم في أوامره النهي عن المحذورات, اجتناب المحرمات وخص أنواعاً من الأشربة المسكرة بالذكر لأن الخمر كانت متفشية منتشرة بين العرب قد ألفوا شربها ومعاقرتها وإلا فاجتناب سائر المحرمات هو داخل ضمن وصف الإيمان, إذاً فالأمة المؤمنة هي التي حققت هذه الأمور: الاعتقاد الواضح الراسخ الذي لا شبهة فيه ولا تردد ولا شك ولا ارتياب, وأداء الفرائض, ثم الجهاد بالمال والنفس, ثم اجتناب المحرمات ومحاربتها والوقاية منها. فالأمة المؤمنة هي التي حققت هذه الأمور وهذه الأمة هي الموعودة بتلك المميزات العظيمة الأربعة, فكأنما حديث النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم تفسير للآية من سورة الحجرات. ومن لازم هذا أن ما يشاهد في بعض المجتمعات المسلمة اليوم من إضاعة للصلوات ولا يعطون الفقير حقه المعلوم الذي فرضه الإسلام بلا منة من أحد ويجاهرون بالإفطار في شهر الصيام, تراهم يأكلون ويشربون في أسواقهم ومنتدياتهم, وبدلاً من الجهاد اصبحوا أسرى لحياة الشهوات والملذات وحياة اللهو واللعب وبدلاً من محاربة المنكرات تجد المسكرات والمخدرات وغير ذلك من الموبقات متفشية في تلك المجتمعات التي تسمى مسلمة ولا تزال تسمى مسلمة, مثل هذه المجتمعات هي أسوأ وأحقر من أن يصدق عليها وصف الإيمان ربما يقال فيها تسامحاً إنها مجتمعات مسلمة أما أن تكون مجتمعات مؤمنة فهي أسوء وأحقر حالاً من ذلك.
إن على كل واحد منا واجباً في هذا المجال , نعم المسؤولية العظمى أكبرها على ولاة الأمور الذين وظيفتهم في الإسلام هي حراسة الدين ورعاية مصالح الأمة ولكن على كل فرد منا عمل يؤديه في سبيل تحقيق مرتبة الإيمان لنفسه ولمن يعول وفي سبيل الإسهام في الوصول بالمجتمع إلى هذه المرتبة حتى يستحق أن يوصف بوصف الإيمان وفي سبيل الوصول بأمتنا المنكوبة المغلوبة إلى هذه المرتبة بحيث أن تستحق أن توصف بوصف الأمة المؤمنة, على كل فرد منا واجب في ذلك يؤديه نحو نفسه أولاً ونحو ولده, فإن على كل أب أن يربي ولده على معاني الإيمان التي ذكرناها, وعلى كل أم أن تربي وليدها منذ صغره على معاني الجهاد, أن تحكي لهم سير الأمجاد من أبطال المسلمين ترضعهم ذلك مع حليبها, أن تقص عليهم السيرة النبوية الشريفة وأحوال الصحابة الكرام.
وهنا نلمس مدى حاجتنا إلى الكتابات, إلى المؤلفات التي صيغت بلغة الصغار في السيرة النبوية, فأين أقلامنا؟ أقلامنا لا تكتب إلا للكبار, لماذا لا تكتب للصغار؟ فإن السيرة النبوية بحاجة إلي أن نرضعها مع حليب الأم لصغارنا, الكتابة للصغار أشد أهمية من الكتابة للكبار وهذا النقص هو من أوجه الخلل والتقصير الذي تعاني منها أقلامنا, هذا النقص هو من أوجه الدروشة التي تسبح فيها أقلامنا, صرفوا جهودهم إلى فئة في الأمة لا تتعدى عشرة بالمائة بينما أخطر فئات الأمة الصغار والفتيان والمراهقون والشباب والشابات قلما تكتب لهم الأقلام.
فيا أيها الآباء ويا أيها الأمهات ويا كل فرد مسلم ربوا صغاركم على معاني الإيمان وعلى معاني الجهاد واحموهم من الإعلام فإن إعلامنا ولشدة الأسف لا يزال يقوم ليس بمهمة غرس معاني الإيمان والجهاد ولكن بمهمة الفساد والإفساد حتى والكوارث تنصب على رؤوسنا والأعداء يقرعون أبوابنا ويكادون يستبيحون بيضتنا, فإن إعلامنا ولشدة الأسف لا يزال يقوم بمهمة ووظيفة الطابور الخامس, مهمة تخريب الأخلاق من الداخل والإيمان.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [2] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري :ك:الإيمان رقم (53).
[2] صحيح مسلم (408) عن أبي هريره رضي لله عنه.
(1/524)
الصبر على المصائب
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
14/11/1415
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصابر عند الله. 2- وسائل تحصيل الصبر.
3- ما يقوله المصاب. 4- المصيبة الأعظم وفاة النبي. 5- المصائب مقدرة ومكتوبة ، ولعل
ذنوبنا هي سبب بعضها. 6- فوائد الصبر على البلاء. 7- أمور تعين الإنسان على الصبر.
8- أقسام الصبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها الناس، روى أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنهما أنه في يوم من الأيام في المدينة، جاء ناس من الأنصار إلى النبي يسألونه المال فأعطاهم عليه السلام، ثم سألوه فأعطاهم، ومازال يعطيهم حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: (( ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبَّر يتصبّره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر)). هذا الحديث متفق عليه [1] ، نعم إخوة الإيمان إنه الصبر، هذا مقام الأنبياء والمرسلين، ومنازل المتقين، وحلية أولياء الله المخلصين، وهو أهم ما نحتاج إليه نحن في هذا العصر الذي كثرت فيه المصائب وتعددت، وقلّ معها صبر الناس على ما أصابهم به الله تعالى من المصيبة، ولو يعلم المصابون ما ينالون من الأجر الكبير إن هم صبروا، لتمنوا أن مصيبتهم أشد بلاء، وأعظم نكاء. واعلموا يا عباد الله أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، ومن يتصبر يصبره الله، والصبر ضياء، بالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف والخور، والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ ?لْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـ?ماً [الفرقان:75]، وقال تعالى عن أهل الجنة: سَلَـ?مٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى? ?لدَّارِ [الرعد:24]، هذا هو الصبر، وتلك منزلته، وما أجمل إخوة الإيمان أن نعلم هذه المنزلة، وأن نقدرها حق قدرها، وأن نصبّر أنفسنا ومن حولنا عندما تقع المصيبة، وما أسرع الجزع والسخط إلى نفوسنا عندما تقع المصائب علينا، أو على من حولنا، بل إننا أصبحنا عوناً للإنسان على أن يتسخط وأن لا يرضى بقضاء الله، في بكاؤنا وطريقة عزائنا، وما أجمل الصبر وما أروعه، عندما يكون عند الصدمة الأولى، فذلك هو الاختيار الحقيقي، والمحك الرئيسي، لصدق العبد في صبره، واحتسابه مصيبته عند الله.
إخوة الإيمان إن للصبر وسائل يجب أن نعوّد أنفسنا عليها وأول هذه الوسائل للصبر على المصيبة: التأمل، والتدبر، والنظر في كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه ، ففيها ما تقرّ به الأعين، وتسكن به القلوب، وتطمئن إليه النفوس، ولو قارن المصاب بين ما أخذ منه وما أعطي فلا مقارنة فإنه سيجد أن ما أعطي من الأجر، والثواب، أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وقِفُوا مع آية عظيمة في كتاب الله كفى بها واعظة ومسلية، عند وقوع المصائب: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ وَ?لاْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، (إنا لله وإنا إليه راجعون) علاج ناجع من الله عز وجل لكل من أصيب بمصيبة دقيقة أو جليلة ومصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، لابد أن يخلف في الدنيا يوما ما وراء ظهره، ويأتي ربه فردا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا عشيرة ولا حول ولا قوة ولكن بالحسنات والسيئات، فهل يا ترى يعلم هذا المصاب بمصيبة ما روى مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (سمعت رسول الله يقول: (( ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبة وأخلفه خيرا منها)) ، قالت: ولما توفي أبو سلمة؛ قلت: ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله ثم عزم الله علي فقلتها – فما الخلف؟ - قالت: فتزوجت رسول الله ) [2]. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي قال: (( ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه )) [3].
والثاني من الوسائل المعينة على الصبر: تذكر المصيبة العظيمة بموت الرسول وكل مصيبة دون مصيبتنا بموته تهون، فبموته عليه الصلاة والسلام انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وبموته انقطعت النبوّات، وبموته ظهر الفساد في البر والبحر، وتذكر ذلك تسلية وعزاء للمصائب يقول في الحديث الصحيح: (( إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب)) [4] ، ويقول فيما صح عنه في سنن ابن ماجه: (( يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)) [5] ، نعم إن تذكر النبي وما حل بنا بفقده هو أعظم مصيبة..
فاصبر لكل مصيبة وتجلدِ واعلم بأن المرء غير مخلد
واصبر كما صبر الكرام فإنها نوبُ اليوم تُكشَف في غدِ
من لم يصب ممن ترى بمصيبة؟ هذا سبيل لستَ عنه بأوحد
فإذا ذكرت مصيبة ومصابها فاذكر مصابك بالنبي محمد
ومن الوسائل للصبر: أن يعلم المصاب علم اليقين أنّ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ?لأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرٌ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى? مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـ?كُمْ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:22، 23].
فيا أيها المصاب، المصيبة واقعة، فوطن نفسك على أن كل مصيبة تأتي إنما هي بإذن الله عز وجل وقضائه وقدره فإن الأمر له، فإنه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك أو يضروك فلن يحصل ذلك إلا بشيء قد كتبه الله لك أو عليك.
إخوة الإيمان، ومن الوسائل المعينة على الصبر: الاستعانة بالله، والاتكال عليه، والرضا بقضائه، روى الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك قال: ألا أحدثكم بحديث لا يحدثكم به أحد غيري؟ قالوا: بلى، قال: كنا عند النبي جلوسا فضحك، ثم قال: أتدرون مما ضحكت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((عجبت للمؤمن أن الله عز وجل لا يقضي عليه قضاء إلا كان خيرا له)) [6] ، فليعلم من أصيب بمصيبة أن حظّه من المصيبة ما يحدث له من رضا فمن رضي فله الرضا، ومن تسخط فله السخط.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: (( ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى؛ قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي فقالت: إني أصرع وإني أتكشّف، فادع الله تعالى لي؟ قال: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك، فقالت :بل أصبر، فقالت: إني أتكشّف فادع الله أن لا أتكَّشف فدعا لها)) متفق عليه [7]. وعن أبي يحيى صهيب بن سنان قال: قال رسول الله : (( عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) رواه مسلم [8].
والوسيلة الخامسة مما يعين على الصبر: العلم بأن الجزع من المصيبة لا يردها بل يضاعفها، فهو إذا جزع فجزعه مصيبة ويغضب ربه، ويحبط أجره، حدّث أنس أن النبي مر بامرأة تبكي عند قبر، فقال: (( اتقي الله واصبري))، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتيَ، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي فأتت باب النبي فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك وسوف اصبر يا نبي الله فقال لها: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) متفق عليه [9].
ومن الوسائل المعينة على الصبر: العلم بأن النعم زائرة وأنها لا محالة زائلة، وأنها لا تفرح بإقبالها فرحا حتى تُتْعِبَ بفراقها ترحًا، وما فرح به اليوم حزن عليه غدا، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ومما يعين على الصبر: العلم بتفاوت المصائب في الدنيا، ومن حصل له الأدنى من المصائب يتسلى بالأعلى والأعظم من المصائب التي أصيب بها غيره، من فقد للدين وإهمال وتقصير فيه، فهذا أعظم المصيبة، ويجب أن تعلم أيها المصاب أن هذا هو حال الدنيا إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما أحزنت شهورا، وإن متعت يسيرا قنعت طويلا.
ومما يعين على الصبر كذلك، أن يتذكر المصاب ما في مصابه من فوائد ولطائف منجية له، فربما كان على ذنب عظيم أوجب سخط الله فَرَقّ قلبه بعد مصابه وتاب وأناب إلى الله، ورجع إلى نفسه فعالج تقصيرها في ذات الله، وربما لم يتحقق له ذلك إلا بوقوعه في المصيبة، نسأل الله لنا ولكم العافية، وكم رأينا من شواهد الواقع ما يؤيده.
ومن الوسائل المعينة على الصبر، حسن التعزية للمصاب، فإن الكلمة الطيبة للمصاب يثبت بها بإذن الله ويعان، ويعود الصبر عليه سهلا يسيرا، والمؤمن قليل بنفسه كثير بإخوانه، فإذا وجد هذا يعزيه، وهذا يسليه، سهلت عليه الأمور العظام، وكشف ما به من مصيبة، وفي الحديث الحسن أن النبي قال: (( ما من مؤمن يعزي أخاه بما به إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة)) [10] ، ولابد من أن تكون التعزية في محلها مناسبة، فإن من الناس من إذا عزى ذكر باللوعة والمصيبة، من وفاة أو مرض ونحوهما، وما أروع الهدي النبوي والأدعية النبوية الكريمة في العزاء للمصيبة، أما كثرة الأسئلة عن المصيبة فمما يؤجج الأحزان ويؤدي إلى الشكوى إلى الخلق، وهم عاجزون عن تقديم الشفاء، فعليك أيها المصاب بكثرة الأدعية واللجوء إلى الله تعالى في كل حالك.
فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها صبر الكريم فإن ذلك أسلم
وإذا ابتليت بكربة فالبس لها ثوب السكوت فإن ذلك أسلم
لا تشكونّ إلى العباد فإنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
أخي يا من أصابته المصيبة هذه آيات الله وأحاديث نبيك تحثك على الصبر، وتسليك في مصابك، فاحمد الله، وأحسن نيتك، واحتسب مصيبتك وارض بما قدر الله لك، فلعل لك عند الله منزلة لا تبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليك بحكمته بما تكره ويصبرك على ما يبتليك به حتى تبلغ تلك المنزلة العالية من الله، فاحمد الله وكن من الصابرين؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ عَلَى? مَا أَصَابَهُمْ وَ?لْمُقِيمِى ?لصَّلَو?ةِ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [الحج 34-35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
[1] صحيح البخاري (1469)، صحيح مسلم (1053).
[2] صحيح مسلم (918).
[3] صحيح البخاري (5641)، صحيح مسلم (2572 ـ 2573).
[4] صحيح أخرجه الدارمي في سننه (1/53).
[5] سنن ابن ماجه (1599).
[6] مسند أحمد (3/184)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (148).
[7] صحيح البخاري (5652)، صحيح مسلم (2576).
[8] صحيح مسلم (2999).
[9] صحيح البخاري (1283)، صحيح مسلم (926).
[10] أخرجه ابن ماجه (1601) وفي إسناده: قيس أبو عمارة مولى الأنصار. قال البخاري: فيه نظر. انظر مصباح الزجاجة، والسلسلة الضعيفة للألباني (610).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي وعد الصابرين أجرهم بغير حساب، وأثاب الشاكرين على النعم بدوامها والازدياد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له من غير شك ولا ارتياب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد الرسل، وخلاصة العباد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب وسلم تسليما.
أما بعد، فاتقوا الله تعالى أيها الناس واعلموا أن للصبر أقساما ذكرها العلماء، وهي ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله، التي يجريها إما مما لا قدرة للعباد فيه، وإما مما يجريه الله على أيدي بعض العباد من الإيذاء، والاعتداء. والصبر على طاعة الله أن يحبس الإنسان نفسه على العبادة، ويؤدّبها كما أمره الله تعالى وأن لا يتضجر منها، أو يتهاون بها، أو يدعها، فإن ذلك عنوان هلاكه وشقائه، ومتى علم العبد ثواب الله على هذه الطاعة، هان عليه أداؤها وفعلها، فالحسنة ولله الحمد إذا أخلص الإنسان فيها لله واتبع رسوله، كانت بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والله يُضاعِف لمن يشاء، أما الصبر عن معصية الله فأن يحبس الإنسان نفسه عن الوقوع فيما حرم الله عليه، مما يتعلق بحق الله أو حقوق عباده، ومتى علم العبد ما ينتظر العاصي من العقاب الدنيوي والأخروي، وأن ذلك مما يضر بدينه، ويضر بعاقبة أمره، فإن الذنوب عقوباتها قد تعم، ويبعث الناس على أعمالهم فمتى ما علم الفاعل ما يلقى من جزاء الذنوب، وجب عليه أن يدعها خوفا من علام الغيوب، وأما الصبر على أقدار الله فمعناه أن يستسلم الإنسان لما يقع عليه من البلاء والهموم والأمراض والأسقام، وإذا وقعت به مصيبة فلا يقابلها بالتسخط والتضجر، وأن يعلم أن هذا البلاء لنزوله أسباب وحكم، لا يعلمها إلا الله، وأن يعلم أن لدفعه ورفعه أسبابا، من أعظمها لجوؤه ودعاؤه وتضرعه إلى مولاه، فهذه الأمراض التي أرسلها الله تعالى على عباده، إنما هي رحمة بهم ليرجعوا إليه، وليعرفوا أنه هو المتصرف بعباده كما يشاء، يقول تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. هذه أقسام الصبر، ـ إخوة الإيمان ـ فمن حقق مقام الصبر ومقام الشكر، كمل بذلك إيمانه ونجا، ولذلك قال النبي : (( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) [1].
[1] تقدم تخريجه قريبًا.
(1/525)
الدعاء وفوائده
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
11/4/1415
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الدعاء. 2- فوائد الدعاء. 3- موانع قبول الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فاتقوا الله تعالى أيها الناس واعلموا أن الدعاء أعظم أنواع العبادة، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي قال: (( الدعاء هو العبادة )) ، ثم قرأ: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [سورة غافر:60]. رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم [1] ، وقد أمر الله بدعائه في آيات كثيرة، ووعد بالإجابة وأثنى على أنبياءه ورسله، فقال: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [سورة الأنبياء:90].
وأخبر سبحانه، أنه قريب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فقال سبحانه لنبيه : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة :186].
وأمر سبحانه بدعائه، والتضرع إليه، لا سيما عند الشدائد ،والكربات، وأخبر أنه لا يجيب المضطر، ولا يكشف الضر إلا هو، فقال: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [سورة النمل: 62].
وذم الذين يعرضون عن دعائه عند نزول المصائب، وحدوث البأساء، والضراء، فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [سورة الأعراف:94]. وقال تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (1/526)
دروس من غزوة تبوك
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
4/1/1415
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تجهز الصحابة لغزوة تبوك. 2- اعتذار المنافقين وتذرعهم بالذرائع الواهية. 3- انفاق
عثمان &. 4- البكاءون لما حرموا في الخروج إلى الجهاد. 5- علي على ولاية المدية.
6- أبو قتادة يحفظ النبي حال تعبه وسفره. 7- أبو ذر يلحق بالرسول إلى تبوك. 8- دفن ذي
البجادين. 9- المجاهدون بنياتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله ـ تعالى ـ، واعلموا علم اليقين أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في خلاف دائم، وصراع مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فمذ بزغ هذا الدين وأعداؤه من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين يحاولون القضاء عليه، بكل ما يستطيعون، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8]، والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك أنى لهم أن يفلحوا ما تمسكنا بكتابنا وسنة نبينا محمد.
كل العدا قد جندوا طاقاتهم ضدا الهدى والنور، ضد الرفعة
إسلامنا هو درعنا وسلاحنا ومنارنا عبر الدجى في الظلمة
هو بالعقيدة رافع أعلامه فامشي بظل لوائها يا أمتي
لا العرب يقصد عزنا كلا ولا شرق التحلل إنه كالحية
الكل يقصد ذلنا وهواننا أفغير ربي منقذ من شدة
إخوة الإيمان، يوم يقلب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا ويقارنه بذلك الماضي، يتحسر يوم يجد البون شاسعا والفرق عظيما، يتحسر يوم يرى تلك الأمة التي كانت قائدة، وقد أصبحت تابعة حينما ابتعدت عن شرع ربها ونهج نبيها، فعودا والعود أحمد، عودا سريعا إلى الماضي المجيد، لنستلهم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عودا لسيرة من لم يطرق العالم دعوة كدعوته، ولم يؤرخ التاريخ عن مصلح أعظم منه، ولم تسمع أذن عن داعية أكرم منه، وما أحرانا ونحن في الأيام العصيبة أن تتجاوز المدة الزمنية كي نعيش يوما من أيام محمد ، لنأخذ العبر والدروس، نعود بكم إلى شهر رجبَ في السنة التاسعة من الهجرة لنعيش وإياكم أحداث غزوة العسرة التي تساقط فيها المنافقون وثبت فيها المؤمنون وذل فيها الكافرون وعز فيها الصادقون.
إخوة الإيمان، بلغ النبي أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم، فعند ذلك أعلن النبي لأول مرة عن مقصده وعن تجهيز الجيش، فتجهز أقوام وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل، باعوا أنفسهم إلى الله نصرة لله ورسوله، وتساقط المنافقون فها هو أحدهم يقول له رسول الله كما روى ابن هشام: ((هل لك في جلاد بني الأصفر أي الروم؛ فيقول: يا رسول الله ائذن لي ولا تَفْتنَّى، فو الله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه )) ، ولكن الله ـ جل وعلا ـ فضحه وأذله، وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ?ئْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى ?لْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِ?لْكَـ?فِرِينَ [التوبة:49] [1] ، وتحدثت الآيات في القرآن عمن نكص كذلك من هذه المعركة وتحجج بحجج واهية، حين آثروا ظل القعود في بيوتهم وحقولهم على حر الصحراء ووعثاء السفر، مقابل الجلاء، فَرِحَ ?لْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَـ?فَ رَسُولِ ?للَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَـ?هِدُواْ بِأَمْو?لِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ?لْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ، وتجلت في الإعداد لهذا الجيش طوايا النفوس، ومقدار ما استودعت من قبل من إخلاص وسماحة ونشاط، فهناك أغنياء أخرجوا ثرواتهم ليجهزوا الجيش من الرواحل والسلاح والخيل، منهم عثمان ابن عفان، سبق في بذله سبقا بعيدا حتى إن رسول الله عجب من كثرة ما أنفق وقال: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)) رواه الحاكم وصححه الألباني [2].
ومنهم الفقراء الذين لم يجدوا زادا ولا راحلة، فأتوا رسول الله يقولون يا رسول الله لا زاد ولا راحلة، فيبحث لهم عن زاد وراحلة فلا يجد ما يحملهم عليه، فيرجعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون، إنهم بكاؤون لم يبكوا على فقد متاع أو فقد دنيا، بل يبكون على فقد جهاد وقتال في ساعةٍ عسيرة، قد تذهب أرواحهم فدا لهذا الدين الذي آمنوا به، روى عن علبة بن زيد : أنه قام من الليل يصلي فتهجد ما شاء الله ثم بكى وقال: "اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به ولم تجعل في يدي رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أوحد أو عرض" ، وأصبح الرجل على عادته مع الناس فقال رسول الله: ((أين المتصدق هذه الليلة)) ، فلم يقم أحد، ثم قال: ((أين المتصدق هذه الليلة؟ فليقم فقام إليه فأخبره، فقال له رسول الله : أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة)) ، حديث صحيح صححه الألباني [3].
ويخرج ويستخلف على المدينة عليا ويخيم في ثنية الوداع ومعه ثلاثون ألفا ويأتي المنافقون الخلوف الذين لايتركون دسائسهم وإرجافهم على مر الأيام، يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون ويتندرون ويسخرون، ـ سخر الله منهم ـ، ويستهزئون به، والله يستهزئ بهم، يأتون إلى علي ويقولون له ماخلفك رسول الله إلا استثقالا لك، فتأثر بذلك ولبس درعه وشهر سيفه يريد الجهاد في سبيل الله ويصل إلى النبي ويقول له زعمهم فيجيبهم يقول: ((كذبوا يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي)) ، وعاد رضي الله عنه إلى المدينة راضيا [4].
ويتوجه إلى تبوك فيمر بديار ثمود، ديار غضب الله على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية وآبارهم معطلة وأشجارهم مقطعة، فيدخلها وقد غطى وجهه وهو يبكي، ويقول لجيشه: ((لا تدخلوها إلا باكين أو متباكين لئلا يصيبكم ما أصابهم)) [5].
انظروا يا عباد الله كيف فعل الله بهذه الأرض وأهلها التي سكنها الظلمة، فكيف بمن يجالس الظَلَمة، ويؤيد الظَلَمة، ويركن إلى الظلمة، ويكون لهم أنيسا ولسانا وصاحبا، فكيف تكون حاله ؟ ألا يخاف غضب الله عليه ونقمته حين يأخذه أخذ عزيز مقتدر، وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ?لنَّارُ [هود:113] ، حتى الماء في هذه الأرض نهى المسلمين عنه حينما استقوا منه فقال لهم: ((لا تشربوا من مائها ولا تتوضئوا منه للصلاة وما عجنتم من عجين بمائها فأعطوه الإبل ولا تأخذوا منه شيئا)) [6] واستمر في طريقه إلى تبوك، وقد بلغ به الجوع والتعب مبلغا عظيما، ومع السَّحَر ينام من التعب على دابته حتى يكاد يسقط، كما في صحيح مسلم، فيقرب منه أبو قتادة فيدعمه بيده، حتى يعتدل، ثم يميل أخرى فيدعمه، أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل ميلة أخرى أشد حتى كاد يسقط فيدعمه أبو قتادة بيده، فيرفع رأسه ، ويقول من هذا قال أنا أبو قتادة فقال له: ((حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة)) [7] يقول المؤرخون فما زال أبو قتادة محفوظا بحفظ الله في أهله، وذريته، ما أصابهم سوء حتى ماتوا. درس لمن حفظ أولياء الله فإن الله يحفظه، و((صنائع المعروف تقي مصارع السوء)) [8].
عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن شأن ساعة العسرة؟ فقال عمر: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا، وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا ؟ فقال: أو تحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع رسول الله يديه إلى السماء فلم يرجعهما حتى أذنت السماء بالمطر، فأطلت ثم سكبت فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت المعسكر"، حسن هذا الألباني [9].
ويتأخر عن الجيش أبو ذر ببعيره الهزيل، فماذا فعل يا ترى؟ لقد ترك بعيره وأخذ متاعه وحمله على ظهره، وينزل في أحد المنازل على الطريق، وينظر أحد المسلمين ويقول يا رسول الله رجل يمشي إلى الطريق وحده، متاعه على ظهره، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ((كن أبا ذر كن أبا ذر فإذا هو أبو ذر؛ فأخبروا النبي بذلك، فقال: رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده)) [10].
وتمضي الأيام والأعوام ونفي أبو ذر إلى الربذة ويحضره الموت هناك، وليس معه إلا امرأته وغلامه، وقبل موته أوصاهما أن يغسلاه، ويكفناه، ويضعاه على الطريق، وأن يقولا لأول ركب يمرّ بهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه ،فيفعلان ذلك ويأتي عبد الله بن مسعود ومعه رهط مسافرون فما رءاهم إلا الجنازة على قارعة الطريق فأخبرهم غلامه فاندفع عبد الله بن مسعود باكيا يقول صدق رسول الله: ((تمشي وحدك وتموت وحدك)) ثم دفنوه.
إخوة الإيمان، وينتهي المسير برسول الله إلى تبوك، ويقيم بها بضع عشرة ليلة، فلم يجدوا بها كيدا أو يواجهوا عدوا ولكنهم بذلك أرهبوا الروم وحلفاءهم، وفرضوا عليهم الجزية، وحصلت الأحداث أثناء بقائه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيها، منها أنه لما نام ليلة في تبوك أتاه جبريل ـ عليه السلام وقال ـ: (يا رسول الله قم صل صلاة الغائب على معاوية بن معاوية الليثي، فقد توفي بالمدينة)، أما معاوية هذا، إخوة الإيمان، فهو صالح عابد يذكر الله قائما وقاعدا، وسأل عنه النبي فأخبر أنه كان يقرأ (قل هو الله أحد) قائما، وقاعدا وعلى جنب ، بالليل والنهار، وقد صلي عليه بالمدينة وشهد الصلاة عليه صفَّان من الملائكة في كل صفٍ سبعون ألف ملك.. فقام وصلى عليه [11].
وحدث عبد الله بن مسعود فقال: نمنا ليلة متعبين في تبوك وانتبهت في وسط الليل، فالتفت إلى فراش النبي فلم أجده، والى فراش أبي بكر وعمر فلم أجدهما، وإذا بنار وسط الليل تضيء آخر المعسكر، فذهبت أتبعهما فإذا رسول الله حفر قبرا، ومعه أبو بكر وعمر، وعنده سراج بيده قد نزل وسط القبر فقلت: يا رسول الله من الميت؟ قال هذا أخوك عبد لله ذو البجادين. إنه أحد الصحابة أسلم، وكان تاجرا، فأخذ أهله وقومُه مالَه كله حتى لباسه فذهب فما وجد لباسا غير شملة قطعها إلى بجادين وفر بدينه يريد الله والدار الآخرة، وأخبر بخبره، فقال: ((تركتَ مالكَ لله ولرسوله، أبدلك الله ببجاديك إزارا ورداء في الجنة أنت ذو البجادين)) [12] ، فلقب بذلك.. يقول عبد الله بن مسعود وأنزله إلى القبر فوالذي لا إله إلا هو مانسيت قوله وهو في القبر وقد مد ذراعيه لذي البجادين وهو يقول لأبي بكر وعمر أدنيا إلَّي أخاكما، فدلياه في القبر، وهو يبكي ودموعه تتساقط على الكفن، ثم وقف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما وضعه في القبر رافعا يديه مستقبلا القبلة، وهو يقول: ((اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه، اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه)) يقول ابن مسعود فوالله ما تمنيت إلا أن أكون صاحب الحفرة لأنال دعاءه [13] ، وغزوة تبوك مشابهة لغزوة الأحزاب، فإن بلاء المسلمين أولها كان شديد ثم جال ختامها طمأنينة وعزا. وقفل النبي عائدا إلى المدينة موفورا منصورا، حتى قدم إلى المدينة، ولاحت له معالمها من بعيد فقال هذه طابة، وهذا أُحد يحبنا ونحبه، وتسامع الناس بمقدمه، وفرح النساء والصبيان وهم يقولون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وقوبل جيش العسرة بحفاوة بالغة، ولم ينس النبي في ذهابه وإيابه أصحاب القلوب الكبيرة الذين صعب عليهم أن يجاهدوا معه فتخلفوا راغمين والعبرات تملأ عيونهم، روى البخاري عن أنس ابن مالك : أن رسول الله رجع من عزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال: ((إن في المدينة أقواما ماسرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ؛ فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر)) [14].
بهذه المواساة الرقيقة كرم النبي الرجال الذين شيعوه بقلوبهم، وهو ينطلق إلى الروم فأصلح بالهم، وأراح هما ثقيلا عن أفئدتهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ?نفِرُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ?ثَّاقَلْتُمْ إِلَى ?لأرْضِ أَرَضِيتُم بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا مِنَ ?لآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ?لْحَيَاةِ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:38، 39].
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
[1] أخرجه ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 4/516) مرسلاً.
[2] أخرجه الحاكم (3/102) وصححه ووافقه الذهبي ، وانظر فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني (ص405).
[3] أخرجه الطبراني كما ذكر ذلك الحافظ في ((الإصابة)) (7/42-44) في ترجمة علبة بن زيد رضي الله عنه ولم أجده في المطبوع من المعجم الكبير ، وذكر غيرها من الروايات. وانظر سيرة ابن هشام (4/518) ، وفقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني (ص405).
[4] أخرجه البخاري (4416) ، ومسلم (2404) ، دون ذكر قول المنافقين ، وأخرجه تاماً ، ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (4/519، 520).
[5] أخرجه البخاري (433، 3380) ، ومسلم (2980) دون قوله : ((متباكين)) ، ودون ذكر بكائه.
[6] أخرجه الطبراني في الأوسط (3/361) بنحوه ، قال الهيثمي في المجمع (6/193) : وفيع عبد الرحمن بن بشير الدمشقي ضعفه أبو حاتم.
[7] صحيح مسلم (681).
[8] أخرجه الطبراني في الكبير (8014) ، قال المجمع (3/115) : إسناده حسن ، وصححه الألباني في الصحيحة (1908).
[9] أخرجه البزار في مسنده (1/331) وقال : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي بهذا اللفظ إلا عن عمر بهذا الإسناد. وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط (2/323). قال الهيثمي في المجمع (6/195) : رواه البزار والطبراني في الأوسط ، ورجال البزار ثقات. وانظر فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني (ص407).
[10] أخرجه الحاكم (3/50، 51) وصححه ، قال الذهبي : فيه إرسال.
[11] أخرجه الطبراني في الكبير (8/116) والأوسط (4/163) ، والبيهقي في دلائل النبوة (5/246) ، وضعفه ابن حبان في المجروحين (2/181) ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (10/156) : أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقويّة.
[12] لم أجده بهذا اللفظ في جميع مصادر من ترجموا الذي البجادين رضي الله عنه ، وروى ابن إسحاق سبب تسميته بذي البجادين ، كما ذكر هنا (سيرة ابن هشام 4/528) وفي إسناده انقطاعن ، وانظر الإصابة (6/149).
[13] أخرجه ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 4/527) ، قال ابن حجر في الإصابة (6/149) : وإسناده ثقات ، إلا أن فيه انقطاعاً. وأخرجه البزار في مسنده (5/122-123) ، قال الهيثمي في المجمع (9/369) : رواه البزار عن شيخه عباد بن أحمد المرزحي وهو متروك.
[14] أخرجه البخاري (4423) ، ومسلم (1911).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون، ها قد عشتم بعض أحداث غزوة تبوك التي انتهت بنصر المؤمنين، ولئن انتهت فما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، وفي كل قصة عبرة وعظة، وحذار أن يكون نصيبنا منها تغنياً بالماضي، وسرد الحديث الغابر، فإن هذا لا يجدي شيئا، وقد آلت الأمة إلى ما آلت إليه وتداعى الأكلة إليها.
وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة، وحتى ما تركت الجهاد ضربت عليها الذلة والمسكنة، ولذلك فقد رأينا حياة النبي جهاداً في جهاد، فإذا فرغ من جهاد المشركين رجع إلى جهاد ومقاومة المنافقين ثم جهاد الروم.
وثاني هذه الدروس: أن الله كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه وتنصره عليه وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحج:40].
ومن هذه الدروس أن العدو ما تسلل سبعا ولا خفا إلا من خلال صفوف المنافقين والمرجفين، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة إلا من قبل أصحاب المسالك الملتوية والقلوب السوداء، لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَـ?لَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ?لْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـ?عُونَ لَهُمْ [التوبة:47].
ومن الدروس أن مواجهة الأعداء لا يشترط فيها تكافؤ القوة ثم يكفي المؤمنين أن يُعِدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة ثم يتقوا الله ويتعلقوا به، ويصبروا وعندها ينصرون، فها هو عبد الله بن رواحة يقول: "والله ما نقاتل الناس بعدد ولا عدة وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به".
ومنها أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وترهب أعداءه حتى لا يكفي حق بلا قوة.
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يُجَبْ وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف بالكف مسلطة له أسلموا واستسلموا وأنابوا
ومن الدروس العظيمة من هذه الغزوة أن تمكن العقيدة في قلوب رجال الإسلام أقوى من كل سلاح وعتاد، وقضى الله أن الأمة متى ما حادث عن عقيدتها وتعلقت بغيرها، إلا تقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات، حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
هذه تبوك غزوة العسرة وهذه دروسها فاعتبروا بها عباد الله وتدبروها.
(1/527)
دروس من سورة يوسف
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
8/4/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
قصة يوسف عليه السلام والموضوعات التي تناولتها : 1- الغرائز والمواقف والطبائع البشرية
وآثارها وتهذيبها : الغيرة والحسد – الفساد والانحراف الخلقي – صراع الشهوة الجنسية
2- عاقبة الصبر والثبات 3- القصص القرآني حقيقة وثابت وليس من نسج الخيال وله فوائد
ودروس – من الدروس المستفادة : 1- أهمية تنوع أساليب الدعوة المشروعة مثل ( الحديث
القصة – التذكير ) وضرورة اقتحام الدعاة لهذا المجال , وعدم تركه لأصحاب الشهوات -
انتشار مظاهر البذخ والبطر في المجتمع وخطورة ذلك ( الإسراف في الولائم – إلقاء الباقي في
المزبلة ) كيف يتحقق إدراك النعمة وشكرها , ودور الجمعيات الخيرية في ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فمنذ اليوم نعرض إن شاء الله ما في سورة يوسف من الدروس والعبر. وإن فيها كثيرا من الدروس التي تتعلق بكثير من مشكلاتنا في حياتنا المعاصرة.
إن هذه السورة الكريمة تتعلق بشخصية كريمة لنبي من الأنبياء وما واجهه في حياته من حوادث ووقائع وابتلاءات ومحن فمنذ أن رأى الرؤيا ثم ألقي في الجب ثم تقلب في الرق ثم وهو يواجه محنة الإغراء والفتنة ثم وهو يعاني من محنة السجن ثم وقد خرج من الشدة إلى الرخاء فإذا بالسلطان بين يديه وإذا به المتحكم في الرقاب وفي الأرزاق في رقاب العباد وأرزاقهم.
إنها قصة نبي كريم منذ رأى الرؤيا إلى أن تحقق له تأويلها فرفع أبويه على العرش ورفع التثريب عن اخوته الذين كادوا له.
إنها قصة الصديق نبي الله يوسف عليه السلام. وكيف ثبت بعقيدته وبنقاء نفسه وبطهارة ثوبه أمام مختلف المحن والابتلاءات التي مرت به فإذا به يخرج منتصرا بصلابة عقيدته وثبات إيمانه ونقاء نفسه وطهارة ثوبه.
إنها قصة تتحدث عن مجموعة من الغرائز والطبائع البشرية والمواقف البشرية وتأثير هذه الطبائع والغرائز في الحياة الاجتماعية وتأثير الدعوة الربانية في إصلاحها في إصلاح هذه الغرائز والطبائع وتهذيبها وتوجيهها.
تتحدث عن الغيرة وعن الحسد الذي قد ينهش قلوب أقرب الأقربين وعن المؤامرات والمناورات التي تنبع من هذه الغريزة المدمرة وتنشأ عنها.
تتحدث عن الفساد والخراب الخلقي والانحلال الذي يعتلي الحياة الاجتماعية المترفة والظلم الذي يتفشى عادة بأسباب أولئك المترفين. تتحدث عن الصراع؛ صراع الشهوة والغريزة الجنسية بين ثبات وصمود الأنقياء الأتقياء من الشباب الصالحين وعباد الله المخلصين وبين المتدهورين المنحطين من المترفين الفاسدين.
تتحدث عن عاقبة الصبر والثبات في الشدائد والمحن والابتلاءات وهذه العاقبة هي التمكين في الأرض.
كل هذه الجوانب الإنسانية تتحدث عنها هذه السورة العظيمة في قالب قصصي بديع وأسلوب قرآني رفيع ولكن القصص القرآني يتحدث عن الحقائق وليس عن الخيالات إنه يتحدث عن تجارب الأمم السابقة وبعض الشخصيات السابقة من الأنبياء والمرسلين أو من غيرهم أو ما واجههم من حوادث ووقائع ومواقف كلها حقيقية ثابتة فالقصص القرآني حقيقي ولهذا بدأت هذه السورة العظيمة سورة يوسف وهي أروع مثال وأطول مثال للقصص القرآني بدأت بقول الله تعالى في الآية الثالثة منها: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [يوسف:3]. وختمت هذه السورة بقوله تعالى في آخر آية منها: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [يوسف:111]. فالشأن في القصص القرآني ليس كالشأن في ما يكتبه القصاصون من الناس عادة، يتخيل القصاص من الناس الشخصية والحوادث والمواقف كلا فالقصص القرآني ما كان حديثا يفترى ليس للخيال ولا للافتراء فيه أي نصيب إنه يتحدث عن شخصيات حقيقية وعن حوادث ووقائع ومواقف صادقة ولكن باسلوب رفيع محكم بديع لا ترقى إليه أى قصة مكتوبة ولا ترقى إليه أي قصة محبوكة.
وفي هذا درس لأهل الأقلام والمواهب ليتعلموا من القرآن ويستغلوا مواهبهم وليسخروا أقلامهم حتى تكون أداة حتى تكون أدوات للرحمة حتى تكون أدوات للهدى وحتى يفصلوا للناس ما يحتاجون إليه من الدروس والعبر.
فإن الدعوة والإصلاح يحتاجان إلى تنوع الأساليب فالنفوس البشرية تملّ وها هو القرآن في هذه السورة العظيمة يعلمنا أول درس إنه درس للموجهين والمصلحين بل هو درس للعلماء المربين كأنما القرآن يهتف بهم جميعا: لا تجمدوا على وسيلة واحدة أو وسيلتين فالمنبر على عظم أهميته وحده لا يكفي وحلقة الدرس على عظم نفعها وبركتها وأهميتها وحدها لا تكفي.
لابد من تنوع الأساليب لابد من تنوع الأساليب لابد من استغلال سائر الوسائل المتاحة التي يأذن لنا الشرع باستغلالها وهذه الوسيلة الفعالة الشديدة الأثر هي من هذه الوسائل المباحة والمتاحة القصة. القصة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية مسموعة إنها من أشد الوسائل تأثيرا في النفوس وها هو القرآن الكريم يقدم لنا أروع مثل لهذا اللون من ألوان البيان وهذا الأسلوب من أساليب الإصلاح.
النفوس تمل ولذلك لابد من استخدام جميع الوسائل المتاحة والأساليب المباحة.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة – أي اعتراهم الملل في يوم من الأيام – فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: حدثنا فأنزل الله تعالى قوله: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها [الزمر:23].
و عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: هلا حدثتنا فأنزل الله تعالى قوله: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها فقالوا: هلا قصصت علينا فأنزل الله: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن فقالوا: هلا ذكرتنا. فأنزل الله تعالى قوله: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق [الحديد:16].
فهذه ثلاثة أساليب: الحديث والقصة والتذكير كلها من ألوان البيان وأساليب البيان وقد استخدمها القرآن واستخدم غيرها من الأساليب.
فهذا هو أول درس قرآني في هذه السورة فيا حملة الأقلام ويا أرباب التوجيه والإصلاح هذا الدرس لكم ويا شباب الإسلام يا أهل الأدب يا أهل الأقلام الأدبية هلا اقتحمتم هذا المجال هذا المجال الشديد التأثير مجال القصة هلا خرجتم لنا بالقصة الإسلامية الهادفة التي تبني ولا تهدم وتصلح ولا تخرب وتعلم ولا تفسد.
لقد امتلأت ساحاتنا بغثاء بركام من إفراز الخبيثين والخبيثات من إنتاج أتباع الشهوات الذين يريدون من المؤمنين أن يميلوا ميلا عظيما.
ما أكثر القصص المفسدة المخربة في ساحاتنا في أسواقنا على صفحات مجلاتنا وجرائدنا فهذه قصص نجيب محفوظ وهذه قصص يوسف إدريس وأمثالهما من العلمانيين والزنادقة واليساريين والبعثيين فتحنا لها أبوابنا فملئت ساحاتنا ودخلت بيوتنا وقد تترجم إلى قصص مسموعة أو مسموعة مرئية حتى يزداد تأثيرها في الهدم والتخريب.
فهيا يا شباب الإسلام يا أصحاب الأقلام يا أصحاب المواهب الأدبية اقتحموا هذا المجال فإن هذا المجال لكم لا تتركوه لأولئك المفسدين القذرين من اليساريين والبعثيين والحداثيين أتباع الشهوات الذين يريدون أن يميل المؤمنين ميلا عظيما: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [الرعد:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به سائل فأعطاه تمرة فسخطها ولم يقبلها فمر به آخر فأعطاه إياها فقبلها وقال: تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطي أربعين درهما، وأرسل جارية إلى بيت أم سلمة أن ادفعوا الأربعين درهما التي عندكم وهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم [1].
إن المشاهد في مجتمعاتنا اليوم كثير من مظاهر البطر كثير من الناس وقعوا في البطر لا يعرفون قدر النعمة ولا يقدرون حق شكرها يهينون نعم الله عز وجل ولا يعرفون قدرها ولا يؤدون حق شكرها.
وإن من مظاهر هذا البطر وهذا الكفر بالنعمة ذلك الإسراف والبطر الذي يقترفه الكثيرون في الولائم والمناسبات تتكدس الأطعمة على الصحون أرزاً ولحما وشحما حتى إذا صالت الأيدي فيها وجالت تقززت نفوسهم مما بقي بعد ذلك وتأففوا منه فربما رمى به بعض الذي يكفر النعمة ولا يعرف قدرها رمى بهذا الباقي وهو كثير رمى به في المزبلة وكذلك ربة البيت قد ترمي ببقايا الطعام في الصحون والقدور مما يمكن أن يؤكل ترمي به في المزبلة.
وهذا من كفر النعمة وهو محرم لا يجوز هذا من مظاهر البطر ومن أسباب العقوبات العقوبة الإلهية قد تحل على الفرد الذي يقترف مثل هذا الفرد الذي يقترف مثل هذا البطر وقد تحل على المجتمع الذي تتفشى فيه مثل هذه الظاهرة فإن الرب تبارك وتعالى وعد بمزيد من النعم لمن شكر وتوعد من كفر بنعمه بالعذاب الشديد فقال تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].
إذا أردت أن تعرف قدر النعمة التي تتقلب فيها، النعمة التي أنعم الله عليك بها من رغد في العيش وأمن في الحياة ورخاء وتنعم في المأكل والمشرب والملبس إذا أردت أن تعرف قدر نعمة الله عليك فتذكر أن هناك اليوم عبادا لله ماتوا جوعا وعطشا لم يجدوا حتى بعض هذا الذي ترمي به في المزبلة ليسدوا به رمقهم أفلا تخاف أن يصيبك الله بما أصابهم.
إن من شكر نعمة الله عليك أن تشرك الفقير معك في طعامك وشرابك أن تتذكر الفقير فتشركه معك في طعامك وشرابك وأضعف الإيمان أن توزع على الفقراء ما تبقى من موائدك وصحونك وقدورك بدلا من أن تهين نعمة الله عليك فترمي بها في المزبلة.
لقد سمعت أن هناك بعض الجمعيات النسائية الخيرية تقوم بهذه المهمة إذا اتصل بها صاحب المناسبات الباذخة التي تكدست فيها الأطعمة إذا اتصل بها يأتون ويأخذون ما تبقى من الأطعمة ويوزعونه على بيوت فقيرة لا تجد ما تقتات به هنا في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونعم ما فعلت هذه الجمعيات النسائية الخيرية ما أحسن ما صنعت لقد عرفت كيف تداوي الداء، داء الإسراف وداء الكفر بالنعمة وعرفت كيف تُعنى بأولئك الفقراء الذين لا يجدون ما يسد به رمقهم وهم جيراننا في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم وليت سائر الجمعيات الخيرية تفعل مثل ما سمعت بدلا من إقامة الحفلات الدعائية والمؤتمرات الفارغة التي ليس وراءها أي نفع للناس التي لا يرضى عنها الفقير ولا الكبير كلها رياء وسمعة لا تجلب على أصحاب تلك الجمعيات الخيرية إلا الإثم والوزر والعقوبة وكراهية الناس.
سئل أحد التابعين: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيهما أفضل أما الأولى فقد ستر الله علي ذنوبي فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد وأما الأخرى فقد ألقى الله محبتي في قلوب العباد مع أن عملي لا يبلغ ذلك.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [2] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند احمد 3/155 ،260.
[2] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/528)
أمهات الكبائر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
1/7/1416
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العقل نعمة من الله عز وجل. 2- ذهاب العقل يجر إلى البلاء والفتنة. 3- أدلة تحريم
الخمر ولعن عشرة فيها. 4- أضرار الخمر والمخدرات الاجتماعية. 5- أسباب انتشار الخمر
بين المسلمين. 6- ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأشكاله لرد هذا الفساد.
7- دعوة إلى هجر الذنوب والخوف من عقوبة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا عباد الله : اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
إخوة الدين والعقيدة: امتن الله سبحانه وتعالى على بني الإنسان بنعم عديدة لا يحصرها قلم أو تحيط بها سطور أو خطب ومن أسمى هذه النعم وأزكاها: نعمة العقل التي ميزه الله بها عن الحيوانات بها يعرف الحق من الباطل، ويميز بين الضار والنافع ويدرك الحلال والحرام ومن هنا خص بالتكليف وحصلت له الكرامة ويشرق هذا العقل وخطورة ذهابه فقد طالبنا الشرع المطهر بالمحافظة عليه وحذرنا من إذهابه بأي وسيلة من الوسائل.
روى البيهقي بإسناد صحيح عن عثمان بن عفان أنه قال كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فأحبته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة فجاء البيت ودخل معها فكانت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى وصل إلى امرأة وضيئة أي حسناء جميلة جالسة عندها غلام وإناء خمر فقالت له إنها ما دعته لشهادة وإنما دعته ليقع عليها أو يقتل الغلام أو يشرب الخمر فلما رأى أنه لا بد له من أحد هذه الأمور تهاون بالخمر فشربه فسكر ثم زنى بالمرأة وقتل الغلام قال أمير المؤمنين عثمان فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه.
إخوة الإيمان : حديثنا اليوم عن داء خطير من صنوف الخبائث بل أم الخبائث إنها الخمر والمسكرات والمخدرات والتي ما انتشرت في مجتمع من المجتمعات فسكتوا عن إنكارها على مر التاريخ إلا وكتب لذلك المجتمع الانهيار والنهاية، والخمر والمخدرات من الوسائل التي تذهب العقل ولقد توعد الشارع من استخدم هذه المسكرات التي هي سبب في ذهاب العقول توعده بالوعيد الشديد والعذاب الأليم في الآخرة، فقد حذر الرسول من شرب الخمر وما شابهها مما يؤثر على العقل فقال فيما روى أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صحيح عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : (( نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر )) وقال (( من شرب الخمر سقاه الله من طينة الخبال يوم القيامة قالوا وما طينة الخبال يا رسول الله قال عرق وقيح أهل النار )) كما أخبر (( أن مدمن الخمر من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم )) وفي حديث أنس بن مالك (( أن رسول الله لعن في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له )) وقد أنزل الله تعالى في كتابه قوله: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [المائدة:90/91] تذكر لنا كتب التفسير أن هذه الآية حين نزلت على النبي فسمعها الصحابة قالوا مباشرة انتهينا حتى أن بعضهم كان قد رفع كأسه ليشربها فأراقها وأراقها الصحابة حتى سالت بها طرق المدينة ويقول (( مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن )) وقال (( من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا )) ولهذه النصوص مجتمعه وغيرها مما لا يتسع لنا ذكره يتبين لنا شدة حرمة الخمر والمخدرات ، وما كان هذا الوعيد وذلك التهديد إلا لمكانة هذا العقل الذي أكرم لله به الإنسان وهو بذلك يساوي بعقله عقول الحيوانات والمجانين ومن فقدوا العقل والرأي، ولو فكر ذلك المسكين الذي كان سببا في إذهاب عقله بنفسه لأدرك عظيم الخطر الذي هو واقع فيه، فكم من المصائب التي سوف تلحق به وبأسرته، ولا شك أننا في حديثنا عن الخمر لا يمكن أن نغفل الحديث عن آفة العصر التي تقضي على الأمة ألا وهي المخدرات التي تنتشر الآن بصورة رهيبة في العالم وتوغلت في بنية المجتمعات شرقا وغربا وقد بات تزايد الخطر تدق بقوة هنا وهناك لأن ضحايا إدمان المخدرات أصبحوا في تزايد مستمر وأصبحت أمم العالم تواجه خطرا عظيما لا يعدله أي خطر بهذا الداء العظيم الذي يفتك بالبشرية ولعلنا إخوة الإيمان لا نستغرب وجود مثل هذا الداء العظيم على مجتمعات كفرت بالله وزعت الإباحية ووفرتها ولكن الغريب أن نراه منتشرا بين الشعوب المسلمة التي منّ الله عليها بهذا الدين العظيم فما أسباب ذلك؟ فإن وقفتنا على المسببات ومعالجة تلك الأسباب وتلافي دواعيها هو الخلاص من مثل هذه الآفات الخطيرة.
وأول هذه الأسباب : لوجود وانتشار المخدرات والمسكرات ضعف الوازع الديني والبعد عن دين الله فالشخص المتمسك بدينه المرتبط بالله جل وعلا وعباداته صدقا من صوم وصلاة النوافل وذكر لله لا يفكر أن يكون بينه وبين هذه الأدواء صلة ، يقول الله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.[إبراهيم 27]
والسبب الثاني : من أسباب السقوط في هذه الهاوية: الفراغ الذي يعود بالأثر السيئ على صاحبه فيضطر إلى قضاء وقته بما لا ينفعه أو فيما وبدين ضعيف لا يقاوم إلى بلد تبذل لهم فيه كل ما يشتهون ثم يعودون بخسارة الدين والعرض والصحة والمال.
ومن أسباب انتشار الخمور والمخدرات وعدم الوعي بها عرضها في وسائل الإعلام والقنوات وبأشكال مغرية وأوضاع لشاربيها تدعوا أولئك المراهقين إلى ممارستها وتذوقها بدعوى اللذة والنكهة فلست أدري كيف يمضي مثل ذلك على مجتمع كمجتمعنا ويغفل عن رقابة ذلك الأباء والأولياء بل قد يسعون لتوفير كل ذلك وعدم الاعتراض عليه.
إخوة الإيمان : إن كثيرا من شبابنا ممن يقع في هذه الهاوية حينما تسأله عن سبب ذلك فلا يلبث أن يردك إلى سبب من تلك الأسباب فيتكلم لك عن رفقة سار معهم حتى أوصلوه إلى حافة الهلاك ،يكلمك عن أب أطعمه وسقاه وكساه وأسكنه، لكنه غفل عنه ولم يسأل عن حاله بل قد تمضي الأيام وهو لا يراه، والمصيبة حينما يسمح له بالسفر إلى خارج البلاد ليبيع دينه وعرضه وأخلاقه بلذاته وقد يكون سبب حاله كما يقول بعده عن الله وغفلته لإعراضه عن دينه كترك الصلوات وسائر العبادات.
إننا أيها الإخوة المؤمنون يجب أن نعود إلى أنفسنا وأن ننتبه لأسرنا ومجتمعنا وأن نعلم أن مثل هذه الأدواء غريبة على مجتمعنا وبالإيمان وحسن الرعاية والاهتمام نستطيع مقاومة هذه الأدواء فهلا قمنا بذلك هلا كنا عونا لكل شاب كاد أن يسقط في هاوية من هذه الهاويات فانتشلناه منها قبل أن يسقط ونحن بذلك نحقق مبدأ الأخوة الإيمانية الحقة : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [الحجرات:10]
إن أضرار المخدرات والمسكرات كبيرة في المجتمع في إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس وقتل للمعنويات العالية في الإنسان وتغيب للأخلاق الفاضلة وإغراء بالفواحش كالزنا واللواط وكبائر الإثم كما يشهد لذلك واقع أولئك الذين ابتلاهم الله بذلك.
وإننا إخوة الإيمان نقف شاكرين وداعين الله لهم بالتوفيق لرجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورجال مكافحة المخدرات ومن شاركهم والذين يقفون بجدية وتضحية لمحاربة هذا الداء العظيم ويحاربون في سبيل عدم انتشاره في مجتمعنا المؤمن بحفظه، وأن يجعل كل ذلك في ميزان حسناتهم، وإنني أدعو كل من ابتلي بقريب أو صديق قارف تلك الخطيئة أن يعزم على معالجته وإبعاده عن الأسباب المؤدية به إلى هذه السقطة وأبواب مستشفيات الأمل في بلادنا مفتوحة لعلاج مثل هؤلاء الذين حادوا عن جادة الصواب وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء لواجب الأمانة التي وضعها الله في أعناقنا نسأل الله الإعانة عليها.
فاتقوا الله يا عباد الله واسألوه العصمة من كبائر الإثم والفواحش والتوبة من جميع الإثم والمعاصي وتعاونوا على البر والتقوى ومنع الإثم والعدوان اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء ووفقنا للتوبة النصوح والإنابة إليك واغفر لنا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد :
فيا أيها الإخوة المؤمنون : اتقوا الله تعالى حق التقوى.. خرج بعض الناس صبيحة يوم الإثنين الماضي إلى صلاة الاستسقاء يدعون ربهم ويتضرعون إليه طلبا لنزول الغيث... ولا شك إخوة الإيمان أنه وجب علينا أن نراجع حساباتنا مع أنفسنا فما زال ربنا جل وعلا يرسل لنا الآيات تخويفا وإنذاراً بالعقوبة ويحذرنا بذلك من مقارفة ما يغضبه والرجوع إليه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، إن على أمة الإسلام دولا وشعوبا أن ينتبهوا لذلك النذير، ولعل من آخر تلك النذر فقد الأمن ومنه هذا الزلزال الذي شمل أرضا كبيرة وخلف أضرارا كثيرة.
أيها الإخوة: إنه ليس بيننا وبين الله نسب حتى تكون العقوبات لأمم أخرى ونحن نسلم منها،لذا ينبغي أن نتوقعها إن لم نعد إلى الله، إن على دول الإسلام وشعوبه أن تراجع حساباتها فكم يوالى أعداء الله ويهان ويؤذي أولياء الله ودعاته؟ كم من دول للإسلام تحيد عن شرع الله ونهجه القويم في تشريعاتها.
كم جاهرنا بالمنكرات والمعاصي ؟ كم أعَلَنّا الربا وأقمنا صروحه وقلاعه ؟ كيف كانت وسائل إعلام المسلمين سببا في إفساد بيوتهم وقذف مسلمات دينهم ونشر للفساد ثم بعد ذلك لا ترى من ينكر.
(1/529)
سلامة الصدر
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
5/11/1417
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على سلامة الصدر على المؤمنين. 2- القرآن يدعو للإصلاح حرصاً على سلامة
الصدر. 3- السنة تعظم أمر الإصلاح بين المتخاصمين. 4- النهي عن التدابر والتباغض.
5- الأمر بقبول عذر المخاصم. 6- تحريم الإسلام لكل ما يوغر الصدر كالغيبة. 7- قصة
المبشر بالجنة لسلامة الصدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا عباد الله : اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه روى ابن ماجة فيما صححه الألباني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : (( خير الناس ذو القلب المخمول واللسان الصادق قيل ما القلب المحموم ؟ قال هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد ، قيل : فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة ،قيل : فمن على أثره ؟ قال : مؤمن في خلق حسن )).
ليس أروح للمرء ولا أطرد لهمومه ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب ومبرأ من وساوس الضغينة وثوران الأحقاد إذا رأى نعمة تنساق إلى أحد y بها وأحسن فضل الله فيها وفقر عباده إليها وذكر قوله اللهم ما أصبح بي من نعمة أو أحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر وإذا رأى أذى يلحق مسلما رثى له ورجا الله أن يفرج كربه ويغفر ذنبه وبذلك يحيا المسلم ناصع الصفحة مستريح القلب والنفس من نزغات الحقد الأعمى، فإن فساد القلب بالضغائن داء عياء وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش كما يتسرب الماء من الإناء المثلوم، والقلب الأسود يفسد الأعمال الصالحة ويطمس بهجتها ويعكر صفوها، أما القلب المشرق فإن الله يبارك في قليله، ومن ثم كانت الجماعة المسلمة حقاً هي التي تقوم على عواطف الحب المشترك والود الشائف التعانق والمتبادل والمجاملة الرقيقة، لا مكان فيها للفردية المتسلطة بل هي كما وصف القرآن والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر:10]
إن سلامة الصدر وصلاح ذات البين أمر من لوازم التقوى ولهذا قرن الله عز وجل بينهما في قوله : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم [الأنفال:1] وسلامة الصدر نعمة من النعم التي توهب لأهل الجنة حينما يدخلونها قال تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين.
إخوة الإيمان : إن الخصومة إذا نمت وغارت جذورها وتفرعت أشواكها شلت زهرات الإيمان الغض وأذوت ما يوحي به من حنان وسلام، وعندئذ لا يكون في أداء العبادات المفروضة خير ولا تستفيد النفس منها عصمة وكثيرا ما تطيش الخصومة بألباب ذويها فتتدلى بهم إلى اقتراف الصغائر المسقطة للمرؤة والكبائر الموجبة للعنة وعين السخط تنظر دائما من زاوية مظلمة فهي تعمى عن الضال وتضخم الرذائل، وقد يذهبها الحقد إلى التخيل وافتراض الأكاذيب وذلك كله مما يسخطه الإسلام ويحاذر وقوعه ويرى منه أفضل القربات قال رسول الله ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين رواه الترمذي.
إذا كان الشيطان وعجز أن يجعل من الرجل العاقل عابد صنم فلن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربه حتى يجهل حقوقه أشد مما يجهلها الوثني المشرك وهو إنما يحتال لذلك بإيقاد نيران العداوة في القلوب فإذا اشتعلت استمتع بها الشيطان وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم وتلتهم علائقهم وفضائلهم قال : (( إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه لم ييأس في التحريش بينهم )) رواه مسلم.
إن الشر إذا تمكن من الأفئدة فتنافر ودها وانكسرت زجاجتها ارتد الناس إلى حال القسوة والعناد والإعراض، وإن المتأمل لحال هذه الأمة الآن يرى فيها كثرة الاختلاف والتفرق حتى أصبح بأسها الذي كان من الواجب أن يكون على أعدائها أصبح بينها في أفرادها وجماعتها حتى بدأت تسمع من يكيل السب والشتم للخيرين والعلماء، وأصبحنا كما وصف ابن عبد البر رحمه الله أهل زمانه حين قال : " والله لقد تجاوز الناس الحد في الغيبة والذم فلم يقنعوا بذم العامة دون الخاصة ولا بذم الجهال دون العلماء " أ.هـ.
إن المصيبة تكبر حينما يكون هذا صادر من بعض من ينتسبون إلى الدين اسما وبلدا.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
وهذا والله منذر بسبيل عذاب، قد انعقد غمامه ومُؤْذِنٌ بليل :
بلاء قدادلهم ظلامه إخوة الدين والعقيدة
إن انتصار هذا الدين وظهوره على الدين كله أمر تهفو إليه النفوس المؤمنة وتتطلع إليه وتتمناه وترجوه ولكن لا سبيل إلى ذلك إلا بتألف القلوب وسلامة الصدور من كل ما يعكر صفاء الأخوة وصدق المحبة بين المؤمنين لأن من صفات أهل الإيمان أنهم كما قال عز وجل أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ولذلك فقد يقظ الإسلام لبوادر الجفاء فلاحقها بالعلاج قبل أن تستفحل وتستطيل إلى عداوة فاجرة ولذلك شرع الإسلام من المبادئ ما يرد عن المسلمين عوادي الانتقام والفتنة وما يحك القلوب على مشاعر الولاء والمودة فنهى عن التقاطع والتدابر يقول : (( لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث )) رواه البخاري.
بهذا الإرشاد المبين يحول المؤمن إلى مستوى رفيع من الصداقات المتبادلة أو المعاملات العادلة والإسلام يعبر من دلائل الصفاء أن يرسب الغل في أعماق النفوس فلا يخرج منها وكثير من أولئك الذين يحتبس الغل في أفئدتهم يتمسكون متنفسا له في وجوه من يعف معهم لا يستريحون إلا إذا أرغوا وأزبدوا وآذوا وأفسدوا، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال : (( ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا: بلى ، قال : إن شراركم الذي ينزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رقده، أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا بلى ، قال: من يبغض الناس ويبغضونه، ثم قال : أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا بلى ، قال : الذين لا يقبلون عشرة ولا يقبلون معذرة، ولا يغفرون ذنبا ، قال : أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا بلى ، قال : من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره )) رواه الطبراني إنها أطوار الحقد عندما تتضاعف علته وتفتضح سوأته وقد أحس الناس به من قديم حتى في جاهليتهم حين قال عنه عنترة :
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب
لقد حذر الإسلام من رذائل مصدرها الحقد، فالافتراء على الأبرياء سيما الخيرين جريمة لا يدفع إليها إلا الكره الشديد ولما كان أثرها شديدا في تشويه الحقائق وجرح المستورين عدها الإسلام من أقبح الزور روى أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها ان رسول الله e قال لأصحابه: (( أتدرون أربى الربا عند الله. قالوا :الله ورسوله أعلم ، قال :فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم )) ثم قرأ : والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا إن تلمس العيوب للناس وإلصاقها بهم عن تعمد يدل على خبث ودناءة حذر منها الإسلام حين قال رسول الله : ((من ذكر امراً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاد ما قال فيه )) رواه الطبراني إن سلامة الصدر تفرض على المؤمن أن يتمنى الخير للناس إن عجز من سوقه إليهم بيده أما من لا يجد بالناس شرا فيرميهم به ويزوره عليهم تزويرا فهو أفاك أثيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون [النور:19] إن من فضل الله على العباد أنه استحب ستر عيوب الخلق ولو صدق اتصافهم بها، وما يجوز لمسلم أن يفضح العيوب فصاحب الصدر السليم يأسى لآلام العباد ويشتهي لهم العافية أما التلهي بسرد الفضائح وكشف الستور وإبداء العورات فليس ملك المسلم الحق ولذلك حرم الإسلام الغيبة إذ هي متنفس حقد مكظوم وصدر فقير إلى الرحمة والصفاء.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال : (( أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره، قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن ما تقول فقد بهته )) رواه مسلم.
ومن آداب الإسلام التي شرعها لحفظ الموراث واتقاء الفرقة تحريم النميمة لأنها ذريعة إلى تكدير الصفو وتغيير القلوب، لقد كان النبي ينهى أن يبلغ عن أصحابه ما يسوؤه حين قال عليه الصلاة والسلام : (( لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر )) رواه أبو داود.
أيها الأحبة : سلامة الصدر تجعل المسلم لا يربط بين حظه من الحياة ومشاعره مع الناس ذلك أنه ربما فشل حيث نجح غيرها وربما تخلف حيث سبق آخرون فمن الحسد والحقد أن يتمنى الخسارة لكل إنسان والتخلق لا لشيء إلا لأنه هو يربح ولذلك كان دخول الجنة ثمنا غاليا يستحق من انطوى قلبه على حب الناس وتمنى الخير لهم ونبذ الضغينة عنهم عن أنس بن مالك قال كنا جلوسا عند النبي فقال : (( يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة )) فطلع رجل من الأنصار تندف لحيته من وضوئه، فلما كان من الغد قال عليه الصلاة والسلام مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال عليه الصلاة والسلام مثل مقالته أيضا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول فلما قام الرجل تبعه عبد الله بن عمرو فقال له إني لا حيت أبي - أي خاصمته - فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال نعم قال أنس فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تقلب في فراشه ذكر الله عز وجل حتى ينهض لصلاة الفجر قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ولكني سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت ثلاث مرات فأردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك فأقتدي بك فلم أرك عملت كبير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ؟قال ماهو إلا ما رأيت قال عبد الله فلما وليت دعاني فقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه وفي رواية لم أبت ضاغنا على مسلم فقال عبد الله هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق ، رواه أحمد.
إخوة الإيمان: ومما قاله ابن القيم رحمه الله : " القلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح، والكبر وحب الدنيا والرئاسة فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خيره ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده وسلم من كل قاطع يقطع عن الله ".
إن سلامة القلب والصدر ليست السذاجة والضعف ليست القلب الذي يسهل غشه وخداعه والضحك عليه ولا يعرف الخير من الشر ، إن سلامة القلب كما قال ابن تيمية رحمه الله القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، ومآل ذلك بأن يعرف الخير والشر فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به.
تلك هي سلامة الصدر بما كانت عليه من فضل وعاقبة غفل عنها الكثيرون، فبتنا لفقد نرى أسبابا للتشاحن والتباغض تنخر في جسد الأمة المنهك لتنكأ جراحه وتبري عظامه فتزيد من آلامه وفرقته.
نسأله جل وعلا أن يجمع شتات الأمة يصلح قلوبنا ويطهرها من الشرك والنفاق والرياء والشقاق وسوء الأخلاق، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:87-89]
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ،،،
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/530)
دروس من سورة يوسف عليه السلام
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الرؤى والمنامات, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
15/4/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
مقدمة السورة ودلالتها – مكانة يوسف عند أبيه ورؤيته التي رآها , وتأويلها – حسد اخوة
يوسف له وموقف يعقوب من ذلك – هديه صلى الله عليه وسلم فيمن رأى رؤيا في منامه -
وقوع رؤيته صلى الله عليه وسلم كفلق الصبح , ومعنى قوله صلى اله عليه وسلم : " الرؤيا
الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
جاء القرآن بأفضل القصص وجاء بعلوم وأحكام وآداب وأخبار لم يكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يعلمها بل كان خالي الذهن منها.
بسم الله الرحمن الرحيم: آلر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [يوسف:1-4]. بعد هذه المقدمة المحكمة بدأت القصة. بدأت القصة الكريمة الجليلة إنها قصة يوسف الابن الثاني عشر ليعقوب بن إسحاق بن يعقوب وهو في بداية القصة صبي صغير في سن يخاف عليه أبوه فيها أن يأكله الذئب إذن هو في سن لا يستطيع فيها أن يحمي نفسه ويرى أبوه فيه من المخايل الكريمة منذ صغره يرى أبوه فيه من المخايل والصفات الكريمة ما جعله يحبه أكثر من باقي إخوته ويفضله عليهم ثم جاءت هذه الرؤيا العظيمة الجليلة لتنبه الأب يعقوب عليه السلام إلى أن هذا الصبي الصغير الكريم هو حلقة تلك السلسلة الكريمة الاصطفائية الأبوية من ذرية إبراهيم عليه السلام لتنبهه إلى أن هذا الصبي الصغير الكريم سيكون له شأن عظيم في النبوة والظهور والسلطان. ألا ترون أن الأب فسر الرؤيا بمجرد أن سمعها من ابنه يوسف بقوله: وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق [يوسف:6]. فما هي النعمة التي أتمها الله على إبراهيم وإسحاق إنها النبوة والرسالة والاصطفاء للنبوة والرسالة ولذلك ختم قوله ذلك بقوله : إن ربك عليم حكيم عليم بمن يختارهم ويصطفيهم للنبوة والرسالة حكيم باختيارهم واصطفائهم على حد قوله تعالى في الآية الأخرى : الله أعلم حيث يجعل رسالته [الأنعام:124]. ها هي ذي الرؤيا العظيمة الجليلة تؤذن بما لهذا الصبي الصغير الكريم من شأن عظيم إنه من سلالة النبوة حفيد أبي الأنبياء خليل الله ورسوله إبراهيم عليه السلام إنه حفيد إبراهيم عليه السلام وها هي ذي هذه الرؤيا العظيمة تؤذن وتنبئ بذلك وتعلنه.
رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رآهم ساجدين له وتلك عادة الناس في تلك الأزمنة تحيتهم للملوك والعظماء السجود ونسخ ذلك في شريعتنا فلا سجود إلا لله رب العالمين ولكن السجود في الرؤيا له دلاله أخرى إن معناه أن إخوة يوسف سيخضعون له ومن شدة خضوعهم له وتعظيمهم إياه تعظيما زائدا سيخرون له ساجدين إجلالا وإكراما واحتراما وقد فهم الأب كل ذلك، الأب يعقوب عليه السلام مدرك لطبيعة البشر ومتنبه لحال أبنائه ومتنبه لحال بنيه وما بينهم من تنافس وتغاير وتحاسد كما هو شأن الأخوة غالبا ومتنبه إلى تميز ابنه الصغير هذا يوسف تميزه عليهم في مخايله وصفاته الكريمة وربما أجج التنافس بين أولئك الأخوة أنهم مختلفون في الأم فقد روي أن أم يوسف هي غير أم باقي إخوته إلا واحدا منهم ولا شك أن هذا مما يزيد التنافس والتحاسد بين الإخوة كما هو مشاهد في حال الناس. كان الأب متنبها لكل ذلك فأوصى ابنه يوسف الصبي الصغير الكريم بعد أن سمع منه تلك الرؤيا العظيمة العجيبة الجليلة أوصاه ألا يقصها على إخوته أي يخفيها عنهم فإنهم إذا سمعوا أدركوا ما ينتظر هذا الأخ الصبي الصغير من مستقبل عظيم وشأن كريم وأدركوا أن الله سيفضله عليهم أو فضله عليهم وحين إذن ربما تتفجر كوامن الغيرة والحسد في نفوسهم وربما انقلب الحسد إلى كيد مدمر مهلك يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين [يوسف:5]. تأملوا إسلوب القرآن تأملوا هذا الإسلوب العجيب المعجز هذا البيان المعجز كيف صورت الآية وصية هذا الأب الكريم لهذا الابن الصغير الكريم كيف عبر الأب عن خوفه بلغة أبوية بلغة شفوقة حانية كيف عبر عن خوفه وقد كان خوفه في محله فيكيدوا لك كيدا لم يكتف في الإسلوب بذكر الفعل ولا بذكر متعلقه الجار والمجرور وقد كان كافيا في إفادة المعنى لو قال: فيكيدوا لك هذا كاف لإفادة المعنى ولكنه مع ذلك أكد بذكر المفعول فيكيدوا لك كيدا مبالغة في تصوير خوف ذلك الأب الكريم على ابنه ذلك الصبي الصغير الكريم ما أعجبه من موقف يصوره القرآن الكريم فهذه الآيات الثلاث التي افتتحنا بها من حسن بلاغتها وقوة بيانها تكاد تصور هذا الموقف بين هذا الأب الكريم وهذا الابن الصبي الصغير الكريم تكاد تصوره تصويرا حسيا تراه الأعين لكنها صورة بيانية متكاملة تشاهدها البصائر وإن لم تشاهدها الأبصار هذا الأب الكريم مع ابنه الصغير الذي هو أحب أبناءه الاثني عشر وأكرمهم عنده وكلهم كرام فقد نشؤوا في بيت النبوة كلهم كرام ألا ترى الرؤيا صورتهم بصورة الكواكب وهذه كلها صور مدح وتكريم يقول الشاعر العربي:
كأنك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فهذا الابن الصغير الصبي الكريم يروي لأبيه تلك الرؤيا العظيمة الجليلة أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رآهم جميعا ساجدين له فجاءت هذه الرؤيا تؤكد ليعقوب إضافة إلى ما لابد أنه لمسه من مخايل عظيمة وكريمة ما لمسه ورآه من مخايل النبوة على ابنه يوسف منذ صغره فإن مخايل النبوة تظهر على كل نبي منذ صغره فإضافة إلى ذلك جاءت هذه الرؤيا العظيمة تؤكد ليعقوب أن ابنه هذا حلقة تلك السلسلة الكريمة العظيمة النبوية من ذرية إبراهيم عليه السلام وهذه هي بداية القصة هذه هي بداية هذه القصة الكريمة التي يقصها ربنا عز وجل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته من بعده نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن [يوسف:3]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأى أحدكم ما يحب – أي إذا رأى أحدكم في نومه – فليحدث به وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر وليتفل عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره)) [1] أو كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)) [2] الرؤيا الصالحة الصادقة من الله وأما الأحلام أضغاث الأحلام فمن الشيطان وسوسة الشيطان.
الرؤيا الصالحة الصادقة مقام شريف ومنزلة رفيعة وهي جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ولذلك كانت أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة كانت أول ما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يفجأه الوحي في غار حراء وكان يرى الرؤيا فتجيء مثل فلق الصبح كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها [3] فالرؤيا إذن جزء من النبوة الرؤيا الصالحة الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ولكن ليس معنى هذا أن كل من رأى رؤيا صادقة فقد أوتي جزءً من ستة وأربعين جزءا من النبوة [4] فالرؤيا الصادقة قد يراها المؤمن والكافر والموحد والمشرك والصالح والفاسد كل هؤلاء يمكن أن يروا رؤيا صادقة وفي قصة يوسف عليه السلام ستأتينا رؤيا الفتيين في السجن وقد كانا مشركين وستأتينا رؤيا الملك ولقد كان كافرا فالرؤيا الصادقة قد يراها الكافر ولا تضاف حينئذ إلى النبوة الخبر الذي يخبر به الكاهن من أخبار الغيب فربما صدق فيه فخبر من أخبار الغيب، إذا صدق فيه الكاهن لا يعتبر هذا الخبر من النبوة لا يعتبر خبر الغيب الذي صدق فيه الكاهن من النبوة بل هذا نادر وقليل لا يثبت به هذا الوصف والرؤيا الصادقة من بقايا المبشرات الغالب فيها أنها تبشر المؤمن بشارة للمؤمن ولكنها قد تكون بشارة وتنبيها فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل غزوة أحد رأى ثلمة في سيفه أو رأى سيفه انقطع ورأى بقرا تذبح ففسر ذلك صلى الله عليه وسلم بأنه رجل من أهل بيته يقتل ونفر من أصحابه يقتلون [5] وفي نفس الرؤيا رأى نفسه وقد أدخل يده الشريفة في درع حصينة أولها المدينة [6] وإنما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا لأصحابه مع أن فيها ما يحزنه وما يسوءه فيها ما لا يحبه صلى الله عليه وسلم وهو قتل رجل من أهل بيته وقتل نفر من أصحابه إنما اضطر لأن يذكر هذه الرؤيا لأصحابه تنبيها لهم إلى ما هو أفضل إلى الحل الأفضل الذي كان ينبغي أن يلجؤوا إليه في تلك الحالة وهي أن يتحصنوا بالمدينة وقد كانوا اختاروا أن يخرجوا خارج المدينة لملاقاة عدوهم وإلا فقد نهى صلى الله عليه وسلم كما سمعتم إذا رأى المؤمن رؤيا لا يحبها نهاه أن يحدث بها وسن لنا في مثل هذه الحالة إذا رأى أحدنا رؤيا يكرهها وساءته وأخافته أن يتحول إلى الجنب الآخر وهو في فراشه وأن يتفل عن يساره ثلاثا ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ولا يحدث بهذه الرؤيا أحدا فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن الرؤيا في رجل طائر فإذا ما حدثت بها وقعت)) [7] فلا تحدث بها إلا أخا ناصحا محبا وهذه سنة أخرى إذا رأيت رؤيا سواء أعجبتك وأحببت ما فيها أو كرهتها وخفت مما فيها فلا تحدث بها إلا أخا ناصحا محبا تثق به وهذه هي وصية يعقوب يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك [يوسف:5].
فإذا كنت لا تثق بأحد فلا تحدثه بما ترى من رؤى تحبها أو لا تحبها إلا أخا تثق به ناصحا أمينا محبا فإذا رأيت رؤيا لا تحبها فلا تحدث بها والسنة أن تفعل كما أرشدك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [8] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسلم:ك:الرؤيا رقم (2262).
[2] مسلم: ك:الرؤيا رقم (2261).
[3] البخاري:ك: الوحي (3).
[4] البخاري:ك: التعبير (6582).
[5] البخاري:ك: المناقب(3425).
[6] أحمد (1/271).
[7] ابن ماجة: في تعبير الرؤيا (3914).
[8] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/531)
شهر القرآن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, فضائل الأعمال
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
8/9/1417
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة لقراءة القرآن الكريم وبيان أجرها. 2- مثل للمؤمن التالي للقرآن والجافي عنه
ومثله للمنافق. 3- حال السلف مع القرآن في رمضان. 4- شفاعة القرآن لأهله يوم القيامة.
5- تلاوة القرآن تستلزم العمل به وتدبره. 6- دعوة للإنفاق في سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه، إخوة الإيمان يقول الله سبحانه وتعالى: طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين [النمل:1].
نعيش اليوم في زمن تلاطم الأفكار وتغير المفاهيم، زمن مواجهة شبهات وتحديات وتساؤلات، كثيرا ما تقرع الأسماع وتتوارد على القلوب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وما منّا من أحد في هذه الدنيا مهما كان مقامه إلا وهو يحتاج إلى ما يشد أزره ويرسى قدمه يزيد في إيمانه ويقينه ليثْبُتَ أمام تلكم الشهوات والتحديات ثبات الجبال التي لا تحركها الهزات ولا تؤثر فيها الأعاصير، ما منا من أحد إلا وهو محتاج إلى ما يؤنسه إن تطرقت إليه وحشة، ويسليه ويواسيه إن ألمت به مصيبة، ويرجيه ويعده إن ضاقت به حال ، أو طاف به طائف اليأس والقنوط من روح الله، وينذره ويخوفه إن استولى عليه،مامنا إلا وهو محتاج إلى مايسرّه،وهو أن يزداد إيمانه وأن تحصن عقيدته وأن تقوى صلته بربه تبارك تعالى،
ولا تقوية لأزرٍ، ولا رسوخَ لقدمٍ، ولا أنس لنفسٍ ولا تسلية لروحٍ، ولا تحقيق لوعد، ولا أمن من عقاب، ولا ثبات لمعتقد، ولا بقاء لذكر وأثر مستطاب إلا بأن يتجه المرء اتجاها صحيحا بكامل أحاسيسه ومشاعره وقلبه وقالبه إلى كتاب ربه إلى القرآن الكريم، تلاوة وتدبرا وتعلما وعملا، فهو المَعين العذب الصافي الذي لا ينضب، وهو الكنز الوافر الذي لا يزيده الإنفاق إلا جدة وكثرة، ولا تكرار التلاوة إلا حلاوة ورغبة.
القرآن العظيم هو كلام الله الذي لا يشبهه كلام ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد تكفل الله بحفظه فلا يتطرق إليه نقص ولا زيادة، مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي المصاحف محفوظ وفي الصدور متلو بالألسن ميسر للتعلم والتدبر: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [القمر:17]. يستطيع حفظه واستظهاره الصغار والأعاجم ،لا تكل الألسنة تلاوته ولا تمل الأسماع من حلاوته ولذته ،ولا تشبع العلماء من تدبره والتفقه في معانيه، ولا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثل سورة منه لأنه المعجزة الخالدة والحجة الباقية، أمر الله بتلاوته وتدبره وجعله مباركا: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب [ص:29].
قال عليه الصلاة والسلام: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنه والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) ، رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
وقد جعل الله ميزة وفضيلة لحملة القرآن العاملين به على غيرهم من الناس فرسول الله يقول: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) رواه البخاري.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل الثمرة لا ريح لها وطعمها طيب حلو، مثل المنافق الذي الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مُر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر)) رواه البخاري ومسلم.
إخوة الدين والعقيدة: إن السعادة والطمأنينة في تعظيم كتاب الله وتلاوته والرجوع إليه واتباعه والاهتداء بهديه، والشقاوة والتخبط في الإعراض عنه والاستهانة به وهجره: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه:24-26].
عباد الله: لعل شهر رمضان المبارك الذي نعيشه هذه الأيام يذكر الأمة المسلمة بضرورة العودة الصادقة إلى كتاب الله العظيم فقد شرف الله تعالى هذا الشهر بنزول القرآن فقال: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. فالله سبحانه وتعالى أنزل كتابه العزيز ليهتدي به الناس ويعتصموا به فهو مصدر القوة والعزة وأساس التمكين والرفعة، فيه الهدى والنور، من آمن به حق الإيمان وصدق به وأخلص التصديق فقد هداه الله وآتاه من فضله وأعانه على كل خير، قال جل وعلا: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [البقرة:1]. أما من هجره وأعرض عنه علما وعملا ولم يؤمن بمتشابهه ويعمل بمحكمه فقد أضله الله وختم على قلبه وبصره.
عباد الله: شهر رمضان شهر القرآن، ومن أفضل ما تعمر به الأوقات في هذا الشهر الاهتمام بالقرآن حفظا وتلاوة وتدبرا وعملا، هذا ما نراه ولله الحمد في الخيّرين من الناس في الإقبال على القرآن في هذا الشهر، ولقد كان اهتمام سلف الأمة بالقرآن في رمضان كبير، انظروا مثلا إلى قدوتنا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه الذي يروي عنه ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين فيقول: ((كان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة)). فدلنا هذا الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والإجتماع على ذلك ودلنا أيضا على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان.
ويتبين لنا من خلال الحديث أيضا أن مدارسة جبريل عليه السلام له كانت ليلا دلالة على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان ليلا، فالليل تنقطع فيه الشواغل ويجمع فيه الهم ويتواطؤ فيه القلب واللسان على التدبر يقول تعالى: إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً [المزمل:6]. خلافا لما يفهمه كثير من الناس من المداومة على القرآن في نهار رمضان وترك تلاوته ليلا ، وكان بعض السلف يختمون في قيام رمضان في كل ثلاث ليال وبعضهم في كل سبع منهم قتادة وبعضهم في كل عشر.
وقال ابن رجب رحمه الله: " وكان السلف رضوان الله عليهم يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان. وكان الزهري إذا دخل رمضان قال :فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام " قال ابن عبد الحكم " كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراء القرآن وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في رمضان فإذا طلعت الشمس نامت " أ.هـ كلامه رحمه الله.
روى أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي (( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان )).
إخوتي الصائمون إن خير ما نستغل به شهر الصوم قراءة القرآن وتدبره فيامن أهمل القرآن طول عمره، جاءك رمضان فرصة لك في العودة إلى كتاب الله فكيف ترجوا ممن أهملته الشفاعة.
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه والصور في يوم القيامة ينفخ
إخوة الدين والعقيدة يجب أن نعلم أن القرآن الكريم ليس آيات تهتز لها الرؤوس وتتمايل بها العمائم يطرب لها الدراويش في الموالد والمآثم والاحتفالات، وليس آيات تهذ هذّ الشعر أو تنثر نثر الدقل، بل هو آيات بينات تتنزل على قلوب المؤمنين فتغمرها السكينة والطمأنينة وتملؤها بالثقة والثبات، وتدبر آيات الله عز وجل ومعرفة مقاصدها ومراميها والوقوف عند عظاتها وعبراتها والتفكر في معانيها وفقهها وأسرارها نعمة عظيمة من أجلّ النعم التي يوفق إليها العبد المسلم، يقول الله تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون [الأنفال:2]. ولهذا وصف عبد الرحمن السلمي صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: ((حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم، قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا)).
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما " لأن أقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أقرأ القرآن أجمع هذرمة ". وإذا طغى الران على القلب وانتكس الإنسان بعبثه ولهوه حجبه الله تعالى عن نور القرآن وحال بينه وبين الهدى والحق أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [محمد:54].
عباد الله أين من يريد الرفعة بهذا القرآن ، فهذا هو شهر البر والإيمان والقرابين وإن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ، إن وجود القرآن بيننا وتيسير الحصول عليه لمن طلبه وتوفير المصاحف في المساجد والبيوت والمكاتب بحمد الله وإذاعة القرآن الكريم الموجودة في هذا البلد والتي نفع الله بها في كل مكان، فجزى الله القائمين عليها خيرا، إن توفر القرآن عبر هذه الأرض من أعظم النعم على من وفقه الله لتعلم كتابه واستماعه والعمل به وهو كذلك من أعظم قيام الحجة على من أعرض عنه أو خالف، فقد قال الله لرسوله: وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. وقال : ((القرآن حجة لك أو عليك)).
فاتقوا الله عباد الله واهتموا بكتاب الله تعلما وتعليما وعلما وعملا تكونوا من أهله.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين يعظمونه حق التعظيم فيؤمنون بمتشابهه ويعملون بمحكمه ويحلون حلاله ويحرمون حرامه ويحكمونه في جميع أمورهم إنه سميع مجيب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً [الإسراء:9-10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بالذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام..أما بعد:
فيا عباد الله : اتقوا الله تعالى.. إخوة الإيمان للصدقة مزية وخصوصية في رمضان والمبادرة إليها والحرص عليها وعدم إهمالها أو التقصير فيه فضل عظيم وهي ليست مقصورة على سن معينة أو مال معين كل ذلك يبين لنا أن الصدقة من أفضل الأعمال التي تتأكد في رمضان من إطعام الطعام وتفطير الصائم أو بذل المال أو مساعدة المحتاج، ولهذا فقد كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه أجود ما يكون في رمضان، بل إنه أجود بالخير من الريح المرسلة والجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والمباعدة عنها وأدعى لتغطية الخلل في الصيام.
إخوة الإيمان في رمضان تزكوا النفوس وتتآخى القلوب نصرة ودعما للفقراء في كل مكان داخل البلاد أو خارجها، ويخطئ كثيرا من فضّل الأقربين بدعوى قرب المكان، وأغفل في الوقت نفسه مسلمين في بلاد بعيدة مع أنهم أشد حاجة وأعظم مصيبة والجمع بينهما أجمل وأحرى بإذن الله وعلى قدر الحاجة، تفريج الكربات وإغاثة اللهفات من أعظم القربات عند الله تعالى وحين نتطلع من حولنا في أحوال المسلمين نرى فقرا عظيما وحاجة كبيرة في مأكلهم ومشربهم في تعليمهم وصحتهم في مسكنهم ومأواهم فما أعظم أن نرى القلوب المتآخية الزكية في رمضان تمد أيديها دعما للمسلمين ونصرة لهم. وإن ملايين المسلمين في كل مكان من بقاع الأرض ينتظرون منكم الدعم والنصرة، وينظرون إليكم بعين المحتاج إلى ما أفاض الله به علينا من النعم الجزيلة نحمد الله عليها ونسأله جل وعلى أن يديمها على هذه البلاد المباركة وأن يرزقنا شكرها على الوجه الذي يرضى به الله عنا.
إخوة الإيمان فضل الصدقة عظيم سيما هذا الشهر، ورب قليل تدفعه اليوم يكون لك درعا ووقاء من نار تلظى يوم القيامة فأين الباذلون أين المتصدقون أين المزكون.
(1/532)
دروس من سورة يوسف
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
22/4/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
المشهد الثاني من القصة : تآمر اخوة يوسف عليه , ودلالة ذلك على عدم كونهم أنبياء والخلاف
في ذلك وتوجيهه – حفظ الله تعالى لعباده الصالحين وتدبيره لهم – للظواهر والحوادث بواطن
لا يعلم حقائقها إلا المتدبرون , وبيان ذلك في قصة يوسف – ما في قصة يوسف من عِبَر جديرٌ
بالدعاة أن يتأملوها في مواجهتهم أعداءهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين [يوسف:7].
هذا هو المشهد الثاني من بدايات هذه القصة القرآنية العظيمة والأول هو مشهد الأب يعقوب عليه السلام وهو يحاور ابنه الصغير يوسف عليه السلام ويحذره أن يقص رؤياه على إخوته خوفا من حسدهم وكيدهم بعد أن فهم الأب من تلك الرؤيا وفسرها وأولها بأن ابنه الصغير هذا سيكون له شأن عظيم من النبوة والسلطان ثم يجيء هذا المشهد المشهد الثاني في الجانب الآخر إخوة يوسف يتحاورون ويتآمرون.
يتآمرون على أخيهم وفي هذا دليل على أنهم لم يكونوا أنبياء لأن الأنبياء لا يظلمون ولا يحقدون ولا يغدرون ولا يرتكبون الكبائر والآيات هنا تصور إخوة يوسف وقد تسلط الشيطان عليهم فملأ قلوبهم حسدا والشيطان لا سبيل له على الأنبياء والمرسلين وزعم قلة من المفسرين أنهم كانوا أنبياء أن إخوة يوسف كانوا أنبياء واستدلوا بقوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط [البقرة:136]. قالوا الدليل من هذه الآية من وجهين أوله أن الله تعالى ذكر الأسباط في هذا السياق في سياق الأنبياء والأسباط هم أبناء يعقوب عليه السلام يوسف وإخوته وكانوا اثني عشر وهذا دليل على أنهم كانوا أنبياء والوجه الثاني أن الآية صرحت بالإنزال إليهم وهذا معناه النبوة فنقول ليس في هذه الآية دليل على نبوة إخوة يوسف بل ليس في القرآن كله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على نبوتهم بينما قامت الأدلة من القرآن والسنة على نبوة ورسالة يوسف عليه السلام أما ذكر الأسباط في سياق الآية فالأسباط في بني إسرائيل معناه القبائل والأمم فبنو إسرائيل الذين هم أبناء يعقوب عليه السلام فإسرائيل هو يعقوب بنوه وذريته كانوا اثني عشر قبيلة تنحدر كلها من ابنائه الاثني عشر يوسف وإخوته قال تعالى في بني إسرائيل: وقطعناهم اثني عشر أسباطا أمما [الأعراف:160]. فالأسباط هم القبائل والأمم من بني إسرائيل وقد جعل الله عز وجل النبوة في ذرية بني يعقوب جعل النبوة في بني إسرائيل في ذرية يعقوب وليس معنى هذا أنهم أنبياء بل الأنبياء فيهم ومنهم الأنبياء فيهم ومنهم فيما يخص هذا الفرع من أبناء إبراهيم الخليل عليه السلام وأما التصريح بالإنزال إليهم فلا يعني النبوة بالضرورة ولو كان يعنى ذلك لكنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم جميعنا أنبياء لأنه قال في صدر الآية: أنزل إلينا أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإنما المعنى أنزل فينا على واحد فينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو أنزل من أجلنا ومن أجل هدايتنا فإذا ثبت هذا وأن إخوة يوسف عليه السلام لم يكونوا أنبياء فلم يعصمهم مقام النبوة مما يلي البشر من لم يكونوا أنبياء فلم تثبت لهم العصمة مما يعتري البشر عادة من نزغات الشيطان ووساوسه ها هي الآيات هذه الآيات تصور حالهم وقد غلبهم الحسد وملأ قلوبهم وغطى على أعينهم فها هم يتغيظون من أبيهم يعقوب عليه السلام كيف يحب يوسف وأخاه أكثر منهم ويوسف وأخوه كانا اثنين صغيرين لا ينفعانه كما ينفعونه هم وهم عصبة كثيرون وكانوا أبناء أم واحدة بينما يوسف وأخوه من أم أخرى وكلمة عصبة هنا في هذا السياق لها دلالات عجيبة ليوسف وأخيه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة [يوسف:8]. فالعصبة في اللغة الجماعة المتعصبون المتعاضدون والعصبة في اللغة العشرة فصاعدا وهذا هو حال إخوة يوسف كانوا عشرة من أم واحدة وكانوا متعصبين يعاضد بعضهم بعضا ضد أخويهم من الأب يوسف وأخيه وكأنما أرادوا أن يخفوا ما أعتلج في صدورهم من حسد وحقد بأن أشغلوا أنفسهم بلوم أبيهم وتخطأته على موقفه وعلى تفضيله ليوسف وأخيه عليهم فقالوا إن أبانا لفي ضلال مبين كأنهم هم لم يكونوا ضالين إذ يستسلمون لنزغات الحسد ويتردون في شباكه وكأنما نوازع الإثم تلجلجت في صدورهم فها هم يلحون ويصرون على لوم أبيهم فيصفون ضلاله بأنه مبين كأنما يريدون أن يقولوا إنه خطأ واضح بين أن يحب أبونا يوسف وأخاه أكثر منا وتلجلجت نوازع الإثم في صدورهم وتأججت نيران الحسد في قلوبهم حتى إنها تكاد تدفعهم دفعا إلى النتيجة المتوقعة إلى القتل اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا [يوسف:9]. ولكن لماذا هذه الجريمة يجيبون يخل لكم وجه أبيكم ولكن ماذا يكون حالكم بعد اقتراف هذه الجريمة أتعيشون قتلة مجرمين كلا فنفوسهم المتلجلجة المترددة بين الإقدام على الجرم أو الإحجام عنه تسول لهم ذلك الفعل وتزينه في قلوبهم وتبرره لكم بأنهم يتوبون بعد اقتراف الجريمة فيعيشون حينئذ هادئين مطمئنين وتكونوا من بعده قوما صالحين [يوسف:9]. وهكذا النفس البشرية إذا سولت للإنسان الإقدام على الجريمة وهكذا وساوس الشيطان ومكائده إذا أراد الإيقاع بالمسلم في حمأة الجريمة فنعوذ بالله من نزغات الشياطين ونعوذ بالله من النفس الأمارة بالسوء.
قال محمد بن إسحاق رحمه الله في إخوة يوسف وما بيتوه نحو أخيهم: لقد اجتمعوا على أمر عظيم على قطيعة الرحم وعقوق الوالد وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له والكبير الفاني الذي له الحق والحرمة والفضل إنه عند الله خطير مع عظم حق الوالد على ولده الذي عزموا على أن يفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه وعظم مكانه عند الله عز وجل وبين ابنه الذي لا قوة له مع ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين فقد احتملوا أمراً عظيماً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فمن أعظم الدروس في سورة يوسف وقصته ما فيها من آيات عند حكمة الله عز وجل ولطف تدبيره ورحمته بعباده المخلصين وكلاءته لعباده الصالحين بما يدبره لهم من عجائب المقادير التي لا يحتسبونها والتي لا تخطر لهم على بال ولا يجري بها تفكير فإن للظواهر والحوادث بواطن لا يعلم حقائقها إلا المتدبرون الذين يعقلون فإخوة يوسف لو لم يحسدوه لما ألقوه في غيابات الجب ولو لم يلقوه في الجب لما وصل إلى عزيز مصر ولو لم يعتقد ذلك العزيز في أمانة يوسف وفراسته وصدقه لما أمنه على بيته ورزقه وأهله ولو لم تراود يوسف امرأة العزيز لو لم تراوده عن نفسه فاستعصم لما ظهرت نزاهته وعرف أمرها ولو لم يخب كيدها وكيد صواحبتها لما ألقوه في السجن إخفاء أمرهم ولو لم يلقوه في السجن لما عرفه ساقي الملك وعرف صدقه وبراعته في تأويل الرؤيا ولو لم يعرفه الساقي لما عرفه ملك مصر وآمن له وجعله على خزائن الأرض ولو لم يتبوأ يوسف ذلك المنصب لما أمكنه أن ينقذ أبويه وإخوته وأهلهم أجمعين من المخمصة التي كانوا فيها وهم في صحراء فلسطين ولما استطاع أن يأتي بهم إلى مصر ليشاركوه في رئاسته ومجده فيتحقق بذلك قول أبيه من قبل: ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب فكل حلقة من هذه السلسلة ظاهرها محرق وباطنها مشرق بدايتها شر وعناء وبلاء ونهايتها خير وفوز وتمكين وهكذا حكمة الله جل جلاله ولطفه في التدبير قدر كل شيء بإحكام وربط كل شيء بسبب سبحانه وتعالى تجري مقاديره بأنواع من الحوادث قد يحزن المتقون منها ويصيبهم الهم والغم والعناء والقرح ولكنها سلسلة تنتهي إلى نهاية واحدة وإلى غاية واحدة تنتهي إلى أن العاقبة للمتقين ولذلك عليهم الصبر والمصابرة والثبات والتحمل والرفق واللين والحكمة لا تغرنهم الحوادث لا يغتروا بظواهر الحوادث ولا ييأسوا من كثرة الخبث ولا يستفزنّهم حمق الخصوم ولا رعونة الأعداء فينسيهم ذلك ما كتب عليهم من الصبر والتحمل والثبات والثبات والمصابرة فها هي سلسلة الحوادث تبدأ بيوسف نبي الله ورسوله تبدأ بيوسف الصديق عناء وبلاء وهم وغم وسوء ثم تنتهي به نصرا وفوزا وتمكينا في الأرض جزاء على صبره وثباته وتحمله عليه السلام.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/533)
دروس من سورة يوسف
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
29/4/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
الأجواء التي تَنزلت فيها سورة يوسف : 1- معاداة قرابته صلى الله عليه وسلم وعمه أبي لهب
للدعوة 2- وفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة 3- اشتداد المحنة والابتلاء للرسول صلى الله
عليه وسلم – بعض السنن الربانية اللازمة للدعاة أن يَعوها جيداً – ظاهرة البذخ والإسراف
وأسبابها , وحال المؤمن في المطعم والمشرب – الكرم الزائف – حال أكرم الخلق مع الضيف-
نماذج من إيثار السلف
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
احتدم الصراع المرير بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش الذين كانوا أهم ما عندهم هو إيقاف الدعوة حتى أنهم هموا بقتل النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام ثم شددوا عليه من وطأة الأذى والإهانة وشددوا من وطأة القهر والأذى والتنكيل على أصحابه حتى اشتكى هؤلاء الصحابة الكرام إلى سيدنا محمد من شدة وطأة الأذى عليهم.
ولكن كان أكثر ما يحز في نفس النبي المصطفى، وهو ذو النفس الرفيعة السامية الكريمة، أن من ضمن المناوئين لدعوته أهلاً له وعشيرة أقربين كان ينبغي أن يكونوا أول المناصرين المتبعين.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج للدعوة، يعرض الإسلام على القبائل في الموسم، يتبعه عمه أبو لهب ليحذر القبائل منه صلى الله عليه وسلم. وكان عمه هذا أول من صادم المصطفى عندما جهر بدعوته فوق الصفا واجتمعت قريش لتسمعه، فبعد أن بلغهم ما أمره ربه قال له عمه أبو لهب " تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا " فأنزل الله تعالى تبت يدا أبي لهب وتب [1].
لم يناصره من أعمامه من بني عبد مناف إلا عمه العباس وكان يناصره سرا وعمه أبو طالب وكان يناصره جهرا وإن لم يؤمن بدينه ويتبع دعوته.
وكان لزوجه الحبيبة إلى قلبه أم المؤمنين خديجة مواقف عظيمة في مؤازرته صلى الله عليه وسلم ومناصرته بمالها ورجاحة عقلها بعد أن آمنت به وكانت أول من آمن به. ولكن وفي عام واحد ذهب المناصران المؤازران، فقد توفى عمه أبو طالب وزوجه خديجة، فكان ذلك العام عام الحزن، فاشتدت وطأة الأحزان على قلب النبي صلى الله عليه وسلم واحتدم الصراع المرير بين الكفر والإيمان حتى ضاق صدره وكاد الحزن والأسى من إعراض قومه وعشيرته الأقربين يقضي عليه.
في هذه الفترة المشحونة بالابتلاءات والأحزان، نزلت سورة يوسف على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تقص عليه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم فهو من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
نزلت هذه السورة لتقص على الرسول قصة نبي أيضا كريم ابن كريم وهو يوسف بن يعقوب بن إبراهيم عليهم جميعا السلام، وكيف أن أخاه يوسف عليه السلام واجه الابتلاءات والمحن منذ صغره.
والمحن والابتلاءات لازمة لأصحاب الهمم العالية والنفوس الكريمة، وأولى الناس بها الأنبياء والمرسلون، فجاءت هذه السورة تثبيتا للنبي وحثا له على الصبر كما صبر أخوه يوسف، وبشارة له بحسن العاقبة، فإن هذه الغمة من الابتلاءات سوف تنجلي عن نصر مؤزر كما انجلت هذه الابتلاءات عن أخيه.
وجاءت هذه السورة الجلية تعليما ربانيا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولأتباعه وأمته من بعده وتبصيرا لهم بجملة من السنن في مسيرة هذه الدعوة الكريمة الإسلامية عليهم أن يعوها جيدا.
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون قل هذا سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [يوسف:103-109].
هذه جملة من الحقائق والسنن التي يجب أن يعييها الناس، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
[1] البخاري: ك: التفسير (4687).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن ظاهرة البذخ والإسراف في حياتنا اليوم هي من نتائج الرخاء والرغد التي يعيش فيها كثير من الناس، فإن كان هؤلاء الناس شاكرين نعمة الله عليهم ما وقعوا في هذا البذخ والإسراف.
قال قائل: ذكرت أن رمي بقية الطعام في المزبلة حرام، فماذا نصنع فيما يتبقى في القدر من طعام قليل، إن أعطيناه إلى أحد ما قبله، لقد أصبح الناس اليوم يصنعون أكثر مما يأكلون، ويأكلون أكثر مما يطيقون، ولو اكتفوا بحاجتهم ما احتاجوا أن يبحثوا عن حل للبقايا التي تتبقى من طعامهم، فإن المؤمن يكفيه القليل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن يأكل في معي واحد وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء)) [1].
وسبب هذه المقالة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضاف يوما كافرا فأمر له بشاة فحلبت له فشرب حلابها ثم أمر له بأخرى فحلبت له فشرب حلابها حتى شرب حلاب سبعة. ثم لما أصبح هذا الكافر فأسلم فأمر له رسول الله بشاة فحلبت له ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها.
إذن فليس من عادة المؤمن ذلك النهم في الطعام والشراب الذي طبع عليه الكافر لأن المؤمن يتقلل بالقليل ويقنع به، يقنع بزاد راكب وهو يعلم أنه راحل عن هذه الدنيا أما الكافر فإنه لا يعرف غيرها. ولذلك فإنه يأخذ طيباته ويتمتع بها في هذه الدنيا.
المؤمن يكتفي بما يسد رمقه، فإن اشتهى أكثر من ذلك فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه كما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلعق بقية الطعام في الصحن ويلعق أصابعه لأنه لا يدري أين تكون بركة الطعام – هذه عادة المؤمن.
ولكن لماذا لا يتذكر هؤلاء المسرفون في حياتهم ومنا سباتهم، لماذا لا يتذكرون أن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه الهلال والهلالان وليس لهم طعام إلا الأسودان التمر والماء.
إن أولئك الكرماء المزيفين الذين يقدمون الخراف المشوية والأطعمة المتنوعة لضيوفهم مما لا يستطيع الضيوف أن يأكلوا عشره ليسوا مثل سيدنا المصطفى في الكرم. فهو أكرم الخلق ومع ذلك لم يكن يتكلف أكثر مما عنده، أكثر مما في بيته. روى أبو هريرة رضى الله عنه قال: ((أتى رجلا الرسول صلى الله عليه وسلم – أي ضيفا – فبعث رسول الله إلى نسائه فقالوا: ما معنا إلا الماء - ليس في بيوته إلا الماء - فقال لأصحابه: من يضم هذا، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله – فانطلق به إلى بيته فقال الأنصاري لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: ما عندنا إلا قوت صبياننا، فقال لها: أصلحي فراشك ونومي صبيانك إذا أرادوا الطعام – ففعلت وقامت كأنه تصلح السراج فأطفأته فأخذا يريان ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يأكلان في الظلام فأكل مطمئنا وباتا لم يذوقا شيئا من الطعام. فلما أصبحا غدا الأنصاري إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: لقد ضحك الله تعالى الليلة من فعالكما)) [2]
فهذا الرجل الأنصاري هو أكرم من هؤلاء الكرماء المزيفين لأنه لم يتكلف فوق طاقته فضحك الله من فعله ونخشى أن يغضب الله على هؤلاء المزيفين.
أما بعد فان خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن أدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري: ك: الأطعمة (5078).
[2] البخاري: ك: مناقب الأنصار (3587).
(1/534)
دروس من سورة يوسف
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الشمائل, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أجواء تَنَزُّل سورة يوسف على النبي صلى الله عليه وسلم , وازدياد أذى قريش له بعد موت
خديجة وعمه – في السورة جملة من السنن الربانية في التمكين والابتلاء – رمي الطعام في
المزبلة حرام , وسبب هذه الأزمة – ليس النَّهَم والإسراف من عادة المؤمن – معيشته صلى الله
عليه وسلم وزهده – الكرم الزائف
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
احتدم الصراع المرير بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش الذين كانوا أهم ما عندهم هو إيقاف الدعوة حتى أنهم هموا بقتل النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام ثم شددوا عليه من وطأة الأذى والإهانة وشددوا من وطأة القهر والأذى والتنكيل على أصحابه حتى اشتكى هؤلاء الصحابة الكرام إلى سيدنا محمد من شدة وطأة الأذى عليهم.
ولكن كان أكثر ما يحز في نفس النبي المصطفى، وهو ذو النفس الرفيعة السامية الكريمة، أن من ضمن المناوئين لدعوته أهلاً له وعشيرة أقربين كان ينبغي أن يكونوا أول المناصرين المتبعين.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج للدعوة، يعرض الإسلام على القبائل في الموسم، يتبعه عمه أبو لهب ليحذر القبائل منه صلى الله عليه وسلم. وكان عمه هذا أول من صادم المصطفى عندما جهر بدعوته فوق الصفا واجتمعت قريش لتسمعه، فبعد أن بلغهم ما أمره ربه قال له عمه أبو لهب " تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا " فأنزل الله تعالى تبت يدا أبي لهب وتب [1].
لم يناصره من أعمامه من بني عبد مناف إلا عمه العباس وكان يناصره سرا وعمه أبو طالب وكان يناصره جهرا وإن لم يؤمن بدينه ويتبع دعوته.
وكان لزوجه الحبيبة إلى قلبه أم المؤمنين خديجة مواقف عظيمة في مؤازرته صلى الله عليه وسلم ومناصرته بمالها ورجاحة عقلها بعد أن آمنت به وكانت أول من آمن به. ولكن وفي عام واحد ذهب المناصران المؤازران، فقد توفى عمه أبو طالب وزوجه خديجة، فكان ذلك العام عام الحزن، فاشتدت وطأة الأحزان على قلب النبي صلى الله عليه وسلم واحتدم الصراع المرير بين الكفر والإيمان حتى ضاق صدره وكاد الحزن والأسى من إعراض قومه وعشيرته الأقربين يقضي عليه.
في هذه الفترة المشحونة بالابتلاءات والأحزان، نزلت سورة يوسف على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تقص عليه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم فهو من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
نزلت هذه السورة لتقص على الرسول قصة نبي أيضا كريم ابن كريم وهو يوسف بن يعقوب بن إبراهيم عليهم جميعا السلام، وكيف أن أخاه يوسف عليه السلام واجه الابتلاءات والمحن منذ صغره.
والمحن والابتلاءات لازمة لأصحاب الهمم العالية والنفوس الكريمة، وأولى الناس بها الأنبياء والمرسلون، فجاءت هذه السورة تثبيتا للنبي وحثا له على الصبر كما صبر أخوه يوسف، وبشارة له بحسن العاقبة، فإن هذه الغمة من الابتلاءات سوف تنجلي عن نصر مؤزر كما انجلت هذه الابتلاءات عن أخيه.
وجاءت هذه السورة الجلية تعليما ربانيا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولأتباعه وأمته من بعده وتبصيرا لهم بجملة من السنن في مسيرة هذه الدعوة الكريمة الإسلامية عليهم أن يعوها جيدا.
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون قل هذا سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [يوسف:103-109].
هذه جملة من الحقائق والسنن التي يجب أن يعييها الناس، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
[1] البخاري: ك: التفسير (4687).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن ظاهرة البذخ والإسراف في حياتنا اليوم هي من نتائج الرخاء والرغد التي يعيش فيها كثير من الناس، فإن كان هؤلاء الناس شاكرين نعمة الله عليهم ما وقعوا في هذا البذخ والإسراف.
قال قائل: ذكرت أن رمي بقية الطعام في المزبلة حرام، فماذا نصنع فيما يتبقى في القدر من طعام قليل، إن أعطيناه إلى أحد ما قبله، لقد أصبح الناس اليوم يصنعون أكثر مما يأكلون، ويأكلون أكثر مما يطيقون، ولو اكتفوا بحاجتهم ما احتاجوا أن يبحثوا عن حل للبقايا التي تتبقى من طعامهم، فإن المؤمن يكفيه القليل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن يأكل في معي واحد وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء)) [1].
وسبب هذه المقالة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضاف يوما كافرا فأمر له بشاة فحلبت له فشرب حلابها ثم أمر له بأخرى فحلبت له فشرب حلابها حتى شرب حلاب سبعة. ثم لما أصبح هذا الكافر فأسلم فأمر له رسول الله بشاة فحلبت له ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها.
إذن فليس من عادة المؤمن ذلك النهم في الطعام والشراب الذي طبع عليه الكافر لأن المؤمن يتقلل بالقليل ويقنع به، يقنع بزاد راكب وهو يعلم أنه راحل عن هذه الدنيا أما الكافر فإنه لا يعرف غيرها. ولذلك فإنه يأخذ طيباته ويتمتع بها في هذه الدنيا.
المؤمن يكتفي بما يسد رمقه، فإن اشتهى أكثر من ذلك فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه كما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلعق بقية الطعام في الصحن ويلعق أصابعه لأنه لا يدري أين تكون بركة الطعام – هذه عادة المؤمن.
ولكن لماذا لا يتذكر هؤلاء المسرفون في حياتهم ومناسباتهم، لماذا لا يتذكرون أن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه الهلال والهلالان وليس لهم طعام إلا الأسودان التمر والماء.
إن أولئك الكرماء المزيفين الذين يقدمون الخراف المشوية والأطعمة المتنوعة لضيوفهم مما لا يستطيع الضيوف أن يأكلوا عشره ليسوا مثل سيدنا المصطفى في الكرم. فهو أكرم الخلق ومع ذلك لم يكن يتكلف أكثر مما عنده، أكثر مما في بيته. روى أبو هريرة رضى الله عنه قال: ((أتى رجلا الرسول صلى الله عليه وسلم – أي ضيفا – فبعث رسول الله إلى نسائه فقالوا: ما معنا إلا الماء - ليس في بيوته إلا الماء - فقال لأصحابه: من يضم هذا، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله – فانطلق به إلى بيته فقال الأنصاري لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: ما عندنا إلا قوت صبياننا، فقال لها: أصلحي فراشك ونومي صبيانك إذا أرادوا الطعام – ففعلت وقامت كأنه تصلح السراج فأطفأته فأخذا يريان ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يأكلان في الظلام فأكل مطمئنا وباتا لم يذوقا شيئا من الطعام. فلما أصبحا غدا الأنصاري إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: لقد ضحك الله تعالى الليلة من فعالكما)) [2]
فهذا الرجل الأنصاري هو أكرم من هؤلاء الكرماء المزيفين لأنه لم يتكلف فوق طاقته فضحك الله من فعله ونخشى أن يغضب الله على هؤلاء المزيفين.
أما بعد فان خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن أدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري: ك: الأطعمة (5078).
[2] البخاري: ك: مناقب الأنصار (3587).
(1/535)
دروس من سورة يوسف
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
13/5/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
من دروس الآيات ( 8 – 10 ) : الهداية والتوفيق بيد الله وحده ( إبراهيم مع أبيه – نوح مع
ابنه – الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب – أولاد يعقوب مع يعقوب ) وتسلية الآباء
في ذلك – العدل بين الأبناء وضابطه – معنى الحسد , وحكمه , ومتى يكون محموداً
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين [يوسف:8-10].
في هذه الآيات دروس عظيمة دروس هامة منها أن أمر الهداية والتوفيق كله بيد الله تعالى وحده لا دخل للإنسان في ذلك مهما علا شأنه وعظمت مكانته عند الله عز وجل فهذا أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام عجز عن هداية أبيه آزر مع شدة حرصه على ذلك وهذا نوح عليه السلام من قبله مع شدة حرصه على إنقاذ ابنه لم يمكنه إنقاذه وتلقى الأمر الإلهي الحازم إنه ليس من أهلك [هود:46]. بالصبر والانقياد والخضوع والاستسلام وهذا سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم مع شدة حرصه على هداية عمه أبي طالب وقد كان يحنو عليه ويذب عنه ومع ذلك لم تكتب الهداية لعمه فالأنبياء عباد الله يسيرون بقدره ويخضعون لحكمته ومشيئته سبحانه وتعالى ليس لهم من الأمر شيء إنما وظيفتهم البلاغ وإرشاد الناس إلى دين الله وظيفتهم تنفيذ أمر الله بالبلاغ وإرشاد الناس إلى دين الله أما الهداية والتوفيق فليس لهم منهما شيء ليس لهم من أمر الهداية والتوفيق شيء.
قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون [آل عمران:128]. وقال تعالى له أيضا: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [القصص:56]. هؤلاء أبناء يعقوب عليه السلام أبناء نبي كريم هؤلاء إخوة يوسف أولاد نبي كريم أبناء نبي كريم من سلالة كريمة وبيت كريم ومع ذلك وقع منهم ما وقع ولم يتمكن أبوهم من منعهم من ذلك لم يتمكن يعقوب عليه السلام من منعهم من ذلك مع عظم قدره ومكانته عند الله تعالى فليأخذ من هذا درسا كل أب مرد عليه أولاده وفشل في إصلاحهم وهدايتهم مع بذله الجهد والطاقة وسعيه في ذلك على كل أب كما أن على كل أب أن يبذل جهده وسعيه في إرشاد أبنائه وإصلاحهم وتربيتهم تربية حسنة فإنه مع ذلك يجب ألا ينسى أن هناك جانبا لا يملكه، لا يملكه إلا الله وحده هذا الجانب هو الهداية والتوفيق فعلى كل أب أن يستنزله بالدعاء أن يلهج لسانه دائما بالدعاء لأولاده بالهداية والتوفيق لعله يستنزل ذلك من الرب عز وجل وكثيرا ما نغفل عن هذا وليأخذ أيضا من هذا درسا كل داعية إلى طريق الجنة يبذل جهده ويستفرغ وسعه لإرشاد الناس وهدايتهم إليها ومع ذلك فإنه يرى أكثرهم معرضين عنها معرضين عن طريق الجنة ويراهم يتهافتون بدلا منها على طريق النار فيهتف في قلبه هاتف الشفقة والإنكار يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار [غافر:41]. إن طريق الجنة محفوفة بالمكاره وإلا لسلكها كل أحد وطريق النار محفوف بالشهوات وإلا لما تردى فيها أحد وليس العجب من الناس إذا أذنبوا وإذا أخطؤوا وإذا عصوا ولكن العجب ممن نشأ في كنف الأنبياء وشاهد نور النبوة وعاشر نور النبوة كيف يذنب لكنها سنة الله في خلقه التي لا تبديل لها أن أمر الهداية والتوفيق ليس بيد أحد حتى ولا بيد الأنبياء بل كله بيد الله تعالى وحده مع أن إخوة يوسف تغلبت عليهم تلك الغريزة البشرية القاهرة التي غالبا ما تدفع الإنسان إلى ارتكاب الإثم التي غالبا ما تدفع الناس إلى اقتراف الذنوب تلك الغريزة التي دفعت أحد ابني آدم إلى قتل أخيه إنها الحسد فالحسد هتف من أعماق نفوسهم من أعماق نفوس إخوة يوسف ليوسف وأخيه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة مع أن أباهم لم يظلمهم فهو نبي والأنبياء لا يظلمون ولذلك لا نشك أبدا أن يعقوب عليه السلام كان في معاملته مع أبنائه جميعا عادلا منصفا لا نشك أبدا أن يعقوب عليه السلام كان يسوي بين يوسف وإخوته في الواجبات والحقوق كما هو الواجب على كل أب ولكن ليس معنى التسوية بين الأولاد في الواجبات والحقوق أن نغفل الفروق الطبيعية الجبلية بينهم فواجبات الصغير وحقوقه ومتطلباته ليست كواجبات الكبير وحقوقه ومتطلباته وواجبات، الابن وحقوقه ومتطلباته ليست كحقوق البنت وحقوقها ومتطلباتها ولكن العدل والإنصاف هو أن يحافظ الأب في هذا المجال بالميزان بين أولاده فيعتبر في كل واحد منهم حقوقه ومتطلباته الطبيعية.
سئل رجل من العرب: أي ولدك أحب إليك فقال: صغيرهم حتى يكبر وغائبهم حتى يحضر ومريضهم حتى يشفى فالعدل والإنصاف المطلوبان من الأب بين أولاده إنما هو في الظاهر أي فيما يظهره لهم باختياره أما المحبة أما محبة القلب وميله فهذا أمر قاهر لا يد لأحد فيه وقد كان يعقوب عليه السلام في قرارة نفسه يحب ابنه يوسف أكثر من باقي أبنائه لما رأى فيه من مخايل النبوة وتفرد فيه من علاماتها كان يحبه أكثر من باقي إخوته ويبدو أن علامات هذه المحبة الخاصة ظهرت لإخوة يوسف على الرغم من حرص يعقوب عليه السلام على العدل والإنصاف في معاملتهم جميعا ولكن على حد قول الشاعر:
دلائل الحب لا تخفى على أحد كحامل المسك لا يخلو من العبق
فالأب ليس ملوما في ما لا يملكه من محبة القلب وميله وإنما هو ملوم فيما يفعله باختياره من أنواع المعاملة والبشاشة والعطية والهبة الرعاية ونحو ذلك فإنه إذا أظهر تفريقا بين أبنائه في هذه الأمور فهو لم يظلمهم فحسب وإنما يدفعهم دفعا إلى التحاسد والتباغض وربما إلى التظالم لأن الولد الذي ميزه على غيره يشعر بعلو منزلته على باقي إخوته فلربما دفعه ذلك إلى ظلمهم والتسلط عليهم والعدوان ولم يصدر شيء من ذلك من يوسف عليه السلام وهو في كنف أبيه ولم يقع منه عليه السلام أي تقصير في العدل والإنصاف بين ولده ومع ذلك فقد تغلبت تلك الغريزة القاهرة تلك الغريزة البشرية الخطيرة تغلبت على قلوب إخوة يوسف غريزة الحسد فيا لها من غريزة قاهرة خطيرة ما أعظم سلطانها ما أقوى سلطانها وأشد نارها علينا جميعا أن ننتبه إلى هذا الأمر وأن نعدل وأن ننصف بين أولادنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:281]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق)) [1] أي هو ينفقه في أوجه الخير صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسد معناه تمني زوال النعمة من الخير سواء تمنى تحويلها إليه أم لا ولا يلزم فيها أن تتحول من مجرد شعور في القلب أو خاطر في الذهن إلى فعل وسعي بل يكفي فيها فعل القلب فإن الحسد عمل قلبي أي شعور يطرأ على القلب خاطر يخطر في الذهن وشعور يطرأ على القلب فيسيطر عليه ويتمكن منه إذا ما استسلم الإنسان له وتمادى فيه فإنه يأثم بذلك وأما إذا بادر بالتخلص من ذلك الشعور وبادر بطرد ذلك الخاطر الخبيث من عقله فإنه يسلم من الإثم أما إذا استسلم له وتمادى فيه فإنه يأثم وإن كان مجرد فعل قلبي أما إذا حرك هذا الشعور الخبيث حرك جوارح الإنسان إلى الفعل وإلى السعي والمكر في سبيل إزالة النعمة من الغير فإن الإثم حينئذ يضاعف لأن الإثم حينئذ يكون على فعل القلب وعلى فعل الجوارح وأما ما لا يلام عليه الإنسان ولا يؤاخذ فيه فهو أنه إذا رأى نعمة على إنسان أن يتمنى مثلها دون أن يتمنى زوالها من الغير وهذا ما يسمى بالغبطة أو الاغتباط وهو المراد بهذا الحديث هنا وهو في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين)) بدليل الرواية الأخرى: ((لا اغتباط إلا في اثنتين)) فإن الاغتباط يؤدي إلى التنافس في فعل الخير وهذا أمر مطلوب بين الناس مطلوب منا جميعا أن نتنافس في أوجه الخير وفي فعل الخير وبدون الاغتباط وبدون التنافس في ذلك فإن أفراد المجتمع يبقون عناصر ميتة مشلولة لا يحركها محرك إلى العمل والإنتاج فالغبطة والتنافس محرك إيجابي للإنسان يدفعه إلى العمل والإنتاج وفعل الخير والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خص شيئين بالذكر وهما العلم والمال لأنهما عنصران أساسيان في بناء المجتمع فعلى الجميع أن يتنافسوا في سبيل تحصيل العلم ولكن العلم المؤدي إلى العمل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على قوله: ((رجل آتاه الله القرآن)) بل وصفه بالعمل فقال: ((فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار)) وكذلك المال فإن على الناس أن يتنافسوا فيه ولكن ليس في تحصيله وجمعه وتخزينه فحسب فإن هذا ليس أمرا إيجابيا ولا فعلا منتجا وكذلك ليس المراد أن تحصل المال لتنفقه في أوجه الشر في البذخ والإسراف فهذا ليس أمرا بناء في المجتمع بل هو أمر هدام فيه إفساد للمجتمع وموجب لعقوبة الله تعالى قال سبحانه: كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما [الفجر:17-20]. إنما المراد بالمال هنا والتنافس فيه التنافس في جمعه لإنفاقه في أوجه الخير كما قال صلى الله عليه وسلم: ((فسلطه على هلكته في الحق أي على إنفاقه في أوجه الخير)) فهذا عنصر بناء في المجتمع ينبغي أن يتنافس فيه الجميع.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا بن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري: ك: العلم (73).
(1/536)
الراحمون يرحمهم الرحمن
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مكارم الأخلاق
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
13/6/1417
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الراحمون يرحمهم الرحمن. 2- وصية القرآن والسنة بالرحمة. 3- جوانب الرحمة.
4- أحق الناس بالرحمة الوالدين ثم الأولاد والأرحام والقرابات ثم العمال والخدم. 5- نصيحة
للكفلاء بحسن معاملة المكفولين وتحذير من القسوة عليهم وأكل أموالهم بالباطل. 6- الرحم
بالحيوان. 7- الرحمة مع المرضى وذوي العاهات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا عباد الله : اتقوا الله تعالى
إخوة الإيمان: عن عمر بن الخطاب : قدم على رسول الله بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديها تبحث عن طفلها حتى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته فقال رسول الله : (( أترون هذه المرأة طارحة وليدها في النار، قلنا : لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه ، قال : فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها )).
الإسلام رسالة خير وسلام وعطف على البشرية وكانت رسالة رسول الله رحمة لها لهذه البشرية وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وسور القرآن الكريم مفتتحة كلها بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ والرحمة كمال في الطبيعة يجعل المرء يرق لآلام الخلق ويسعى لإزالتها ويأسى لأخطائهم فيتمنى لهم الهدى.
الرحمة صفة للمولى تباركت أسماؤه، ورحمته شملت الوجوه وعمت الملكوت ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً [غافر:7] وكثير من أسماء الله الحسنى ينبع من معاني الرحمة والكرم والفضل والعفو، وفي الحديث القدسي: (( إن رحمتي تغلب غضبي )) أي أن عفوه عن المخطئين يسبق اقتصاصه منهم وبذلك كان جل وعلا أفضل الرحماء وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.[ المؤمنون 118 ]
عباد الله إن ما نراه في الأرض من تواد وبشاشة وتعاطف وبر أثر من رحمة الله التي أودع جزءا منها في قلوب الخلائق، فأرقُّ الناس أفئدة أوفرهم نصيبا من هذه الرحمة وأرهفهم إحساسا بحياة الضعفاء، أما غلاظ الأكباد من الجبارين والمستكبرين فهم أبعد الناس عن الله وفي الحديث : (( إن أبعد الناس من الله تعالى القاسي القلب )).
وكان رسول الله يعدُّ جمود العين واستغلاق القلب من الشقاء وحين أراد الله أن يمتن على العالم برجل يمسح آلامه ويخفف أحزانه ويرثي لخطاياه ويستميت في هدايته من الشرك والضلال وياخذ ويناصر الضعيف ويقاتل دونه ويخضد شوكة القوي حتى يرده إنسانا سليم الفطرة لا يضر ولا يطغى أرسل محمدا عليه الصلاة والسلام وسكب في قلبه العلم والحلم وفي خلقه الإيناس والبر وفي طبعه السهولة والرفق وفي يده السخاوة والندى وجعلها أزكى عباد الله رحمة فبما رحمة من الله لِنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك [ آل عمران 195]
في غزوة أحد حاول المشركون اغتياله وألجئوه إلى حفرة ليُكَبَ فيها ونظر إلى أعز أصحابه فوجدهم مضرجين بدمائهم على الثرى وشق خده وسقطت رباعيته، فقيل له مع هذه الأزمات ادع على المشركين لكن رحمته غلبت وجعلت نفسه العالية تتيح العذر لأعدائه فكان دعاؤه (( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)) وتلك هي القلوب الكبيرة، التي قلّما تستجيش دوافع القوة لكنها أبدا تنزع إلى الصفح والحنان فهي إليه أقرب ، إن القسوة في خلق الإنسان دليل نقص كبير وفي تاريخ أمة دليل فساد خطير ولذلك حذر منها القرآنُ المسلمين ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [الحديد:16]
إخوة الدين والعقيدة الإسلام أمر بالتراحم العام يقول عليه الصلاة والسلام (( لن تؤمنوا حتى تُرحموا، قالوا يا رسول الله كلنا رحيم قال : إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة )) رواه الطبراني.
إن الرجل قد يهش لأصدقائه حين يلقاهم ، وقد يرق لأولاده حين يراهم ، لكن المفروض في المؤمن أن تكون رحمته أوسع ، فيظهر بشاشته ويبدي مودته لعامة من يلقى ، على ذلك حث رسول الله (( طوبى لمن تواضع في غير منقصة ، وذل في نفسه من غير مسألة وأنفق مالا جمعه في غير معصية ، ورحم أهل الذل والمسكنة ، وخالط أهل الفقر والحكمة )) رواه البخاري.
قال عليه الصلاة والسلام : (( من لا يرحم الناس لا يرحمه الله )) وزاد في رواية (( من لا يَغفر لا يُغفر له )).
إن الرحمة كذلك لا تعني الضعف والتهاون لا تعني التساهل مع المخطئ فقد تأخذ الرحمة طابع القسوة وليس كذلك، ألسنا نسوق الأطفال إلى المدارس كارهين ،ثم نأمرهم أنيحفظوا الدرس زجرا ،وكل ذلك رحمة لهم :
فقسى ليزدجروا ومن يكُ راحما فليقس أحيانا على من يرحم
فليست الرحمة حنانا لا عقل معه ،فهناك من لا تشمله الرحمة في بعض صورها ،كالقاتل الذي لا ينبغي أن تمنعنا الرحمة من إقامة الحد عليه ،لأن قتله حياة للمجتمع: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون [البقرة:179] إن الرحمة أثر الإسلام في طبائع أهله، هذا الأثر يحدوهم إلى البر ، ويهب عليهم في الأزمات الخانقة ريحا ترطب الحياة وتنعش الصدور يقول فيما رواه البخاري (( جعل الله الرحمة مائة جزء وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه )).
أيها الإخوة المؤمنون : بعد أن عرفنا الرحمة يجب أن نعلم أن الإسلام نبه أن هناك أقواما وأصنافا مخصوصين ينبغي أن يحظوا بأضعاف مضاعفة من الرحمة والرعاية.
من هؤلاء ذوو الأرحام أي الأقرباء قال رسول الله فيما رواه الترمذي (( الراحمون يرحمهم الله تعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ، الرحم شجنة – أي قريبة – من الرحمن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله )).
وعلى المسلم أن يؤدي حقوق أقربائه وأن يقوي بالمودة الدائمة، صلات الدم القائمة وأجدر الناس بجميل بره وآثار رحمته عليه وأولاهم به وهم والداه قال الله تعالى واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً [الإسراء 24]
وكذلك جدير برحمة الأب أولادُه من بعد أبويه، يحرص على تنشئتهم على الطاعة وتربيتهم على الخير والإنفاق عليهم والحزن لمصيبتهم عن أنس قال : (( دخلنا مع رسول الله على ولده لإبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعده وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله تذرفان فقال ابن عوف وأنت يا رسول الله كأنه استغرب بكاءه فقال : القلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون )) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة قال (( قَبَّل رسول الله الحسن والحسين وعنده الأقرع بن حابس فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا قط فنظر إليه رسول الله وقال أَوَ أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك )) وفي رواية ((من لا يرحم لا يرحم )) رواه البخاري.
ولا يجوز للمسلم أن يوصد قلبه وبيته دون أقاربه وأن يقطع علاقته بهم فيحيا بعيدا عنهم لا يواسيهم في ألم ، ولا يسدي إليهم عونا وهذا ما نراه منتشرا مع الأسف في عصورنا المتأخرة حيث الأب لا يصله الأبناء أو يتأخرون عن صلته ، حيث الأم تترك مهملة وَتُقَّدُمَ عليها الزوجة في البر والصلة والشراء، لقد بتنا نرى الأخ لا يسأل عن أخيه والأقرباء لا يتعارفون والجيران لا يتزاورون، قبل عهد قريب زرت دارا لرعاية المسنين حدثني القائمون عليها ما يندي الجبين خجلا من إهمال الأبناء لآبائهم والأقرباء لأقاربهم فأين الرحمة ؟ هل نزعت من القلوب هل أثرت المادة إلى حد قطع الصلاة والقرابات إن هذه القطيعة تحرم الإنسان من بركة الله وتعرضه لسخطه.. عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول: ((الرحم شجنة من الرحمن تقول يا رب إني قُطعت، يا رب إني أُسيء إلَّي، يا رب إني ظُلمت، يا رب فيجبيها: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك )).
إخوة الإيمان وممن تجب لهم الرحمة اليتامى فإن الإحسان إليهم والبر بهم وكفالة عيشهم ومستقبلهم من أزكى القربات ومن الدواعي التي تساعد على تزكية الرحمة في القلب روى أحمد عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى رسول الله قسوة قلبه فقال : ((امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين )).
فهل يا ترى نهتم باليتيم والمسكين وما أكثرهم اليوم هل نعطيهم جزءا من رعايتنا ونصيبا من كفالتنا ورحمة وعطفا وحنانا.
ومن مواطن الرحمة أيها الإخوة أن نحسن معاملة الخدم والعمال وأن نرفق معهم فيما نكلفهم من أعمال وأن نتجاوز عن هفواتهم غير المقصودة وألا نحسّس سوء التصرف فيهم وملك الكفالة عليهم من عبث بتسخيرهم، فإن الله إذا مّلك أحدا شيئا فاستبد به وأساء، سلبه ما ملكه وأعد له سوء المنقلب ، عن أبي مسعود البدري قال كنت أضرب غلاما لي بالسوط فسمعت صوتا من خلفي
: اعلم أبا مسعود. فلم أفهم الصوت من الغضب فلما دنا مني إذا هو رسول الله فإذا هو يقول (( اعلم أبا مسعود أن الله أقدر منك على هذا الغلام. فقلت: يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى. فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار )) ، رواه مسلم.
إن هناك رجالا ونساء ينتهزون فرصة ضعف العمال والخدم والخادمات فيوقعون بهم ألوان الأذى، والإسلام يرهب من هذا ويتوعد عليه قال (( من ضرب ظلما اقتص منه يوم القيامة )) فأين الكفلاء الذين يؤذون العمال بسياط الضرائب الشهرية من أموالهم وكدهم بدون مقابل، أين الكفلاء وأصحاب المؤسسات من سياط تأخير الرواتب على هؤلاء الضعفة الذين جاءوا من أقاصي الدنيا لجمع مال يقتاتون به هم وأسرهم، ألا نتذكر كيف كان أجدادنا في الماضي يعملون ويتعبون في بلدانهم فهل كنا نرضى لهم هذا الظلم؟ إن من الرحمة أن نرحم هؤلاء العمال الخدم ونشفق عليهم.
إخوة الإيمان: إن عظمة الإسلام في الرحمة عظمت حتى شمل الأمر بالرحمة أن يرحم الإنسان الحيوان، فتلك رحمة مطلوبة، قال رجل يا رسول الله إني لأرحم الشاة أن أذبحها فقال: (( إن رحمتها رحمك الله )) رواه الحاكم في مستدركه.
ويؤاخذ الإسلام من تقسو قلوبهم على الحيوان ويستمتعون بآلامه والإنسان على عظيم قدره يدخل الناس في إساءة يرتكبها مع دابة عجماء ، روى البخاري في صحيحه أن رسول الله قال (( دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ))
وكما أن تلك القسوة أدخلت النار فإن كبائر الذنوب تمحوها نزعة رحمة تغمر القلب ولو بإزاء كلب قال : (( بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها حتى شرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر الله له، قالوا : يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا. قال : في كل كبد رطبة أجر )) وفي رواية (( أن امرأة بغيا من بني إسرائيل رأت كلبا في يوم حار يطيف قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له خفها فسقته فغفر لها به )) رواه مسلم.
أيها الإخوة المؤمنون: لئن كانت الرحمة بكلب لأجل الله تغفر ذنوب البغايا فإن الرحمة إذا تصنع العجائب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم [الفتح:29]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه..أما بعد :
فيا عباد الله : اتقوا الله حق التقوى.
إخوة الإيمان: الرحمة صفة عظيمة شاملة، وممن تشملهم الرحمة وتجل معهم المرضى وذوي العاهات المصابون الذين يستقبلون الحياة بنقص، بعجزهم عن السير في الحياة الطبيعية ،فالمريض شخص قيدته العلة ونغصه حر الداء ومر الدواء، وإذا صبر على أوجاعه فهو قريب من الله حقيق برحمته وإذا كان مس الشوكة يكفر من سيئات المؤمن فما بالك بمن برحت به الأوصاب وأذاقته أشد العذاب، ولذلك نحذر من الإساءة إلى المرضى والاستهانة براحتهم فإن القسوة معهم جرم غليظ، ولذلك كان فضلا عظيما يلحق المؤمن بزيارته المريض وتعزيته بمصابه ودائه، وهذا ما ينبغي أن نحرص عليه لنقوم من حقوق المسلم، واهتماما بالمرضى فقد حرصت بعض الفئات ممن حداهم الخير إلى إنشاء لجنة خاصة بالمرضى وهي ما تسمي بلجنة أصدقاء المرضى والتي وجدت في عدد من مناطقنا في المستشفيات، وتسعى لجنة أصدقاء المرضى الخيرية للعناية بالمرضى فترعى منهم المريض المحتاج ، فتسد عوزه، وتنظر إلى حاجة بعض المرضى لأجهزة تعينهم بعد الله على تخفيف آلامهم فتوفرها لهم ، وتنظر كذلك إلى حاجة المستشفى لبعض الخدمات فتسعى لإيجادها، ومن ضمن الخير المكنوز في هذه المنطقة.
وهذا المجتمع أن انتشرت هذه اللجنة في مستشفياتها بسعي من أهل الخير والمهتمين بحال المريض بل والمحتاج الفقير المريض أيضا.
وهذا دعوة يا عباد الله نتواصى فيها على رحمة هذه الصنف من الناس الذين قعد بهم المرض عن طريق لجنة أصدقاء المرضى والتي صرح لها بالعمل في هذا المجال وهي تستقبل تبرعاتكم المالية ودعمكم الخير بأنواعه في حساباتهم الموجودة والمعلنة وهم بأشد الحاجة لهذا الدعم والتبرع الذي سيكون له كبير الأثر على المرضى وأقاربهم وفي إعانتهم على تحمل آلام المرض بعد عون الله جل وعلا وشفائه لهم بإذن الله، نسأل الله أن يتقبل صدقاتكم ويجعلها في ميزان حسناتكم.
(1/537)
دروس من سورة يوسف عليه السلام
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الترفيه والرياضة, القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
20/5/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
الآيات ( 11 – 18 ) وما فيها من روعة وبلاغة القرآن وإيجازه في عرض المواقف -
تنفيذ المؤامرة على يوسف – حفظ الله ليوسف ولعباده الصالحين المخلصين – جواز ممارسة
بعض الرياضات التي تُنَمِّي روح الحماس والجهاد وأمثلة على ذلك من السيرة ( السبق بين
الخيل – مصارعته صلى الله عليه وسلم رَكانة – لعب الحبشة بالحراب.. )- واقع الرياضة في
هذا العصر ودورها في إلهاء الشباب وإفسادهم – الواجب تجاه ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: قالوا مالك لا تأمنا علي يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاءوا علي قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان علي ما تصفون [يوسف:11-18].
على عادة القرآن الكريم في أسلوبه المعجز العظيم , هذه الآيات القلائل تتحدث عن جملة من المواقف, مواقف هذه القصة الكريمة لو بسطت بسطاً بأقلام البشر لملأت صفحات وصفحات ولكن هذه الآيات القرآنية اختصرتها وطوتها طياً في عبارات قوية السبك رائعة الإيجاز.
هؤلاء أخوة يوسف الحاسدون له الحاقدون عليه وقد بدؤوا ينفذون مؤامرتهم عليه, هاهم يراودون أباهم لعله يرسله معهم وهم ذاهبون إلي الصحراء لرعي مواشيهم وأبوهم غير واثق بهم, إنه مشفق على صغيره منهم والله أعلم بمراده إذ قال: وأخاف أن يأكله الذئب أي ذئب يقصد الذئب الحقيقي الحيواني أم الذئب البشري وهو أعظم مكراً وأشد خطراً وإفساداً ولكن العجيب في القصة أنه لأمر ما أرسله في نهاية الأمر معهم كأنه عليه السلام لم يخطر على باله أن حسدهم له سيبلغ حد قتله أو حد التفكير في قتله ومحاولة القضاء عليه أو التفريط بشأنه بشأن ابنه يوسف, لكنهم كانوا قد أجمعوا أمرهم واتفقوا علي أن يلقوا أخاهم يوسف في غيابة الجب, والجب هو حفرة تحفر في أرض الصحراء تكون واسعة في أسفلها وضيقة في أعلاها تجتمع فيها مياه الأمطار والسيول والغيابة هو كل شيء غيب عنك شيئاً ولذلك يسمى القبر غيابة.
وألقى يوسف الصبي الصغير النبيل الكريم الطري العود ألقي في ذلك الجب الموحش المهلك وياله من موقف عصيب فماذا عساه يفعل ذلك الصغير, ذلك الصغير الذي لم يخبر بعد تجارب الحياة ولم يعارك قسوتها ولم يصلب بعد عوده وتشتد قناته, ماذا عساه يفعل وقد وجد نفسه في غيابة ذلك الجب الموحش المهلك؟ ولكن هكذا العلماء يربيهم الله تعالى بنار المحن وينشئهم في غمار الشدائد والصعاب, فإن حياة الكسل والخمول وحياة اللهو والترف واللعب لا تليق بأمثالهم.
والدرس المهم في هذا أن الله جل جلاله لا يضيع عباده المخلصين إنه معهم دائماً يصنعهم على عينه ويرعاهم برعايته ويكلؤهم بكلائته , فها هو يوسف في قاع ذلك الجب الموحش المهلك حزيناً خائفاً دامع العينين مما صنعه به أخوته وإذا بعناية الله تعالى ورحمته تتداركه وهو في قاع الجب كما تداركت يونس وهو في بطن الحوت , يظهر جبريل عليه السلام ليوسف ويطمئن قلبه ويثبت فؤاده ويخبره بأنه نبي وأنه سيخرج من هذا الجب وستكون العاقبة له وأنه يوماً ما سينبئ إخوته بصنيعهم هذا وهم لا يعرفونه ولا يشعرون به وعلم جبريل عليه السلام يوسف دعاء يدعو به إذا أراد أن يخرج من هذه المحنة وهو: يا مؤنس كل غريب ويا صاحب كل وحيد ويا ملجأ كل خائف ويا كاشف كل كربة ويا عالم كل نجوى ويا منتهى كل شكوى ويا حاضر كل ملأ يا حي يا قيوم اقذف رجاءك في قلبي حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك واجعل لي من أمري هذا فرجاً ومخرجاً إنك على كل شيء قدير.
ولما سمعت الملائكة دعاء يوسف جأرت إلى ربها قائلة: يا إلهنا إننا نسمع صوتاً ودعاء, الصوت صوت صبي والدعاء دعاء نبي.
وبات يوسف ليلته في قاع ذلك الجب يلهج بهذا الدعاء فما أصبح حتى أخرجه الله تعالى من ذلك الجب, خرج من قاع الجب إلي فسحة القصر, قصر العزيز عزيز مصر, فسبحان من بيده الجبروت والملكوت سبحانه ولي الصالحين ونصير الضعفاء, سبحانه وتعالى يحمى عباده المخلصين ويدافع عن المؤمنين, سبحانه هو الرؤوف الرحيم اللطيف الودود العزيز الحكيم.
وهذا درس لكل الصالحين فمهما اشتدت الخطوب وادلهمت الفتن وتلاطمت المحن وكثر الخبث وتوالت الأرزاء فان الملجأ والملاذ والمنجي والمعاذ هو رب العالمين فلتلهج الألسنة فلتجأر القلوب بذكره والثناء عليه والتذلل بين يديه والإلحاح عليه بالدعاء والرجاء فما خاب من وقف ببابه ولا من تعلق بأعتابه كيف وهو ينزل كل ليلة إلي السماء الدنيا ينادى عباده: هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [غافر:60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فبمناسبة قوله تعالى: أرسله معنا غداً يرتع ويلعب [يوسف:12]. وقوله: إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف [يوسف:17]. نقول قد ثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سابق بين الخيل, أجرى السباق بين الخيل بين أصحابه أما المضمرة فمداها من الحفياء إلى ثنية الوداع وأما التي لم تضمر فمن ثنية الوداع إلي مسجد بني زريق, وذكر أصحاب الأخبار والسير أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس على الطرف الشرقي من جبل سلع يشرف على هذا السباق وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يشارك فيه بنفسه على ناقة له تسمى العضباء وكانت لا تسبق, فجاء مرة أعرابي على قعود له فسبقها فصعب ذلك على المسلمين وثقل على أصحابه صلى الله عليه وسلم فلما عرف النبي ذلك منهم قال: ((إنه حق على الله أنه ما ارتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)) [1]. وثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صارع ركانة وكان ركانة مشركاً وكان لا يصرع ولا يغلب أبداً فغلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرعه فأسلم ركانة [2].
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أن الحبشة كانوا يلعبون بين يديه بالحراب [3] , هذا لعب ينمي الروح العسكرية والحماس في نفوس الصحابة, يلعبون بالسلاح بين يديه صلى الله عليه وسلم وهكذا فإن هذه الأنواع من أنواع الرياضات في الإسلام المقصود بها الإعداد للجهاد, إعداد الشباب للجهاد بتقوية أبدانهم وتنمية معنوياتهم وروح العسكرية والفروسية فيهم, هكذا هي الرياضة في الإسلام ليست لهواً ولا عبثاً فلا لهو ولا عبث في حياة المسلم, كيف وربنا عز وجل ذكر من صفات المسلمين المؤمنين أنهم لا يعبثون فقال جل من قائل: والذين هم عن اللغو معرضون [المؤمنون:3].
أما الرياضة في هذا العصر فمضيعة للشباب وإفساد لهم واستهلاك لقدراتهم وطاقاتهم فيما لا يعود علي الأمة بأي مصلحة, الرياضة اليوم متهمة كالإعلام فإنهما أصبحا في هذا العالم البائس المتفرنج وسيلتين من أخبث الوسائل للفساد والإفساد, من يستطيع أن يزعم أن أولئك الشباب الذين شمروا سراويلهم عن عوراتهم وانقطعت أنفاسهم وهم يجرون وراء قطعة مكورة من الجلد أنهم بذلك يعدون أنفسهم لأمر عظيم, يعدون أنفسهم للجهاد, من يستطيع أن يزعم أن تلك الجماهير المتكدسة علي مدرجات الملاعب ترقص وتطبل وتزمر وتزعق زعيق المجانين, أنهم يهيئون أنفسهم ويروضون مواهبهم للدفاع عن الأمة والذب عن حرمة الدين, من يستطيع أن يقول ذلك فان كذبه أوضح من الشمس, تلك أحوال عجيبة ومهازل مكشوفة ومخازي مفضوحة وأحوال سيئة لا تليق بشباب المسلمين, فعلى كل شاب عاقل أن يربأ بنفسه عن تلك الرياضات الإفرنجية التي وفدت علينا وأن يبحث عن رياضة الإسلام.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا علي خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أصله في البخاري: ك: الجهاد (2717).
[2] أخرجه أبو داود: ك: اللباس (4078)، والترمذي: ك:: اللباس (1784).
[3] أصله في البخاري: ك: اللباس المناقب (3337).
(1/538)
أهمية شكر النعم
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
10/6/1416
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شكر المنعم جل جلاله. 2- التفكر في ما نحن فيه من نعم وآلاء. 3- الاعتبار بمن زالت
عنهم النعم بسبب عدم القيام بشكرها. 4- إن الله جميل يحب الجمال (فضل اللباس والزينة).
5- ذلك مقيد بعدم الإسراف والخيلاء. 6- الحذر من التشبه بالكفار في ملابسهم وزجر التجار
الذين يجلبون ذلك لبلادنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى
كان المعتمد بن عباد أمير أشبيلية في الأندلس يعيش حياة مترفة غاية في التنعم، واللذة، طيبات الدنيا تجلب له. وفي ذات يوم اشتهت زوجته أن تخوض في الطين كعادة المترفين، ونفذ رغبتها لقد أمر بسحق الطين ثم نثر في ساحة القصر حتى غطاها ثم عجنه بماء الورد حتى تخوض فيه زوجه، وحياتها كانت حياة لذة ومعة وأنس وبهجة، فهل دامت لهم؟
دارت الدائرة عليه فاجتاحته، قوات المرابطين، فإذا أميرهم يوسف بن تاشفين، يصفد بالأغلال يديه ورجليه ،فإذا به يفرد في السجن واستُذل بنوه وبناته، وعاد مرحوما بعد أن كان محسودا.
وفي يوم من أيام سجنه دخلت عليه بناته في يوم العيد، وهن في أطمار رثة، ومعهن المغازل يغزلن بها للناس حتى يحصلن على بعض القوت فقال:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فسائك العيد في أغمات مأسورا
من بات بعدك في ملك يسر به فإنما بات بالأحلال مغرورا
يطأن بالطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
كم من أمة، وكم من شعب، ودولة، كان مساؤها نعيما، وترفا، ولذة، وحديا لاهيا، وغنى مطغيا، ثم كان صبحها عذابا، وتشريدا، وفتكا.. وآيات الكتاب شاهدة : وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [النحل:112]. ويقول تعالى: كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [هود:102].
ولا تزال حوادث التاريخ منذ بدأ الخليقة إلى زماننا هذا تصب في سمع الدنيا من أبناء القرى التي فتحت عليها النعم فما رعوها حق رعايتها فقطفت في يناع زهوها واستكمال بهجتها أتاها أمر الله لتذهب عنها النعم، وهذه الأمم أشد ما تكون وثوقا بها وافتتانا بزهرتها، وكل شيء لهم على بال إلا أن تزول هذه النعم أو تتحول:
حسنت ظنك بالأيام إذ حسنت وغاب عنك الذي يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وتستمر آيات القرآن واعظةً اللاهين السادرين الذين ركنوا إلى نعم الحياة وقوة سلطانها وجبروت ملكهم: لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور [سبأ 16-17]. ورد في الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة أنه سمع النبي يقول: ((إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، أراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، فمسه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك قال الإبل، فأعطي ناقة عشراء، وقال له بارك الله لك فيها، فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس؛ فمسحه فذهب عنه وأعطى شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملا وقال بارك الله لك فيها؛ فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال أن يرد الله اليّ بصري فابصر الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدا، فانتج هذان وولد هذا ،فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله. فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له: مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل مارد هذا فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، ثم أتى الأعمى في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لصاحبيه، فرد عليه قائلا: قد كنت أعمى فرد الله الي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت، فقال له: أمسك مالك فإنما ابتُلِيتُم، قد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك)).
نعم يا عباد الله إنه جزاء من شكر النعم، وذلك جزاء من جحد بها، ولم يقدم شكرها بل نسبها إلى نفسه.
إخوة الإيمان ونحن ممن قد حبانا الله بنعم عظيمة، وآلاء جزيلة، أحوج ما نكون إلى أن نحافظ عليها بالشكر، لمن رزقنا إياها فإلى متى نتعامى عن النّذر والآيات التي أصاب بها الله أقواماً أنعم عليهم، فكفرت بأنعمه وجحدت فضله، فألبسهم الله ثوب الجوع والخوف والنقص، إن هذه الدنيا لا يغتر بها إلا غافل ولا يركن إليها إلا جاهل.
فكم ذكر الناصحون السادرين فما تذكروا وكم توالت على أهلها النذر فلم يتنبهوا ثم أفاقوا على أمر جاء بلا نذر سابقة ولا دلائل منذرة فلما نسوا ماذكروا به فتحنا عيهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ، وأفاقوا على نعمهم فإذا هي ذكرى، وعلى بهجتهم فإذا هي أماني... ولو سألنا حوادث التاريخ لأثبتت ذلك سلوا بغداد كيف كان أهلها في رغد من العيش، فماذا فعل بهم التتار، سلوا دمشق وسلوا الأندلس، ونعيمها وبهجتها سلوا الكويت قبل سنوات قريبة، وستنطق لكم الأيام بأفصح لسان وحوادثها بأبلغ بيان لتخبركم أن الحوادث جاءت عندما نسوا شكر الرب المتفضل بالنعم. ويزداد البلاء ويتعمق الجرح حين تجد من تعمى أبصارهم عن حقيقة هذا البلاء فيتعلقون بأسباب مادية منها يبدأون وبها لمصيرهم خصالهم يؤولون وإليها يعودون. إن الواجب علينا أن نعتبر قبل أن نكون عبرة، وأن نتذكر قبل أن نكون ذكرى، والحوادث من حولنا تترى، تقول لنا إن من نسى الله وفضله نسيه الله، ومن عصى الله وهو يعرفه سلط الله عليه من لا يعرفه، ومن أولي النعمة فلم يشكرها سلبها الله منه: إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [يونس:96-97].
إخوة الإيمان إننا أمام كل حادثة من حوادث التاريخ، أمام كل حادثة من حوادث العصر وقوارعه، والناس يتخطفون من حولنا ونحن قد حبانا الله بنعم عظيمة، لم تتوفر لغيرنا، أمام كل ذلك لا بد لنا أن نفيق من سبات طالما استغرقنا فيه، أن نستفيق من لهو طالما سهونا فيه، ومن لم توقظه هذه القوارع فمتى يستفيق، ومن لم توجعه هذه الحوادث، إنه ليس بيننا وبين الله نسب حتى يكون العذاب وسلب النعم لغيرنا ونحن السالمون، فمتى نرجع أما نخشى الله ونحن نقرأ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [الأنفال:25]. إن دفع هذا البلاء مرهون بصدق العودة إلى الله وشكر نعمه وتحقيق الإيمان به فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلي حين [يونس:98]. إن خير وسيلة لتحقيق ذلك الإيمان هو اللجوء إلى الله بالدعاء والتضرع والشكر يقول تعالى فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ، إن شكر الله على نعمه لا يكفي بالأقوال فقط، وإنما نلوذ بالله موقنين وأن ندعوه واثقين وأن تكون ثقتنا بربنا أعظم من ثقتنا بكل قوة، ويقيننا بالله أعظم من يقيننا بكل يقين، وشكرنا لله وحده وليس لغيره كائنا من كان، وإننا حينما نتعلق بغير الله فإنا نخسر، ولا نربح، وقد تكون الخسارة في شيء لا يعوض، ولات حين مندم، إن اعتمادنا على الله وحده يكفينا شر المغرضين، والحاقدين، والمرجفين، الذين يسعون بكل ما أوتوا من قوة لنشر إرجافهم، وحقدهم، في مجتمعنا المسلم حاسدين ما أوتينا من نعمة ومكانة، ولكن يجب أن نكون أعظم وعيا وأشد إيمانا وأفضل شكرا لهذه النعم التي نتبوأها ونتلمس غرها إننا بذلك وحده نستطيع الحفاظ على هذه النعم وتسخيرها في خدمة ديننا وأمتنا وعلماءنا الصادقين وأوليائنا الناصحين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أولم يروا أنا جعلنا حرما آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون.
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: روى قيس بن بشر التغلبي حديث أبي الدرداء أن سهل بن حنظلة: مر يوما بأبي الدرداء في دمشق، فقال له أبو الدرداء كلمة تنفعنا ولا تضرنا، فقال سهل: سمعت رسول الله يقول: ((إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس – أي علامة – فإن الله لا يحب الفحش ولا المتفحش)) ، رواه أبو داود بإسناد حسن.
اللباس إخوة الإيمان، زينة يتزين بها الخلق، ونعمة من الله، أنعم بها على عباده يقول تعالى : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا ًيواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير الآية[الأعراف 26]، ويقول جل وعلا : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم [النحل 81] والسرابيل هي القمصان.
وتزين الإنسان باللباس والظهور بالمظهر الحسن اللائق أمر حث عليه الإسلام مالم يكن فيه مدعاة إلى الكبر، روى مسلم في صحيحه عن عبد اله بن مسعود عن النبي قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ؛ فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة؛ قال: إن الله جميل يحب الجمال – أي ليس ذلك من الكبر – الكبر بطر الحق وغمط الناس)).
إخوة الإيمان مع هذه المشروعية العظيمة في اللباس إلا أنا نرى في زماننا هذا مبالغة كبيرة في التزين باللباس، مع نسيان الضوابط الشرعية فيه لدى كثير من الناس، وخصوصا النساء والشباب، فبتنا نرى مظاهر من اللباس في أسواقنا عبر منتديات نسائية، وأماكن تجمع الشباب،وهي لا تمُت إلى مجتمعنا بصلة، ومع كل أسف فإنك ترى أن هذه الألبسة تباع في الأسواق ويشتريها نساء وشباب هذا المجتمع المؤمن الذي قام بإيمانه وليس بعادات غيره وتقاليدهم، والمؤسف أننا نرى كثيرا من الأولياء والآباء لا يهتمون بمراعاة هذا الجانب في أولادهم ونسائهم، ونظرة واحدة منك إلى السوق ترى العجب، وكأن أسواقنا في هذا الجانب ليست في مجتمعات إسلامية، وحينما ترى ألبسة النساء أو الشباب المعروضة في غالب هذه المحلات تجدها بعيدة عن ضوابط الشرع للباس المرأة المسلمة، وفيها تقليد لعادات الغرب ومجتمعاته وموضاته، فأين رقابة هؤلاء الناس لمحلاتهم ؟ وأين خوفهم على مجتمعاتهم من انتشار مثل هذه الظواهر الغربية ؟ وأين تقديمهم لموعود الله على كسب هذه الدنيا الذي لا يغني الإنسان في آخرته ومعاده؟
إن جهدنا يجب أن يكون مركّزا على توعية الجميع لأن هذا مظهرنا الذي نظهر به أمام الناس، وهو أثر من آثار نعمة الله علينا فيجب أن نكون على مستوى هذه النعمة شكرا وحسن استعمال، والأب والولي مسؤول أمام الله عن متابعة بيته في مثل ذلك.
وكذلك أصحاب المحلات هم مسؤولون عن جلب ذلك إلى مجتمعنا، وأنتم يا عباد الله عليكم القيام بجانب النصح والتوعية وإخبار الرقابات التجارية وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن كل ما هو غريب وضار على ديننا ومجتمعنا، ونصح صاحبه، أسأل الله جل وعلا أن يحمي مجتمعنا من كل سوء وأن يقيه شر الأشرار وكيد الفجار.
إخوة الإيمان: الإسلام يوحي بالاعتدال في ارتداء الملابس، ويكره للرجل أن يباهي أو يختال فيها، ولا يعتبر حسن البزّة من عناصر الرجولة، أو مقومات الخلق العظيم، ورب امرئ لا تساوي ثيابه درهما، ترجح نفسه بقناطير الذهب والفضة، قال رسول الله : ((رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره)) من المؤسف أن ترى شبابا يقضون الساعات الطوال في البيوت ليس لهم عمل إلا استكمال وجاهتهم، والإطمئنان إلى أناقتهم، ولو أنهم كلفوا ببذل هذا الوقت للتزيد من علم أو التفقه في دين، لنفروا ونكصوا، ويحسبون اتساق الملابس شهادة للكمال، وظنوا المغالات في اللباس تستر نقصهم وهيهات، روى البخاري عن أبي بريدة قال: ((دخلت على عائشة رضي الله عنها فأخرجت لنا كساء ملبدا أي مرقعا وإزارا مما يصنع في اليمن وأقسمت بالله لقد قبض رسول الله في هذين الثوبين)).
إن الاستغناء عن الفضول، والاكتفاء بالضرورات من آيات الاكتمال في الخلق، ذكر الفتى عمره الثاني، وحاجته مافاته وفضول العيش أسفر.
والدين لا يحب الملابس المزرية، أو يرحب بالهيئات المستكرهة، سأل رجل عبد الله بن عمر ما ألبس من الثياب؟ قال: " ما لا يزدريك فيه السفهاء ولا يعيبك به الحكماء ".
(1/539)
الكلمة الطيبة صدقة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
14/1/1417
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اللسان نعمة من نعم الله. 2- اللسان ميزان لصاحبه في الدنيا وأعمال الآخرة.
3- خطر إطلاق اللسان في غير مرضاة الله. 4- الغيبة والكذب والبذاءة.. نماذج من سوء
استخدام اللسان. 5- الأمر بالكلمة الطيبة اللينة وعظم أجرها عند الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إليه.. إخوة الإيمان.. يقول الله تعالى: الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علمه البيان [الرحمن:1-4]. نعمة البيان من أجلٍّ النعم التي أسبغها الله على الإنسان واللسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، صغير جرمه، عظيم طاعته وجرمه.. لا يستبين الكفر والإيمان إلا بنطق اللسان وكل مجالات العلوم بيانها اللسان، وهو آلة البيان وطريق الخطاب، له في الخير مجال كبير، وله في الشر باعٌ طويل، فمن استعمله للحكمة والقول النافع وقضاء الحوائج وقيده بلجام الشرع، فقد أقر بالنعمة وهو بالنجاة جدير، ومن أطلق لسانه وأهمله، سلك به الشيطان كل طريق ولا يكبُّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
اللسان هو الميزان الذي توزن به الرجال، وتعرف به أقدارها، ما صلح منطق رجل إلا ظهر ذلك على سائر عمله، ولا فسد منطق رجل إلا عرف ذلك من سائر عمله، قال رسول الله : ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) ، رواه أحمد في مسنده، والناس على مر الزمن ينظرون إلى المتكلم ويربطون بين حديثه ومطابقته للواقع وصدقه مع نفسه، وإنهم ليعرفون بثاقب نظرهم ويدركون بعميق خبرتهم الكاذب من الصادق، والمصلح من المفسد، والبَّر من الفاجر، ولذلك انقسمت أخبار الناس إلى صدق وكذب، وطيب وخبيث، وحق وباطل، يقول : ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يَصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.
إن البعد عن اللغو من أركان الفلاح، وكره الإسلام اللغو، وبقدر تنزه المسلم عن اللغو تكون درجته عند الله، عن أنس بن مالك قال: ثوب رجل، فقال رجل آخر ورسول الله يسمع أبشر بالجنة، فقال رسول الله: ((أولا تدري فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه)) أخرجه الترمذي، وصاحب اللغو يُرسل الكلام على عواهنه فربما قذف بكلمة سببت بواره ودمرت حياته، وقد قيل من كثر لغطه كثر غلطه.
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل
قال : ((إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس، يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإن المرء ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه)) رواه البيهقي. يقول الله عز وجل: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة، كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [إبراهيم:24-27].
إخوة الإيمان: إن صاحب الكلمة الخبيثة لا ينطق إلا بأقوال أثيمة، لسانه لماز، وبصره غمّاز، حديثه بذاء، وفعله عدوان، لا يذكر عظيم إلا استحقره، ولا يرى كريم إلا نال من عرضه فلا يتعمد الكذب إلا متملق منافق، فهو عنوان سفه العقل، وسقوط الهمة، وخبث الطوية، وجبن النفس، وقديما قال الحكماء: " لم يكذب أحد قط إلا لصغر قدر نفسه عنده "، ومن قلّ إيمانه بربه وخفّ من يوم الحساب خوفه، لا يبالي أن يلبس الحق بالباطل، ويصور الأشياء على غير الواقع، ويكيل التهم جزافا لأهل الحق، ومن اشتهر بالخير زورا وبهتانا وتملقا وعدوانا، سيما إن اتخذ من فهمه القاصر للدين دعما لذلك الزور والبهتان، إن الكلمة يشتد خبثها ويعظم وزر الكذب فيها إذا اتسع نطاق ضررها، فالصحفي الذي ينشر على الملأ خبرا باطلا، والسياسي الذي يخدع الناس في القضايا الكبرى، والمغرض الذي يسوق التهم في الكبراء والمصلحين، والمدّاح الذي يتخذ من المدائح الفارغة بضاعة يتملق بها الأكابر ويكيل الثناء للوجهاء، ويهرف بما لا يعرف، فيصف الجبان بالشجاعة، والظالم بالعدالة، والبخيل بالكرم، كل أولئك يرتكبون جرائم عظيمة، ويجرون على عواقب وخيمة، وفي خبر البخاري رحمه الله عن النبي فيما حدث به مما رآه من أنواع عذاب أهل النار فكان مما قال: ((أما الذي رأيته يشق شدقه في النار، فكذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ذلك إلى يوم القيامة)). إن أمتنا تعيش الآن أزمة عظمية في فقد الصدق الذي حل محله التناقض بين الأقوال والأعمال في كل شيء فانعكس ذلك على أحوالنا وتربيتنا وتعليم أولادنا، والله وحد المستعان، على ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف، إن من لطخ لسانه برحى الكذب وخبيث الكلم، لا بد أن تبدو سريرته وينكشف أمره، فلا يلقى من الناس إلا الازدراء والمنقصة، أما أهل الحق والإيمان فيهديهم ربهم إلى الطيب من القول ويهديهم إلى صراط الحميد، نعم إخوة الدين والعقيدة، إذا منَّ الله على عبده بصدق اللهجة، وطيب الحديث، شرف قدره، وطابت حياته، وعرف بقوة الإرادة ورجحان العقل، وسلامة الطوية، والناس في معاملاتهم لا يطمئنون إلا إلى صدوق اللسان، فحكمه عندهم عدل، وشهادته بر، ومعاملته بركة، يأمنونه على أموالهم وأهليهم مؤتمن في الأحياء وفي الأموات، في الوصايا والأوقات في الودائع والأمانات، ولا يستقيم لأحد سؤدد أو يحرز في قلوب الناس منزلة إلا حين يهبه الله لسان صدق، فيصّدقونه الناس إذا تحدث ويفقدونه إذا غاب، يقول علي : " من كانت له عند الناس ثلاث، وجبت له عليهم ثلاث: من إذا حدثهم صدقهم، وإذا ائتمنوه لم يخنهم، وإذا وعدهم وفىّ لهم، وجب له عليهم أن تحبه قلوبُهم، وتنطلق بالثناء عليه ألسنتهم، وتظهر له معونتهم ". الطيب من القول أيها الإخوة دائرته واسعة إذا ما وفق له العبد، وسلك فيه مسالك الإسلام والتزم توجيهات القرآن وآداب السنة، يقول جل وعلا: وقولوا للناس حسناً ويقول موجها: ((الكلمة الطيبة صدقة)).
وما أجمل أن يعودّ الإنسان لسانه الجميل لين القول فإذا ما تكلم لم يقل إلا خيرا، والكلام الطيب العف يجمل مع الأصدقاء والأعداء جميعا وله ثماره الحلوة، فهو مع الأصدقاء يحفظ مودتهم، ويستديم صداقتهم، يمنع كيد الشيطان أن يوهي حبالهم ويفسد ذات بينهم: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً [الاسراء53] وحسن الحديث مع الأعداء يطفئ خصومتهم، ويكسر حدتهم، أو يوقف تطور الشر، واستطارة شرره: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم يقول: إنكم لن تَسَعُوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الُخُلق)) رواه البزار في مسنده، إن الحرمان مع الأدب خير من العطاء مع البذاذة، يقول الله جل وعلا : قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم [البقرة:263] يقول أبو عبد الله القرطبي في تفسيره : " ينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا، ووجهه منبسطا مع البر والفاجر من غير مداهنة، لأن الله قال لموسى وهارون: فقولا له قولاً ليناً... فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما ربهما باللين معه "، وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء : إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فّي حدّة فأقول لهم بعض القول الغليظ فقال : لا تفعل ،يقول الله تعالى: وقولوا للناس حسناً [البقرة:83]. قال عطاء : " فدخل في هذا اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي " ، وقال شريك بن سنان لسعيد بن جبير رحمه الله : " المجوسي يوليني من نفسه ويسلَّم علي أفأرد عليه، فقال سعيد: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن نحو ذلك، فقال : لو قال لي فرعون خيرا لرددت عليه ".
فأين من جعلوا خلافهم سببا للهجران والقطيعة، ولم يمسكوا زمام ألسنتهم عن الشتم والسب، وهذا الصنف إذا سلط ذلاقته على شؤون الناس ونياتهم أساء وإذا سلطها على حقائق الدين شوه جمالها، وأضاع هيبتها، وحرف قصدها، قال رسول الله : ((إن أبغض الرجال إلى الله الألدَّ الخصم)) أخرجه النسائي.
معاشر الأحبة : إن الكلام اللين كما يقول بعض الحكماء : " يغسل الضغائن المستكينة في الجوارح "، فكل كلام لا يضر في دينك، ولا يسخط ربك، ويرضي به جليسك فلا تكن به بخيلا يعوضك الله به ثواب، ومن كلام وهب بن منبه: " ثلاث من ُكنَّ فيه أصاب البر، سخاوة النفس، والصبر على الأذى، وطيب الكلام " متفق عليه.
ومن حديث عدي بن حاتم: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم يكن فبكلمة طيبة)) وعن أبي المقدام عن أبيه عن جده قال : قلت للنبي أخبرني بشيء يوجب الجنة، قال: ((عليك بحسن الكلام وبذل الطعام)) أخرجه البخاري والحاكم وابن حبان وصححه الألباني.
إخوة الإيمان: ذلكم هو صلاح المنطق وفساده، إما إخبار وبيان للواقع ومطابقة للمعتقد ومؤانسة للمجالس، وإما حديث بالباطل، وفحش في القول، وبذاء في الكلام،... فاتقوا الله رحمكم الله وألزموا الصدق والطيب من القول فإنما يصعد إلى ربكم الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا ًسديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [الأحزاب:70-71].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/540)
دروس من سورة يوسف عليه السلام
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
27/5/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
الآيات من ( 16- 18 ) :
تنفيذ المؤامرة على يوسف , وموقفهم من أبيهم – براعة الوصف القرآني للموقف – علامات
كذبهم , وإدراك أبيهم كذبَهم ومؤامرتهم – معنى الصبر وفضله , وصبر يعقوب لمّا نُعي
إليه ابنه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فقد قال الله تعالى: وجاؤوا أباهم عشاء يبكون. قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين. وجاؤوا علي قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [يوسف:16-18].
بعد أن نفذ أخوة يوسف مؤامرتهم الشنيعة وتخلصوا من أخيهم يوسف بإلقائه في ذلك الجب الموحش المهلك وحيداً ضعيفاً لا حول له ولا حيلة وبذلك خلا لهم وجه أبيهم على حد زعمهم, كان لابد لهم أن يواجهوا أباهم ذلك الأب الشيخ الجليل النبي يعقوب عليه السلام وقد وعدوه أن يكونوا ليوسف ناصحين وأن يكونوا له حافظين وتعهدوا له بحمايته والعناية بحراسته حتى لا يأكله الذئب أو يصيبه أي مكروه وإن مواجهة أبيهم الذي لم يكن أصلاً واثقاً بهم وكان شديد التعلق بابنه الصغير يوسف شديد المحبة له حتى إنه لا يطيق فراقه ويحزنه ابتعاده عنه, إن مواجهة أبيهم تحتاج منهم إلي قدر كبير من التمويه والخداع وبدؤوا تمثيليتهم جاءوا إلى أبيهم في أول الليل يحملون له النبأ المفجع المحزن, يظهرون حزناً ويذرفون دموعاً, إنهم يتباكون بل هم من شدة عنايتهم بالتباكي تحول تباكيهم إلى بكاء حقيقي ولذلك قالت الآية يبكون ولم تقل يتباكون جاؤوا أباهم عشاء يبكون ولم تقل يتباكون, فأظهروا حزنهم وذرفوا دموعهم وبكوا وهم واقفين بين يدي أبيهم المفجوع المحزون لذلك النبأ كل هذا صورته الآية في إيجاز محكم بديع في أربع كلمات فقط اختزلت صفحات وصفحات جاؤوا أباهم عشاء يبكون فأي وصف أبدع من هذا الوصف وأي وصف أجمل من هذا الوصف وأي تعبير أقوى من هذا التعبير, ياله من إبداع محكم بديع السبك كثير المعاني واسع الدلالات, تأملوا مثلاً قوله عشاء لم لم يقل ليلاً؟ العشاء أدق معنى وأرق وصفاً من الليل إنه تلك السويعات من أول الليل حين تختفي شمس الغروب تلملم ذيولها الذهبية ولا يبقى أي أثر لشفقها حين يغيم الدجى بعباءته السوداء على تلك الروابي الصحراوية من بادية فلسطين حيث كان يقيم يعقوب النبي عليه السلام مع أهله وولده, فياله من تحديد بديع للوقت الذي جاؤوا فيه إلى أبيهم ينقلون له ذلك الخبر المفجع, يا للأسى يأخذون يوسف العزيز الحبيب نهاراً وهاهم جاؤوا ينعونه إلى أبيهم ليلاً ولكن هل أتقن المتآمرون حبك التمثيلية وتلفيق الكذبة؟ دائماً يترك المجرم وراءه خيوطاً تدل على فعلته وتكشف ما اقترفت يداه وإنما يدرك ذلك أولو الألباب, والنبي يعقوب عليه السلام هذا الأب الجليل أدرك بفطنته وفراسته أدرك زيف تلك الخديعة وكذبها لعدة قرائن:
أولها: أنهم بادروا بلا روية إلى استخدام نفس السبب الذي أبداه الأب قبل أن يرسل معهم يوسف حينما عبر عن مخاوفه من أن يأكل الذئب يوسف, فما أسرع ما اصطادوا هذا السبب واتخذوه عذراً يتسترون وراءه, ما أسرع ما كان ذلك الذئب الذي خافه يعقوب عليه السلام على ابنه يوسف, ما أسرع ما كان حاضراً فأكل يوسف كما زعموا.
ثانيها: القميص قميص يوسف الذي اتخذوه بينة على عدوان الذئب عليه وهو بريء من دمه والدم المزيف الذي لطخوا ذلك القميص به فضحهم ونادى بكذبهم فكيف ينهش الذئب جسد يوسف ولا يمزق قميصه ولذلك روى عن يعقوب عليه السلام أنه لما رأى قميص ابنه ملطخاً بالدم سليماً من التمزيق قال لهم: يا بني إنه لذئب حليم هذا الذي أكل يوسف ولم يمزق قميصه.
ولقد عبرت الآية عن هزال هذه الخديعة وانكشاف هذه الكذبة عبرت بقوله سبحانه: وجاؤوا على قميصه بدم كذب فوصف الدم بأنه كذب كأن الدم نفسه صار نفس الكذب وإلا فالمعنى بدم ذي كذب أو بدم مكذوب وهذا من أسلوب العرب في لسانها أنها تصف بالمصدر بدلاً من اسم المفعول زيادة في التأكيد ومبالغة في توضيح المرام, فهذه الخديعة من شدة وضوحها وانكشافها وهزالها صار الدم نفسه كذباً فلم ينفع أولئك المذنبين كذبهم ولا تمويههم ولا خداعهم ولا حرصهم علي إخفاء معالم جريمتهم, وهكذا يأبى الله تعالى إلا أن يظهر آثار الجريمة دائماً ولو بعد حين وهذا من حكمته ولطفه ورحمته بعباده سبحانه وتعالى, ولقد أعلن يعقوب عليه السلام شكه وارتيابه في تلك الدعوى التي سمعها فقال عليه السلام: قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [يوسف:18]. وكم في كلمة "سولت" هذه الكلمة القرآنية البديعة من معان كبيرة ودلالات واسعة خاصة في عالم الجريمة وعالم الذنوب ولكن لعلنا نذكر طرفاً من ذلك في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) [1] رواه مسلم.
الصبر هو احتمال حكم الله تعالى والرضا به سواء كان حكماً قدرياً كونياً وهي الوقائع والحوائج التي تقع للناس والمصائب التي تحل بهم أو كان حكماً دينياً شرعياً وهي أوامر الله ورسوله ونواهي الله ورسوله فمن فعل ذلك وصبر على حكم الله ورضي به وأظهر الرضا بحكم الله عز وجل فقد كسب الرضا من ربه وأما من لم يصبر على حكم الله ولم يرض به بل سخط من حكم الله وأظهر السخط والجزع فقد كسب السخط من الله تعالى وكذلك من يجزع ويظهر الجزع ولا يتجلد عند حلول المصائب والفتن فإنه يكون كأنما اتهم ربه عز وجل شعر بذلك أم لم يشعر, ولماذا تجزع يا أيها المؤمن وأنت تعلم أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وأن الملك كله لله يفعل فيه ما يشاء لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى, ولماذا تخاف وتفزع من النوائب والمصائب والحوادث وأنت تعلم أنك وغيرك في كلاءة الله تعالى وعنايته ورعايته, ربما كرهت شيئاً من المصائب التي تحل بك وفيها خير لك وأنت لا تدري, يغفر الله لها بك من الخطايا ويكفر من السيئات ويرفع في درجاتك وربما يدفع بها بأساً أعظم وفتنة أكبر ومصيبة أشد وربما كانت ابتلاء وامتحاناً لك لينظر ربك سبحانه كيف تفعل, فإذا ما وجدت نفسك في وسط المصائب والفتن وقد حفت اليوم المصائب والفتن المسلمين في كل مكان فتذكر يا مؤمن حكمة ربك عز وجل وعدله ولطفه ورأفته ورحمته بعباده فإن ذلك يعينك على الصبر وحينئذ إذا تذكرت ذلك وحضر إيمانك به وتذرعت بالصبر فإنه تحيطك أعين العناية الإلهية والرعاية الربانية على حد قوله تعالى: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [الطور:48]. فمن صبر لحكم ربه فإن أعين الرعاية الإلهية وأعين الكلاءة الربانية تحوطه حينئذ والعاقبة للمتقين وإن الله عز وجل لا يضيع أجر المحسنين وهو سبحانه مع الصابرين يوفيهم أجرهم بغير حساب.
تأملوا كيف كان موقف يعقوب عليه السلام لما نعي إليه ابنه الصغير العزيز الحبيب إلى قلبه ماذا قال: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون , تذرع عليه السلام بالصبر وتقوّى بالاستعانة بالله تعالى وهذان ركنان الصبر الجميل وهو الصبر الذي لا جزع فيه ولا شكوى والاستعانة بالله تعالى وحده, هذان ركنان ما لجأ إليهما مكروب أو مهموم إلا كشف الله عنه كربته وأزال همه وغمه ونصره سبحانه وتعالى, فهذان ركنان عظيمان علينا جميعاً أن نتمسك بهما ونلجأ إليهما وخاصة عند توالي الفتن وتواتر المحن, قال عمر الفاروق رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا في الصبر لما في ذلك من الرضا حكم الله عز وجل والخضوع لحكمه سبحانه وتعالى".
قال تعالى: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم [محمد:31].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسلم: ك: الزهد والرقائق (2999).
(1/541)
حماة المجتمع
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
5/5/1416
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. 2- لنا فيما مضى من القرون عبرة ( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم..). 3- أهل الحسبة ورجالها لا يبغضهم إلا منافق. 4- رجال
الهيئة هم صمام الأمان للمجتمع. 5- واجبنا نحو هذه الفريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى روي في السير أن المسلمين لما فتحوا جزيرة قبرص تفرق أهلها شذر مذر فبكى بعضهم إلى بعض فرئي أبو الدرداء يبكي، فقي له: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال : " ويحك ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا هم أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى " عندما نقلب صفحات التاريخ وأحداثه نجد أن أمما وحضارات سادت ثم بادت، وحينما تتعمق في البحث عن أحواله هذه الأمم نجد أن أوان قوتها وازدهارها إن حفظت لنفسها ما يصلح دنياها ومجتمعها فاستمرت عليه، وما لبث انتشار الفساد ورواجه وتقوّي أهله أن قلب موازين هذه الأمة، وحساباتهم، فلم تلبث أن تنحدر في مهاوي السقوط حتى كانت أثرا بعد عين لم نعد نذكر منها إلا ما ذكره التاريخ عنها فكان الفساد وأهله هم الذين قضوا عليها.
إخوة الإيمان: كان من نعم الله عز وجل على عباده المؤمنين لاستمرار أمتهم أن جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الخصائص والميزات التي اختص الله جل وعلا بها هذه الأمة من بين سائر الأمم الكافرة الضالة عن سواء السبيل يقول الله عز وجل: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، فسبب خيرية الأمة أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتركوا الفساد يستشري في جسدهم بدون إنكار عليه، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مؤهلات أمة الإسلام التي اختصت بها كما أنه ضمان للمجتمع وحماية له من التلوث في الأخلاق وحماية له من الانحراف ودواعيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمان من الله عز وجل للأمة من حلول العقوبات ونزول النكبات: فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [هود:116-117]. نعم، وأهلها مصلحون، روي في الحديث الصحيح أم سلمة رضي الله عنها قالت أن رسول الله استيقظ ذات ليلة فزعا، وقال: ((ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مقدار هذا وأشار بيده، فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبث)) إذاً مع غياب هذه الفريضة تفتح أبواب البلاء وتنعقد أسباب الهلاك وقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأولويات المهمة للمجتمع المسلم قال الله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون.
إخوة الإسلام: إننا أمة ما قامت في هذا البلد على عصبية قبلية أو نخوة وطنية أو عرق أو حدود، وإنما قام بلدنا وتأسس على التوحيد ولذلك فليس بغريب أن توجد هيئة متخصصة حكومية للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحقيقا لخيرية هذه الأمة وحماية للمجتمع والفرد.. إن هذا ليس بغريب بل نحمد الله عز وجل أن تحقق لنا مثل هذه الهيئات التي تقوم بهذا الدور المهم، ولكن المستغرب إخوة الإيمان أن نرى بعضا من مجتمعنا لا همَّ لهم إلا الكلام بحقد على الهيئات ورجالها، والتنذر بهم وسرد الحكايات الموهومة والقصص المزعومة عن تجاوز رجال الهيئة كما يدعى ويصور.. ويغيب عن هؤلاء الذين أطلقوا لألسنتهم العنان دور رجال الهيئات وأي بلاء يدافعونه وأي فساد عريض يواجهونه، وأي إنجاز ضخم حققوه للمجتمع، قد لا نشعر به لأننا كفينا مؤنة ذلك فلم نتجرع مرارته، إن إنجازات رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنجازات ضخمة لا يشك أحد أنها فوق إمكانياتهم وفوق قدراتهم يكفي أن نرى أسواقنا مثلا كيف كانت قبل سنوات مضت ثم بعد جهود الهيئات وهذه الصحوة المباركة أصبحت، حتى أن النساء أصبحن يأمن على أنفسهن من تعرض ذئب غادر لإحداهن في الغالب الأعم، إن رجال الهيئات يقفون خلف ذلك، وصدقوني أنه لو غُفِلَ عن الأسواق فقط لا نفتح علينا من أبواب الفساد ما نغرق في نتنه ولست بصدد سرد إنجازات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهل أذكر لكم محاربتهم للأفلام الممنوعة التي لو تيسرت لشبابنا لما استطعنا مقاومة أثرها الهادم، هل أحدثكم عن مصانع الخمور التي يقبع خلفها بعض الفاسدين والتي تمسك بها الهيئة، كذلك المخدرات التي يقاومها رجال الهيئة بمعونة رجال مكافحة المخدرات، ترى هل أحدثكم عن معالجة رجال الهيئة للانحرافات الخلقية وكيف نذروا أنفسهم للإصلاح أولا ثم الحماية ثانيا، كم فوت رجال الهيئة الفرصة على ذئاب يريدون اغتيال عفة فتاة بريئة، كم من قضايا أخلاقية عالجها رجال الهيئة بالستر على أعراضٍ وعوراتٍ بالتعاون مع الجهات المسئولة فحموا بيوتا كادت أن تنهار، انظروا إلى رجال تائهين كان المجتمع لا يعرفهم إلا بالفساد وبفضل الله عز وجل ثم رجال الهيئات ومحتسبي الدعوة تحولوا إلى نعيم الهداية ورجالها، فكم من ليلة ينام هؤلاء الوالغين ملء أو ملاحقة شقي عابث، ويسهرون ونحن نائمون لمواجهة المجرمين وهم عزل من كل شيء، هل دفعهم إلى ذلك، مكافأة خارج دوام ؟ هل دفعهم إلى ذلك الحرص إلى زيادة الراتب ؟ إنما دفعهم إلى كل هذا هو حب المجتمع وحمايته وقبل ذلك الإخلاص لله تعالى وحده، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، أما الأخطاء فإنني لست أنكر من خلال حديثي وقوعهم في أخطاء يسيرة هم وإدارتهم دائما حريصون على تلافيها ولكني أسائلكم إخوة الإيمان: من مِنْ الناس يعمل ويسلم من الخطأ ؟ إن أية جهة أو دائرة حكومية لا يمكن أن تسلم من الخطأ وأي مدير أو مشرف لا يمكن أن يزعم العصمة من الخطأ لموظفي دائرته أو مؤسسته، ولكننا مع ذلك نكبر أخطاء الهيئة وننظر إليها بعين نقفل هذه العين ذاتها عن أخطاء جهة أخرى، ومع كل ذلك يأتيك فئة من الناس من القعدة لا هم لهم إلا ثلب رجالات الهيئة والحديث عنهم وتضخيم أخطائهم وإغفال محاسنهم، أو تأتيك فئة أخرى من الناس يطالبون الهيئة ورجالها بأدوار فوق طاقتهم وفوق إمكانياتهم وتتجاوز صلاحياتهم، وقد تجد فئة من الناس لا ينظرون إلى الهيئات على أنها جهة حكومية بل ينظر إليها وكأنها جمعية خيرية أو أهلية لا تجد توقيرا منه، إن هذا النقد غير البناء ليس دليل خير في أي مجتمع من المجتمعات، ولا يبغض رجال الهيئة المخلصين إلا شخص قطعوا عليه شهوته، أو جاهل بما يضره في دينه ودنياه، إننا في مجتمع تأسس على الخير والحق ونشأ على الخير وأحب الخير وأهله ودعاته، ولذلك فمن الغريب جدا عليه أن يوجد فيه مثل هذا السباب لرجال نذروا أنفسهم وأوقاتهم لخدمة هذا الدين فإن لم نساندهم ونأخذ على يد أولئك خسرنا جميعا، قال : ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا أرادوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا – يريدون عدم إيذائهم – فإن أطاعوهم وما أرادوا هلكوا وأهلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا))، فلابد أن نحرص على الحفاظ على سفينة مجتمعنا وعلى من أمسكوا بدفتها.
إخوة الإيمان: إن كثيرا منا يخطئ كثيرا حينما يقصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذه الجهات الرسمية، فنراه سلبيا لا يقوم بأي جهد تجاه المنكرات لا في حيه ولا في سوقه ولا في إدارته بل ولا في بيته، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة المسلمين جميعا كل بحسبه يقول : ((من رأى منكم منكر فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) وفي رواية: ((وليس وراء ذلك من الإيمان شيء)) لقد أصبح كثير من الناس اليوم مقصرا في جيرانه بل وفي الذي أمرنا الله ورسوله به ويضع أمامه العوائق حتى يسقط التبعة عن نفسه وعن غيره بالإنكار، فأين مراسلة المسئولين وكاتبتهم عن المنكرات وأين وعظ أصحاب المنكرات ومحلاتها، أين زيارة ذوي القلوب اللاهية الغافلة عن ذكر الله وأمرهم بالمعروف ،إننا إنْ لم نقم بأمر الله ونسعى في إصلاح مجتمعنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن الذي يقوم ويسعى بذلك لقد أصبح لدى كثير من الناس خور وضعف لا يستطيعون معهما أن يتكاتفوا لمنع الشر والفساد والأخذ بيد أهله إلى جادة الحق والصواب بالحكمة والموعظة الحسنة، ولأضرب لكم مثالا في أقل الحالات، فلقد أصبح بعض المراهقين الآن يقومون برفع أصوات الموسيقى مثلا في الشوارع والأرصفة وعند الإشارات وقد يقومون بالرقص ومع ذلك لا تجد ممن حولهم حتى من أهل الخير والصلاح من ينصحهم أو يوجههم في هذا الأمر فما بالك بما هو أعظم وأنكى، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون جليسه أو يأكل معه، فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوبهم مع بعضهم لبعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)) ثم قال : ((والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم))، إن من المؤسف ومن المروع أن ترى أفراد أمة الإسلام لا يغارون لدين الله وحرماته، ولا يخافون من وبال أو عقاب حتى أصبح الرجل لا يتفقد أهله وولده وعماله ولا ينظر في جيرانه بل تراه يرى المعاصي فيهم وفي مجتمعه ولا ينهى عنها أو يحذر منها وهذا مما ينذر بالخطر سيما مع كثرة النعم والانغماس في الترف، إن مما شجع على استمراء كثير من الناس لهذه المنكرات وعدم إنكارها مع الأسف أننا نرى كثيرا منها يعرض في وسائل الإعلام ويمرر على مجتمعنا من خلال هذه الأجهزة التي نشتريها بأموالنا وتضييع أوقاتنا فكيف نأمر بستر المرأة وعدم مخالطتها للرجال وذلك معروض بكل سهولة وتغفلها عين الرقيب في تلك الوسائل؟ كيف نحذر ابناءنا وبناتنا من تقليد موضات الغرب وعاداتهم ونحن نتلقفها صباح مساء عبر القنوات الفضائية؟ إننا في مواجهة هذا الموج الغامر لابد من سعي حثيث لإعادة هذه الشعيرة في نفوسنا ونفوس من حولنا.
حتى النساء أُمرن بهذه الشعيرة ولم يُغفَل دورهن، يقول الله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم [التوبة:71]. إن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم صمام الأمان لهذه الأمة هم من ينبغي أن نحرص عليهم فهم قد نذروا حياتهم لخدمة أمتهم والدفاع عن قضاياها ولذلك فإنك ترى أثرهم على الناس عظيما، ومكانتهم في قلوب الناس عظيمة حتى ولو ماتوا أو فٌقدوا، أما أثر غيرهم ممن عاش حياته لنفسه وفَقَدَه مجتمعه فإنه إذا مات أو فُقد لم يفقده أحد أو يبكي على ذهابه إن لم يسلم من عذاب الله ومقته بعدم إنكاره وشواهد التاريخ وقصصه تدعم ذلك وتؤيده، نسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا وأن يوفق رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يحميهم ويكفيهم شر الأشرار وحديث الفجار. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:41].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/542)
دروس من سورة يوسف
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
4/6/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
* قوله تعالى : ( وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت... ) – معنى كلمة سولت , في
القرآن ودلالتها على عناصر جذب الإنسان إلى المعصية : النفس والشيطان – من سمات
المؤمنين أنهم إذا فعلوا فاحشة أو ذنباً ندموا وبادروا بالتوبة – إجرام فرعون واجتراؤه على مقام
الألوهية , وموقفه وموقف الطواغيت عند معاينة الموت – خطورة النفس , وضرورة حملها
على الحق والهدى , وعدم الاستسلام لنزَغاتها وتطبيق ذلك على اخوة يوسف - * الخطبة
الثانية : منزلة الصبر في القرآن وفضله – نموذجان للصبر في حديث " إنما الصبر عند
الصدمة الأولى " : 1-النموذج العملي : في زهده صلى الله عليه وسلم وصبره على شدة العيش
2- النموذج القولي : قوله للمرأة بعد أن جاءته : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " ودلالة ذلك ونموذج من صبر السلف
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [يوسف:18].
قوله سولت من السول وهو الاسترخاء يقال: سولت له نفسه كذا أي زينت وسهلت جعلته سهلا أمامه حتى يرتكبه وقد وردت هذه الكلمة مسندة في القرآن في ثلاثة مواضع إلى ثلاثة أمور:
أولا: وردت مسندة إلى النفس في هذه الآية من سورة يوسف قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا [يوسف:18].
ثانيا: وردت مسندة إلى نفس السامري الوثني الذي صنع عجلا لبني إسرائيل له خوار فعبدوا العجل فقال له نبي الله موسى عليه السلام: قال ما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي [طه:95].
ثالثا: وردت مسندة إلى الشيطان في قول الله تعالى من سورة محمد: إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم [محمد:25].
وجملة هذه المواضع تلخص لنا عنصرين يتجاذبان الإنسان إلى المعصية والذنب وهما النفس والشيطان فكلاهما يزينان المعصية للإنسان ويحرضانه على اقتراف الإثم حتى يندفع بلا روية إلى حمأة المعصية والذنب تحت وطأة التزيين والتسهيل وكثير من العصاة لا يدركون فداحة ما ارتكبوا من معاصٍ وما اقترفوا من ذنوب حتى يغرقوا في حمأتها إلى الأذقان وحينئذ كثيرا ما يكون التراجع صعبا ولكن من تنبه منهم قبل فوات الأوان فندم وتاب تاب الله عليه إذا تنبه قبل فوات الأوان حيث يكون باب التوبة مفتوحا فإن الله وصف المؤمنين ذكر من أوصاف المؤمنين أنهم قد يرتكبون شيئا من الذنوب والفواحش في ساعة تكون فيها البصائر والأبصار في حالة من العمى لكنهم إذا استيقظت بصائرهم وانفتحت أبصارهم تذكروا ربهم فندموا وتابوا في الوقت المناسب فتاب الله عليهم قال الله تعالى: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون [ آل عمران:135]. وكذلك المجرم يرتكب جريمته في ساعة خذلان في ساعة استسلام لتزيين النفس وزخارف الشيطان ووساوسه ولكنه إذا تذكر قبل فوات الأوان وتاب قبل انصرام العمر وذهاب الزمان بحيث يتمكن من إصلاح ما أفسد إذا كانت جريمته قد ألحقت بالآخرين أضراراً ومفاسد فإنه إذا فعل ذلك في الوقت المناسب يتوب الله عليه أما إذا استمرت بصيرته مغلقة واستمر مصرا على المعصية والذنب وظلم الناس حتى حضره الموت ورأى بوادره فتاب حينئذ لا تنفعه توبته قال الله تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب [النساء:17]. أي يتوبون قبل أن يدركهم الموت ماذا تريد أن تصنع أيها العاصي أيها الظالم أيها السادر في غيه تريد أن تخادع ربك وتخادع المؤمنين تملأ حياتك كلها فسادا وإفسادا تفني عمرك في معصية الله حتى إذا رأيت بوادر الموت تتوب ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما [النساء:17].
كان عليما بأحوال الناس بسرائرهم وجواهرهم حكيما فيما يقدر ويفعل ويحكم سبحانه وتعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما [النساء:18]. لم يشهد التاريخ مجرما كفرعون لم يكتف بما سفك من دماء ولا بلا ما اقترفت يداه من آثام ومظالم حتى اجترأ على مقام الألوهية وادعى الألوهية وقال لقومه: ما علمت لكم من إله غيري وهذه عادة الفراعنة في كل زمان وفي كل مكان إن لم يقولوها بلسان مقالهم قالوها بلسان حالهم رددتها أجهزة إعلامهم ما علمت لكم من إله غيري [القصص:38]. وهذا غاية الاستبداد وغاية الغرور وغاية الطغيان من المخلوق واستمر فرعون في غيه وفي تجبره وطغيانه حتى إذا أدركه الغرق وأحيط به من كل مكان أحاطت به عقوبة الله من كل مكان وزال الخفاء وانكشف الغطاء صرخ فرعون في حالة الفزع: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل [يونس:90]. حتى اسم ربه لم يذكره لم يعرف ربه حتى يذكر اسمه فهل تنفع مثل هذه التوبة هل تنفع الإنسان مثل هذه التوبة مقتضى عدل الله ورحمته ألا يقبلها فقد فات أوانها ولذلك قيل في شأن فرعون: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [يونس:91].
فيا أيها الناس: النفس خطيرة النفس خطيرة إذا حاربها المؤمن وانتصر عليها ونهاها عن الهوى وقهرها واجبرها على الهدى فقد نجا وسلم أما إذا استسلم لنزغاتها وشهواتها وأهوائها وتخاذل أمام مطالبها فتحكمت فيه غرائزها الحيوانية إذا تحكمت فيه غرائزها الحيوانية فإنها تودي به إلى الهلاك والخسران كما كاد يحدث ذلك لإخوة يوسف كاد يحدث لهم ذلك وكادوا يخسرون ويهلكون لما تحركت في أنفسهم غريزة حيوانية من أشد غرائز النفس البشرية غريزة الحسد فاستسلموا لها فتمكنت منهم وسيطرت عليهم حينئذ سولت لهم جريمة من أعظم الجرائم بعد الإشراك بالله تعالى وهي جريمة قتل النفس ولولا بركة بيت النبوة الذي عاشوا في كنفه ولولا بركة دعاء أبيهم يعقوب عليه السلام فتداركهم الله عز وجل بلطفه فتابوا في الوقت المناسب لهلكوا وخسروا وهكذا الإنسان يفكر ويدبر ويطغى ويتجبر لكن الله غالب على أمره والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون [يوسف:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فعن أنس رضي الله عنه قال: ((مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي لم تعرفه صلى الله عليه وسلم قال : فقيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد أن انصرف صلى الله عليه وسلم أخبروها بأنها كانت تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت إلى بيته صلى الله عليه وسلم ذهبت إلى باب بيته فلم تجد عنده بوابين هكذا يقول أنس ذهبت إلى باب بيته فلم تجد عنده بوابين صلى الله عليه وسلم فقالت له: لم أعرفك فقال لها صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) [1] متفق عليه.
لقد ذكر الصبر في القرآن العظيم في خمسة وتسعين موضعا ولم يذكر وعد بالجزاء كما ورد في الصبر لم يرد وعد بالجزاء الجزيل كما ورد في الصبر فقال تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10]. ثم تأملوا هذا الحديث النبوي الشريف تجد فيه أنموذجين للصبر أحدهما عملي والآخر قولي أما العملي فيتجلى في حال سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم كيف عاش متقللا من الدنيا عازفا عن زينتها وبهارجها وزخارفها مترفعا عن خيلائها وترفها بينما هو أكرم الخلق وأعظم الخلق أين منه الأكاسرة والقياصرة والجبابرة وسائر ملوك الدنيا لا يساون في القدر قلامة ظفر من أظفاره صلى الله عليه وسلم ومع ذلك انظروا الفرق بينه وبينهم أما هم فوجه بعضهم أنهم استعبدتهم الدنيا بزخارفها وشهواتها وخيلائها وزخارفها هذا وجه بعضهم وأما وجه عظمته صلى الله عليه وسلم فإنه كان أرفع وأسمى من أن تستعبده تلك الدنيا الغرارة فعاش صلى الله عليه وسلم عيشة المساكين بينما الدنيا كلها بين يديه إن أراد وأحب عاش عيشة المساكين لم تجد تلك المرأة المكلومة الحزينة عند بيته بوابين لا حجاب ولا حرس ولا ستور ولا عوائق لما أرادت أن تعتذر له صلى الله عليه وسلم من خشونتها في الجواب فإنها لم تعرفه وكانت تحت وطأة المصيبة لما أرادت أن تعتذر له وجاءت إلى بيته لم تجد أي عوائق تعوق بينها وبين لقاء أكرم الخلق وأعظم الخلق صلى الله عليه وسلم هذا الأنموذج العملي أي نفس عظيمة تلك النفس التي صبرت على ذلك وآثرت ما هو خير وأبقى على هذه الدنيا الفانية ما أعظمها من نفس تلك النفس الشريفة أما الأنموذج الثاني فهو في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) فهذه قاعدة عظيمة لو التزمها المسلم في حياته العملية فإنه لا يغلب ولا يخسر لأنه لا يستدرك ولا يستفز لا تستطيع شياطين الإنس والجن أن تستدركه إلى حبائلها ولا تستفزه في إيمانه ودينه لو التزم المؤمن بهذه القاعدة فإنه لا يغلب ولا يخسر أبدا إذا تسلح بالصبر وخاصة في تلك اللحظات الحرجة في اللحظات الأولى من المواجهة من مواجهة المصائب والحوادث والأمور التي يقدرها الله عز وجل عليه إذا تسلح بالصبر في اللحظات الأولى فإنها لحظات تنهار عندها عزائم الرجال في الغالب وتغور قواهم ويذهب تجلدهم وتضيع أناتهم وحكمتهم. في صحيح مسلم أن أبا طلحة رضي الله عنه مات ابن له صغير من أم سليم فقالت أم سليم لأهلها: لا تحدثوه بابنه حتى أكون أنا أحدثه فلما جاء أبو طلحة قدمت إليه عشاء فأكل وشرب ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع من قبل أي تزينت وتهيأت فوقع بها جامعها فلما أن رأت أنه شبع وأصاب منها قالت له: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوها قال: لا قالت: احتسب ابنك فغضب أبو طلحة وقال: تركتيني إلى أن تلطخت ثم أخبرتيني أي تركتيني إلى أن تلطخت من الجماع ثم أخبرتيني بموت ابني فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان أي بما حدث بموت ابنه وبفعل امرأته أم سليم رضي الله عن الجميع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بارك الله لكما في ليلتكما)) [2] ما أعظمه من مكسب يثني به الرسول صلى الله عليه وسلم على موقف هذه الزوجة وعلى صبرها وعلى حسن صنيعها دعا لهما بالبركة بالذرية المباركة فحملت أم سليم فولدت غلاما فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله قال رجل من الأنصار لقد رأيت لعبد الله هذا من الأولاد تسعة كلهم قرأ القرآن كلهم حفظ القرآن وأتقنه وهذه بركات ذلك الدعاء النبوي الذي كان سببه موقف تلك الزوجة وصبرها على النائبة وحسن تصرفها.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري: ك: الجنائز (1194).
[2] مسلم: ك: فضائل الصحابة (2144).
(1/543)
أحكام وسنن وعبر في الشتاء والربيع
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
6/8/1416
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اغتنام ليل الشتاء للقيام (لطوله) ونهار الشتاء للصيام (لقصره). 2- تيسير الله ورخصه في الشتاء وغيره (المسح على الخفين – المسح على الجبيرة). 3- فقه المسح على الخفين.
4- تحل البركة بالأرض في الشتاء فتخضر وتنبت العشب والكلأ. 5- فصول السنة الأربع
تذكر بالآخرة. 6- الحث على اغتنام شهر شعبان في الطاعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله, اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها الإخوة المؤمنون, الدهور والأعوام الليالي والأيام سنن الله تتعاقب في هذه الدنيا ولن تجد لسنة الله تبديلاً، وبتعاقبها وسيرها تتعاقب الفصول على الناس، فهذا فصل للصيف وذا للشتاء وذاك للخريف وذا للربيع، ومن نعمه أن خص كل موسم بما يناسبه من الزروع والثمار ونوّع الأعمال، ودفع السآمة عن الإنسان, والمؤمن الحق من وقف مع هذه النعمة وتدبرها حق التدبر وشكر الله لأجلها قولاً وعملاً، ولأننا في فصل الشتاء فإننا نقف بكم اليوم إخوة الإيمان على شيء مما ورد فيه، وكذلك غيض مما يحتاجه المسلم من الأحكام، وما شرع له من السنن فيه، أخرج الإمام أحمد في حديثٍ حسنٍ عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال: ((الشتاء ربيع المؤمن)) أخرجه البيهقي، وزاد فيه: ((طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه)) وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة تحل به من جوع أو عطش، فلا يحس بمشقة الصيام.
ففي المسند والترمذي عن النبي : ((الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة)) ، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: (ألا أدلكم على الغنيمة الباردة) قالوا: بلى, فيقول: (الصيام في الشتاء وقيام ليل الشتاء) نسأل الله أن يوفقنا لذلك.
يكون يسيراً لطول الليل فيه, يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة.
وروي عن ابن مسعود قال: (مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة, ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام)، وعن الحسن قال: "ونعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه ونهاره قصير يصومه".
قال ابن رجب رحمه الله : "قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف ولهذا بكى معاذ عند موته، وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركاب عند حلق الذكر". انتهي كلامه رحمه الله، ومن فضائل الشتاء أنه يُذكِّر بزمهرير جهنم، ويوجب الاستعاذة منها, ذكر ابن رجب في حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((إذا كان يوم شديد البرد فإذا قال العبد لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال الله تعالى لجهنم إن عبداً من عبادي استجار بي من زمهريرك وإني أشهدك أني قد أجرته)) قالوا وما زمهرير جهنم. قال: ((بيت يلقى فيه الكفار فيتميز من شدة برده)) ، وفي الحديث عند الشيخين وغيرهما عن النبي أنه قال: ((إن لجهنم نفسين نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف، فأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها، وأشد ما تجدون من الحر من سمومها)) ، وروي عن ابن عباس قال: (يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر ويستغيثون بحر جهنم).
كم يكون الشتاء ثم المصيف وربيع يمضي ويأتي الخريف
وارتحال من الحرور إلى البر دِ وسيف الردى عليك منيف
عجبا لامرئ يذل لذي الدنـ ـيا ويكفيه كل يوم رغيف
أيها الإخوة المؤمنون, ومما يحتاجه المؤمن كثيراً في الشتاء وغيره كذلك، المسح على الخفين، وإن من تيسير الله علينا في هذا الدين العظيم، أن أجاز الله لعباده عدداً من الرخص يترخصون بها، وفيها المسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين، ويلزم الإنسان عند لبس الخفين أو الشراب ـ الجورب ـ ونحوه أن يكون طاهراً متوضئاً، ويمسح عليهما عند الوضوء، إن كان مقيماً يوماً وليلة، وإن كان مسافراً ثلاثة أيام بلياليهن، وتبدأ مدة المسح على الخفين من أول مسحة عليهما, فإن لبس الإنسان خفيه عند صلاة الفجر ومسح عليهما في صلاة الظهر فابتداء المدة من الوقت الذي مسح فيه عند صلاة الظهر، فيمسح المقيم إلى مثل ذلك الوقت من الغد، وإذا تمت المدة، وهو على طهارته، فطهارته باقية حتى ينتقض وضوؤه، وإذا انتقض بعد تمام المدة وجب عليه غسل رجليه إذا توضأ، ثم يلبس من جديد، ومن تمت مدته فنسي ومسح بعد تمام المدة فعليه أن يعيد الصلاة التي صلاها بذلك المسح، ومن لبس الكنادر فله أن يمسح عليها وإن شاء مسح على الشراب, إذا مُسِح أحدهما أول مرة تعلق الحكم به، فإذا قدر أن يمسح الكنادر فليستمر على مسحها ولا يخلعهما حتى تتم المدة، فإن خلعهما قبل تمام المدة لنوم أو لغيره فإنه لا يعيدها إذا توضأ حتى يغسل رجليه لأن الممسوح إذا خلع لا يعود المسح عليه إلا بعد غسل الرجلين أما إذا تعلق المسح بالشراب فلا يضر خلع الكنادر، وكيفية المسح أن يبل يديه بالماء ثم يمرهما على ظهر الخفين من أطرافه مما يلي الأصابع إلى الساق مرة واحدة، ومن رحمة الله بالعباد أن من احتاج إلى ربط شيء على كسر أو جرح بجبيرة فإنه يمسح عليها كلها بدلاً من غسلها في الوضوء والغسلِ حتى تبرأ, ويقوم مسحها مقام غسلها تيسيراً من الله تسهيلاً على عباده ولله الحمد والمنة.
إخوة الإيمان, وكذلك مما يرد على الإنسان في الشتاء كثرة الأمطار، وهي نعمة الله عز وجل، وخير للبلاد والعباد، تستحق منا الشكر، ووقت نزول المطر هو من أوقات الاستجابة للدعاء، ومما ورد من الأذكار والأدعية عند نزول المطر أن يقول المسلم: ((مطرنا بفضل الله ورحمته)) ، وكذلك أن يقول: ((اللهم اجعله صيباً نافعاً)) ، وغير ذلك من الأدعية والسنن، وإن في تصريف الأمطار في بعض الأمصار وحبسها عن بعض الديار لعبرة لأولي الأبصار وعظة للعصاة الفجار، قال تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ ?لرّيَـ?حَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء طَهُوراً لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـ?ماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَـ?هُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى? أَكْثَرُ ?لنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً [الفرقان:48-50].
وفي نهاية الشتاء تخضر الأرض، وتخرج بركاتها بفضل الله ومنته، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم ما يُخرِجُ الله لكم من بركات الأرض، قيل : ومابركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا، فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي حتى ظننا أنه يُنزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه، فقال أين السائل ؟ قال: أنا، قال: لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حَبَطاً أو يُلِمُّ ـ أي يشبع ـ إلا آكلةَ الخَضِرَةِ أكلتْ حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت الشمس فاجترَّتْ وثلطت وبالت ثم عادت فأكلت وإن هذا المال خضرة حلوة من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونةُ هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع)). عباد الله, كل ما في الدنيا فهو مذكِّر بالآخرة، ودليل عليه، فإنبات الأرض واخضرارها في الربيع بعد يبسها، يدل على بعث الموتى من الأرض، وذكر الله ذلك في مواضع كثيرة من كتابه فهو يقول: وَتَرَى ?لأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ?لْمَاء ?هْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ ?لْمَوْتَى? وَأَنَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ وَأَنَّ ?لسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ?للَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى ?لْقُبُورِ [الحج:5-7]. ويقول جل وعلا: وَنَزَّلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء مُّبَـ?رَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـ?تٍ وَحَبَّ ?لْحَصِيدِ وَ?لنَّخْلَ بَـ?سِقَـ?تٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذ?لِكَ ?لْخُرُوجُ [ق:9-11]. قال أبو رزين للنبي : كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال: ((أما مررت بواد أهْلِكَ مَحْلاً, قال: بلى, قال: أما مررت به يهتز خَضِراً قال: قلت بلى، قال: ثم مررت به محلاً, قال: بلى, قال: فكذلك يحيي الله الموتى, وذلك آيته في خلقه)) خرجه الإمام أحمد.
تفكر في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين ناظرات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
إخوة الإيمان, فصول السنة تذكر بالآخرة, فشدة حر الصيف يذكر بحرِّ جهنم، وهو من سمومها، وشدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم، وهو من نفسها، والخريف يكمل فيه اجتناء الثمرات التي تبقى وتدخر في البيوت، فهو منبه على اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة، وأما الربيع فهو أطيب فصول السنة وهو يذكر بنعيم الجنة، وطيب عيشها, فهذه التنقلات توجب للعاقل الدهش والتعجب من صنع صانعه وقدرة خالقه جل وعلا.
فوا عجباً كيف يعصى الإلـ ـه أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَهُوَ ?لَّذِى أَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ?لنَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْو?نٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّـ?تٍ مّنْ أَعْنَـ?بٍ وَ?لزَّيْتُونَ وَ?لرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـ?بِهٍ ?نْظُرُواْ إِلِى? ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذ?لِكُمْ لأَيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:99].
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
أما بعد, فيا عباد الله, اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أسامة بن زيد قال: (كان رسول الله يصوم الأيام يسرد حتى نقول لا يفطر, ويفطر الأيام حتى لا يكاد يصوم, ولم يكن يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان؛ فقلت: يا رسول الله إنك تصوم لا تكاد تفطر, وتفطر لا تكاد تصوم, إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما؟ قال : ((أي يومين؟)) قال: يوم الاثنين والخميس؛ قال: ((ذاك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)) قلت: ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم شعبان؟ قال: ((ذاك شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عز وجل فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)) ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان)) وفي رواية للنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان أحب الشهور إلى رسول الله أن يصوم شعبان كان يصله برمضان).
إخوة الإيمان, ها أنتم في شهر شعبان الذي أدرككم، فاستغلوه بالصيام وفعل الخيرات، كما ورد ذلك عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وهو من مواسم الخير التي ينبغي للإنسان استغلالها، ويجب على من فاته شيء من رمضان الماضي فأفطره لعذر، أن يتدارك نفسه ويصومه قبل مجيء شهر الخير والإحسان شهر رمضان، قال ابن رجب رحمه الله: "ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن..... لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن فيا من فرط في الأوقات الشريفة وضيعها وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها".
مضى رجب وما أحسنت فيه وهذا شهر شعبان المبارك
فيا من ضيع الأوقات جهلا بحرمتها أفق واحذر بوارك
فسوف تفارق اللذات قهرا يخلي الموت كرها منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا بتوبة مخلص واجعل مدارك
على كسب السلامة من جحيم فخير ذوي الجرائم من تدارك
واعلموا يا عباد الله, أن تخصيص صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته بدعة لم يرد فيه شيء عن النبي ، أما من مر عليه النصف في صيامه فلا بأس، فتنبهوا لذلك ونبهوا غيركم وخصوصا من العمالة الوافدة التي تنتشر هذه البدعة في بلادهم, وقد تكلم أهل العلم عنها فلهم من الله الأجر والمثوبة.
واتقوا الله يا عباد الله, وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم وما كان عليه السلف الصالح وصلوا وسلموا يا عباد الله...
(1/544)
أي امرأة نريد
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
1/5/1417
جامع السلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل وكثرة حمده على آلائه إليكم، ونعمائه عليكم، وبلائه لديكم، فكم خصَّكم بنعمة، وأزال عنكم نقمة، وتدارككم برحمة فتوبوا إليه واستغفروه واشكروه، عباد الله، بزغ نور الهداية يشع في ذرُى مكة المكرمة لينتشر في أنحاء العالم، ناشرا معه الفضيلة، داعيا إلى الخير، مرهَّبا من الشر، أقر الفضائل، وَنقَّص الرذائل وألغى ما يخالف الإسلام من عادات جاهلية تسلب الحقوق وتهدر الكرامات.
كان من فضائل الإسلام على المرأة أن أعاد عليها كرامتها، وحفظ عليها ماء وجهها من أن تبذله، وتستذل استذلالا مقيتا، جعلها محفوظة في بيت أبيها تُحْتَرم ويعطف عليها لأنها امرأة، يراها مكرّمة معززة في بيت زوجها تبدي رأيها وتزور أهلها وتصل رحمها، نراها أمََّا تصبح كنفا للابن وينبوع سعادة، يتدفق بأغلى عاطفة إنسانية، فتعالوا إخوتي مرة أخرى لنتحدث عن المرأة بعد أن تحدثنا في خطبتنا الماضية عن كيفية الحفاظ على المرأة فهيا بنا نتناول الحديث عن المرأة التي نريد وماذا نريد من المرأة؟!
إخوة الإيمان: كوّن آدم وحواء أول أسرة في التاريخ عاشت بعد أمر الله لهم بإنجاب الأولاد ثم تربيهم على عقيدة الله عز وجل ونبذ الشرك، إذا فالمرأة تبدأ من الأسرة وتعتبر إحدى ركائزها، بل هي الركيزة الأساسية لهذه الأسرة، التي أمر الإسلام بأن يكون الزوجين فيها مترابطين بهذا الولاء: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21]. وبلغ من عظم هذا الرباط بين الزوجين أن جعله عليه الصلاة والسلام إحدى وصاياه لأمته في خطبة الوداع: ((استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله..)) ، والمرأة سواء كانت أمًا أو زوجة أو بنتا أو أختا أو عمة أو خالة لها مكان محترم وتقدير من نوع خاص، فاحترام الأم ينبع من توجيه إسلافنا بطاعة الوالدين، وتقدير الزوجة لأنها النصف الآخر لدين الرجل وعتبة منزله، وبنتا لتربيتها وحسن رعايتها، أجر مرافقة النبي في الجنة، وأختا يحافظ عليها حتى تجد الزوج الصالح، وعمة وخالة أمر الدين بصلة الرحم من خلالهن وتوعد قاطع الرحم بأشد العقوبات.
أيها الإخوة المؤمنون: لا يمكن لنا أن نتحدث عن دور المرأة ورسالتها المطلوبة منها بمعزل عن الحالة العامة التي تعيشها الأمة، فالمرأة لا تقيم في جزيرة نائية بل تعيش وسط العمعمة، تؤثر وتتأثر، تستقبل وترسل فما كان من ضعف في كيان الأمة أحست به وتأثرت له، وما كان من خير وقوة علمته وتمثلته ليعود نفعا عليها وعلى أسرتها، وحينما نرى كثير من المجتمعات نرى فيها اهتماما أكبر بالرجل كمًا وكيفاً، يتقدم هذا الاهتمام على الاهتمام بالمرأة بل قد يكون على حسابها في التربية والتعليم بما أثر في وجود ظواهر سلبية في شخصية المرأة ودورها ورسالتها.
وعلى الرغم من أن المرأة المسلمة بدأت تنال حظا من التعليم والاهتمام على مستويات رسمية وشعبية إلا أن هذا التعليم والاهتمام تأثر كثيرا بمفاهيم غير إسلامية، تؤكد مثلا على عمل المرأة ووظيفتها خارج البيت أكثر مما تؤكد على الأمومة وقيادة الأسرة، توهم المرأة بخيال حرية خطرة تهدد معتقداتها وسلوكها وكيفية أسرتها، إن الإعلام في أكثر البلدان الإسلامية لا سيما من خلال القنوات الفضائية التي تتابعها وتشاهدها المرأة يعمل على تقديم النماذج النسائية التي يطلبون تمثلها في مجتمعاتنا الإسلامية وأن تقلدها نساءنا إنها نماذج تعيش في بيوت جميلة، وترتدي الثياب الجميلة أيضا، وأحيانا تمثل القيم للناس بل ونساء التاريخ الإسلامي الطاهرات العفيفات، ولكن لا تسأل عما وراء ذلك كله من تهتك قِيَِمِي، تحلل عقدي يؤدي في النهاية إلى كون المرأة سلعة في جنبات سوق نخاسة عالمي ينظر التجار فيه إلى الأخلاق وكأنها تراث أو كماليات، يوجد في الحياة بدائل عنها تجد سماسرة ذلك السوق يقتلون المرأة باسم الحرية، فهم يكسبون المال بفتاة الغلاف ويروجون مصنوعاتهم بصورة امرأة متبرجة أو شبه عارية.
إننا كأولياء على النساء يحتم علينا الإسلام أن نجمع جهودنا في صياغة برامج تربوية لإصلاح المرأة وإعادة دورها المنشود، أن نكرس جهودنا في إعداد موسوعة علمية تتناول شؤون المرأة وشجونها، همومها واهتماماتها، حاضرها ومستقبلها، وأن نعمل بعون الله ثم بالتعاون المثمر البناء مع كل مؤسسة عامة أو خاصة، رسمية وشعبية بل مع الجهود الفردية لننقل التصور إلى حقيقة مرئية، ولنعبر من جموح الخيال إلى طموح الواقع ومن النظريات إلى التطبيقات، ولنبدأ مثلا مع بداية العام الدراسي للمرأة بالتأكيد على العلاقة بين القراءة والفعل، بين المدرسة الشارحة والمدرسة السالكة المطبقة، بين الإسلام بوصفه خِيَِرة الله للناس وصبغة الله التي أرادها للبشر: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ، لنساهم في وجود العلم والمعلّمة والإرادة للذين يجعلون بناء العقيدة في شخصية الطالبة أكبر همهم ويحضونها على طلب العمل لنفع دينها وأمتها ودنياها، أخرج البخاري أن رسول الله قال: ((أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران)) ، وقال عروة بن الزبير: " ما رأيت أحدا أعلم بطب ولا بفقه ولا بشعر من عائشة "، يجب أن نساعد في وجود العلم والمعلمة الذين يعدون المرأة الزوجة والمرأة الأم، والمرأة المنتجة مثل أن يعدوا المرأة لوظيفة تخالف طبعها وطبيعتها لتقضي عليها أمًا وزوجة.
ليساعد الآباء والأمهات والأولياء والأزواج المسؤولين في آرائهم ورُآهم، وليكن همُّ الكتَّاب والمثقفين والإعلاميين رفع دور المرأة وتوضيح حقيقته، ليتحدث الخطباء وليتكلم المحاضرون على المرأة الموجود والمرأة المطلوبة، عن الأم التي تخلت عن أمومتها للخادمات، وانشغلت بالأفراح والحفلات، ليتحدث الجميع عن المرأة التي انشغلت عن بيتها للثرثرة عند الجارات في أحاديث تفسد الدين ولا تنفع الدنيا، لنتحدث عن الأم التي صارت مجلات الأزياء ثقافتها مهملة كتاب ربها وسنة نبيها، لتكتب الأقلام وتنطق المنابر بأن المرأة المسلمة هي التي باعت لله نفسها، وبايعت على العفة والجد، ترى واجبها الأكبر في أداء حق ربها ثم في إرضاء زوجها، ورعاية أطفالها وبيتها، قال : (( إذا صلت المرأة خمسها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)).
لتكتب الأقلام عن المرأة المسلمة التي تكون مباركة حيث ما حلت فلا تختصر الزوجية بالطبخ ولا تختزلها في الملبس، ولا ترتضي تلك المرأة الخيرة بيتا لا مكان للعلم وحفظ القرآن وتداوله فيه، ولا تقترن برجل لا يعظم شعائر الله ولا يلتزم بشرائع الإسلام، يؤرقها جهل أولادها وسوء خلقهم، كما أنها تقلق لمرضهم وانحراف صحتهم، تخشى على بيتها الانحراف والفساد كخوفها من حيوان مفترس يتربص بأهل بيتها الدوائر، تسعى بكل جهدها لتعليم أولادها واختيار أحسن المعلمين لهم كما تجهد لإطعامهم واختيار لباسهم، روى مسلم عن أنس بن مالك أنه قال: ((جاءت بي أم سليم – والدته – إلى رسول الله وقد أزرتني بنصف خمارها، وردتني بنصفه، قالت: يا رسول الله هذا أنُيَسْ ابني أتيتك به يخدمك فادع الله له، فقال : اللهم أكثر ماله وولده)) فكان أنس من مكثري الصحابة في الرواية عنه.
إننا إخوة الإيمان نريد المرأة التي تؤثر ولا تستأثر، وتقنع ولا تطمع، تسير مع زوجها وفق قدرته فلا ترهقه بمطالب تجعله فريسة للديون.
إننا نريد المرأة التي تكون بشخصيتها المسلمة لا بوقاً لكل ناعق ناعب وليست مناعا لكل متربص بالبيت المسلم دوائر السوء.
إننا إذ نريد ذلك كله فإننا نطلب من الله عز وجل أن يعيننا على ذلك بفضله ومنّه، ونريد من مجتمعاتنا بكل طاقاتها وإمكانتاتها، نريد قادراً وقائداً ومقوداً العمل على تعبيد الطريق لتدعيم القيم الإسلامية والبراعم الإيمانية لكي ينعم الجميع، مجتمع آمن متراحم متماسك إن شاء الله ،وليضع لبنة الأم المدرسة التي تصنع أجيال المستقبل الواعد.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
إذا كنا نريد نتائج عامة نافعة للأمة فإن المشاركة لا تكون خاصة ولنعلم أن جمع الجهود وتكريسها لتربية المرأة وإعادة دورها المنشود ورسالتها الواعدة هو خير ما يجتمع الناس له ويتواصون به: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) هذه صيغة عموم وجود صدرها يستلزم حضور لوازمها فإذا التزم الأكثر من المجتمع خيرا وطمأنينة، وإن قل الملتزمون بالمساعدة على إيجاد المرأة المسلمة ببذل الجهود وجمع الوسائل والدعاء الصالح والرأي الناصح والدعم بالمال ونشر العلم المقتبس من كتاب ربنا وسنة نبينا وسيرة السلف الصالح وسلوك المسلمات الصالحات، إن قل كل ذلك فما أخال غدنا إلا كالحا ولا مستقبلنا إلا قاحلا.
وثقتي بالله عز وجل، ثم بالمسلمين الحريصين على مجتمعهم من أمثالكم تحملني على التفاؤل وتدفعني وإياكم لأن نُغَلَّب جانب الأمل بفضل الله ثم بجهودكم التي نسأله جل وعلا أن يبارك فيه ويضاعف أجرها ويضعف عدوها، ولنعلم تماما أيها الأحبة أن ليس في الدنيا خير من نسائنا ما تمَّسْكن بحجابهن وحافظن على آدابهن، وتقيدن بأخلاق وأحكام إسلامهن، وتتبعن خطا ذلك المجتمع الفاضل الذي أخرج خديجة وأسماء والخنساء ومئات من المربيات الفضليات، والعالمات الأدبيات، والأمهات الديّنات الصَّينات اللائي وَلدن أولئك الرجال الذين كانوا قواد الميادين، وفرسان المنابر وأبطال الفكر، وسادة الدنيا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [الأحزاب].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر...أما بعد:
فيا أيها الناس: حين تداولنا الحديث عن دور المرأة وماذا نريد منها تعالوا بنا نقلب صفحات سيرتنا العطرة لنطالع غيضا من فيض سيرة أعظم النساء في التاريخ فكل مَنْ يرى بداية دعوة الإسلام لا يغفل عن موقف خديحة رضي الله عنها في نصرة الرسول وتثبيتها، فلقد وقفت بجانبه وآزرته معنويا وماديا، وكانت له خير معين إلى أن توفاها الله، أنظر كيف ثبتته حين عاد من رحلة الغار فزعا مهموما: "كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتحمل الكلّ وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر"، ثم إلى صورة سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر التي عذبت في سبيل دينها حتى الموت فخلد التاريخ اسمها أول شهيدة في الإسلام، واستمر دور المرأة، عظيما في سيرة الإسلام الأولى في بيعة العقبة حيث بايع رسول الله ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتان هما نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي، وانظر إلى عائشة رضي الله عنها في إيصال علم النبي إلى الناس، عن أبي موسى الأشعري قال: "ما أشكل علينا أصحاب رسول الله حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما"، أخرجه الترمذي، وكان للمرأة دور كبير في الجهاد حيث لم تبخل بشيء من جهدها، فعن أم سعيد بنت سعد قالت: دخلت على أم عمارة نسيبة بنت كعب فقلت لها: حدثيني خبرك يوم أحد؟ قالت: "خرجت أول النهار ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى الرسول وهو في أصحابه والريح والدولة للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله فجعلت أباشر القتال دونه وأذود عن رسول لله بالسيف وأرمي القوس حتى خلصت إلي الجراح " قالت الراوية: فرأيت على عاتقها جرحا له غوار جوف.
وفي صحيح مسلم عن أم عطية الأنصارية قالت : " غزوت مع رسول الله سبع غزوات كنت أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى " تلك أجزاء من سيرة المؤمنات المناضلات المجاهدات الصابرات اللواتي سَمَتْ نفوسهن وعلت أخلاقهن واللواتي يشعرن بحريتهن من خلال عبوديتهن لله وحده.
ونحن نريد من كل ذلك أم المستقبل الباسم المشرق، نريد من ترضي ربها، نريد مربية الأجيال ومدرسة الرجال، وأمل الأمة، نريد مخرجة العلماء والدعاة المحامية عنهم الداعية لهم ذلك هو ما نريده من دور عظيم وبناء للمرأة وتلك هي المرأة التي نريد.
أسأل الله جلت قدرته أن يصلح أحوال المسلمين وأن يصلح نساء المسلمين ويجنبهن ما يكاد لهن ويُخَطَّطْ من تدمير وإفساد، وأن يرزقهن حسن التربية ودوام العمل لخدمة الدين ونشر الإسلام.
وصلوا وسلموا يا عباد الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/545)
التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للمبادرة إلى التوبة في موسم رمضان 2- قصة توبة الكفل
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمن الغافل يا أيها المسلم العاصي وأنت في هذا الموسم الكريم لا تزال سادرا في غيك متى تؤوب؟ ومتى من الذنوب تتوب؟ والرحمن الرحيم الذي لا تخفى عليه خافية مطلع عليك يرقب حالك ويحلم عليك لعلك تؤوب إليه وأنت معرض عنه في غيك, غارق في معاصيك ومخازيك حتى في هذه الأيام المباركات حتى في هذا الموسم العظيم الذي هيأه لك الرب الكريم ففتح لك فيه أبواب جنانه وغلق عنك أبواب نيرانه وصفد عنك الشياطين ومردة الجن كل ذلك يحثك على أن ترجع إليه تائبا نادما مهما كانت ذنوبك لو ملأت قراب الأرض وبلغت عنان السماء. من كرمه سبحانه على خلقه ورحمته بهم إذا رجعت إليه تائبا نادما فتح لك بابه ودخلت جنانه وتقبلك فغفر لك فإنه سبحانه يقبل التوبة من عباده ويغفر الذنب العظيم فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث بهذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: ((كان الكفل رجلا من بنى إسرائيل لا يتورع عن ذنب فعله رجل عات جبار يرتكب من الذنوب العظام لا يمنعه شئ من ذلك فأعطى امرأة ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال لها: ما يبكيك أأكرهتك ؟ قالت: لا ولكنه عمل لم أعمله قط فقال لها الكفل فلماذا تفعلينه وأنت لم تفعليه من قبل قط؟ قالت دفعني إلى ذلك الحاجة فقام الكفل ولم يفعل بها شيئا وقال لها: اذهبي والدنانير لك ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبدا عاهد ربه بعد ذلك ألا يعصيه أبدا فمات من ليلته فأصبح وعلى بابه مكتوب قد غفر الله للكفل كتبته الملائكة قد غفر الله للكفل)) [1] فانظر كم ربنا كريم حنان منان هذا الكفل ارتكب من المعاصي ما ارتكب لم يردعه عن أي معصية شيء أبدا حتى إذا استيقظ قلبه في تلك اللحظة وتاب وآب وعاهد ربه أن لا يعود لم يمهله الأجل كان أجله في ليلته ومع ذلك قبله الرب الكريم وغفر له لصدق توبته والدليل على صدق توبته أنه ترك تلك المسكينة وترك لها الدنانير.
فيا مؤمن يا غافل بادر بالتوبة بادر بالأوبة بالرجوع إلى رب كريم وجناب كريم فإنك لا تدرى متى تحين ساعتك فبادر أجلك وساعتك وتب إلى الله تعالى يتوب عليك وأقلع عن معاصيك يقبلك لديه سبحانه وتعالى في جناب رحب كريم.
[1] أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة (2496).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [سورة الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/546)
السحر آفة خطيرة
التوحيد
الشرك ووسائله
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
22/6/1415
جامع السلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم... يقول الله تعالى في كتابه الكريم: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [البقرة:102].
إخوة الإيمان: لكثرة الملحين على تناول هذا الموضوع وطرحه ولتعلقه الكبير بإيمان الناس وعقيدتهم، رأيت لزاما علي أن نتحدث اليوم عن موضوع السحر.
ولست أزعم إخوة الإيمان: أنني سأغوص في تفاصيل هذا الموضوع وطرقه ودروسه وتاريخه، فهذا ما لا أراه مجديا ولا الوقت كافيا، وللأسف أننا نرى الآن انتشار بعض الكتب التي يتداولها عامة الناس من صغار وكبار ورجال ونساء في هذا الأمر وهم لا يعلمون شرها وضررها، أما لماذا نطرح هذا الموضوع، فلأنه موضوع مهم وقضية هامة من قضايا المجتمع كل فرد ينتمي إلى هذا المجتمع ولهذه الأمة هو من المعنيين بحديثنا هذا اليوم عن السحر، إن حديثنا عن السحر، حديث القرآن عن السحر، ذلك الحديث الذي ذكر الله سبحانه وتعالى فيه أن السحر ضلالة وكفر وذكر فيه المولى جل وعلا أن السحر ينتج عنه التفريق بين المرء وزوجه، وقِسْ على ذلك ما تشاء من التفريق بين الأم وأبنائها وبين الوالد وأولاده وبين الجار وجيرانه والقريب وأقربائه.
إننا نعرف أنا هناك من يرى أن طرح هذا الموضوع لا أهمية له بجانب قضايا كبيرة أهم منه ولكن هؤلاء ربما لم يقدروا الآثار العظيمة التي دعتنا للحديث عنه:
أولها: تنبيه الأمة على خطر السحر والشعوذة في المجتمع، فلقد شاع وذاع وراج في مجتمعنا من قضايا السحر والشعوذة الكثيرة، فهو الجزاء الرادع الذي ينتظر الزوج من زوجته أو العكس، وهو كذلك الترجمة الحقيقة لما يحيك في النفس الشريرة من مؤامرات، ومن تدبير لتفريق الأسر، وهدم المجتمع وضياع الأفراد ،ويصاحب ذلك من الهوى المتبع ومن الشيطان المريد ومن ضعف الإيمان ما يجعله تجارة سائغة موجودة في المجتمع يجب التنبه إليها.
ثاني هذه الأسباب: التي دعتنا لطرح هذا الموضوع هو قلة زواج أو لتحقيق نجاح يعتقده الإنسان، ويكون في أكثر الأحيان للتخلص من عدو يراه الإنسان وإنني أقول أن من يسلك هذا المسلك هو من الذين فقدوا المعنى الحقيقي لـ لا إله إلا الله تلك الكلمة التي حملها بين جنبيه ورددها بلسانه وأشهرها وأعلنها مبدأ من مبادئه ولكنه يفقد معنى هذه الكلمة حينما يسلم نفسه إلى الساحر أو الكاهن ليفعل به ما يريد، يقول جل وعلا: أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ، أما الأسباب التي أدت بالإنسان إلى ذهابه إلى السحرة فهي:
أولها: ضعف الإيمان : هو سبب لكثير من القضايا حيث يقل توكل الإنسان على ربه فتضعف نفسه لدواعي الشيطان ومهلكاته بالسحر وغيرها.
ثاني هذه الأسباب: الجهل بالدين وقلة العمل فإن كثيرا من الذين يذهبون إلى السحرة لا يعلمون أنه منكر وكفر بل قد يظن الرجل أحيانا أن السحرة مثل القراء الذين يقرؤن الرقى الشرعية، بل يظن البعض أنها قربة له في أن يفرج عن المريض أو المصاب كربته، أو كخدمة لقريب له أو صديق يقول : ((من أتى ساحرا أو عرافا فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه أحمد، وقال : ((من أتى كاهنا أو عرافا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوما)) ، وعد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من نواقض الإسلام:
الإعراض عن دين الله لا يعلمه المرء ولا يتعلمه، وأيضا من الأسباب التي تدعو إلى هذا العمل كثرة الفراغ لدى الشباب والشابات وغيرهم وهو منبع كل شر.
أما السبب الذي لا نستطيع أن نخفي أثره في نشر السحر وتهوين أمره فهي تعرض لنا مثل هذه البائقة التي عدها رسول الله من الموبقات من خلال البرامج المطروحة، فنرى أطفالنا يتلقون الأفلام الكرتونية التي تبين السحر والسحرة وكيف أثرهم حتى أن الساحر منهم بعصاه ذي النجمة يستطيع تحويل كل شيء لما يحب، من تحويل الجو وبناء القصور في لحظة والمدافعة عن المظلومين لكي يحبه هذا الطفل الصغير بل وقد يقلده وكل ذلك يعرض ونحن في غفلة، كذلك ما يعرض في الأفلام والمسلسلات من استعانة بالسحرة واللجوء إليهم عند الشدائد ألا ترون إخوة الإيمان أن لذلك كبير الأثر على الأسرة المسلمة الموحدة.
هذا فضلا عن الجرائد والمجلات التي تجلب لنفسها الإثارة والمتعة بالتشويق مثل هذه الأمور حتى أن جريدة عربية واحدة منها على سبيل المثال استمرت في عرض حلقات مطولة وعبر ثلاث صفحات على الأقل بعنوان كيف تتعلم السحر؟! وغيرها من المجلات والجرائد التي تغفل عنها وهي تعرض المقابلات مع السحرة والكهنة وكيف يتعلمون السحر وما هي طرقكم في السحر إلى أخر ذلك من الأسئلة التعليمية، وانظر مثالا للإيمان بالشعوذة والكتابة والأبراج والحظ فأنت إن ولدت في يوم كذا ستكون مشئوما وفي يوم كذا ستكون سعيدا أو حظك اليوم سعيد أو حظك اليوم شقاء وغير ذلك من ترهات نشتريها بأموالنا ونغذي بها عقول أولادنا ونسائنا.
ومن الأسباب كذلك لإنتشار السحر: سوء بعض العمالة الوافدة، وأكثرها غير مسلم من الخادمات على وجه الخصوص اللاتي يختلطن في البيوت وكذلك السائقين والعمال من الديانات الهندوسية والبوذية والنصرانية وغيرها، وإنني على يقين من أن بعضكم يعرف قصصا تثبت ما أقول.
عباد الله إن أحوال السحرة وعاداتهم وطبائعهم غريبة كل الغرابة، بل وشاذة أنزه أسماعكم وهذا المنبر من ذكر بعضها أو كلها، ولا يفلح الساحر حيت أتى ويكفي هذا الأمر لكي نعلم مدى السوء الذي يصلون إليه حينما يكونوا من السحرة أو الكهنة ولذلك فقد كان حد الساحر ضربة بالسيف كما ورد ذلك عن النبي ، قال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ : " الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره هو مثل الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلق ف أرى أن يقتل إذا عمله بنفسه.." وقال مثل ذلك الإمام الشافعي رحمه الله. وإن مما يساعد السحرة ويجعل سوقهم رائجة الوهم الذي يصيب الكثير منا لأي هاجس يصاب به الإنسان أو حالة نفسية طبيعية تصيبه أو مرض غير معروف للوهلة الأولى وخصوصا لدى النساء اللاتي يسارعن إلى الشك بأن هذا الوهم عمل من السحر، بل ونسارع إلى علاجه قبل كل شيء بالذهاب إلى السحرة وتصديقهم فيما يقولون ودفع المبالغ الطائلة لهم بل والإشراك بالله في بعض الأحيان إما بقول فيه شرك أو بالذبح لغير الله وغير ذلك وهذا من أعظم الطوام، وعلى فرض أن السحر وقع حقيقة لا تجد أننا نسعى لكتاب الله نطلب فيه الشفاء الذي يقول الله تعالى عنه : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [سورة الفلق]. ولا شك أن القرآن أثبت أن فيه العلاج لكثير من الأمراض والأسقام وهناك مع ذلك الطرق المشروعة التي قال بها الفقهاء عند الإصابة بالسحر أو قبل الإصابة به كقراءة الأوراد والأذكار الحافظة للإنسان من كل شر وكذلك الرقى الشرعية أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أمرنا باتباع كتابه وهدي رسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بين لنا الحق بدليله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي إلى سبيله، صلى الله عليه وسلم على آله وأصحابه وكل من الصف باتباع الحق وقبوله، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: بالله ورسوله، لا شك أن لكل داء دواءا علمه من علمه وجهله من جهله إلا الموت كما ورد ذلك عن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه ولا شك أن هناك طرقا شرعية لعلاج السحر والوقاية منها يجب علينا أن نعرفها ونشير بها على الناس ومنها:
أولا: الصبر وقوته على المرض أو الوهم وعدم الخوف والضعف، فإن هذه الأمور كثيرا ما تصيب ضعيف الإرادة ذا الإيمان الضعيف، وكذلك الصبر بعدم التعجل للشفاء مع استخدام الرقى الشرعية من القرآن الكريم، فقد تطول مدة القراءة، والناس مع الأسف يملون ثم يتجهون إلى السحرة، لقد جلس النبي ستة أشهر وهو يستخدم القراءة بالرقى الشرعية حينما أصيب بالسحر، فما بالكم إذا علمتم أن صبر الإنسان لهذه الصيبة رافع لدرجاته زيادة لحسناته فإنه من الابتلاء.
الثاني: من الطرق الشرعية لعلاج السحر: تقوية الإيمان بالله ،والتوحيد في نفوسنا والاتكال على الله وكثرة الاستعاذة بالله واللجوء إليه من شياطين الإنس والجن كما قال سبحانه وتعالى: وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون [المؤمنون:97-98]. وكما قال تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله.. [فصلت:36] الآية، واجعل قلبك أخي المؤمن مملوء بتقوى الله ومخافته في السر والعلن وأن تكون متوكلا على الله في جميع أمورك ومن يتوكل على الله فهو حسبه [الطلاق:3].
الثالث: من الطرق الواقية من السحر: عدم الظلم للآخرين لأنه يورث البغض والعداوة في قلب المظلوم ينسى معه الخوف من الله سواء كان هذا المظلوم هو الزوجة أو الزميل أو العامل أو الخادمة فيلجئه الظالم إلى أن يقع على ضلالة فيما حرم الله فيعمل السحر، فيصيبك على حين غفلة من تركك للأولاد التي وردت عن النبي.
أيضا من الوسائل لمنع السحر ووقوعه: عمل القربات إلى الله سبحانه وتعالى كقراءة القرآن والإكثار منها آناء الليل وأطراف النهار وكذلك الحرص على الأولاد الثابتة عن النبي في الصباح والمساء وكذلك الصدقة والإنفاق فإنها تقي مصارع السوء، وكذلك الإحسان إلى الغير بشتى أنواع الإحسان.
الأمر الخامس من الطرق الواقية من السحر: تجديد التوبة لله جل وعلا من كل ذنب يرتكبه الإنسان فإن الفساد الذي يحوم في نفوسنا مرتع خصب لنمو هذه البوائق واستمرائها لدى الفرد والمجتمع.
وإنني على يقين إخوة الإيمان أن كل هذه الوسائل وما لم يذكر منها كفيلة بأن يحبط كيد الساحر حيث أتى وهي كفيلة أيضا بأن تلغي كل دور للوسوسة والهم والغم الذي يعتري قلوبنا ولا شك أنه ما كان للسحر أن ينتشر في المجتمع وفي بلاد التوحيد على وجه الخصوص لولا ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب علينا جميعا أفرادا ومسئولين أن ندرك أننا مسئولون عن مقاومة مثل هذا الشرك وغيره وذلك بفضح هؤلاء السحرة والكهنة والإخبار عنهم وعن أماكنهم، وطريقهم، بل وفضح من يدل عليهم ويجلب لهم الزبائن، وكذلك يجب علينا أن ننشر هذا الدين ونعلمه الناس في المساجد والجوامع والمدارس والمنتديات، لأن الجهل كما ذكرنا آنفا باب لكل شر وفتنة فما بالكم الجهل بالتوحيد، أسأل الله العظيم الجليل أن يحمي أنفسنا ونسائنا وذرياتنا من كل من في نفسه شر وفتنة، وأن يرد كيد السحرة والمشعوذين في نحورهم وأن يكفي البلاء والعباد خطرهم وضررهم إنه سميع مجيب.
(1/547)
وقفات مع الحج
سيرة وتاريخ
القصص
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
1/12/1416
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة هاجر وإسماعيل مع بئر زمزم. 2- قصة بناء البيت. 3- أرض الجزيرة إنما شرفت
بالإسلام لا غيره. 4- مشاهد الحج وروعتها وتحقق دعوة إبراهيم عليه السلام. 5- فضل
عشر ذي الحجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها الناس: اتقوا الله وتوبوا إليه.
قف بالأباطح تسري في مشارفها مواكب النور هامت بالتقى شغفا
من كل فج أتت لله طائعة أفواجها ترتجي عفوا الكريم عفا
صوب الحطيم خطت أو المقام مشت مثل الحمائم سربا بالحمى اعتكفا
في كل عام ترى وفود الحجيج وضيوف الرحمن يلبون نداء الله بالحج إلى بيته الأمين أقبلوا بقلوب طائعة مختارة ملبية تريد رضى ربها ومن لم يتيسر لهم الحج من المسلمين الباقين يلبون بقلوبهم ويتطلعون بأنظارهم إلى هذه البقاع التي شرفها الله ببيته الحرام.
إخوة الإيمان : حين نرى مثل ذلك الحدث يتشوق القلب ويحن فتعالوا إلى فيض مع الوقفات العطرة من أعظم الأحداث للمسلمين وإنما هي خواطر ترد في الذهن ونحن نتأمل تلك الوفود الزائرة المحرمة، نتذكر عند مرأى الحجيج قدم ذلك الركب الصغير الذي يقطع صحراء لا نهاية لها تتحرك بها المطايا اللاغية تتغلب الجفاف والكرى، موكب من شيخ كبر وامرأته التي وضعت ولدها تواً وهي تحمل رضيعها بين يديها ما معهم إلا شنة فيها ماء وتجعل الأم تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها، ترى أي أمر حدا بهذا الركب إلى قطع هذه الصحاري والقفاز ويخلف وراءه أرض الماء والأكل والكلأ أما الركب فإنه ركب الشيخ الأمّة القانت أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ومعه هاجر تحمل ابنها إسماعيل عليه السلام وأما ماحدا بهم إلى قطع هذه المسافات فهو أمر الله جل وعلا لإبراهيم بالتوجه إلى تلك البقعة وسط الجبال في جزيرة العرب إنها مكة أم القرى البلد الأمين حرم الله الأمين.
سار إبراهيم عليه السلام وابنه حتى بلغوا مكة فوضعهما تحت دوحة فوق زمزم وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، وضعها هناك طائعا أمر ربه ويضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء وقَفَل راجعا إلى الشام مضحيا لله عز وجل بزوجته وابنه الذي جاءه بعد كبر وتتجه هاجر ولا يلتفت إليها حتى إذا بلغوا كداء نادته من ورائه فقالت يا إبراهيم أبن تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها خشي أن ينظر إليها فيقرأ الحزن في قسمات وجهها فيرق لها أو لغلامها الذي يتركه فقالت له بعد أن رأت منه ذلك : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم، قالت : إذا لا يضيعنا، وينطلق إبراهيم حتى إذا بلغ الثنية دعا رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون [إبراهيم 37]
ورجعت أم إسماعيل تشرب مما معها من ماء وترضع وليدها حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وتنظر إليه يتلوى فانطلقت هائمة على وجهها كراهية أن تنظر إليه فذهبت تصعد الصفا هل تحس من أحد فلم تر شيئا فنزلت حتى بلغت الوادي ورفعت طرف درعها وسعت وأتت المروة وفعلت ذلك أشواطا ثم قالت لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي فذهبت فإذا هو على حاله كأنه ينشع الموت فلم تقرها نفسها فذهبت إلى أعلى الصفا فلم تر أحدا.
لكنه الله سبحانه الرحيم بعباده فإذا بصوت فأرهفت سمعها عله أن يكون المنقذ فإذا جبريل عليه السلام عند موضع زمزم فغمز بعقبه على الأرض فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل حين ظهر الماء ولكنه الله الذي لا يضيع أولياءه وعباده، وجعلت تحوض الماء وتغرف في سقائها وهو يفور قال ابن عباس رضي الله عنهما راوي هذا الحدث في البخاري ومسلم قال النبي رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا، قال: فشربت وأرضعت وليدها فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله.
وجاء إبراهيم بعد أن سكنت مكة وشب إسماعيل فقال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك الله، قال: وتعينني قال: نعم قال : فإن الله أمرني أن أبني بيتا هنا وأشار إلى أكمة مرتفعة ويرفع إبراهيم القواعد من البيت وجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني.
إخوة الإيمان: بعد أن فرغ إبراهيم من البناء أمره الله بأن يؤذن بالناس بالحج: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم [الحج:27-28]. ونادى إبراهيم في الناس يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم. فأجابوا بالتلبية لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وقد أبلغ الله تعالى صوت إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج كل مكان وحفظ الله هذا الأذان فجعله يتردد في الصلوات ويتلى في المحاريب وفرض الحج من ذلك اليوم إلى يومنا هذا وعلى سنن الأنبياء والمرسلين فإن هذا البيت كان وبقي مثابة للناس وأمنا منذ طاف به إبراهيم أبو الحنفاء الذي دعا ربه أن يحفظ هذه الأرض فدبت الحياة في هذه الأرض القحلة الجرداء وأجاب الله دعاء نبيه فإذا أفئدة من الناس تهوي إليهم وإذا هذه الأرض الجرداء تصبح أرضا مباركة ومحط أنظار العالمين بما حباها الله تعالى من الهداية العظمى التي يتطلع إليها كل التائهين.
إلى المشاعر تعلو الدهر سيرتها قدسية النفح للتاريخ حين وفى
مشى الحجيج بها ركبا حِدته ضحى أسلافنا فحدونا ربكه خلفا
توسد الأمن غاديها ورائحها ونام في كنف الرحمن حيث غفا
أيها الإخوة المؤمنون إن مما نتذكر هذه الأيام أن هذه الجزيرة ليست فقط بذهبها وخيراتها وإنما قيمتها بما جعل الله تعالى من الهداية التي يتلقاها الإنسان من أهل هذه البلاد وعلى يدهم كما أن الإسلام قدر هذه الجزيرة لا تبتغي عنه بديلا مهما كاد الكائدون وسعى المنافقون وأرجف المرجفون فإن الإسلام خيرة الله لهذه البلاد ولن تبتغي عنه سبيلا تلك هي دعوة الأنبياء والمرسلين وبشراهم. وإن تميز هذه البلاد الحقيقي وقيمتها الكبرى التي تتطامن عندها كل الميزات وتتضاءل عنها كل القيم إنها أرض الإسلام التي اختارها الله لتكون مشرق نور الإسلام.
ومنطلق الرسالة كما كانت أرض أنبياء الله من قبل هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام أول أرض يتطيب ثراها بالسجود لله وتعطر سماؤها بالأذان ويتلى في محرابها القرآن عليها وُلد محمد ونزل جبريل ومشى وعاش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسارت كتائب الإسلام منها فاتحة للأرض ناشرة للإسلام وكما كانت هذه الجزيرة منطلق الإسلام فهي مؤئله ومأواه إذا ضاقت على الإسلام فجاج الأرض كلها يقول : ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ يأرز إلى المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها)).
إن هذه الجزيرة أرض قرت بها عين الإسلام ويئس الشيطان أن يعبد في أرضها كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب)) أي يجمعوا على ذلك إنها أرض أخلصت للإسلام فليس لغير الإسلام فيها نصيب مهما خطط المخططون وكاد المنافقون وخصوم الإسلام فإنهم لن ينالوا وطرهم سعوا وأجلبوا خيلهم ورجْلَهم وكتاباتهم وإعلامهم ولن يجتمع في جزيرة العرب دينان.
بلاد بها الرحمن ألقى ضياءه على لابتيها والعوالم غيب
إذا نسب الناس البلاد رأيتها إلى جنة الفردوس تعزى وتنسب
وإن نصبت أنهارها فَبِحبّها من الدين نهر للهدى ليس ينضب
تفجر من نبع النبوة ماؤها له الحق ورد والسماحة مشرب
إخوة الإسلام نتذكر في الحج يوم حج رسول الله مع مائة ألف من المسلمين حجة الوداع ونظر رسول الله إلى الألوف المؤلفة وهي تلبي وتهرع إلى طاعة الله فشرح صدره انقيادها للحق واهتداؤها إلى الإسلام فعزم على أن يغرس في قلوبهم لباب الدين وينتهز تجمعهم ليقول كلمات تبدد آخر ما أبقيت الجاهلية من مخلفات في النفوس فيلقي خطبته الجامعة الشاملة يوم عرفة فيبين فيها حرمة دم المسلم وماله وعظم الأمانة وخطر الربا حتى المرأة لم تنسى في هذه الخطبة الجامعة فيقول :((واستوصوا بالنساء خيرا فإنهم عندكم عوان)) وكان يشهدهم على قوله فيقول ألا هل بلغت؟ فيقول: المسلمون: نعم، فيقول : اللهم فأشهد.
لقد كان عليه الصلاة والسلام يحس أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة ،وهو الذي ظل ثلاثا وعشرين سنة يصل الأرض بالسماء، ويغسل أدران الجاهلية وهاهو ذا يقول للحجيج ليخلصهم من الشرك حقاً لقد أجاب الله دعاء نبيه إبراهيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم [البقرة:129].
أيها الإخوة المؤمنون: ومن وقفات الحج ومن أهميته أن سورة في القرآن موسومة بالحج كلها تتحدث عن التوحيد وتنعي على أولئك الذين يعبدون غير الله تعالى أو يدعون من دونه مالا يضرهم ولا ينفعهم، ولعل لنا وقفة مستقبلا نرى من خلال مناسك الحج توحيدا لله جل وعلا.
إخوة الإيمان: إن مما يَرِدُ على الخاطر في الحج هو بيان قدرة الله تعالى وفضله بأن جمع أولئك الناس في هذه البقعة الصغيرة فذهبت أجناسهم ولغتهم بل ولباسهم واحد وينظر الله إليهم يوم عرفة فيباهى بهم ملائكته انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا حاجين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم ولم ير أكثر عتيقا من النار يوم عرفة.
إن الحج فرصة لتعظيم الله عز وجل، وغنيمة لنيل الحسنات والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة إن الحج ليس لتعظيم فلان وفلان من الناس وكثرة الثناء على محامدهم وتعظيم قدرهم ومدح إنجازاتهم بأسلوب يثير النفوس المؤمنة، كما أنه ليس بغريب على الأذهان كيف كانت صور بعض الزعماء والآيات بزعمهم تتصدر المسيرات الغادية والرائحة في بطاح مكة ورباعها والتي يهتدون بها كل عام وكأن الحج أصبح مناظرات سياسية يقصد بها التلبيس على أناس وخداعهم، وأضاعوا بذلك الحج الذي يوحد القلوب ويصفي النفوس والفرصة لرص الصفوف التي شبعت تفككا وفرقة. إن المصيبة أننا نرى الشيعة الرافضة يعلنون البراءة من المشركين وهم يدخلون ضمن ذلك سبهم القبيح لصحابة رسول الله وعلى رأسهم الشيخان أبو بكر وعمر، فأي تناقض هذا وأي براءة تلك إنها وقفة نقفها ونحن نرى شعاراتهم التي يحاولون إعلانها ورفعها كل عام. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [آل عمران:96-97].
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه..... أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: اتقوا الله تعالى واعلموا أنه تمر بكم مواسم عظيمة تضاعف فيها الحسنات وتكفر فيها السيئات ومن هذه المواسم أيام شهر ذي الحجة فقد جمع الله فيها من الفضائل ونوع فيها من الطاعات ما لا يخفى إلا على أهل الغفلة والإعراض ففي أوله العشر المباركة التي قال عنه سبحانه وتعالى: والفجر وليال عشر [الفجر:1-2]. وروى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك شيء)). وقد شرع الله لعباده صيام هذه الأيام المباركة عدا اليوم العاشر ومما يشرع في هذه الأيام الإكثار من ذكر الله ولا سيما التكبير قال الله تعالى: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات [الحج:28]. يستحب الإكثار من ذكره تعالى من التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد وأن يجهر بذلك في الأسواق، وذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما فأين هذه السنة من واقعنا الآن كما يستحب هذه الأيام فعل الخيرات وبذل الصدقات خصوصا من لم يتوفر له الحج فإنه يستطيع بعمله الصالح إذا أخلص نيته وتابع نيته أن يعمل عملا يفضل الجهاد في سبيل الله.
ولتعلموا يا عباد الله أن بعض العلماء فضل هذه الأيام العشر على العشر الأواخر في رمضان ومن توسط فضّل أيامها على أيام العشر الأواخر وليالي العشر والأواخر على ليالي عشر ذي الحجة، فاغتنموا خيرات هذا الشهر الذي تنوعت فيه الفضائل والخيرات التي أعظمها إيقاع الحج فيه إلى بيت الله الحرام والأضحية، وهو من الأشهر الحرم حرم الله القتال فيها لوقوع الحج فيها.
(1/548)
دروس من سورة يوسف
سيرة وتاريخ
القصص
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"جمال يوسف وحسنه – تعلق امرأة العزيز بيوسف – عصمة يوسف – بين ذل المعصية وعز الطاعة – مفاسد الترف – أنواع الصبر ومراتبه "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إني ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [يوسف:22-24].
لقد نشأ يوسف الصديق عليه السلام في بيت العزيز بلغ أشده وهو في بيت العزيز أصبح شابا مكتمل الخلقة كامل العقل فآتاه الله الحكم والعلم وهذا كناية عن النبوة فقد أنعم الله عليه بهذه المزية العظمى لأنه كان أهلا لها أنعم عليه بالنبوة لأنه كان أهلا لها ولقد كانت من أعظم الأسباب لعصمته وسلامته من الذنب فبينما كان يوسف الصديق يتقلب بسبب الرق يتقلب في قعر دار الترف والفساد كان مع ذلك نورا في ديجور وأنموذجا للنقاء في مجتمع ملوث.
لقد تحقق في يوسف الصديق نوران نور الخلقة وكمالها ونور النبوة وجلالها فقد أوتي يوسف شطر الحسن [1] كما اخبر بذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أي إن الحسن كله قسم نصفين فنصف لسائر الخلق ونصف أوتيه يوسف الصديق وحده فتعلق به قلب امرأة العزيز لكنه تعلق قلب آثم ملوث بأقذار المعاصي وقاذورات الآثام لم تشاهد امرأة العزيز من حسن يوسف إلا وجها واحدا وهو الحسن الجسدي ولم تبصر من جماله إلا جانبا واحدا وهو جمال الظاهر فلما أن راودته عن نفسه ودعته إلى فعل الفحشاء تجلى أمامها الجانب الآخر من الحسن والجمال في هذا الشاب المهاب إنه حسن الباطن وجمال النفس ونقاء السريرة.
فقد كان يوسف من المحسنين أخلص عبوديته لله كان مخلصا لربه فكان مخلصا من ربه فعصمه عاصمان عاصم التقوى ومخافة الله تعالى التي تلجم اندفاع الغريزة وتضبط جموح النفس وعاصم النبوة بجلالتها وبركتها فإذا بامرأة العزيز التي أذلها سعار الشهوة فأصبحت طالبة لا مطلوبة تعرض نفسها على الصديق ولكن في مستنقع المعصية إذا بها تواجه شموخ الطاعة وعزة العبودية المخلصة لله تعالى وصلابة التقوى التي ضربت سياجها حول الصديق عليه السلام تواجه هذا كله في شخصية يوسف فإذا بهذا الشاب الرائع الحسن المكتمل الخلقة والحيوية يرفض بشموخ وعزة عرضها المهيب المحفوف بكل أسباب الفتنة والإغراء.
لقد مرت بيوسف الصديق عليه السلام حتى الآن محنتان عظيمتان وخرج من كلتا المحنتين سليما طاهرا نقيا ونجا من كلتا المحنتين جميعا.
أما المحنة الأولى فهي اضطهاد إخوته له وتآمرهم على قتله حتى ألقوه في ذلك الجب الموحش المهلك وأنجاه الله تعالى وهذه المحنة هي محنة الضراء وهي على ما فيها من قهر وعذاب جسدي ونفسي إلا أنها أهون من المحنة أخرى ألا وإنها محنة السراء فتنة الإغراء.
ففي قصر العزيز أتيحت أمام يوسف كل وسائل المتعة كانت بين يديه منقادة إليه وهذه فتنة شديدة الوطأة على الإنسان قلما يقاوم الإنسان داءها ويسلم من شرها وإغرائها فتنة السراء أشد فتكا في الناس من فتنة الشدة والضراء ولذلك كان سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه الكرام: ((ما الفقر أخشى عليكم – لا أخشى عليكم من محنة الفقر – ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم )) [2].
إن الدنيا إذا انبسطت على الناس وتوافر لهم الرخاء والعيش المترف الهنيء فإن ذلك مظنة في الغالب لغفلة القلوب عن الله مظنة لغفلة القلوب عن الله وإعراض الناس عن الله وحينئذ فإن النتائج التي تترتب على ذلك أنهم يقعون في براثن الفساد العريض يغرقون في لجج الفساد العريض لكن يوسف الصديق عليه السلام كان من المحسنين كان قمة في إيمانه كان في إيمانه محسنا والإحسان أن يعبد الله كأنه يراه وأن يستحضر في قلبه دائما أن الله سبحانه يراه هذا مقام المراقبة والمشاهدة هذا مقام يوسف الصديق عليه السلام ولذلك كوفئ على هذا الإحسان بالنبوة قال تعالى: ولما بلغ أشده أتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين [يوسف:22].
وكان يوسف الصديق عليه السلام من عباد الله المخلصين قال تعالى: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين وفي قراءة (المخلِصين) بكسر اللام ومعنى ذلك انه عليه السلام لما أخلص العبودية لربه تعالى جعله الله من عباده المخلصين أي المجتبين المصطفين الأخيار ولذلك واجهت معصية امرأة العزيز جلال الطاعة مكن يوسف اصطدم ذل الشهوة من امرأة العزيز بعزة التقوى من يوسف فرجع الشيطان خاسئا وهو حسير يجلجل في أذنيه إعلان يوسف الصديق كأنه الأذان معاذ الله أي أعوذ بالله سبحانه مما تعرضينه علي ألوذ بجنابه تعالى من شر السوء والفحشاء معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون هذه ومضة من ومضات هذا الموقف الرائع العظيم الموقف الهام من مواقف هذه القصة الشريفة قصة الصديق يوسف عليه السلام وسنكمل الحديث عن هذا الموقف في الجمعة القادمة إن شاء الله وخاصة عن قوله: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أحمد (3/148)، ومسلم في الإيمان (259).
[2] البخاري: ك: الجزيه (2988).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فعن عطاء بن أبي رباح قال: ((قال لي العباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قال: فقلت: بلى قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف ادعُ الله تعالى لي فقال لها: المصطفى صلى الله عليه وسلم: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك)) فقالت: أصبر ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أتكشف ادعُ الله ألا أتكشف فدعا لها صلى الله عليه وسلم)) رواه البخاري ومسلم. [1]
هذا النوع من الصبر نوع عظيم وهو الصبر على البلاء على ما يصيب العبد من بلاء جسدي أو نفسي فكل ما يكرب المؤمن إذا صبر عليه كان له ثوابا وأجرا قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصيب المؤمن نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عن خطاياه)) رواه البخاري [2].
ولكن أعظم من هذا النوع الصبر على طاعة الله أداء الأوامر الإلهية والصبر على ذلك وأعظم من هذا الصبر عن معاصي الله وأعظم أنواع الصبر عن المعصية صبر المتمكن عن المعصية أي التي تتوافر لديه الدواعي لفعل المعصية ثم يعصم نفسه منها ينهى نفسه عن الهوى ويصبر عن المعصية مثل الشاب القوي الشهوة القوي البنية فإن الدواعي التي تدعوه إلى اقتراف الزنا قائمة لديه فإذا ما نهى نفسه عن هذه المعصية واستعصم وعصم نفسه عن السوء والفحشاء وتعفف فهذا من أعظم الصابرين أجرا وأعظم صبرا مثلا من الشيخ الذي لا يشتهي ودواعي الزنا ليست قائمة لديه هذا الشاب هو من أعظم الصابرين أجرا إذا تعفف وعصم نفسه من السوء والفحشاء وكذلك الإمام العادل فإن أسباب السلطان بين يديه والدواعي التي تدعوه إلى التسلط والظلم قائمة لديه فإذا ما نهى نفسه عن ذلك وصبر عن الظلم وعن التسلط وأخذ نفسه بالعدل فهذا من أعظم الصابرين أجرا قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)).
فبدأ بالإمام العادل لأن في عدله وصلاحه منفعة وبركة على سائر الرعية: (( إمام عادل وشاب نشأ في طاعة الله ورجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) [3].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [4] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري: ك: المرض (5328)، ومسلم : ك: البر والصلة (2576).
[2] البخاري: ك : المرض (5713).
[3] البخاري:ك : الجماعة والإيمامة (629)، مسلم: ك: الزكاة (1031).
[4] صحيح مسلم (408).
(1/549)
دروس من سورة يوسف عليه السلام
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
القصص, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"اعتراف امرأة العزيز – خطر النفس – أصل الشر والفساد – خصائص النفس الزكية خطبة 2 : " إذا تبايعتم بالعينة " – خطر الربا وترك الجهاد – واقع المسلمين اليوم عقوبة "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فلقد قال الله تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [يوسف:24].
لقد وصلنا إلى هذا الموقف من مواقف تلك القصة القرآنية العظيمة قصة نبي الله ورسوله يوسف عليه السلام, هذا الموقف الذي لما راودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي انه لا يفلح الظالمون [يوسف:23]. وفي هذه الآية قال: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه فقد يفهم من ظاهر هذه الآية أن يوسف الصديق عليه السلام هم بأن يفعل بتلك المرأة من السوء والفحشاء مثلما همت هي أن تفعل ولكن القرآن العظيم بين لنا شهادة خمسة على براءته من ذلك وهم يوسف الصديق نفسه وامرأة العزيز نفسها وزوجها والنسوة اللاتي قطعن أيديهن والشاهد من أهلها.
أما يوسف الصديق نفسه فقد جزم ببراءة نفسه وثبت على نقائه وطهارته فقال: هي راودتني عن نفسي [يوسف:26]. وقال لما هددته امرأة العزيز بالسجن إن لم يستجب لها رب السجن أحب إليّ [يوسف:33].
وأما امرأة العزيز فاعترفت وأقرت ببراءة يوسف فقالت ولقد راودته عن نفسه فاستعصم [يوسف:32]. وقالت في موقف أخر أمام الملك: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين [يوسف:51].
أما النسوة اللاتي قطعن أيديهن فقلن عن يوسف: حاشا لله ما علمنا عليه من سوء [يوسف:51].
وأما زوج المرأة فقال مخاطباً امرأته إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين [يوسف:28-29]. فبين بكلامه هذا براءة يوسف وأن اللوث والتهمة والكيد والخطيئة في امرأته.
وأما الشاهد من أهلها فقال: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين [يوسف:26]. فوجدوا قميص يوسف قد من دبر أي شق من خلفه وذلك أنهما لما استبقا الباب يوسف وامرأة العزيز, يوسف يفر بنفسه من السوء والفحشاء وامرأة العزيز مصممة على السوء والفحشاء أمسكت بقميصه من خلفه فشقته فوجدوا قميص يوسف شق من دبر فكان ذلك من الأدلة على براءته عليه السلام, ثم شهد الله جل وعلا من فوق سبع سماوات ببراءة عبده ونبيه ورسوله يوسف الصديق فقال: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين قال المفسرون في هذه الآية شهادة من الله عز وجل ببراءة يوسف الصديق أربع مرات أولها في قوله: لنصرف عنه السوء فاللام للتوكيد والمبالغة وثانيها قوله: والفحشاء أي وكذلك لنصرف عنه الفحشاء وثالثها في قوله: إنه من عبادنا وقد وصف الله عباده بقوله: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً [الفرقان:63]. ومن أوصافهم أنهم لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون, ورابعاً قوله: المخلصين أي المصطفين المجتبين المطهرين الأخيار فيوسف من هؤلاء وفي قراءة المخلصين بكسر اللام ومعناه الذين أخلصوا عبوديتهم وعبادتهم لله تعالى, وعلى كلتا القراءتين فهذا اللفظ من أدل الألفاظ على كون يوسف منزهاً نقياً طاهراً وبهذا نعلم أن ما ذكر ببعض كتب التفسير من أن يوسف عليه السلام هم بفعل الفاحشة بل تهيأ لفعلها فجلس بين شعبها وفك سراويله ولم يمنعه من ذلك إلا أنه رأى صورة والده يعقوب علي الجدار أو ظهر له جبريل فاستحيى منه كل هذه الأخبار وأمثالها أقل ما يقال فيها أنها أكاذيب إسرائيلية فيها من قلة الأدب مع أنبياء الله ورسله ما لا يليق إلا أن يصدر من اليهود, فهذه عادة يهودية, اليهود الذين يقتلون أنبياء الله ويسبونهم ويرمونهم بالعظائم وفعل الفواحش, هذه عادة يهودية قتل الأنبياء وسب الأنبياء وسب أتباع الأنبياء وأصحاب الأنبياء فالافتراء علي يوسف الصديق نبي الله ورسوله ليس غريباً منهم فقد افتروا علي سائر أنبياء الله ورسله في التوراة المحرفة, نسبوا إلى نبي الله لوط أنه شرب الخمر وزنا بابنتيه وليس العجب من صنيع اليهود هذا من افترائهم على أنبياء الله ورسله وتحريفهم لكتبه ولكن العجب ممن سود تلك الصحائف صحائف التفاسير بمثل هذه الأكاذيب الإسرائيلية, فيوسف عليه السلام بريء من هذه التهمة فإذا قيل فما معنى قوله: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه قلنا إن ذلك له معنيان صحيحان لائقان بمقام يوسف الصديق عليه السلام.
أولهما: أن الهم لم يقع منه أصلاً عليه السلام لوجود المانع وهو البرهان من ربه فالآية تنفي وقوع الهم من يوسف لوجود البرهان وهذا أسلوب عربي قرآني معروف ونظيره قوله تعالى: إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها [القصص:10]. في قصة أم موسى عليه السلام لما قذفت وليدها في اليم والتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ثم رقق الله قلب امرأة فرعون وقالت لفرعون قرة عين لي ولك [القصص:9]. ثم حرم الله عليه المراضع ثم جاءت أخته فاقترحت على آل فرعون أن تأتيهم بامرأة ترضعه فجاءت بأمه فلما تناولته لترضعه من شدة شفقتها وشوقها إلى ابنها ورضيعها كادت تكشف أمرها وأنها أمه إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها أي لم يحصل الإبداء منها لوجود الربط على قلبها.
والمعنى الثاني أن الهم وقع من يوسف عليه السلام ولكن معناه الخاطر الذي يقع في النفس ولقد بادر يوسف عليه السلام بطرده من نفسه لعلو درجته في مقام الإحسان ألم يصفه ربه بأنه من المحسنين حين قال: ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين [القصص:14]. والمحسن هو الذي يستحضر في قلبه دائماً عظمة الله جل وعلا وأنه يراه ويراقبه ويعلم سره ونجواه, فيوسف الصديق عليه السلام خطر في نفسه الخاطر بحكم بشريته وغريزته ولكن هذا الخاطر لم يتحول إلى فعل ولا إلى بدايات الفعل ولا حتى إلى التهيؤ للفعل فإن المقام العظيم مقام المشاهدة والمراقبة الذي كان هو مقام يوسف عليه السلام منعه من ذلك فاستعصم من السوء والفحشاء, منعه هذا المقام من ذلك ومن أبسط ما نقل في وصف هذا الحال حال يوسف عليه السلام في هذا المقام ما ذكره الإمام القرطبي أن إماماً من الأئمة السابقين ذكر في حلقة درسه يوماً قصة يوسف وذكر تبرئة يوسف مما نسب إليه من المكروه فقام رجل من أخر الحلقة من عوام الناس فقال : يا شيخ فإذن يوسف هم وما تم. قال الشيخ: نعم لأن العناية كانت ثم. أي وقع الهم منه والخاطر ولكن لم يتم أي لم يتحول إلى فعل ولا إلى شروع للفعل لماذا؟ لأن عناية الله ورعايته وحمايته لعبده هذا المخلص المصطفى المجتبى المطهر يوسف الصديق عليه السلام كانت حاضرة وحمت يوسف من الوقوع في السوء والفحشاء والإنسان لا يؤاخذ على خاطر النفس ولا على حديث النفس قال سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: ((لقد عفا الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها)) [1].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من هم بسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة)) [2] ويوسف الصديق عليه السلام منقبته العظمى وفضله المبين في هذا المقام وفي هذا الموقف هو أنه استعصم من السوء والفحشاء مع وجود الدواعي وتوافرها لديه فهو بشر وهو شاب جميل بل لقد أوتي شطر الحسن كما ذكرنا سابقاً أي أن الحسن والجمال قسم نصفين فنصف لسائر الخلق ونصف ليوسف عليه السلام والغريزة فيه قوية وهو مع ذلك شاب أعزب لم يتزوج بعد وهو مع ذلك في الظاهر عبد مملوك والعادة في الناس أن العبد يستبيح فعل ما لا يستبيحه الحر وإن كان يوسف في الحقيقة حراً ولكنه كان في الظاهر عبداً مملوكاً للعزيز وهو مع ذلك غريب بعيد عن أهله وعن عشيرته والعادة في الناس أن الإنسان يستحيي وهو بين أهله وعشيرته أن يفعل ما يفعله وهو بعيد عنهم ومع ذلك أيضاً كانت هي الطالبة الساعية حتى أنها هيأت كل الأسباب لتغريه وتفتنه حتى غلقت الأبواب وما غلقت الأبواب إلا وقد هيأت قبل ذلك كل ما يلزم في ظنها الآثم لإغراء يوسف بفعل الفحشاء ومع هذا كله استعصم ذلك الشاب الجميل الممتلئ حيوية وقوة وغريزة وترفع بنفسه أن يقع في مستنقع المعصية الآثم وعاذ بجناب ربه فأعاذه ربه وحماه واصطفاه كافأه على ذلك فهو أهل لما كافأه به ربه, كافأه ربه على ذلك بالتمكين في الأرض, جعله على خزائن الأرض وملكه تلك الناحية وجعل له الحكم والعلم وجمعه بأحبته بأبويه واخوته وفوق ذلك كله أنعم عليه بالنبوة والرسالة, كل ذلك جزاء على إحسانه واستعصامه وتعففه ولجوئه إلى ربه عز وجل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري في الطلاق (4968).
[2] البخاري: ك: الرقاق (6126).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ((كان إذا أتاه أمر يسره قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا أتاه أمر يسوؤه قال الحمد لله على كل حال)) [1] , الصبر حقيقته الرضا بالله تعالى بكل ما يفعله سبحانه, الرضا بقضائه وقدره والرضا بأوامره ونواهيه وشرعه, والرضا وإن كان من أعمال القلوب فإن كماله الحمد على السراء والضراء, روي في الحديث أن أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء [2] وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد الحمادين حامل لواء الحمد يوم القيامة وأمته هم في مقدمة الحمادين ولذلك هم أول من يدخل الجنة يحمدون ربهم على السراء والضراء وللحمد مشهدان المشهد الأول أن يعلم العبد أن الله تبارك وتعالى مستوجب مستحق للحمد لذاته ولنفسه فقد خلق سبحانه وتعالى كل شيء فأحسن خلقه وصنع كل شيء فأتقن صنعه فهو الحكيم في أفعاله العليم بعباده العليم بكل شيء والمشهد الثاني أن يعلم العبد أن اختيار الله تعالى له هو خير له من اختياره لنفسه ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده ما يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) [3] , فعليكم أيها المسلمون بالصبر على السراء والضراء ونحن اليوم نمر بمحنة وفتن جسام ومحنة عظيمة أحاطت بالمسلمين والمؤمنين هذه الفتنة التي تسبب بها هذا الطاغية العراقي البعثي الكافر الملحد الذي انتهك حرمات المسلمين وسفك دمائهم وشغلهم عن عدوهم الصهيوني وشق صفوفهم وقدم خدمة جلى لأعداء الإسلام والمسلمين ما كانوا يحلمون بها, والله لا ينبغي أن يشك متبصر أن هذا الطاغية وأمثاله إنما هم أذناب لأعداء الإسلام والمسلمين ينفذون مخططاتهم لشق صفوف المسلمين وإضعاف شوكتهم واشغالهم عن عدوهم الحقيقي العدو الصهيوني الذي استباح المسجد الأقصى والأرض المباركة حوله ولكن من أعجب ما نشاهد اليوم من هذه الفتنة أن هذا البعثي الملحد العلماني الكافر يريد أن يستخدم الإسلام سلاحاً لمحاربة الإسلام والمسلمين وهذا والله بلاء عظيم, هذا من الضراء فالله تعالى من سننه أنه يبتلي عباده المؤمنين بالضراء كما يبتليهم بالسراء لعلهم يتضرعون ويرجعون إليه بعد أن كانوا معرضين, بعد أن غرقوا في المعاصي والذنوب فإن من رحمة الله بعباده إذا رآهم معرضين غافلين غارقين في المعاصي والذنوب أنه ينبههم ويبتليهم بالشدائد والمحن والأعداء لعلهم يتضرعون ولذلك فإن من أوجب الواجبات علينا في مثل هذه المحن أن نلح في الدعاء ونلج في الرجاء ونتضرع بين يديه سبحانه ونتوب إليه من ذنوبنا ومعاصينا فإن الخوف والله علينا من معاصينا لا من عدونا, ولقد كان من عادة سلف هذه الأمة أنهم دائماً يلجؤون إلى الله، وهم في الشدائد والمحن أكثر لجوءً إليه سبحانه واستغاثة به وتضرعاً إليه, هذا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو خير الخلق وأكرم الخلق وإمام المرسلين حبيب الرحمن وخليله ومع ذلك فعندما التقى الفريقان المؤمنون أصحابه والمشركون من قريش عندما التقى الفريقان في بدر قام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه يلح بالدعاء ويلج بالرجاء والتضرع إلى الله قائلاً: ((يا رب أنجز وعدك الذي وعدتني يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض)) [4] يشفق رسول الله ويخاف علي تلك الثلة المؤمنة خير هذه الأمة بعد رسولها من أن تهلك فماذا نصنع نحن وكيف لا نلجأ لربنا؟ كيف لا نتوب إليه ونحن غارقون في المعاصي والذنوب والغفلة والإعراض عن ربنا؟ الجؤوا إلى ربكم أيها المسلمون وتضرعوا بين يديه وتوبوا إليه فإذا صدقتم في ذلك فلا تخشوا أحداً أبداً من الخلق ولو اجتمع الخلق عليكم أجمعين.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [5] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] الحاكم (1/499) وصححه.
[2] مسند أحمد (4/434)، وسنن الدارمي (5، 7، 8).
[3] مسلم: الزهد (2999).
[4] أخرجه البخاري بنحوه: ك: المغازي (3737).
[5] صحيح مسلم ((408).
(1/550)
حماية النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد
التوحيد
أهمية التوحيد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"الغاية من الرسالة – حرص الرسول على جناب التوحيد – وسائله في حماية التوحيد : 1- النهي عن إطرائه 2- إظهار العبودية لله 3- اجتناب المدح – المدح الشرعي للرسول "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تبارك وتعالى: فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون [البقرة:22] الأنداد جمع ند والند هو المثل والنظير.
ومعنى أن تجعل لله أندادًا أن تصرف العبادة أو شيئًا منها لغيره.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: أي لا تشركوا بالله شيئًا من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أن ربكم لا يرزقكم غيره، وأن الذي يدعوكم إليه رسوله من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه وزاد بن عباس رضي الله عنهما هذه الآية تفسيرًا وتفصيلاً فقال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النملة على الصفاء السوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول والله وحياتك يا فلانة وحياتي.
أو تقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص أو لولا البط في الدار لأتانا اللصوص.
أو هو كقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشاء فلان. ولولا الله وفلان لا تجعل فيها فلانًا هذا كله به شرك. انتهى كلامه رضي الله عنه.
كما رواه بن أبي حاتم ودل هذا الكلام من ابن عباس رضي الله عنهما أنه يجب على المؤمن الموحد أن يحتاط ويحترز في عباراته وكلامه الذي يتكلم به خشية من الوقوع في الشرك وهو لا يدري.
دل كلام ابن عباس رضي الله عنهما على أن كل مؤمن موحد أن يحترز ويحتاط في كلامه خشية من الوقوع في الشرك، الشرك ليس هو فقط ما يفعله عباد الأصنام والأوثان من صرف العبادة إلى أوثانهم وأصنامهم ذلك هو الشرك الأكبر ذلك أن الشرك أنواع ومراتب ودرجات أكثر من هذه المراتب وهذا النوع وهذه الدرجة تخفى على الناس بل هو أخفى من دبيب النملة على الصخرة الصماء في ظلمات الليل كما عبر ابن عباس رضي الله عنهما وإنما أراد بهذا التعبير تصوير شدة خفاء الشرك على الناس فإن الشرك أخفى من دبيب النملة على الصخرة السوداء في ظلمة الليل.
والتوحيد جوهره أن تؤمن بأن الربوبية والألوهية لله وحده فتوحده سبحانه بجميع أنواع العبادة ومن أعظم أنواع العبادة تعظيم الرب جل وعلا.
ومن أهم أساليب التعظيم القسم والحلف ولذلك لا يجوز لك أن تحلف إلا بالله لا يحل لك أن تقسم إلا بالله فإذا أقسمت بغيره كائنًا من كان فقد وقعت في الشرك. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :لأن أحلف بالله كاذبًا أحبُّ إلىّ من أن أحلف بغيره صادقًا.
ومعنى كلامه هذا أن الحلف بالله كذبًا كبيرة من الكبائر يأثم مرتكبها إثمًا عظيمًا، أما الحلف بغيره ولو كان صادقًا فإنه شرك والشرك أعظم ذنبًا من الكبيرة ولو كان شركًا أصغر فإن الحلف والأقسام بغير الله شرك أصغر أو كفرٌ أصغر لا يخرج المؤمن بارتكابه من ملة التوحيد.
لا يخرج بالحلف بغير الله من ملة التوحيد فقول عمر فقد كفر أو أشرك أي شركًا أصغر أو كفرًا أصغر لكن المؤمن بارتكابه ذلك الشرك يكون قد اقترف ذنبًا عظيمًا هو أعظم عند الله من الكبائر وهكذا في مجال المشيئة والقدرة، المؤمن الموحد يعلم أن المشيئة والقدرة كلها بيد الله وحده وأما المخلوق فهو وإن كانت له مشيئة خاصة لائقة به وقدرة خاصة لائقة به إلا أن مشيئة المخلوق وقدرته هي تحت مشيئة وقدرة الخالق سبحانه وتعالى، لا يستطيع المخلوق أن يستقل بمشيئته وقدرته ولذلك فعلى المؤمن الموحد أن يحترز في التعبير في هذا المقام فيستخدم لفظة ثم يقول ما شاء الله ثم شاء فلان، أو لولا الله ثم فلان. فيكون بذلك قد رتب الأمر ترتيبًا صحيحًا سليمًا مستقيمًا فمشيئة الله أولاً وقدرة الله أولاً ثم تأتي مشيئة المخلوق وقدرة المخلوق تحت ظلال مشيئة الله وقدرته سبحانه وتعالى.
أما لو استخدمت الواو فقلت ما شاء الله وفلان أو لولا الله وفلان فإنك بذلك تكون قد سوّيت بين الخالق والمخلوق لأن حرف الواو بخلاف ثم، ثم تفيد الترتيب والأولوية وأما الواو فلا تفيد ترتيبًا تفيد مطلق الجمع فتكون بذلك قد سويت بين الخالق والمخلوق.
سوّيت بين مشيئة الخالق والمخلوق، سوّيت بين قدرة الخالق وقدرة المخلوق هذا في ظاهر العبارة وإن كنت لا تقصد ذلك ومع ذلك تقع في الشرك وإن كنت لا تقصده.
ولذلك فإن النبي لما قال له الرجل: "ما شاء الله وشئت" قال : ((أجعلتني لله ندًا)) تسوي بين مشيئتي وبين مشيئة الرب تبارك وتعالى، تجعلني مثيله ونظيره، مثله في المشيئة والقدرة. قل: ((ما شاء الله وحده أو كما قال )) [1].
وقال في مقام آخر: ((لا تقولوا ما شاء الله وفلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان)) [2].
وهكذا فإن كثيرًا من الناس يقع في ألفاظ لا يتنبهون لها، يقعون في عبارات لا يتنبهون لها وهي فيهم شرك.
فقد يقول القائل لولا جهود رجال الأمن لكثرت الجرائم وانقطعت السبل أو يقول القائل لولا فلان لفسدت الأحوال ولأصابنا العنت والحرج أو نجوز لك من العبارات التي توهم في ظاهرها أن المخلوق يستقل في الفعل والتأثير، أو توهم في ظاهرها إسناد الفعل للمخلوق بينما حقه إسناده وإضافته إلى الخالق تبارك وتعالى.
فعلى المؤمن الموحد أن يحترز في كلامه يحتاط في عباراته فيقول: لولا الله عز وجل ثم رجال الأمن، أو يقول لولا أن الله وفق رجال الأمن أو لولا أن الله سخر فلانًا لفسدت الأحوال وأصابنا الحرج والعنت فيسلم بذلك من غائلة الوقوع في الشرك الذي هو أخفى من دبيب النملة في الصخرة السوداء في الليلة الظلماء. كما عبر بذلك عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة رضي الله عنهما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر اله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (1/214، 283، 347).
[2] مسند أحمد (5/384، 394، 398) ، سنن أبي داود (4980).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: عن أسماء رضي الله عنها أن امرأةً سألت النبي فقال: إن ابنتي أصابتها الحصبة فتمزق شعرها وإني زوجتها أفأصل فيه. فقال : ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) رواه البخاري [1] ومسلم [2].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله : ((لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)) متفق عليه [3].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)).
فقال امرأة له في ذلك: أي سألته عن سبب لعنه هؤلاء فقال رضي الله عنه: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله [4].
أما الواصلة: فهي التي تصل شعرها بشعر غيرها والمستوصلة التي تطلب ذلك ويُفعل لها.
ومن ذلك ما يسمونه اليوم بالباروكة وأما الواشمة فهي التي تغرز الإبرة في يدها أو في وجهها وتحشو مكانها بالكحل أو المواد أو نحوه، والمستوشمة هي التي تطلب ذلك فيُفعل لها أو يُعمل فيها، والنامصة التي تنتف الشعر من حاجبيها لترققهما، والمتنمصة من تطلب ذلك ويُعمل فيها، والمتفلجات للحسن اللواتي يفرقن ما بين أسنانهن بالبرد يبتغين في ذلك الزينة.
كل هؤلاء، كل من فعلت شيئًا من هذه الأمور وهي من أمور الزينة وأنواعها فهي ملعونة على لسان رسول الله.
ومن الحكمة في تحريم هذه الأنواع من أنواع الزينة ما فيها من التزوير والتفليس وما فيها من التشويه والتغيير للخلقة الطبيعة التي خلقها الرب عز وجل.
فالمرأة المسلمة وإن كان مطلوب منها شرعًا أن تتزين لزوجها فإن عليها أن تتزين بالأنواع المباحة المشروعة من الزينة وأن تحذر من هذه الأمور التي لعن رسول الله من تفعلها.
أن تحذر من هذه الأمور التي لعن رسول الله النساء التي يفعلنها فالمرأة المسلمة نعم عليها أن تتزين لزوجها لا لغيره كما تفعله بعض النساء إذا خرجن من البيوت خرجن في أكمل زينة وإذا كن في البيوت عند أزواجهن كن في أسوأ حال.
على المرأة المسلمة أن تتزين لزوجها وأن تتجنب الزينة عند خروجها لكن عليها أن تجتنب هذه الأمور التي ذكرها رسول الله.
والدليل على أن من حكمة تحريم هذه الأمور هو ما فيها من التزوير والتدليس ما رواه البخاري ومسلم عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال: (قدم معاوية رضي الله عنه المدينة فخطبنا وفي يده كبة من شعر فقال: ما كنت أظن أن أحدًا يفعل هذا إلا اليهود وقد بلغ رسول الله فسماه الزور) [5].
وفي رواية لهما أنه قال رضي الله عنه: "إن هذا إنما أحدثتم من سيئ الزينة من سيئ الزي وقد نهى عن الزور - أي عن الكذب والتدليس -" [6] والنمص كما ذكرنا وبينا هو نتف الشعر من الحاجبين لترقيقهما ولا يدخل فيه نتف المرأة للشعر الذي ينبت في وجهها أو في جسدها في المواضع غير المعتادة كأن ينبت شعر في خديها أو في شاربها أو ذقنها أو في ساعديها أو في ساقيها فلها أن تنتفه ولا حرج عليها.
والتحريم في الحديث هو مقصور على الأنواع المذكورة فيه لا يُقاس عليه غيره، فليس لقائل يقول لا يحل للمرأة أن ترسم جفنيها بالقلم أو تظلل فوق عينيها بالألوان أو تحمر خديها قياسًا على ما ذُكر في الحديث بل المحرم هو المذكور في الحديث فحسب لا تزيد عليه أمرًا آخر إلا بدليل آخر لأن الأصل في الأشياء الإباحة.
والمقصود أن النبي المصطفى يوجه النساء المؤمنات المسلمات إلى التزين لأزواجهن ولكن قدر إمكانهم بما أباح الله ورسوله لهن وعليهن أن يجتنبن الزور والتزوير والتدليس والتغيير لخلق الله فيجتنبن النمص ويجتنبن الوصل والوشم والتفلج للحسن.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [7].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح البخاري (5941).
[2] صحيح مسلم (2122).
[3] صحيح البخاري (5942)، صحيح مسلم (2124).
[4] صحيح البخاري (5943)، صحيح مسلم (2125).
[5] صحيح البخاري (5938)، صحيح مسلم (2127).
[6] هذا اللفظ ليس في البخاري ، وإنما عند مسلم فقط (2127).
[7] مسلم (408).
(1/551)
حق الزوجة على زوجها
الأسرة والمجتمع, التوحيد
أهمية التوحيد, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوحيد حق الله على العباد 2- العبودية منزلة كل الخلق ومنهم الأنبياء 3- أدب المؤمن
مع ربه 4- البعد عن الغلو والمدح المُفرط 5- موقف المسلم من المدح 6- الطاعة حق للزوج
على زوجته
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليدعو الناس إلى التوحيد ليدعوهم إلى أن يحققوا العبودية لله جل جلاله , وإذا وحد العبد ربه فقد حقق العبودية له سبحانه وكلما حقق العبد عبوديته لله كلما كانت منزلته أعلى وأعظم عند الله ولذلك مدح الرب نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم بذلك ومدحه بوصف العبودية في أعظم المناسبات يذكر الرب نبيه ومصطفاه بهذه الصفة لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بواجب الدعوة إلي التوحيد رغم معارضة المشركين وتألبهم عليه , ذكر الرب ذلك في كتابه فقال وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً وعبد الله أي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم , وعندما ذكر مقام نبوته صلى الله عليه وسلم وتنزل الوحي عليه قال فأوحى إلى عبده ما أوحى , وعندما ذكر تنزل القرآن العظيم عليه قال تبارك الذي نزل الفرقان على عبده وقال الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب , فإذن الرب عز وجل يمدح نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية لأن هذه الصفة هي سر الكمال في شخصه صلى الله عليه وسلم , ومن كمال حرصه صلى الله عليه وسلم على تحقيق العبودية لربه كان حرصه الشديد على حماية جناب التوحيد فنهانا صلى الله عليه وسلم على أن نطريه كما أطرت النصارى نبيهم عيسى ابن مريم عليه السلام أي نهانا عن الغلو في مدحه والمبالغة في وصفه كما يصنعه المداحون , أعظم وصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومدح له كما علمنا ربنا وكما أرشدنا إليه هو نفسه صلى الله عليه وسلم هو مقام العبودية مع مقام النبوة والرسالة فإذا قلت عبد الله ورسوله فقد جمعت له صلى الله عليه وسلم بين المقامين , مقام العبودية ومقام الرسالة.
الدرس الثاني : من هذا التوجيه النبوي أن علي كل مؤمن موحد أن يتأدب مع الله عز وجل وأن يظهر عبوديته لله وأن يظهر تواضعه لله عز وجل فالمؤمن الموحد يحرص دائماً علي أن يظهر عبوديته للرب عز وجل وتواضعه بين يديه ويظهر افتقاره إليه وذله وانكساره بين يديه سبحانه وتعالى , لا يحق لأحد من الخلق مهما علا شأنه , مهما أوتي من قوة وجاه وسلطان أن يظهر شيئاً من الكبرياء والعظمة أو يظهر الخيلاء والجلالة , لا يحق لأحد من الخلق أن يظهر شيئاً من الكبرياء والعظمة فانهما من صفات الله جل جلاله لا يشركه فيهما أحد , يقول الرب عز وجل في الحديث القدسي (( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني إياهما قصمته )) أي أهلكته وقضيت عليه. أما المؤمن الموحد فهو كما قلنا يظهر دائماً عبوديته لله وافتقاره إليه وذله وانكساره بين يديه , وسيد المؤمنين الموحدين عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كان من أحرص الناس على ذلك , على إظهار عبوديته لله وافتقاره إليه وإظهار ذله وانكساره بين يديه ولهذا حرص حرصاً شديداً علي أن تعرف أمته مقامه الحقيقي صلى الله عليه وسلم فلا تغلُ في مدحه ولا تبالغ في وصفه , إذا نظرت إلى مواقفه صلى الله عليه وسلم وإلى كلامه تجد حرصه الشديد علي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم (( أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن تنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل )) , فمن غلا في مدحه وبالغ في وصفه حتى خرج عن حد الحق والاعتدال فقد عانده صلى الله عليه وسلم وارتكب ما يكره وينهى عنه ويحرمه , وليس في ذلك أي أدب معه صلى الله عليه وسلم ولا هو دليل على محبته صلى الله عليه وسلم , الأدب كل الأدب في الامتثال وأعظم دليل على محبته صلى الله عليه وسلم هو طاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر صلى الله عليه وسلم , فمن مقتضيات محبته أن تفعل محبوباته وتجتنب مكروهاته صلى الله عليه وسلم.
الدرس الثالث : أن على كل مؤمن موحد تأدباً مع الرب عز وجل وتحقيقاً لمكان العبودية لله جل جلاله أن يمتنع على المدح ويزجر المداحين بل وأن يحثو في وجوههم التراب كما أمر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم , فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو أحق الناس بالمدح والثناء قد نهى أمته من الغلو والإسراف في مدحه والثناء عليه فغيره من باب أولى , وليس المنهي عنه هو مطلق المدح والثناء إنما المنهي عنه هو الغلو والإفراط والمدح والثناء بما هو ليس أهل له والمبالغة في ذلك ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن نحثو التراب في وجوه المداحين وليس في وجه كل مادح , والمداح صيغة مبالغة تدل علي أمرين , تدل على من كانت تلك عادته المدح والمبالغة في المدح عادته ودأبه دائماً وتدل على الغلو والإفراط في المدح بما هو خارج عن حق العدل والاعتدال , وهاتان الصفتان من صفات المنافقين المداهنين في كل المجتمعات الذين لا ينصحون للإنسان فيبصرونه بالحقائق ولكن يخادعونه بالغلو في مدحه والإفراط في الثناء عليه حتى يعموا بصره ويشغلونه عن حقيقة نفسه وعن حقائق الأمور من حوله , فما أجدر بهؤلاء أن يحثى في وجوههم التراب وتغلق دونهم الأبواب.
المؤمن الموحد من كمال تواضعه للرب عز وجل وإظهار العبودية له لا يقبل المدح والثناء من المداحين من المنافقين والمداهنين ولكن لا يدخل في الحد المنهي عنه , مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه بما هو أهله وإبراز ظواهر القدوة والأسوة والتكريم في شخصه الشريف صلى الله عليه وسلم فقد مدحه ربه عز وجل في القرآن وأثني عليه , مدحه بحسن الخلق ومدحه بشفقته علي أمته ورأفته بها وحرصه على هدايتها صلى الله عليه وسلم , ومدحه أصحابه بين يديه شعراً ونثراً فلم ينههم صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن في مدحهم له غلو ولا إفراط , مدحه حسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ولكن لكي تعرف الحد بين الحد المباح المشروع وبين حد الغلو والإفراط اسمع قول كعب بن زهير في وصفه صلى الله عليه وسلم ومدحه حين قال :
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
مدحه بأعظم معجزة أوتيها صلى الله عليه وسلم وهي القرآن , قارن بين هذا وبين قول القائل :
و إن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
الدنيا والآخرة والجنة والنعيم والصراط كل ذلك من جود المصطفى صلى الله عليه وسلم ماذا بقي للرب جل جلاله إذن ؟, اللوح الذي فيه كل ما كان وما سيكون وما هو سيكون كائن يوم القيامة هو من بعض علوم المصطفى صلى الله عليه وسلم ماذا بقي إذن لعلام الغيوب ؟ , هذا القائل كأنه قال محمد هو الله جل جلاله سواء قصد ذلك أم لم يقصد , هذا هو الغلو الذي خاف محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على أمته منه , أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى أن تجيء إليه إلا باتت والذي في السماء غاضب عليها )) متفق عليه. وفي رواية (( إذا دعا رجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه فبات وهو عليها غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح )). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً وذكر منهم امرأة بات زوجها عليها غضبان )). وروي مثله عن أبي أمامة رضي الله عنه وقال الترمذي حديث حسن غريب , هذا كله يبين عظم حق الزوج على زوجته وأنه يجب عليها طاعته في المعروف وتحرص على تلبية احتياجاته الشرعية خاصة منها ما يتعلق بفراشه فإن الزوج بحاجة إليها لتعينه على إعفافه وإحصانه خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن وعوامل الفساد والانحلال والإغراء , فإذا ما عصت الزوجة زوجها في المعروف وأبت عليه حقه المشروع فإن في إسخاطه في ذلك إسخاط لرب العالمين تبيت والملائكة تلعنها وصلاتها إن كانت مصلية لا ترفع إلى ربها عز وجل , فعلى المرأة المؤمنة الصالحة أن تراعي حق زوجها وأن تطيعه في المعروف وأن تحرص على تلبية احتياجاته الشرعية , أن تراقب ذلك من نفسها وأن تعينه على العفاف والإحصان هذا إذا كان الزوج ممن يعرف حدود الله عز وجل , أما إذا كان يعرف حدود الله وطلب منها أمراً محرماً فلا طاعة له ولا كرامة إنما الطاعة في المعروف أي في ما أباحه الشرع وجعله من حقوق الزوج. وقال صلى الله عليه وسلم في حق الزوج على زوجته (( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمر الزوجة أن تسجد زوجها )) لكنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك لأنه لا يحل لأحد أن يضع جبهته علي الأرض وأن يسجد إلا لرب العالمين , لكنه بهذا القول الشريف الكريم أكد حق الزوج على زوجته فيا له من حق عظيم.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا بن آدم أحبب ما شئت فانك مفارقه وأعمل ما شئت فانك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم (( من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا )) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيتك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/552)
القرآن العظيم والإنفاق
غير محدد
محمد بن منصور
برج أم نايل
21/9/1419
محمد بن منصور
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، والتمسك بكتابه فهو حبل الله المتين، من استمسك به نجا ومن تركه ضل ولم تجد له وليا مرشدا قال الله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
إن رمضان هو شهر القرآن، لقد أنزله الله تبارك وتعالى إيذانا بإنبثاق نور جديد للبشرية التي عاشت ردحا من الزمان بعيدة عن عقيدة التوحيد وملة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لقد كان العربي قبل نزول القرآن كتل لحم تسير في الصحراء لا هم له إلا شويهاته يعيش من أجلها ويموت في سبيلها، لقد هانت عليه نفسه لدرجة أنه يصنع صنما من تمر يعبده من دون الله فإذا جاع أكله.
وفي الحديث عن عياض بن حمار : ((إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) حينئذ نزل القرآن، ليهدي تلك القلوب التائهة، والعقول الحائرة، والنفوس المريضة، لقد حول هذا القرآن أولئك الأعراب من رعاة الغنم إلى قادة للأمم، فكم هي نعمة الله علينا سبحانه وتعالى: لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل ولفي ضلال مبين ، ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.
وقد وصفه الله الذي أنزله على عباده بصفات التزكية والتعظيم، ونزهة عن كل نقص وعيب فوصفه سبحانه بأنه نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وهو شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وهو تذكرة لمن يخشى الله، وبشارة لأولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجر كبيرا، والذين ما أن يستمعوا إلى كتاب ربهم وكلامه حتى تقشعر له جلودهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، كما أنه مبارك وعجيب يهدي إلى الرشد، ولو أنزل على الجبال الصم الصلاب، لرأيتها خاشعة متصدعة من خشية رب الأرباب سبحانه إنه كتاب لا يمكن أن يتطرق إليه الباطل ولا يمكن للإنس والجن فضلا عن أن يكون أحدهما أن يأتي بمثل هذا القرآن.
وإن كتابا يحمل كل هذه الصفات والنعوت لجدير أن يكون له من التأثير والنفاذ إلى القلوب ما لا يملكه أي كتاب ولا أي كلام حتى الذين كانوا يقعدون بكل صراط ويصدون عن سبيل الله لم يستطيعوا إنكار إعجابهم بالقران الكريم روى ابن إسحاق في السيرة النبوية أن أبا سفيان قبل إسلامه وأبا جهل بن هشام المخزومي، والأخنس بن شريق خرجوا ذات ليلة متفرقين إلى غير موعد إلى حيث يستمعون من رسول الله وهو يتلو القرآن في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، ولا أحد منهم يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر، تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض، لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة التالية، عاد كل منهم إلى مجلسه لا يدري بمكان صاحبه فباتوا يستمعون للرسول حتى طلع الفجر، فتفرقوا، وجمعهم الطريق فتلاوموا وانصرفوا على ألا يعودوا، لكنهم عادوا فتسللوا في الليلة الثالثة وباتوا يستمعون إلى القرآن.
لقد أدهشهم كلام الله ولم يستطيعوا أن يعتقوا أنفسهم من أسره.
أما الصحابة رضوان الله عليهم فلهم شأن آخر مع كتاب الله عز وجل، لقد تلقفوا القرآن تلقف الإبل إليهم يقرأونه ويتدبرونه ويعملون به، عن أبي رجاء قال: رأيت ابن عباس رضي الله عنهما وتحت عينيه مثل الشراك البالي من الدموع، وعن أبي صالح قال: قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق فجعلوا يقرؤون القرآن ويبكون، فقال أبو بكر الصديق : هكذا كنا.
وعن عمر بن الخطاب : أنه صلى بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف، فبكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف.
إن الحياة مع القرآن وتدبره نعمة لا يعرفها إلا أولئك الذين تذوقوها، نسأل الله أن يجعلنا منهم: إنها نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
إنك وأنت تتجول في كتاب الله الكريم من آية إلى آية ومن سورة إلى سورة تعيش مشاهد وأحداثا، فتقرأ: إن الله سميع بصير وتقرأ: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة وأنه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منا وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، فإن المسلم وهو يسمع هذه الآيات يصبح في قلبه حساسية تجاه رقابة الله لأعماله الظاهرة والباطنة، فيحرص على نظافة هذه الأعمال والمشاعر ليراها الله نظيفة فيرضى عنها ويثيب عليها.
وحيث يقرأ: هو الرزاق ذو القوة المتين ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
حينئذ لم يعد القلق على الرزق يشغلهم ولم يعد يحس حين يتعرض لأي أذى أو اضطهاد أن البشر هم الذين يتصرفون في رزقه أو قوته أو أمنه أو راحته.
إننا نحن المسلمين أحوج إلى تدبر القرآن وتدارسه وتعليمه أبناءنا، إنك تفرح وأنت تسمع أن أسرة من الأسر في هذا البلد الأب يحفظ القرآن، وثلاث أبنائه يحفظون القرآن، وثلاث من البنات كذلك وبقية الأولاد يحفظون الجزء ما بين الرابع والخامس عشر إن الكل يتمنى أن لو كان أبناؤه بهذه المثابة وأسرته كهذه الأسرة، خير من أسرة أمام الشاشة بالساعات الطوال حتى إذا ما جاء القرآن رأيتهم يتأففون، وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون وقد يبلغ البعض هجر سماع القرآن الكريم وقراءته، أو هجر العمل به، أو هجر تحكيمه أو التحاكم إليه أو هجر الاستشفاء والتداوي به من أمراض القلوب وأدوائها.
وهذا كله داخل في شكوى الرسول من هجر القرآن الكريم: وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذ هذا القرآن مهجورا.
أخي: أيها المسافرة في هذه الحياة، لقد أدرك الكفار أن عزة المسلمين في التمسك بهذا القرآن، فبدأوا ينفثون سمومهم ليجعلوا منه أثرا رجعيا متخلفا، أو لجعله رمزا فقط لا يعمل به، ولا تنفذ توجيهاته: يقول غلادستون رئيس وزراء بريطانيا سابقا: ما دام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق.
ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر : إننا لن ننتصر على الجزائريين ماداموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا يا حي يا قيوم أقول قول هذا..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
القائل: ((ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال : ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله باب فقر.. وأحدثكم لأربعة نفر: بعد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا هو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء)).
أما بعد:
فإن الإنفاق سبيل المؤمنين المحلفين بالقران وعدهم الله جنة عرضها السماوات والأرض كما قال تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء.
وعن أبي ذر قال : انتهيت إلى النبي وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: ((هم الأخسرون ورب الكعبة قال : فجئت حتى جلست فلم اتقاءّّ حتى قمت فقلت يا رسول الله: فداك أبي وأمي من هم؟ قال هم الأكثرين أموالا إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل هم))، وجاء في الحديث أنه: ((ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الأخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا)).
والمسلم موعود بالخلف ممن إنه من رب العالمين قال تعالى: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وقال : ((ما نقصت صدقة من مال)).
وقال : ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين، قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي)) رواه مسلم.
أخي الكريم: يا من علمناه باذلا ماله في الخير، هل تذكرت معنى حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وفيه: ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )) ، أخي الكريم، لقد جنى الكفار أموالا طائلة لنشر دينهم ومبادئهم، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((بيننا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة أسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة (أو هي الأرض التي بها حجارة سود كثيرة ) فإذا شرجة من تلك الشراج (الشرجة : مسايل الماء في الحرار) قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم ي حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له يا عبد الله، ما اسمك، قال : فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له، يا عبد الله لم تسألني عن اسمي، فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها، قال : أما إذا قلت هذا، فإني نظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وأكل أنا وعيالي ثلثا، وأراد فيها ثلثه)).
أخي الكريم: لقد جنّد الكفار من اليهود والنصارى أموالا مذهلة لنشر دينهم ومبادئهم المخرفة وأفكارهم عن طريق الإذاعة والتلفزة والمراسلات وغير ذلك فقد أنفق النصارى اثنان وعشرون مليون دولار مع مدرسة تنصرية في بلد عربي، وانفق على مؤتمر للمنصرين واحدا أكثر من واحد وعشرين مليون دولار وجمع اليهود تبرعات تحت شعار (قاتلوا المسلمين) وذلك في فرنسا، فجمعوا ألف مليون فرنك خلال أربعة أيام، وهذا وهم موعودون بالحسرة كما قال الله تعالى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها فثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.
فكيف بمن ينفق ماله في سبيل الله بل في خدمة كتاب الله، خصوصا ونحن نعلم أيها الاخوة الكرام أن الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بالطائف تقوم بأنشطة خيرية كثيرة، وما من أحد منا لا وقد انتفع من برامج هذه الجمعية أو ولده أو ابنته أو إحدى قريباته والعاملون فيها نحسبهم من الثقات المخلصين والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحدا، وكثير ممن يعمل في هذه الجمعية من المحتسبين، كما أن هذه الجمعية تقوم بأعمالها على نفقات المحسنين من أمثالكم الذين ما فتئتم تقدمون كل دعم لها، وهاهم اليوم يلتمسون منكم دعما سخيا، تحتسبونه عند الله تعالى الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا، وتترقبون أنتم دعاء الملك بالخلف ألا وصلوا..
(1/553)
طرف من سيرة أبي بكر رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
منصور الغامدي
الطائف
3/4/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غفلة القلوب وقسوتها وسبب ذلك ونتائجه ومظاهره.
2- من النماذج المشرقة في التاريخ الإسلامي: أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (رجاحة عقله-
دعوته وجهاده – محبته للرسول صلى الله عليه وسلم- تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم-
مكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم)
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: ولما طال الأمر على كثير من الناس، أصابت القلوب الغفلة والقسوة وحينما ابتليت بالغفلة والقسوة تخبطت واتخذت طرائق مختلفة، ومن الطرائق المتخبطة اتخاذهم سفلة الناس، وخبالة المجتمعات، قدوات لها تترسم خطاها، وتسير على سيرها، فراج سوق المغنيين والمغنيات، والممثلين والممثلات، واللاعبين واللاعبات، فأمسى التشبه بهم مواكبة للعصر، واتخاذ صورهم وجمعها في ألبومات دليل الحب والولاء، وإذا كان أمثال هؤلاء الساقطين هم قدوة لنا فكبر على الأمة أربعا.
أيها الاخوة الكرام: في ظل الضجيج الإعلامي في إبرز القدوات السيئة والمنحرفة، فإنه يحلونا أن نبحث في صفحات التاريخ المشرق، وآياته الخالدة، مشاعل غائبة عن واقع الناس، ولنطلع على أحاديث وقصص ما كانت لتفترى، ونتعرف على ما روى التاريخ من أبناء العظمة الباهرة، إنها ليست أساطير، وإن بترت من فرط إعجازها كالأساطير، إنها حقائق تبين ما كان لأصحاب رسول الله من شخصية وحياة، وإنها لتسمو وتتألق بقدر ما بذلوا في سبيل التفوق يضع يده في العذرة ويدنيها من فيها، فإذا وجد ريحها صدف عنها، فحرمها أبو بكر على نفسه، لقد توصل هذا الإمام بصفاء طبعه وحدة فؤاده إلى ضرر الخمر فحرمها على نفسه، ولم ينزل في تحريمها وحي، ولم تمنعها شريعة، والناس في جاهلية فكيف يحلها اليوم لأنفسهم ناس من الناس يشربونها في منتدياتهم وسمرهم، وبين أيديهم كتاب الله الذي حرمها عليهم.
وفي جانب الصدع بكلمة الحق وإعلانه للناس وحبه العظيم لرسول الله وصحبه على الأذى في ذات ابن هذا الموقف، جاء في الإصابة لابن حجر أن أصحاب رسول الله اجتمعوا وكانوا تسعة وثلاثين رجلا، فألح أبو بكر على رسول الله بالظهور قال: ((أبا بكر إنما قليل))، فلم يزل يلح إلى رسول الله حتى ظهر وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيبا ورسوله جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله عز وجل والى رسوله، وثار المشركون عليه وعلى المسلمين فضربوهم في نواحي المسجد ضربا شديدا، ودنا عتبة بن ربيعة من أبي بكر وجعل يضرب بنعلين مخصوفين حتى لم يعرف أنفه من وجهه، وجاءت بنو تميم وهم قبيلة أبي بكر فأجلواْ المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب حتى أدخلوه بيته لا يشكون في موته، ورجع بنو تميم فدخلوا المسجد فقالوا : والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ورجعوا إلى أبي بكر يكلمونه، حتى أجابهم آخر النهار، فكان أول ما قاله : ماذا يمكن أن يقول أي إنسان حصل له مثل ما حصل للصديق قال الصديق : ما فعل رسول الله ؟ لقد نسي الصديق آلامه الشديدة، نسي الجراح التي كانت تشغب دما، نسي نعلي عتبة بن ربيعة التي هوى بها على وجهه الكريم، وتذكر رسول الله، خشي عليه أن يصيبه المشركون بأذى كما أصيب هو، وحينما سمع بنو تميم سؤال أبي بكر عن الرسول نالوه بألسنتهم وعذلوه، ثم قالوا لأمه، انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه، فلما خلت به وألحت جعل يقول : ما فعل رسول الله، قالت : والله ما أعلم بصاحبك، قال : فاذهبي إلى أم جميل، فقالت : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، قالت : ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن شئت ذهبت معك إليه، قالت : نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا، فدنت منه أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت إن قوما نالوا منك هذا لأهل فسق، وإني لأرجوا أن ينتقم الله لك، قال: ما فعل رسول الله قالت : هذا أمك تسمع، قال : لا عين عليك منها، قالت : سالم وصالح، قال : إي هو: قالت في دار الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا شرابا أو أتي رسول الله فأمهلتا وحتى إذا هدأت الرجال، وسكن الناس، خرجنا به يتكئ عليهما، حتى دخلتا به على رسول الله فانكب عليه فقبله، وانكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي.
هذا نموذج حق، وموقف صدق من كثير من المواقف المثالية التي أنتجها الصديق في عالم لا يعرف القيم قدرها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلم يبلغ الصديق رضوان الله عليه ما بلغ من المنزلة الشامخة، والسؤدد العظيم إلا بالإيمان بالله ورسوله عليه صلوات الله وسلامه عليه، فحين قضى النبي على مشركي قريش وعلى صحابته ما حدث في ليلة الإسراء والمعراج ارتد من ارتد عن ضعفاء الإيمان، وهزئت قريش برسول الله أيما هزء، واستغل الخبيث أبو جهل الفرصة ليفتن أبي بكر بهذا الخبر، فجاء لينظر ماذا يكون موقفه من هذه الحادثة العجيبة، فإذا بأبي بكر يرد على رئيس الضلالة في قريش بهدوء المؤمن الواثق بنبيه، المطمئن إلى صدق رسول الله : أو قد قال ذلك ؟ فيقول أبو جهل : نعم ! فيقول الصديق: لئن قال ذلك لقد صدق، قال أبو جهل ومن معه : تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وعاد قبل أن يصبح؟ قال أبو بكر إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك من خبر السماء في غدوة أو روحة، إنه إيمان بلغ الدين وأتى أكله كل حين بإذن ربه.
أيها المسلمون : ولئن كان الناس في خصوماتهم ونزاعاتهم يتراشقون بالسباب والشتم، والكذب البهتان فإن الصديق لم يكن كذلك، عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم النبي فأعطاني أرضا وأعطى أبا بكر أرضا، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة فقال أبو بكر: هي في حدي، وقلت أنا: هي في حدي، فكان بيني وبين وبينه كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهتها، وندم، فقال: يا ربيعة رد علي بمثلها حتى يكون قصاصاً، فقلت لا أفعل، فقال: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله ، فانطلقت أتوله، فجاء أناس من أسلم فقالوا: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله وهو الذي قال لك ما قال ؟ قلت : أتدرون من هذا ؟ أبو بكر الصديق وهو ثاني اثنين وهو ذو شيبة في الإسلام، فإياكم أن يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة، قالوا: فما تأمرنا قلت : ارجعوا وانطلقت وحدي اتبع أبا بكر حتى أتى رسول الله فحدثه الحديث، فقال يا ربيعة، مالك وللصديق فقلت : يا رسول الله كان كذا وكذا، قال لي كلمة كرهتها، فقال لي : قل لي كما قلت لك حتى يكون قصاصا فأبيت قال رسول الله : ((أجل فلا ترد عليه ولكن قل غفر الله لك يا أبا بكر)) ، فولى أبو بكر وهو يبكي رضي الله عنهم أجمعين.
أيها المسلمون: إنها لآلئ منثورة هنا وهناك من سيرة أولئك، العظماء الذين يجب علينا أن نقرأ سيدهم ونقرأها أبناءنا وننشئهم على وابلها انقياض كي نراها سلوكا عمليا في واقعنا وواقعهم، وما لم يحصل ذلك فإن الشباب والجيل سوف يكون كهشيم تذروه الرياح وسراب يحسبه الظمآن ماء.
(1/554)
دروس من سورة يوسف عليه السلام
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, مساوئ الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
الفرار بالنفس من دواعي الحرام – خطر المرأة الفاسدة – ضعف الحياء والغيرة من صفات المترفين الخطبة 2 : التحذير من وسائل الإعلام العالمية "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقال الله تعالى: واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين [يوسف:25-29].
في هذه الآيات من قصة يوسف عليه السلام مسائل ودروس وعبر:
أولها: في قوله تعالى: واستبقا الباب أي تسابقا إلى الباب كل منهما يريد أن يدركه ويلحقه قبل الأخر, يوسف الصديق يريد أن يلحق الباب لينفذ بجلده وينجو بنفسه وعرضه, وامرأة العزيز تريد أن تدركه حتى تغلقه وتمنع يوسف من الخروج, فهذه الجملة القرآنية إضافة إلي ما فيها من براعة وبلاغة وطي لمواقف عديدة من القصة فإنها تصور لنا ذلك الصراع المحموم بين نفسين بشريتين, نفس نقية طاهرة تفر من الدنس ونفس أخرى ملوثة تصر على الدنس , أما يوسف الصديق فكان حريصاً علي النجاة بنفسه من حفرة المعصية التي راودته امرأة العزيز علي التردي فيها, وأما تلك المرأة الآثمة الفاسدة فكانت مصممة علي التردي في حفرة المعصية وأن تجر يوسف الصديق معها.
وانطلقا نحو الباب مع الفارق الكبير بين الموقفين، وفي موقف يوسف الصديق درس لكل مؤمن ومؤمنة على كل واحد أن يفر بنفسه لا من المعصية والإثم فحسب بل حتى من دواعيهما ولذلك لما نهى الله تعالى عن الفاحشة عن الزنا قال: ولا تقربوا الزنا [الإسراء:32]. فنهى حتى عن مجرد القرب, فعلي من يريد أن يسلم من هذه الفاحشة القبيحة المقيتة أن يتحاشى الدواعي والأسباب التي يمكن أن تغريه وتحرضه على الوقوع في وحلها وحفرتها, في هذا العصر الحافل بالفتن والمغريات والدواعي التي تدعو إلى الانحلال والفساد وإلى ارتكاب الفواحش فإن علي كل مؤمن ومؤمنة أن يفروا إلى الله: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين [الذاريات:50].
المسألة الثانية: سرعة بديهة تلك المرأة الآثمة الفاسدة إذ لم تعقد المفاجأة لسانها وتشل تفكيرها عندما وجدت زوجها لدى الباب فإذا بها أمامه وجهاً لوجه وهي تسابق يوسف إلى الباب بل بادرت بإلقاء التهمة على يوسف بقولها: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم [يوسف:25]. وهكذا المرأة المتمردة, المرأة إذا تمردت وتوغلت في أوحال الإثم والفساد فإنها تكون غاية في الخبث والمكر والدهاء ولذلك ترى في هذه الآيات أن كيدها وصف بأنه عظيم بينما وصف كيد الشيطان في القرآن بأنه ضعيف فالمرأة إذا فسدت وتمرغت في وحل المعصية والإثم تكون أشد خبثاً وكيداً من الشيطان نفسه, وأما تلك المرأة التي آمنت وصلحت واتقت ربها عز وجل فإنها تكون خير متاع الدنيا كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم [1].
المسألة الثالثة: في هذه الآيات أن حياة الترف, الحياة اللاهية العابثة المترفة المتحللة من القيود والضوابط الأخلاقية والآداب الشرعية تصبغ أصحابها بصبغة قبيحة منتنة, إن من أسوأ نتائج تلك الحياة المترفة المتحللة ذلك الانفلات الأخلاقي والتحلل المعنوي الذي يصيب أصحابها حتى لا يبقى لديهم شيء من الغيرة والحشمة والحياء, هذا العزيز لما قام الدليل على إدانة امرأته وثبت لديه أنها هي التي راودت يوسف عن نفسه لم يحرك ساكناً كان غاية ما قاله وفعله أن قال في الحال: يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين [يوسف:28]. هذا كل ما لديه من تأديب لامرأته الفاسدة الآثمة بل أكثر من ذلك لم يحاول إبعاد ذلك الشاب الممتلئ رجولة وحيوية ووسامة عن امرأته بل تركه حيث هو, ويوسف الصديق كان مغلوباً على أمره كان مملوكاً مقهوراً وإلا لو كان الاختيار بيده لما تردد بالفرار بنفسه من تلك البيئة العفنة الملوثة لكنه صبر مقهوراً ومغلوباً على أمره متحصناً بما حماه الله به, أما هذا الموقف من العزيز فهو مثال لما يمكن أن تصنعه الحياة المترفة المسرفة المتحللة اللاهية العابثة لما يمكن أن تصنعه من الرجل حيث تقضى فيه على كل معاني الرجولة والغيرة والحياء, هذا الموقف من العزيز هو ما يسمى في الشرع بالدياثة وقد ذم الرسول صلى الله عليه وسلم الديوث وقال: ((لا يدخل الجنة ديوث)) [2] والديوث هو الذي يرضى على أهله بالسوء والفحشاء والدنس لا يغار عليهم ولا يحاول منعهم من السوء والفحشاء وحمايتهم من الدنس, فيا أيها المسلمون اتقوا الله عز وجل واحذروا من حياة الترف, احذروا من الحياة اللاهية العابثة المتحللة التي لا تضبطها الضوابط الأخلاقية ولا تقيدها الآداب الشرعية حتى أولئك الذين وسع الله عليهم وأنعم عليهم من رزقه فإن عليهم أن يحرصوا كل الحرص علي حماية أنفسهم وأهليهم وأولادهم من حياة الترف وأن يقصروهم علي الآداب الشرعية على الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [طه:132].
فيا أيها المسلمون قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسلم (1467).
[2] أحمد بنحوه (2/134).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضى الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) [1]. وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه قال: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال)) [2]. وقيل وقال أي كثرة الحديث وكثرة الكلام بدون روية ولا تدبر ولا تثبت ولا تبين.
وفي سنن أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بأس مطية الرجل زعموا)) [3] وهذه هي التي سماها بعض أهل العلم من المعاصرين "وكالة يقولون" فترى كثيراً من الناس يتناقلون الأحاديث والإشاعات والأخبار بدون روية ولا تثبت وقد يسهمون بذلك بفت عضد المسلمين وضعضعة معنوياتهم وبث الرعب في قلوبهم فيخدمون بذلك دون أن يشعروا أهداف العدو, فإن العدو غاية ما يسعى إليه هو ضعضعة معنوياتنا وإلقاء الرعب في قلوبنا وإضعاف إيماننا, إن الحرب النفسية الآن لا تقل شراسة عن الحرب العسكرية, الحرب النفسية الآن محتدمة بين الأطراف كلها كما هو الشأن في الحرب العسكرية فكل الأطراف يستخدمون هذا النوع الذي هو الحرب النفسية لأنه سلاح هام وفي مثل هذه الظروف والمحن فإن هناك جهات مغرضة تنتهز هذه الفرصة للدس والتشويش بهدف زعزعة معنويات المسلمين وإضعاف إيمانهم وبث الرعب في قلوبهم, فعلى كل مسلم وعلى كل مسلمة أن يتحاشوا نقل شيء من الأخبار والشائعات أو المقالات أو التوقعات أو التحليلات إذا كانت مما يضعف معنويات المسلمين ويبث الرعب في قلوبهم, علينا جميعاً أن نتحاشى ذلك وأن نتثبت من الأخبار فإن من يتتبع الإذاعات الأجنبية اليوم ووسائل الإعلام العالمية يتحير ويتخبط في حيرته من تناقض الأخبار والتحليلات والتوقعات والمقالات ونحو ذلك من الوسائل الإعلامية وربما وقع فريسة لبعض تلك الجهات المغرضة الحاقدة المعادية, فعلى المسلم أن يمتثل لتوجيه النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم لا يحدث بكل ما سمع, لا ينشر بين الناس كل ما يسمع وما يقرأ بل عليه أن يتحاشى نشر أي شائعة أو خبر أو تحليل أو نحو ذلك إذا كان فيه فت لعضد المؤمنين وإضعاف لمعنوياتهم وزعزعة لإيمانهم وبث للرعب في قلوبهم حتى ولو كان ذلك صحيحاً, المنافقون لا يفوتون مثل هذه الفرص يحرصون علي اغتنامها للتشويش على المسلمين ولإلحاق الضرر بهم وهذه خصلة فيهم ذكرها القرآن الكريم قال تعالى: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به [النساء:83]. أي نشروه وبثوه ليلقوا الرعب في قلوب المؤمنين ويشوشوا عليهم ويربكوا صفوفهم ولو ردوه إلى الرسول وأولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [النساء:83]. فاتقوا الله أيها المؤمنون فليحذر كل واحد منكم أن يكون إذاعة متنقلة للعدو يحقق أهدافه المعنوية دون أن يشعر.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [4] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسلم: المقدمة (5).
[2] البخاري: ك: الزكاة (1407).
[3] أبو داود: ك: الأدب (4972).
[4] صحيح مسلم (408).
(1/555)
دروس من سورة يوسف
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, المرأة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
خطورة الاختلاط – التحذير من الخدم – صور من المخالفات الشرعية مع الخدم والسائقين تنبيهات للمستقدمين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله تعالى: فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين [يوسف:28-29].
في الجمعة الماضية ذكرنا ثلاثة دروس وثلاث مسائل مستفادة من هاتين الآيتين والآيات قبلهما والمسألة الرابعة تنبهنا هذه الآيات إلى خطورة الاختلاط وخاصة مع الخدم يوسف هنا كان مثالا رائعا للنقاء والطهر والأمانة ولم يكن في الحقيقة عبدا مملوكا بل هو سيد كريم ابن سادات كرام لكن كان من البلاء الذي ابتلي به وصبر عليه أنه اتخذ قهرا عبدا مملوكا فاضطر أن يخدم العزيز في قصره واضطر كارها إلى مخالطة أهله فإذا كان غير يوسف مكانه ماذا كان الحال لقد أثبت العزيز في موقفه لا مبالاته وعدم غيرته على أهله إذ كيف رضي أن يضع شابا جميلا عند أهله ليخدمهم منذ البداية كيف رضي بذلك بل حتى بعد أن ثبتت إدانة امرأته وعلم أنها راودت يوسف عن نفسه لم يحاول إبعاد يوسف عنها البلاء منها وليس منه ولكن على الأقل لكي لا تتكرر تلك المحاولة الآثمة من امرأته الآثمة الخائنة وهذه الدياثة هي من أسوأ ما يمكن أن تنتجه حياة المدنية المترفة اللاهية المتفلتة المتحللة من ضوابط الأخلاق وآداب الشرع إن الشرع يأمر الرجل أن يحمي عرضه وأن يغار على أهله وحريمه وأن يحتاط من أجل الحفاظ على عرضه وأخلاقه وأن يبتعد عن الشبهات ((فمن ابتعد عن الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) [1] ، كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك منع الشرع الاختلاط وأمر بغض البصر وأمر المرأة بالاحتشام وأمرها بالحجاب أمام الأجنبي حتى لو كان خادما إن مسألة الخدم هي من مظاهر الرفاهية في حياتنا اليوم نعم بحمد الله تعالى جرت الخيرات في أيدي كثير من الناس وكثير من البيوت صار فيها خدم وخادمات ولكن لا تنسى أيها المسلم أن هذه الخادمة أجنبية عنك لا تنسى أيتها المسلمة أن هذا الخادم أو السائق أجنبي عنك فلا تنسوا ذلك لا تنسوا آداب الشرع ولكن من مشكلات هذه الظاهرة من مشكلات مسألة الخدم أنك ترى بعض الناس يأتي بخادمة فتاة جميلة محل فتنة وإغراء فيضعها في بيته أمامه وربما أمام أولاده فتيانا مراهقين أو شبانا يأتي بالفتنة عينها فيضعها أمامه وأمام أولاده ثم يقول لنفسه هو وأولاده لا تحترقوا وترى بعض الناس وترى بعض الناس يتخذ خادما أو سائقا شابا لا تدل هيئته على أنه من أهل الديانة والأمانة والعفاف فماذا يتوقع من يفعلون ذلك هل يتوقعون إلا الخراب والدمار والفساد العريض في بيوتهم انظروا موقف العزيز الذي تصوره لنا تلك الآيات إن فيه تحذيرا مبطنا من ربنا عز وجل تحذيرا لكل عاقل فيه غيره وفيه نخوه وفيه دين وإيمان من أن يؤول به الحال إلى مثل هذه الحال إذا كنا قد بلينا بهذه المسألة واضطررنا إليها في حياتنا المرفهة في هذا العصر فعلى كل منا أن يحتاط لدينه ولعرضه ولأخلاقه ولدين أهله وأولاده وعرضهم قارن بين موقف العزيز الذي بعد أن ثبتت إدانة زوجه وفسادها يقول ليوسف أعرض عن هذا لفلف القضية واسترها لا تتحدث بها وأنت أيتها الزوجة الخائنة استغفري لذنبك قارن بين هذا الموقف وبين موقف آخر يمثل النقاء والعفاف والطهر والحرص على صيانة الأخلاق والأعراض إنه موقف ذلك الشيخ الجليل صاحب موسى عليه السلام لما عاون موسى تلك المرأتين اللتين وجدهما عند بئر أو ماء يسقيان وسط الرجال فعاونهما وسقى لهما ثم تولى إلى الظل وجلس يشكو إلى ربه حاجته وفقره ويسأله أن ينزل عليه من فضله أن ينزل عليه من خيره وسرعان ما جاءته الإجابة جاءته إحدى المرأتين تمشي على استحياء إنها من بيئة شعارها الحياء والحشمة والنقاء والطهر ليست مثل تلك البيئة التي صورتها الآيات بيئة العزيز وامرأته قالت له: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا [القصص:25]. وذهب موسى عليه السلام إلى أبيهما الشيخ الجليل وقص عليه القصص فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين [القصص:25]. إذن عرف ذلك الشيخ الجليل حقيقة موسى وأخباره كلها عرف نبله وقدره وأمانته وعرف مكانته وقوته فأحبه ورغب أن يعمل عنده أجيرا لكنه حينئذ سيخالطهم سيعيش معهم وذلك الشيخ عنده بنات ونساء ولم يفت ذلك الشيخ أن إحدى ابنتيه انتبهت إلى شهامة ذلك الشاب الجليل الشأن موسى عليه السلام وانتبهت إلى أمانته وقوته فزوجه إياها هكذا بيسر وسهولة وبدون تكلف ولا تعقيد كتعقيد أهل المدنية المترفة زوجه إياها وجعل مهرها أن يعمل عنده أجيرا ثماني حجج ثماني سنين وإن أتمها عشرا فذلك تطوع منه وبذلك صان الشيخ عرضه وأحصن ابنته وكسب ذلك الشاب الجليل الشأن وساعده على الإحصان هذا مثال للنقاء والطهر وللحرص حرص أهل النقاء والطهر والعفاف والتقى على صيانة الأعراض والأخلاق هذا هو المراد وليس المراد أن تزويج الأجير دائما هو الحل فمن يجد مثل موسى عليه السلام وإنما المراد أن هذا مثال لما يجب على العاقل وعلى المؤمن على وجه الخصوص من الحرص على صيانة الأخلاق والأعراض من الحرص على أن يستبرئ لدينه وعرضه وعلى أن يبتعد عن الشبهات فإذا كنت أيها المسلم ألجأتك ضرورة هذه الحياة المرفهة إلى مسألة الخدم فلا تتخذ إلا خادما تثق بأمانته وديانته وعفافه ولا يحل لك أن تدخل في بيتك خبثا وفسادا عريضا وإذا اضطررت إلى اتخاذ خادمة فلا تدخل في بيتك فتنة أو محل فتنة وإغراء فتعرض نفسك وأولادك وشبابك إلى الفساد العريض خذ بواجب الاحتياط لدينك ولعرضك وابتعد عن الشبهات قدر إمكانك فاتقوا الله أيها المسلمون اتقوا الله أيها المسلمون وحافظوا على دينكم وعلى أعراضكم وعلى أعراض أهليكم وأولادكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري: كتاب الإيمان (52).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لما خرج سيدنا رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى تبوك غازيا مجاهدا في سبيل الله قال لأصحابه المجاهدين الذين خرجوا معه: ((إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا هم معكم، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: نعم حبسهم العذر)) [1] ، فدل هذا الحديث الشريف على أن من وطن نفسه وعزيمته على الجهاد في سبيل الله وسعى إلى تحقيق ذلك ثم لم يتمكن بسبب العذر فإنه يشارك المجاهد في الأجر فما بالك به إذا شارك معه وسانده ولو لم يخرج معه بنفسه ونحن في هذه الأيام نمر في محنة عظيمة وفتنة عمياء هجم علينا هذا العدو الغادر وهذا الظالم الغاشم هذا البعثي العلماني الملحد هجم علينا وتسبب في كل هذه الفتنة والكارثة العظيمة وكان لابد من أن ندفع عنا شره وشر من وراءه ولقد رد الله كيده في نحره وألب عليه الأمم وجمع عليه الجيوش هذا من لطفه سبحانه وتعالى بجيران هذين الحرمين الشريفين والمسجدين المقدسين وها هم جنودنا من أبناء هذه الأمة يدافعون عنا عن حرماتنا وأعراضنا وأموالنا وديارنا ويدافعون عن حمى هذين الحرمين الشريفين والمسجدين المقدسين قد بذلوا أرواحهم وقدموا أنفسهم في سبيل ذلك فواجب على كل واحد منا مسانداتهم ومعاضاتهم فمن لم يلزمه الخروج معهم للقتال فالواجب عليه أن يكون سندا وعونا لهم لا يكون مصدر فتنة وتشويش عليهم أن يخلفهم بخير وأن يكون سندا وعونا كل بما يستطيع فصاحب اللسان والقلم واجبه أن يدفع عنا بلسانه وقلمه يبين لهم الحقائق يبين للمسلمين حقائق ذلك الصراع فإنها فتنة عمياء اختلط فيها الحق بالباطل على كثير من الناس يبين للمسلمين الحقائق وينشر الوعي بين الناس ويبين لهم واجبهم ويذكرهم بالله عز وجل وينصحهم بالإقلاع عن الذنوب والمسارعة إلى التوبة ومن كان لا يقدر على ذلك يقدم ما يستطيع من إمكانه وقدرته يقدم دمه يتبرع بدمه فهذا من أثمن الأشياء التي يمكن أن تقدمها للمقاتلين هذه من أثمن الأشياء التي تسهم بها في القتال أما من قعد آمنا في بيته معافى في سربه محميا بحماية الله تعالى الذي سخر لنا جميعا من يدافع عنا ويدفع عنا عدوان المعتدين ثم مع ذلك لا يشارك بشيء أبدا لا بمشاعره ولا بلسانه ولا بدمه ولا حتى بدعائه بل ربما لا يكف لسانه عن التشويش والفتنة هذا والعياذ بالله لا أظنه مسلما فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم فاتقوا الله أيها المسلمون وعودوا إلى الله بادروا بالتوبة إليه وأقلعوا عن الذنوب فإن هذا كله من شؤم الذنوب هذا من عواقب المعصية من عواقب المعاصي والذنوب فأقلعوا عن الذنوب وتوبوا إلى الله تعالى قبل أن يعم شؤم هذه الذنوب والمعاصي بادروا إلى التوبة وألحوا بالدعاء على الله تعالى لا تملوا من ذلك فهذا وقت الدعاء في وقت الكرب وقت الضرورة والله رحيم غفور كريم يجيب دعاء المضطرين نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يكفينا ويكفي المسلمين جميعا شر هذه الفتنة العمياء وأن كل من أراد بالإسلام والمسلمين شرا أن يرد كيده في نحره ويكفينا شره إنه قوي عزيز على كل شيء قدير.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [2] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري: كتاب المغازي (4161).
[2] صحيح مسلم (408).
(1/556)
دروس من سورة يوسف
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
فساد أحاديث المترفين – معنى حياة الترف – العلاقة بين المكر والغيبة – جمال يوسف -الجمال بين الخالق والمخلوق – أهل الجنة ورؤية الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فقال الله تعالى: وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشَ لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم [يوسف:30-31].
تصور لنا هاتان الآيتان الجو السائد في تلك البيئة المترفة المتفلتة كما هي العادة غالبا في حياة القصور المنفلتة من ضوابط الشرع وقواعد الأخلاق. فتكون حينئذ أحاديث الفاحشة وقصص الفجور والفساد والإفساد هي الشغل الشاغل لأهلها يتناقلونها فيما بينهم بالرغم مما في ذلك من إشاعة الفاحشة وتشجيع على الخنا والفجور.
فهنا هاتان الآيتان تصور لنا كيف أن نسوة في تلك المدينة أخذن يثرثرن بقصة تلك المرأة الخائنة وما حدث منها من مراودة فتاها وخادمها, ويتظاهرن بلومها على ذلك مع أنهن أشد فسادا منها, فكل واحدة منهن لا تقل عنها فسادا. إنهن نسوة قلة مترفات أفسدتهن حياة القصور, نسوة في المدينة, فقوله في المدينة إشارة إلى البيئة والطبقة التي ينتمي إليها أولئك النسوة, وقوله نسوة وهذا جمع قلة, إشارة بليغة إلى قلة عددهن, إنهن نساء قلائل من علية القوم, قلة تتحكم في المجتمع وتتولى إفساد المجتمع, وليس كل علية في المجتمع فاسدون مفسدون, ولكن إذا غرق العلية من المجتمع في حياة الترف, فإنهم يتحولون إلى عنصر فساد وإفساد, فيسمون حينئذ بلغة القرآن مترفين, قال تعالى: إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا [الإسراء:16]. حياة الترف معناها حياة البذخ والإسراف والكبر والخيلاء والفخر والمباهاة حياة التفلت الخلقي فليس كل غني بالضرورة مترفا ولا كل كبير بالضرورة مترفا فكم من الأغنياء والكبراء من صالحين ومصلحين, لكن هذا هو الغالب على حياة الترف حياة الإسراف والبذخ والكبر والخيلاء والمباهاة والانفلات الأخلاقي, وهنا أولئك النسوة من الفاسدات المترفات كن فاسدات فأخذن يلكن بألسنتهن قصة امرأة العزيز أعملن ألسنتهن بالغيبة وبحديث الفاحشة, ولذلك وانظر إلى الدقة في تعبير القرآن سمى ثرثرتهن تلك مكرا فلما سمعت بمكرهن [يوسف:31]. لأن في كل من المكر والاغتياب إفساداً خفياً فالمكر إفساد خفي والاغتياب إفساد خفي كما أن في تناقل أحاديث الفاحشة وقصص الخنا والفجور إفسادا خفيا ولذلك نهى الشارع الحكيم عن ذلك , بل نهى الرجل والمرأة عن نقل ما يقع بينهما من مباح ونكاح نهى الزوجين عن ذلك فما بالك ما يقع من قصص الخنا والفجور.
لا يجوز تناقلها وإشاعتها فإن في ذلك إشاعة للفاحشة وتشجيعا وتحريضا وإن كان غير مباشر على الخنا والفجور والفساد والإفساد, ربما في بعض الأحيان يكون من المصلحة والنصح التحذير من بعض الظواهر الفاسدة ولكن ليس على سبيل القصص ولا على سبيل التفاصيل فإن كثيراً من الناس اليوم يقعون في ذلك يتناقلون قصصا بتفاصيلها لا مصلحة من تفاصيلها ووصفها إلا تحريض السامعين على الفساد والإفساد.
فلما سمعت بمكرهن بادلتهن مكرا بمكر وكيدا بكيد, فأعدت لهن حفلا مترفا حفلا مخملياً كما يقولون في الصحف.
أسرت في نفسها شيئا تلك المرأة الفاسدة الآثمة وقبل أن ندخل في تفاصيل تلك الحفلة فلنستجلي شيئا من إعجاز القرآن العظيم إعجازه البلاغي ولنسمع أنموذجا من بلاغته الرائعة وأسلوبه القصصي البديع انظروا كيف انطوت تلك الآية مع وجازتها وقلة عباراتها على معاني غزيرة لو أراد أي قاص أن ينثرها لاحتاج إلى صفحات ومع ذلك طوتها الآية وتضمنتها في سطرين وقال نسوة في المدينة [يوسف:31]. أشرت إلى ما في هذه العبارة من دلالات كثيرة تشير إلى البيئة وإلى الطبقة التي تنتمي إليها تلك النسوة وإلى الظرف الذي أخذن يثرثرن فيه وفيها إيحاء بالمكان وإيحاء بالعادات الغالبة وفيها تنبيه إلى مساوئ حياة مثل هؤلاء المترفين.
ماذا قال أولئك النسوة وهن يثرثرن بأحاديثهن الفاسدة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه, امرأة العزيز هذا إشارة منهن إلى علو مكانة تلك المرأة في نظرهن إلى علو مكانتها في المجتمع فهي امرأة العزيز امرأة الرجل الذي هو أعلى مسؤول في بلده حينذاك فالمفترض أن تأنف بنفسها مع كل ما يتعارض مع مكانتها أو يدنس منصبها ومع ذلك فهي تراود فتاها عن نفسه، فتاها أي خادمها وعبدها، ولكن القرآن أعرض عن وصفه بالعبودية لم يقل عبدها وخادمها بل قال فتاها وهذا من أدب القرآن دائما يذكر الخادم والعبد بلفظ الفتى وإذ قال موسى لفتاه [الكهف:60]. ودخل معه السجن فتيان [يوسف:36]. أي خادمان وعبدان وهذا من أدب القرآن.
وقد جاءت السنة المطهرة بتفصيله فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يقل أحدكم عبدي أو أمتي بل يقل فتاي وفتاتي)) [1] ومثله في هذه الأيام خادمي , خادمتي لا ينبغي للإنسان أن يعبر بمثل هذه الألفاظ لما فيه من إشعار لهذا الإنسان أو تلك الإنسانة بالمهانة والعبودية.
هذا من أدب الشرع من أدب القرآن تراود فتاها [يوسف:30]. أي عبدها وخادمها وكلمة تراود فيها ما فيها من إيحاءات أنها تصور لنا تكرار المحاولة من امرأة العزيز تصور لنا إلحاحها على يوسف , بذل كل وسيلة متاحة لها لأهوائه وإغوائه.
فلماذا امرأة العزيز مع علو مكانها ومكانتها تنزل بنفسها وتهبط بمكانتها إلى هذا الدرك تكون هي الطالبة المرتمية عند أقدام ذلك الفتى النقي الطاهر الذي استعصم بنفسه واستعلى بإيمانه وطهارته ونقائه عن تلك الفتنة القذرة ورفض محاولاتها بكل إباء واحتقار.
يجيب النسوة لأنه قد شغفها حبا أي اخترق حبه شغاف قلبها، وشغاف القلب حجابه وغلافه، فحبه نفذ في أعماق قلبها تمكن من قلبها فذهب عقلها وذهب صوابها فوقعت في الإثم وفي هذا تنبيه خفي من الرب جل جلاله إلي العواقب الوخيمة التي تترتب على التساهل في المخالطة وفي المعاشرة مع الأجنبي والأجنبيات.
هذا أنموذج للأسلوب القرآني الرائع البديع المعجز فسبحانه الذي قال: نحن نقص عليك أحسن القصص [يوسف:31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري: كتاب العتق (2414).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشَ لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم
[يوسف:31]. ورد عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه شاهد يوسف ليلة المعراج فوصفه أنه أوتي شطر الحسن [1] وفي رواية أوتي يوسف وأمه شطر الحسن, وفي رواية أوتي يوسف وأمه سارة التي هي جدته امرأة إبراهيم جدته سارة نصف الحسن, ولكن هذا الجمال الذي أوتي يوسف عليه السلام يصح أن يوصف بأنه جمال ملائكي لأنه جمال مقرون بالكمال بالنقاء والطهر والإيمان, إنه جمال الظاهر والباطن فنفس يوسف كانت أجمل من ظاهره، نفس يوسف كانت أنقى وأجمل من ظاهره ولذلك أولئك النسوة لما رأينه اقترن في قلوبهن جمال ظاهره بما سمعنه من تعففه ونقائه وطهارته فوصفوه بأنه ملك كريم, ليس من عادات البشر في زعمهن أن يكون أوتي كل هذا الجمال وكل هذا الحسن ويواجه كل هذا الإغراء وكل تلك الفتنة ومع ذلك يستعلي بنفسه ويستعصم عن الفتنة وعن السوء والفحشاء يستعلي بنفسه وبإيمانه, هذا في الغالب ليس من طبع البشر ولذلك وصفنه بأنه ملك كريم, هذا جمال ملائكي جمال الظاهر والباطن.
أولئك النسوة لما رأين ذلك الجمال جمال يوسف غلبتهن المهابة والدهشة فغبن عن وعيهن وقطعن أيديهن, كل واحدة في يدها سكين تقطع به الفاكهة فمن الدهشة والمهابة أعملن أيديهن بالسكين فجرحنها ذهلن وغبن عن وعيهن لما شاهدن جمال المخلوق, فماذا يحدث للإنسان لو شاهد جمال الخالق سبحانه وتعالى ذي الجلال وذي الكمال الذي له الجمال كله والجلال كله والكمال كله؟
لما شاهد بعض الناس جمال المخلوق ذاك حدث لهم ما حدث. فماذا يكون شأن الإنسان لو شاهد جمال الخالق سبحانه وتعالى؟ مادام الإنسان مكبلا بقيود هذه الحياة الدنيا فإنه غير قادر على مشاهدة الجمال الإلهي ولكنه قد يستشعر ذلك الجمال بقلبه إن كان من أهل الإيمان والإحسان لكنه لا يستطيع مشاهدته مادام مكبلا بأغلال هذه الحياة الدنيوية, أما أهل الجنة في الجنة فيكمل لهم النعيم بالنظر إلى ووجهه الكريم فيكون ذلك نعيما لهم لا أكمل ولا أعظم منه ولذة لهم لا أكمل ولا أعظم منها, يرون ربهم عز وجل كما رأى الصحابة القمر لا يضامون في رؤيته: ((أشار النبي مرة إلى البدر وقال لأصحابه: هل ترون هذا البدر. قالوا: نعم. قال: سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته)) [2].
فمن كمال النعيم لأهل الجنة أنهم يتلذذون بزيادة النعيم بلذة النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى وهذا من الثواب الذي أعده الله للمحسنين, كما قال سبحانه: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [يونس:26]. فالحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجهه الكريم.
روى الإمام أحمد في مسنده والإمام مسلم في صحيحه عن صهيب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ثم قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. نادى منادِ: أن يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجز كموه. فيقولون: وما هو ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار. فيكشف الحجاب فيرون ربهم وينظرون إليه يكمل لهم النعيم بذلك فلا أعظم لهم من ذلك النعيم ولا أقر لأعينهم)) [3] , أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك نعيم الجنة ولذة النظر إلى وجهك الكريم. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [4] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسلم (162).
[2] البخاري كتاب التوحيد (6997).
[3] مسلم كتاب الإيمان (297).
[4] صحيح مسلم (408).
(1/557)
حرب الخليج
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, مذاهب فكرية معاصرة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
اندحار جيش البعث – عصر الكوارث والهزائم – حرب الخليج من أعظم كوارث العصر دروس من هذه الأزمة – لا عزة إلا بالإسلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فقال الله تعالى: ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [إبراهيم:27]. وهانحن نرى اليوم رأي العين كيف ذهب كيد الظالمين في ضلال , كيف ذهبوا مع كل ما أنفقوا من إمكانيات هائلة ووضعوا من مخططات رهيبة ذهبوا هباء منثورا وهاهم في آخر أمرهم وقد أصبحوا صما بكما عميانا لا يبصرون , تخبطوا لما حلت عليهم عقوبة ربك سبحانه وقد كان أملا لهم قبل ذلك فعاثوا في الأرض فسادا فأكثروا فيها الفساد ,غدروا بإخوانهم وبجيرانهم واعتدوا على الحرمات وسفكوا دماء المسلمين وانتهكوا أعراض المسلمات وخوفوا المؤمنين الآمنين ووجهوا صواريخهم إلى جيران وخدام الحرمين الشريفين بدلا من أن يوجهوها إلى العدو الحقيقي توجيها حقيقيا. لقد فرقوا صفوف الأمة وأشمتوا بها الأعداء الصهيونيين فما أشد ظلم ذلك المعتدي البعثي العراقي وما أعظم جرمه ولكن هاهي النهاية نهاية الظلم والبغي والغدر والعدوان , فانظر كيف كان عاقبة الظالمين واليوم ونحن نشارك إخواننا الكويتيين المسلمين فرحتهم بعودة بلدهم وتحريره وزوال ذلك الغزو البعثي العراقي عن كواهلهم ونهنئهم بذلك ونهنئ أنفسنا بزوال الغمة وانجلاء الكارثة إن شاء الله فإننا لا نملك إلا أن نسأل الرب الكريم الرحيم أن يعجل بالفرحة الثانية وهي خلاص إخواننا في العراق من ذلك الكابوس البعثي البغيض , لئن كان الشعب الكويتي المسلم عانى من الغزو البعثي العراقي سبعة أشهر فإن الشعب المسلم العراقي يعانون من ذلك القهر ومن ذلك الكابوس البعثي الخبيث الظالم منذ سنين , فنسأله سبحانه وتعالى أن يعجل لهم بالفرج والخلاص لا من صدام حسين فحسب بل من أولئك الذين أعانوه ورفعوه على أكتافهم وجعلوا منه كابوسا بشعا , إنه حزب البعث العربي الاشتراكي العلماني العنصري المنفر البغيض.
هذه ليست أول كارثة تحل بالعرب والمسلمين في العصر الحديث إنه عصر يستحق أن يسمى بحق عصر الهزائم والكوارث. كم تحمل فيه العرب ومن ورائهم المسلمون من كوارث عديدة وهزائم كثيرة ولعل أعظمها تلك الكارثة التي لا تزال محفورة في قلب كل مؤمن إنها سقوط المسجد الأقصى بيد أحفاد القردة والخنازير الصهيونيين , تلك هي الكارثة العظمى التي ستظل نقطة عار في جبين هذا الجيل , ستظل محفورة في قلب كل مؤمن مقهور لا يملك حيالها شيئا ويتحرق أسفا وألما منها. ولكن هذه الكارثة التي اقترفها البعث العراقي بقيادة كلبه المتوحش صدام هي أبشع ما واجهنا في هذا العصر من كوارث , من حيث اتساع الأضرار الفادحة التي ألحقتها بمصالح الأمة العليا ومن حيث الذيول التي تركتها مع ما يترتب عليها من آثار مدمرة قد تبقى حقبة من الزمن نعاني من وطأتها , إلا أن يشاء الله شيئا إلا أن يأذن الله بأمر رشد لهذه الأمة تستعيد به عزتها وتداوي جراحها.
إن هذه الكارثة البعثية الصدامية بالرغم من شدة وطأتها علينا جميعا ومرارتها في قلوبنا ونفوسنا فإنها انطوت علي قدر كبير من الأهمية من الدروس والعبر والسعيد من اتعظ بها وتبصر:
أولا: علينا جميعا في هذه البقاع المقدسة خصوصا وفي الكويت وفي الخليج وفي كل مكان أن نوطد قلوبنا بالله عز وجل وأن نتوجه إليه بقلوبنا وأفئدتنا شاكرين حامدين على لطفه بنا ومنه وكرمه علينا فالأمر كله بيده سبحانه.
الأمر كله له هو الذي قدر ما قدر وهو الذي قهر من قهر , الأمر به بدأ وإليه يعود والملك كله له يعز من يشاء ويذل من يشاء ويفعل ما يشاء ولكنه لا يفعل شيئاً إلا لحكمة فله سبحانه الحمد كله وله الثناء كله.
ثانيا: إن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين بالمحن ليتخذ منهم شهداء ويميز الخبيث من الطيب وليكشف المنافقين ويميزهم عن المؤمنين , ولقد أصبح واضحا لكثير من المؤمنين أن هذه المحنة كشفت زيف كثير من أهل الزيف والنفاق حتى من أولئك الذين كنا نمالئهم ونداريهم ونمدهم بالأموال ونخصهم بالدعم والتأييد والمودة حتى ولو كان ذلك أحيانا على حساب إخوان لنا وأشقاء مسلمين موحدين مصلين يئنون تحت وطأة أولئك يقولون لا إله إلا الله ويصرخون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا , ماذا نفعنا ممالأتنا لبعث العراق ولهدام العراق والعرب والمسلمين حتى عندما سفك دماء الآلاف من العراقيين وقتل الآلاف المؤلفة من إخواننا الأكراد صمتنا صمت القبور مداراة له وممالأة فماذا نفعنا ذلك كله؟ لقد تكشفت قلوبهم عن حقد دفين وعداوة مريرة والدرس المستفاد هنا هزال كل علاقة وكل وشيجة وكل رابطة وكل تعاون لا يقوم علي أساس الإسلام هزال كل تلك الروابط وكل هذا التعامل بل وخطورته علينا وعواقبه الوخيمة.
ألم يكن ربنا عز وجل الرؤوف بنا الرحيم بنا قد نصحنا ونبهنا ولكننا ما انتصحنا: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي قلوبهم أكبر قد بينا الآيات إن كنتم تعقلون هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور [آل عمران:118-119].
ثالثا: تنبهنا هذه الكارثة البعثية الصدامية إلي ضرورة الامتثال إلى ذلك الأمر الإلهي الذي يحمل معنى هاما وأساسيا واستراتيجيا في حياتنا نحن المسلمين , ذلك الأمر الذي طالما تغافلنا عنه قال تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم. وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم [الأنفال:60]. وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ألا إن القوة الرمي )) [1] , ولكن تأملوا كيف صنفت تلك الآية الكريمة أعداءنا الذين يجب أن نأخذ حذرنا منهم وأن نعد العدة لهم وأن نبني قوتنا الذاتية خوفا منهم وإرهابا هم أولا عدو الله ترهبون به عدو الله كل من ناصب دين الله وشريعة الله وأولياء الله كل من ناصبهم العداء وهو عدونا الحقيقي.
ولكن هناك آخرون مختفون وراء الابتسامات , ابتسامات الخديعة والمكر والخيانة والغدر إذا كنا لا نعلمهم أو نتعامى عنهم فإن الله يعلمهم , هاهو واحد منهم صدام البعثي الهدام وقد انكشف لنا وانقضى فيا ترى كم صدام بقي هناك ؟ لا يزال يتستر ويختفي وراء الابتسامات الماكرة , إن الإعداد والاستعداد واجب شرعي ومبدأ إسلامي , قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا [النساء:71]. فكارثة بهذا الحجم إذا لم تكن نجحت في تنبيهنا إلى وجوب الإعداد وبناء قواتنا الذاتية وتربية شبابنا على الجهاد فماذا يجب أن يحدث حتى نفتح أعيننا ونتبصر بواجباتنا؟
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (1917) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد فالدرس الرابع من هذه الكارثة البعثية الصدامية أنها كشفت لنا مدى قبح وشناعة الانحراف عن الإسلام , أمة العرب في العصر الحديث جربوا فيها كل شيء إلا الإسلام وحكموا فيها كل نحلة إلا الإسلام , جربوا فيها القوميات العنصرية , وجربوا فيها الاشتراكية العربية الناصرية , وجربوا فيها البعث العلماني الإلحادي الذي أفرز لنا عدة كوارث كبرى هذه واحدة منها. فيا ترى ماذا سيجربون أيضا في الأيام القادمة؟ أخوف ما نخاف أننا ونحن مقبلون على مرحلة يشتد فيها الانبهار والإعجاب بالغرب وتكنولوجيته والشعور بالامتنان نحو هذا الغرب الذي ساعدنا على الانتصار على صدام الذي هو عميله وصنيعته , أخوف ما أخاف أن تنشط من جديد تلك العلمانية البغيضة التي حزب البعث وجه من وجوهها. فيا ترى ماذا ستلبس لنا في الأيام القادمة وبماذا ستسمى؟ فقد أفلست تلك الأسماء القديمة , لا بد أنها ستهجم علينا من جديد لابسة أثواب أخرى ومتسمية بأسماء جديدة ولا نستبعد أن تتسمى باسم الإسلام فنشهد في الأيام القادمة الإسلام العلماني.
ترى من أولئك الذين يحولون بيننا وبين أن يحكمنا الإسلام في عالم العرب والمجتمع الإسلامي , هذا الإسلام الذي نحمله جميعا في قلوبنا عقيدة ونمارسه عبادة , إنه نظام كامل شامل , إنه عقيدة وشريعة وقانون ونظام حكم واقتصاد. ولو سيطر الإسلام على حياتنا السياسية طوال الفترة الماضية لكنا وفرنا على أنفسنا كل تلك الكوارث والهزائم , ولكن فساد الطبقة السياسية في العصر الحديث في عالم العرب والمسلمين وانحرافهم عن الإسلام وانفصالهم عن عقيدة الأمة وعن آمال الأمة هو الذي جلب على أمة الإسلام وعلى أمة العرب على وجه الخصوص كل تلك الكوارث والهزائم وسيجرون كوارث أخرى إلا أن يشاء الله أن يتداركنا برحمته.
حقيقة يجب أن نتنبه لها ونتذكرها حكاما ومحكومين أننا مهما ابتغينا العزة في غير دين الله , أذلنا الله وسلط علينا من يقهرنا ويسومنا سوء العذاب , فإنه تعالى حكم في كتابه المنزل أن العزة لله جميعا ليس لأحد غيره نصيب من العزة حتى يؤتيه من يشاء ويمنعه عن من يشاء فالعزة لله جميعا , فإذا ما أردنا العزة وإذا ما أردنا السلامة من الذل والقهر والكوارث والهزائم فعلينا أن نحكم شريعة الله عز وجل في جميع شؤون حياتنا وخاصة حياتنا السياسية.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: (( من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا )) [1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/558)
السيرة النبوية العطرة - فتح مكة
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
صلح الحديبية وفتح مكة – رمضان والفتح – رمضان والفتح – سبب غزوة الفتح إسلام أبي سفيان – تحطيم الأصنام – مشهد رائع للعفو – أحكام زكاة الفطر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقال الله تعالى لرسوله ولنبيه صلى الله عليه وسلم: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا [الفتح:1-3].
نزلت هذه السورة في صلح الحديبية الذي أبرمه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوه الأساسي في ذلك الوقت قريش, فهذه الآيات تبشره صلى الله عليه وسلم بأن تلك المعاهدة هي البداية للفتح الأعظم فتح, وهذا ما حدث فعلا فقد كان نقض قريش لفقرة من فقرات تلك المعاهدة سببا لغزو النبي صلى الله عليه وسلم لها وفتحه مكة وكان هذا الفتح الأعظم فتح مكة في شهر الفتوح والبشائر والخيرات شهر الجهاد شهر رمضان المبارك.
وسبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن قريشا أعانوا سرا حلفاءهم بني بكر على الإغارة على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم عزم على غزو قريش لأنها نقضت العهد الذي أبرمه معها صلى الله عليه وسلم.
وندمت قريش وخافت من النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه زعيمها أبا سفيان بن حرب ليفاوضه ليشد العقد ويزيده في المدة فلم يفلح أبو سفيان.
أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمر أصحابه بالتجهز للقتال وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة متوجها إلى مكة في نحو عشرة آلاف مقاتل, وفي أثناء الطريق في الجحفة لقيه عمه العباس بن عبد المطلب وقد خرج مسلما مهاجرا بأهله وعياله فتقبله النبي صلى الله عليه وسلم.
و في الأبواء لقيه عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمته عبد الله بن أبي أمية وكانا من ألد أعدائه صلى الله عليه وسلم فأسلما فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهما.
ولما بلغ رسول الله مر الظهران قرب مكة أمر الجيش فنزلوا وأوقدوا عشرة آلاف نار, وركب العباس بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وخرج يلتمس أحدا يبلغ قريشا لتخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتطلب منه الأمان فلا يكون في البلد الأمين قتال.
ولقي العباس أبا سفيان بن حرب بالقرب من الجيش المسلم. فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل ما وراءك فقال هذا رسول الله في الناس. فقال أبو سفيان: فما الحيلة. فقال له العباس: اركب معي حتى آتي بك النبي صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك. فأتى به العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي لأبي سفيان: ((ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله)). فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأعظمك وأحلمك لقد علمت أن لو كان مع الله غيره لأغنى عني. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما آن لك أن تعلم أني رسول الله)). فتلكأ أبو سفيان فقال له العباس: ويحك أسلم. فأسلم أبو سفيان وشهد شهادة الحق. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس أن يوقف أبا سفيان في مضيق الوادي عند خطم الجبل حتى يمر به المسلمون فيرى أبو سفيان القوة الإسلامية رأي العين فأخذت القبائل تمر على راياتها كلما مرت قبيلة سأل أبو سفيان عنها فيخبره العباس هذه قبيلة فلان, قبيلة بني فلان. فيقول أبو سفيان: ما لي ولها. حتى أقبلت قبيلة لم ير مثلها. فقال أبو سفيان: يا عباس ما هؤلاء. فقال العباس: هؤلاء الأنصار وعلى رأسهم سعد بن عبادة معه الراية فلما دنا سعد من أبي سفيان قال: أبا سفيان اليوم يوم الملحمة, اليوم تستحل الكعبة. ثم أقبل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد ففزع أبو سفيان وقال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء. فقال العباس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. ثم لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره أبو سفيان بمقالة سعد بن عبادة وهو قوله "اليوم تستحل الكعبة ", فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة, اليوم يوم أعز الله فيه قريشا)) [1].
وأمر النبي فنزعت الراية من سعد بن عبادة وسلمت لابنه قيس فرأى بذلك أن الراية لم تخرج منه إذ أعطيت لابنه وأمن بذلك النبي صلى الله عليه وسلم من أن تكون لسعد بن عبادة صولة في قريش يكرهها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما دنا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أمر برايته فركزت بالحجون ودخل مكة فاتحا مؤيدا منصورا مظفرا مؤيدا بتأييد الله عز وجل. دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة مطأطئ الرأس يكاد رأسه يمس رحله تواضعا لله جل وعلا, دخلها وهو يقرأ سورة الفتح: إنا فتحنا لك فتحا مبينا [الفتح:1]. ويرجعها أي يتغنى بها ويترنم رافعا صوته صلى الله عليه وسلم , وجعل النبي صلى الله عليه وسلم على إحدى مجنبتي الجيش خالد بن الوليد وعلى الأخرى الزبير بن العوام ومضى صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد الحرام فطاف بالبيت على راحلته وكان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم فجعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعنها بقوس معه وهو يقول: ((جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ويقول قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)). فجعلت تلك الأصنام تتساقط على وجوهها واحدة إثر أخرى, ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم جوف الكعبة فصلى بها فلما فرغ من صلاته دار فيها وكبر في نواحيها ووحد الله عز وجل. ووجد فيها صورا زعموا أنها للأنبياء فأمر بها فمحيت. وبعد ذلك وقف على باب الكعبة وقريش تحته ينتظرون ماذا يفعل بهم صلى الله عليه وسلم وهم الذين ما تركوا وسيلة لحربه ومناوأته واضطهاده وإيذائه إلا فعلوها, كانوا ينتظرون ماذا يقرر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم, فوقف النبي بباب الكعبة ممسكا بعضادتي الباب وقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده, يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء, الناس من آدم وآدم من تراب: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير , يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم)). فقالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [2].
وهكذا طهر الله جل وعلا بلده الأمين وبيته الكريم على يد رسوله صلى الله عليه وسلم طهره من مظاهر الشرك والوثنية ونور أرجاءه بنور التوحيد ودين الإسلام ومكارم الأخلاق فكان ذلك الفتح النبوي الأعظم فتح مكة تكريسا لعقيدة التوحيد بها وترسيخا لسماحة الإسلام بها فلا حقد ولا انتقام ولا سفكاً للدماء ولا انتهاكاً للحرام ولكن أمن وأمان ورحمة ورأفة وبر وإحسان وأداء للأمانات وعدل بين الناس.و الحمد لله رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر زاد المعاد (3) ص (1402).
[2] الطبقات لابن سعد بنحوه (1) (141) (143) وانظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (561).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد فقد أوجب الله تعالى على عباده التراحم والتعاطف والتعاون وأن يتفقد غنيهم فقيرهم فيقوم بحاجاته الضرورية, وجعل في مال الغني حقا معلوما للفقير لا منة فيه ولا فضل للغني بل هو فرض واجب الأداء ألا وهو الزكاة فعلى كل مسلم ملك نصابا أن يقدمها للفقير طيبة بها نفسه ومن أنواع الزكاة التي فرضت على المسلمين زكاة الفطر, فرضت على المسلمين على الكبير والصغير والذكر والأنثى ولا تجب على الجنين في بطن أمه إلا أن يخرجها عنه وليه تطوعا.
فرضت هذه الصدقة لإغناء الفقراء يوم العيد وكفهم عن السؤال, قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللهو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة أي صلاة العيد فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
يجب إخراج هذه الصدقة صاعا من طعام برا أو شعيرا أو تمرا أو أقطا أو زبيبا أو أرزا أو غير ذلك, قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام وكان طعامنا حينئذ الشعير والتمر والأقط والزبيب. رواه البخاري.
إذن يجب إخراج الزكاة صاعا من الطعام الذي اعتاد الناس اليوم أن يأكلوه ويطعموه والصاع يعادل كيلوين وأربعين جراما, ويبدأ وقت وجوب إخراج هذه الزكاة بغروب الشمس ليلة العيد ويمتد إلى صلاة العيد ولا يجوز تأخيرها عن ذلك فمن أخرها أثم وهي صدقة من الصدقات ويجوز تقديمها على هذا الوقت بيوم أو يومين وتدفع هذه الصدقة للفقراء في البلد الذي يكون فيه المزكي وقت وجوبها عليه سواء كان محل إقامته أو غير ذلك.
فاتقوا الله أيها المسلمون وبادروا إلى أداء هذه الصدقة تزكون بها أنفسكم وتشاركون إخوانكم الفقراء بإغنائهم يوم العيد وكفهم عن السؤال.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/559)
شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"رمضان موسم عظيم –العمر كله موسم – مضاعفة الأجر في رمضان أعظم الأعمال : الصيام – القيام – القرآن – الصدقة – العمرة "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فقد قال الله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون [البقرة:185]. هذا الشهر المبارك موسم عظيم للخير والبركة والعبادة والطاعة والمؤمن الصادق كل الشهور عنده مواسم للعبادة والعمر كله عنده موسم للطاعة , ولكنه في شهر رمضان تتضاعف همته للخير وينشط قلبه للعبادة أكثر ويقبل على ربه سبحانه وتعالى , وربنا الكريم من جوده وكرمه تفضل علي المؤمنين الصائمين فضاعف لهم المثوبة في هذا الموقف الكريم واجزل لهم العطاء والمكافئة على صالح الأعمال , واعلموا أيها المؤمنون الصائمون أن من أعظم الأعمال في هذا الشهر الكريم الصيام نفسه ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً )) [1]. أي سبعين سنة , فإذا كان صيام يوم واحد يباعد العبد عن النار سبعين سنة فما بالك بصيام شهر رمضان كله , والصيام طريق إلى الجنة وباب من أبوابها فعن سهل بن سعد الساعدي رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( إن للجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون ولا يدخل منه أحد غيرهم )) [2] , والصيام مثل القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام أي رب منعته الشراب والطعام في النهار فشفعني فيه ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه, قال: صلى الله عليه وسلم يشفعان أي فيشفعان )) [3].
و صيام شهر رمضان خصوصاً يمحو الذنوب ويكفر السيئات ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )) [4] , وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن ما اجتنب الكبائر )) [5] فدل هذا الحديث على أن المراد تكفير ما سوى الكبائر من الذنوب أما الكبائر فلا يمحوها إلا التوبة الصادقة, واعلموا أن من أجل الأعمال أيضاً وأعظمها في هذا الموسم العظيم القيام أو صلاة الليل سواء كان مع الإمام في صلاة التراويح أو كان القيام في البيت منفرداً وحده في أخر الليل وهذه أفضل من تلك كما قال عمر الفاروق رضى الله عنه: " والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون " , قال الله تعالى لنبيه ومصطفاه يأيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً [المزمل:1-4], وقال سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أمراً أو نادباً أمته إلى قيام الليل (( يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام )) [6] , وقال صلى الله عليه وسلم في قيام شهر رمضان على وجه الخصوص (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )) [7] , وقال عن القيام مع الإمام في صلاة التراويح على وجه الخصوص أيضاً (( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )) [8] من قام مع الإمام حتى ينصرف أي ينتهي من صلاته كتب له قيام ليلة كأنما قام تلك الليلة كلها في الفضل والأجر والثواب , ولقد صلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح بأصحابه ولكنه لم يزد علي إحدى عشر ركعة وصلاها الصحابة بعده في عهد الصديق إحدى عشرة ركعة وكذلك في أول عهد الفاروق عمر ثم صلوها إحدى وعشرين وفي رواية ثلاث وعشرين فدل ذلك على أن كلاً سنة وعلى أن هذا الأمر فيه سعة.
و اعلموا أيها المؤمنون الصائمون أن من أجل الأعمال وأعظمها أيضاً في هذا الموسم الكريم قراءة كتاب الله عز وجل وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار فهذا شهر القرآن شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن , وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل هذا الشهر الكريم شمر وأيقظ أهله وكان يلتقي فيه بأمين وحي رب العالمين جبريل يدارسه القرآن ويعرض عليه القرآن , وقال صلى الله عليه وسلم (( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف )) [9] , والقرآن كما سبق أن ذكرنا يشفع لصاحبه يوم القيامة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف البقرة وآل عمران بالزهراوين وقال (( إنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان يحاجان عن صاحبهما )) [10] أي عن الذي يحفظهما ويقرأ بهما دائماً يأتيان يذبان عنه ويدافعان ويحاجان عنه يوم القيامة , وكذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أن سورة الملك: تبارك الذي بيده الملك تذب عن صاحبها في القبر من يحفظها ويقرأ بها تذب عنه وتدافع عنه عذاب القبر [11]. فعليكم بهذا الكتاب العظيم اقرؤوا كتاب الله عز وجل واتلوه آناء الليل وأطراف النهار فإن من أراد أن يناجي ربه فليقرأ هذا القرآن العظيم فإنه كلام الله ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [القمر:32-40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (2840) صحيح مسلم (1153).
[2] صحيح البخاري (1896) صحيح مسلم (1152).
[3] مسند أحمد (2/174).
[4] صحيح البخاري (1901) صحيح البخاري (760) من أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] صحيح مسلم (233).
[6] سنن الترمذي (2485) وقال : حديث صحيح ، سنن ابن ماجة (1334) عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
[7] صحيح البخاري (2009) صحيح مسلم (759) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] سنن الترمذي (806) وقال : حسن صحيح ، سنن النسائي (1605) سنن ابن ماجة (1327) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[9] سنن الترمذي (2910) وقال : حسن صحيح غريب. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[10] صحيح مسلم (804) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
[11] سنن الترمذي (2890) عن ابن عباس ، وقال : حديث حسن غريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد فاعلموا أن من أجل الأعمال أيضاً وأعظمها وخاصة في هذا الموسم العظيم البذل والإنفاق علي الأهل والعيال والأرحام والصدقة علي الفقراء والمساكين والمحتاجين فهذا الشهر شهر البذل والإنفاق والجود والكرم وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأعظمهم جوداً وكرماً وبذلاً وسخاءً وإنفاقاً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر قط وقد أعطى رجل من أصحابه ما بين جبلين من الماشية [1] وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاء هذا الشهر الكريم يكون أعظم ما يكون جوداً وكرماً يصير مثل الريح المرسلة كما قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما [2] , والصدقة من أعظم أبواب البر قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (( والصدقة برهان )) [3] أي دليل على صدق إيمان العبد لأنه بذلك يكون قد تغلب علي الطبيعة المغروسة في الإنسان وهي الشح: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9], وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الصدقة فقال: (( أيها الناس تصدقوا )) وقال: (( اتقوا النار ولو بشق تمرة )) وأمر النساء على وجه الخصوص بالإكثار من الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم: (( تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار )).
واعلموا أيضاً أن من أعظم الأعمال صدقة السر الصدقة التي تنفقها بيمينك فلا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك مبالغة في السر بحيث تكون أبعد عن الرياء والسمعة هذه الصدقة تطفئ غضب الرب كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: (( صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر )) , أما الصدقة المعلنة في الجرائد وأعمال الخير التي يطبلون لها ويزمرون مع وصف صاحبها بمختلف الأوصاف " المحسن الكبير " " صاحب أعمال الخير " فلان وفلان هذه صدقة الرياء والسمعة تذهب هباء منثوراً لا تنفع صاحبها عند الله عز وجل, لا تطفئ غضب الرب بل ربما تزيد غضبه عز وجل.
و اعلموا أيها المؤمنون الصائمون أن من أعظم الأعمال وأجلها في هذا الموسم الكريم العمرة إلي بيت الله الحرام فإنها تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (( لما رجع من حجة الوداع قال لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان : ما منعك أن تحجي معنا؟ فقالت: أبو فلان تعني زوجها أبو فلان له ناضحان حج على أحدهما والأخر نسقي عليه. فقال لها صلى الله عليه وسلم: فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة معي )) [4]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على صيام هذا الشهر الكريم وعلى قيام هذا الشهر الكريم وعلى الطاعة والعبادة فيه. أن تعيننا فيه وفي غيره على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وعلى تلاوة كلامك العظيم آناء الليل وأطراف النهار ونسألك أن تتقبل منا ذلك كله يا كريم يا رحيم.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [5]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (2312) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري (1902)، صحيح مسلم (2308).
[3] صحيح مسلم (223) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري (1863) ، صحيح مسلم (1256).
[5] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/560)
منكرات الأفراح
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
منصور الغامدي
الطائف
4/3/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العبودية لله في جميع الأحوال والأوقات 2- مظاهر إعلان النكاح ودلالتها وأثرها 3- وصايا السلف في ليلة الزفاف 4- طبيعة الزواج في الاسلام 5- بعض منكرات الأفراح:...
(الذهاب إلى العرافين والكهنة – بدعة قراءة الفاتحة – دبلة الخطوبة – الخطبة على خطبة أخيه...
- المغالاة في المهور – قولهم في التهنئة: بالرفاه والبنين – التباهي والاسراف في ولائم...
العرس – الغناء – السهر وتضييع الفجر – الاختلاط – التصوير ) 6- خطورة هذه المنكرات وأثرها السيء على الحياة الزوجية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومراقبته، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى وأن ملك الموت قد تخطأكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم.
أيها الأحبة الكرام: إن الناس يعيشون أحوالا متقلبة، من العسر واليسر، والفرج والشدة، الحزن والفرح، وفي ذلك كله فإن المسلم الحق يبقى وثيق الصلة بربه معتصما الذي لو تخلى عنه طرفه عين لهلك.
أيها الاخوة الكرام: ومن مظاهر الفرح والسرور التي يعيشها الناس في هذا الأيام مظاهر إعلان النكاح في كل مكان ودعوة الناس لحضورها فتجد كثيرا من البيوت تعيش فرحة زواج الذكر أو الأنثى، وتعد له ما يحتاجه، وأسر أخرى تنتظر يوم فرحتها بهذا الحديث والناس، يكتنفهم السرور، ويحدوهم الفرح في التهنئة والمشاركة ولا شك أيها الاخوة أن هذه المشاعر الفياضة، والعواطف الجياشة من الفطرة، وإن الحياة لتحلوا إذا رأى المرء الناس قريبين يبادلونه مشاعر الابتهاج، ويقدمون له من الخدمات ما يحتاج إليه ويسمع ألسنتهم تلهج بالدعاء له بأن يبارك الله له ويبارك عليه وأن يجمع بينهما في خير.
لقد كان للسلف في ليلة الزفاف وصايا عظيمة، وكلمات نافعة، يهمسون بها في أدب الزوجين حين إقبالها على حياة جديدة، قال عتبة بن أبي سفيان لا بن أخيه عثمان حينما خطب ابنته قال: أقرب قريب، خطب أحب حبيب، لا أستطيع له ردا، ولا أجد من إسعافه بدا، قد زوجتكما وأنت أعز علي منها، وهي ألصق بقلبي منك، فأكرمها يعذب على لساني ذكرك، ولا تهنها فيصغر عندي قدرك، وقد قربتك مع قربك، فلا تبعد قلبي من قلبك وأوصيت أمامه بنت الحارث ابنتها قبل زفافها فقالت: أي بنية، إنك قد فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها، كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال، فكوني له أمة يكن لك عبدا وشيكا، واحفظي له خصالا عشرا تكن لك ذخرا، أما الأولى والثانية: فالخضوع له بالقناعة وحسن السمع والطاعة، والثالثة والرابعة: فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، وأما الخامسة والسادسة : فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، وأما السابعة والثامنة : فالاحتراس بماله، والارعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال: حسن التقدير، وفي العيال: حسن التدبير، وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمرا، ولا تفشين له سرا، فإنك إن خالفت أمره أو غرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره، ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مغتما، والكآبة بين يديه إن كان فرحا.
هذه بعض المعالم التي يسوقها المجرّب الخرّيت إلى فلذة كبده: يعينه بها على الحياة، ويشد من أزره ليبقى موصول السعادة، دائم البشر، متيقظا حذرا.
وفي ليلة الزفاف يسمح للنساء الضرب بالدف فقط، قال : ((فصل ما بين الحلال والحرام الصوت بالدف)).
أيها الاخوة الكرام: إن الزواج في ظل الإسلام لا يحمل أي مشقة بل كان الزواج من أيسر الأمور قال : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوا ألا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))، ويقول الله تعالى: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ولم يكن ليالي الزفاف مثقلة بكثير مما يخالف ما جاء به السنة والقران.
أيها الأب الموفق، أيها الأخ الغيور: لقد أصبحت ليالي العرس وما قبلها وما بعدها تحمل أنظمة معينة، وقوالب ليست جامدة بل قابلة للزيادة، وكل من يخالفها فإنه يرمى بشتى التهم، ويهمز في المجالس ويغمز، مع العلم إن العادات ما جاءت في كتاب ولا سنة، بل إن كثيرا منها محرم ومنكر عظيم ومن هذه المنكرات التي يقع فيها كثير من الناس بعلم وبغير علم ما يسمى بالخيرة، وهو الذهاب إلى بعض السحرة والكهنة والعرافين لمعرفة نجم الخاطب والمخطوبة فإذا نصحهم على الزواج أقدموا، وإذا نصحهم بالإحجام أحجموا، وهذا عمل لا يجوز قال : ((من أتى عرفا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة))، والصحيح أن يستخير العبد ربه في كل شيء وقد علمنا دعاء الاستخارة قال: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم ووأنت علام الغيوب، اللهم إني كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال ( عاجل أمري وآجله) فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري)) أو قال: ((عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به)) ثم يسمي حاجته.
ومن منكرات الأفراح : بدعة قراءة الفاتحة بقصد الخطبة فإنه لم يردعن النبي لقوله : ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)).
ومنها (دبلة الخطوبة ) فإن كانت ذهبا فهي محرمة، لأنها من الذهب ولأن فيها تشبها بالكفار لقوله : ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده))، أما وجه التشبه بالكفار في لبس الدبلة فإن النصارى كان من عادتهم أن يضع العريس الخاتم على إبهام العروس اليسرى ويقول: باسم الأب، ثم ينقله على رأس السبابة ويقول: باسم الابن، ثم يضعه على الوسطى ويقول: باسم الروح القدوس وعندما يقول آمين يضعه أخيرا في البنصر.
ومن المنكرات المتعلقة بالأفراح : أن يخطب الرجل على خطبة أخيه المسلم وهذا الفعل محرم إذا أجيب لخاطب الأول ولم يأذن للثاني ولم يترك الخاطب الأولى من تقدم لخطبة ابنتهم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: ((نهى النبي أن يبيع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب)).
ومنها: المغالاة في المهور، أيؤد لي هذا الفعل إلى إصابة الفتيات بالعنوسة، والشباب بالفساد، والمستطيع من الشباب على هذا الغلاء فإنه إنما جمع المهر بعد أن أراق ماء وجهه عند الناس بطلب الدين منهم، الأمر الذي يجعله منشغلا في سداد دين المهر لسنوات طويلة مهملا الزوجة التي يفكر في أنها هي سبب ما هو فيه من الدين.
ومن منكرات الأفراح أيضا: قولهم في التهنئة بالرفا والبنين وهي تهنئة جاهلية وإنما الوارد في السنة: ((بارك الله عليك وبارك عليك وجمع بينكما في خير))، اللهم بارك لإخواننا وبارك عليهما، واجعل حياتهم مكللة بالسعادة في ظل الالتزام بهدي النبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ومن منكرات الأفراح: مظاهر التباهي في ولائم العرس، إذ يدعي الأغنياء ويترك الفقراء، كما يكون منها من التبذير والاستهانة بالنعمة ما يكلم القلوب، ويصدع الرؤوس وأنت ترى الشاحنات تحمل، أكوام الطعام بعد الزواج لتلقي به في حاويات النفايات وربما تلقي الذبيحة كاملة، دون أن تمس يا لهؤلاء أفلا تتقون الله، أو ما شعرتم بشعور الفقراء الذين لا يجدون ما يأكلون، أفلا تذكرتم أنتم وآباؤكم يوما من الدهر ما كنتم تلبسون، وكيف كنتم تعيشون، أو ما كنتم تلبسون المرقع من الثياب، وتعملون خدما في مكة وغيرها وتركبون الحمير أعزكم الله، إن شبعتم يوما لم تشبعوا اليوم الذي بعده، أما المسكن فكانت الأسر تجتمع ففي غرفة واحدة تعيش معهم بهائمهم، ولما أتى الله بهذه النعم كأنها الغمام نسي أولئك الناس فضل الله عليهم ولم يشكروه، وكأنهم في مأمن أو قد جاءهم صك من الله أنهم سوف يبقون على نعيمهم وثرائهم: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً.
ومن منكرات الأفراح العظيمة: دعوة المغنين والمغنيات، إذ تجد مكتوبا على بطاقة الدعوة: يحي الحفل الفنان أو الفنانة، وما أدري هل يحيونه بالذكر والتلاوة والدعاء للعروسين بالبركة والتوفيق، أو يميتون الليل بكلام سافل ساقط، ويعطون مالا كبيرا على هذه المعصية، لقد نسي صاحب الحفل أنه قد تحمل في ليلته تلك آثام كل من حضر: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ، والله إن الناس لن يغنوا عنه من الله شيئا: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا.
ومن منكرات الأفراح: السهر إلى وقت متأخر من الليل مما يؤدي إلى تضييع صلاة الفجر وهذا الشهر محرم، كما قاله العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
ومن منكرات الأفراح: ما يسمى بالنصبة، وهو دخول العريس إلى العروسة وجلوسهما في مكان عال بمرأ الناس من جميع الحاضرين والنصة محرمة لأمور منها: دخول الرجل وهو أجنبي وجلوسه بين النساء وكذلك مرافقة أقاربه وأقارب الزوجة واختلاطهم بالنساء، وربما يرقصون بين النساء وربما دخل المصورون والمصورات لالتقاط الصور التذكارية للعروسين وللعائلة.
والأدهى من ذلك تصوير حفل النساء بالفيديو ثم يتداوله الناس مما يكشف عورات المسلمين، ويجر من المصائب ما لا يعلمه إلا الله قال الشيخ عبد العزيز بن باز، ومن الأمور المنكرة التي استحدثها الناس في هذا الزمان وضع منصة للعروس بين النساء ويجلس إليها زوجها بحضرة النساء السافرات والمتبرجات وربما حضر معه غيره من أقاربه، أو أقاربها من الرجال ولا يخفى على ذوي الفطرة السليمة والغيرة الدينية ما في هذا العمل من الفساد الكبيرة وتمكن الرجال الأجانب من مشاهدة الفاتنات المتبرجات وما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة والقضاء عليه حسما لأسباب الفتنة وصيانة للمجتمعات النسائية مما يخالف الشرع المطهر.
أيها المسلمون: ويا من يريد التوفيق لابنه أو ابنته إنه لا يمكن أن يكون التوفيق للزوجين في ظل هذه المنكرات، إذ إنهم يبدأن حياتهم بلطخة سوداء، وعودوا بذاكرتكم إلى كل زواج اشتمل على هذه المنكرات فسوف تجدون أنه الزواج قد فشل أو أوشك على الفشل، وهذه هي النتيجة الحتمية، فاتقوا الله في حياة أبناءكم وبناتكم، وإننا لندعو الله لهؤلاء أن يهدي قلوبهم وأن يجنبهم الهوان والتباهي.
كما نقدم الثناء والدعوات الصادقة لأولئك الآباء الحريصين على رضي الله سبحانه، وعلى سعادة أبنائهم فإنه من ابتغى رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط الناس عليه، ومن ابتغى رضى الله بسخط الناس رضى الله عليه وأرضى عنه الناس، وهذه عاجل بشرى المؤمن. إن أريد إلا الإصلاح.
(1/561)
رمضان شهر التوحيد (غزوة بدر)
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
سبب الغزوة – مشاهد من الإعداد للغزوة – هزيمة قريش – دروس : 1- رمضان والجهاد 2- النصر بيد الله 3- خطأ المعايير المادية 4- أهمية الشورى 5- أهمية الدعاء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد قال الله عز وجل ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون [آل عمران:123].
في شهر رمضان المبارك من السنة الثانية من الهجرة وقعت أولى الغزوات النبوية الكبرى , غزوة بدر الكبرى وكان سببها أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بقافلة تجارية كبيرة لقريش عائدة من الشام إلى مكة يقودها أبو سفيان, فأمر أصحابه بالخروج للاستيلاء عليها وقال لهم: لعل الله يمكنكموها , فقد كانت قريش إذ ذاك حربا على رسول الله وحربا على المسلمين وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من أصحابه, خرجوا لا يريدون الحرب ولا يظنون أن سيكون قتال ولكن أبا سفيان أفلت ونجى بالقافلة أما قريش فلما أتاها الصارخ خرجت بأشرافها عن بكرة أبيهم في نحو ألف رجل معهم مائة فرس وسبعمائة بعير , خرجوا كبرا ورءاء الناس ويصدون عن سبيل الله معهم القيان يغنين بهجاء المسلمين , فلما علم أبو سفيان بخروج قريش أرسل إليهم يخبرهم بنجاته وإفلات القافلة ويشير عليهم بالرجوع وعدم الحرب , فأبوا وقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نبلغ بدرا فنقيم فيه ثلاثا ننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر فتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا.
أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علم صلى الله عليه وسلم بأمر قريش جمع من كان معه من أصحابه استشارهم , فقام المقداد بن عمرو رضي الله عنه وهو من المهاجرين فقال : يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله فو الله لن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك. فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : أشيروا علي أيها الناس. فقام سعد بن معاذ من الأنصار وهو سيد الأوس فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله. فقال : أجل. فقال سعد : كأنك يا رسول الله خشيت أن تكون الأنصار ترى أنه ليس من حقها أن تنصرك إلا في ديارهم وأنا أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن متى شئت وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا منها ما شئت والذي تأخذه منا كان أحب إلينا مما تتركه وما أمرت فيه بأمر فأمرنا فيه تبع لأمرك فسر بنا فو الله لو سرت بنا إلى برك الغماد لنسيرن معك ولو استعرضت هذا البحر فخضته لنخوضنه معك , والله لا نكره أن تلقى بنا عدونا غدا فإننا صبر في الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك.
فسر النبي صلى الله عليه وسلم مما سمع من كلام المهاجرين والأنصار وقال لأصحابه : سيروا وأبشروا فو الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم.
و سار النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه حتى نزل بأدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة. فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه يا رسول الله : أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل هو الحرب والرأي والمكيدة.
فقال الحباب : فليس هذا بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من الآبار , فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم رأي الحباب ومضى بأصحابه حتى نزل بالعدوة الدنيا مما يلي المدينة وجيش قريش بالعدوة القصوى مما يلي مكة , وأنزل الله مطرا كان شديدا ووحلا زلقا على المشركين وكان طلا خفيفا على المسلمين , طهرهم به ووطأ لهم الأرض وثبت به الأقدام وبنى المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا على تل مشرف على موضع المعركة.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسوى صفوف أصحابه ومشى في أرض المعركة يشير إلى مصارع القوم إلى المواضع التي سيقتل فيها زعماء المشركين يقول هذا مصرع فلان إن شاء الله فو الله ما جاوز أحد منهم الموضع الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم, قتلوا في تلك المواضع التي عينها النبي صلى الله عليه وسلم.
والتقى الفريقان وقام النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي ربه يدعو ويلح في الدعاء ويتضرع بين يدي ربه ويستغيث به , يقول اللهم أنجز لي ما وعدتني , اللهم هذه قريش قد أتت بخيلها وخيلائها تصد عن دينك وتحارب رسولك ,ثم يقول عن أصحابه : اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض.
واستجابة من الرب سبحانه وتعالى لاستغاثة نبيه واستغاثة الصحابة أنزل عليهم نصره , أنزل الملائكة فهزموا عدوهم , هزمت قريش وولوا الدبر , قتل من المشركين سبعون وأسر سبعون وجمع من القتلى أربعة وعشرون من صناديد المشركين فألقي بهم في قليب من قلبان بدر , منهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم من رؤوس الكفر وصناديد المشركين.
وبعد ثلاث ليال أقامها النبي صلى الله عليه وسلم ببدر , انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند انصرافه وقف علي القليب ونادى أولئك الصناديد بأسمائهم وأسماء آبائهم , يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا.
فقال له عمر الفاروق : أتنادي أجساداً قد بليت يا رسول الله. فقال : والله ما أنتم بأسمع لكلامي منهم ,ذلك أن الله عز وجل أسمعهم نداء نبيه في تلك اللحظة [1].
وفي هذين الفريقين فريق الإيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفريق الكفر والشرك قريش وصناديدها أنزل الله تبارك وتعالى قوله: هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم [الحج:19].
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب رسولك وحب من يحب رسولك وحب عمل يقربنا إليك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (1370، 3976، 4026) ، صحيح مسلم (2873، 2875) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد فما أكثر الدروس وما أعظمها في هذه الغزوة النبوية الكبرى غزوة بدر الكبرى :
أولا : هذه الغزوة وقعت في شهر رمضان, هذا الشهر الكريم شهر العمل وشهر الصبر والجهاد في سبيل الله , تتضاعف فيه همة المؤمن ويقرب من ربه الكريم الرحيم وتفتح فيه أبواب الجنان فهو أثمن وأنفس فرصة للمؤمن لكي يضاعف فيها نشاطه وعمله في سبيل الله عز وجل وأكثر المعارك الإسلامية الكبرى في تاريخ المسلمين وقعت في هذا الشهر الكريم.
ثانيا : هذه الغزوة تبين بجلاء ما يعرفه كل مؤمن أن النصر كله بيد الله يؤتيه من يشاء , فالصحابة رضوان الله عليهم لما خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يريدون الحرب وما ظنوا أن سيكون قتال ولذلك لم يتهيؤوا للحرب والقتال ولم يعدوا ما يكفي من العدة ومع ذلك أظفرهم الله ونصرهم على عدوهم لما صدقوا ما عاهدوا الله عليه وامتثلوا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم, فببركة إيمانهم وبصدقهم مع الله وطاعتهم لرسوله نصرهم الله وأظفرهم وأظهرهم على عدوهم.
ثالثا : حينما تكون المعركة بين الإيمان والكفر فإن النتائج لا تقاس بالمقاييس البشرية التي تبنى عادة علي الأسباب المادية وحدها , فإن الله عز وجل يؤيد جند الإيمان , يؤيد المؤمنين على الكافرين وإن كان الميزان المادي بينهم وبين عدوهم ليس متكافئا فإن الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده المؤمنين يعوض ما عساه نقص من استعداداتهم بما شاء من جنوده وما يعلم جنود ربك إلا هو.
فالصحابة رضوان الله عليهم في بدر كان عدوهم أكثر منهم عددا وأقوى عدة , كان جيش المشركين ثلاثة أضعاف جيش المؤمنين ولكنهم لما لجأوا إلى ربهم واستغاثوا به نصرهم الله عز وجل علي عدوهم رغم هذا الفارق المادي الكبير في العدد والعدة.
رابعا : لم يكن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوانى عن مشاورة أصحابه في جلائل الأمور وخاصة في المواقف الخطيرة كغزوة بدر وغزوة أحد وغزوة الخندق كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بمبدأ المشاورة امتثالا لأمر ربه عز وجل ولذلك كانت بركات هذا المبدأ تنزل عليه وعلى أصحابه نجاحا وفلاحا وفوزا في الأمور ونصرا وظفرا في المعارك.
خامسا : الأمر كله لله المُلك ملكه والخلق عبيده , فالخلق مفتقرون كلهم إلى الخالق وهذه هي حقيقة العبودية وهي حقيقة عرفها المؤمن وامتثل لها وعاندها الكافر وتمرد عليها وهذا هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العظيم يعلمنا هذا الدرس الجليل مهما كانت الأحوال فان إظهار الافتقار إلى الرب عز وجل والتضرع بين يديه والتذلل له سبحانه وإظهار الضعف بين يديه والحاجة إليه والاستغاثة به , هذه كلها أمور مطلوبة من المؤمن مهما كانت الأحوال فالنبي صلى الله عليه وسلم مع يقينه بالنصر حتى إنه حدد المواضع التي سيقتل فيها زعماء المشركين ومع ذلك يقف بين يدي ربه يدعو ويلح في الدعاء والتضرع والاستغاثة وببركة هذه الاستغاثة من النبي صلى الله عليه وسلم وببركة استغاثة الصحابة الكرام استجاب لهم الرب فنصرهم وأيدهم على الرغم من ذلتهم والمقصود بالذلة ضعف القوة وقلة العدد, يقول تعالى: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [الأنفال:9].
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: (( من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا )) [1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/562)
احفظ الله يحفظك
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
منصور الغامدي
الطائف
12/10/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث ((احفظ الله يحفظك)) وما فيه من معانٍ وتوجيهات
2- معنى حفظ العبد لله
3- معنى حفظ الله للعبد ، وأنواع ذلك وصوره
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم إخوتي الكرام ونفسي بمراقبة الله سبحانه في الظاهر والباطن، ومحاسبة النفس في الدنيا قبل الحساب الأكبر يوم القيامة.
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف النبي فقال: (( يا غلام أو يا غليم، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت: بلى، فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) وفي رواية: ((واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا)).
قال ابن الجوزي: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه.
إن في هذا الحديث من معاني التوحيد والتعلق بالله وحده وتسليم الأمور له وحده والطمأنينة بقضائه وقدره، ما يشعر المسلم معه بطمأنينة النفس وسكون الروح، وسمو المشاعر وانضباط الجوارح.
لقد علم النبي ابن عباس ذلك الغلام الفذ علّمه تلك الوصايا العظيمة الجامعة لسعادة الدنيا والآخرة، وفيه درس عظيم لنا في أن نعلم أبناءنا ونساءنا ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وبث النصح والتوجيه المستمر، وفي الوقت المناسب، لتكون مصابيح في طريقهم إلى الخير.
أما قول النبي : ((احفظ الله يحفظك)) ، في هذا يعني حفظ حدود الله بلا تجاوز، وحفظ حقوقه، وأوامره ونواهيه، وذلك باتباع أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه، جاء في الأثر: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حُرُمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها.
وقد أثنى الله على من حفظ حدود الله قال تعالى: والحافظون لحدود الله [التوبة 112] وقال تعالى: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب [سورة ق 32-33] ، ومن أعظم ما يجب حفظه من المأمورات الصلوات الخمس، قال : (( من حافظ عليهن كن له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة )).
ومما أمر الله بحفظه الرأس وما وعى، والبطن وما حوى.
وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على محرم، ويدخل فيه حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المأكولات والمشروبات وما يجب حفظه من المنهيات حفظ اللسان والفرج قال : ((من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة)).
كما يشمل ما أمر الله به أن يحفظ العبد سمعه عن الحرام، وأن يحفظ بصره فلا ينظر إلى الحرام، فمن أدى ما أمر الله به حينئذ فليستبشر بحفظ الله له فإن الجزاء من جنس العمل كما قال تعالى: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم [البقرة 40]. وكما قال تعالى: اذكروني أذكركم [البقرة 152]، وحفظ الله تعالى لعبده يتضمن نوعين:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، وكذلك كان يدعو بهذه الدعوات حين يمسي وحين يصبح يقول: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)).
وقال علي : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه.
وحفظ الله وجده إبراهيم عليه السلام في النار، ووجده يوسف عليه السلام في الجب، ووجده يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، كما وجده موسى عليه السلام في اليَم وهو طفل مجرد من قوة ومن كل حراسة، كما وجده في قصر فرعون وهو عدو له متربص له.
ومن حفظ الله للعبد أن يحفظه في بدنه وقوته وعقله وماله ، وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة وهو ممتع بعقله وقوته فوثب يوما من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة، فعوتب على ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر.
وعكس هذا أن الجنيد رأى شيخا يسأل الناس فقال: إن هذا ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره.
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده كما قيل في قوله تعالى: وكان أبوهما صالحاً [الكهف 82] إنما حفظا بصلاح أبيهما، وقال سعيد بن المسيب لابنه: إني لأزيد في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك.
ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه أن يحفظه من شر كل من يريده بأذى من الجن والإنس كما قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً [الطلاق 2 ]. وقال الربيع بن خثيم : يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس، وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية : إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا.
ومن عجيب حفظ الله تعالى لمن حفظه أن يجعل حتى الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى، ساعية في مصالحه كما جرى لسفينة مولى النبي حيث كسر به المركب وخرج إلى جزيرة فرأى السبع، فقال: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى رسول الله ، فجعل يمشي حوله ويدله على الطريق حتى أوقفه عليه، ثم جعل يهمهم كأنه يودعه وانصرف عنه.
اللهم اجعلنا حافظين لحدودك، مؤتمرين بأمرك، منتهين عما نهيت عنه يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فمن ضيع الله ضيعه الله بين خلقه، حتى يدخل عليه الضرر ممن كان يرجو أن ينفعه، ويصبح أخص أهله به وأرفقهم به يؤذيه فتجد المال يؤذيه، والولد يؤذيه، وكذا المقربين من أصحابه. كما قال بعضهم: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي وحماري، يعني أن خادمه يسوء خلقه عليه ولا يطيعه، وحماره يستعصي عليه فلا يواتيه لركوبه.
والنوع الثاني من الحفظ وهو أشرفها وأفضلها: حفظ الله تعالى لعبده في دينه، فيحفظ عليه دينه وإيمانه في حياته من الشبهات المردية والبدع المضلة، والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإسلام فأي نعمة أعظم من هذه، وأي سعادة أعظم من هذه السعادة، في الوقت الذي يتهاوى فيه كثير من الناس في الشهوات والشبهات، وقد ثبت في الصحيحين من حديث البراء بن عازب أن النبي علم أن يقول عند منامه: ((اللهم إن قبضت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)).
وكان النبي إذا ودع من يريد السفر يقول له: ((أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)) وفي رواية وكان يقول: ((إن الله إذا استودع شيئا حفظه)).
ومن حفظ الله للعبد أن يحول بينه وبين الوقوع في المعصية كما حفظ يوسف عليه السلام: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [يوسف 24] وسمع عمر رجلا يقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه، فحُل بيني وبين معاصيك، فأعجب عمر ودعا له بخير. وقال الحسن عندما ذكر أهل المعاصي قال: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم.
ومن أنواع حفظ الله لعبده في دينه أن العبد قد يسعى في سبب من أسباب الدنيا من الولايات أو التجارات أو غير ذلك، فيحول الله بينه وبين ما أراده لما يعلم له من الخيرة في ذلك وهو لا يشعر مع كراهيته لذلك.
قال ابن مسعود : إن العبد ليهمّ بالأمر من التجارة أو الإمارة فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسرته له أدخلته النار فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير، يقول: سبقني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل.
وفي الجملة فمن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها فليراع حقوق الله عليه، ومن أراد ألا يصيبه شيء مما يكره فلا يأتي شيئا مما يكرهه الله، وكان بعض السلف يدور على المجالس ويقول: من أحب أن تدوم له العافية فليتق الله.
وكان بعض الناس يطلب من العمري الزاهد الوصية له فيقول له: كما تحب أن يكون الله لك، فهكذا كن لله عز وجل.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه.
وقال مسروق: من راقب الله في خطرات قلبه عصمه الله في حركات جوارحه.
فتأمل في حفظ الله لعباده الصالحين، قد حفظهم في أنفسهم وأموالهم وأهليهم، ثم هو يحفظهم في أعظم ما يحملون في دينهم، بل ويحفظهم من كل سوء لم يقدره عليهم، فهنيئا لأولئك الذين صبروا على طاعة ربهم، وهنيئا لمن راقب الله في جوارحه ولسانه وأعمال قلبه، قد نالوا حفظ الله لهم، ومن يحفظه الله فلا يمكن لأي قوة في الأرض أن تخترق هذا الحجاب المنيع.
أما الذين ضيعوا أمر الله فوا أسفى على حياة ما تلذذوا بها، وعلى أيام حيل فيها بينهم وبين ما يشتهون، فانقلبت لذتهم حزنا وصفوهم كدرا.
(1/563)
تتمة حديث ابن عباس (احفظ الله يحفظك)
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الألوهية
منصور الغامدي
الطائف
19/10/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((احفظ الله تجده أمامك)).
2- معية الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين ونماذج منها 3- التعرف إلى الله في الرخاء
(معناه وأثره) 4- الاستعداد للموت كيف يكون 5- وجوب إفراد الله بالمسألة 6- الاستعانة
بالله معناها وأثرها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيتواصل الحديث مع الوصية العظيمة والكلمات البليغة، التي حباها رسول الله لحبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وهو لا يزال آنذاك غلاما يافعا.
والوصية الثانية: قوله : ((احفظ الله تجده أمامك)) ، أو تجاهك، فمعنى هذه الوصية، أن من حفظ الله وراعى حقوقه، وجد الله معه في جميع الأحوال يحوطه وينصره ويحفظه بل ويوفقه ويؤيده ويسدده فإنه سبحانه قائم على كل نفس بما كسبت، وهو تعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
قال قتادة : من يتق الله يكن معه، ومن يكن معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.
ولقد كان بعض السلف يوصي إخوانه بكلمات نافعة عظيمة الأثر كتب بعضهم لأخيه: أما بعد: فإن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو.
ومعية الله سبحانه لعباده المتقين الذين حفظوا أوامره، واجتنبوا نواهيه تقتضي النصر والتأييد لهم، قال الله تعالى لموسى وهارون: لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [طه 46] ، وكما في خبر هجرة النبي وصاحبه الصديق رضوان الله عليه إلى المدينة عندما كانت قريش تطاردهم في كل مكان، وكان قد تملك الصديق الخوف، فخاطبه النبي خطاب الواثق بربه فقال: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).
وفي الحديث عن أبي هريرة : ((إن الله تعالى يقول: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)).
الوصية الثالثة: قول : ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ))، وهذا يعني: أن من اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال الرخاء والصحة، فقد تعرف بذلك إلى الله؛ بينه وبينه معرفة، وهذه المعرفة هي معرفة خاصة تقتضي القرب من أرحم الراحمين، ومحبته سبحانه لعبده، وإجابته لدعائه، حينئذ لا تسأل عن طمأنينة العبد بربه، وثقته به في إنجائه من كل كرب وشدة، فهذا يونس بن متى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، نادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجاب الله دعاءه ونجاه من الغم، أما فرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، لما أدركه الغرق قال: آمنت، فقال الله تعالى: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [يونس 91] ، قال الضحاك : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة.
فإذا تبين أن التعرف إلى الله في الرخاء يوجب معرفة الله لعبده في الشدة، فلا شدة يلقاها العبد في الدنيا أعظم من شدة الموت، فإن كانت خاتمته خيرا فالموت آخر شدة يلقاها، وإن كان مصير العبد إلى شر والعياذ بالله فالموت أهون مما بعده، وكان السلف يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه.
قال أبو عبد الرحمن الشبلي: كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان، ولما احتضر أبو بكر بن عباس وبكوا عليه قال: لا تبكوا، فإني ختمت القرآن في هذه الزاوية ثلاث عشرة ألف ختمة: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [فصلت 30].
الوصية الرابعة: قوله : ((إذا سألت فاسأل الله)) وهذه الوصية أمر بإفراد الله تعالى بالسؤال، ونهي عن سؤال غيره من الخلق كما قال تعالى: واسألوا الله من فضله [النساء 32]
وفي الحديث: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع))، وقد بايع النبي جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا، منهم الصديق وأبو ذر وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه رضي الله عنهم، فسؤال الله تعالى هو المتعين عقلا وشرعا لوجوه متعددة، منها:
أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول في دعائه: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك.
أما من أكثر المسألة بغير حاجة فإنه يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، كما ثبت ذلك في الصحيحين، لأنه أذهب عز وجهه وصيانته وماءه في الدنيا، فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه الحسي، فيصير عظما بغير لحم ويذهب جماله وبهاؤه المعنوي فلا يبقى له عند الله وجاهة.
اللهم كما صنت وجوهنا عن السجود لغيرك، فصنها عن المسألة لغيرك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فكما أن سؤال غير الله فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، ففي سؤال الله تعالى عبودية عظيمة، لأن فيها إظهار الافتقار إليه، واعترافا بقدرته على قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم، لأن المخلوق جزما عاجز عن جلب النفع لنفسه، ودفع الضر عنها فكيف يقدر على ذلك لغيره؟!
والذي بيده خزائن السماوات والأرض، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء أحق من يسأل ويطلب منه قضاء الحوائج، جاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر))، قال بعض السلف: إني لأستحي من الله أن أسأله الدنيا وهو مالكها، فكيف أسأل من لا يملكها؟! وكان بعض السلف يتواصون في طلب الحوائج إلا من الله، قال طاووس لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونك حجابه ، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك.
الوصية الرابعة: قوله : ((وإذا استعنت فاستعن بالله)).
والاستعانة طلب العون من الله وحده، وسبب استعانة العبد بالله عز وجل دون غيره من الخلائق، لأن العبد عاجز عن جلب مصالحه ودفع مضاره بنفسه، ولأنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله عز وجل فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى قول: لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإنه لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله، هذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة.
وكل مسلم محتاج إلى الاستعانة بالله عز وجل في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت، وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا معين على ذلك كله إلا الله تعالى، ونحن نقرأ في كل ركعة من صلاتنا إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة 4] والاستعانة تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه.
والاستعانة بالله هي الوسيلة لتحقيق عبادة الله على الوجه الذي يرضيه، فأهل العبادة الاستعانة بالله عليها غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها، ولهذا كان أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي لحبه معاذ بن جبل : ((يا معاذ، والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
فأنفع الدعاء: طلب العون على مرضاته ومن الناس من يكون معرضا عن عبادة ربه والاستعانة به، فلا عبادة ولا استعانة، بل إن سأله أحدهم واستعان به، فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه، فإنه سبحانه يسأله من في السماوات والأرض؛ يسأله أعداؤه وأولياؤه، ويمد هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه إليه عدوه إبليس، ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها، ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عونا له على مرضاته، كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله وطرده عنه، وهكذا كل من استعان به على أمر سأله إياه ولم يكن عونا على طاعته، كان مبعدا له عن مرضاته قاطعا له عنه ولا بد.
وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره، وليعلم أن إجابة الله السائلين ليست لكرامة السائل عليه، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينيه، ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له، فيمنعه حماية وصيانة وحفظا، لا بخلا على كلأ، فمن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به، فصار مخذولا. كتب الحسن إلى عمر بن بعد العزيز: لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه.
(1/564)
وداع رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
5/10/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
درس من وداع رمضان – دوام انفتاح أبواب الخير – أنواع من نوافل الصيام – القيام بعد رمضان – أهمية السنن الرواتب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد قال الله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس:58].
إن من أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين توفيقهم للطاعات وفعل الخيرات من صيام وقيام وقراءة للقرآن وصدقة وغير ذلك ومن أعظم هذه النعم أن يبلغهم شهر رمضان ذلك الموسم العظيم الحافل بالبركات والهدى والنور والفرقان, ذلك الموسم العظيم الذى تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران, ولله فيه عتقاء من النيران نسأل الله أن يجعلنا منهم. كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان, فإذا ما بلغوه وصاموه وأحيوا ليله حتى أتموه سألوا الله تعالى ستة أشهر أن يتقبله منهم.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبل منا أجمعين ويتوب علينا أجمعين وأن يبلغنا رمضان سنوات كثيرة عديدة عامرة بطاعته سبحانه مزدهرة بعبادته.
أيها المؤمنون: هذا هو رمضان ولى وانصرم كأنما هو طيف عابر مر ولم نشعر فيه بمضي الزمان ولا بكرِّ الليالى والأيام. هكذا العمر يمر بنا ونحن لا نشعر, يكون بعضنا غارقاً في شهواته حتى يغزو الشيب مفرقيه نظير أجل محتوم قد يحل بساحته, قد يحل الأجل والغافل لم يستقر بعد للرحيل, فإذا حانت ساعة الميعاد, فلات حين مناص, يحمل الغافل على الأعواد ويدس بين الإلحاد والذنب كثير والعمل قليل وحينئذ لا ينفعه أي عض على أصبع الندم ولا أن يهتف وينادي يا ليتنى أرد فأعمل غير الذى كنت أعمل, فالعمر فرصة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة, فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت فهيهات أن تعود.
فاغتنم أيها المؤمن هذه الفرصة قبل أن تموت, فإن أبواب الخير مفتحه أمامك في رمضان وغير رمضان, أبواب الخير والطاعات والعباده مفتحه أمامك في رمضان وفي غير رمضان.
فالصيام مثلاً ليس قاصرا على شهر رمضان, فقد سن لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام ست أيام من شوال فقال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله)) [1] وسن لنا أيضا صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ((ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله)) [2] رواه مسلم.
والأفضل أن يصوم الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر لحديث أبى ذر الغفاري رضي الله عنه عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا أبا ذر إذا صمت ثلاثة من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر)) [3] رواه أحمد والنسائي.
وسن لنا أيضا صيام يوم عرفة وأخبرنا بأنه يكفر السنة الماضية والباقية, وصيام يوم عاشوراء وأخبرنا أنه يكفر السنة الماضية, وسن لنا صيام الإثنين من كل أسبوع وقال إنه يوم ولدت فيه وفيه أنزل علي.
وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصيام بعد رمضان فقال: ((أفضل صيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم)) [4] وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يتحرى صيام الإثنين والخميس.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس وأحب أن يعرض عملى وأنا صائم)) [5].
وعن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت: ((ما أكمل رسول الله شهراً قط إلا شهر رمضان وما رأيته أكثرصياماً منه في شعبان)) [6] فالحمد الله رب العالمين ذلك الصيام, وهو من أعظم العبادات, أبوابه مفتحه مشروعة في كل الشهور طوال السنة, فاغتنم الفرصه أيها المؤمن, فإن من صفات المؤمنين والمؤمنات أنهم صوامون قوامون قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:17]. فصلتهم بربهم عز وجل الذى يحبهم ويحبونه, صلتهم لا تنقطع أبدا, فهم دائما وفي كل حين يذكرونه سبحانه وتعالى ويناجونه أما ذلك الذي لايعرف ربه إلا في رمضان, فإذا ما خرج من رمضان, أعرض عن ربه ونسي ذكره, ذلك في حبه لربه شك وارتياب, هذا ليس من شأن المحب أنه لا يذكر حبيبه إلا شهرا واحدا في السنة.
فاتقوا الله أيها المؤمنون واعمروا أيامكم وشهوركم عمركم كله بذكر الله عز وجل ومناجاته وعبادته.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب رسولك وحب من يحب رسولك وحب عمل يقربنا إليك.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ونعوذ بك من سخطك والنار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسلم: كتاب الصيام (1164).
[2] مسلم: كتاب الصيام (1162).
[3] الترمذي: كتاب الصيام (761).
[4] مسلم: كتاب الصيام (1163).
[5] النسائي: في الصيام (2358).
[6] أخرجه النسائي بنحوه في الصيام (2354).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد فإن من بركات شهر رمضان قيام الليل ولكنه أيضا ليس خاصا برمضان, فربنا عز وجل كما أخبرنا النبي ينزل في كل ليلة من ليالى السنة إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر فيقول: ((هل من تائب فأتوب عليه, هل من مستغفر فأغفر له, هل من سائل فأعطيه سؤله)) [1] ولذلك سن لنا النبي القيام والصلاة في هذا الوقت الجليل المبارك.
وصلاة الليل مثنى مثنى أي ركعتين ركعتين, يصلي المؤمن ما تيسر له, وبما تيسر له من القرآن حتى إذا خشي أن يدركه الصبح صلى واحدة توتر له صلاته.
لقد حثنا ربنا على التقرب إليه بهذه النافلة وبمثلها من النوافل صيام أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك. فقال تعالى في الحديث القدسي: ((ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) أداء الفرائض أولا ثم قال: ((ومازال يتقرب إلي عبدي بالنوافل حتى أحبه)) لازال المؤمن يتزلف إلى ربه بما تيسر له من نوافل من صيام وصلاة وصدقة وقراءة للقرآن وغير ذلك حتى يحوز على تلك الدرجة العظيمة أن يحبه الله عز وجل وهذه الدرجة معناها وميزتها النور, إن من أحبه الله يمتلأ نورا كما امتلأ قلبه بنور الإيمان, فإن النور يفيض على جوارحه كلها: (( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى عليها, ولئن سألنى لأعطينه, ولئن استعاذنى لأعيذنه)) [2].
وحثنا سيدنا رسول الله على صلاة الليل على وجه الخصوص فقال: ((أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)) [3] ولكن من لم يقدر على صلاة الليل وقيامه فعليه أن يحافظ على هذه السنن الرواتب التابعة للفرائض وهي اثنتا عشرة ركعة, قبل الظهر أربع وبعده ركعتان, وبعد المغرب ركعتان, وبعد العشاء ركعتان, وقبل صلاة الفجر ركعتان, قال الرسول : ((ما من مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثنتا عشرة ركعة تطوعا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة)) [4].
واعلموا أيها المؤمنون أن أداء النوافل, أداؤها في البيوت أفضل من المسجد وذلك لأنه بالصلاة وقراءة القرآن تعمر البيوت وتزدهر وتفر منها الشياطين وأما بدون ذلك فإن البيوت تظلم وتصبح قبورا وتمتلئ بالشياطين.
قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورا, صلوا في بيوتكم)) [5] ، وقال: ((صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة)) [6].
فاتقوا الله أيها المؤمنون واغتنموا العمر, اعمروا أيامكم وعمركم كله بطاعة الله.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [7] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري: التهجد (1094).
[2] البخاري: الرقاق (6136).
[3] ابن ماجة: أبواب إقامة الصلاة (1334).
[4] رواه مسلم: كتاب صلاة المسافرين (103).
[5] أخرجه أحمد (2/367).
[6] أخرجه أبو داود في الصلاة (1044).
[7] صحيح مسلم (408).
(1/565)
يوسف ( قال رب السجن أحب إليّ )
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
12/10/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"الحكمة من قصص القرآن – خطر المترفين – من آثارهم : 1- الإباحية والانحلال 2- الدياثة كيف تنتشر الدياثة في المجتمع – النجاة من كيد المترفين "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله تعالى: وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راوته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم [سورة يوسف:30-34].
ها نحن نعود إلى سابق عهدنا بسورة يوسف وقصته الكريمة وفي حقيقة الأمر نحن لا نروي لكم مجرد قصة أو نروي سورة وإنما نحاول استنباط الدروس والعبر منهما لحياتنا المعاصرة ومشكلاتنا الحاضرة انطلاقا من أن هذا هو مغزى سوق هذه القصة وأمثالها في كلام ربنا عز وجل فكما ذكرنا مرارا إنها ليست مجرد قصة تخيلها قصاص أو لفق حبكتها أديب إنما هي دروس وعبر وهداية لنا من ربنا عز وجل وتفصيل لكل شيء: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [سورة يوسف:111]. في هذه الآيات التي تلوناها عليكم من سورة يوسف تصوير لمشهد ليس من مشاهد القصة فحسب إنه من مشاهد الحياة تصوير لمشهد من مشاهد حياة الترف والنعيم حياة الطبقة المترفة من أهل القصور وماذا يمكن أن يفعلوه بالمجتمع إذا استعبدوه وتسلطوا عليه إنهم بإيجاز يخربونه ويقودونه نحو الدمار والهلاك وإذا ما رأيت مجتمعا أي مجتمع سلط الله عليه المترفين فتحكموا في مقدراته وملكوا أمره فاعلم أنه سائر سيرا حثيثا إلى الهلاك والدمار قال تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا [سورة الإسراء:16]. إن المترفين من أهل القصور إذا تحكموا في المجتمع فإنهم ينشرون فيه الإباحية والانحلال وبسلوكياتهم الشائنة القذرة التي تصبح حديث المجالس ومحط اهتمامات الناس الفارغين بسلوكياتهم تلك يضعفون نوازع الفضيلة في نفوس الناس والمجتمع في بداية الأمر وهو مازال متصفا بالبراءة وبقدر كبير من النقاء فإن أفراده غالبا ما يستقبلون تلك الأحوال بالاستنكار ويستقبلون تلك الأخبار بالتقزز والنفور ولكن مع استمرارها وتكرارها فإن استنكارهم لها يضعف حتى يصل إلى الحد الذي يسمعون فيه وربما يرون الموبقات التي يرتكبها المترفون من أهل القصور ولا ينبض لهم عرق تلك الغيرة التي كانت تتأجج في الصدور وتلك النخوة إنهما الآن يبردان ويهمدان حتى تنحط مشاعر الناس والعياذ بالله ربما تنحط مشاعر الناس فيصلون إلى الحد الذي يعتادون فيه الخبث بل وربما يتقبلونه لأنه باستمراره وتكراره دون أن يغير فإنهم يألفونه ثم يتقبلونه ثم يتشوفون إليه وهكذا وبالتدريج يتم للمترفين القضاء على تلك البراءة في المجتمع وتلويث ذلك النقاء إن المترفين من أهل القصور لا ينشرون الإباحية والانحلال في المجتمع فحسب بل إنهم ينشرون الدياثة تأمل نموذجا من دياثة المترفين كما تصورها هذه السورة سورة يوسف: فلما رأى قميصه قد من قبل قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم [يوسف:28]. هذا هو كل ما فعله ذلك المترف هذا هو كل ما فعله العزيز لما تكشف له انحلال زوجته وفسادها وخيانتها لزوجها ومراودتها لفتاها نوه بكيدها ولم يجرؤ على مخاطبتها مباشرة بذلك مراعاة لخاطرها الملوث فصرف الحكم إلى جنسها من النساء إنه من كيدكن أي أيتها النساء إن كيدكن عظيم ثم بعد ذلك: يوسف أعرض عن هذا ليس هناك عقاب للمسيء ليس هناك أي تدارك للخلل ولا مبادرة لإصلاح الفساد ولكن لفلفة للقضية ودفن لنارها تحت الرماد فتلك المرأة الخائنة لم تلق من العقوبة ما يردعها عن تكرار محاولاتها الآثمة ويوسف البريء النقي بقي في مكانه بعلم العزيز وموافقته والقضية صدر الأمر إلى يوسف بلفلفتها بالسكوت عليها هذا نموذج من دياثة المترفين وهذه الدياثة إذا استحكمت في الرجال فماذا يفعل النساء إذا استحكمت الدياثة في الرجال فإن الوقاحة والجرأة على الخبث تستحكم في النساء تأملوا ماذا فعلت امرأة العزيز بعد ذلك لقد أعلنت عن جريمتها بل إنها تتباهى بجريمتها بكل جرأة ووقاحة ولقد راودته عن نفسه فاستعصم قالت: فذلك الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم [يوسف:32]. هكذا يكون حال النساء عندما تصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع والعياذ بالله ولكن كيف تصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع اسألوا أذناب القردة والخنازير وتأملوا إلى أي شيء يدعون المجتمع لماذا يصرون ويلحون على إخراج المرأة المسلمة من بيتها لماذا يصرون على تمزيق حجابها لماذا يصرون على تعليمها كيف تراقص الأمريكان أذناب القردة والخنازير يريدون نشر الانحلال والدياثة العامة في المجتمع اسألوهم تعرفون كيف ينتشر الانحلال وتصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع وحينئذ الويل للآباء والويل للأزواج والويل للإخوان والأعمام إذا رأوا بناتهم ورأوا زوجاتهم ورأوا أخواتهم يتمرغون أمام أعينهم في وحل القاذورات الإفرنجية إذا ما أخذت النخوة أي واحد منهم فإنه يسجن ويعاقب إذا ما اشتعلت الغيرة في أي واحد منهم الغيرة للعرض وللفضائل وللدين فإنه سوف يسجن وينكل به ولئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكونن من الصاغرين [يوسف:32]. من أراد أن يشاهد هذا الذي أحدثكم به فليلق نظرة على جيراننا على المجتمعات من حولنا التي ابتليت بأذناب القردة والخنازير وتحكم فيها دعاة الانحلال من المترفين ألقِ نظرة تشاهد هذا الذي أقوله وأحذرك منه نسأل الله عز وجل أن يقينا شر هذه الفتن ألقِ نظرة على المجتمعات من حولك تجد هذا الذي أحدثك عنه واضحا للعيان أيها المؤمنون اتقوا الله في أنفسكم واتقوا الله في أعراضكم واتقوا الله في أخلاقكم واحذروا المترفين من أهل القصور احذروا المترفين من أذناب القردة والخنازير دعاة الانحلال أولئك الذين يهلك الله بهم القرى ويدمر بهم الأمم فإن الناس في أي مجتمع إذا ما اعتادوا الخبث إذا ما أصبحوا يرون الخبث في ذويهم وفي مجتمعاتهم فلا ينبض لهم عرق ولا تتحرك فيهم نخوة فإن الهلاك حينئذ قد حط على هذا المجتمع والعياذ بالله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
ماذا تفعل يا أيها المؤمن المتمسك بالنقاء والطهر الثابت على دين الله إذا كنت في مجتمع يسير سيرا حثيثا نحو الانحلال إذا كنت في مجتمع أسباب الانحلال فيه تحاصرك من كل مكان الإعلام والتعليم والسوق والبيت والأقارب والجيران والمعارف والأصدقاء والصديقات إذا كان الجميع يضغطون عليك لأن تفعل وربما يتهددك دعاة الانحلال أذناب القردة والخنازير يتوعدونك بمختلف النعوت والأوصاف إذا لم تستسلم متزمت متشدد متطرف أصولي إنهم أناس يتطهرون [الأعراف:82]. هذه أوصاف تجدونها متفشية اليوم في المجتمعات الإسلامية وخاصة في وسائل الإعلام التي يديرها أذناب القردة والخنازير هذا حصار نفسي من العدو حصار نفسي وهناك حصار اجتماعي وهناك حصار سياسي كل هذا على المؤمن لكي يفعل ولئن لم يفعل ما أمره به ليسجنن وليكونن من الصاغرين [يوسف:32]. يضعونه في سجن هذا الحصار إذا لم يستسلم ويقبل بالانحلال والانهيار عليك يا أيها المؤمن أولا وقبل كل شيء أن تلجأ إلى ربك عز وجل تطلب منه بصدق وإخلاص أن يحميك من كيد هؤلاء من كيد دعاة الانحلال من كيد أذناب القردة والخنازير أن يصرف عنك كيدهم والسوء الذي يريدون استدراجك إليه أنت وأهلك وبناتك وأولادك الجأ إلى ربك أولا كما فعل يوسف الصديق وقال رب السجن أحب إلي وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فإنك لما بقيت وحدك في الميدان بقدراتك الذاتية بدون معونة إلهية بدون ربك نسيت ربك فلم تلجأ إليه بالدعاء واللجوء والاستعاذة فإنهم منتصرون عليك لا محالة أنت هالك لا محالة فابدأ باللجوء إلى ربك واطلب منه الحماية والعصمة من هذا الذي يدعونك إليه فإن أي شيء يصيبك هو أهون من أن تستجيب إلى ما يدعونك إليه ثم عليك بالثبات على هذا النقاء إذا كنت في مجتمع يجري نحو القاذورات عليك بالثبات على دين الله إذا كنت في مجتمع يبتعد عن الله عليك بالثبات واعلم أن الله عز وجل ناصرك ومعينك إذا علم صدقك وإخلاصك ولجوءك إليه وبذلك لكافة ما تستطيع من الوسائل كما استجاب لعبده الصديق يوسف عبده ونبيه الصديق يوسف فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وأرضى اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/566)
تتمة احفظ الله يحفظك
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, مكارم الأخلاق
منصور الغامدي
الطائف
24/10/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- عاقبة الصبر والصابرين , والتحذير من السخط على قضاء الله – أنواع الصبر الذي يعقُبه
النصر : 1- صبر على جهاد العدو 2- صبر على جهاد النفس والهوى – استشعار الفرَج
وزوال الكروب , ونماذج لذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن المسلم في حاجة إلى زاد عظيم في هذه الدنيا، يواجه به ما يلم به من مشكلات الحياة وجهل الناس وأذى السفهاء، بل وأعظم من ذلك الانتصار، يجب أن يكون شامخا متمنطقا بالصبر والاحتساب.
وأنى لي ولك ـ أخي الكريم ـ من الزاد إلا ما علمناه قدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله ، الذي أوصى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بقوله: ((واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا)) [1] فالصبر واجب وهو حتم لابد منه، وفيه خير كثير، وقد أمر الله بالصبر ووعد عليه بجزيل الأجر: ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ.
وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ عَلَى? مَا أَصَابَهُمْ ، وعلى المسلم أن يرضى بكل قضاء قدره الله ـ عز وجل ـ، فإن الصبر على المكروه يوجب كف النفس واللسان وحجبها عن التسخط مع وجود الألم على المكروه، أما الرضى، فيوجب انشراح القلب من روح اليقين والمعرفة، وكما أن الصبر إنما يكون عند الصدمة الأولى كما صح ذلك عن النبي ، فالرضى إنما يكون عند نزول البلاء كما كان النبي يقول في دعائه: وأسألك الرضى بعد القضاء، لأن المسلم قد يعزم في قرارة نفسه على الرضى بالقضاء، انفسخت تلك العزيمة، والصبر على البلاء واجب لابد منه، وإنما ينال بقليل من التجلد والتحمل كما قال : ((ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر)) [2].
وإن الصبر في ذات الله وعلى كل مكروه عاقبته خير، كما حصل ليوسف: إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ.
مع إخوانه حينا أعلى الله شأنه وأحسن له العاقبة قال: قال عمر : وجدنا خير عيشنا بالصبر وعبارات السلف في فضل الصبر كثيره بالصبر، وقال علي بن أبي طالب : إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، وصبر المسلم على الضر هو من توفيق الله، قال الحسن : الصبر كنز من كنوز الجنة لا يعطيه الله إلا لمن تكرم عليه.
وقال إبراهيم التيمي: ما من عبد وهبه الله صبرا على الأذى، وصبرا على البلاء، وصبرا على المصائب، إلا وقد أوتي فضلا ما أويته أحد بعد أحد بعد الإيمان بالله ـ عز وجل ـ.
ولقد كان الصبر جلبابا يرتدونه عند نزول البلايا وشعارا عند حلول المصاب، قال بعض السلف: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله إذ رزقني الصبر عليها، إذا لم تكن أعظم مما هم وأحمد الله إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد الله إذ وفقني للاسترجاع، وأحمد الله إذ لم يجعلها في ديني.
الوصية التالية: واعلم أن النصر مع الصبر.
والصبر الذي يعقبه النصر نوعان:
صبر على لقاء العدو نظاهر كما قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وكقوله ـ سبحانه ـ: كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ.
والنوع الآخر: صبر على جهاد النفس والهوى، فجهادهما والصبر على ذلك مقدَّم على جهاد الكفار، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما سئل عن الجهاد : ابدأ بنفسك التي بين جنبيك، فكم مرة دعتك إلى المعصية، وكم مرة نازعتك إلى تغيير طبيعتك الخيرة، وكم مرة استجبت لهواتف النفس والهوى التي تدعوك إلى النوم عن صلاة الفجر وصلاة العصر، وكم مرة زين لك أكل الحرام وسرقة الأموال، وفي كم موطن أعطتك نفسك فتوى جاهزة ومبررات مقبولة عندك لتفعل ما لا يحل لك فعله، وتترك ما يجب عليك من معاقرة الخمر مثلا والوقوع في الفاحشة ولذا كانت وصية أبي بكر الصديق لعمر الفاروق حين استخلفه : إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك، وهذا من فقهه فإن من صبر على مجاهدة نفسه وهواها وشيطانه، انتصر عليهم، وعاش عزيز النفس، يوجه نفسه، لا توجهه نفسه، ومن لم يصبر عاش أسيرا ذليلا. والنفس بمنزلة الدابة إن عرفت منك الجد جدت، وإن عرفت منك الكسل طمعت فيك، وطلبت منك حظوظها وشهواتها.
[1] صحيح ، أخرجه أحمد (1/307) ، وانظر سنن الترمذي : كتاب صفة القيامة – تابع باب ما جاء في صفة أواني الحوض (2800).
[2] أخرجه البخاري : كتاب الزكاة – باب الاستعفاف عن المسألة (1469) ، ومسلم : كتاب الزكاة – باب فضل التعفف والصبر (1053).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، ودليلا للسالكين، وحجة على الخلق أجمعين.
أما بعد:
فالوصية الثالثة هي أَن الفرج مع الكرب.
وهذه الوصية تمحو وتحجب اليأس، وتدعو إلى استشراف المستقبل بثقة واطمئنان، مذكرا أن الليل كلما اشتد سواده كان مؤذنا بفجر جديد.
فاشدد يديك بحبل الله معتصما فإنه الركن إن خانتك أركان
ولقد حصل للناس في عهد النبي كرب وضيق احتبس عنهم المطر، وجهد الناس، فسألوه أن يستسقي ربه، فرفع النبي يديه فاستقى لهم فنشأ السحاب ومطروا إلى الجمعة الأخرى حتى قاموا إليه وسألوه أن يستصحي لهم ففعل فأقلعت السماء: فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَ?نظُرْ إِلَى? ءاثَـ?رِ رَحْمَةِ ?للَّهِ كَيْفَ يُحْىِ ?لأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ، وكثيرة تلك الوقائع التي تُظهر الفرج مقترنا بالكرب.
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
عسى فرجا يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته أمر
فهذا إبراهيم خليل الرحمن ـ عليه الصلاة والسلام ـ رأى في المنام أنه يذبح ابنه فلذة كبده، يذبحه بيديه وهو سوف يرى ابنه بعد قليل يتشحط في دمه، إنها لحظات شِداد فجاء الفرج من الله: وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.
وقصة عائشة بنت الصديق ـ رضي الله عنهما ـ عندما اتهمها المنافقون في حادثة الإفك، ولبثت شهرا، تعيش همّ هذه القرية الآثمة، حتى نزلت براءتها من فوق سبع سماوات: إِنَّ ?لَّذِينَ جَاءوا بِ?لإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ مَّا ?كْتَسَبَ مِنَ ?لإثْمِ وَ?لَّذِى تَوَلَّى? كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ والقصص في هذا المعنى كثيرة جدا.
الوصية الرابعة: ((إن مع العسر يسرا)) وهذه الوصية تأكيد للوصية السابعة قال ـ تعالى ـ: سَيَجْعَلُ ?للَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً. وإن الله لا يجمع على عبده عسرين، فهي بشرى للمسلم أن تيسير أمره يكون بعد العسر.
ولا شك أن غاية ما يرجوه إنسان هو اليسر، وإنها لنعمة عظيمة أن يرى المسلم أموره ميسرة بعد العسر الذي ألم به، وقد جاء في الأثر: لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه، ومتى وقع المسلم في العسر، فإنه لا بد له من الدعاء والتضرع وهذا في حد ذاته نعمة عظيمة.
إن هذه الوصايا يا عباد الله التي أوصى بها نبي الأمة ابن عباس، إنها درية الألفاظ، عسجدية المعاني، مشرقة المعاني محكمة الألفاظ، قد تجافت عن مضاجع القلب، إنها تعيش في المشاعر، وتتحرك في الجوارح، وهي زاد عظيم، وعلم جليل، يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلى بشيء كتبه الله عليك، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا.
اللهم ارزقنا العمل بوصية نبيك صلى الله عليه وسلم...
(1/567)
المترفون
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"جزاء المترفين ليوسف السجن – أبرز صفات المترفين : 1- الظلم 2- الإفساد 3- قلب الحقائق 4- ضيقهم بالمصلحين – حال المسلمين وأثر المترفين – التحذير من المترفين "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد فقد حكى الله تعالى حكاية عن يوسف الصديق عليه السلام قال رب السجن أحب إلي مما يدعوننى اليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين [يوسف:33-35].
لقد واجه التقي النقي الطاهر يوسف الصديق ابتلاء عظيما, تمثل في تلك الإغراءات التي لا قبل لشاب بها وفي تلك الضغوط والتهديدات ولما حاصرته الدواعي وخشي على نفسه الفتنة, لجأ إلى ربه بالدعاء أن يصرف عنه ذلك البلاء ويبعد عنه هذا السوء, فاستجاب له الرب الكريم, ولكنهم بعدما ثبتت لهم براءة يوسف, بدلا من إكرام المحسن ومعاقبة المسيء عكس المترفون القضية فتركوا المسيء يسرح ويمرح وعاقبوا المحسن بعد أن ثبتت طهارته ونقاؤه وأمانته وقامت الأدلة الظاهرة الواضحة على ذلك لقد سجنوا يوسف من أجل تحقيق هدفين.
هما دفن القضية ولملمتها بعد أن فاحت جريمة تلك المرأة الخائنة وتناولت الشائعات سيرتها في المجالس حاولوا إخفاء جريمتها بالتهمة إلى يوسف, فإن أكثر الناس إذا ما سمعوا بسجنه في ذلك الوقت بعد سماع الشائعات يثبت عندهم إتهام يوسف وأنه هو الذي حاول مراودة امرأة العزيز عن نفسها.
وتلك خطة دنيئة لتشويه سمعة شاب طاهر ليكون هو الضحية من أجل إخفاء معالم الجريمة. ولكنها خطة فاشلة فإن شمس الحقيقة لا يمكن إخفاؤها, فإنه يمكن للإنسان أن يغطى عينيه بحجاب فلا يرى ولا يبصر وهذا هو الذي عمله المترفون بيوسف, حاولوا تغطية أعينهم وأعين كثير من الناس في وقتهم. ولكن أين لهم أن يخفوا شمس الحقيقة وشمس يوسف مشرقة.
وهذا الداء العضال هو أبرز ظواهر الطبقات المترفة, فأولا هم أهل ظلم يضعون الشيء في غير موضعه, ويسندون الأمر إلى غير أهله.
تأمل صورة لذلك هنا, في امرأة العزيز, بل في العزيز نفسه, واسأل نفسك بعد أن سمعت أحوالهما وأفعالهما وأقوالهما, أتصلح تلك المرأة زوجة وسيدة في قصر زوجها, بل أيصلح العزيز للمسؤولية وهذا حاله في بيته؟ سيضيع الرعية من ضيع بيته وأهله.
وثانيا إن المترفين لا يصلحون فسادا أبدا ولا خللا, بل حالهم دائما الهروب والفرار من المسؤولية لأنهم غارقون في شهواتهم, كل همهم الحفاظ على كراسيهم وحماية مصالحهم.
وثالثا حتى ولو تحرك المترفون واضطروا للتصرف حينما يتفشى الداء وتكثر المشكلات ولا يمكن إخفاؤها, فإنهم عادة بل قل دائما ما يتصرفون بعكس القضية, دائما يعكسون القضية, يعاقبون المحسن ويكافؤون المسيء لأن المسيء هو الأقرب لشهواتهم والأنسب لمصالحهم.
فالشبيه يميل إلى شبيهه وينفر من نقيضه. ولذلك تجد النفرة بين المصلحين والمفسدين, بين الأنقياء والملوثين, بين الصالحين والفاسدين. تجد هذه النفرة دائما حتى إذا ما استحكمت وظهرت, يدب الخلاف والصدام, وعادة ما يبدأ الصدام عباد الشهوات.
فإنهم كلما رأوا مصلحا يعيب عليهم فسادهم واستسلامهم لشهواتهم, فإنهم يضيقون به ذرعا, حتى إذا أعجزتهم الحيلة, ناجزوا المصلحين وصادقوهم وهتفوا بكل جرأة ووقاحة, إن لم يكن بلسان المقال فهو بلسان الأفعال: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [النمل:56].
الويل للمجتمعات من المترفين إذا ما تسلطوا عليها وتحكموا في شؤونها. لأنهم هم أعداء الأنبياء والمرسلين لأن الأنبياء إنما جاؤوا برسالة الإصلاح والهداية ومهمة المترفين الإفساد في الأرض قال تعالى: وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [سبأ:34]. ولذلك فإنهم أعداء المصلحين. فإن الصدام بين المترفين والمصلحين قاعدة مطردة وأمر محتوم ولكن حبل الطغيان قصير والعاقبة للمتقين.
إذا ألقيت نظرة من حولك أيها المسلم, تجد أكثر مجتمعات المسلمين اليوم وقد تسلط عليها المترفون المفسدون الفاسدون. ما أسوأ حال المسلمين اليوم, تحكم فيهم الحشاشون والفجرة والسراقون, وهؤلاء إنما تنكشف أخبارهم حينما يسقطون. إذا سقط أي واحد منهم انكشفت مخازيه على رؤوس الأشهاد, فإذا هي سرقات بالبلايين واستخفاف بالرعية وبأخلاقهم وحقوقهم ومصالحهم. فأي بلاء هذا البلاء الذي أصاب المسلمين اليوم.
الويل للمسلمين إذا استمر تسلط هؤلاء وتحكمهم في الرقاب وعبثهم في مصالح الأمة: فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [هود:116-117].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الترف معناه في اللغة التنعم الزائد, والمترف هو الذي أفسدته النعمة وأطغته. ومن عادة الإنسان وطباعه الطغيان وخاصة إذا أصابه الغنى والسلطان إلا من عصمه الله بالإيمان إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [العلق:7]. وهذه الظاهرة ما أكثرها في أحوال الناس, فتجد الإنسان وهو في قمة تمتعه بالنعمة تجده جبارا عنيدا, لا يخاف من العواقب ولا يفكر في المصير, فعلى بصره غشاوة وإلا فهو يرى كل يوم إنساناً محمولاً على الأعناق والأعواد يهرولون به إلى حفرته ويعلم علم اليقين أنه صائر إلى ذلك المصير وبالرغم من ذلك فهو لا يعتبر. فهو مهما بلغ من الجبروت والطغيان , فإنه يوما ما سيحملونه على الأعواد ويحشرونه في حفرته. وليس غريبا أن تعمى بصيرة المترف ويعجبه حجاب الغنى, فإن المترف قد وقع فريسة لشبكة معقدة من الأهواء والشهوات, المصالح المتشابكة والملذات التي ترتبت على استسلامه لحياة الترف.
ولذلك فقد حذر النبي الصادق الأمين, حذر الأمة من الاستسلام لحياة الترف والنعيم. تملك الأموال, لا يمنع ذلك أحد, تملك النفوذ والسلطان لم يحظر عليك ذلك أحد, ولكن ندب أمته من أن يتقللوا في حياتهم, أن يكتفوا بالقليل ولا يعودوا أنفسهم على الترف, فإن الترف مفسد للنفوس ومقسٍ للقلوب, ينسي العبد مقامه بين يدي رب العالمين ويصرفه عن نفسه. ولذلك حذر سيدنا رسول الله من ذلك فقال لأصحابه الكرام: ((ما الفقر أخشى عليكم, ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت للذين من قبلكم, فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) [1] ولذلك أيضا بدأ الرسول بنفسه فاكتفى من هذه الدنيا بزاد الراكب , تقلل في عيشه مع أن الدنيا كلها كانت بين يديه ولكنه مر بها مرور الراكب. كان عليه الصلاة والسلام في حياته على هذا المنهج, أخذا بالعزيمة, فكان يمر الهلال والهلالان وليس في بيت النبي إلا الأسودان التمر والماء.
إن الداء ليس في أصل النعمة التي يمن الله بها على العباد إذا أنعم الله على إنسان بنعمة فالداء ليس في أصل النعمة ولكن في الإنسان الذي يوهب تلك النعمة فيتغير حاله ويبارز ربه بالعظائم والمنكرات ويسخر تلك النعمة والأموال والقوة للفساد في الأرض والصد عن سبيل الله ومحاربة الله ورسوله والعياذ بالله.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [2].
اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري: كتاب الجزية (2988).
[2] صحيح مسلم (408).
(1/568)
السحر
التوحيد
الشرك ووسائله, نواقض الإسلام
منصور الغامدي
الطائف
23/8/1419
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
خطورة السحر وحقيقته – معنى السحر وصوره – حكم الساحر – التحذير من الكهَنة والعرّافين
وحكم من يأتيهم لمرض أو نحوه – ماذا يفعل من ابتُلي بالسحر – كيفية الوقاية من السحر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا إخواني، أوصيكم ونفسي بتقوى الله في الظاهر والباطن وبمتابعة النبي قولاً وعملاً.
أيها المؤمنون، بعد أن كانت الأمة موئلا للتوحيد وملاذا للإيمان وقلعة من قلاع العقيدة، غزت بعض تلك الأمم أو قل كلها تيارات الشرك، وأناخت بركابها الشعوذة، فأمطرت سحبها وأزهر سوقها، وطال ربيعها.
إن السحر عالم عجيب، ظاهره جميل خلاب، وباطنه قذر عفن، لقد عبّد الشيطان السحر والسحرة وأتباعه للشمسَ والقمر والنجوم والأوثان، بل ترقى به الحال إلى تعبدهم لنفسه الخبيثة، لقد كان السحر ولا يزال منزلقا لم يجن البشر من ورائه إلا ثمرات مُرَّة، إنه صورة مشوهة، وأيد ملطخة بدماء الأبرياء، لقد سلب الفرحة من قلوب كثير من الناس، وأزال البسمة عن شفاههم، إنه تاريخ مظلم بظلام آثاره وضلال أتباعه.
لقد نعى الله ـ تبارك وتعالى ـ على فريق من الذين أوتوا الكتاب أنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وتركوا ما فيه، واتجهوا إلى ما يضاده، ألا وهو السحر، قال ـ تعالى ـ: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ ?للَّهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ كِتَـ?بَ ?للَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَ?تَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ?لشَّيَـ?طِينُ عَلَى? مُلْكِ سُلَيْمَـ?نَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى ?لْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـ?رُوتَ وَمَـ?رُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ?لْمَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ?شْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ.
لقد انتشر السحر في طول الدنيا وعرضها، لم يدع أمة من الأمم إلا كان فيها، واستخدم لتعبيد الناس لغير رب العالمين، بل لقد كان أداة فاعلة في حرب الرسل والرسالات، وتهمة جاهزة تلصق بكل نبي يدعو إلى عبادة الله ونبذ الشرك.
وقد جاء السحر بمعان متعددة، فمن معانيه الإزالة والخداع، وإخراج الباطل في صورة الحق، ويأتي بمعنى الإفساد، أما معناه الاصطلاحي فقيل فيه: عزائم ورقى وعقد، تؤثر في الأبدان والقلوب، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن الآخر، والذي يصنع هذه الأمور هو الساحر أو الساحرة، ولكي يعملوا هذه الأعمال الخبيثة فإنه لا بد لهم من طريقة معينة يسلكونها، ونظام ثابت يتبعونه ليبلغ درجة الكفر بالله، أرجو أن لا يقشعر بدنك، فهم يرتدون المصحف في أقدامهم يدخلون به الخلاء، أو يكتبون آيات الله بالقذارة أو بدم الحيض، ويذبحون لغير الله، ومنهم من يأتي أمه أو ابنته، ومنهم من يسجد للكواكب.
إن هذه الفعال الكفرية التي يفعلها الساحر هي دليل صدقه في التعلم، وعنوان صداقته لإبليس ـ لعنه الله ـ: إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى? ، وكلما كان الساحر أشد كفراً كان الشيطان أكثر طاعة وأسرع في تنفيذ أمره، وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ.
لقد خرج هذا الساحر إلى حيث أراد إبليس خرج إلى حيث غضب الله وسخطه، وقصده الذي قال: فيما حكاه الله عنه: لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ، كَذ?لِكَ يُرِيهِمُ ?للَّهُ أَعْمَـ?لَهُمْ حَسَر?تٍ عَلَيْهِمْ ، ومن يعمل هذه الأعمال فهو كافر. وقد اتفق الأئمة العلماء على ذلك واستدلوا بقول الله تعالى: وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ.
وحد الساحر القتل، لأنه من أهل السعي في الأرض بالفساد، لتعلمه السحر، واستدعائه الناس إليه وإفساده إياهم، مع ما صار إليه من الكفر.
ومن كان هذا حكم الله فيه فقد ظهر خطره، لكنه لا يظهر أمام الناس بوجهه الكالح، بل يظهر على أنه رجل معالج وربما أطلق عليه (السيد) أو (الشيخ) نعم إنه شيخ ضلالة، وربما تجده يصلي بالناس أحيانا ليلبس على الناس، وربما ادعى أنه يصوم النوافل فيُخْدَع به المغفلون.
وبعد كل ما يصنعه فإنك تجد ـ أخي الكريم ـ أن هذه البضاعة منتشرة مشهورة في بلاد المسلمين، وأن لها رواداً وعواداً، حتى عادت شيئا لا غرابة فيه ، ولا أحد ينكره إلا من رحم الله، فأنت ربما تجد الساحر في وسائل الإعلام يجعل الحيةَ حبلا، ويخرج حيوانات كثيرة من قبعته وغير ذلك باسم المهارة والألعاب العجيبة، وربما تجرى معه المقابلة ويظهر الساحر بمظهر ذلك الإنسان الذي فتح قدرات لا يملكها غيره من الناس إمعانا في التلبيس وخداع البسطاء من الناس.
أخي الكريم، هل أتاك نبأ أولئك النفر الذين يذهبون إلى هناك، نعم هناك حيث يطفأ نور الإيمان، حيث المعصية، لقد اشتعلت قلوب بعضهم بفتيل الحسد، فسهروا الليل وكابدوا النهار، فساروا بخطوات سريعة، متناسين هواتف النفس، بأن هذا الطريق إيذاء للمسلم.
لقد دخل على الساحر وتحدثا بحديث الغدر والخيانة، ثم ما لبث أن سمع كلمات الطمأنينة من هذا الساحر المفسد بأن كل شيء سوف يسير كما يخططون: أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ ، أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ثم ما هو إلا وقت يسير حتى يشعر ذلك المسكين المبتلى بأن نفسه ليست تلك الأولى، وأن حياته قد طرأ عليها أمر ما غيره مسارها إلى حيث لا يريد، قال الفضيل بن عياض: "والله ما يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرا بغير حق فكيف تؤذي مسلما". كم أثرت تلك الصفقات المعقودة في جنح الظلام على حياة أسر، فكم من نساء قد طُلقْنَ، كم من أبرياء قد ماتوا وكم من شركاء في التجارة وغيرها فُرِّق بينهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله إله الأولين والآخرين، وقيوم يوم الدين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
أما بعد، عباد الله، وبعض الناس يبتلى بمرض لفترة طويلة ولم يُجْد معه العلاج، فيصاب باليأس والقنوط، فيزين له الشيطان الذهاب إلى الساحرة أو السيد، عله أن يعرف دواء لعلته تلك، ونسي قول رسولنا : ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)) [1].
ومنهن من تذهب إلى الساحر أو الساحرة بزعم أنها لا تريد زوجها أن يتزوج عليها، وإن تزوج فلعله يميل إليها ويطلق الثانية، أولم تعلم هذه الفئة من الناس أنها قد أتت فعلا شنيعاً؟ روى الإمام مسلم في صحيحه، قال : ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما)) [2] ، وهذا الوعيد عن سؤاله فقط، أما من يسألهم ويصدقهم فقد قال : ((من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) [3] ومنهم من يدفعه القلق والهموم والحيرة إلى هذا الفعل المحرم، وأصل ذلك كله ضعف الإيمان بالله ـ تعالى ـ، والله ـ سبحانه ـ لم يجعل شفاء فيما حرم عليها.
ومن العلامات التي يعرف بها الساحر دون المعالج لينجلي أمره ويحذره الناس ما يلي:
تجده يسأل المريض عن اسمه واسم أمه، أو يأخذ أثراً من آثار المريض، أو يطلب حيواناً بصفات معينة ليذبحه ولا يذكر اسم الله عليه، وربما لطخ بدمه أماكن الألم من المريض، أو يكتب الطلاسم التي لا يعرف أحد قراءتها أو تلاوة العزائم والطلاسم، ويأمر المريض أن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس، وربما طلب من المريض أن لا يمس الماء مدة معينة، وقد يعطيه أوراقاً يحرقها ويبخر بها، وقد يخبر المريض باسمه واسم بلده ومشكلته التي جاء من أجلها.
ومن ابتلي بشيء من السحر فليتعز بالنبي ، فعن عائشة قالت: ((سحر النبي حتى أنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه ثم قال: أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفيته فيه؟ قلت وما ذاك يا رسول الله، قال: جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل، قال: مطبوب، قال ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق، قال في ماذا؟ قال: مُشط ومشاطة وجُفِّ طَلْعَةِ نخل ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان، فذهب النبي في أناس من أصحابه إلى البئر، ثم رجع إلى عائشة فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين، فأمر بها فدفنت)) رواه البخاري [4] ، هذا ورسول الأمة قد أصيب بالسحر فكيف بمن دونه.
ثانيا: استخراج السحر وإبطاله فهذا أبلغ ما يعالج به المسحور.
ثالثا: الرقية الشرعية المشتملة على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة عن النبي : وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ.
رابعا: كثرة دعاء الله والتضرع إليه والافتقار إليه ـ سبحانه ـ: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ.
ولا يشترط أن تكون الرقية من أناس بأعيانهم، يمكن أن يرقي المسلم نفسه أو زوجته أو أولاده، فإنه أفضل متى ما صاحب ذلك التقوى.
خامسا: قراءة سورة البقرة، فإن قراءتها بركة، ولا تستطيعها السحرة، قال : ((اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولايستطيعها البطلة)) [5] أما كيف يقي المسلم نفسه من السحر والمس وغيرها فعليه أولاً: أن يحافظ على أذكار الصباح والمساء، وقراءة آية الكرسي والمعوذات، فإنها حصن حصين للمسلم.
ثانيا: أكل سبع تمرات عجوة لقوله : ((من اصطبح كل يوم تمرات عجوة، لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل)) [6] ، تقيه من كل شيطان.
ثالثا: التسمية على كل شيء، لقوله : ((إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم فكفّوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فحلوهم، فأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئا، وأطفئوا مصابيحكم)) رواه البخاري [7].
وهذا من رحمة الله بعباده وشفقة نبينا بأمته في أن لا يصيبهم مكروه، فإن فرطوا فالله المستعان.
ألا وصلوا وسلموا...
[1] أخرجه مسلم كتاب الزهد – باب المؤمن أمره كله خير (2999).
[2] المصدر السابق، كتاب السلام: باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان (2230).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (2/429)، وأبو داود: كتاب الطب – باب في الكاهن، حديث رقم (3904)، والترمذي: كتاب الطهارة – باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض حديث (135).
[4] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق – باب صفة إبليس وجنوده، حديث (3268)، وأخرجه أيضاً مسلم: كتاب السلام – باب السحر، حديث (2189).
[5] أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين – باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، حديث (804).
[6] أخرجه البخاري: كتاب الطب – باب الدواء بالعجوة للسحر، حديث (5768)، ومسلم: كتاب الأشربة – باب فضل تمر المدينة، حديث (2047).
[7] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق – باب صفة إبليس وجنوده، حديث (3280)، وأخرجه أيضاً مسلم: كتاب الأشربة – باب الأمر بتغطية الإناء... حديث (2012).
(1/569)
وفاة الشيخ ابن باز يرحمه الله
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
العلم الشرعي, تراجم
منصور الغامدي
الطائف
28/1/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
- فضل العلم وأهله – حاجة الناس إلى العلماء – صفات علماء الآخرة – مكانة الشيخ ابن
باز رحمه الله وعلمه وزهده وعبادته ,وسيرته – وفاة الشيخ ابن باز رحمه الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الإخوة الكرام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله ـ تعالى ـ ومراقبته في الظاهر والباطن، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى وأت ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم.
أيها الأحبة الكرام، إن العلم منار سبل أهل الجنة ومعلم الحلال والحرام، وهو حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدى بأفعالهم وينهى إلى رأيهم، وقدأثنى على من أخذ حظا وافرا منه، قال تعالى: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ وقال ـ سبحانه ـ: شَهِدَ ?للَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَأُوْلُواْ ?لْعِلْمِ قَائِمَاً بِ?لْقِسْطِ فانظر كيف بدأ ـ سبحانه وتعالى ـ بنفسه وثنى بالملائكة، وثلث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفا وفضلا وقال : ((العلماء ورثة الأنبياء)) [1] ومعلوم أنه لا رتبة فوق رتبة النبوة، ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة.
ولفضل العلم فضل الله ـ سبحانه ـ العلماء، لأنهم أخذوا بحظ وافر منه، فارتفعت منزلتهم، وعلا شأنهم، بل إن فضلهم وبرهم وإحسانهم يصل إلى كل المخلوقات، فلذا جاء عن النبي قوله: (( إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير)) [2] ، لأن العلماء يأمرون الناس بالإحسان إلى المخلوقات كلها، فلذلك تستغفر لهم، وأيضا فإن العلم إذا ظهر في الأرض وعمل به درّت البركات، ونزلت الأرزاق فيعيش أهل الأرض كلهم حتى النملة وغيرها من الحيوانات ببركة.
ونجاة الناس منوطة بوجود العلماء فإن يقبض العلماء يهلكوا، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) [3].
وليس يغني عن العلماء وجود الكتب حتى لو كانت سماوية، إذ لو أغنت تلك الكتب عن قوم لأغنت عن بني إسرائيل الذين انحرفوا، عن أبي الدرداء قال كنا مع النبي فشخص بصره إلى السماء ثم قال: ((هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منها على شيء))، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوا الله لنَقْرَأَنه ولنُقرِئنّه أبناءنا ونساءنا، فقال رسول الله : ((ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم)) [4].
والبشر أيضا محتاجون إلى العلماء حاجة عظيمة، قال : ((إنما مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة)) [5] قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثا، والعلم يحتاج إليه في كل وقت.
أيها الاخوة الكرام :من هم العلماء، وكيف يعرفون مع الكم الهائل من أدعياء العلم؟
البحث الأول من هم العلماء؟ العلماء هم العارفون بشرع الله، المتفقهون في دينه، العاملون بعلمهم على هدى وبصيرة، الذين وهبهم الله الحكمة وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا.
والعلماء هم الذين جعل الله ـ عز وجل ـ عماد الناس عليهم في الفقه والعلم، وأمور الدين والدنيا [6].
والعلماء هم: (فقهاء الإسلام، ومن دار الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام) [7].
والعلماء هم أئمة الدين، نالوا هذه المنزلة العظيمة بالاجتهاد والصبر، وكما اليقين: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يُوقِنُونَ.
والعلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا عنهم العلم، فهم يحملونه في صدورهم، وينطبع في الجملة على أعمالهم، ويدعون إليه الناس.
والعلماء هم الفرقة التي نفرت من هذه الأمة لتتفقه في دين الله، ثم تقوم بواجب الدعوة، ومهمة الإنذار: وَمَا كَانَ ?لْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى ?لدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.
والعلماء هم هداة الناس الذين لا يخلو زمان منهم حتى يأتي أمر الله، فهم رأس الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، يقول الرسول : (( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)) [8].
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ: "وأما هذه الطائفة فقال البخاري: (هم أهل العلم)، وقال أحمد بن حنبل: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم)، وقال القاضي عياض: (إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث)، قلت ـ القائل النووي ـ: (ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين؛ منهم شجعان مقاتلون ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، فلا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونوا متفرقين في أقطار الأرض)".
وأيا ما كان القول في هذه الطائفة، فإن من المتفق عليه أن العلماء هم رؤوسها المقدمون فيها، وغيرهم من الناس تبع لهم.
إن العلماء وإن غابت شخوصهم فآثارهم موجودة، قال علي بن أبي طالب : (العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة).
أيها المسلمون، أما كيف يعرف العلماء؟ إنما يعرفون بعملهم؛ فالعلم هو الميزة، تميزهم عن غيرهم؛ فهم إن جهل الناس نطقوا بالعلم الموروث عن إمام المرسلين. ويعرفون برسوخ أقدامهم في مواطن الشبه؛ حيث تزيغ الأفهام فلا يسلم إلا من آتاه الله العلم أو من اتبع أهل العلم.
فالعلماء أطواد ثابتة؛ لأنهم أهل اليقين الراسخ الذي اكتسبوه بالعلم، يقول الإمام ابن قيّم الجوزية ـ رحمه الله ـ: (إن الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكا؛ لأنه قد رسخ في العلم فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم وجيشه مغلولة مغلوبة) [9].
إن العلماء يعرفون أيضا بجهادهم، ودعوتهم إلى الله ـ عز وجل ـ، وبذلهم الأوقات في الجهود في سبيل الله. ويعرفون بنسكهم وخشيتهم لله؛ لأنهم أعرف الناس بالله، يقول الله ـ عز وجل ـ: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. ويعرفون باستعلائهم على الدنيا وحظوظها، فلا يسابقون أهل الدنيا في دنياهم ولا ينافسونهم على متاعها الفاني.
وإن العلماء بهذه الصفات وغيرها يعرفهم الناس، فأيما رجل رأيت المعتبرين في الأمة وجمهورها من أهل الحق قد اعتبروه عالما، ورأوا له ريادته وعلمه فهو علام. قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ: "ومن له في الأمة لسان صدق عام بحيث يثنى عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء أئمة الهدى ومصابيح الدجى" [10].
وهذا حق، فالمسلمون شهداء الله في أرضه: عن أنس بن مالك قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي : ((وجبت)) ، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: ((وجبت)) ، فقال عمر بن الخطاب : ما وجبت؟ قال: ((هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)) [11].
ومما يعرف به العالم شهادة مشايخه له بالعلم، فقد دأب علماء المسلمين من سلف هذه الأمة ومن تبعهم بإحسان على توريث علومهم لتلامذتهم، الذين سيتبؤون من بعدهم منازلهم وتصبح لهم الريادة والإمامة في الأمة، ولا يتصدر هؤلاء التلاميذ حتى يروا إقرار مشايخهم لهم بالعلم، وإذنهم لهم بالتصدر والإفتاء والتدريس. قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ: "لا ينبغي لرجل يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه، وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك، ولو نهياني لانتهيت" [12].
وقال: ".. ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للتحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد، فإن رأوه أهلا لذلك جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أني موضع لذلك".
ومما يدل على علم العالم وفضله دروسه وفتاويه ومؤلفاته. قال الإمام أبو طاهر السلفي عن الإمام الخطابي: "وأما أبو سليمان الشارح لكتاب أبو داود، فإذا وقف منصف على مصنفاته، واطلع على بديع تصرفاته في مؤلفاته، تحقق من إمامته وديانته فيما يورده وأمانته، وكان قد رحل في الحديث وقراءة العلوم، وطوف، ثم ألف في فنون من العلم، وصنف".
هذه بعض الدلائل الدالة على علم العالم وفضله، أما المناصب ونحوها فهي ليست الدليل على العلم.
إن العلماء لا يحددون أو يختارون عن طريق الانتخاب، ولا عن طريق التعيين الوظيفي، فكأي من عالم في تاريخ الأمة تصدر وعلا ذكره، وأصبح إماما للأمة كلها، وهو لم يعرف المناصب، وما الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيميه إلا مثل في تاريخنا المجيد أقول قولي هذا واستغفر...
[1] صحيح، أخرجه أحمد (5/196)، وأبو داود: كتاب العلم – باب الحث على طلب العلم، حديث (3641)، والترمذي: كتاب العلم – باب ما جاء عن فضل الفقه عن العبادة، حديث (2682).
[2] صحيح، أخرجه الترمذي، كتاب العلم – باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة حديث (2685)، وقال: غري، وأخرجه الطبراني في الكبير، حديث (7912).
[3] أخرجه البخاري: كتاب العلم – باب كيف يُقبض العلم، حديث (100)، ومسلم: كتاب العلم – باب رفع العلم وقبضه... حديث (2673).
[4] أخرجه الترمذي: كتاب العلم – باب ما جاء في ذهاب العلم، حديث (2653)، وقال: حسن غريب، وأخرجه أيضاً الحاكم: كتاب العلم (1/99) وصححه، ولم يتعقبه الذهبي، والحديث صحيح، انظر صحيح الترمذي (2137).
[5] أخرجه أحمد (3/157)، قال الهيثمي في المجمع (1/121)، وفيه رشدين بن سعد واختلف في الاحتجاج به، وأبو حفص صاحب أنس مجهول، وفي تقريب التهذيب ضعف رشدين (ص209)، فالحديث ضعيف.
[6] انظر تفسير الطبري (3/327).
[7] انظر إعلام الموقعين لابن القيم (1/7).
[8] أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام – باب قول النبي : ((لا تزال طائفة...)) حديث (7311)، ومسلم: كتاب الإمارة – باب قوله : ((لا تزال طائفة...)) حديث (156).
[9] مفتاح دار السعادة (1/140).
[10] الفتاوى (11/43).
[11] أخرجه البخاري: كتاب الجنائز – باب ثناء الناس على الميت، وحديث (1367)، ومسلم: كتاب الجنائز – باب فيمن ثني عليه خيراً أو شراً بين الموتى، حديث (949).
[12] نقلاً عن ابن حمدان (صفة الفتوى والمستفتي) (7).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فا أيها الإخوة الكرام، لقد نزل بالأمة خطب جلل وأمر عظيم، لقد فجع الناس، وبكى الكثير منهم، وغشيتهم الدهشة والذهول، وتسربلوا بثوب الحزن والأسى، لفقد عالم جليل فقيه عابد مجاهد صابر زاهد ورع، اجتمعت القلوب على حبه، وحمل على عاتقه لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله أكثر من نصف قرن من الزمان، لقد قضى الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ـ حياته في العلم والتعليم والتدريس والتأليف ولد ـ رحمه الله ـ في عام 1330هـ في شهر ذي الحجة، قد نشأ يتيما، إذ توفي والده وعمره ثلاث سنوات فعاش في كنف والدته التي لم تأل جهدا في تربيته والعناية به، ثم فقد الشيخ بصره قبل بلوغ العشرين، لقد كان ـ رحمه الله ـ ذا حافظة وقّادة، وفهم ما وهبه الله من تقوى وزهد في الدنيا وعبادة، وللشيخ مائدة لها أكثر من خمس وثلاثين سنة يحضرها من يشاء من الكبار والصغار والأغنياء والفقراء، والسادة والمسودون، وهو معهم يأكل ويشرب، وكان الشيخ ـ رحمه الله ـ يتقاضى راتبا حكوميا كبيرا، ولكنه يصرفه في سد حاجة المحتاجين، وقضاء حوائج المتضررين.
ثم لا يأتي آخر الشهر إلا وقد استدان، وكان يعمل ـ رحمه الله ـ على كبر سنه، يعمل في اليوم ما يقارب الثماني عشرة ساعة.
أما سيرة الشيخ العلمية، فإنه حفظ القرآن الكريم وهو لم يتجاوز سن البلوغ، ودرّس في المعهد العلمي وكلية الشريعة لمدة عشر سنوات في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ثم عُيّن رئيسا للجامعة الإسلامية خمس سنوات، ثم رئيسا لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وأخيرا مفتيا عاما لهذه البلاد، وقد تولى منصب القضاء لمدة أربعة عشر عاما، وهو من تلاميذ الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة سابقا، وتتلمذ على الشيخ جمع كبير من العلماء المبثوثين في البلاد من أبرزهم فضيلة الشيخ محمد ابن عثيمين، وصالح الفوزان، وعبد الله بن جبرين، وعبد الله ابن منيع، وألف ـ رحمه الله ـ عددا من الكتب والفتاوي والردود.
وكان ـ رحمه الله ـ يواظب على صيام الاثنين والخميس، وله دروس تعقد بعد الفجر من كل إثنين وخميس من كل أسبوع، وله ـ رحمه الله ـ مع الليل شأن آخر، فقد كان يحييه بالصلاة والدعاء.
أيها الاخوة الكرام، إن العلماء الراسخين يعرفون في الشدائد والأزمات، وهم الذين يقفون سدا منيعا ضد المنكرات، لقد أصدر سماحته ـ رحمه الله ـ فتوى عن حرمة توظيف النساء في الدوائر الحكومية المؤدي إلى الاختلاط، وأن يوظف الشباب بدلا عنهن.
كما كان له ـ رحمه الله ـ دعوة إلى عموم المسلمين لنصرة إخوانهم المظلومين المستضعفين في البوسنة وأن يوقف بجانبهم وأن تمد يد العون لهم.
أيها المسلمون، وفي يوم الخميس السابع والعشرين من شهر الله المحرم وقبل صلاة الفجر قضى الشيخ عبد العزيز ابن باز نحبه، وانتقل إلى جوار ربه، وأن المؤمنين في شرق الأرض وغربها ليحزنها ذلك، وإن أولياء الرحمن ليتباكون لوفاته، وإن حزب الشيطان من العلمانية والمنافقين وأهل البدع ليطيرون فرحا، قاتلهم الله أنى يأفكون.
أيها الاخوة لئن مات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ، فإن الأمة فيها من الرجال والعلماء الأوفياء الكثير.
إذا مات منا سيد قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول
ولئن مات الشيخ فإن الموت سنة ماضية، وإن هذا الدين تحرسه عناية الله، وسوف ينتصر رغم الأعادي والعوادي: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ.
يا رب فاجمعنا معا ونبينا في جن تثني عيون الحسد
اللهم اغفر للشيخ عبد العزيز.
ألا وصلوا وسلموا...
(1/570)
أدب الدعوة والحوار
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
"محنة جديدة ليوسف – ملامح إحسان يوسف في السجن – حقيقة الدعوة أسر النفوس تحذير الدعاة من بعض الصفات – " بشروا ولا تنفروا " جوانب هامة في الدعوة "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقال الله تعالى: ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أرانى أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبأنا بتأويله إنا نراك من المحسنين [يوسف:36].
نبدأ من هذه الآية مرحلة أخرى زاخرة بالدروس من قصة يوسف عليه السلام كما يصورها القرآن وبشيء من التدبر والتفكير نجد معالم واضحة للدعوة, أهدافها وغاياتها ووسائلها وأساليبها. نجد معالم واضحة للدعوة على منهج الأنبياء وما أشد حاجتنا اليوم إلى فهم جيد لهذا المنهج حتى نستفيد منه في فقه التطبيق. خاصة ونحن نشاهد اليوم صحوة إسلامية وإقبالا على كتاب الله وعلى سنه رسوله وخليله المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولذلك نهدي هذه الدروس لكل مسلم إذ كل مسلم عليه واجب الدعوة, كل على حسب طاقته. كل مسلم على قدر من مسؤولية الإصلاح بحسب إمكانياته. ولكننا أيضا نهدي هذه الدروس إلى شباب الصحوة وشاباتها. هؤلاء الذين أحيوا في نفوسنا الأمل بغد أكثر إشراقا بنورالاسلام, غد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية. يعز فيه أتباع محمد عليه الصلاة والسلام وتذل فيه القردة والخنازير وتكبت أذنابهم كما كبت الذين من قبلهم.
فعلى هؤلاء الشباب أن يفهموا منهاج الأنبياء ليسيروا عليه. وقصة سيدنا يوسف عليه السلام فيها عبرة وذكرى لأولي الألباب, فيها ملامح زاخرة من منهج الأنبياء. فها هو يوسف يدخل السجن, حكم عليه بذلك منطق المترفين الذي يتهم الأنقياء الأبرياء ويذكي المفسدين الفاسدين.
لقد دخل يوسف سجن المترفين في محاولة منهم لتلويث سمعته وجعله كبش فداء في تلك المشكلة التي تفاقم أمرها وتلك الجريمة التي فاحت روائحها وكانت امرأة العزيز فيها أولى بالعقوبة. انتقل يوسف من سجن إلى سجن, فحياته في القصر لم تكن إلا حياته في سجن كبير, فإن أصحاب المبادئ السامية والبصائر المستنيرة إذا رأوا مجتمعاتهم من حولهم يذبحون وينحرون تلك المبادئ من أجل الشهوات, فإن المجتمع ينقلب من حولهم إلى سجن مرير. ولولا شيء من الأمل في التغير لما تحمل أصحاب النفوس السامية, لما تحملوا هذه الحياة المنحرفة من حولهم. انتقل يوسف الصديق من سجن إلى سجن, لم يكن هناك فرق بين السجن الذي غادره إلى السجن الذي دخله, ولكن كان في كلتا الحالتين نورا يضيء لمن حوله. كان نورا يشع لمن حوله, كان أرفع نموذجا للمبادئ التي يحملها, فحياته وسلوكه وشموخه كان أرفع أسلوبا للدعوة إلى مبادئه وأحسن وسيلة يقدم بها رسالته إلى المجتمع.
ولذلك تجد السجينين الذين دخلا معه السجن يصفانه بالإحسان فما هي ملامح هذا الإحسان الذي أحس به هذان السجينان ورأياه رأي العين؟
يقول المفسرون: اشتهر يوسف في السجن بالجود والأمانة, والكرم وبصدق الحديث وحسن السمت وكثرة العبادة, كما اشتهر بمعرفة التعبير أي تعبير الرؤيا, واشتهر بالإحسان إلى أهل السجن, كان يعود مرضاهم ويتفقد شؤونهم ويقوم بحقوقهم ويصبرهم على محنتهم محنة السجن الذي هم فيه بأرق الكلام وأحنه على قلوبهم.
ولذلك أحبوه حبا شديدا وتألفوا به لأنهم رأوا الإحسان رأي العين. وهذه هي حقيقة الدعوة, إنها تأسر القلوب وتجذب النفوس بدماثة أساليبها, إنها إحسان وليست إفسادا, إصلاح وليست تخريبا, تربية وليست إثارة ولا تهريجا, إنها غرس للسكينة في النفوس, سكينة الإيمان والإحسان. فإذا ما كانت الدعوة صحيحة على ذلك المنهاج فإنها تبني في نفوس الناس الثقة وتأسر قلوبهم.
فلا تجعل في نفسك أيها الداعي حكما على الناس ولا رقيبا صارما على أحوالهم وتصرفاتهم, لا تتفرغ لتتبع عوراتهم وسلبياتهم وانحرافهم, فإن هذا ليس من شأن الدعوة الصحيحة, كن محسنا في دعوتك, فإن تركيزك على إبراز هذا الجانب وحسب, جانب السلبيات والمحرمات, فيه إساءة واضحة للدعوة سواء شعرت بذلك أم لم تشعر. ولذلك انتبه أعداء الشريعة الإسلامية لذلك, فهم دائما لا يذكرون من الشريعة إلا العقوبات فهم لا يتكلمون إلا عن رجم الزاني وقطع يد السارق ونحو ذلك من الحدود, وإنما يفعلون ذلك لتنفير المجتمعات عن حكم الشريعة الإسلامية, لإيهام الناس أنها مجموعة من الأغلال التي تكبت الحرية. فلماذا تفعل أنت مثلهم؟ الدعوة إحسان وإصلاح ومحبة تنشرها بين الناس, يجب ألا يشعر الناس بأنك تبغضهم أو تتعالى عليهم, يجب أن يحسوا بحقيقة الدعوة في قولك وفعلك وأنها محبة وإصلاح وإحسان فإن ذلك أدعى للاستجابة إلى دعوتك وقبول جهدك في الإصلاح, يجب أن يكون لسان مقال الداعي بشأن مقال الأفعال إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [هود:88].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد فقال سيدنا رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم: ((بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا)) [1] ، ما أكثر من غفل عن هذا الأدب الرفيع والمنهاج الكريم وتخصص بل وتفرغ لإحصاء مثالب الناس وتتبع عوراتهم, إن إبراز هذا الجانب وحده يسيء أيما إساءة إلى الدعوة. الدعوة إحسان وهي قوام الحياة, قوام حياة المجتمع, فعلى الدعاة أن يقوموا بهذه المهمة.
أن يقوموا بحاجات الناس ومتطلباتهم, أن يحسنوا إليهم, لماذا ندع هذا المنهج الذي هو منهج يوسف عليه السلام. أوندعه للنصارى؟ انظروا ماذا يفعلون اليوم لتحقيق مآربهم ونشر معتقداتهم الفاسدة, إنهم يغيثون المنكوبين ويداوون المرضى ويطعمون الجوعى ومن خلال ذلك يحققون مآربهم, كأنما سبقونا إلى فهم منهاج الأنبياء, ما الفائدة من أن تلقي محاضرة على إنسان مزقته الكارثة؟ أو أن تقدم كتابا أو حتى مصحفا لمريض افترسه المرض وجائع هده الجوع؟ القرآن نفسه يأمرك أن تغيثه أولا فتسد رمقه أو تداوي مرضه, هذه من رسالتك, من صلب دعوتك الإحسان إلى الناس, من أرفع أساليب الدعوة التي تقدم رسالتك من خلالها إلي المجتمع.
قال سيدنا رسول الله: ((أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام)) [2] ، هذا البرنامج النبوي الكريم, انظر أي شيء تضمن: أفشوا السلام تنشر به المحبة بين الناس, فإن إفشاء السلام به نشر المحبة, فيه إشعار للآخرين بأنك تحبهم وتحترمهم.
أطعموا الطعام, فهذا الجانب العملي, أن تقوم بحقوق الناس وترعى حاجاتهم ومتطلباتهم, لا تنسيك صلتك بالله رب الناس, فالصلة بينك وبين الله يجب أن تكون على أحسن ما يرام وصلوا والناس نيام. هذا هو البرنامج النبوي والمنهج للدعوة.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [3]. اللهم صلى وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري: كتاب العلم (69).
[2] ابن ماجة: أبواب إقامة الصلاة (1334).
[3] صحيح مسلم (408).
(1/571)
دروس من سورة يوسف عليه السلام
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, مساوئ الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
حكمة يوسف في الدعوة – التعريف بالدين – الترفق بالمخاطَب – الدعوة إلى التوحيد الجمع بين الترغيب والترهيب – وسائل المترفين في محاربة المصلحين – لحوم العلماء مسمومة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقال الله تعالى: ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [يوسف:36-38].
بدأ يوسف عليه السلام في الجواب على سؤال السجينين وبدأ الجواب بالتعريف بنفسه فلماذا؟ لا ننسى أنه دخل السجن بتهمة أخلاقية لفقت عليه, فالمترفون بعد أن ثبت لهم نقاؤه وصفاء سريرته وأنه صاحب رسالة سماوية أرادوا بذلك تشويه سمعته فهو أمام السجينين في موقف غريب إنه سجين مثلهما محل للتهمة وهناك محاولات لتلطيخ سمعته لكنه عليه السلام وجد السجينين يميلان إليه ويثقان به ويأنسان لشخصه وذلك نتيجة ما رأياه في السجن من سلوكه الرفيع وسجاياه العظيمة وخصاله الكريمة فأفعاله زكته قبل أقواله, أفعاله برأته قبل أقواله لكنه أحب هنا أن يبين لهما سلامة موقفه وصفاء سريرته, سلامته من التهمة التي لفقها عليه المترفون وذلك حتى يرسخ ثقتهما به وأنسهما بشخصه, فبدأ عليه السلام يعرف بنفسه بعبارة وجيزة لا فخر فيها ولا غرور ولا اعتداد بالنفس ولا خيلاء لكنه بدأ بما يتعلق بشأنهما وحاجتهما وما يشغلهما فطمئنهما إلى قدرته العلمية وموهبته الربانية في تأويل الرؤى.
قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما [يوسف:37]. أليس هذا من مدح النفس وتزكيتها, ألا يمكن أن يكون دافعه الغرور والاعتداد بالنفس؟ كلا وحتى لا يخطر في بال السجينين شيء من ذلك بادر يوسف عليه السلام ببيان مصدر ذلك العلم ومصدر تلك الموهبة ومصدر ذلك العطاء ذلكما مما علمني ربي [يوسف:37]. إنه ليس بجهدي ولا بإمكانياتي ولا لخصائص في ذاتي ولكنه عطاء من الرب سبحانه وتعالى, إنه انتقال رائع من الدفاع عن النفس والتعريف بالشخص إلى الحديث عن الرب سبحانه وتعالى والتعريف به أنه مصدر العطاء ومصدر العلم فالخلق كلهم محتاجون إليه سبحانه وتعالى حتى يهبهم العلم وحتى يهبهم العطاء.
ثم انتقل يوسف عليه السلام بحكمة بالغة وأسلوب بديع من التعريف بالرب سبحانه وتعالى إلى الكلام على الدين والعقيدة والملة بحنكة وذكاء عجيبين ففي نفس الوقت الذي يطرح فيه علي مسامع السجينين المنتبهين إليه بكل جوارحهما في نفس الوقت الذي يطرح عليهما أفكاراً أساسية عن العقيدة والملة والدين يعرفهما بنفسه أيضاً: قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون [يوسف:37]. هذا بيان لعقيدة الطرف الأخر, الطرف المخالف الذي يراد تحذير السجينين من عقائده وأفكاره, إنه المجتمع الذي ينتمي إليه السجينان ولذلك ترفق يوسف عليه السلام بهما وهو يبين لهما فساد عقيدة مجتمعهما الذي ينتميان إليه والذي هما جزء منه فاستخدم أسلوب التعميم والتلميح بدلاً من التصريح تركت ملة قوم ملة قوم هذا التنكير مع أن مراده عليه السلام هو المجتمع الذي ينتمي إليه السجينان وعاش يوسف نفسه في ظلال ذلك المجتمع, لكن هذا التنكير الذي هو نوع من التعميم والتلميح مراد يوسف به استجلاب السجينين والرفق بهما وهو يبين لهما فساد أفكار المجتمع وعقيدة المجتمع واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ربطهما بتلك السلسلة الكريمة من الرسالات السماوية وبتلك السلسلة العظيمة من أنبياء الله ورسله, في نفس الوقت بين لهما على استحياء انتسابه لتك السلسلة النبوية اتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب [يوسف:38]. فلما عرف السجينان شخصيته وعرفا أنه سليل بيت النبوة وأن الرسالة التي يدعو إليها هي فرع من تلك الرسالات العظيمة الكريمة واكتملت صورة شخصيته المهيبة في نفسيهما بعد ذلك كله, صدع بأول أساس فكري للملة الصحيحة للعقيدة الصحيحة التي يدعوهما إليها ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء إنه التوحيد أول أساس فكري للملة الصحيحة يدعو يوسف عليه السلام رفيقيه السجينين إليهما ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء [يوسف:38]. إذن فتلك الوثنية التي يرتع فيها المجتمع مجتمعنا أيها السجينان إنها انحراف قبيح عن الدين الحق والملة الصحيحة التي جاء بها الأنبياء والمرسلون بل هي أكثر من ذلك الشرك والوثنية أكثر من ذلك إنها شقاء في الحياة ونقمة على الناس بينما ملة التوحيد إذا اتبعوها نعمة عظمى عليهم وفضل من الله يتفضل به على من يصطفي من عباده ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [يوسف:38]. ذلك أي التوحيد, إن دعوة المنحرفين عن الملة السمحاء ملة التوحيد لا يكفي فيها أن تبين لهم قبح انحرافهم ولا سوء الوثنية التي وقعوا فيها ولا سوء الشرك الذي تورطوا في حبائله بل يجب على الدعاة إلى التوحيد يجب على كل إنسان أن يتنبه عقله إلى محاسن التوحيد, فعلى الدعاة أن ينبهوا عقول الناس إلى محاسن التوحيد ويشوقوا نفوسهم إلى مزاياه العظيمة فإن للتوحيد أثراً إيجابياً عظيماً على حياة الإنسان وفي صلاح حياة الإنسان وازدهارها في سائر الجوانب, ولذلك فهو ملمح عظيم من ملامح الأسلوب القرآني جمعه بين الترغيب والترهيب فمن أسلوب القرآن الكريم الجمع بين الترغيب والترهيب فلو اقتصر على الترغيب فحسب إذن ربما يتكل الناس علي الوعد فلا يخافون, ولو اقتصر على الترهيب فحسب إذن ربما يقنطون من المغفرة والرحمة فلا يتوبون, ولكن الحكمة القرآنية البالغة ميزان دقيق بين الطرفين بين الترغيب والترهيب نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [الحجر:49].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن هذه المحنة وهي المحنة الثالثة التي يمر بها يوسف الصديق عليه السلام محنة السجن مع محاولة تلطيخ السمعة تنبهنا إلى أمرين خطيرين على كل مسلم ومسلمة أن يكون على بصيرة بهما لكي لا يقع في حبائلهما:
أولهما: أن المترفين يحاربون رسالات الإصلاح , يحاربون الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من المصلحين يحاربونهم بكل وسيلة لا يردعهم شيء عن استخدام أي وسيلة مهما كانت خبيثة دنيئة لا أخلاقية فالغاية تبرر الوسيلة في منطق المترفين أعداء الأنبياء ومن أشد وسائلهم جرماً استباحة أعراض العلماء والدعاة والمصلحين هذا من أشد وسائل أولئك المترفين جرماً وخبثاً وضرراً فهو محاولة للقتل المعنوي لكنه يفشل دائماً لأن شمس الحق, شمس النقاء, شمس المبادئ الربانية السامية تبدد الظلام وتقضى دائماً علي خفافيش الظلام ولذلك يلجؤون إلى القتل الجسدي قتل الأنبياء, قتل أتباع الأنبياء وأكثر من يقترف هاتين الجريمتين خبثاً وتمرساً ودهاء ومكراً هم اليهود من أول الزمان إلى أخر الزمان, قال تعالى: إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين [آل عمران:21-22].
ثانيهما: فليعلم كل مسلم أن أعراض العلماء محرمة ولحومهم مسمومة فكل من أكل لحوم العلماء هلك وكل من استباح أعراضهم خسر الدنيا والآخرة لأن العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكنهم ورثوا هذا العلم, وكل مسلم هو بهذه المثابة فعرضه محرم ولحمه محرم ولكن حق العلماء أكبر ولكن حرمتهم أعظم, فالوقيعة في العلماء وفي الدعاة والمصلحين وفي حملة كتاب الله للعالمين هي من أشد الكبائر جرماً بل هي أخبث ضرراً من الزنا واللواط وشرب الخمر, قال تعالى: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة:65-66]. فسمى الوقيعة في العلماء كفراً فإن سبب نزولها أن بعض المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تكلموا في علماء الصحابة فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء. فحكم الله عليهم بالكفر والنفاق ولم يقبل اعتذارهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم هرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه بأنهم كانوا يمزحون ويلعبون , لم يكونوا يقصدون, لم يقبل الله عذرهم وحكم عليهم بالكفر والنفاق [1] واعتبر وقيعتهم في العلماء استهزاء بالله وبآياته وبرسوله, هذا الدين كلام الله عز وجل سنة النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم كيف وصلت إليك؟ أوصلت إليك تمشي على رجلين؟ العلماء هم حملة هذا الدين حملة هذا الكتاب حملة هذه السنة وأوعيتها بواسطتهم وصل إليك الدين فالوقيعة فيهم إذن سخرية بالله, استهزاء بالله وبآيات الله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنته المطهرة, فإياك أيها المسلم أن تلقى الله عز وجل وفي ذمتك الوقيعة في عرض أي مسلم, فإن عرض المسلم حرام ولكن أشد من ذلك وأعظم جرماً أن تلقى الله وفي ذمتك الوقيعة في العلماء فإن العلماء هم ولاة أمر هذه الأمة, إذا كان الأمراء هم ولاة أمر التنفيذ فالعلماء هم ولاة أمر التوجيه الذين يحملون هذا الدين ويحملون كلام رب العالمين وسنة سيد المرسلين, وتنفيذ بلا توجيه كارثة علي الأمة ودار وهلاك, فإياك أن تلقى الله وفي ذمتك الوقيعة في عرض عالم في عرض داعية مصلح, وأعظم من هذا جرماً وأخبث أثراً وربما خرجت به من الملة الوقيعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم سادة العلماء وقادة هذه الأمة وقدوتها إلى يوم القيامة, رب كلمة تقولها لا تلقي لها بالاً تستبيح بها عرض مسلم وخاصة إذا كان من العلماء والدعاة والمصلحين وتهوي بها في النار سبعين خريفاً, ورب كلمة تقولها في الذب عن عرض أخيك المسلم وخاصة إذا كان من العلماء والدعاة المصلحين لا تلقي لها بالاً يرفعك الله بها درجات في الجنة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في نار جهنم)) [2] صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [3] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه الطبراي في التفسير الجزء العاشر (172).
[2] البخاري: كتاب الأدب (6113).
[3] صحيح مسلم (408).
(1/572)