احفظ الله يحفظك
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
عبد الله بن محمد بن زاحم
المدينة المنورة
8/6/1410
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث ابن عباس 2- حفظ الفم والفرْج 3- الجزاء من جنس العمل 4- من حَفِظ أوامر الله
أبعده الله عن الشهوات 5- من تعرّف على الله في الرخاء تعرّف الله عليه في الشدة
6- الحث على دعاء الله ومناجاته 7- كل ما يجري على الإنسان من خير أو شر إنما هو
مُقدّر مكتوب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فإن جميع المخلوقات في هذا الوجود الضخم لم توجد إلا بالله، فكلها محتاجة إليه ولا بقاء لها إلا به، والإنسان جنس من أجناس هذا الوجود. كرمه الله فخلقه بيده، واختاره لعبادته ومناجاته، فكلفه وخاطبه، وعلمه ووجهه ورغبه وحذره، فهو مرتبط بالله في كل أحواله، في حركاته وسكناته، ودقات قلبه وأنفاسه، فلو أنفكّ عنه لحظة هلك، وما أجمل كلمات علمها النبي – - لابن عمه عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما ـ. كما في مسند الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت رديف النبي – - فقال: ((يا غلام – أو يا غليّم – ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن)) ؟ قلت: بلى. قال: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة. إذا سألت فاسأل الله، إذا استعنت فاستعن بالله. قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)) [1].
وفي بعض الروايات: ((واعلم ان ما اخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)) [2].
هذه عشر كلمات من عمل بهن وأيقن بمعناهن نفعه الله بهن
((احفظ الله يحفظك)) ، أي احفظ حقوق الله، واعمل بشريعته وأقم حدوده، واجتنب حرماته، تكن تحت رعايته وعنايته وهدايته وتوفيقه في أمور دينك ودنياك.
فمن آمن بالله ورسالاته وألوهيته وربوبيته وبأسمائه وصفاته من غير تشبيه ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل. وأقام شريعة الإسلام كما جاء بها النبي – -، فأقام الصلاة وآتى الزكاة، وحج البيت، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر بحسب قدرته، وجاهد في الله بحسب طاقته وإمكانياته، واستحيا من الله فاجتنب المحرمات والموبقات، وحفظ قلبه عن البدع والأهواء والشكوك، وحفظ فرجه عن الزنا واللواط، وحفظ لسانه عن كلام الفحش والخرافات والغيبة والنميمة، وحفظ بطنه عن أكل أموال الناس بالباطل، واجتنب الربا واحترم أموال الناس ودماءهم وأعراضهم: فقد حفظ الله.
روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن مسعود – - قال: قال رسول الله – -: ((استحيوا من الله حق الحياء)). قال: قلنا: يا رسول الله: إنا نستحيى ـ والحمد لله ـ قال: ((ليس ذاك. ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)). واللفظ للترمذي [3]. وروى أحمد عن أبي موسى الأشعرى – - قال: قال رسول الله – -: ((من حفظ ما بين فمه وفرجه دخل الجنة)) [4].
والجزاء من جنس العمل، فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40]، فمن حفظ الله حفظه الله في مصالح دينه ودنياه، في أهله وماله وولده. فالمسلم الذي يحفظ أوامر الله ونواهيه وحدوده يحفظه الله بأنواع من الحفظ قد لا يشعر العبد ببعضها وقد يكون كارها لها.
قال ابن عباس – - في قوله تعالى: وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]. قال: (يحول بين المؤمن وبين التي تجره إلى النار). وقال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ في أهل المعاصي: "هانوا على الله فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم".
وقال ابن مسعود – ـ: "إن العبد ليهمُّ بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له فينظر الله إليه فيقول لملائكته: اصرفوه عنه. فإنه إن تيسر له أدخلته النار. فيصرفه الله عنه فيقبل يتطير يقول: شتمني فلان وأهانني فلان. وما هو إلا فضل الله – عز وجل -: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
ومن حفظ أوامر الله حفظ عليه دينه، فلا يقع في الشبهات المضلة ولا في الشهوات المحرمة. ويموت على الإيمان ـ إن شاء الله ـ ويحفظه من شياطين الجن والإنس ومن النفس الأمارة بالسوء. ومن حفظ الله في شبابه وقوته، حفظه الله حال كبره وضعفه، لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَـ?هُ أَسْفَلَ سَـ?فِلِينَ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:4-6]. فيمتعه بسمعه وبصره وعقله وقوته. وإن الله تعالى ليحفظ بالرجل الصالح ولده وأهله وجيرانه، قال الله ـ تعالى ـ في قصة موسى مع الخضر – عليهما السلام – في شأن الجدار: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـ?لِحاً [الكهف:82]. فحفظ الله الغلامين اليتيمين وحفظ مالهما بصلاح أبيهما.
وقال ابن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر. والضد بالضد نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ [الأنفال:30]، فمن ضيع الله ضيعه الله فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم.
وقوله – -: ((احفظ الله تجده أمامك)) ، وعند الترمذي: ((تجاهك)) ، قال ابن رجب – رحمه الله -: معناه من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه. يحوطه وينصره ويحفظه ويسدده ويوفقه.
ومن يكن معه، حصلت له القوة التي لا تغلب، والركن الشديد الذي لا يهدم، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.
كتب بعض الصالحين إلى أخ له: "أما بعد، فإن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو".
وأيضا فإن المسلم الصالح من ذكر وأنثى يسير على صراط مستقيم، عليه داع إلى الله، والصراط يؤدي إلى الجنة، والجنة سقفها عرش الرحمن، والرحمن على العرش استوى.
وقوله – -: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
التعرف إلى الله يكون بطاعته وطاعة رسوله – - واتباع شريعته ودوام الاتصال به بالذكر والدعاء والطاعات والعبادات المشروعة والرغبة والرهبة والخوف والرجاء، فمن أقبل على الله أقبل الله عليه، ومن توجه إلى الله توجه الله إليه، ومن مشى إلى الله شبراً مشى الله إليه ذراعاً.كما جاءت بذلك الأحاديث [5] ، فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته.
فهذا نبي الله يونس- عليه الصلاة والسلام – لما دعا الله وهو في بطن الحوت قالت الملائكة: يارب، هذا صوت معروف في بلاد غريبة. يا رب، أفلا ترحم من كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء، قال: بلى. فأمر الله الحوت فطرحه في العراء.
أما من نسي ذكر الله وأهمل أوامره نسيه الله، قال ـ تعالى ـ عن المنافقين: نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]. كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:126].
وهذا فرعون كان طاغيا ناسيا لذكر الله، فلما أدركه الغرق وصار في شدة قال: ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـ?هَ إِلاَّ ?لَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْر?ءيلَ [يونس:90]. فلم يبال الله به، ولم يستجب لدعائه، ولم يقبل إيمانه ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ [يونس:91].
وقال سلمان الفارسي – -: إذا كان الرجل – أي والمرأة – دعا في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله ـ تعالى ـ قالت الملائكة: صوت معروف، فشفعوا له. وإن كان غير ذلك قالت الملائكة: صوت غير معروف، فلا يشفعون له. إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [فصلت:30-31].
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه البخاري (1/307)، والترمذي ح (2800).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (5/182 ـ 183)، وأبو داود ح (4699)، وابن ماجه ح (77).
[3] صحيح، مسند أحمد (1/387)، والترمذي ح (2458) وقال: حديث غريب.
[4] أخرج أحمد (4/398) ولفظه: ((من حفظ ما بين فقميه وفرجه دخل الجنة)).
[5] سنن الترمذي ح (3571)
_________
الخطبة الثانية
_________
?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الفاتحة:1]. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سبيله ودعا بدعوته.
أما بعد، فأوصيكم وإياي بتقوى الله ومراقبته في السر والعلانية. ثم نتابع بقية وصية النبي – - لعبد الله بن عباس. قال: ((إذا سألت فاسأل الله)) : الدعاء مخ العبادة، وقد حث الله ـ تعالى ـ عليه فقال: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً [النساء:32].
وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود مرفوعا: ((سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يُسئل)) [1].
وعن أبي هريرة – -: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)) [2].
وسؤال الله ـ تعالى ـ هو المتعين، ففيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع الضر أو قضاء الحاجة.
وأما المخلوق فهو مسكين ضعيف شحيح، إذا سُئِلَ غضب.
وقال طاووس لعطاء: إياك وأن تطلب حوائجك ممن أغلق دونك بابه وجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك.
وقوله: ((وإذا استعنت فاستعن بالله)). فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله على فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات في الدنيا وعند الموت وفي الآخرة، وعلى الثبات على الإيمان، وعلى شكر نعم الرحمن، وعلى جلب الرزق الحلال، فلا يقدر على ذلك إلا الله ـ تعالى ـ. ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره، وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولاً.
وقوله: ((جف القلم بما هو كائن)). هذا هو القدر، قد كتب الله نظام هذه الدنيا أفرادها وجماعتها ودولها وشعوبها ومقاديرها إلى يوم القيامة.
فكل ما يحصل فمن ذلك الكتاب: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ?لأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا [الحديد:22]. وقال جابر للنبي – -: ففيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال – -: ((بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير)) [3]. وقال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) [4].
وقوله: ((فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك... )) الخ.
معناه أن كل ما يحصل للإنسان من نفع وما يحصل عليه من ضر كله مقدر مسطر في اللوح المحفوظ، وهذا لا ينافي فعل الأسباب والاجتهاد في تحصيل المطلوب ودفع المكروه، فإن الأشياء معلقة بأسبابها، ولن يحصل إلا ما كتب الله، فالمسلم يعمل بالأسباب، ويوقن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
والصبر على الأذى وعلى الطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها، والصبر من أخلاق الأنبياء والصالحين.
والله ـ تعالى ـ بين جزاء الأعمال، وجعل لها نهاية وحداً، فقال: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160].
وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق ذلك إلى سبعمائة ضعف.
وجعل جزاء الصابرين بغير حساب.
والصبر سبب للنصر والظفر بالمطلوب.
وكلما اشتد الكرب وتعسر الأمر وصبر العبد، فإن الفرج أقرب له، واليسر أسرع إليه؛ وذلك لأن القلب يكون أخلص في الدعاء وأكثر رجاءً لله وتوجهاً له، فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5، 6]. ولن يغلب عسر يسرين.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
[1] سنن الترمذي ح (3571)، وهو ضعيف في إسناده: حماد بن واقد العيشي ضعيف. التقريب (1516). وذكر الترمذي أنه خالف أبا نعيم وهو ثقة ثبت.
[2] صحيح، سنن الترمذي ح (3373).
[3] أخرجه مسلم ح (2648).
[4] أخرجه البخاري ح (4949)، ومسلم ح (2647).
(1/356)
هيا بنا نؤمن ساعة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أمراض القلوب, التربية والتزكية
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جدد إيمانك 2- قسوة القلب وقلة الخوف من علاّم الغيوب 3- أين المصير يوم القيامة
4- صفة النار 5- دعوة للتوبة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله، "هيا بنا نؤمن ساعة" هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك.. وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا سريعًا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في العناصر التالية:
أولاً: جدد إيمانك.
ثانيا: قسوة القلوب وقلة الخوف من علام الغيوب.
ثالثا: إلى أين المصير؟!
وأخيرًا: متى ستتوب؟!
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً: جدد إيمانك.
أخي الحبيب، إن الإيمان قول وعمل، الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، والإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان والزلات قال جل وعلا: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4].
وفى الحديث: ((ما من القلوب إلا وله سحابة كسحابة القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم فإذا تجلت عنه أضاء)) ، فإذا تراكمت سحب المعاصي على القلب حجبت السحب نور الإيمان في القلب كما تحجب السحابة الكثيفة نور القمر عن الأرض، فإذا انقشعت السحب ظهر نور القمر لأهل الأرض مرة أخرى كذلك إذا انقشعت سحب المعاصي والذنوب عن القلب ظهر نور الإيمان في القلوب، فلا بد من تعهد القلب، ولابد من تجديد الإيمان في القلب وزيادته من آن لآخر وذلك بتعويض القلب بمواد تقوية الإيمان بالله جل وعلا، ومن هذه المواد المقوية للإيمان قراءة القرآن، وذكر الرحمن، والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، والاستغفار، وزيارة القبور، وزيارة المرضى والمحافظة على الصلوات في جماعة بالمساجد، والإنفاق على الفقراء والمساكين، والإحسان إلى الأرامل واليتامى والمحرومين.
هذه بعض الأعمال التي تقوي وتجدد الإيمان في القلب فإن القلب هو الملك والأعضاء والجوارح هم جنوده ورعاياه، فإن طاب الملك، طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا.
كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير أن البشير النذير قال: ((... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) [1].
فلا بد من تعهد حال الإيمان في القلب.. ولابد من تجديد الإيمان في القلب. ووالله الذي لا إله غيره، لا أعلم زمان قست فيه القلوب وتراكمت فيه الذنوب على الذنوب، وقل الخوف من علام الغيوب كهذا الزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز.
ثانيًا: قسوة القلوب وقلة الخوف من علام الغيوب.
قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
ألم يأنِ لقلوب من وَحّدوُا الله وآمنوا برسوله أن تخضع لعظمة الله تبارك وتعالى، وأن تذعن لأمره، وأن تجتنب نهيه، وأن تقف عند حدوده تبارك وتعالى.
إخوتي الكرام: إن قلة الخوف من الله جل وعلا ثمرةٌ مرةٌ لقسوة القلب وظلمته ووحشته، فمنا الآن من يستمع لكلام الرحمن يتلى ولا تدمع عينيه، ولا يتحرك قلبه، ولا تلين جوارحه، ولا يقشعر جلده!!! ذلك أن القلوب قست، لأن القلوب في وحشة وأن القلوب في ظلمه، لقلة الخوف من الله وإن الخوف من الرحمن ثمرة حلوة للإيمان، فعلى قدر إيمانك بالله، وعلى قدر حبك لله، وعلى قدر علمك بالله، وعلى قدر معرفتك بالله جل وعلا يكون حياؤك، وخوفك، ومراقبتك لله تبارك وتعالى، قف على هذه القاعدة ليتبين كل واحد منا الآن: هل يحمل في صدره قلبًا رقيقًا أم قلبًا قاسيًا وهو لا يدري؟!! قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].
فعلى قدر علمك ومعرفتك بالله يكون خوفك من الله. فيا من تتجرأ على المعصية، يا من ترخي الستور، وتغلق الأبواب وتبارز الله جل وعلا بالمعصية، وأنت تظن يا مسكين أنه لا يسمعك ولا يراك أحد، فاعلم أيها المسكين وكن على يقين أنك لا تعرف الله جل وعلا، وعلى قدر علمك بالله يكون حياؤك منه كما قال أعرف الناس بالله رسولنا محمد : ((أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له)) [2].
فالذي يعرف الله إن زلت قدمه في المعصية وارتكب كبيرة من الكبائر في حالة ضعف بشري منه تجده سرعان ما يجدد التوبة والأوبة والندم وهو الذي سرعان ما يطرح قلبه بين يدي الله بذل وانكسار وهو يعترف بفقره وعجزه وضعفه.
وكان النبي يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: خطبنا رسول الله خطبة ما سمعت مثلها قط فقال: ((والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا)) ، قال: فغطىَّ أصحاب رسول الله وجوههم، ولهم خنين [3] (الخنين: شبيه بالبكاء مع مشاركة في الصوت من الأنف).
ورد في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي بسند صحيح بالشواهد من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ((كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن وحنا جبهته وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر فينفخ؟ فكأن ذلك ثَقُلَ على أصحابه)) ، فقالوا: فكيف نفعل يا رسول الله أو نقول؟ قال: ((قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)) ، وربما قال: ((توكلنا على الله)) [4].
والله لو وقفت على خوف النبي من ربه وهو أعرف الناس به، وأتقى الناس له، وأخشى الناس منه، لرأيت العجب العجاب.
وهذا فاروق الأمة الأواب عمر بن الخطاب الذي أجرى الله الحق على لسانه لما نام على فراش الموت دخل عليه شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك وصحبة رسول الله وقدمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة فقال عمر: وددت أن ذلك كفافٌ لا عليّ ولا لي.
وفى رواية: دخل عليه ابن عباس فقال: أليس قد دعا رسول الله أن يعز الله بك الدين والمسلمين إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إسلامك عزًا، وظهر بك الإسلام، وهاجرت فكانت هجرتك فتحًا، ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله من قتال المشركين، ثم قُبض وهو عنك راض، ووازرت الخليفة بعده على منهاج رسول الله فضربت من أدبر بمن أقبل، ثم قبض الخليفة وهو عنك راضٍ، ثم وليت بخير ما ولي الناس: مصَّر الله بك الأمصار، وجبا بك الأموال ونعى بك العدو وأدخل بك على أهل البيت من سيوسعهم دينهم وأرزاقهم ثم ختم لك بالشهادة فهنيئًا لك. فقال عمر: والله إن المغرور من تغرونه ( [5] ).
وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة رأيت عمر أخذ تبنة من الأرض فقال: ليتني هذه التبنة ليتني لم أك شيئًا، ليت أمي لم تلدني.
وهذا حب المصطفى معاذ بن جبل الذي أقسم له النبي فقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك)) [6].
يبتلى معاذ بطاعون الشام وينام على فراش الموت وهو الشاب الذي لم يبلغ الثالثة والثلاثين من عمره فيقول لأصحابه: هل أصبح الصباح؟ فيقولون: لا بعد فيقول أخرى: هل أصبح الصباح؟ فيقولون: لا بعد فيقول ثالثة: هل أصبح الصباح؟ فيقولون: لا بعد فيقول معاذ: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار!!!
وهذا سفيان الثوري إمام الدنيا في الزهد والورع والحديث، ينام على فراش الموت ويدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له: أبشر يا ـ أبا عبد الله ـ أنك مقبل على ما كنت ترجوه، وهو أرحم الراحمين فيبكى سفيان ويقول: أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار؟!!!
وهذا إمام الدنيا الشافعي يدخل عليه الإمام المزني وهو على فراش الموت فيقول له: كيف أصبحت يا إمام فيقول: أصبحت من الدنيا راحلا وللإخوان مفارقا، ولعملي ملاقيا، ولكأس المنية شاربا وعلى الله واردا، ثم بكى وقال: فلا أدري والله يا مُزني أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها؟!!!
وهذا مالك بن دينار وهو من أئمة السلف الأخيار كان يصلي للعزيزِ الغفار ويقبض على لحيته ويبكى ثم يقول: لقد علمت مساكن الجنة ومساكن النار ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار؟!!
فهل فكرت يا عبد الله في هذا المصير، أتصير إلى جنة أم إلى نار؟!!
وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء.
ثالثا: أين المصير؟!!
وهذا سؤال يجب على كل واحد منا أن يسأله لنفسه في الليل والنهار، يا من بارزت الله بالزنا قل لنفسك أين المصير؟!
يا من ذهب زَوجَكِ إلى بلاد الغربة ليوفر لَكِ ولأولادكِ المعيشة الطيبة الحلال فلم تحفظيه في عرضه وماله قولي لنفسك أين المصير؟!
يا من تلاعبت ببنات المسلمين وبارزت الله بالمعاصي قل لنفسك أين المصير؟
يا من أكلت الربا قل لنفسك أين المصير؟!!
يا من أكلت الحرام قل لنفسك أين المصير؟!!
يا من تظلم الناس قل لنفسك أين المصير؟!!
مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشًا قلق الأحشاء حيرانا
النار تلهب من غيظٍ ومن حنقٍ على العصاةِ ورب العرش غَضبانا
اقرأ كتابك يا عبدُ على مَهَل فهل ترى فيه حرفًا غير ما كانا
فلما قرأت ولَم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
المشركون غدًا في النار يلتهبوا والْمؤمنون بدار الْخلد سكانا
ماذا تقول لربك غدًا إذا وقفت بين يديه عارٍ: أين المنصب؟! أين الجاه؟! أين السلطان؟!! أين الأموال؟!! أين القوة؟!!: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ أين المصير؟! وجه لنفسك اليوم هذا السؤال: هل أنت ممن عمل الطاعة وتنتظر من الله الجنة أم أنك مسرف على نفسك بالمعصية ومع ذلك تتمنى على الله الأماني وترجو الجنة ما أقل حياء من طمع في الجنة وهو لم يعمل بالطاعة ولم يمتثل لأوامر الله.. إننا لا نقوى على النار ومن يقوى عليها؟! ومن يقوى على نار الدنيا وهى: ((ناركم هذه التي توقد ابن آدم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم)) [7].
فاتقوا النار أيها المسلمون فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد، إن الطعام في النار نار، وإن الشراب في النار نار، وإن الثياب في النار نار، وطعام أهل النار من الزقوم والغسلين والضريع.
هل تعلم عن الزقوم والغسلين والضريع شيء؟!!
الزقوم شجرة تنبت في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: لو أن قطرة منها قطرت على أهل الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون الزقوم طعامه.
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الصافات:62-65].
أما الضريع!! فهو نوع من أنواع الشَّوْك..
قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:1-7].
أما الغسلين!! فهو عصارة أهل النار من قيح وصديد.
قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة:25-36].
إذا استغاث أهل النار يغاثون بماء ولكن ما هذا الماء؟ قال تعالى:... وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15].
وقال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29].
وهنا يستغيث أهل النار بخزنة جهنم: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ [غافر:49، 50].
فإن يئس أهل النار من خزنة جهنم نادوا على رئيس الخزنة: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77].
فيتذكر أهل النار أهل التوحيد ممن كانوا يعرفونهم في الدنيا فينادونهم ليغيثونهم بشيء من الماء أو مما رزقهم الله: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50، 51].
فإن يئس أهل النار من الخلق أجمعين استغاثوا بالملك الكريم. قال تعالى: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ [المؤمنين:106-108]. الطعام نار، والشراب نار، والثياب من نار.
قال تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21].
أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين.. جنة لا يعلم ما أُعدَّ فيها من كرامة لأوليائه - إلا العزيز الغفار: ((فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) [8].
ففي الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم كأشد كوكب إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة ـ عود الطيب ـ أزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء)) [9].
ويكفى ـ أخي الكريم ـ أن تقف على أدنى أهل الجنة منزلة لتعلم قدر أعلى أهل الجنة ففي صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي قال: ((سأل موسى ربه جل وعلا فقال: يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال هو: رجل يجيء بعدما أُُدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال: له أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول رضيت رب، فيقال: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت رب، فيقول هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول موسى: يا رب هذا أدنى أهل الجنة منزلة فما أعلاهم منزلا؟ قال الله: ذلك الذي أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليهم فلم ترى عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر)) [10].
أيها المسلمون، إن أعلى نعيم أهل الجنة هو النظر إلى وجه الله جل وعلا قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23].
ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تعالى: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير بين يديك، فيقول: هل رضيتم؟! فيقولون: يا ربنا قد أعطيتنا ما لم تعط أحد من خلقك، وما لنا لا نرضى؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: أي شيء أفضل من ذلك، فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا)) [11].
وفى رواية: ((فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى الله عز وجل: قال تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )). والزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى.
والسؤال الأخير: إذا كان الأمر كذلك فمتى ستتوب؟!!
والجواب: بعد جلسة الاستراحة وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم...
[1] رواه البخارى رقم ( 52 ) فى الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم رقم (1599) في المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات وأبو داود (3329، 3330 ) فى البيوع والترمذى رقم (1205 ) فى البيوع، والنسائى (7/241) فى البيوع أيضًا.
[2] البخارى رقم ( 5063 ) فى النكاح، باب الترغيب فى النكاح، ومسلم رقم ( 1401 ) فى النكاح، باب استحباب النكاح، والنسائى (6/ 60 ) فى النكاح أيضًا، باب النهى عن التبتل.
[3] البخارى (4621 ) فى تفسير سورة المائدة، باب قوله تعالى: لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ، ومسلم ( 2359 ) فى الفضائل، باب توقير، والترمذى ( 3058 ) فى التفسير، باب ومن سورة المائدة.
[4] رواه البخارى رقم (3700) فى فضائل أصحاب النبى ، باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان ، وفيه مقتل عمر بن الخطاب.
[5] سير الخلفاء للذهبى ص 83، وابن الجوزى فى المنتظم ( 4/ 141 ) بسند رجاله صحيح إلا عاصم بن عبد الله بن عاصم ضعفوه.
[6] رواه أبو داود ( 1522 ) فى الصلاة، باب الاستغفار، والنسائى ( 3/ 53 ) فى السهو، باب نوع آخر من الدعاء والحاكم ( 3/273 – 274 ) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبى وهو فى صحيح الجامع (7969).
[7] رواه البخارى ( 3265 ) فى بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقه، ومسلم ( 2843 ) في الجنة وصفة نعيمها، باب شدة حر نار جهنم.
[8] رواه البخارى رقم ( 3244 ) فى بدء الخلق، باب ما جاء فى صفة الجنة، مسلم رقم (2845) فى الجنة فى فاتحته، والترمذى رقم ( 3195 ) فى التفسير.
[9] رواه البخارى رقم ( 3245 ) فى بدء الخلق، باب أول ما جاء فى صفة الجنة، ومسلم (2834) فى الجنة، باب أول زمرة يدخلون الجنة على صورة ليلة القمر البدر، والترمذى (2540) فى صفة الجنة.
[10] رواه مسلم رقم (189) في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها والترمذى رقم (3196) فى التفسير، باب ومن سورة السجدة.
[11] رواه البخارى (6549) فى الرقاق، باب صفة الجنة والنار، ومسلم رقم ( 2829 ) فى صفة الجنة، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة، والترمذى، (2558) فى صفة الجنة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام، أيها الآباء الفضلاء، وأيها الأخوات الفضليات، وأيها الشباب، متى سنتوب؟! متى سنرجع إلى علام الغيوب؟!
أما آن لقلوبنا أن تخشع، وأن ترجع وأن تخضع لله رب العالمين إن الموت يأتي بغتة، وإن أقرب غائب ننتظره هو الموت فلا تسوف التوبة، وعاهد الله من الآن أن تقف عند حدوده وأن تراقبه في سرك وعلانيتك.. في خلوتك وجلوتك، وأن تحرص على مجالس العلم وأن تفرغ لها من الوقت والجهد والمال فإن مجالس العلم تجدد الإيمان في القلب، وتحول بينك وبين معصية الله عز وجل لأن مجلس العلم طريق إلى الجنة وطريق يبعدك عن النار كما قال نبيك المختار: ((ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سَهَّلَ الله له طريقًا إلى الجنة)) [1].
أحبتي في الله، فلنرجع ونتوب من الآن إلى الله تعالى توبة صادقة مهما بلغت ذنوبنا ونعاهد الله تعالى من الآن على أن نعود إليه وأن نجدد التوبة والأوبة ونحن على يقين أنه سبحانه يفرح بتوبة عبده المؤمن وهو الغنى عنا الذي لا ينفعه الطاعة ولا تضره المعصية قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
وأذكركم أحبتي في الله أن التوبة لها شروط حتى يقبلها الله تبارك وتعالى وأول شرط فيها: أن تقلع عن الذنب ثم الندم على ما مضى، ولا تباهى لا وتتفاخر أنك فعلت وفعلت ثم تعمل الصالحات.
قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70].
وفي الحديث القدسي الذي رواه الترمذي أن النبي قال: قال الله تعالى: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بتراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) [2].
[1] رواه مسلم رقم (2699) في الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، وأبو داود رقم (4946) في الأدب باب فى المعونة للمسلم، والترمذى رقم (1425) فى الحدود، باب ما جاء فى الستر على المسلم.
[2] الترمذى رقم (3534) فى الدعوات، باب رقم (106).
(1/357)
اختبار المؤمن
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد الله بن محمد بن زاحم
المدينة المنورة
3/3/1401
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل شيء إنما تظهر جودته إذا اختبر 2- الابتلاء اختبار لإيمان المؤمن
3- ماذا يصنع المسلم إذا أصيب بالمصيبة 4- لماذا يُبتلى الإنسان في الدنيا
5- جزاء الصبر في الدنيا والآخرة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فأوصيكم وإياي بتقوى الله ـ تعالى ـ، فلا سعادة ولا صلاح إلا بالتقوى.
عباد الله: إذا أراد الإنسان أن يشتري مصاغاً من الجواهر، ذهب به إلى المختبر ليتأكد من جودته وسلامته من الغش، فإذا كان مغشوشاً لم يقبله. وإذا أراد الإنسان أن يلتحق بالوظيفة أرسل للمختبر الصحي للتأكد من لياقته طبياً للخدمة، وإذا لم يصلح لم يوظف. وإذا دخل الطالب في سلك المدرسة اختبر لمعرفة نشاطه وحرصه على العلم والتحصيل، فإذا لم ينجح أدى الأمر إلى طرده من المدرسة، أفلا يختبر من أراد دخول الجنة؟!
وأمامنا اختبار أهم من اختبارات الدنيا، اختبار عام شامل، فيه نجاح وتفوق وقبول، وفيه رسوب وطرد، وإبعاد، وأسئلته مقدمة قبله مفتوحة معلومة للناس، حرصاً من المختبر على النجاح رحمة بالحريصين على السبق، وكأني بسائل يسأل: ما هو موضوع هذا الاختبار؟ وما هي درجة النجاح؟ وما فائدته وثمرته؟.
فأما موضوع الاختبار فهو الإيمان. كما قال ـ تبارك وتعالى ـ: بسم الله الرحمن الرحيم: الم أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1، 2].
وأما الأسئلة فهي المذكورة في قوله ـ سبحانه ـ: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ وَ?لاْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ [البقرة:155].
وقوله: وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]. فأخبر قبل وقوعها بأنها اختبار وابتلاء وامتحان.
وأما مكان الاختبار، فهو هذه الحياة الدنيا، فما دام الإنسان حياً فيها فهو تحت الاختبار، فيأخذ حذره واستعداده.
وأما أسباب النجاح فهي المذكورة في قوله ـ تعالى ـ: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ [البقرة:153].
وقوله: وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعون [البقرة:155، 156]. فالصبر والصلاة وتفويض الأمر لله وشكر النعمة هي أسباب النجاح.
وأما تقدير النجاح فهي قوله ـ تعالى ـ: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ تقدير ممتاز.
وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ درجة الشرف الأولى.
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – -: نعم العدلان ونعمت العلاوة: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ فهذان العدلان: وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ فهذه العلاوة. أعطوا ثوابهم وزيدوا عليه أيضا.
وأما فائدة الاختبار، فكما قال ـ سبحانه ـ: فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:3]. وقوله : وَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ [العنكبوت:11]، لمعرفة القلوب الطيبة النظيفة المستنيرة بنور الإيمان التي تصلح لتحمل أمانة الله والعمل بها وتبليغ رسالة نبيه – - والدعوة إليها.
وأما ثمرته فالاختبار كسب درجة عالية في الإيمان، والحث على تطهير النفس، وإزالة الغشاوة عن العيون وإزالة الران عن القلوب، كما يمحو السيئات، ويشد العزائم، ويصفي العقائد، ويقوي الصلة بالله، فيكون المؤمن طاهراً نقيا، مؤهلاً لأن يكون في خدمة الله ومن حزب الله، من أولياء الله، من المقربين إلى الله، فمن كان مع الله وصبر على بلاء الله، وشكر نعم الله، كان الله معه يوفقه، ويسدده ويحفظه، ويوجهه لكل خير، ويصرفه عن كل شر، ينير الطريق أمامه، وهذه حال المؤمن الحقيقي، المؤمن الصادق.
قال : ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) [رواه مسلم] [1]. خير عام شامل في أمور الدين والدنيا، هذا له في هذه الدنيا.
أما الآخرة. فكما قال ـ سبحانه ـ: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، لا يقدر له قدر، ولا يحد له أجر، إنما هو من فضل الجواد الواجد الكريم.
ذكر ابن كثير في تفسيره: أن علي بن الحسين زين العابدين ـ رضي الله عنهما ـ قال: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون؟ ليدخلوا الجنة قبل الحساب. قال: فيقوم عنق من الناس – أي جماعة – فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون: قبل الحساب؟ قالوا: نعم. قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: نحن الصابرون. قالوا: وما صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا على معصية الله، حتى توفانا الله، قالوا: أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين). ويشهد لهذا قوله ـ تعالى ـ: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
فاتقوا الله – أيها المؤمنون –. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ (1/358)
علامات الساعة الكبرى ( يأجوج ومأجوج )
الإيمان
أشراط الساعة
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علامات الساعة الكبرى 2- كلمة عن الخرافات التي يُلحقها البعض بعلامات الساعة
3- قصة ذي القرنين 4- خروج يأجوج ومأجوج وفسادهم وهلاكهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فحياكم الله جميعا أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعا من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله:
في رحاب الدار الآخرة:
سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي الهدف منها:
تذكير الناس بحقيقة الدنيا للإنابة والتوبة إلى الله جل وعلا قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.
وهذا هو لقاءنا السادس من لقاءات هذه السلسلة، وحديثنا اليوم إن شاء الله تعالى عن علامة من علامات الساعة الكبرى التي ذكرها المصطفى في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أُسَيد الغفاري قال: اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال المصطفى : ((ما تذاكرون)) ؟ فقالوا: نذكر الساعة، قال المصطفى: ((إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم)) ( [1] ).
تكلمنا عن الدجال ونزول عيسى عليه السلام وحديثنا اليوم إن شاء الله تعالى عن يأجوج ومأجوج.
وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعا، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم اليوم عن يأجوج ومأجوج في العناصر التالية:
أولاً: تأصيل لغوى شرعي مختصر.
ثانياً: بعث النار.
ثالثاً: ذو القرنين ويأجوج ومأجوج.
رابعاً: خروجهم بين يدي الساعة.
خامساً: عيسى بن مريم والدعاء المستجاب.
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
أولاً: تأصيل لغوى وشرعي مختصر:
أيها الأحبة: لقد أورد كثير من المؤرخين والمفسرين أخباراً عجيبة وروايات غريبة عن يأجوج ومأجوج، ذكروا في هذه الروايات والأخبار أصلهم، ونسبهم، وأشكالهم، وألوانهم، ومكانهم!!
وهذه الأخبار والروايات لا تعدو أن تكون مجرد خرافات وأوهام وخيالات وأساطير، لأنها أُخِذَت من الإسرائيليات.
أُخِذَت من غير المصادر اليقينية أي القرآن والسنة النبوية الصحيحة، فلا يجوز لأحدٍ بحال أن يتكلم في مثل هذه الأمور الغيبية إلا بالدليل الصريح من القرآن أو بالدليل الصحيح من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
فلسنا في حاجة على الإطلاق لأن نلهث وراء الإسرائيليات والأخبار العجيبة والموضوعة لنتكلم عن يأجوج ومأجوج أو عن ذي القرنين ،وإنما يجب علينا جميعا أن نقف عند النص اليقيني في كتاب ربنا وفي سنة الحبيب نبينا ففيه الغنى.
يأجوج ومأجوج أُمَّتَانِِ من البشر من ذرية آدم عليه السلام يتميزان عن بقية البشر بالاجتياح المروع والكثرة الكاثرة في العدد والتخريب والإفساد في الأرض بصورة لم يسبق لها مثيل.
وقال المحققون من أهل اللغة نقلا عن ابن منظور في لسان العرب وغيره قالوا :
يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان مشتقان من أجيج النار أي من التهابها ومن الماء الأجاج وهو الشديد الملوحة والحرارة.
فشبَّهوهم بالنار المضطرمة المتأججة وبالمياه الحارة المحرقة المتموجة لكثرة تقلبهم، واضطرابهم، وتخريبهم، وإفسادهم في الأرض.
هذا هو التأصيل اللغوي الذي لابد منه بداية حتى لا نطلق لخيالنا العنان لنلهث وراء الخرافات والأساطير والأوهام.
لذا أخبرنا المصطفى أن يأجوج ومأجوج هم بعث النار يوم القيامة وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء:
ثانياً: بعث النار:
ففي الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي قال: ((يقول الله يوم القيامة: يا آدم فيقول آدم: لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول الله جل وعلا: أَخْرِج بعث النار فيقول آدم عليه السلام: وما بعث النار يا رب؟، فيقول الملك: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى جهنم، وواحد إلى الجنة)) فشق ذلك على أصحاب النبي المختار، وفي رواية ((فيأس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة))، وفي رواية ((فبكى أصحاب الرسول وقالوا: يا رسول الله وأينا ذلك الواحد)) فقال المصطفى : ((أبشروا! أبشروا! فمن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد)) ثم قال المصطفى : ((والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة)) فكبرنا. قال: ((والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة)) فكبرنا. فقال المصطفى في الثالثة: ((والله لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة)).
أمة النبي أمة مرحومة.. أمة النبي أمة ميمونة.
و كدت بأخمصي أطأ الثُّريا
ومما زادني فخرا وتيها
وأن أرسلت أحمد لي نبيا
دخولي تحت قولك يا عبادي
اسجد له شكراً أنك من أمة الحبيب محمد ، فأمة المصطفى أمة مرحومة أثنى عليها ربها وأثنى عليها نبيها.
قال الله لها: كُنتُم خَيرَ أُمَّةِ أُخرِجتْ لِلنَّاسِ.
قال الله لها: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143].
وفى الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه بسند حسن قال المصطفى : ((أنتم موفون سبعون أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعلا)) ( [2] ).
أنتم خير الأمم.. أنتم أكرم الأمم على الله جل وعلا.
بل وفي صحيح البخاري من حديث أبى سعيد الخدري أن الحبيب النبي قال: ((يدعى نوح يوم القيامة فيقال له يا نوح هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم يا رب. فيدعى قومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقول قوم نوح: لا ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقول الحق جل وعلا: وهو أعلم، من يشهد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، يقول المصطفى: فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أدعى فأشهد عليكم )) ( [3] ).
وذلك قول الله جل وعلا : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.
بل ومن الأحاديث الممتعة التي تبين فضل السابقين واللاحقين من أمة سيد النبيين ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة أن النبي أتى المقبرة يوما فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون)) ثم قال الحبيب 0: ((وددت أنَّا قد رأينا إخواننا)) فقال الصحابة: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال : ((أنتم أصحابي، وإخواننا قوم لم يأتوا بعد)) فقال الصحابة: فكيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال المصطفى : ((أرأيت لو أن رجلا له خيلُُ غُرُّ مُحَجَّلَة بين ظَهْرَي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ (أي سود) ألا يعرف خيله))؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال المصطفى : ((فأنهم يأتون غُراً محجلين من الوضوء )) ( [4] ).
أحبتي في الله:
أقف الآن وحضراتكم مع هذا الحوار الجميل بين ذي القرنين وقوم تعرضوا للفساد والإيذاء على أيدي يأجوج ومأجوج وهذا هو عنصرنا الثالث بإيجاز.
ثالثاً: ذو القرنين ويأجوج ومأجوج:
لقد حكى الله قصة ذي القرنين في سورة واحدة من سور القرآن ألا وهي سورة الكهف قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرض وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:83-98].
هذه هي قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج وأقول لك أن قصة ذي القرنين هي الأخرى قد نُسِجَ حولها من الأساطير والخرافات والخيالات والأوهام ما يندى له جبين التحقيق خجلاً وحياءً.
لا يجوز لأحد يحترم علمه وعقله أن يتجاوز النص القرآني في قصة ذي القرنين فما ذكره الله في القرآن عن ذي القرنين فيه الغنى وفيه الكفاية، ولسنا في حاجة لأن نلهث وراء الإسرائيليات لننسج حول شخصية ذى القرنين الأساطير والخرافات والأوهام.
والآن أدعوك لنتجول سوياً لنتعرف على قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج بالنص القرآني والتفسير اليسير.
ذو القرنين عبد صالح اختلف أهل التفسير في نبوته لكن لا يستطيع أحد أن يجزم بذلك.
والقصة تبدأ بسؤال المشركين للنبي المصطفى ويأتي الجواب من الله جل وعلا: "قل" يا محمد، وكلمة "قل" يسميها علماء التفسير وعلماء اللغة قل التلقينيه أي القصة ليست من عند رسول الله بل هي وحي من عند الله جل وعلا: قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا : كلمة " منه " التبعيضية: أي سأتلوا عليكم بعض الشيء من قصة ذي القرنين ولو علم الله في الزيادة عن النص القرآني خيراً لذكرها لنا فلنقف عند ما ورد في القرآن وما ثبت في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرض : تدبر... فمن الذي مَكَّنَ لذي القرنين؟
فالتمكين إن نقبت عنه في القرآن سترى أنه في كل مرة وردت لفظة التمكين تنسب إلى الله رب العالمين، وهذه القاعدة البلاغية تؤصل في القلوب قاعدة إيمانية.
فالذي يُمَكِّن للدول والأمم والشعوب هو الله، فيجب علينا جميعا أن نعلق قلوبنا بالملك الذي يفعل كل شيء، مع الأخذ بالأسباب فهذا من حقيقة التوكل على الله.
لا تسود أمة إلا بإذن الله ولا تزول أمة إلا بإذن الله.
قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرض وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا. أخذ بهذه الأسباب والوسائل للتمكين والنصر والفتح والظهور.
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرض أَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ [الحج:41].
فهناك من الأمم من يمكن الله لها فتأخذ بأسباب التمكين فيزيدها الله ثباتا وتمكينا فإن فرطت أذهب الله عنها التمكين. وهناك من الناس من إذا مكن الله له أخذ بوسائل التمكين فزاده الله رفعة ونصرا فإن فرط في هذه الأسباب والوسائل أمر الله عز وجل بزاوله وهلاكه.
وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا. أعطاه من الأسباب ما يستطيع أن يفتح وأن ينتصر وأن يجوب البلاد شرقا وغربا.
يبدأ ذو القرنين الرحلة الجهادية الأولى في سبيل الله نحو المغرب.
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا.
ومن المعلوم أنه ليس للشمس مشرقاً واحداً ولا مغرباً واحداً بل لها عدة مشارق ومغارب.
قال الله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ [المعارج:40].
فالشمس لها مشارق ومغارب بحسب فصول السنة وأيامها وشهورها، لها مشارق ومغارب بحسب المكان، لها مشارق ومغارب بحسب رؤية الرائي إلى قرص الشمس أثناء الشروق أو الغروب.
قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا.
فبين ذو القرنين منهجه العادل ودستوره الحكيم، فقال كما ذكر في كتاب ربنا: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا.
وأما من ظلم نفسه بالشرك وعدم اتباعي فسوف أعذبه وله عند الله العذاب العظيم، أما من اتبعني وآمن بما جئت به ووحد الله واستقام على منهج الله فله الحسنى وهى الجنة، أما من ناحيتي فسنقول له يسرا.
ثم انطلق نحو المشرق في رحلة ثانية :
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا. لا يحمى هؤلاء الناس والقوم شيء على الإطلاق، لا يحول بينهم وبين الشمس شيء.
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا : أي علم الله عز وجل كل ما يدور في قلبه وفي نفسه.
وتبدأ الرحلة الثالثة التي هي محل الشاهد في موضوعنا:
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ والسدين: الجبلين العظيمين.
وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا.
لا يعرفون لغة ذي القرنين أو لا يستطيعون أن ينفتحوا على غيرهم من الأمم، فهم قوم منعزلون على أنفسهم، تعرضوا إلى أشد الهجمات وأعنف الضربات على يدي يأجوج ومأجوج، فلما رأوا ذا القرنين الملك الفاتح العادل توسلوا إليه وانطلقوا وقوفا بين يديه وقالوا: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا.
هؤلاء القوم يقولون لذي القرنين هل نبذل لك من أموالنا ما تشاء وما تريد على أن تبنى لنا سدا منيعا يحمينا من يأجوج ومأجوج.
فرد عليهم بزهد وورع وقال: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ.
لقد أعطاني الله عز وجل من وسائل التمكين ما أغنانى به عن مالكم ولكنه لمح فيهم الكسل، فأراد أن يشركهم في هذا المشروع العظيم وفي هذا العمل الضخم، فقال لهم ولكن!
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا. أي قال بلغة العصر: التخطيط الهندسي والمعماري والإنفاق المادي لبناء هذا السد ولإقامة هذا المشروع، سنتكفل نحن بذلك، ولكننا في حاجة إلى العمال، في حاجة إلى عمالة يحملون ويبنون ويقيمون هذا العمل: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا.
وبدأ ذو القرنين المهندس البارع الذي سبق علماء الهندسة المعاصرين بعدة قرون.
أمر بالبدء في المرحلة الأولى من مراحل هذا المشروع.
ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ : أي اجمعوا لي قطع الحديد الضخمة وأمرهم بوضع هذه القطع في مكان ضيق بين هذين السدين، فلما وضعت قطع الحديد حتى ساوت قمة الجبلين قال: انفخوا النار المشتعلة التي تصهر هذا الحديد، ولك أن تتصور حجم هذه النيران التي اشتعلت لتصهر أطناناً من الحديد لا يعلم وزنها إلا العزيز الحميد، اشتعلت النيران تحت هذا الحديد بين السدين في مكان ضيق، يريد أن يسد على يأجوج ومأجوج الطريق الذي ينفذون منه إلى هذه الأمم المسكينة المغلوبة على أمرها.
فأشعل النيران حتى انصهر الحديد وذاب بين السدين أي بين الجبلين، فأمر ذو القرنين أن يدخلوا في المرحلة الثانية من مراحل البناء، ألا وهي أن يذيبوا النحاس حتى ينصهر.
فلما انصهر النحاس أمرهم بصب النحاس على الحديد فتخلل النحاس الحديد فأصبح النحاس والحديد معدناً واحداً ليزداد صلابة وقوة فلا تستطع يدى يأجوج ومأجوج أن تتسلقه أو أن تنقبه.
وبذلك يكون ذو القرنين قد سبق العلم المعاصر في تقوية الحديد بالنحاس فلما ساوى بين الصَّدَفين بهذا الحديد وبهذا النحاس ليبين لنا سمات القيادة الفذة الناجحة التي تستطيع أن تجمع بين الخيوط والخطوط.
التي تستطيع أن تجمع بين المواهب والطاقات والقدرات والإمكانيات لتستغل الموارد والطاقات أعظم استغلال.
ذو القرنين يبين لنا سمات القيادة الناجحة، وما أحوج الأمة إلى هذه القيادة الفذة، فلما نظر إلى هذا السد العظيم لم يسكره نشوة القوة والعلم، لم يقل فن الإدارة!!
لم يقل: إنما أوتيته على علم عندي!! وإنما نسب الفضل لصاحب الفضل جل وعلا فقال: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا
درس عظيم.. هذا رحمة من ربي ثم بين للحضور معتقده الصافي في الإيمان بالبعث والإيمان بيوم القيامة فقال لهم إن الذي أمر ببناء هذا السد هو الله، وأن الذي أمر بحجز يأجوج ومأجوج هو الله، وأن الذي سيأذن لهم بالخروج هو الله، وحتما سيأتي يوم على هذا السد المنيع ليجعله الله عز وجل دكاء أي ليسويه بالأرض وذلك لا يكون إلا بين يدي الساعة كما سيسوى جبال الأرض كلها بالأرض.
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
هكذا يبين ذو القرنين العقيدة الصافية في الإيمان بالبعث، في الإيمان بيوم القيامة وعلامته الكبرى حين يأذن الحق تبارك وتعالى ليأجوج ومأجوج في الخروج حينئذ يستطيعون أن ينفذوا هذا السد ويخرجوا وهذا هو عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء:
رابعاً: خروجهم بين يدي الساعة:
في صحيح البخاري من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها: أن النبي دخل عليها يوما فزعا وهو يقول: ((لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلق بأصبعه السبابة والإبهام فقالت زينب بنت جحش: يا رسول الله أَنهلِكُ وفينا الصالحون فقال المصطفى : ((نعم إذا كَثُرَ الخبث)) ( [5] ).
يهلك الصالح والطالح ويبعث الله الصالحين والطالحين على نياتهم.
وتدبر معي هذا الحديث: الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في المستدرك وصحح الحاكم الحديث على شرط الشيخين وأقر الحاكم الذهبي والألباني في السلسلة من حديث أبي هريرة أن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى قال: ((إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قالوا: ارجعوا فستحفرونه غداً فيرجعون فيعد الله السد أشد مما كان، حتى إذا أراد الله أن يبعثهم خرجوا يحفرون السد فقال الذي عليهم إذا ما رأوا شعاع الشمس ارجعوا وستحفروه غدا إن شاء الله تعالى فيعودون فيرون السد كهيئته التي تركوه عليها فيحفرونه ويخرجون)) ( [6] ) وفي رواية مسلم في حديث النواس بن سمعان ((فيمرون على بحيرة طبرية فإذا مَرَّ أوائل يأجوج ومأجوج شربوا ماء البحيرة كله فإذا مر آخرهم قال: لقد كان في هذه البحيره ماء)).
فيخرجون فيخاف الناس ويتحصنون منهم في الحصون، يتركون لهم الشوارع والطرقات لا قدرة لأحد بقتالهم كما سأذكر في رواية النواس بن سمعان قال المصطفى : ((أوحى الله إلى عيسى: يا عيسى إني قد بعثت قوما (أي يأجوج ومأجوج) لا يدان لأحد بقتالهم (أي لا طاقة لأحد بقتالهم) فحرز عبادي إلى الطور أي اجمع عبادي من المؤمنين إلى جبل الطور في سيناء)). ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيقول يأجوج ومأجوج: لقد قتلنا أهل الأرض تعالوا لنقتل أهل السماء.
انظر إلى الفجور!! وبهذه العبارة فقط تستطيع أن تتصور حجم الفساد في الأرض إذ تجرأ هؤلاء وفكروا في أن يقاتلوا أهل السماء وبالفعل يوجهون النشاب (أي السهام) إلى السماء فيريد الملك أن يبتليهم فيرد الله عليهم نشابهم ملطخة دماً فتنة من الله تعالى فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء في الوقت الذي تبتلى فيه الأرض بهذه الفتنة تكون فتنة أخرى عصفت بأهل الأرض عصفاً ألا وهى فتنة الدجال فينزل عيسى عليه السلام وهذا ما سنتعرف عليه بعد جلسة الاستراحة.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
_________
الخطبة الثانية
_________
خامساً: عيسى بن مريم والدعاء المستجاب :
يُنزل الله تعالى عيسى عليه السلام كما في حديث النَّواس بن سمعان الذي رواه مسلم قال المصطفى: ((فبينما هو كذلك (أي الدجال) إذ أنزل الله عز وجل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهرودتين أى ثوبين مصبوغين واضعاً كَفَّيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدَّر منه جمان كاللؤلؤ)) إذا رفع نبي الله عيسى رأسه تقطر منها الماء كحبات اللؤلؤ الأبيض.
يقول المصطفى : ((فيطلب عيسى بن مريم الدجال حتى يدركه بباب لُدّ (مدينة بفلسطين) )). فيقتل عيسى بن مريم الدجال عليه لعنة الله: ((ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويبشرهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور)) (أي لا طاقة ولا قدرة لأحد بقتالهم) يقول المصطفى : ((ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون)). ينتشرون، يغطون وجه الأرض من فوق المرتفعات والجبال.
فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مَّرةً ماءُُ ويحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه أن يتضرعوا إلى الله عز وجل أن يهلك يأجوج ومأجوج فيستجيب الله دعاء عيسى وأصحابه من أمة النبي محمد.
اسمع ماذا قال المصطفى : ((فيرسل الله على يأجوج ومأجوج النغف)) النغف: هو الدود الصغير.
تدبر قدرة الملك وعظمة الملك، والله ما أحوج الأمة إلى أن تمتلئ قلوبها يقينا بقدرة الملك جل جلاله.
ما أحوجنا إلى أن نتعرف على عظمة الله وعلى جلال الله، وعلى قوة الله، وعلى قدرة الله، فإن أمر الله بين الكاف والنون.
فيرسل الله عليهم النغف أى الدود الصغير في رقابهم فيهلكهم الحق جل وعلا فيقول المصطفى : ((فيصبحون فرسى ( أي قتلى) كموت نفس واحدة)) في رواية ((يطلب نبى الله عيسى واحداً من هؤلاء المتحصنين الخائفين أن يخرج وأن يبذل نفسه ليرى ماذا فعل يأجوج ومأجوج في الأرض فيخرج وهو مستعد للقتل والهلاك فيرى هذه الكرامة والمعجزة والآية فيرجع لنبي الله عيسى وينادي عليه وعلى أصحابه: أبشروا لقد أهلك الله يأجوج ومأجوج )). يقول المصطفى : ((ثم يهبط نبي الله عيسى مع أصحابه فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم (الزهم: الدهن والشحم) لا يقوى الناس على هذه الرائحة الكريهة النتنة. فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله أن يطهر الأرض من هذه النتن، فيرسل الله عز وجل طيراً كأعناق البخت (أي كرقاب الإبل) فتحملهم فتطرحهم حيثما شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلَقَة (أي تصبح الأرض كالمرآة في صفائها ونقائها) وحينئذ يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردِّى بركتك)). يقول المصطفى : ((فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة تأخذ الناس تحت آباطهم فتقبض هذه الريح روح كل مؤمن ومسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون في الأرض تهارج الحمر (أي الحمير) وعليهم تقوم الساعة)).
وبذلك يكون قد أنهيت الحديث عن يأجوج ومأجوج من المصادر اليقينية من كتاب الله والسنة الصحيحة، وأنصح أحبابي أن لا يقفوا بعد ذلك وراء الأساطير والأوهام والإسرائيليات التي وردت في ذلك.
أسال الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم العلم النافع وأن يفقهنا وإياكم في الدين وأن يحفظنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه على كل شئ قدير.
اللهم استرنا ولا تفضحنا وأكرمنا ولا تهنا وكن لنا ولا تكن علينا اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المقام الكريم ذنباً إلا غفرته ولا مريضا إلا شفيته ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلى فَرَّجْته، ولاميتا إلا رحمته، ولا عاصيا إلا هديته، ولا طائعا إلا سددته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقناً من بعده تفرقا معصوما ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً أو محروماً.
اللهم اهدنا واهدِ بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى.
اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا مغيرين ولا مبدلين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احمل المسمين الحفاة واكسوا المسلمين العراة وأطعم المسلمين الجياع.
اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان.
اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أحبتي في الله..
هذا وما كان من توفيق فمن الله وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أكون جسرا تعبرون عليه إلى الجنة ويُلقى به في جهنم ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك على محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقم الصلاة.
( [1] ) سبق تخريجه.
( [2] ) رواه البخارى رقم (4478) فى التفسير ، باب قوله تعالى ) وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ( والترمذى رقم (2965) فى التفسير ، باب ومن سورة البقرة ، وهو فى صحيح الجامع رقم (8034).
( [3] ) رواه البخارى رقم (3339) فى أحاديث الأنبياء ، باب قول الله عز وجل ) ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ( ورواه الترمذى ، والنسائى ، وابن ماجة ، ورواه أيضاً أحمد فى المسند رقم (11222).
( [4] ) رواه البخارى رقم (136) فى الوضوء ، باب فضل الوضوء والغر المحجلون ، ومسلم رقم (249) فى الطهارة ، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء ، والموطأ (1/28-30) والنسائى (1/93/95) فى الطهارة.
( [5] ) رواه البخارى رقم (3346) فى أحاديث الأنبياء ، باب قصة يأجوج ومأجوج ، ومسلم رقم (2880) فى الفتن ، باب اقتراب الفتن ، والترمذى رقم (2188) فى الفتن.
( [6] ) رواه ابن ماجة رقم (4080) والحاكم وهو فى صحيح ابن حبان (1908).
(1/359)
يوم الحساب
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العدل يوم القيامة 2- تطاير الصحف والعرض على الله 3- حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتي في الله..
هذا هو لقاءنا الثالث عشر من لقاءات هذه السلسة الكريمة المباركة وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي مع هذا المشهد المهيب الكريم حين يأتي الملك الحق جلا جلاله إلى أرض المحشر إتياناً يليق بكماله وجلاله مصداقاً لقوله سبحانه هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210].
وهنا يبدأ الحساب للعباد، وهذا هو لقاءنا اليوم مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك وحتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً فسوف ينتظم حديثنا في العناصر التالية:
أولاً: لا ظلم اليوم.
ثانياً: العرض على الله وأخذ الكتب.
ثالثاً: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
فأعيروني القلوب والأسماع. والله أسال أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض إنه حليم كريم رحيم.
أولاً: لا ظلم اليوم:
أيها الأحباب الكرام: والله لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، فهم عبيده في ملكه، فالمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولكنه برحمته سبحانه وتعالى وكرمه وحنانه ولطفه بعبيده قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [ النساء: 40 ].
وقال جل وعلا: وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [ فصلت: 46 ].
وقال تعالى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [ غافر: 31 ].
وقال أيضاً في الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر عن الحبيب النبي عن رب العزة قال تعالى: ((يا عبادي إني حَرَّمْتُ الظلمَ على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) ( [1] ).
فالله جل وعلا عدل، لطيف، حليم، كريم لا يظلم أحداً من خلقه، ولا يظلم أحداً من عباده، ولذا فإن الله جل وعلا يحاسب العباد يوم القيامة وفقاً للقواعد التالية:
القاعدة الأولى: العدل التام الذي لا يشوبه أى ظلم.
قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
إعلم أنك لن تعرض على محكمة كمحاكم الدنيا ففي محاكم الدنيا قد يجيد الخصومُ التزويرَ والتحريفَ ولكن اعلم بأن الذي سيتولى محاكمتك يوم القيامة هو الله الذي قال: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر:19-20].
وقال جل وعلا: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:47-49].
قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
فالمقصود أن عمل ابن آدم كله محفوظ ومسطور في كتاب عند الله جل وعلا لايضل ربي ولا ينسى واعلم علم اليقين أن ما نسيه الإنسان لا ينساه الرحمن.
واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
دع عنك ماقد فات في زمن الصِّبَا
بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعبُ
لم ينسه الملكان حين نسيته
سَتَرُدَّهَا بالرغم منك وتُسْلَبُ
والروح منك وديعة أودعتها
دارُُ حقيقتها متاعُُ يذهبُ
و غرورُ دنياكَ التي تَسْعَى لها
أنفاسنَا فيهما تُعَدُّ وَتُحْسَبُ
الليلُ فاعلم والنهارُ كلاهما
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
القاعدة الثانية: أن لا تَزِرُ وزارة وِزْرَ أخرى
قال تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [الإسراء:13-15].
وقال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وفي أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:36-41].
فلا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى، بل سيمر الولد يوم القيامة على والده فيقول له والده: أي بنى أنا أبوك! اعطني حسنةً من حسناتك فلقد كنت لك نِعْمَ الأب فيقول الابن لأبيه: نفسي! ويقول الابن لأمه: نفسي.
وكيف لا؟!! وقد قال كل نبي من الأنبياء نفسي، نفسي، نفسي. إلا الحبيب المحبوب محمد.
القاعدة الثالثة: إعذار الله لخلقه:
إن الله سبحانه يعلم عمل العباد من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة، ومع ذلك من عظيم عدله وفضله وكرمه، أن يعرض على العباد أعمالهم يوم القيامة حتى لا يكون لأحد عذر بين يديه.
قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].
وقال سبحانه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:14].
وقال سبحانه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [ الانفطار: 5 ].
القاعدة الرابعة: إقامة الشهود على العباد يوم القيامة:
وإن أعظم شهيد على العباد يوم القيامة هو الملك الذي يعلم السر وأخفى وعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [ النساء :33 ]
ثم تأتى الرسل وتشهد على جميع الأمم ثم تأتى أمة الحبيب لتشهد على جميع الأمم، يشهد كل رسول على أمته وتأتي أمة المحبوب لتشهد على جميع الأمم ثم يأتي خير الأولين والآخرين ليشهد على الجميع.
الله أكبر!! الله أكبر!!
قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
وقال الملك لحبيبه المصطفى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41].
وفى صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن الحبيب النبي قال: ((يُدْعَى نوحُُ يوم القيامة فيقال له: يا نوح، فيقول نوح: لبيك وسعديك. فيقول الله: هل بَلَّغْتَ قومك؟ فيقول نوح: نعم يا رب فيدعى قوم نوح ويقال لهم: هل بَلَّغَكُم نوح؟ :فيقولون: لا ما أتانا من أحد. فيقول الله جل وعلا: من يَشْهَد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لى محمد وأمته، يقول المصطفى : فتدعون فتشهدون له ثم أشهد عليكم فكذلك قول الله تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( [2] ).
ثم تشهد الملائكة، قال تعالى: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ ق: 21 ].
ثم تشهد الأرض بما عمل على ظهرها من طاعات وسيئات ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث أبي هريرة أنه : ((قرأ يوماً قول الله: يومئذ تحدث أخبارها [الزلزلة:4] )). قال المصطفى : ((أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أخبارها أن تشهد الأرض على كل عبد أو أَمَةٍ بما عمل على ظَهْرِهَا فتقول: يا رب لقد عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذا أخبارها)) ( [3] ).
فيجادل العبد اللئيم ربه الكريم ويقول يا رب أنا أرفض هذه الشهادة وأرفض هؤلاء الشهود ولا أقبل شاهداً إلا من نفسي.
كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال :كنا عند رسول الله فضحك، فقال: ((هل تدرون مِمَّ أضحك؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((من مخاطبة العبد ربه، فيقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ يقول :بلى، فيقول: فإني لا أجيز اليوم على نفسي شاهداً إلا منى. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، والكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فيه، ويقول لأركانه: انطقي بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعْداً لَكُنَّ وَسُحقاً، فعنكن كنت أُناضِل)) ( [4] ).
قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].
وقال جل وعلا: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت: 19-24].
القاعدة الخامسة: مضاعفة الحسنات لأهل الإيمان:
مضاعفة الحسنات لأهل التوحيد والإيمان ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
فالله سبحانه وتعالى يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها.
قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [ الأنعام: 160 ].
ويقول المصطفى كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وحسن الحديث شيخنا الألباني من حديث أبي ذر الغفاري أن النبي قال: ((قال الله تعالى في الحديث القدسي: الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفرها)) ( [5] ).
وفى الحديث الذي رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن مسعود أن النبي : ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن (ألف) حرف (ولام) حرف (وميم) حرف)) ( [6] ).
تدبر معي أيها الحبيب الكريم بل قد يضاعف الله الحسنة إلى أكثر من سبعمائة ضعف فذلك قول الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
وهناك من الأعمال ما لا يعلم ثوابها إلا الله.
قال تعالى في الحديث القدسي المخرج في الصحيحين: قال : ((قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به)) ( [7] ).
ولك أن تتصور الجزاء من الواسع الكريم جل جلاله على الصبر.
قال الله فيه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ الزمر :10]
القاعدة السادسة والأخيرة: تبديل السيئات حسنات:
إن الله تبارك وتعالى بمنه وكرمه على عباده المؤمنين يبدل سيئاتهم حسنات قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًاً [ الفرقان: 68 - 70 ].
وفى الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: حدثنا الصادق المصدوق فقال: ((إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغارها، فيقال له: عملت يوم كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا فيقول: نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه)).
وفى هذه الحالة الرهيبة من الرعب والفزع يقال له: ((إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول العبد: ربي قد عملت أشياء لا أراها هاهنا))، قال أبو ذر فلقد رأيت النبي ضحك حتى بدت نواجذه )) ( [8] ).
هذا فضل الله جل وعلا على عباده المؤمنين.
أحبتي في الله: هذه هي القواعد التي يحاسب الله بها العبد يوم القيامة
ثانياً: العرض على الله وأَخْذِ الكُتُب:
فقد سجل الله في قرآنه العظيم: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:21-29].
وفى الصحيحين من حديث عائشة أنه قال: ((من نوقش الحساب يوم القيامة عُذِّبْ)) قالت عائشة: يا رسول الله أو ليس الله يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:7-8]
فقال المصطفى : ((إنما ذلك العرض وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك)) ( [9] ).
فمن نوقش الحساب عذب.
سينادى عليك كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينة وبينة تُرجُمَان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قَدَّمَ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) ( [10] ).
تنادى الملائكة أين فلان بن فلان؟!!
من؟!! هذا هو اسمي.
فإذا تَيَقّنْتَ أنك أنت المطلوب،قرع النداء قلبك فاصفر لونك وتغير وجهك وطار قلبك، وقد وُكّلَت الملائكة بأخذك أمام الخلق أجمعين، على رؤوس الأشهاد، ويرفع الخلائق جميعا أبصارهم إليك وأنت في طريقك للوقوف بين يدي الملك تتخطى الصفوف يا عبد الله.
وأسألك بالله أن تتصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب.
تتخطى صفوف الملائكة، صفوف الجن وصفوف الإنس، في أرض المحشر لترى نفسك واقفا بين يدي الحق جل جلاله ليكلمك الله لتعطى صحيفتك!!
هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها؟! ذكرك الله إياها، وكم من معصية قد كنت أخفيتها؟! أظهرها الله لك وأبداها!!!
فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، فإن كان العبد من أهل السعادة ممن رضي الله عنهم في الدنيا والآخرة ـ اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين ـ أعطاه الله كتابه بيمينه وأظهر له في ظاهر الكتاب الحسنات، وفي باطنه السيئات فيأمر العبد أن يبدأ فيقرأ السيئات فيصفر لونه ويتغير وجه وترتعد فرائصه.
فإذا ما أنهى قراءة السيئات وجد في آخر الكتاب، هذه سيئاتك قد غفرتها لك، فيتهلل وجهه ويسعد سعادة لا يشقى بل لن يشقى بعدها أبداً ويواصل القراءة حتى إذا ما وصل إلى آخر الكتاب قرأ الحسنات فازداد وجهه إشراقاً وازداد فرحاً وسروراً وقال له الملك جل جلاله: انطلق إلى أصحابك وإخوانك ـ أي من أهل التوحيد والإيمان - فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت فينطلق وكتابه بيمينه والنور يشرق من وجهه ومن أعضاءه يقول لأصحابه وخلاَّنه: ألا تعرفونني؟! فيقولون: من أنت لقد غمرتك كرامة الله؟!! فيقول: أنا فلان بن فلان انظروا هذا كتابي بيميني اقرأوا كتابيه اقرأوا هذا الكتاب معي، شاركوني الفرحة والسعادة، انظروا هذا توحيدي وهذه صلاتي، وهذه زكاتي، وهذه صدقتي، وهذا حجي، وهذا قيامي الليل، وهذا إحساني، وهذا برى بوالدي، وهذا إحساني للأهل والجيران، وهذا أمري بالمعروف، وهذا نهيي عن المنكر، وهذا بعدي عن الغيبة والنميمة، وهذا بعدي عن ظلم العباد: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19ـ24].
أما إذا كان من أهل الشقاوة - أعاذنا الله وإياكم من ذلك - ممن غضب الله عليهم في الدنيا والآخرة، ينادى عليه أين فلان بن فلان؟!! وسبحان الله! من لا تختلف عليه الأصوات ولا تشتبه عليه اللغات ولا تشتبه عليه الأسماء والصفات.
أين فلان بن فلان؟! مَنْ..هذا هو اسمي ماذا تريدون يا ملائكة الله؟!
هلم إلى العرض على الله جل وعلا فيتخطى الصفوف ليرى نفسه بين يدي الله فيعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره.
فيقرأ فيسود وجهه ثم يكسى من سرابيل القطران ويقال له: انطلق إلى من هم على شاكلتك فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت، فينطلق في أرض المحشر وقد اسود وجهه وعلاه الخزي، والذل والعار، وكتابه بشماله أو من وراء ظهره فينطلق فيقول لخلانه ومن هم على شاكلته: ألا تعرفونني؟! فيقولون لا إلا أننا نرى ما بك من الخزي والذل فمن أنت؟!!
فيقول: أنا فلان بن فلان وهذا كتابي بشمالي ولكل واحد منكم مثل هذا، فلقد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً.
يصرخ بأعلى صوته ويقول: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ لْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:25-37].
ولله در القائل:
مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانَا
مَثِّلْ وقوفك يوم العرض عُريانا
على العصاةِ ورب العرش غَضبانَا
والنار تلهب من غيظٍ ومن حنقٍ
فهل ترى فيه حَرفاً غيرَ مَا كاناَ
اقرأ كتابك ياعبدُ على مَهَل
إقرارَ من عرَفَ الأشياءَ عرفانَا
فلما قرأتَ ولم تنكر قراءتَهُ
وامضوا بعبدٍ عَصَى للنار عطشانَا
نادى الجليل خذُوهُ يا ملائكتي
والمؤمنون بدارِ الخلدِ سُكَّانَا
المشركون غداً في النار يَلتَهبُوا
وأخيراً: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
وأرجئ الحديث إلى ما بعد جلسة الاستراحة.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم..
( [1] ) رواه مسلم رقم (2577) فى البر والصلة ، باب تحريم الظلم ، والترمذى رقم (2497) فى صفة القيامة.
( [2] ) رواه البخارى رقم (4487) فى التفسير، باب قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، والترمذى رقم
(2965) فى التفسير ، باب ومن سورة البقرة.
( [3] ) رواه الترمذى رقم (3350) فى التفسير ، باب ومن سورة إذا زلزلت.
( [4] ) رواه مسلم رقم (2969) فى الزهد.
( [5] ) رواه مسلم رقم (2687) كتاب الذكر والدعاء ، باب فضل الذكر والدعاء وابن ماجة رقم (3821) فى الأدب وهو فى المسند رقم (21212) واللفظ له.
( [6] ) رواه الترمذى رقم (2912) فى ثواب القرآن ، باب ماجاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ماله من الأجر وصححه شيخنا الألبانى فى المشكاة (2137) وهو فى صحيح الجامع برقم (6469).
( [7] ) رواه البخارى رقم (1894) فى الصوم ، باب فضل الصوم ، ومسلم رقم (1151) فى الصيام ، باب حفظ اللسان ، وباب فضل الصيام ، والموطأ (1/310) فى الصيام ، وأبو داود رقم (2363) فى الصوم ، والترمذى رقم (764) فى الصوم ، والنسائى (4/162،165) فى الصوم.
( [8] ) رواه مسلم رقم (190) فى الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ، والترمذى رقم (2599) فى صفة الجنة ، باب رقم (10).
( [9] ) رواه البخارى رقم ( 103) فى العلم ،باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه ، ومسلم رقم (2876) فى الجنة باب اثبات الحساب، وأبو داود رقم (3093) فى الجنائز، باب عبادة النساء ، والترمذى رقم (2428) فى صفة القيامة ، باب من نوقش الحساب عذب 0
( [10] ) رواه البخارى رقم (7512) فى التوحيد ، باب كلام الرب عز وجل ومسلم رقم (1016) فى الزكاة ، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة ، والترمذى رقم (2427) فى صفة القيامة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه. اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه وكل من اقتفى أثره إلى يوم الدين... أما بعد:
ثالثاً: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا:
أيها الأحبة الكرام: هذه صورة مصغرة على قدر جهلي أقدمها لحضراتكم عن الحساب، ولك أن تعيش بقلبك وكيانك كله هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب، فإنه لا يتأثر بموعظة ولا يستجيب لآية أو حديث إلا من كان له قلب.
قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
أيها الأخ الكريم حاسب نفسك قبل أن تحاسب بين يدي مولاك يوم لا ينفع الندم ولا التحسر.
روى الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا تخفى منكم خافية فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا" فحاسب نفسك واعلم بأن النفس أمارة بالسوء ولقد فصلت ذلك في خطبة كاملة.
لقد وصف الله النفس في القرآن بثلاث صفات ألا وهى: المطمئنة واللَّوامة والأمَّارة بالسوء.
المطمئنة: هي التي اطمأنت إلى الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً
هي التي اطمأنت إلى وعد الله ووعيده.
هي التي اطمأنت إلى ذكر الله وعبوديته.
هي التي تشتاق دوماً للقاء الله سبحانه.
اللوامة: هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر.
تلوم صاحبها على الخير فتقول: لماذا لم تكثر منه؟!!
وتلوم صاحبها على الشر فتقول: لماذا وقعت فيه؟!! لماذا تسوف التوبة؟!! لماذا تتأخر عن الصلاة في بيوت الله؟!! إلى متى وأنت على هذا الضلال والبدع؟!!
تلوم صاحبها على الخير والشر معاً.
أما النفس الأمارة بالسوء: فهي التي تريد أن تخرجك من طريق الهداية إلى الغواية، من طريق النعيم إلى طريق الجحيم، من طريق السُّنة إلى طريق البدعة. من طريق الحلال إلى طريق الحرام.
حيث قال تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [ يوسف: 53 ].
فهذه النفس إن لم تشغلها بطاعة الله شغلتك بالمعصية، وإن لم تلجمها بلجام التقوى شغلتك بالباطل، فالنفس كالطفل إن فطمت الطفل عن ثدي أمه انفطم، كذلك النفس إن فطمتها عن معصية الله وألجمتها بلجام الطاعة والتقوى انقادت.
فإن زلت نفسك لبشريتك ولضعفك فلست ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً فسرعان ما يدفعك إيمانك وعلمك بنفسك الأمارة إلى التوبة والأوبة والعودة إلى الله جل جلاله، وأنت على كل حال من الأحوال على طريق طاعة الكبير المتعال، وسيد الرجال محمد.
فحاسب نفسك الآن أيها الحبيب قبل أي عمل وبعد أي عمل صغر أم كبر
قبل العمل: اسأل النفس: لماذا أذهب؟ لماذا سأتكلم؟ لماذا أصمت؟ لماذا أحب؟ لماذا أبغض؟ لماذا أدخل؟ لماذا أخرج؟
وبعد العمل: هل كان العمل خالصاً لوجه الله؟! هل كان العمل موافقاً لهدي المصطفى ؟ العمل لابد أن يتحقق فيه شرطان. الشرط الأول: الإخلاص والشرط الثاني: أن يكون العمل على هدي النبي محمد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيَّب الله ثراه: إن دين الله الذي هو الإسلام مبنى على أصلين. الأول: أن تعبد الله وحده لا شريك له، والأصل الثاني: أن يعبد بما شرعه على لسان رسوله وهذان الأصلان الكبيران هما حقيقة قولنا نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله.
أيها المسلم إن كنت تريد حساباً يسيراً فحاسب نفسك محاسبة الشريك الشحيح فقد قال ميمون بن مهران: "لا يبلغ العبد درجة التقوى إلا إذا حاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح".
إياك إياك أن تغتر بطاعة، إياك إياك أن تغتر بعلم، كن دائماً على وَجَل فإن العبرة بالخواتيم.
فاسمع إلى من أضاءوا الدنيا بعلمهم وزهدهم وورعهم. هذه الصديقة بنت الصديق عائشة الطاهرة المبرأة من السماء، يسألها أحد المسلمين عن قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32].
ما معناها يا أماه؟ قالت الصديقة: يا بني أما السابق بالخيرات فقوم سبقوا مع رسول الله وشهد لهم بالجنة، وأما المقتصد فقوم صاروا على دربه وماتوا على ذلك، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك.
يا سبحان الله. عائشة تقول ذلك!! ونحن نقول ومن منا لا يدخل الجنة وإن لم ندخلها نحن فمن يدخلها!!
عائشة لا تغتر بنسبها ولا بزواجها من النبي وهى التي بشرها النبي بالجنة، فهي تعرف حق المعرفة للنفس قدرها وخطرها.
و هاهو فاروق الأمة الذي حاكى أخلاق النبوة في إمارته. عمر الفاروق ينام على فراش الموت بعدما طعن فيدخل عليه ابن عباس فيثنى عليه الخير كله. فيقول عمر: والله إن المغرور من غررتموه وددت أن أخرج اليوم من الدنيا كفافاً لا ليّ ولا عليّ، والله لو أن لي ملأ الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه.
وهذا هو معاذ بن جبل حبيب المصطفى الذي قال له رسول الله والله إني أحبك يا معاذ!! لقد نام على فراش الموت بعد ما أصيب بطاعون الشام فقال لأصحابه: انظروا هل أصبح الصباح؟ هل أصبح الصباح؟ ثم بكى معاذ وقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار.
وهذا هو سفيان الثوري إمام الورع والحديث ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له: أبشر يا أبا عبد الله، إنك مُقْبِلُُ على من كنت ترجوه، وهو أرحم الراحمين.
فبكى سفيان وقال: أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار؟!
فيا أيها المسلم لا تغتر بعلم ولا تغتر بعمل وكن دائماً على وجلٍ. كما كان رسول الله وهو النبي الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فحاسب نفسك قبل أي عمل وبعد أي عمل، وحاسب نفسك على كل معصية، وحاسب نفسك على كل تقصير، وحاسب نفسك على كل تفريط.
قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم: يا أبا حازم مالنا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟ فقال أبو حازم: لأنكم عَمَّرتُم دنياكم وَخَرَّبتُم أُخراكم وأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
فقال سليمان: فما لنا عند الله يا أبا حازم؟
قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله لتعلم مالك عند الله.
فقال سليمان: وأين أجد ذلك في كتاب الله؟
قال أبو حازم: عند قوله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14].
قال سليمان: أين رحمة الله؟
فقال أبو حازم: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [ الأعراف: 56 ].
قال فكيف القدوم على الله غداً؟ قال أبو حازم: أما العبد المحسن فكالغائب يرجع إلى أهله وأما المسيء فكالعبد الآبق يرجع إلى مولاه.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/360)
خطر اليهود وطبيعة العِداء معهم
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
الحرب مع اليهود لا تقتصر على الصعيد العسكري وحده , وإنما تشمل : الصعيد الفكري
والثقافي والنفسي والإعلامي والاقتصادي... – دور المنافقين من جلدتنا في هذا الصراع -
وسيلة سيطرة اليهود على العالم : المصارف والإباحية – الاعتصام بالله يدفع كيد اليهود
طبيعة العداوة مع اليهود وحقائقها : عداوة ثابتة مستمرة , أهمية الجهاد في رد كيدهم -
دور الأفراد والمجتمعات في هذا الجهاد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد أطلنا الكلام على مسألة اليهود، على موضوع اليهود، ولا زلنا في هذا الموضوع وذلك لأن الحرب بيننا نحن المسلمين في هذا العصر وبين هذا العدو الماكر مريرة ومستمرة ليس على الصعيد العسكري فقط حول المسجد الأقصى ولكن على كل الأصعدة، على الصعيد الفكري والثقافي والنفسي والإعلامي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، إنها حرب شاملة وكل فرد منا قد وقع تحت نير وطأة هذه الحرب شعر بذلك أم لم يشعر، هذه الحرب الشاملة لها وجهان: وجه ظاهر معلن يتمثل في ذلك الاحتلال العسكري البغيض لأولى القبلتين للمسجد الأقصى وفي ذلك التهديد العسكري المستمر لديار المسلمين بالهجوم والاحتلال، هذا هو الوجه الظاهر المعلن وهناك وجه آخر خفى أخبث وأخطر إنه ذلك الغزو الناعم الذي تسلل إلى عقولنا وأفكارنا وحياتنا وبيوتنا ومجتمعاتنا باسم المدنية حينًا وباسم الحداثة والتحديث حينًا وباسم العصرنة والعصرية حينًا، وغالبًا ما نمهد لهذا الغزو الناعم بأيدينا بأنفسنا لأننا في زعمنا وفي توهمنا إنما نريد التحديث والتطوير ولكن في الحقيقة ما نفعله هو أننا نخرب بيوتنا بأيدينا.
هذا الغزو الناعم الذي تسلل إلينا له عملاؤه وأذنابه الذين يحملونه على أكتافهم، قوم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألستنا لكنهم باعوا دينهم وباعوا نفوسهم للشيطان ورضوا بأن يكونوا مطايا لليهود، أتريدون أن تعرفوهم أتريدون أن تروهم، إن الأقنعة الزائفة التي يغطون بها وجوههم لم تستطع أن تخفي حقائقهم البشعة أنهم قوم خانوا الله ورسوله والمؤمنين.
هذه ألسنتهم وهذه أقلامهم وهذه أفعالهم وهذه مؤسساتهم وهذه مشاريعهم تكشفهم وتفضحهم كل همهم وهدفهم ومقصدهم أن يلحقوا الهزيمة بنا نحن المسلمين.
أن يلحقوا بنا الهزيمة الفكرية، الهزيمة النفسية، الهزيمة الأخلاقية، نحن المسلمين، وخاصة في هذا البلد الأمين الذي فيه الحرمان وفيه المسجدان وبلغت مكائد اليهود ومخططاتهم قمتها في مؤتمراتهم التي عقدوها في مدينة بال بسويسرا قبل تسعين سنة.
قرروا في مؤامراتهم تلك أن يسيطروا على العالم بوسيلتين بالسيطرة على المصارف المالية وبنشر الإباحية في العالم، وها هم فعلاً بعد تسعين سنة يسيطرون على معظم الدوائر المالية الإقتصادية في العالم وينشرون الإباحية بواسطة وسائل الإعلام الخطيرة الفعالة السريعة المؤثرة ليدمروا الأخلاق العامة للأمميين للبشر سواهم لأن اليهود يعلمون علم اليقين أن أي أمة ظلت متمسكة بدينها وبأخلاقها وباستقلالها فلم تنجح مخططاتهم فيها ستبقى تلك الأمة قلقة صامدة في وجوههم وشوكة صامدة في حلوقهم، لقد وصف الله تبارك وتعالى في كتابه مثل هذا المكر العجيب الغريب بقوله: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال [إبراهيم: 46].
لكن هذا المكر والدهاء العجيبين الرهيبين يصبح مكر اليهود العجيب الرهيب هزيلاً ضعيفًا متلاشيًا أمام مكر الله عز وجل وتدبيره وهو سبحانه يدافع عن الذين آمنوا فأهل الإيمان وجند معسكر الإيمان لا يبالون بمكر أهل الدنيا جميعًا، لا بمكر يهودها ولا بمكر مجوسها ولا بمكر الشياطين أجمعين، فالله تعالى يدافع عن الذين آمنوا إذا آمنوا أما الذين لم يؤمنوا فليس لهم في ذلك نصير.
فعلينا نحن أهل الإيمان أن نتذكر ذلك وأن نعلم الحقائق التالية ونحفظها ونحافظ عليها أولاً: إن العداوة بيننا - نحن أهل الإيمان وبين اليهود - مبدأ ثابت لا يتغير ولا يزول كما قرره كتابنا وأخبرنا به ربنا عز وجل ولذلك فالحرب بيننا وبينهم مستمرة منذ بعثة سيدنا محمد إلى أن تقوم القيامة، فإذا حاول بعض أذنابهم وعملائهم من أبناء جلدتنا أن يقنعونا نحن المسلمين بإمكان أن تحل المحبة محل العداوة وأن يحل السلام محل الحرب فيما بيننا وبين اليهود فإنها شنشنة نعرفها.
كيف والله عز وجل يقول: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم [البقرة: 120].
ويقول عز وجل: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا [المائدة: 82].
الحقيقة الثانية: أن الوسيلة الوحيدة التي نستطيع بها أن ندافع مكر اليهود وأن نرد مكرهم في نحورهم وأن نوقف غزوهم ونكف شرهم عنا وعن البشرية جميعًا الوسيلة الوحيدة هو الجهاد، والجهاد مراتب أولها مجاهدة النفس وأعلاها القتال في سبيل الله، فأهم مراتب الجهاد أول مراتب الجهاد أن ننتصر على أنفسنا على شهواتنا على أهوائنا. أن يكون رضي الله عز وجل مقدماً عندنا على رضى غيره فإذا رضي عنا دافع عنا ومن يدافع عنه رب العالمين فمن ذا الذي يقوى على مقاومته.
بداية الجهاد يا بني الإسلام وأول مرحلة فيه أن تقفوا أمام هذا الغزو الناعم الذي تسلل إلى عقولنا وأفكارنا ونفوسنا ومجتمعاتنا وأعلامنا وتجارتنا تسلل إلى حياتنا كلها، أن نتكاتف جميعًا على إفشال هذا الغزو الناعم وإبطاله تقولون كيف ذلك، كيف السبيل إلى ذلك؟
ابدأ بنفسك أولاً وقبل كل شيء لا تكون مثل الذي قعد ليله ونهاره يفكر ويخطط كيف ينتصر المسلمون على أعدائهم، كيف يتغلب المسلمون على اليهود كيف ينتصر المسلمون على اليهود بينما هو نفسه مهزوم مقهور مهزوم أما اليهود في نفسه وفي بيته وفي تجارته وفي حياته كلها.
ابدأ بنفسك أيها المسلم إذا انتصرت على اليهود في نفسك وفي بيتك وفي تجارتك وفي فكرك وعقلك وفي عاداتك وفي أسرتك وفي حياتك كلها، إذا انتصرت على اليهود على أعداء الله على الكافرين جميعًا في نفسك وفي بيتك وفي حياتك واعتصمت بالله عز وجل فقد انتصر المسلمون.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تُتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم [آل عمران:100-101].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد... فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب: 70-71].
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/361)
العقيدة
التوحيد
أهمية التوحيد
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى العقيدة. 2- الحكمة من شريعة الجهاد. 3- الإجابة على الاسئلة الفطرية. 4- العمل
الصالح والإيمان. 5- أثر العقيدة على السلوك الفردي للمسلم. 6- نواقض العقيدة. 7- كراهية
الخوض فيما لا ينبني عليه عمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم [البقرة:256].
قسّم العلماء العقائد إلى نوعين:
الأول: عقيدة صحيحة جاءت بها الرسل من عند الله – عز وجل – الثاني: العقائد الفاسدة: وهي نتائج أفكار البشر. وقد يأتي فساد العقيدة من التحريف والتبديل كما في العقيدة اليهودية والنصرانية، وإن كانت سليمة في الأصل لذا يقول الرسول : ((لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا حرّم الله عليه الجنة)).
ما العقيدة؟ ولماذا؟ وما أثر وجودها؟ وما نواقضها؟ ومن هو رجل العقيدة؟ وما موقفنا منها ؟
العقيدة لغة: مأخوذ من العقد والشد (وعقد الحبل: شدّ بعضه ببعض).
واصطلاحا: هي الأصول التي أمرنا الله باعتقادها والتي حددها الرسول بقوله: ((الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى)) ( [1] ).
وينبغي أن تعلم:
أن عقيدة الإسلام لم تفرض على الناس فرضا قال تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.
وما الجهاد إلا إزالة لطواغيت الأرض من أن يقفوا حائلا بين عقيدة الإسلام ووصولها إلى الناس، فالمسلم مأمور بتبليغ دعوة الله تعالى، فمن وقف عائقا دون وصولها إلى من ورائه وجبت إزالته بالجهاد.
إسلامنا عقيدة وشريعة، فالعقيدة هي الجانب العلمي اليقيني من إسلامنا، والشريعة هي الجانب التكليفي في العبادات والمعاملات والحدود والاقتصاد والقانون الدولي.
وأما لماذا العقيدة؟
1. لابد من العقيدة الإسلامية لأن فيها الإجابة على الأسئلة الثلاثة التي شغلت عقول البشر في القديم والحديث، وما ضلت البشرية إلا يوم أن كانت الإجابة بشرية قاصرة فضاعت بسببها، وهذه الأسئلة هي: من أين جئنا؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين المصير؟
في إسلامنا نعلم من أين جئنا؟ بقول الله تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (1/362)
الصحابة
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من هم الصحابة. 2- عدالة الصحابة. 3- سمات رسول الله. 4- أسباب تميز الصحابة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [التوبة :100].
يقوم الإمام الطحاوي رحمه الله: ونحب أصحاب رسول الله. ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
فمن هم الصحابة؟ وما هي مكانتهم؟ وما سماتهم؟ وما موقف المسلم منهم؟
الأصحاب: جمع صاحب والصاحب اسم فاعل من صحبه يصحبه وذلك يقع على قليل الصحبة وكثيرها ( [1] ).
اصطلاحا: والصحابي هو من لقي النبي وكان مسلما ومات مسلما من غير ارتداد طالت صحبته أم قصرت ( [2] ).
وينبغي أن تعلم:
أن أفضل وخير أمة محمد هم الأصحاب رضي الله عنهم جميعا للحديث: ((خير أمتي قرني)) ( [3] ).
ولن يبلغ أحد ما بلغه الأصحاب من المنزلة عند الله عز وجل للحديث: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) ( [4] ).
إن علماء الإسلام أجمعوا على أن الصحابة كلهم عدول ولا يجوز للمسلم أن ينتقصهم بل الواجب ذكر محاسنهم والإعراض عما شجر بينهم.
يقول الإمام أحمد: (إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله بسوء فاتهمه على إسلامه) ( [5] ). وللحديث: ((أن الله اختارني واختار لي أصحابا جعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصحابا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا)) ( [6] ).
وأما ما هي مكانتهم؟:
فإنهم مرضي عنهم رضاء ثابتا في الكتاب والسنة :
في الكتاب قوله تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليه وأثابهم فتحا قريبا [الفتح:18].
وفي السنة: ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي من أحبهم فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)) ( [7] ).
والأصحاب كلهم عدول ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة وهذا ما أجمع عليه السلف والخلف. والطعن فيهم هو طعن في المنقول عنهم من كتاب وسنة. يقول أبو زرعة: (إذا رأيت الرجل ينتقص الأصحاب فاعلم أنه زنديق وذلك لأن الرسول حق، والقرآن الكريم حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة فالجرح بهم أولى) ( [8] ).
والصحابة هم الذين حملوا راية الإسلام إلى الدنيا كلها بجهادهم وتضحياتهم وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأبناء غضبة لله ورسوله، ونحن مدينون لهم بإسلامنا وهدايتنا بعد الله عز وجل. جزاهم الله عنا خير الجزاء، وأثابهم أعظم الثواب وأكرمه، يقول ابن حزم: (الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا لقوله تعالى: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى. فثبت أن جميعهم من أهل الجنة وأنه لا يدخل أحد منهم النار) ( [9] ).
وأما سمات أصحاب رسول الله :
قوة في اليقين: لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة، حضر أبا ذر الموت بكت امرأته فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: أبكي لأنه لا يدان لي بتغيبك وليس لي ثوب يسعك، قال: فلا تبكي، فإني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا منهم: ((ليموتن منكم رجل بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين. وليس من أولئك النفر رجل إلا قد مات في قرية وجماعة من المسلمين وأنا الذي أموت بفلاة، والله ما كذب ولا كذّبت فأبصري الطريق)). فقالت: أنى وقد انقطع الحاج وتقطعت الطرق! فكانت تشد إلى كثيب تقوم عليه تنظر ثم ترجع إليه فتمرضه، فبينما هي كذلك إذا هي بنفر، فألاحت بثوبها فأقبلوا، قالوا: مالك؟ قالت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر ،ففدوه بآبائهم، وأمهاتهم حتى جاؤوه، فقال: أبشروا، فحدثهم الحديث الذي قال رسول الله ( [10] ).
الأخذ بالعزائم والبعد عن الرخص:
في الطاعات: عبد الله بن الحارث الباهلي: أتى النبي فقال: ((يا رسول الله أنا الرجل الذي جئتك عام الأول، فقال: فما غيّرك وقد كنت حسن الهيئة؟ قال: ما أكلت طعاما إلا بليل منذ فارقتك، فقال رسول الله : ((لم عذبت نفسك صم شهر الصبر ويوما من كل شهر قال: زدني فإن بي قوة، قال: ((صم يومين)) قال: زدني، قال: ((صم من الحرم واترك)) ( [11] ). أي الأشهر الحرم ذو العقدة، وذو الحجة والمحرم ورجب.
في طلب الشهادة: دخل عمر المسجد والنعمان بن مقرن يصلي فقعد إلى جنبه فلما قضى صلاته، قال: إني أريد أن أستعملك، فقال النعمان: أما جابيا فلا ولكن غازيا، قال عمر: فأنت غاز فوجهه إلى أصبهان، فلما وصل وجمع جنده قال لهم: إني هاز لوائي ثلاث مرات، فأما الهزة الأولى: فقضى رجل حاجته وتوضأ، وأما الثانية: فنظر رجل في سلاحه وفي نعله فأصلحه، وأما الثالثة: فاحملوا على العدو وإني داع بدعوة فعزمت على كل امرئ منكم لما أمّن عليها: اللهم أعط اليوم النعمان شهادة في نصر المسلمين وافتح عليهم. فكان أول صريع وفي رواية قال: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام وذل يذل به الكفار ثم اقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة، أمّنوا يرحمكم الله. فأمّنا وبكينا ( [12] ).
لا إيثار في الجنة: لما خرج رسول الله إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعا الخروج معه. فأمر النبي أن يخرج أحدهما، فاستهما، فقال خيثمة لابنه سعد رضي الله عنهما: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم، فأقم مع نسائك، فقال سعد: لو كان غير الجنة لآثرتك به إني أرجو الشهادة في وجهي هذا فاستهما، فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله إلى بدر فقتله عمرو بن عبد وُدّ ( [13] ).
تحمل الشدائد في سبيل الله سبحانه:
صبر على إيذاء المشركين وضربهم: عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم يجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به ( [14] ).
صبر على الجوع في سبيل الله: عن أبي جهاد ، وكان من أصحاب النبي ، فقال له ابنه: يا أبتاه رأيتم رسول الله وصحبتموه والله لو رأيته لفعلت، فقال له أبوه: اتق الله وسدد، فوالذي نفسي بيده، لقد رأيتنا ليلة الخندق وهو يقول: ((من يذهب فيأتينا بخبرهم، جعله الله رفيقي يوم القيامة)) ، فما قام من الناس أحد من صميم ما بهم من الجوع والقر حتى نادى في الثالثة: ((يا حذيفة)) ( [15] ).
وعن ابن مسعود ، قال: نظر رسول الله إلى الجوع في وجوه أصحابه، فقال: ((أبشروا فإنه سيأتي عليكم زمان يغدى على أحدكم بالقصعة من الثريد ويراح عليه بمثلها)) قالوا: يا رسول الله نحن يومئذ خير، قال: ((بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ)) ( [16] ).
الإنفاق والبذل في سبيل الله:
أ- في تجهيز الجيوش: بعث النبي إلى عثمان يستعينه في جيش العسرة فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار فصبت بين يديه فجعل النبي يقلبها بين يديه ويقول: ((غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ما يبالي عثمان ما عمل بعد هذا)) ( [17] ).
ب-في إطعام الفقراء: بينما عائشة رضي الله عنها في بيتها إذ سمعت صوتا في المدينة، قالت: ما هذا؟ قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شيء. قال وكانت سبع مائة بعير، قال: فارتجت المدينة من الصوت، فقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله يقول: ((قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا)) فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فقال: لئن استطعت لأدخلنها قائما، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله ( [18] ).
الحب الخالص لله وللرسول : حب ملأ عليهم جوانحهم، فما من ذرة في أبدانهم إلا وقد غمرها الحب، حب اختلط بالدم والعصب والعظم.
وهذا خبيب بن عدي رفعه المشركون على خشبة ليصلبوه، نادوه يناشدونه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه، فضحكوا ( [19] ).
وكذا قال زيد بن الدثنة وقد اجتمع رهط من قريش لقتله فيهم أبو سفيان، فقال له أبو سفيان – حين قدم للقتل – أنشدك الله يا زيد: أتحب أن محمدا الآن عندنا فنضرب عنقه. وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي.
فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ثم قتله نسطاس ( [20] ).
وفي غزوة أحد كسرت رباعيته اليمنى السفلى وجرحت شفته السفلى ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ووقع في حفرة، وأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة بن عبد الله حتى استوى قائما ومصّ مالك بن سنان - والد أبي سعيد الخدري - الدم عن وجه رسول الله : ثم أزدرده (أي شربه) فقال رسول الله : ((من مس دمي دمه لم تصبه النار)) ( [21] ).
وهذه امرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله بأحد فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله ؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أروني أنظر إليه. فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (أي صغيرة) ( [22] ).
العالمية في حبهم ودعوتهم: إن مما مزق الصف المسلم هي الإقليمية البغيضة النتنة التي زين الشيطان للبعض أن يجعلها ضرورة لخدمة الإسلام فأحاطوه بالشرعية بعد لي الآيات والأحاديث عن مرادها فضلوا وأضلوا.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: إن فيّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية فلوددّت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلي لا أقاضي إليه أبدا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح ومالي به من سائمة ( [23] ).
وعن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع رسول الله ونحن ستة نفر، فقال: المشركون: اطرد هؤلاء عنك فإنهم وإنهم (أي واجعل لنا مجلسا خاصا بنا) قال: فوقع في نفس النبي من ذلك ما شاء الله فحدث به نفسه (أي رجاء إسلامهم) فأنزل الله عز وجل: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ( [24] ). وفي رواية قالوا: اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك ( [25] ).
والمتأمل في أحوال المسلمين يجد الفرقة والشتات والتمزق فيأتي دعاة الإقليمية فيزيدوا الفرقة فرقة، والضياع ضياعا: الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [الكهف:104].
الاستعلاء على المناصب: وإذا ترحل الإخلاص من القلوب، انحرف العبد في عبوديته فيكون عبدا لغير الله سبحانه من درهم أو دينار أو منصب أو جاه. ولما كان الكذب سمة غير المخلصين لذا تجد المهزلة في وصف التكالب على الدنيا، واستباحة الدماء جهادا وإحقاقا للحق.
قام أبو بكر من الغد حين بويع فخطب الناس فقال: يا أيها الناس، إني قد أقلتكم بيعتكم (أي رددت عليكم بيعتكم) إني لست بخيركم فبايعوا خيركم. فقاموا إليه فقالوا: يا خليفة رسول الله أنت – والله – خيرنا ( [26] ).
وذلك لعلمهم أن الأمر عظيم، والتبعة كبيرة، والسؤال عنها خطير، والعذاب شديد لمن ضيع. وللحديث: ((ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولا يوم القيامة يده إلى عنقه فكه بره أو أوثقه إثمه، أولها سلامة، وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة)) ( [27] ).
وأما ما هي الأسباب التي أدت إلى ظهور أصحاب رسول الله بهذه السمات؟
1- الوحي: الذي كان يرصد كل حركة وكل همسة وكل نجوى، وتنزل آيات الله تتلى في كشف أستار النفوس وما فيها من عوار أو صلاح، الأمر الذي جعل الأصحاب رضوان الله عليهم تحت رقابة صارمة لا تعرف المحاباة، فكانت ثمرتها الاستشعار لرقابة الله سبحانه، والانضباط في السر والعلن، والحذر من الوقوع في المخالفة فكل هذا وغيره كان ببركة الوحي الذي استشعرت أم أيمن فقده وانقطاعه، وقد قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله : ((انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله يزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك، أما تعلمين أن ما عند الله تعالى خير لرسول الله ، قالت: أنا لا أبكي لذلك لأني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فجعلا يبكيان معها)) ( [28] ).
أما وأن الوحي قد انقطع فليدع الإخلاص المنافقون وليدع الصدق الكاذبون ففي الأمر سعة ولا تعرف الحقائق إلا بعد الفواجع: نسأل الله العافية.
2- وجود رسول الله : كان له الأثر العظيم في وجود أصحاب رسول الله بهذه السمات حيث:
أ / القدوة: والتطبيق العلمي الواقعي فقد كان قرآنا يمشي على الأرض ووصفته عائشة رضي الله عنها فقالت: ((كان خلق نبي الله القرآن)) ( [29] ).
ب/ المعجزات الحسيّة: التي أيد الله بها رسوله من نبع الماء بين أصابعه وتكثير الطعام وحنين الجذع والأخبار بأمور مستقبلية وكشف لنوايا القلوب، كل هذا كان يزيد الأصحاب إيمانا ويقينا وهم يرون ذلك رأي العين.
ج/ الشخصية التي تجتمع عليها القلوب: فلا تنازع ولا اختلاف ولا داء الأنا الذي ورثه الكثيرون عن الشيطان: أنا خير منه [الأعراف:12]. كل ذلك الأصحاب في منأى عنه ونجاة وانشغال بما هو أنفع لدينهم وآخرتهم ودعوتهم.
3.المحك الذي تتميز عنده القلوب :
حيث الشدائد والمحن، وأجواء المواجهة والتحدي كل هذا كان لا يسمح بدخول الأدعياء والمنافقين في صفوفهم عندما كانوا في مكة مستضعفين.
الجهاد الذي كان يفرض على كل قادر سليم أن يؤدي دوره في الدفاع عن الإسلام ونشره في أرجاء الدنيا.
وقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة العسرة ونظرة المجتمع المسلم إليهم واعتزاله لهم، في مثل هذه الأجواء، تتكشف حقائق القلوب وتعرف للرجال أقدارهم فليس الأمر تشدق بعبارات رنانة جوفاء – وخيالات وتأملات خواء. لقد كان الأمر جدا فأصبح هزلا.
وضوح الأولويات: لقد كان أصحاب رسول الله واضحة عندهم المعالم من تقديم لقول الله ورسوله وحرص على وحدة أمة محمد وتوجيه الطاقات لإزالة المنكر الأكبر واستشعار خطر العدو المشترك وتقديم للأصول على الفروع والفرائض على السنن وجواز تعدد الصواب في دائرة الشرع والبعد عن اختلاف القلوب والحرص على الجانب العملي والمسارعة في الخيرات وعالمية الدعوة والحب والمساعدة.
البعد عن المهاترات والنزاعات:
والتي لا تزيد الأمة المسلمة إلا ضعفا، وهوانا إلى هوانها وهم الأمل المرجي بعد الله تعالى أن يأخذوا بهذه الأمة إلى الوحدة والعزة والهداية.
إذا كنت أعمى فكيف تقود غيرك، وفاقد الشيء لا يعطيه، والمربي عليه أن يكون قد نال نصيبه من التربية قبل ذلك. ومن تسود قبل أوانه لم تفارقه الحموضة.
( [1] ) حكم سب الصحابة ص 41.
( [2] ) تيسير الأصول ص 287 ، وحكم سب الصحابة قول ابن تيميه ص 41.
( [3] ) البخاري.
( [4] ) البخاري.
( [5] ) حكم سب الصحابة ص 11.
( [6] ) الطبراني.
( [7] ) الترمذي وأحمد.
( [8] ) حكم سب الصحابة ص 12.
( [9] ) حكم سب الصحابة ص 26.
( [10] ) حياة الصحابة ، مجلد 3 ص 66.
( [11] ) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي بسند جيد.
( [12] ) حياة الصحابة ، مجلد ص 497- 498.
( [13] ) حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 498-499.
( [14] ) حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 285.
( [15] ) حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 301.
( [16] ) حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 301.
( [17] ) حياة الصحابة ، مجلد 2 ص 152-153.
( [18] ) حياة الصحابة ، مجلد 2 ص 153.
( [19] ) حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 510.
( [20] ) حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 508.
( [21] ) تهذيب سيرة ابن هشام 182.
( [22] ) تهذيب سيرة ابن هشام ص 190.
( [23] ) حياة الصحابة ، مجلد 2 ص 415 – 516.
( [24] ) حياة الصحباة ، مجلد 2 ص 459-460.
( [25] ) حياة الصحابة ، مجلد 2 ص 17.
( [26] ) حياة الصحابة ، مجلد 2 ص 17.
( [27] ) مسلم.
( [28] ) مسلم.
( [29] ) مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/363)
أركان الإيمان أولا الإيمان بالله
الإيمان, التوحيد
الأسماء والصفات, الله عز وجل
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الإيمان بالله. 2- توحيد الربوبية. 3- توحيد الألوهية. 4- توحيد الأسماء والصفات
وحديث عن صفات الله ومنهج السلف في اثباتها. 5- مناقشة عقلية لقضية خلق العالم.
6- شبهات للملاحدة. 7- عقيدة المسلم في الله عز وجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا [سور الإخلاص].
سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن – كيف لا وفيها صفة الرحمن – وسبب نزولها أن المشركين قالوا للنبي انسب لنا ربك فأنزل الله قل هو الله أحد ( [1] ).
فما الإيمان بالله سبحانه؟ وما دلائل وجوده سبحانه؟ وما هي شبهات الملحدين وما الرد عليها؟ وما حق الله على عباده؟
أما الإيمان بالله: فهو الاعتقاد الجازم بأن الله سبحانه رب كل شيء ومليكه وخالقه – وأنه الذي يستحق وحده أن يفرد بالعبادة: من صلاة وصيام، ودعاء، ورجاء، وخوف، وذل وخضوع – وأنه المتصف بصفات الكمال كلها المنزه عن كل نقص.
وينبغي أن تعلم: أن أنواع التوحيد ثلاث – ولا يصح إيمان العبد إلا بها وهي:
توحيد الربوبية: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ولا رب غيره – تقول العرب: أنا رب الدار أي القائم بشؤونها – والله تعالى هو رب العالمين القائم بشؤون خلقه من خلق ورزق وإحياء وإماتة سبحانه.
توحيد الألوهية: الاعتقاد الجازم بأن الله سبحانه هو الإله الحق ولا إله غيره وإفراده سبحانه بالعبادة، والعرب تقول: أَلِهَ الفصيل إلى أمه من مفزع أفزعه والله تعالى هو الذي يخلص له المؤمن في تعبده وخوفه ورجائه وطاعته وتوكله واحتكامه ودعائه، وهذا هو التوحيد الفارق بين الموحدين والمشركين، وعليه يقع الجزاء والثواب في الأولى والآخرة فمن لم يأت به كان من المشركين. وهو التوحيد الذي جاء به الرسل من عند الله سبحانه: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء:25]. والمشركون كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد الألوهية، فأكثر العباد لا ينكرون الخالق وربوبيته على الخلق ولكن معظم كفره من عبادتهم غير الله عز وجل حيث يكون دعاؤهم واستعانتهم واحتكامهم وطاعتهم لغير الله سبحانه: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون [الزخرف:87]. قال ابن كثير رحمه الله: (أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعا وحده لا شريك له في ذلك ومع هذا يعبدون من لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل) ( [2] ).
ج- توحيد الأسماء والصفات: الاعتقاد الجازم بأن الله عز وجل متصف بجميع صفات الكمال، ومنزه عن جميع صفات النقص – من غير تشبيه فمن شبه الله بخلقه كفر – (فكل ما خطر ببالك فهو على خلاف ذلك) ليس كمثله شيء [الشورى:11].
ومن غير تعطيل أي جحود أو نفي لما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله فمن فعل ذلك فقد كفر: وهو السميع البصير [الشورى:11] فلا يجوز السؤال عن كيفية الصفات لأن الله سبحانه لا يسأل عن كنهها فكذلك صفاته لا يصح السؤال عن كيفيتها. وعندما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله سبحانه: الرحمن على العرش استوى [طه:5]. قال: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) فلله سمع وبصر ويد وكلام ونزول واستواء يليق بجلاله وذاته العلية سبحانه.
وضرب العلماء لذلك مثالا: تقول للنملة عين ولي عين فلا يلزم أن تكون عيني كعين النملة فللنملة عين تليق بها ولي عين تليق بي ولله المثل الأعلى.
والصفات نوعين:
ذاتية: وهي التي لا تنفك عن الله سبحانه كالعلم والحياة والقدرة والسمع.
صفات العمل: فهي ما تعلق بمشيئة الله وقدرته كالنزول والاستواء والسخط والرضى.
وأما دلائل وجوده سبحانه:
الفطرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها [الروم:3]. ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) ( [3] ). فقد أودع الله معرفته في النفس الإنسانية بالعهد الذي أخذه على الأرواح قال تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى [الأعراف:172].
دقة المصنوع تدل على عظمة الصانع: وفي كتاب الله دعوة إلى النظر والتفكر في بدائع صنع الله سبحانه: وفي أنفسكم أفلا تبصرون [الذاريات:21]. إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [آل عمران:190]. وانظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه [الأنعام:99]. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [النحل:66].
ووضع العلماء فروضا ثلاث:
أ- أن الكون وجد مصادفة والعلماء يقولون: ما جرى مصادفة لا يتكرر حدوثه بانتظام انتظام الكون يدل على أن وراء هذا الكون خالق حكيم.
ب- أن يكون صدور هذا الكون من العدم: وفاقد الشيء لا يعطيه: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [الطور:35]. أي هل وجدوا من غير خالق؟ أم خلقوا أنفسهم بأنفسهم فلا يحتاجون إلى أحد يخلقهم وكل هذا مستحيل.
ج- أن يكون لهذا الكون خالق حكيم وهذا ما قال به العقلاء من قبل ومن بعد؛ يقول سقراط: أي الصناع أولى بالإعجاب، الذي خلق صورا بلا عقل ولا حراك، أم الذي يبدع كائنات ذات عقل وحياة.
انخلاع القلب إلى الله سبحانه عند الشدائد: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين [يونس:22]. وعندما سئل أحد العارفين عن دليل وجود الله قال: أرأيت لو كنت في صحراء فسقطت في بئر، ولا تجد من ينجدك فماذا تقول، قال: أقول يا الله يا الله، قال: هذا دليل وجوده، ولكنها مغالطة الملاحدة لفطرتهم وادعائهم للعقلانية ولا عقل.
التقدم في مجالات المعرفة والعلوم: حيث أدركنا أن هنالك عوالم كثيرة لا علم لنا بها وهي موجودة كالجراثيم والبكتريا ولكن قصورنا العلمي جعلنا في جهالة عن معرفتها قرون طوال. ثم المغناطيس والكهرباء حيث ننتفع بها ولا نعلم شيئا من حقيقتها فمعرفة حقائق الأشياء لا يفيدنا شيئا ويكفي أن نعرف من خواصها ما يعود بالفائدة علينا، فما بالك بذات الله سبحانه فهي أكبر من أن يحيط بها إنسان وصدق الله العظيم: فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [الحاقة:38-39].
صدق المخبر يدل على صدق الخبر: فالذي أخبرنا عن الله سبحانه رسل وأنبياء كرام هم صفوة الخلق وأطهرهم قلوبا وأزكاهم نفوسا وأحسنهم خلقا.لذا عندما صدع الرسول بدعوته ووقف على الصفا ونادى القبائل بأسمائها، فلما اجتمعوا قال: ((أرأيتم لو أخبرتكم أن وراء الجبل خيل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: بلى ما عرفنا منك كذبا، قال: فإني رسول الله بين يدي عذاب شديد)). فهم أمام الجبل لا يرون ولا يعرفون ما خلف الجبل، فثقتهم بالمخبر وصدقه وأمانته تلزمهم أن يؤمنوا ويصدقوا بالخبر، وكذا تواتر الخبر عبر أجيال مضت ولم يعرف عن أمة الإلحاد منذ بدء الخليقة وإنما كانت نشأته في أوربا بسبب موقف الكنيسة من العلماء التجريبيين والباحثين الذين اكتشفوا حقائق تخالف ما تبنته الكنيسة من خزعبلات فرضتها على الناس قسرا يوم كان للكنيسة سلطان. فصار الناس بين أمرين كلاهما شر. إما أن يؤمنوا بالكنيسة وخرافاتها وإما أن يؤمنوا بالعلم ويكفروا بالكنيسة والتي كانت تمثل الدين كذبا، فلما زال سلطان الكنيسة وجاءت الثورة الصناعية عمت الفوضى في عقائد الناس بل كان شعار المتظاهرين (ليشنق آخر دوق بأمعاء آخر قسيس) فالكنيسة كانت سيفا ظالما بيد الحكام على رقاب الناس فجمعت بين السوءتين الظلم والجهل، فكانت نشأة الإلحاد.
وأما شبهات الملحدين: فإن للملحدين شبهات نسجوها بجهلهم لصرف الأمة عن دينهم من ذلك:
أ- الصراع بين الكنيسة والعلماء.
ب- قصور العلم: فأصبحت المادة تمثل الوجود وما سواها لا رصيد له.
ج- وجود القاعدة والغالبية من الجهلة والأغبياء وأرباع العلماء يقول بيكون: القليل من الفلسفة يورث الإلحاد والكثير من الفلسفة يورث اليقين.
ولكن العلم الآن وصل إلى حد أن المادة ليس هي الشيء الملموس إنما هي غيب مثل: الالكترونات والجاذبية والكهرباء وكذلك خصائص النفس الإنسانية من عقل وضمير وروح وذاكرة وإرادة ويقول العلماء أيضا الكامل المطلق وهو الله سبحانه يُعرف ولا يحاط به فتوقف الإقرار على الرؤية والإحاطة ضلال فالصغير لا يحيط بالكبير والناقص لا يحيط بالكامل والمحدود لا يحيط بالانهائي وهكذا فلا يمكن للإنسان أن يحيط بالله لقصور الإنسان وكمال الله سبحانه ولذا قيل: العجز عن إدراك الذات إدراك ( [4] ).
وعندما سأل موسى عليه السلام الرؤية قال تعالى: رب أرني أنظر إليك قال لن تراني [الأعراف:143]. وفيه إشارة إلى أن الخالق لم يحجب نفسه عن المخلوق، بل أن نقص المخلوق هو الذي حجبه عن الرؤية حيث لم يقل: لا تراني. ثم تأمل في تمام الآية: ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فالجبل في تركيبته أقوى وأصلب فإذا قوي على الرؤية فسوف تراني فإذا بالجبل يتهاوى وموسى أكرم على الله تعالى من الجبل – فكيف يتجلى للجبل وهو جماد ولا يتجلى لنبي كريم ويوم القيامة حيث تكون طبيعة العباد وخلقهم على سمت وبناء جديد لذا قال تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [القيامة:22-23]. وجاء في الحديث الشريف: ((إنكم سترون ربكم)) ( [5] ).
وأما حق الله على عباده :التوحيد الخالص لله سبحانه وحده: وذلك بأن تعتقد:
أنه الله وحده هو الخالق، وكل ما عداه فهو مخلوق: الله خالق كل شيء [الزمر:62]. وأن كل من عداه هو عبد له سبحانه: إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدا [مريم:93].
وحدة الخالق سبحانه: وذلك بأن تعتقد أن لا إله إلا الله وحده، ولو كان وراء الكون أكثر من خالق لاضطرب نظامه، واختل ميزانه: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [الأنبياء:22].
يقول ابن كثير رحمه الله: لو قدر تعدد الإله لانفرد كل منهم بما خلق، فما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق، غاية الكمال: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [تبارك:3]. ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض ( [6] ) ، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [المؤمنون:91].
إفراد الله عز وجل وحده بالعبادة البدنية كالصلاة والصوم والذبح، والقولية كالنذر والدعاء والسؤال: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام:162]. وللحديث: ((إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) ( [7] ) ، ليس هناك حجاب بينه وبين خلقه، فعلاقة العبد بالله سبحانه وتعالى علاقة مباشرة، فإنه ليس أقرب إليه من الله سبحانه: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب [البقرة :186].
وجوب إخلاص المحبة لله عز وجل وحده: وذلك بأن تقدم محبة الله تعالى على محبة كل أحد، حتى تضحي بكل حب في سبيل الله إذا تعارض بينه وبين ما يقتضيه حبك لربك: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [التوبة:24].
فتفرد الله وحده بالمحبة والدعاء والتوكل والخوف والرجاء.
وجوب التلقي عن الله وحده في الشرائع القانونية بالمنهج الذي بلغنا عن رسول الله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر:7].
وأما موقف المسلم من ربه جل وعلا:
1- التنزه عن الشرك: والشرك شركان:
شرك أكبر: وهو أن يجعل العبد لله ندا ويعبده من حجر أو شمس أو شيخ: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء:116]. والشرك في ربوبية الله وأسمائه وصفاته كفر وكذا الشرك في عبادته تعالى إن كان الفاعل عالما مصرا عليه.
الشرك الأصغر: وهو أن يبتغي العبد الدنيا بعمل الآخرة للحديث: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء)) ( [8] ).
وذلك لطلب المنافع الدنيوية من سمعة وثناء ورتبة وتقدم وجاه ومنصب ومال.
2- تعظيمه سبحانه والحياء منه: وقد ذكر رب العزة سبحانه علة الكفر، فقال: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [الزمر:67]. قال السعدي: ما عظموه حق تعظيمه ( [9] ) ، واستشعار نظر الله إليك: ألم يعلم بأن الله يرى [العلق:14]. وللحديث: ((استحيوا من الله حق الحياء؟ قالوا: وكيف نستحي من الله حق الحياء؟ قال: أن تحفظ الرأس وما وعوى والبطن وما حوى وأن تذكر الموت والبلى فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) ( [10] ).
3- مخافة الله سبحانه والخشية منه: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون [الحج:35]، وللحديث: ((يقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام)) ( [11] ) ، وأن يكون لهذا الخوف ثمرة وذلك باجتناب المعاصي والآثام للحديث: ((سبعة يظلّلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... - وذكر منهم - ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله)) ( [12] ).
الإكثار من ذكره سبحانه: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [الأحزاب:41-42].
والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [الأحزاب:35].
وللحديث: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) ( [13] ).
أن تحسن الظن بالله سبحانه: للحديث: ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني)) ( [14] ) ، (فينبغي للعبد أن يجتهد في طاعة ربه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعده بذلك، وهو لا يخلف الميعاد، فإن اعتقد خلاف ذلك فهو آيس من رحمة الله، وهو من الكبائر، وأما ظن المغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغفلة) ( [15] ). يقول ابن القيم رحمه الله: ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل على أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز ( [16] ) ، للحديث: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)) ( [17] ).
( [1] ) رواه أحمد.
( [2] ) ابن كثير مجلد 4 ص 136.
( [3] ) البخاري ومسلم.
( [4] ) الوجود الحق/ حسن هويدي.
( [5] ) متفق عليه.
( [6] ) مختصر ابن كثير ، 2ج ، ص 73.
( [7] ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
( [8] ) رواه أحمد بإسناد جيد.
( [9] ) مختصر ابن كثير ، ج3 ص 228.
( [10] ) الترمذي.
( [11] ) الترمذي.
( [12] ) البخاري ومسلم.
( [13] ) متفق عليه.
( [14] ) البخاري ومسلم.
( [15] ) الترغيب والترهيب، ج4 ص 269.
( [16] ) الدواء الشافعي ص 274.
( [17] ) رواه أحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/364)
الملائكة
الإيمان
الملائكة
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الملائكة وأصل خلقهم. 2- دليل وجودهم. 3- بعض مهام الملائكة وأدلتها. 4- صفات
الملائكة. 5- أثر الإيمان بالملائكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـ?فِظِينَ كِرَاماً كَـ?تِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].
يقول الحسن البصري : يا ابن آدم إن الله خلقك وأوكل بك ملكين عن اليمين وعن الشمال.
فأما الذي عن يمينك فيكتب لك الحسنات، والذي عن شمالك فيكتب عليك السيئات فاعمل ما شئت، فإذا مت طويت صحيفتك وعلقت في عنقك وذلك قوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُوراً (1/365)
الخوف من الرياء
التوحيد
الشرك ووسائله, شروط التوحيد
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإخلاص من أهم الواجبات وهو شرط لقبول العمل 2- تحذير الشارع من عدم الوقوع في
ضده وهو الرياء 3- كلام بعض السلف في هذا
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – واعلموا أن تقواه هي الزاد الذي لا يفنى، وهي الموصلة إلى الله، وهي التي تقي مصارع السوء في الدنيا والآخرة.
عباد الله: إن إخلاص العمل من أوجب الواجبات، ومن أبر الطاعات، وهو أساس لكل عمل صالح إذا خلا العمل من الإخلاص، فلا قيمة له ولا ثواب له في الدنيا والآخرة، بل إن عدم الإخلاص داخل في مسمى الشرك، بل هو محبط للعمل، كما جاء في الحديث القدسي: ((يقول الله – عز وجل - : من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) [1] ، ولقد حذر منه سبحانه في محكم كتابه، مخاطبا نبيه محمدا – - وهو خطاب لأمته: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين [الزمر:65-66].
وإن عدم الإخلاص في العمل هو الشرك الذي حذر الله منه، وحذر منه رسول الله – - وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
وإن الشرك على نوعين: شرك أكبر مخرج من الملة، وهو أن يصرف العبد لغير الله نوعا من أنواع العبادة الواجبة لله وحده.
وهناك نوع آخر من الشرك، وهو الشرك الخفي الذي هو أخطر ما يكون على الأمة، وهو الرياء وإن كان قليله لا يخرج من الملة، ولكن ما أعظم خطره وما أخوفه على الصالحين، كما قال في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال))؟ قالوا: بلى، قال: ((الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه)) [2]. إن هذا هو الرياء الذي خافه – - على أمته، بل خافه على الصالحين؛ لأنه – - خاطب به أصحابه، وقد قال الله عز وجل: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً [ الكهف:110]. فالعمل الصالح هو ما شرعه الله في كتابه ورسوله – - في سنته، ومن شرطه أن يكون خالصا لوجه الله الكريم، لا رياء فيه، ولا سمعة. ولما جاء رجل إلى عبادة بن الصامت – - فقال: أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، فقال له عبادة – رضي الله عنه -: ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة - - عن النبي – - يرويه عن ربه – عز وجل – أنه قال: ((أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا برئ منه، وهو للذي أشرك)) [3].
وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله – - قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله – عز وجل – لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم ترآؤن في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)) [4].
وروى أبو يعلى عن ابن مسعود – - قال: قال رسول الله – -: ((من أحسن الصلاة حين يراه الناس، وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه – عز وجل - )) [5].
عباد الله : إن الإخلاص سر عظيم يقذفه الله في قلوب من اصطفى من عباده، ليقودهم به إلى جلائل الأعمال، ويحببهم في أحسن الفعال. يبعث فيهم الهمم العالية، والعزيمة الصادقة، والإرادة القوية، ويربي فيهم روحا طيبة طاهرة، وضميرا سليما حيا، فهو الذي يبرئ العمل من العيوب، ويخلصه من المساوي والذنوب، وهو عماد الأعمال، وسر النجاح، فما نهضت أمة من الأمم إلا على أساس الإخلاص، الذي يملك قلوبها، فيوحد صفوفها، ويجمع كلمتها، ويكسبها سدادا في العمل وإحكاما. ويورثها نصرا على الأمم ونجاحا.
أما عدم الإخلاص والاتصاف بالرياء فهو سبب لحرمان أصحابه من النجاح العملي في أمور دينهم ودنياهم؛ لأنه مبني على الخداع والمراوغة، ومخالفة ظاهره لباطنه، فهو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب [النور:39].
نعم، إن الله يحاسب عباده يوم القيامة على حسب نياتهم وإخلاصهم في أعمالهم، فهو سبحانه الذي يعلم السر وأخفى، فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة – - قال: قال رسول الله – -: ((إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد في سبيل الله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال هو عالم، وقرأت ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي به في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار)) الحديث رواه الإمام مسلم [6].
وجاء في بعض الروايات أن النبي – - قال: ((يا أبا هريرة هؤلاء الثلاثة أول من تسعر بهم النار يوم القيامة)).
عباد الله: إن الموفق هو الذي يعمل العمل خالصا لوجه الله، لا لأجل الخلق ولا لأجل النفس، وإلا دخل عليه شيء من محبة الثناء أو تشوق إلى حظ من حظوظ الدنيا. إنه ينبغي للمؤمن أن يحرص على إخفاء أعماله الصالحة من النوافل؛ لأن الجزاء عند من يعلم السرائر لا إله إلا هو لكن إذا ترجحت مصلحة إظهار العمل على إخفائه لغرض صحيح، كأن يحصل الاقتداء به في الصدقات، أو الزكوات، ويبادر الناس إلى التأسي والاقتداء به، فقد قال الله – عز وجل -: إن تبدو الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم [البقرة:271].
وعن أنس – - عن رسول الله – - قال: ((من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راض)) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين [7].
قال بعض السلف: لا يزال العبد بخير ما علم ما الذي يفسد عمله عليه فلا غنى للعبد عن معرفة ما أمرنا باتقائه من الرياء وغيره، لا سيما وقد وصف الرياء بالخفاء، ففي الحديث أنه أخفى من دبيب النمل، فما خفي لا يعرف إلا بشدة التفقد ونفاذ البصيرة بمعرفته حين يعرض، فبالخوف والحذر يتفقد العبد الرياء، وبمعرفته ببصيرته حين يعرض له، فيبتعد العبد عن التصنع للمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني، سوى التقرب إلى الله، وليتذكر وقوفه بين يدي الله يوم القيامة يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر [الطارق:9-10].
وليحذر المؤمن أن يتصف بصفة من صفات أهل النفاق، الذين ذكرهم الله – عز وجل – بقوله: إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يرآؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً [النساء:142].
أعاذنا الله وإياكم من الرياء والنفاق، ومن سيء الأعمال والأخلاق، ونفعني وإياكم بالذكر الحكيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، رقم 2985.
[2] رواه أحمد في مسنده 3/30، وابن ماجة في كتاب الزهد رقم (4204).
[3] رواه أحمد في مسنده :2/301.
[4] رواه أحمد في مسنده :5/428.
[5] رواه أبو يعلى في مسنده :9/54، برقم (151)من مسند عبد الله بن مسعود.
[6] رواه مسلم في صحيحه في كتاب الأمارة ، برقم (1095).
[7] رواه الحاكم في مستدركه : 2/332.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الذي هو أعظم المنن، وأمرنا بإخلاص العمل له في السر والعلن، أحمده سبحانه على إحسانه العام، وأشكره على جزيل الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله. اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – وأطيعوه، واسلكوا سبيل عباده الصالحين، الذين يعبدونه على بصيرة، وعلم، وصراط مستقيم، وإخلاص لله في أعمالهم وأقوالهم، واحذروا عباد الله من الرياء والسمعة فيما تقومون به من صالح الأعمال، فإن النبي – - قد حذر من ذلك غاية التحذير، كما جاء في حديث معاذ بن جبل – - قال : قال رسول الله – -: ((من سمّع سمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به)) [1]. قال الإمام الخطابي – رحمه الله -: أي من عمل عملا على غير إخلاص إنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، فيبدو عليه ما كان يبطنه ويسره من ذلك، وقد قال بعض المفسرين على قوله تعالى: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون [الزمر:47]. كانوا قد عملوا أعمالا كانوا يرونها في الدنيا حسنات، بدت لهم يوم القيامة سيئات.
وقال الإمام سفيان الثوري – رحمه الله – على هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – - للمرائي علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم به.
وقال بعض السلف: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب.
عباد الله: إن الرياء أمره عظيم، وخطره جسيم، وإن من مظاهره أن بعض الناس يتحدث عن أعماله الصالحة عند الآخرين، من صلاة وصدقة وصيام، وربما ذكر كم حجة حجها، وكم عمرة اعتمرها، وهو لم يسأل عن ذلك. وربما ذكر مساعدته للناس بجاهه أو ماله يريد بذلك المنزلة عند الناس، وأنه من المحسنين، وهذا غلط فاحش عظيم، وضرر عليه كبير، فما دام يعمل لله فما الداعي للتحدث بأعماله عند من لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا يملكون موتا، ولا حياة، ولا نشورا.
[1] رواه البخاري في الرقاق: 11/335، برقم (6499).
(1/366)
الجن
الإيمان
الجن والشياطين
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجود الجن ودليله. 2- حكم منكر الجن. 3- أنواع الجن باعتبار الدين. 4- صفات الجن.
5- صلة الجن بالبشر. 6- تلبس الجن بالإنس. 7- الاستعاذة من الجن.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا [الجن:1].
يأمر الله رسوله أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوه وانقادوا إليه موحدين لله سبحانه لا يشركون به شيئا.
فما الجن؟ وما هي صفاتهم؟ وكيف يستعيذ المسلم من شرهم؟
أما الجن لغة: فهو مأخوذ من جن الليل إذا أظلم فستر الأشياء بظلامه وسمي الجن جنا لاستتارهم ( [1] ).
وينبغي أن تعلم: أن وجود الجن ثابت في الكتاب والسنة.
في الكتاب في قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56]. خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار [الرحمن:14-15].
السنة: للحديث: ((ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)) ( [2] ).
إنكار وجود الجن كفر يخرج العبد عن الملة الإسلامية وذلك: لأنه أنكر شيئا معلوما ثبوته من الدين بالضرورة.
تكذيبه للخبر المتواتر اليقيني الوارد إلينا عن الله جل جلاله وعن رسول الله وهذا يناقض الإيمان بالله جل جلاله كما يناقض الإيمان بكتابه المعجز ( [3] ).
إن الجن نوعان:
شياطين لا خير فيهم البتة.
جن منهم الصالح ومنهم الفاسد ومنهم المؤمن والكافر.
والشياطين أصلهم من الجن وذلك لأن إبليس كان من الجن فلما عصى أمر الله تعالى عوقب بطرده من رحمة الله سبحانه فانقطع من الخير كلية ( [4] ) ، فكان شيطانا، قال تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه [الكهف:50].
وأما صفاتهم:
مادة خلقهم: إنهم خلقوا من خالص النار وهو طرف لهبها كما قال تعالى: وخلق الجان من مارج من نار [الرحمن:14]. وللحديث: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم)) ( [5] ).
وإنهم يأكلون ويشربون: للحديث: ((لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها)) ( [6] ). ونهى رسول الله عن الإستجمار بالعظم والروث وقال: ((فإنه زاد إخوانكم من الجن)) ( [7] ). ((إن الشيطان حساس لحاس فاحذروه على أنفسكم، من بات وفي يده غمر (رائحة طعام) فأصابه شيء (أي بسبب لحس الشيطان) فلا يلومن إلا نفسه)) ( [8] ).
إنهم يتوالدون: وفق السنة التي جعلها الله لهم كما قال تعالى: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو [الكهف:50].
وإنهم يتشكلون: فالجن والشياطين يتشكلون بأشكال مختلفة من ذلك:
مجيء الشيطان بصورة شيخ نجدي إلى دار الندوة حيث اجتماع رجال قريش للتشاور في أمر محمد وأشار عليهم مرجحاً الرأي بقتله ( [9] ).
تشكيل يجيء بصورة حية :يقول أبو سعيد الخدري: (كان فتى حديث عهد بعرس، استأذن رسول الله يوم الخندق بأنصاف النهار ليرجع إلى أهله، فقال له رسول الله : خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة، ثم رجع، فإذا امرأته على الباب، فأراد أن يطعنها غيرة فقالت له: أكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني؟ فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدرى أيها كان أسرع موتا، (الحية أم الفتى)؟ ( [10] ).
مساكنهم: فإن مساكنهم الخرائب، والحشوش (الحمامات) والمزابل والقمامة للحديث: ((إن هذه الحشوش محتضرة فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)) ، والخبُث بضم الباء جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة والمراد ذكران الشياطين وإناثهم ( [11] ).
وأن الصالحين من الجن يدخلون الجنة: والجن منهم الصالح ومنهم الفاسد ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، قال تعالى: وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا [الجن:11]. أي منا المؤمن والكافر: وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا [الجن:15]. والقاسطون هم الجائرون عن الحق الناكبون عنه.
واستدل ابن كثير رحمه الله بقوله تعالى: لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [الرحمن:56]. فقال (أي بل هن أبكار عرب أتراب لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن وهذه أيضا من الأدلة على دخول الجن الجنة، قال أرطأه بن المنذر، سئل حمزة بن حبيب: هل يدخل الجن الجنة؟ قال: نعم وينكحون: للجن جنيات وللإنس إنسيات) ( [12] ).
وأما صلتهم بالبشر؟
فاعلم أن الله تعالى كرم آدم عليه السلام وفي تكريمه تكريم لذريتة، قال تعالى: وقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا [الإسراء:70]. ولم يثبت مثل هذا التكريم للجان لا في الكتاب ولا في السنة فتبين بذلك أن الإنسان أشرف من الجن ( [13] ) ، ولكن الذي يجعل الجن يطغون ويتعاظمون ويؤذون هو استعاذة الإنسان بهم وتعظيمه لهم وإكبارهم فيزدادون طغيانا، قال تعالى: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا [الجن:6]. أي طغيانا وعلى هذا فلا سلطان للجان (أي الكفار منهم والشياطين) ولا قوة لهم على الإنسان إلا إذا كان ضعيف الإيمان أو غافلا عن ربه وذكره سبحانه وبذلك يكون عرضه لعبث الشياطين به، قال تعالى: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [النحل:99-100].
ومن صور صلتهم بالبشر: عونهم للكهان في ادعائهم للغيب: لما في ذلك من صرف الناس عن الله سبحانه والإيمان بأنه سبحانه هو النافع الضار وأن الغيب لله وحده، فينخدع الجهلة بهم للحديث: ((إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم)) ( [14] ).
تلبس الجان بالإنس: ويستدل القائلون بتلبس الجان بالإنس بأدلة منها: عن ابن عباس رضي الله عنه: ((أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند عشائنا وغدائنا فيخبث علينا، فسمع رسول الله صدره ثم دعا له، فثع (قاء) فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى)) ( [15] ).
لأن أجسام الجن أجسام رقيقة فليس بمستنكر أن يدخلوا في جوف الإنسان ( [16] ).
يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قوما يقولون: إن الجن لا تدخل في بدن الإنس قال: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه ( [17] ).
حيث تكلم الجن على لسان المصابين بالمس، وإلا من المتكلم معك بأخبار وأقوال المصروع نفسه يجهلها أو أشخاص يتكلمون بلغات لم يكن المصاب يعرف منها حرفا واحدا ( [18] ).
وأما ما يحفظ العبد به نفسه من الشياطين ومردة الجن:
الاستعاذة بالله من الجن: قال تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [فصلت:36].
قراءة المعوذتين: للحديث: ((كان رسول الله يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواها)) ( [19] ).
قراءة آية الكرسي: عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منها آية الكرسي)) ( [20] ).
قراءة سورة البقرة: عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، وإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)) ( [21] ).
خاتمة سورة البقرة: عن أبي مسعود قال: قال رسول الله : ((من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ( [22] ) أي ما أهمه للدنيا والآخرة ودفعتا عنه كل شر)) ( [23] ).
أول سورة حم المؤمن (غافر) إلى قوله إليه المصير مع آية الكرسي.
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من قرأ حم المؤمن إلى قوله إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح)). ( [24] ).
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (مائة مرة) عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)) ( [25] ).
كثرة ذكر الله عز وجل: عن الحارث الأشعري أن النبي قال: ((وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى)).
الوضوء: للحديث: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) ( [26] ).
إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم من هذه الأبواب الأربعة للحديث: ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد له حلاوة في قلبه)) ( [27] ).
الآذان: للحديث: ((إن الشيطان إذ نوي بالصلاة ولىّ وله حصاص)) ( [28] ).
فعن سهل بن أبي صالح أنه قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا، فناداه مناد من حائط باسمه، وأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئا، فذكرت ذلك لأبي فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك، ولكن إذا سمعت صوتا فناد بالصلاة ( [29] ).
مطلق قراءة القرآن يعصم من الشيطان: لقوله تعالى: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [الإسراء:45].
( [1] ) عقيدة المؤمن ص 177.
( [2] ) مسلم.
( [3] ) كبرى اليقينيات ص 280.
( [4] ) عقيدة المؤمن ص 179.
( [5] ) مسلم.
( [6] ) مسلم.
( [7] ) أبو داود والترمذي.
( [8] ) الترمذي وأبو داود.
( [9] ) تهذيب سيرة ابن هشام ص 119.
( [10] ) مسلم.
( [11] ) فقه السنة مجلد ص 32.
( [12] ) ابن كثير مجلد 4 ص 278.
( [13] ) عقيدة المؤمن ص 184.
( [14] ) البخاري.
( [15] ) دلائل النبوة مجلد 2 ص 600.
( [16] ) الموسوعة الفقهية مجلد 16 ص 94.
( [17] ) طريق الهداية في درء خطر الجن والشياطين / القحطاني ص42.
( [18] ) عقيدة المؤمن ص 170.
( [19] ) الترمذي.
( [20] ) الترمذي.
( [21] ) مسلم.
( [22] ) البخاري.
( [23] ) نزهة المتقين 2 ص 757.
( [24] ) الترمذي.
( [25] ) البخاري ومسلم.
( [26] ) أبو داود.
( [27] ) الحسيني في الزرائد/الطبراني.
( [28] ) مسلم.
( [29] ) الموسوعة الفقهية مجلد 16 ص 98.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/367)
القرآن العظيم
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإيمان بالكتب, القرآن والتفسير
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة الكلام بعظمة قائله. 2- مزية القرآن عن سائر الكتب. 3- فضائل القرآن.
4- نقض شبهة تأليف الرسول للقرآن. 5- هل نحن بحاجة إلى القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير [البقرة:285].
اعلم أن الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله من أركان الإيمان – والقرآن العظيم هو آخر كتاب نزل من عند الله تعالى وقد خصه الله بمزايا تميز بها عما تقدم من الكتب المنزلة: فما القرآن؟ وما الذي تميز به عما سواه من الكتب؟ وما فضائله؟ وما الشبهات التي تدور حوله؟ وهل الأمة بحاجة إليه؟ وكيف ينبغي أن نتلقاه؟
أما القرآن: فهو كلام الله المعجز المنزل على محمد بن عبد الله المكتوب في المصاحف المتعبد بتلاوته.
وينبغي أن تعلم:
أن الكلام يعظم بعظم قائله، فكيف إذا كان المتكلم هو الله عز وجل؟ جبار الأرض والسماء سبحانه بل يعلمنا الله سبحانه أن القرآن لو أنزل على جماد لتصدع وانشق من خشية الله، قال تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله [الحشر:21].
إن القرآن العظيم تميز عن سواه من الكتب بأمور ثلاثة:
أ- بالحفظ فلا تحريف ولا تبديل: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر:9].
ب- تضمن المنهج المتكامل: ما فرطنا في الكتاب من شيء [الأنعام:38].
ج- للخلق أجمعين: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء:107]، وقال عما سواه: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [المائدة:48].
وأما فضائله:
1- الخيرية لأهله: للحديث: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) ( [1] ).
2- الرفعة لقارئه: للحديث: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها)) ( [2] ).
3- الشفاعة لصاحبه: للحديث: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه)) ( [3] ).
4- الأجر العظيم لقارئه: للحديث: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) ( [4] ).
5- خيرية وفضائل لا تنتهي: للحديث: ((إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته)) ( [5] ).
6- حضور الملائكة للاستماع: للحديث: ((أن أسيد بن حضير بينما هو في مربده يقرأ إذ جالت (اضطربت) فرسه، فقرأ فجالت فرسه قال: فانصرفت وكان يحي (ابنه) قريبا منها. قال: خشيت أن تطأ عليه (أي تمشي عليه الفرس) فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج (المصابيح) عرجت في الجو حتى ما أراها، فقال : تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم)) ( [6] ).
7- فرار الشيطان من البيوت العامرة بالقرآن: للحديث: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة )) ( [7] ).
8- وفي القرآن سور لها ميزة كالفاتحة لقول النبي لأبي سعيد بن المعلى: ((لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني)) ( [8] ) ، (الفاتحة سميت بالمثاني لأنها تثني في كل صلاة) وكذا البقرة وآل عمران للحديث: ((اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة غمامتان تحاجان عن أصحابهما)) ( [9] ).
وآية الكرسي: للحديث: ((سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت وفيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي)) ( [10] ) ، والكهف في يوم الجمعة، للحديث: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) ( [11] ) وتبارك، للحديث: ((إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك)) ( [12] ) ، ((وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)) ( [13] ). والمعوذتان: ((قل أعوذ برب الناس وقل أعوذ برب الفلق، للحديث: تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما)) ( [14] ) ، ويس للحديث: ((قلب القرآن يس لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له اقرؤوها على موتاكم)) ( [15] ).
وأما الشبهات التي حول القرآن: فأعداء الله حريصون أن يشككوا المسلم بمصدر الخير كله، بمنهج الحياة، حتى يقطعوا الصلة فيما بينه وبين النور وما التخبط التي تعيشه الأمة على مستوى الأفراد والجماعة إلا لذلك الظلام الذي تعيشه.
ومن هذه الشبهات: أن القرآن من عند محمد بن عبد الله ، وقد ردّ الله هذه الفرية بقوله: وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون [العنكبوت:48]، فرسول الله كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب وقد جعله الله هكذا لعلمه سبحانه بافتراءات أعداء الله عليه.
ثم يضاف إلى ذلك ردود أخرى قالها العلماء منها:
كانت تمر على رسول الله الأحداث العظام وكان أحوج ما يكون إلى آية كحادثة الأفك وملخصها: أن النبي كان إذا خرج في غزوة أقرع بين نسائه فخرجت القرعة لعائشة رضي الله عنها فلما عاد رسول الله عسكر الجيش فخرجت عائشة رضي الله عنها لبعض شأنها فلما عادت رأت أن الجيش قد مشى فجلست تنتظر وكان رجل يقال له: صفوان بن المعطل يتخلف عن الجيش لجمع ما نسيه الجيش ثم يلحق به فلما رأى عائشة رضي الله عنها أناخ لها بناقته فركبت ثم لحق بالمسلمين فلما وصل الجيش ونظروا في الهودج لم يجدوا عائشة رضي الله عنها وبعد قليل دخل صفوان بن المعطل وهو يقود ناقته فتحدث رأس المنافقين عبد الله بن سلول وطعن في عرض رسول الله ومضى شهر كامل ولغط الحديث في عرض رسول الله حتى يقف على المنبر ويقول: ((ما بال أناس يؤذونني في أهلي وما علمت عنهم إلا خيرا)) حتى أنزل الله عشر آيات من سورة النور فيها براءة عائشة رضي الله عنها مما نسب إليها: إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( [16] ).
فلو كان القرآن من عند محمد لأتى بآية ينفي ما نسب إلى زوجه عائشة رضي الله عنها، ولكنه عاش الأمر بكل معاناته وقسوته منتظرا حكم الله وحده مترقبا آيات تتنزل من عند الله ومن عند الله وحده.
ثم كيف يحاسب الرسول نفسه على أمر الذي جرت معه الحادثة لا يعلم به؟ وذلك عندما جاء ابن أم كتوم وهو أعمى ويقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله رجال من عظماء المشركين فجعل رسول الله يعرض عنه ويقبل على الآخرين فنزلت: عبس وتولى أن جاءه الأعمى [عبس:1-2]. وابن أم مكتوم لا يعلم بعبوس رسول الله فهو أعمى فدل الأمر أن القرآن كلام الله سبحانه حيث إثبات الموازين ودين الله أعز من أن يسترضى لأجله كافر.
ج- الإخبار بالأمور المستقبلة: كانت فارس ظاهرة على الروم وكان المشركون يحبون ذلك وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب فأنزل الله قوله: آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله [الروم:1-5].
قال ابن كثير: وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قول طائفة كثيرة من العلماء كابن عباس والثوري والسدي وغيرهم ( [17] ).
فالإخبار عن أمر مستقبلي وتحديد المدة وإعلام أنه يوافق نصرا للمؤمنين، هذا لا يمكن لبشر أن يقطع به بل هو أمر لا يمكن أن يقطع به إلا الله سبحانه الخالق علام الغيوب جل جلاله.
د- الحقائق العلمية: التي عرفها العلم مؤخرا بعد بحث ودراسة وتنقيب من ذلك وجود حاجز بين البحر والنهر فلا يبغي أحدهما على صاحبه ولا يختلط به وقال تعالى: مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان [الرحمن :19-20].
ثم قوله تعالى: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [النساء:56].
ومما عرف العلم أن الجلد تتركز فيه أعصاب الإحساس، فحروق الدرجة الأولى أشد ألماً من حروق الدرجة الثانية أو الثالثة حيث تضعف أعصاب الإحساس، وغير هذا كثير مما كتبه العلماء أمثال كتاب: (الله يتجلى في عصر العلم) (العلم والإيمان) (الطب في محراب الإيمان).
هل الأمة بحاجة إلى القرآن؟
اعلم أن الله تعالى سمى القرآن العظيم بأسماء تدل عليه، فسمى الله القرآن:
أ- روحاً: قال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا [الشورى:52]. فمنزلة القرآن من الأمة بمنزلة الروح من الجسد عليه عوامل التفسخ والتحلل والتعفن وهذا حال الأمة في ضياعها وتفككها وعلائقها وأخلاقها.
ب- الفرقان: قال تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [الفرقان:1]، فهو الذي يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والصواب والخطأ وبغيره تلتبس الأمور وتضيع الحقائق، وتعيش الأمة في ضلالة عمياء وجهلاء متخبطة في سيرها.
ج- الذكر: قال تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك [الزخرف:44]، فلا شرف للأمة ولا مكانة ولا منزلة إلا بالقرآن وبغيره يدوسها أعداء الله بأقدامهم وتهان وتستباح.
كيف ينبغي أن نتلقاه؟
التلقي للتنفيذ: وهذا هدي السلف رضوان الله عليهم، يقول عبد الله بن مسعود: (ما كنا نحفظ من كتاب الله إلا خمسة أو عشرة آيات حتى نعمل بها ثم نعود فنحفظ خمسا أو عشرا أخرى) فكتاب الله سبحانه لم يتنزل للقراءة على الموتى للبركة بل على الأحياء حتى ينتفعوا في تنظيم أحوالهم.
التعظيم لكتاب الله: فلا ينبغي للأمة التي كرمها الله تعالى - بإنزال هذا الكتاب العظيم عليها- أن تلتفت إلى فضلات وضلالات الآخرين، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم [الحجرات:1].
فذلك منتهى سوء الأدب مع الله أن نقدم الأهواء والآراء على قول الله وقول رسوله.
( [1] ) البخاري ومسلم.
( [2] ) الترمذي.
( [3] ) رواه مسلم.
( [4] ) الترمذي.
( [5] ) الحاكم.
( [6] ) البخاري ومسلم.
( [7] ) مسلم والنسائي.
( [8] ) البخاري وأبو داود.
( [9] ) مسلم.
( [10] ) الحاكم.
( [11] ) النسائي والبيهقي.
( [12] ) الترمذي والنسائي.
( [13] ) مسلم.
( [14] ) أبو داود.
( [15] ) أحمد وأبو داود.
( [16] ) ابن كثير مجلد 3 ص 268.
( [17] ) ابن كثير مجلد 3 ص 436.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/368)
الرسل والأنبياء
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, معجزات وكرامات
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى النبوة والرسالة. 2- مضمون دعوة الرسل: التوحيد. 3- عدد الرسل. 4- مهمات
الرسل. 5- إجابات الفكر الغربي عن الأسئلة الفطرية. 6- مزية نبينا عن إخوانه من الأنبياء.
7- معجزات الأنبياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [فاطر:24].
لو أوكل الله البشرية إلى عقولها لضلت. ولما كان الله سبحانه أرحم بعبيده من عبيده بأنفسهم اجتبى من البشر رسلا وأنبياء يبلغون وحي الله إلى الناس ويعطون الصورة العملية للالتزام فهم القدوة والمثل.
فما الرسل والأنبياء؟ وما هي مهمتهم؟ وما الفرق بين محمد بن عبد الله وسائر الأنبياء والرسل؟
الرسل جمع رسول والأنبياء جمع نبي، والنبي: هو ذكر من بني آدم، أوحى الله تعالى إليه بأمر، فإن أمر بتبليغه فهو نبي ورسول، وإن لم يؤمر بتبليغه فهو نبي غير رسول: وعلى هذا فكل رسول هو نبي وليس كل نبي هو رسول.
وينبغي أن تعلم:
أن الرسل والأنبياء بعثوا بالتوحيد الخالص لله عز وجل قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء:25].
والانحرافات التي حدثت بعد ذلك إنما هي من فعل الأتباع من أحبار ورهبان سوء بدّلوا وحرّفوا وغيّروا قال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [التوبة:30-31].
وعدد الرسل والأنبياء كما جاء في حديث أبي ذر : قلت يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال: ((آدم قلت: يا رسول الله أنبي كان؟ قال: نعم، نبي مكلّم، قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيرا)) وفي لفظ: ((كم وفاء عدد الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، الرسل منهم ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً)) ( [1] ).
والإيمان بهم جميعا ركن من أركان الإيمان والكفر بأحدهم يعتبر كفرا بالجميع.
وأولوا العزم من الرسل الذين نوه القرآن بذكرهم وفضلهم فقال: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل [الأحقاف:35]. جاء في آية أخرى التصريح بأسمائهم فقال سبحانه: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم [الأحزاب:7].
فهم محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام.
وأما مهمتهم:
1- تبليغ وحي الله للناس: قال تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم [آل عمران:179].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى: ((يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش :فقال أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) ( [2] ).
فتأمل بعض العلماء هذا الموقف حيث صعود النبي أعلى الجبل فهو يرى ما أمامه وما خلفه بحكم موضعه في أعلى الجبل وقريش عندما اجتمعت أمام الجبل لا يرون ما رواء الجبل بحكم موضعهم أنهم أمام الجبل فأبصارهم لا تنفذ إلى ما ورواء الجبل. فلما سألهم رسول الله أهم يصدقون قوله إن أعلمهم أن وراء الجبل عدو قالوا: نعم، فقال فإني رسول الله وقد أطلعني ربي على ما هو غيب بالنسبة لكم فكان وقوفه عملية توضيحية لأمر الرسول والرسالة.
2- الإجابة على الأسئلة الثلاث التي ضلت البشرية يوم أن وضعت لها الإجابات البشرية القاصرة الضالة المنحرفة، وهي كيف جئنا؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين المصير؟
أ- كيف جئنا؟ جاءت نظرية داروين بأن مصدر وجودنا إنما هي الأميبا الحي والصدفة ونظرية النشوء والارتقاء إلى قرد ثم إلى إنسان بعد ذلك فإذا كان الأصل أصلا حيوانيا فلماذا البحث عن الفضائل بعد ذلك.
وجاءت إجابة الرسل عن الله أن مصدر الخلق هو الله: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه [ق:16]. وأن الأمر بدأ بخلق آدم عليه السلام.
وأسجد الله له الملائكة في حفل عظيم فأي تكريم للإنسان من الله سبحانه: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة [البقرة:30]. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم [البقرة :34].
ب- ولماذا جئنا؟ جاءت نظرية فرويد أن غاية الوجود إنما هو الجنس وكل قيد على الجنس يعتبر قيدا باطلا فلا دين ولا خلق ولا عرف كريم.
وجاءت إجابة الرسل عن الله أن غاية الوجود إنما هي العبادة. لله الواحد القهار: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56].
ج- وإلى أين المصير؟
جاءت نظرية ماركس (لا إله والحياة مادة) فلا جنة ولا نار ولا حساب ولا عقاب وإنما هي حياة فقط تنتهي بموتك.
جاءت الرسل بإجابة عن الله أن المصير إلى الله وحده حيث يجازى المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته: وأن إلى ربك المنتهى [النجم:42].
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:6-8].
إعطاء الصورة العملية التطبيقية للمنهج: قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الممتحنة:6]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان خلق نبي الله القرآن)) ( [3] ). وفي ذلك إعلام أن المنهج المنزل من عند الله عز وجل في طاقة البشر وقدرتهم التعامل معه والالتزام به وتطبيقه في أنفسهم وفي واقع حياتهم. كيف لا ورسل الله وأنبياؤه هم من البشر قال تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم [الكهف:110]. وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [النحل :43].
وما عندهم من أحاسيس ومشاعر وطاقات كلها بشرية: طه ما أنزلنا عليكم القرآن لتشقى [طه:1]. فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [الكهف:6]. يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر [المائدة:41].
وفي غزوة أحد شج رأسه وكسرت رباعيته ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، ومنهم من قتل: ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون [البقرة:87].
وأما الفرق بين رسول الله وسائر الأنبياء والرسل؟
فاعلم أن الأنبياء والرسل كلهم صادقون مرسلون من عند الله عز وجل، والمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء ولا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض بل الجميع عندهم صادقون راشدون وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد وقال تعالى: كل آمن بالله وملائكته ورسله لا نفرق بين أحد من رسله [البقرة:285]. فلا فرق بين رسول الله والأنبياء والمرسلين من قبله في صدقهم ورسالتهم وبعثهم، وإنما الفرق من ثلاثة وجوه هي أدلة ختم النبوة والرسالة فلا نبوة بعد رسول الله ولا رسالة.
أ- أرسل الأنبياء والرسل إلى أمم خاصة أما محمد فقد أرسل إلى العالمين قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمينْ [الأنبياء:107]. فلا نبي أو رسول بعده.
ب- تعرضت الكتب السابقة إلى التحريف والتبديل وأما القرآن فقد تولى الله حفظه بنفسه فقال: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر:9] لا حاجة لمجيء كتاب جديد.
ج- كانت الكتب السابقة تعالج جوانب محدودة في حياة الناس العملية أو الأخلاقية فقط أما الكتاب الذي جاء به محمد بن عبد الله ففيه المعالجة الكاملة لحياة الناس في شتى الجوانب: ما فرطنا في الكتاب من شيء [الأنعام:38]. فلا حجة لمن يأتي بمنهج يعالج فيه أمرا قد استكمل بيانه في الإسلام.
وفي الحديث: ((إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي)) ( [4] ) ، والبشرية مدعوة للإيمان به قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران:85].
وللحديث: ((لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا حرم الله عليه الجنة)) ( [5] ).
فالأنبياء والرسل جاءوا لهداية البشرية في أطوارها المختلفة وذلك شبيه بأساتذة المراحل التعليمية فالجميع معلمون والكل يكمل بعضهم بعضا في تلبية حاجة العقل البشري بمراحله حتى انتهى الأمر ببعثة المصطفى الذي جمع الكمالات الإنسانية والمنهج الكامل المحفوظ.
وأما الذي ينبغي أن تدركه:
أ – أن الرسل والأنبياء المذكورين في كتاب الله خمسة وعشرون نبيا ورسولا علما أن الله تعالى ابتعث (124000) مائة وأربعة وعشرين ألفا فلماذا أخفيت أسماؤهم؟
قال العلماء:
أ – حتى تتربى الأمة على الإخلاص فليست العبرة بذكر الأسماء وإنما بقبول العمل قال تعالى: وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى [يس:20]. إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى [الكهف:13]. من هم لا ندري؟ ما هي أسماؤهم؟.
ب- عزاء لكل مجاهد مجهول يمضي لا يلتفت له الناس بل قد يتعرض للعنت والاضطهاد والقتل فله في رسل الله وأنبيائه عزاء.
ج- توجيه للهمم إلى الاقتداء بالأعمال لا التنقيب عن الأسماء والمسميات التي لا طائل تحتها ولا نفع، ولو علم الله في الأمر خيرا لأخبرنا به.
إن الله يؤيد رسله بالمعجزات: وهي الأمر الخارق للعادة الذي يجريه الله سبحانه على يدي نبي مرسل ليقيم الدليل القاطع على صدق نبوته فهذا إبراهيم الخليل كانت معجزته بأن كانت النار بردا وسلاما عليه: قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم [الأنبياء:68-69].
وهذا عيسى عليه السلام وقد شاع في زمنه الطب فكانت معجزته في الإبراء والشفاء بأمر الله بل وإحياء الموتى بإذن الله: وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله [آل عمران:49].
وهذا موسى عليه السلام وقد شاع في زمنه السحر فكانت آية العصا معجزة له في انقلابها إلى حية تسعى: فألقاها فإذا هي حية تسعى [طه:20]. والمتأمل في معجزات الأنبياء والرسل إنها كانت حسيّة وقتية لا يعلم بها إلا من رآها وعاصرها.
وأما معجزة المصطفى فكانت عقلية دائمة وهي القرآن العظيم وما فيه من إعجاز في اللغة والأحكام والحقائق العلمية والتاريخية والنفسية والجغرافية والحسابية وغير ذلك كثير فلا تنقضي عجائبه وكلما ازدادت البشرية ازدادت علما بجهلها وإدراكها للسبق العظيم الدال على عظيم كتاب الله سبحانه كيف لا ومصدره اللطيف الخبير جل جلاله سبحانه.
( [1] ) أحمد وسنده ليس بالقوي.
( [2] ) البخاري.
( [3] ) مسلم.
( [4] ) أحمد.
( [5] ) أحمد ومسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/369)
اليوم الآخر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسماء يوم القيامة. 2- عدل الله وحكمته يقتضي القيامة. 3- تستقيم حياة الإنسان حين يؤمن
بيوم القيامة. 4- حقائق وأهوال في يوم القيامة. 5- ايمان المسلم بيوم القيامة.ب
_________
الخطبة الأولى
_________
أ فحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [المؤمنون:115].
اعلم أن الحق سبحانه منزه عن العبث في أفعاله وأحكامه وأوامره وانتهاء الحياة الدنيا دون رجعة إلى الله للحساب قمة العبث، لذا كان الإيمان باليوم الآخر ركن ومنكره كافر، فما اليوم الآخر؟ ولماذا؟ وما حقائقه؟ وما موقف المسلم منه؟
اليوم الآخر: هو يوم الجزاء، وهو يوم الحساب، وهو الحياة الثانية بعد الموت وإقامة العدل الرباني بين الخلائق.
وينبغي أن تعلم:
أن الإيمان باليوم الآخر لا ينفك عن الإيمان بالله تعالى ومنكره كافر، وهو ركن من أركان الإيمان.
للحديث: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)) ( [1] ).
وقد سمى الله تعالى اليوم الآخر بأسماء تدل على ما يجري فيه من حقائق وأهوال منها:
يوم الدين: لأن فيه إدانة الخلق ومجازاتهم على أعمالهم: مالك يوم الدين [الفاتحة:3].
يوم الخروج: لأن فيه خروج الناس من قبورهم إلى الحياة الأخر: ذلك يوم الخروج [ق:42]. يوم الحسرة لأن فيه حسرة الكافرين والعصاة على ما فرطوا في جنب الله: وأنذرهم يوم الحسرة [مريم:39].
الدار الآخرة: فهي دار غير هذه الدار تأتي بعد الموت ( [2] ).
القارعة: لأنها تقرع القلوب بأهوالها: القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة [القارعة:1-2].
وأما لماذا اليوم الآخر؟ فلا بد من اليوم الآخر:
حتى لا يمضي الظالم من غير عقاب والمظلوم من غير عوض، قال تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:7-8].
وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما [طه: 111].
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا [الأنبياء:47].
وحتى لا يستوي المؤمن بالكافر والمجرم بالتقي، قال تعالى: أ فنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون [القلم: 36-37]. أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [الجاثية:21].
وحتى تتفجر ينابيع الخير في النفس الإنسانية استعدادا لذلك اليوم العظيم فيبر الولد بوالده، وتطيع الزوجة زوجها، ويحترم المسؤول رعيته ويعدل، ويمسك التاجر عن الحرام والربح الفاحش، وينفق الغني من ماله على المحتاجين، قال تعالى: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [الإنسان:9-10].
ولأن النفس الإنسانية تختلف في بواعثها على الخير كما ذكر الإمام النووي، فمن الناس من يحرك جوارحه للطاعة الرغبة في الجنة وما أعد الله فيها لأوليائه، ومنهم من تفزع جوارحه للطاعة بسبب الفزع من العذاب الأليم الذي أعده الله للمعرضين، ومنهم من وافقوا الحق في مراده لمعرفتهم به وتلك عبادة الأحرار، لذا كان رسول الله يقوم الليل حتى تتفطر قدماه فتقول عائشة رضي الله عنها: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: ((أفلا أكون عبدا شكورا)).
وأما الحقائق التي تكون في اليوم الآخر:
الحقيقة الأولى: البعث: وذلك يكون بإعادة بناء الأجسام بعد فنائها، وإعادة الحياة إليها بعد سلبها منها، قال تعالى: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [الروم:27]. وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [الحج:7].
واعلم أن الله أوكل ملكا كريما هو إسرافيل عليه السلام بالنفخ في الصور فإذا نفخ الأولى ماتت الخلائق وهذه هي الراجفة ثم ينفخ فيه أخرى وهي الرادفة وفيها البعث يكون وأعلمنا المصطفى في الحديث: ((كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب، منه خلق، ومنه يركب)) ( [3] ) ، فلا يبقى من ابن آدم إلا عجب الذنب فيكون كالنواة وينبت للحديث: ((ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا بلي إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة)) ( [4] ).
ويكون ما بين النفخة الأولى والثانية أربعون للحديث: ((ما بين النفختين أربعون، قيل: أربعون يوم؟ قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت)) ( [5] ).
الحقيقة الثانية: الحشر: وهو الجمع وذلك بأن تحشر الخلائق لموقف الحساب الإنس والجن ودواب الأرض وطيورها حيث القصاص للحديث: ((لتؤدنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء تنطحها)) ( [6] ) ، ويقاد: أي يقتص، والجلحاء: التي لا قرون لها.
واعلم أن الشمس تدنو من رؤوس الخلائق، للحديث: ((تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)) ( [7] ).
وأن الناس يحشرون عراة غرلا (غير مختونين) للحديث: ((إنكم محشورون حفاة عراة غرلا ثم قرأ: كما بدأنا أول خلق نعيده وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم)) ( [8] ).
الحقيقة الثالثة: عرض وسؤال وحساب وميزان وكتب الأعمال.
أ- العرض: قال تعالى: وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا [الكهف:48]. فمن شاء الله أن يرحمه لم يحاسبه، للحديث: ((ليس أحد يحاسب إلا هلك، قالت عائشة: يا رسول الله جعلني الله فداك، أليس الله يقول: فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ، قال: ذلك العرض تعرضون، ومن نوقش الحساب هلك)) ( [9] ).
ب- السؤال والحساب: فمن شاء الله أن يرحمه ستره عن الخلائق، للحديث: ((يدني الله تعالى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه (أي ستره) فيقرره بذنوبه: فيقول: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا؟ فيقول: أعرف، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكافر والمنافق فينادي عليهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين)) ( [10] ).
ج- الميزان: قال تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [الأنبياء:47].
يقول أنس بن مالك : يؤتى بالعبد ويوقف بين كفتي الميزان، فإن رجحت حسناته على سيئاته نادي ملك بصوت تسمعه الخلائق: سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإذا رجحت سيئاته على حسناته نادى الملك بصوت تسمعه الخلائق: شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا.
د- كتب الأعمال: حيث يأخذ المؤمنون كتبهم بأيمانهم ويأخذ أهل الشمال كتبهم بشمائلهم للحديث: ((يعرض الناس يوم القيامة ثلاثة عرضات، فأما عرضتان: فجدال ومعاذير، فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله)) ( [11] ).
وقال تعالى: فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا [الانشقاق:7-12].
الحقيقة الرابعة: الصراط: وهو جسر على ظهر جهنم يمر عليه الناس كلهم، فالمؤمنون ينجون على حسب حالهم في سرعات تتفاوت بتفاوت أعمالهم الصالحة والآخرون يسقطون حيث تجذبهم كلاليب جهنم - أعاذنا الله ونجانا من ناره - للحديث: ((ثم يؤتى بالجسر فيجعله بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة عليها خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة، لها شوكة عقيفاء تكون بنجد، يقال لها: السعدان يمر المؤمن كالطرف كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش ومكدوس في نار جنهم حتى يمر آخرهم يسحب سحبا)) ( [12] ).
ودعاء المؤمنين آنذاك رب سلم للحديث: ((شعار المؤمنين على الصراط يوم القيامة: رب سلّم سلم)) ( [13] ).
الحقيقة الخامسة: ثم إما إلى جنة وهي مأوى المؤمنين حيث الثواب الأكبر وإما إلى جهنم وهي مأوى الكافرين حيث العقاب الأكبر أعاذنا الله منها.
قال تعالى: فأما الذين شقوا ففي النار لهم زفير وشهيق خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء الله إن ربك فعّال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [هود:106-108].
والعصاة من المؤمنين [تحت مشيئة الله عز وجل؛ فإما أن يعذبهم على ذنوبهم بعدله وحكمته، وإما أن يعفو عنهم ويتجاوز عن سيئاتهم]، ثم يؤذن لهم بدخول الجنة برحمة من الله سبحانه وتعالى.
وأما موقف المسلم من اليوم الآخر:
التسليم المطلق والتصديق الكامل بكل ما جاء في الكتاب من حقائق اليوم الآخر، بلا توقف ولا شك ولا اغترار بأماني زائلة ولا استماع للشيطان وتلك هي الآفات، قال تعالى: يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور [الحديد:13-14].
ألا لا تنخدع بأوهام الملحدين الضالين الذين توهموا ألا رجعة ولا حساب ولا جنة ولا نار وإنما هي دنيا ولا حياة بعدها أبدا !! وادفع هذا التوهم بأمرين:
1- إن الذي خلق وقدر وأبدع قادر على الإعادة بل الإعادة أهون، قال الله تعالى: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [الروم:27].
2- إن خلق الإنسان ليس بشيء أمام خلق السماوات والأرض وما فيهما من عجائب وإعجاز وإبداع عظيم، قال تعالى: لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [غافر:57].
ولما كان المسلم الحق يوقن بالله وقدرته المطلقة وعدله المطلق فلا يتطرق إلى قلبه شك أبدا عن إمكانية وجود يوم آخر يعود فيه الملك لصاحب الملك، ويجزي كل أحد بما قدمت يداه. وهذا أبي بن خلف وقد أخذ عظما باليا فجعل يفته بيده ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعدما رمٌ (أي أصبح رميما ترابا)؟ قال : ((نعم ويبعثك ويدخلك جهنم)) ( [14] ). فأنزل الله قوله وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [يس:88-89].
ولما كان الموت ليس هو نهاية المطاف وإنما بعده أهوال وأهوال وأهوال فإما إلى جنة أبدا وإما إلى نار لذا كان لابد أن يعدّ لذلك اليوم عدته.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
و لكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شي
سئل الإمام أحمد رحمه الله: متى يجد المؤمن طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها العبد في الجنة. فنسأل الله تعالى أن يتولانا برحمته في الدنيا والآخرة وأن يجعلنا ممن يدخلون الجنة من غير حساب وأن يهون علينا سكرات الموت وأهوال القيامة بمنه وكرمه آمين.
( [1] ) مسلم.
( [2] ) العقيدة الإسلامية ، ص 628.
( [3] ) أبو داود النسائي.
( [4] ) البخاري ومسلم.
( [5] ) البخاري ومسلم.
( [6] ) مسلم والترمذي.
( [7] ) مسلم والترمذي.
( [8] ) البخاري ومسلم.
( [9] ) أخرجه البخاري ومسلم.
( [10] ) رواه مسلم.
( [11] ) أخرجه الترمذي.
( [12] ) أخرجه مسلم.
( [13] ) أخرجه الترمذي.
( [14] ) ابن أبي حاتم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/370)
علامات الساعة
الإيمان
أشراط الساعة
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الساعة. 2- علامات اقتراب الساعة الصغرى. 3- علامات الساعة الكبرى.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم [محمد:18].
استفهام إنكاري يضعه رب العزة سبحانه أمام المكذبين باليوم الآخر الذي يعود فيه الخلق إلى ربهم للحساب والاستفهام هو ما الذي ينتظره المكذبون! أينتظرون الساعة وهي آتية لا ريب فيها، وقد جاءت علاماتها الدالة على اقترابها.
فما الساعة؟ وما علاماتها الصغرى والكبرى؟ وما موقف المسلم منها؟
الساعة: اسم من أسماء يوم القيامة والحساب، وهو اسم يدل على الإيقاظ بعد النوم والانتباه بعد اليقظة، وينبغي أن تعلم:
أن وقت قيام الساعة من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى ومن ادعى ذلك فهو كاذب، قال تعالى: يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو [الأعراف:187].
وأن وقت قيامها قد اقترب، قال تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر [القمر:2]. وللحديث: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ( [1] ).
وأما علاماتها الصغرى: فإن للساعة علامات صغرى تدل على اقترابها حتى يشمر السالكون الصادقون ويزداد المؤمنون يقينا بصدق المصطفى فيما أخبر عنه، ومن هذه العلامات الصغرى:
أ- كثرة الفتن: للحديث: ((يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا)) ( [2] ).
والوصف النبوي للفتن كقطع الليل المظلم ففي الظلام يفتقد العبد الوجهة الصائبة، ويكون العثار والسقوط والارتطام، للفرد والجماعة والأمة والعالم والجاهل، وترى من يكون نعلا لأقدام الطغاة محللا أو محرما يبيع دينه من أجل الفتات الذي يقذفه له السلطان فنسأل الله العافية.
ب- فساد الخلق: للحديث: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: إذا كان المغنم دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته، وعقّ أمه، وبرّ صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشرب الخمر، ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أوخسفا ومسخا)) ( [3] ).
ج- فساد سياسي: أن يتولى الأمر السفلة الخونة الأراذل للحديث: ((إذا ضاعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) ( [4] ).
د- السعداء هم اللئام الذين لا تشغلهم إلا أنفسهم للحديث: ((لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع)) ( [5] ).
هـ- أن ينسى الناس ربهم للحديث: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)) ( [6] ).
و- شيوع الزنا وهوان المرأة: للحديث: ((لا تقوم الساعة حتى توجد المرأة نهارا تنكح وسط الطريق لا ينكر ذلك أحد فيكون أمثلهم يومئذ الذي يقول: لو نحيتها عن الطريق قليل، فذلك فيهم مثل أبي بكر وعمر فيكم)) ( [7] ).
ز- ذهاب الصالحين: ويتمنى المؤمن الموت مخافة على دينه أن يفتن فيه للحديث: ((يقبض الصالحون الأول فالأول ويبقى حثالة كحثالة التمر والشعير لا يعبأ الله بهم شيئا)) ( [8] ). وللحديث: ((والذي نفسي بيده، لا تمر الدنيا حتى يمر الرجل بالقبر، فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر وليس به الدّين، ما به إلا البلاء)) ( [9] ).
ح- كثرة القتل واستباحته: للحديث: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل القتل)) ( [10] ).
ط- النفاق في العلائق وقطعية الأرحام: للحديث: ((إذا الناس أظهروا العلم وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا في الأرحام لعنهم الله عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم)) ( [11] ).
ي- كثرة الزلازل: للحديث: ((لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل)) ( [12] ).
ك- ظهور أدعياء للنبوة: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا دجالا كلهم يزعم أنه رسول الله)) ( [13] ).
ل- ذهاب بركة الأوقات: للحديث: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمة بالنار)) ( [14] ).
وأما العلامات الكبرى: فقد جاءت مجملة في أحاديث ومفصلة في أخرى.
وأنها عشر أمارات للحديث: ((إنه لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: فذكر الدخان، والدجال والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاث خسوفات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم)) ( [15] ).
وعلى هذا فالعلامات الكبرى عشر نجملها بشرح مختصر فيما يلي:
الدخان: وذلك بأن يخرج دخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام ويدخل في مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس المشوي على الجمر.
الدجال:
أ- أعظم فتنة للحديث: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أكبر من الدجال)) ( [16] ).
ب- وأنه أعور للحديث: ((ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور وأن بين عينيه مكتوب كافر)) ( [17] ).
قال ابن الأثير: وسمي الدجال بالمسيح لأن إحدى عينيه ممسوحة والدجال لأنه يلبس الحق بالباطل.
ج- أنه يدعي الألوهية للحديث: ((معه جنة ونار فناره جنة وجنته نار)) ( [18] ).
د- تسخر له الجن والسماء والأرض زيادة في الفتنة للحديث: ((يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له الشيطان في صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بني اتبعه فإنه ربك، فيأتي على القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم: فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم)) ( [19] ).
هـ- أن يهبه الله إمكانية القتل ودعوة المقتول إلى الاستواء فيستوي زيادة في الفتنة للحديث: ((ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين، ثم يقول له: قم فيستوي قائما)) ( [20] ).
و- ومكوثه في الأرض أربعون للحديث: ((قلنا: يا رسول الله وكم لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما)) ( [21] ).
ز- للنجاة منه: أن تقرأ فواتح سورة الكهف للحديث: ((فمن أدركه منكم فليقرأ عليه بفواتح الكهف فإنها جواركم من فتنته)) ( [22] ).
الدابة: قال تعالى: وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون [النمل:82]. وهي دابة عظيمة ورد في صفتها أقوال كثيرة، تخرج عند فساد الناس وأنها تسم الناس المؤمن والكافر فيبيض وجه المؤمن كأنه كوكب دري ويكتب بين عينيه مؤمن وتسم الكافر فيسود وجهه فيكتب بين عينيه كافر حتى أن المؤمن يقول: يا كافر أقضِ حقي. ويقول الكافر يا مؤمن أقضِ حقي ( [23] ).
طلوع الشمس من مغربها: للحديث: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا )) ( [24] ).
قال ابن عمر: فيذهب الناس فيتصدقون بالذهب الأحمر فلا يقبل منهم ويقال: لو كان بالأمس وقال ابن عباس: والغافلون في غفلتهم إذ نادى مناد ألا إن باب التوبة قد أغلق ( [25] ).
نزول عيسى بن مريم عليه السلام: للحديث: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية)) ( [26] ).
هلاك الدجال على يد المسيح عليه السلام للحديث: ((فيطلبه حتى يدركه بباب لُدّ فيقتله)) ( [27] ).
مكوثه أربعين سنة: للحديث: ((ينزل عيسى بن مريم فيمكث في الناس أربعين سنة)) ( [28] ). ((ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفن في الحجرة الشريفة فيكون قبره رابعا)) ( [29] ).
ج- يعيش الناس في خير عظيم وأمان يسع الجميع: قال ابن مسعود: يقول الرجل لغنمه ودوابه اذهبوا فارعوا وتمر الماشية بين الزروع لا تأكل منه سنبلة والحيات والعقارب لا تؤذي أحدا والسبع على أبواب الدور لا يؤذي أحدا ويأخذ الرجل المد من القمح فيبذره بلا حرث فيجيء منها سبعمائة مد.
يأجوج ومأجوج: قال تعالى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون [الأنبياء:96].
أ- خلق من ولد آدم يعيثون في الأرض فسادا، وقد بنى عليهم ذو القرنين سدا، قال تعالى: قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا وما زالوا يحفرون في السد حتى يخرقونه فيخرجون إلى الناس وعيسى عليه السلام يحدث المؤمنين عن منازلهم في الجنة: ((إذ أوحى الله إلى عيسى أنه قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس)) ( [30] ).
من إفسادهم أنهم يعملون القتل في الناس بل يتحدون من في السماء للحديث: ((فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيردها الله عليهم مخضوبة دما)) ( [31] ). وذلك للفتنة والبلاء.
ب- هلاكهم بالدود يرسل إليهم للحديث: ((فيرسل عليه النغف في رقابهم وفي رواية دودا كالنغف في أعناقهم (ويكون في أنوف الإبل والغنم) فيصبحون موتى كموت نفس واحدة لا يسمع لهم حس)) ( [32] ).
ج- غسيل الأرض من جيفهم وزهمهم للحديث: ((فيهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم أي شحمهم ونتنهم أي ريحهم من الجيف فيؤذون الناس بنتنهم فيرسل الله طيرا كأعناق البخت (نوع من الإبل طوال الأعناق) فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة (أي المرآه) )) ( [33] ).
د- البركة تعم الناس للحديث: ((ثم يقال للأرض: انبتي ثمرك، وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة (الجماعة) من الرمانة ويستظلون بقحفها)) ( [34] ).
7.خسف بالمشرق.
8.خسف بالمغرب.
9.خسف بجزيرة العرب.
ويذكر صاحب كتاب الإشاعة لأشراط الساعة أن الخسوفات قد وقعت، فالله أعلم ( [35] ).
10. نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم: للحديث: ((ستخرج نار من حضرموت، أو من بحر حضرموت، قبل القيامة تحشر الناس، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: عليكم بالشام)) ( [36] ).
وأما موقف المسلم منها:
أن تستشعر هول المطلع، وقرب اللقاء بجبار الأرض والسماء سبحانه، فلا تغتر بالدنيا الزائلة، والجاه الزائف، والملك الهاو، فإنما هي أحلام نائم، ولابد من يقظة، فإما إلى جنة وإما إلى نار:
والله لو عاش الفتى في دهره ألفاً من الأعوام مالك أمره
متنعما فيها بكل نفيسة أبدا ولا ترد إلهموم بباله
ما كان هذا كله في أن يفي بمبيت أول ليلة في قبره
أن تعدّ للأمر عدته، فلا تمضي منك الساعات والأيام والسنون وأنت لاه غافل مستغرق في الترهات والسفاسف، منصرفا عن إعداد الزاد ليوم التناد، تتنازعك الأهواء، ورغبات النفس الخاطئة الأمارة بالسوء، تستهويك مجالسة الفارغين في قتل الوقت بما لا يجديك يوم الحساب والدين، فاستيقظ من رقدتك وانتبه من غفلتك، فعلامة الخوف الحق إنما هو التبكير والتشمير للحديث: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا أن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة)) ( [37] ).
أن تكون حذرا من أن تكون مستغفلا فتدور بك الفتن، فتكون مؤيدا لفاجر استخف الدهماء بكلامه، ورفع شعار الإسلام بيد تقطر منها دماء المسلمين، وكم رأينا ممن حرم التوفيق والسداد فلم ينتفع بعمله أو كان الدرهم والدينار إلها له من دون الله فباع آخرته بدنيا غيره، ورضي بلعاعة من الدنيا لا تسمن ولا تغني من عذاب الله شيئا، والزم وصية رسول الله عند الفتن إذ يقول: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي)) ( [38] ).
فليس هي أبواب طاعة حتى تتعجل فاثبت وتريث ومحّص، واستشر أصحاب القلوب ومخافة الرحمن، واحذر علماء اللسان فإنهم جهال، وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه.
( [1] ) البخاري ومسلم.
( [2] ) أخرجه الترمذي.
( [3] ) أخرجه الترمذي.
( [4] ) أخرجه الترمذي.
( [5] ) أخرجه الترمذي.
( [6] ) أخرجه الترمذي.
( [7] ) الطبراني.
( [8] ) أخرجه البخاري.
( [9] ) البخاري.
( [10] ) أخرجه مسلم.
( [11] ) ابن أبي الدنيا.
( [12] ) البخاري.
( [13] ) رواه أبو داود.
( [14] ) أخرجه الترمذي.
( [15] ) رواه مسلم وأبو داود.
( [16] ) رواه مسلم.
( [17] ) رواه البخاري.
( [18] ) رواه مسلم.
( [19] ) رواه مسلم.
( [20] ) رواه مسلم.
( [21] ) رواه مسلم.
( [22] ) رواه مسلم.
( [23] ) الإشاعة في أشراط الساعة ص 175.
( [24] ) رواه البخاري.
( [25] ) أشراط الساعة ص 166.
( [26] ) البخاري ومسلم.
( [27] ) رواه مسلم.
( [28] ) الطبراني وابن عساكر.
( [29] ) البخاري في تاريخه.
( [30] ) رواه مسلم.
( [31] ) رواه مسلم.
( [32] ) رواه مسلم.
( [33] ) رواه مسلم.
( [34] ) رواه مسلم.
( [35] ) الإشاعة ص 49.
( [36] ) أخرجه الترمذي.
( [37] ) الترمذي وقال حديث حسن.
( [38] ) رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/371)
التخويف من الدَّين
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الديون والقروض
علي بن عبد الله النمي
الرياض
خبيب بن عدي رضي الله عنه
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة المسلم في دينه وعرضه وماله 2- التحذير من عاقبة الغلول 3- تحذير رسول الله
من الدّيْن بامتناعه عن الصلاة على المَدين 4- أمر المدين بحُسن الأداء 5- قصة في وفاء
الدّين 6- قصة أصحاب الغار 7- آداب للدّين 8- فضيلة التجاوز عن المُعسر 9- تفضيل
بعض أهل العلم القرض على الصدقة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا – عباد الله – من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى، واعلموا أنكم يوم الحشر مجموعون، وبين يدي الله – عز وجل – موقوفون وعن كل كبيرة وصغيرة مسؤولون.
و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:30].
معشر المسلمين: يقول الله – عز وجل -: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [البقرة:188].
إن كثيرا من الناس عظم بطنه، ونبت لحمه، بمال غيره، أكلها بالباطل.
إن استدان دينا جحده، وإن استقرض قرضا تظاهر أنه نسيه، فسبحان ربي!. كيف يهنأ بالطعام والشراب والمنام، من ذمته مشغولة.
عباد الله: يقول النبي – -: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) [1] رواه مسلم.
وفي الصحيحين عن أبي بكرة – -: أن النبي – - قال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم)) [2].
اتقوا الله – عباد الله – وأدوا ما في ذممكم من مال، ولو كان اقل من ريال ولو ثمن خبزة أو بيضة أو أقل من ذلك. فإن ميزان الله – عز وجل – يحصي مثاقيل الذر. وليس ثمت دينار ولا درهم. إنما هي الحسنات والسيئات وحقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة فقط، بل لابد من ردها إلى أهلها.
وأنت مسؤول عن صغيرها وكبيرها وقليلها وكثيرها، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، ولو كان يسيرا، قال – -: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري [3].
ولا تنتظر ممن أقرضك ماله أن يأتيك فيسألك حقه، فلربما منعه الحياء، أو وكل أمرك إلى الله – عز وجل -.
نامت عيونك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
وبعض الناس يتقال الذي في ذمته، ثم لا يؤديه، ولا يستسمح صاحبه، وهذا خطأ عظيم.
روى البخاري [4] ، عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: كان على ثقل رسول الله – - رجل يقال له (كركرة ) يعنى مولى لرسول الله – - فمات، فقال رسول الله – -: ((هو في النار)) ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها.
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: حدثني عمر قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا :فلان شهيد. فقال رسول الله : ((كلا إني رأيته في النار في بردة غلها، أو في عباءة غلها)) رواه مسلم [5].
وعن أبي هريرة - - قال: خرجنا مع رسول الله إلى خيبر ،ففتح الله علينا..قال: فلما نزلنا الوادي قام غلام – رسول الله – - يحل رحله فرمي بسهم فكان فيه حتفه فقلنا: هنيئا له قال رسول الله – -: ((كلا، والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم، لم تصبها المقاسم، قال: ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: أصبت يوم خيبر فقال رسول الله – - شراك من نار، أو شراكان من نار)) متفق عليه [6].
وعن زيد بن خالد- - أن رجلا من أصحاب النبي – - توفي يوم خيبر فذكروا لرسول الله – - فقال: ((صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا خرز من خرز يهود لا يساوي درهمين)) [7]. رواه أحمد وغيره.
وفي الصحيحين [8]. عن عائشة – رضي الله عنها – إن النبي – - قال: ((تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا)) ، فإذا كان الله – عز وجل – قطع عضوا من أهم الأعضاء عند الإنسان في ربع دينار فكيف يأمن الإنسان على نفسه وعقوبة الدين الذي في ذمته وإن قل.
فالدين أمره عظيم وخطره جسيم، يقول النبي – -: ((يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدًين)) رواه مسلم [9].
فإذا كان الدين لا يغفره الله لمن قتل في سبيله فكيف بمن هو دون ذلك وفي حديث أبي قتادة أن رجلا قال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله – -: ((نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر إلا الدين)) رواه مسلم [10].
وعن محمد بن جحش – - قال: كنا جلوسا عند رسول الله – - فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع راحته على جبهته، ثم قال: ((سبحان الله! ماذا نزل من التشديد؟ فسكتنا وفزعنا. فلما كان من العد سألته: يا رسول الله! ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال: والذي نفسي بيده، لو أن رجلا قتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قتل، ثم أحيي، ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه)) رواه احمد [11].
وقد امتنع رسول الله من الصلاة على من مات وعليه دين، كما روى سلمة بن الأكوع – - قال : كنا جلوسا عند النبي – - إذا أتي بجنازة، فقالوا: يا رسول الله صلي عليها، قال: ((هل ترك شيئا؟)) قالوا: لا، قال: ((فهل عليه دين؟)) قالوا: ثلاثة دنانير. قال: ((صلوا على صاحبكم)) قال أبو قتادة: صلي عليه يا رسول الله وعلي دينه، فصلى عليه)) رواه البخاري [12].
وفي رواية الحاكم في حديث جابر: فجعل رسول الله إذا لقي أبا قتادة يقول: ((ما صنعت الديناران [13] ؟ حتى كان آخر ذلك أن قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: الآن حين بردت عليه جلده)).
قال ابن حجر: وفي هذا الحديث أشعار لصعوبة أمر الدين وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة.
وفي المسند أن النبي – - قال: ((إن صاحبكم محبوس عن الجنة بدينه)) [14]. وعن أبي هريرة – - أن النبي – - قال: ((نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه)) [15].
ومن الأحاديث الدالة على خطورة الدين وشدته:
ما رواه أبو داود [16]. عن أبي موسى الأشعري – - عن رسول الله – - أنه قال: ((إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء)).
فهذه الأحاديث العظيمة القاطعة بعظم ذنب من مات وعليه دين كفيلة بردع كل قلب يشم رائحة الإيمان، ومحذرة كل التحذير أن يأخذ المسلم مال أخيه لا يريد أداءه، روى أبو هريرة – - أن النبي – - قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) [17].
وكيف تسمح للإنسان نفسه أن يجحد سلف أخيه، أو يماطله في ذلك، والمقرض فعل ذلك إحسانا وقربه، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [الرحمن:60].
يقول النبي – -: ((إنما جزاء السلف الحمد والأداء)) رواه النسائي [18].
وقال – -: ((خيار الناس أحسنهم قضاء)) متفق عليه [19].
وكان رسول الله – - يقضي الدائن بأكثر مما استدان منه، ويضاعف له الوفاء، ويدعو له، كما قال جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -: كان لي على النبي – - دين، فقضاني وزادني [20].
وقال عبد الله بن أبي ربيعة: استقرض مني النبي – - أربعين ألفا، فجاءه مال، فدفعه إلي، وقال: ((بارك الله تعالى في أهلك ومالك)) رواه النسائي [21].
فهذا هدى رسول الله – - في قضاء الدين. ولنا فيه أسوة حسنة كما قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [الأحزاب:21].
وأين نحن من ذلكم الرجل الذي قص لنا رسول الله – - خبره، عن أبي هريرة – - عن رسول الله – -: ((أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: أئتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا، قال فأتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم ألتمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، لم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك، وسألني شهيدا فقلت: كفى بالله شهيدا، فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي أسلفه، ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله مازلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي آتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدا)) رواه البخاري [22].
ما أعظمها من قصة جمعت بين الإحسان، وحسن الأداء، والأمانة والرضا بالله شهيدا وكفيلا.
فاقصص القصص لعلهم يتفكرون [الأعراف:176].
روى عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – حديث رسول الله – - في قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة. فذكر النبي- - توسلهم بأعمالهم الصالحة. فذكر قصة البار لوالديه (ففرج لهم فرجة) ثم قصة الرجل مع ابنة عمه (ففرج لهم فرجة) ثم ذكر قول الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله! أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون [23]. متفق عليه.
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجةً واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
عباد الله: يقول النبي – -: ((من جاء يوم القيامة بريئا من ثلاث، دخل الجنة: الكِبر، والغلول، والدين)) [24].
اللهم أنت الأول فلا شيء قبلك، وأنت الآخر فلا شيء بعدك، نعوذ بك من شر كل دابة ناصيتها بيدك، ونعوذ بك من الإثم، والكسل، ومن عذاب القبر، ومن فتنة الغنى، ومن فتنة الفقر، ونعوذ بك من المأثم والمغرم. آمين يا رب العالمين.
[1] مسلم (2564) من حديث ابي هريرة – -.
[2] البخاري :1/145، ومسلم :1679.
[3] تحت رقم : (2317) ، من حديث :أبي هريرة – -.
[4] تحت رقم : (2909).
[5] تحت رقم (114).
[6] البخاري (3993) ومسلم (115)، وأبو داود (2711) والنسائي (3858) والموطأ (25).
[7] احمد :5/192، وأبو داود :2710، والنسائي:1/278، وابن ماجة :2848، والبيهقي :9/101، والحاكم :2/127، وصححه ووافقه الذهبي.
[8] والبخاري :8/199، ومسلم :1684، وأبو داود : 4384، والترمذي : 1445، والنسائي :4922، وابن ماجة :2585، وأحمد ، 6/36، وغيرهم.
[9] تحت رقم : (1886) ،عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -.
[10] تحت رقم (1885)، والترمذي (1712)، والنسائي (6/34)، ومالك في الموطأ2/461.
[11] أحمد :5/289، والنسائي :4684، والطبراني في الكبير :19/248، والبيهقي في الكبرى :5/355، والبغوي في شرح السنة :2145، والحاكم :2/25 ، وصححه ووافقه الذهبي.
[12] تحت رقم : (2168).
[13] في حديث جابر: (ديناران ).
[14] احمد :5/20، وابو داود :3341، والنسائي :4689، والبخاري في التاريخ الكبير ، والحاكم :2/25، وصححه.
[15] احمد :2/440،والترمذي :1079، وابن ماجة :2413، والشافعي :2/226، الدارمي:2/262، والبغوي في شرح السنة :2148، وقال : حديث حسن ، والحاكم :2/27، وصححه على شرطهما ، ووافقه الذهبي.
[16] تحت رقم (3342).
[17] البخاري :3/152، احمد :2/361، ابن ماجة :2411، البيهقي :5/354، البغوي في شرح السنة :214.
[18] تحت رقم : (4683).
[19] البخاري :4/394، ومسلم :1600،وأبو داود :3347، والترمذي :1318، والنسائي :4621، وابن ماجة :2285.
[20] ابو داود :3347، والنسائي :4594.
[21] تحت رقم : (4683).
[22] تحت رقم : (2169)، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الاشراف :13630.
[23] البخاري :4/369، ومسلم :2743.
[24] احمد : 5/281، والترمذي :1573، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الاشراف : 2/140، وابن ماجة :2412، والبيهقي في الكبرى :5/355، والدارمي :2/262، وصححه ابن حبان : 198والإحسان ، والحاكم :2/62 ووافقه الذهبي ، من حديث ثوبان – -.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفيِّ ولا مودع، ولا مستغنى عنه ربنا.
أما بعد:
عباد الله: من استقرض منكم قرضا فليؤده، ولا يماطل صاحبه، فإن مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته ومن استقرض قرضا يريد أداءه، فإن الله عون له كما قال : ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)) [1].
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – -: ((من حمل من أمتي دينا ثم جهد في قضائه ثم مات قبل أن يقضيه فأنا وليه)) رواه أحمد [2].
وفي حديثها الآخر: ((ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عون)) رواه أحمد [3].
وإذا عجز أحدكم عن أداء ما عليه من دين في حينه، فليستسمح صاحبه فإنه أطيب لخاطره وأركد لباله.
ولا يبيت أحدكم وفي ذمته دين قليل كان أو كثيرا، إلا كتبه في وصيته.
لحديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – - قال: ((ما حق امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) متفق عليه [4].
ولا يذل أحدكم نفسه يستدين ثم يستدين حتى يعجز عن الأداء، وقد كان رسول الله – - يستعيذ من الدين.
وأيما رجل حل وفاء دينه، وكان على معسر يعجز سداده، فيحرم عليه مطالبته به حتى يجد ميسرة، كما قال تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وإن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون [البقرة:280].
وفي حديث بريدة – - قال: قال رسول الله – -: ((من أنظر معسرا كان له بكل يوم مثله صدقة )). قال: ثم سمعته يقول: ((من أنظر معسرا فله بكل يوم مثليه صدقة)). فقلت: يا رسول الله! إني سمعتك تقول: فله بكل يوم مثله صدقه، وقلت: الآن فله بكل يوم مثليه صدقة. فقال: ((أنه ما لم يحل الدين فله بكل يوم مثله صدقة، وإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة)) رواه أحمد [5].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة – - أن رسول الله – - قال: ((أن رجلا لم يعمل خيرا قط، وكان يداين الناس، وكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه)) [6].
واعلموا – عباد الله – أن فضل القرض عظيم، فوسعوا على إخوانكم، تلقوا ذلك عند ربكم.
وفي حديث فيه ضعف: ((الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر)) رواه ابن ماجة [7].
وبعض العلماء يفضل القرض على الصدقة؛ لأن الصدقة يأخذها المحتاج وغيره، أما القرض فلا يطلبه إلا من أحتاج إليه.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديْناً إلا قضيته...
[1] تقدم تخريجه.
[2] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/132): رواه أحمد ، وأبو يعلى ، والطبراني في الأوسط ، ورجال أحمد رجال الصحيح.
[3] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/132): رواه أحمد ، والطبراني في الاوسط ، ورجال أحمد رجال الصحيح ، إلا أن محمد بن علي بن الحسين لم يسمع من عائشة ، واسناد الطبراني متصل ، الا ان فيه سعيد بن الصلت ، عن هشام بن عروة ، ولم اجد الا واحدا يروي عن الصحابة فليس به ، والله اعلم. وصححه الحاكم :2/22.
[4] البخاري :5/264، ومسلم :1627.
[5] قال في الدر المنتور (2/114): أخرجه أحمد ، وابن ماجة ، والحاكم ، وصححه والبيهقي في شعب الايمان.
[6] البخاري :1972، ومسلم :1562، واحمد :2/361، والنسائي :7/318، الحاكم :2/28، وابو نعيم في الحلية :8/326، وابن حبان :5042[الاحسان)، والطيالسي :2514، والبغوي :2136، والبيهقي في الكبرى :5/356، والخطيب في تاريخ بغداد :5/170.
[7] تحت رقم :2431، وضعفه البوصيري في الزوائد:854.
(1/372)
الحساب
الإيمان
اليوم الآخر
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الحساب في اللغة والاصطلاح. 2- أهوال يوم القيامة. 3- محكمة العدل والرحمة
الإلهية في يوم القيامة:
أ- العدل الملطق. ب- الشهود. ج- المتهم. د- المحكمة والمحاكمة.
4- إعداد المسلم نفسه لهذا الحساب.
_________
الخطبة الأولى
_________
يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب [غافر:16].
يوم القيامة يوم جليل خطبه، عظيم خطره، بل هو اليوم الذي ليس قبله مثله ولا بعده مثله، والكل ظاهر ومكشوف فلا زيف ولا خداع ولا كذب ولا رتوش، وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أنه تعالى يطوي السماوات والأرض بيده، ثم يقول: أنا المالك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، ثم يجيب نفسه لله الواحد القهار)) ( [1] ) ، وذلك هو يوم الحساب ويوم الجزاء.
فما الحساب؟ وما هي صفته؟ وعلى ماذا يحاسب الله تعالى العباد؟ وما موقف المسلم؟
الحساب اصطلاحا: هو محكمة العدل الإلهية التي يقضي فيها رب العزة سبحانه بين خلقه وعباده وينبغي أن تعلم أن يوم القيامة:
يوم يجمع الله فيه الأولين، والآخرين للحساب: قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [الواقعة:50]. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه [آل عمران:9].
يوم تتكشف فيه الحقائق والأستار، فالكل مكشوف النفس والعمل والمصير: يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية [الحاقة:18].
يوم يشيب من هوله الوليد، وتذهل الأم الحنون عن طفلها، وتسقط فيه الحامل حملها يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [الحج:2]. وللحديث: ((ذلك يوم يقول الله لآدم: أخرج بعث النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة)) فأنشأ المسلمون يبكون ( [2] ).
وأما صفة الحساب: فلا بد لكل محكمة من حاكم يحكم ويقضي، وشهود يشهدون، ومتهم وأرض يقام عليها الحكم.
1- أما الحاكم: فهو الله جل جلاله، جبار الأرض والسماء، تباركت أسماؤه وعظمت صفاته الذي يعلم السر وأخفى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الخالق لكل شيء سبحانه وتعالى ويبدأ الأمر:
أ- بنفخ إسرافيل في الصور بأمر الله سبحانه فتصعق الخلائق كلها وتموت: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض [سورة الزمر:68].
ب- إحداث تغير عام في الكون فتنشق السماء وتتناثر النجوم وتتصادم الكواكب وتتفتت الأرض: إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت [التكوير:1-3]. كورت أي ظلمت، انكدرت: أي تناثرت، وسيرت: أي حركت وصارت كالهباء.
ج- ينفخ إسرافيل في الصور بأمر الله سبحانه فتقوم الخلائق للحشر: ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون [الزمر:68].
د- نزول عرش الرحمن جل جلاله: وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية [الحاقة:16-17]، أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة، وللحديث: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)) ( [3] ).
هـ- ثم يشرق على الأرض نور الحق جل جلاله: وأشرقت الأرض بنور ربها [الزمر:69]. أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء ( [4] ).
و- ثم مجي الحق سبحانه مجيئا يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه الكبير المتعال: كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر:21-22].
وأما صفة حكمه جل جلاله سبحانه:
1- العدل المطلق: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة: 807].
أ- فلا ظلم: ولا يظلم ربك أحدا [الكهف:49].
ب- ولا أنساب: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [المؤمنون:101]. أي لا تنفع الإنسان يومئذ قرابة ولا يرثي والد لولده يقول ابن مسعود : ((إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجئ ليأخذ حقه، قال: فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا)) ( [5] ).
ج- ولا رشوة لتغير صورة الحكم، فالحاكم هو الغني المتعال والكل مفتقر إليه سبحانه: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [فاطر:15].
ح- ولا تهديد ولا ضغوط: فالحاكم هو القوي سبحانه: إن القوة لله جميعا [البقرة:165]، إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدا [مريم :93]. فالكل ضعيف وعبد.
2- الشهود: وأما الشهود فهم كثير فلا مكان للإنكار والكذب والمراوغة
أ- وأعظمهم شهادة هو الله سبحانه الله جل جلاله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا [المجادلة:7].
ب- الرسل عليهم الصلاة والسلام ويشهد للرسل سيدنا وحبيبنا رسول الله للحديث: ((يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من أحد. فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، ثم أشهد لكم)) ( [6] ).
ج- الملائكة: إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:17]. يقول الحسن البصري رحمه الله: (يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا وقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك) ( [7] ).
د- الجوارح: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [فصلت:21]. وعن أنس قال: ((كنا عند النبي فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: من مخاطبة العبد ربه فيقول: يا رب ألم تجرني (تحفظني) من الظلم؟ يقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدا إلا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، والكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه ويقول لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكنّ وسحقا فعنكنّ كنت أناضل)) ( [8] ).
هـ- الأرض: يومئذ تحدث أخبارها [الزلزلة:4]. قرأ رسول الله هذه الآية: يومئذ تحدث أخبارها قال: ((أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمةٍ بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها)) ( [9] ).
ز- التسجيل الكامل كما ذكر بعض العلماء: لقوله تعالى: يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:7-8 ]. وتعرض الأعمال عرضا حيا ناطقا، فسيرى المرء عمله وهو يباشره ويا للفضيحة ( [10] ).
اللهم إنا نسألك ستر الدارين، اللهم إنا نعوذ بك من خزي الدنيا والآخرة، يا رب العالمين.
3- المتهم: هو الإنسان الذي خلقه الله بيده، وأسجد له الملائكة، وكرّمه على كثير ممن خلق، سخر الكون له، وأرسل له الرسل، وأنزل له الكتب، وجعل له واعظا من عند نفسه بالفطرة التي فطر الله الناس عليها على معرفته سبحانه وحذره من الشيطان وطاعته ثم يستقبل الإنسان ذلك كله بالسخرية: يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون [يس:30]. ويجعل من الشيطان ربا يعبده من دون الله: ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا (أي خلفا) كثيرا أفلم تكونوا تعقلون [يس :60-62]. ويمر بآيات الله الدالة عليه سبحانه معرضا: وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [يوسف:105]. يمن الله عليه بالنعم فيزداد طغيانا: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [الأعلى:6-7]. الإنسان الذي إذا أحاطت به الخطوب تذكر ربه وإذا كان في نعمة غفل وكفر وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون [النحل:53 – 54].
4- وأما أرض المحكمة: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار [إبراهيم:48]. وللحديث: ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد)) ( [11] ) وللحديث: ((أرض بيضاء لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها خطيئة)) ( [12] ).
فهي أرض أخرى غير أرضنا لم تطأها قدم من قبل، ولم تعمل عليها خطيئة، ولم يسفك عليها دم، أرض طاهرة من ذنوب بني آدم وظلمهم، طهر يتناسب وطهر القضاء. وأما على ماذا يحاسب الله تعالى العباد: فاعلم أن الحساب سوف يكون:
مشافهة: فكل عبد يعرض على ربه، ويتولى سبحانه حسابه بنفسه للحديث: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، ثم ينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمره)) ( [13] ).
والحساب إما أن يكون يسيرا: وذلك بأن يعرض على العبد عمله بحيث لا يطلع عليها أحد ثم يعفو عنه ويأمر به إلى الجنة للحديث: ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه (أي يستره ولا يفضحه) فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: أعملت كذا وكذا فيقول: نعم، فيقرره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى صحيفة حسناته)) ( [14] ).
وأما أن يكون الحساب عسيرا وذلك لمن كثرت معاصيه فذلك الذي يناقش الحساب ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة للحديث: ((ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أليس قد قال الله : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ؟ فقال رسول الله : إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)) ( [15] ). والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة.
والحساب يتناول كل شيء:
العمر والمال والجسم والعلم للحديث: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه)) ( [16] ).
عن النعم وشكرها: ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [التكاثر:8]. قال مجاهد: عن كل لذة من لذات الدنيا ( [17] ). وللحديث: ((إن أول ما يسأل عنه العبد من النعيم أن يقال: له ألم نصح لك بدنك، ونروك من الماء البارد)) ( [18] ).
3- عن الحواس واستعمالها: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا [الإسراء:36].
قال ابن عباس: يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم ( [19] ).
4- عن الفرائض من صلاة وزكاة: للحديث: ((إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة وآخر ما يبقى الصلاة، وأول ما يحاسب به الصلاة ويقول الله: انظروا في صلاة عبدي، قال: فإن كانت تامة كتب تامة، وإن كانت ناقصة يقول: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن وجد له تطوع تمت الفريضة من التطوع، ثم قال: انظروا: هل زكاته تامة؟ فإن كانت تامة كتبت تامة، وإن كانت ناقصة قال: انظروا هل له صدقة فإن كانت له صدقة تمت له زكاته)) ( [20] ).
5- عن الدماء والقتل: للحديث: ((أول ما يقضى بين بالناس يوم القيامة في الدماء)) ( [21] ) وللحديث: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركا أو يقتل مؤمنا متعمدا)) ( [22] ).
6- السؤال عن المسؤولية والأمانة: وقفوهم إنهم مسؤولون [الصافات:24]. للحديث: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والأمير راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده)) ( [23] ).
7- عن الكلمة: للحديث: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) ( [24] ). وللحديث: ((وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم)) ( [25] ).
و ما من كاتب إلا ستبقى كتابته وإن فنيت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
8- عن الحقوق والمظالم للحديث: ((يقول الله تعالى: أنا الديان، أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة)) ( [26] ).
وأما موقف المسلم من الحساب:
1/ حاسب نفسك قبل أن تحاسب: يقول عمر : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن ( [27] ).
2/ تحلل من الحقوق: للحديث: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحللن منها اليوم قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه دينار ولا درهم)) ( [28] ).
يقول أحد السف: رحم الله من إذا مات ماتت معه ذنوبه.
3/ لا تفسد عملك الصالح بالمظالم: للحديث: ((المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) ( [29] ).
4/ أمح السيئة بالحسنة: إن الحسنات يذهبن السيئات [هود:114]، وللحديث: ((اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) ( [30] ). وللحديث: ((إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها)) ( [31] ).
5/ استشعار رقابة الله عليك: ألم يعلم بأن الله يرى [العلق:14]. ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) ( [32] ).
6/ استحضار أهوال الآخرة والتفكر فيها: يقول الإمام الغزالي رحمه الله: ثم تفكر يا مسكين بعد هذه الأحوال فيما يتوجه عليك من السؤال شفاها من غير ترجمان فتسأل عن القليل والكثير والنقير والقطمير فبينما أنت في كرب القيامة وعرقها وشدة عظائمها إذ نزلت ملائكة من أرجاء السماء بأجسام عظام وأشخاص ضخام غلاظ شداد أمروا أن يأخذوا بنواصي المجرمين إلى موقف العرض على الجبار.
ثم تقبل الملائكة فينادون واحدا يا فلان بن فلان هلم إلى الموقف، وعند ذلك ترتعد الفرائص وتضطرب الجوارح وتبهت العقول ويتمنى أقوام أن يذهب بهم إلى النار ولا تعرض قبائح أعمالهم على الجبار، فتوهم نفسك يا مسكين وقد أخذت الملائكة بعضديك وأنت واقف بين يدي الله تعالى يسألك شفاها فكيف ترى حياءك وخجلتك وهو يعد عليك إنعامه ومعاصيك وأياديه ومساويك، فليت شعري بأي قدم تقف بين يديه وبأي لسان تجيب وبأي قلب تعقل وما تقول؟ ( [33] ).
( [1] ) البخاري.
( [2] ) الترمذي وأحمد.
( [3] ) أبو داود.
( [4] ) مختصر ابن كثير ج 3 ص 230.
( [5] ) مختصر ابن كثير ج2 ص 577.
( [6] ) البخاري والترمذي.
( [7] ) مختصر ابن كثير ج2 ص 367.
( [8] ) مسلم.
( [9] ) أحمد والترمذي والنسائي.
( [10] ) عقيدة المؤمن / الجزائري ص 290.
( [11] ) البخاري ومسلم.
( [12] ) البزار.
( [13] ) البخاري.
( [14] ) متفق عليه.
( [15] ) البخاري.
( [16] ) الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
( [17] ) مختصر ابن كثير ج3 ص 673.
( [18] ) الترمذي وابن حيان.
( [19] ) مختصر ابن كثير ج 3 ص 673.
( [20] ) رواه أبو يعلى.
( [21] ) البخاري ومسلم.
( [22] ) أبو داود وابن حيان.
( [23] ) متفق عليه.
( [24] ) متفق عليه.
( [25] ) متفق عليه.
( [26] ) أحمد بإسناد حسن.
( [27] ) مختصر ابن كثير ج3 ص543.
( [28] ) البخاري والترمذي.
( [29] ) مسلم.
( [30] ) الترمذي وقال حديث حسن.
( [31] ) أحمد.
( [32] ) البخاري ومسلم.
( [33] ) أحياء علوم الدين ج3 ص517-519.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/373)
القضاء والقدر
الإيمان
القضاء والقدر
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى القضاء والقدر. 2- مراتب القضاء والقدر (العلم - الكتابة - المشيئة - الايجاد).
3- الاحتجاج بالقدر على المعايب. 4-أنواع أقدار الله باعتباره قدرة الإنسان على التعامل معها.
5- كيف يؤمن المؤمن بالقضاء والقدر. 6- أثر الإيمان بالقضاء والقدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216].
سبحان من وسع علمه كل شيء، سبحان من جعل أمر المؤمن كله خير ولن يكون العبد مؤمنا حتى يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره، حلوه ومره.
فما الإيمان بالقضاء والقد؟ وما هي أنواع القدر؟ وما صفات المؤمن بقضاء الله وقدره؟ وما أثر الإيمان بالقضاء والقدر؟
أما القضاء لغة فهو: الحكم، والقدر: هو التقدير.
فالقدر: هو ما قدره الله سبحانه من أمور خلقه في علمه.
والقضاء: هو ما حكم به الله سبحانه من أمور خلقه وأوجده في الواقع.
وعلى هذا فالإيمان بالقضاء والقدر معناه: الإيمان بعلم الله الأزلي، والإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة سبحانه.
وينبغي أن تعلم :
أن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر أربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والإيجاد.
فالعلم: أن تؤمن بعلم الله سبحانه بالأشياء قبل كونها، قال تعالى: وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة [يونس:61].
والكتابة: أن تؤمن أنه سبحانه كتب ما علمه بعلمه القديم في اللوح المحفوظ، قال تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير [الحديد:22].
والمشيئة: أن تؤمن أن مشيئة الله شاملة فما من حركة ولا سكون في الأرض ولا في السماء إلا بمشيئته، قال تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله [الإنسان:30].
الإيجاد: أن تؤمن أن الله تعالى خالق كل شيء، قال تعالى: الله خالق كل شيء [الرعد:16].
لا يجوز لأحد أن يحتج بقدر الله ومشيئته على ما يرتكبه من معصية أو كفر، وقد أورد رب العزة ذلك في كتابه ورد عليهم فقال: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شي كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [الأنعام:148].
أي هل اطلع المدعي على علم الله فعلم أنه قد قدر له أن يفعل ففعل، علما أن قدر الله غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه فلا يصح أن يقول أحد : كتب الله علي أن أسرق فأنا ذاهب لتنفيذ قدره، فهل اطلع على اللوح المحفوظ فقرأ ما فيه.
إن على العبد المؤمن حقا أن ينفذ أوامر الله وأن يجتنب نواهيه وليس المطلوب أن يبحث عن كنه مشيئة الله وعلمه فذلك غيب ولا وسيلة إليه.
وعقولنا محدودة والبحث في ذلك تكلف لم نؤمر به، بل قد جاء النهي عنه. يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان. وفي الحديث: ((خرج علينا رسول الله ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: فكأنما تقفأ في وجهه حب الزمان من الغضب، فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم)) ( [1] ).
وأما أنواع الأقدار: فلقد قسم العلماء الأقدار التي تحيط بالعبد إلى ثلاثة أنواع :
الأول: نوع لا قدرة على دفعه أو رده ويدخل في ذلك نواميس الكون وقوانين الوجود، وما يجري على العبد من مصائب وما يتعلق بالرزق والأجل والصورة التي عليها وأن يولد لفلان دون فلان.
قال تعالى: والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم [يس:38]. كل نفس ذائقة الموت [آل عمران:185]. ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير [الحديد:22]. إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [الرعد:26]. إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [الأعراف:34]. في أي صورة ما شاء ركبك [الانفطار: 8].
ومن ثم فهذا النوع من الأقدار لا يحاسب عليه العبد لأنه خارج عن إرادته وقدرته في دفعه أو رده.
الثاني: نوع لا قدرة للعبد على إلغائه ولكن في إمكانه تخفيف حدته، وتوجيهه ويدخل في ذلك الغرائز والصحبة، والبيئة، والوراثة.
فالغريزة لا يمكن إلغاءها ولم نؤمر بذلك وإنما جاء الأمر بتوجيهها إلى الموضع الحلال، الذي أذن الشرع به وحث عليه وكتب بذلك الأجر للحديث: ((وفي بضع أحدكم أجر)) ( [2] ).
والصحبة لا بد منها فالإنسان مدني بطبعه، وإنما جاء الأمر بتوجيه هذا الطبع إلى ما ينفع: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:119].
والبيئة التي يولد فيها الإنسان ويعيش، لا يمكن اعتزالها ولم نؤمر بذلك وإنما يقع في القدرة التغير والانتقال إلى بيئة أكرم وأطهر، والرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا أوصاه العالم حتى تصح توبته أن يترك البيئة السيئة إلى بيئة أكرم فقال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن فيها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ( [3] ).
وهنا لا يكون الحساب على وجود ما ذكرناه من غريزة وصحبة وبيئة وإنما على كيفية تصريفها وتوجيهها.
الثالث: نوع للعبد القدرة على دفعها وردها، فهي أقدار متصلة بالأعمال الاختيارية والتكاليف الشرعية فهذه يتعلق بها ثواب وعقاب وتستطيع ويدخل في قدرتك الفعل وعدم الفعل معا، وتجد أنك مخير ابتداءً وانتهاءً.
فالصلاة والصيام باستطاعتك فعلها وعدم فعلها، فإذا أقمتها أثابك الله وإذا تركتها عاقبك، والبر بالوالدين باستطاعتك فعله بإكرامهما وباستطاعتك عدم فعله بإيذائهما.
وكذا يدخل في ذلك رد الأقدار بالأقدار.
فالجوع قدر وندفعه بقدر الطعام.
والمرض قدر ونرده بقدر التداوي، وقد قيل: ((يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها أترد من قدر الله شيئا؟ فقال رسول الله : هي من قدر الله)) ( [4] ).
وهذا النوع الثالث هو الذي يدخل دائرة الطاقة والاستطاعة، وهنا يكون الحساب حيث يكون السؤال: أعطيتك القدرة على الفعل وعدم الفعل، فلِمَ فعلت (في المعصية) ولِمَ لم تفعل (في الطاعة) كما يدخل الجانب الثاني من النوع الثاني في توجيه الأقدار كما ذكرنا في النوع السابق فانتبه.
وأما صفات المؤمن بقضاء الله وقدره: فهناك صفات لابد للمؤمن بقضاء الله وقدره منها:
أ- الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وذلك بأن الله سبحانه لا شيء مثله، قال تعالى: ليس كمثله شيء [الشورى:11]. لا في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته وقد قال العلماء: ما خطر ببالك فهو على خلاف ذلك فلا تشبيه ولا تعطيل، أي لا نشبه الله بأحد من خلقه ولا ننفي صفات الله تعالى.
ب- الإيمان بأن الله تعالى موصوف بالكمال في أسمائه وصفاته. وفسر ابن عباس قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر:28]. حيث قال: الذين يقولون: أن الله على كل شيء قدير.
ج- الحرص: وهو بذل الجهد واستفراغ الوسع وعدم الكسل والتواني في عمله.
د- على ما ينفع: حرص المؤمن يكون على ما ينفعه فإنه عبادة لله سبحانه.
هـ- الاستعانة بالله: لأن الحرص على ما ينفع لا يتم إلا بمعونته وتوفيقه وتسديده سبحانه.
و- عدم العجز: لأن العجز ينافي الحرص والاستعانة.
ز- فإن غلبه أمر فعليه أن يعلق نظره بالله وقدره والاطمئنان إلى مشيئة الله النافذة وقدرته الغالبة وأن الله سبحانه أعلم بما يصلحه، أحكم بما ينفعه، أرحم به من نفسه، وأن الله لا يقدر لعبده المؤمن إلا الخير.
وذلك مصداق قول النبي : ((المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان)) ( [5] ).
وأما أثر الإيمان بالقضاء والقدر: فإن الإيمان بالقضاء والقدر له آثار كريمة منها:
الأول: القوة: وذلك سر انتصار المسلمين في معاركهم مع أعداء الله، ومعظمها كانوا فيها قلة ولكنهم أقوياء بعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر حيث تربوا على قوله تعالى: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا [التوبة:51]، وللحديث: ((من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله)) ( [6] ).
يقول أبو بكر لخالد بن الوليد : (احرص على الموت توهب لك الحياة).
ويبعث خالد بن الوليد إلى رستم يقول له: (لقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة).
ثانيا: العزة: فالمؤمن عزيز بإيمانه بالله وقدره فلا يذل لأحد إلا لله سبحانه لأنه علم وتيقن أن النافع الضار هو الله، وأن الذي بيده ملكوت كل شيء هو الله.
وأنه لا شيء يحدث إلا بأمر الله: ألا له الخلق والأمر [الأعراف:54]. فالخلق خلقه، والأمر أمره، فهل بقي لأحد شيء بعد ذلك؟
ثالثا: الرضى والاطمئنان: فنفس المؤمنة راضية مطمئنة لعدل الله وحكمته ورحمته ويقول عمر : (والله لا أبالي على خير أصبحت أم على شر لأني لا أعلم ما هو الخير لي ولا ما هو الشر لي).
وعندما مات ولد للفضيل بن عياض رحمه الله: ضحك، فقيل له: أتضحك وقد مات ولدك؟ فقال: ألا أرضى بما رضيه الله لي.
وقد ميز الله بين المؤمنين والمنافقين في غزوة أحد، فالاطمئنان علامة، والقلق وسوء الظن بالله علامة النفاق، قال تعالى: ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية [آل عمران:154].
رابعا: التماسك وعدم الانهيار للمصيبة أو الحدث الجلل، قال تعالى: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم [التغابن:11]. قال علقمة رحمه الله: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وقال ابن عباس: (يهدي قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه).
فلطم الوجوه، وشق الجيوب، وضرب الفخذ، وإهمال العبد لنظافة الجسد، وانصرافه عن الطعام حتى يبلغ حد التلف، كل هذا منهي عنه ومناف لعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر.
ولله در الشاعر:
إذا ابتليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ما لأمرىً حيلة فيما قضى الله
اليأس يقطع أحيانا بصاحبه لا تيأسن فنعم القادر الله
خامسا: اليقين بأن العاقبة للمتقين: وهذا ما يجزم به قلب المؤمن بالله وقدره أن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا، وأن دوام الحال من المحال، وأن المصائب لا تعد إلا أن تكون سحابة صيف لابد أن تنقشع وأن ليل الظالم لابد أن يولي، وأن الحق لابد أن يظهر، لذا جاء النهي عن اليأس والقنوط: ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح إلا القوم الكافرون [يوسف:87]. لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [الطلاق:1]. كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز [المجادلة:21].
( [1] ) رواه أحمد.
( [2] ) مسلم.
( [3] ) رواه البخاري.
( [4] ) زاد المعاد ج3 ص36.
( [5] ) مسلم.
( [6] ) ابن أبي الدنيا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/374)
التقوى
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التقوى لغة واصطلاحاً. 2- التقوى مفتاح كل خير. 3- كيف يتحصل المؤمن على التقوى. 4- صور تتنافى مع التقوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [البقرة:197].
الزاد هو ما يأخذ المسافر معه من متاع، وكلنا في حال سفر إلى الله سبحانه وخير ما نتزود به لذلك اللقاء هي التقوى.
فما التقوى؟ ولماذا؟ وكيف يتقي العبد ربه؟ وما موقف المسلم منها؟
أما التقوى: لغة فهي مأخوذة من الوقاية وما يحمي به الإنسان رأسه.
اصطلاحا: أن تجعل بينك وبين ما حرّم الله حاجبا وحاجزا.
عرّف علي بن أبي طالب التقوى فقال: هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
وسأل عمر كعبا فقال له: ما التقوى؟ فقال كعب: يا أمير المؤمنين أما سلكت طريقا فيه شوك؟ قال: نعم. قال: فماذا فعلت؟ فقال عمر : أشمر عن ساقي، وانظر إلى مواضع قدمي وأقدم قدما وأؤخر أخرى مخافة أن تصيبني شوكة. فقال كعب: تلك هي التقوى.
تشمير للطاعة، ونظر في الحلال والحرام، وورع من الزلل، ومخافة وخشية من الكبير المتعال سبحانه.
وينبغي أن تعلم:
أنه ما من خير إلا وعلقه رب العزة سبحانه بالتقوى:
أ - تفريج الكروب: ومن يتق الله يجعل له مخرجا
ب - سعة في الرزق: ويرزقه من حيث لا يحتسب [الطلاق:2].
ج- قبول العمل: إنما يتقبل الله من المتقين [المائدة:27].
د- سداد في الرأي وتوفيق في النظر: إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [الأنفال:29].
هـ- حسن العاقبة: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [يوسف:90].
والتقوى محلها القلب للحديث: ((التقوى ههنا التقوى ههنا ويشير إلى صدره )) ( [1] ).
فليست التقوى مظهرا يكون عليه العبد للحديث: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) ( [2] ).
وأما لماذا التقوى؟: فلا بد من التقوى:
لأن التقوى هي منبع الفضائل كلها فالرحمة والوفاء والصدق والعدل والورع والبذل والعطاء كلها ثمرات من ثمار شجرة التقوى إذا أينعت في قلب المؤمن.
لأن التقوى هي التي تصحبك إلى قبرك فهي المؤنس لك من الوحشة والمنجية لك من عذاب الله العظيم: (دخل علي المقبرة فقال: يا أهل القبور ما الخبر عندكم: إن الخبر عندنا أن أموالكم قد قسمت وأن بيوتكم قد سكنت وإن زوجاتكم قد زوجت، ثم بكى ثم قال: والله لو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا: إنا وجدنا أن خير الزاد التقوى).
التقوى هي خير ضمانة تحفظ بها ولدك ومستقبل أبنائك من بعدك:
قال تعالى: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا [النساء:9].
وتأمل كيف أن الله سبحانه سخر نبيا هو موسى عليه السلام ووليا هو الخضر عليه السلام لإقامة جدار في قرية بخيلة فاعترض موسى عليه السلام: قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا [الكهف:78]. ثم يخبر الخضر عليه السلام سبب فعله بالغيب الذي أطلعه الله عليه في هذا الأمر فيقول: وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا [الكهف:82]. وقال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما وتقدم إنه كان الأب السابع والله أعلم ( [3] ).
وأما كيف يتقي العبد ربه؟:
في عقلك وفهمك:
أ- الانقياد لشرع الله سبحانه قال تعالى: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم [الحجرات:1]. قال ابن عباس: (نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه) ( [4] ).
ب، التسليم لقضاء الله وقدره: وذلك بأن يعتقد عند المصيبة أمرين لا غنى للمسلم عنهما الأول: أنه ملك لمالك: فنحن مملوكون لله سبحانه: إنا لله وإنا إليه راجعون [البقرة:156]. قل اللهم مالك الملك [آل عمران:26]. ألا له الخلق والأمر [الأعراف:54].
الثاني: إن هذا المالك - وهو الله سبحانه - حكيم في أفعاله فلا يصدر عنه سبحانه إلا ما هو مبني على العلم والحكمة والخير قال تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216].
يقول عمر : (والله لا أبالي على خير أصبحت أم على شر لأني لا أعلم ما هو الخير لي ولا ما هو الشر لي).
ج- التأمل والنظر في بديع صنع الحق سبحانه: وأنكر رب العزة سبحانه على الذين يمرون بآيات الله ولا يعتبرون فقال: وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [يوسف:105].
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
في قلبك :
فلا غل ولا حسد: وقيل لرسول الله : ((أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان. قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)) ( [5] ).
ولا كبر ولا عجب للحديث: ((لا يدخل الجنة إنسان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)) ( [6] ).
في تعاملك: فلا غش ولا خداع ولا كذب: لقول النبي : ((من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار)) ( [7] ).
أو أن يستخدم اسم الله العظيم لترويج بضاعته للحديث: ((الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة)) ( [8] ).
أو أن يكتم عيبا للحديث: ((من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت الله ولم تزل الملائكة تلعنه)) ( [9] ).
أو يستخدم الرشوة لتيسير أمره في أمر لا يحق له للحديث: ((لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش)) يعني الذي يمشي بينهما ( [10] ).
في مطعمك وشربك: فلا يدخل جوفك الحرام، وإذا أكل العبد الحرام فلا تقبل منه طاعة للحديث: ((وإذا خرج الحاج حاجا بنفقة خبيثة (أي حرام) ووضع رجله في الغرز ونادى: لبيك اللهم لبيك ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك زادك حرام وراحلتك حرام وحجك مأزور غير مبرور)) ( [11] ).
في جوارحك في لسانك: قال عقبة بن عامر: ((يا رسول الله ما النجاة؟ فقال: أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك)) ( [12] ).
في بصرك: قال تعالى: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [غافر:9]. قال ابن عباس: (هو الرجل يكون مع القوم فإذا مرت المرأة بهم نظر إليها إذا غفلوا عنه، وإذا فطنوا غض بصره وقد اطلع الله على ما في قلبه أنه يود أن يرى عورتها)، وللحديث: ((والعينان تزنيان)) ( [13] ).
في رحمك: للحديث: ((يقول الله عز وجل: أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته)) ( [14] ).
في أهلك: فلا ظلم أو سوء عشرة للحديث: ((إن الرجل ليكتب عند الله جبارا وليس عنده إلا أهل بيته)) ( [15] ).
ولا بخل في الإنفاق للحديث: ((كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته)) ( [16] ).
وأن يعدل بين نسائه إن كانوا أكثر من واحدة للحديث: ((من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)) ( [17] ).
وأما موقف المسلم من التقوى:
أن تسأل الله أن يجعلك من المتقين للحديث: ((اللهم إني أسلك الهدى والتقى والعفاف والغنى)) ( [18] ).
مغالبة النفس بالعمل الصالح للحديث: ((اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)) ( [19] ).
( [1] ) مسلم.
( [2] ) مسلم.
( [3] ) مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 432.
( [4] ) مختصر ابن كثير ص357.
( [5] ) ابن ماجة بإسناد صحيح.
( [6] ) رواه أحمد ورواته رواه الصحيح.
( [7] ) الطبراني.
( [8] ) البخاري.
( [9] ) ابن ماجة.
( [10] ) أحمد والبزار.
( [11] ) الطبراني.
( [12] ) الترمذي.
( [13] ) أحمد والبزار.
( [14] ) أبو داود والترمذي.
( [15] ) ابن حيان.
( [16] ) مسلم.
( [17] ) أصحاب السنن وابن حبان.
( [18] ) مسلم.
( [19] ) الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/375)
الذكر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معاني الذكر. 2- الكون يسبح الله. 3- المحبة بين الله وخلقه. 4- فضائل الذكر.
5- مواطن الذكر. 6- موقف العبد من الذكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [الأحزاب:42]. وفضائل الذكر كثيرة.
فما الذكر؟، وما فضائله؟، وما مواطن ذكر العبد لربه؟، وما موقف المسلم منه؟
أما الذكر: فللذكر معنيان:
أ- عام: كل ما يتقرب به العبد لربه فهو ذكر لله عز وجل، فجوارح العبد لم تتحرك للطاعة إلا وذكر الله تعالى قد ساقها.
ب- خاص: هو ما يجري على اللسان والقلب من تسبيح وتنزيه وحمد وثناء على الله عز وجل.
وينبغي أن تعلم :
1- أن الوجود كله ذاكر لله مسبح له، قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [الإسراء:44].
أ- الجماد: قول النبي : ((هذا جمدان (اسم جبل) سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرت)) ( [1] ).
ب- الحيوان: قول النبي : ((فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه)) ( [2] ).
ج- الطير: قال تعالى: ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير [سبأ:10]. أوّبي: أي سبحي، والتأويب الترجيع فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها.
2-أن الصلة بين الله وأوليائه صلة ود ومحبة: قال تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا [مريم:96] وقال تعالى: والذين آمنوا أشد حبا لله [البقرة:165].
وقال تعالى: يحبهم ويحبونه [المائدة:54].
والمحب الصادق في حبه لا يحتاج إلى من يذكره بحبيبه وإلا فهي دعوى تحتاج إلى دليل ودليلها هو الذكر الدائم الممزوج بالفرح واللذة التي لا يعلمها إلا من ذاقها. يقول أحد السلف: لو يعلم أبناء الملوك ما نحن فيه من لذة لقاتلونا عليها.
وكيف لا يذكر العبد ربه وهو سبحانه:
مصدر كل نعمة: قال تعالى: وما بكم من نعمة فمن الله [النحل:53].
وقال تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [إبراهيم:34].
والقلب إنما ينخلع إلى الله وحده عند المصيبة: قال تعالى: ثم إذا مسّكم الضر فإليه تجئرون [النحل:53].
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من خزائن ملكه في قول كن يا من إليه المشتكى والمفزع
وأما فضائل الذكر: فإن للذكر فضائل كثيرة منها :
لا طمأنينة للقلب إلا به، قال تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب [الرعد:28].
يستدرك العبد بالذكر تقصيره للحديث: ((أن رجلا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبروني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطبا بذكر الله)) ( [3] ).
3- مطردة للشيطان ووساوسه: للحديث: ((إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس، وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس)) ( [4] ).
4- مغفرة للذنوب: فعن أنس : ((أن رسول الله أخذ غصنا فنفضه فلم ينتفض ثم نفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فانتفض، فقال رسول الله : إن سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها)) ( [5] ).
5- غراس وبناء: عن ابن مسعود ، قال: قال رسول الله : ((لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى بي، فقال يا محمد: أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان (أي مستوية منبسطة) وأن غراسها سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر)) ( [6] ).
6- الحصن الحصين من الآفات والأمراض والشرور: للحديث: ((من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، لم يصبه ذلك البلاء)) ( [7] ).
7- معية الله ورحمته وتوفيقه لذاكره سبحانه: للحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي وأن معه إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) ( [8] ).
8- سبب للنجاة من عذاب الله: للحديث: ((ما عمل آدمي قط أنجى له من عذاب الله من ذكر عز وجل)) ( [9] ).
وأما مواطن ذكر العبد لربه: فالأصل أن ذكر الله عز وجل في كل حين يكون للحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله يذكر الله عز وجل على كل أحيانه)) ( [10] ) والذي نريد أن نؤكد جانب الذكر فيه، هي المواطن العملية التي تغفل فيها القلوب، ومن هذه المواطن:
1- عند النعمة: قال تعالى: وبنعمة الله هم يكفرون [النحل:72]. قال ابن كثير: أي يسترونها ويضيفونها إلى غير الله تعالى.
كحال قارون عندما نسب النعمة إليه، قال تعالى عنه إنما أوتيته على علم عندي [القصص:78]. فكانت عاقبته: فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [القصص:81].
ثم تأمل موقف نبي الله سليمان عليه السلام وقد رأى عظيم فضل الله عليه وما سخره له، قال تعالى: فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر [النمل:40].
وذكر العبد لربه عند النعمة يكون بألا يرد سائلا ولا ينهر يتيما، قال تعالى: فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث [الضحى:8-11].
2- وعند القوة: فلا تتعاظم في نفسك وأنت الضعيف أولك نطفة قذرة وآخرك جيفة مذرة، وأنت ما بينهما تحمل العذرة.
تذكر قدرة الله عليك إذا دعتك نفسك إلى الظلم فذكر الله تعالى تثاب عليه وتأمل في موقف رسول الله يوم فتح مكة وكلمة من رسول الله تطيح برؤوس الذين آذوه وقتلوا أصحابه وصدوا عن سبيل الله سنين طوال ولم يتركوا وسيلة أو أسلوبا إلا واستخدموه، ((وقف المصطفى ونادى في أهل مكة: ما تظنون أني فاعل بكم، قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء)) ( [11] ).
ورأى النبي أبا مسعود وهو يضرب غلاما له، فقال: ((يا أبا مسعود اتق من هو أقدر عليك منك عليه، يقول أبو مسعود: فالتفت فإذا رسول الله غاضب، فقلت: هو حر لوجه الله يا رسول الله، فقال: عليه الصلاة والسلام: والله لو لم تقلها لمستك النار)) ( [12] ).
3- وعند المصيبة: فلا تنسينك أنك عبد مملوك لمالك هو الله جل جلاله وأنه سبحانه حكيم، فعليك بلزوم الأدب عند المصيبة في:
أ- عقلك: بأن تحسن الظن بربك: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216].
ب- في لسانك: فلا تنطق إلا بالحمد والإقرار بأنك ملك لله سبحانه وأن المرجع إليه لا إلى سواه: الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون [البقرة:156].
ج- وفي جوارحك: فلا شق ولا لطم: ((ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) ( [13] ).
فلزوم العبد الأدب عند المصيبة ذكر لله عز وجل.
4- عند الشهوة: فلا تطغى شهواتك على دينك وعقلك، فلا تستطيع كبح جماح نفسك عن الحرام للحديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...، - ومنهم - رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)) ( [14] ).
فإذا ملك العبد زمام نفسه فقد ذكر ربه فهذا يوسف عليه السلام وقد اجتمعت الدواعي الكثيرة لإتيانه الفاحشة فقال: معاذ الله [يوسف:23].
5- وعند بيعك وشرائك: فلا يقودك جشعك إلى الحرام وعدم المبالاة بمشروعية كسبك أو حرمته للحديث: ((كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به)) ( [15] ).
فحذرك ألا يدخل جوفك الحرام هو ذكر لله عز وجل تثاب عليه.
وأما موقف العبد من الذكر:
فإن للذكر آدابا ينبغي على العبد أن يلتزم بها عند الذكر ومن ذلك:
انتهاء الجوارح عن الفواحش: ذلك لأن المقصود من الذكر تزكية الأنفس وتطهير القلوب وإيقاظ الضمائر قال تعالى: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [العنكبوت:45].
وسأل مكحول ابن عمر عن قوله تعالى: فاذكروني أذكركم [البقرة:152]. فكيف بالزاني والفاسق إذا ذكر ربه؟ فقال ابن عمر : إن الزاني والفاسق إذا ذكر ربه ذكره الله بلعنته حتى يسكت.
وعائشة رضي الله عنها تقول: (رب قاري للقرآن والقرآن يلعنه) فإذا ذكر آية فيها اللعنة على الكافرين أو الظالمين أو الكاذبين وهو كذلك فقد لعن نفسه.
الخشوع والتأديب: قال تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [الأنفال:2]. حيث يستشعر عظمة رب العزة والجلال الذي بيده ملكوت كل شيء، والذي يقول للشيء كن فيكون، خالق الخلق أجمعين، يستشعر تقصيره وتفريطه وغفلته وذنوبه وهو العبد الحقير للحديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... - ومنهم- ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه بالدموع)) ( [16] ).
انخفاض الصوت مخافة وطعما: قال تعالى: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين [الأعراف:205].
حيث يستشعر العبد قرب ربه منه، وسماعه سبحانه، وعلمه فهو سبحانه: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [غافر:19].
فإنما هي مناجاة، وخفقات قلوب، ممزوجة بدموع الانكسار والندم.
لزوم المأثور فإنه أنفع وأبلغ: فأدعية وأذكار المصطفى إنما هي مفاتيح لخزائن رحمه الله، والإتيان بالمفتاح المناسب للباب المعلوم أيسر في حصول المراد.
( [1] ) رواه مسلم.
( [2] ) رواه أحمد.
( [3] ) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
( [4] ) الحافظ أبو يعلى / تفسير ابن كثير مجلد 4 ص58.
( [5] ) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
( [6] ) رواه الترمذي والطبراني في الأوسط.
( [7] ) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
( [8] ) رواه البخاري ومسلم.
( [9] ) رواه أحمد.
( [10] ) مسلم أبو داود والترمذي.
( [11] ) تهذيب سيرة ابن هشام 292.
( [12] ) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
( [13] ) البخاري.
( [14] ) متفق عليه.
( [15] ) الترمذي.
( [16] ) متفق عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/376)
وفاة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
علي بن عبد الله النمي
الرياض
خبيب بن عدي رضي الله عنه
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وفاة نبينا أعظم مصيبة يصاب بها المسلم 2- حَنين الجذع إلى النبي حال حياته
3- مرض النبي صلى الله عليه وسلم 4- ملك الموت يستأذن رسول الله في قبض روحه
5- وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 6- اضطراب الصحابة بعد وفاته
7- مكر اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أمة الإسلام: لقد كانت وفاة النبي – - مصيبة حلت بكل مسلم.
وللمصائب سلوان يهونها وما لما حل بالإسلام سلوان
روي عن النبي – - أنه قال: ((أن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد من مصيبتي)) يعني مصيبته بموتي، رواه ابن ماجة [1].
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها فاذكر مصابك بالنبي محمد
نعم أيها الإخوة إذاً! كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة رسول الله – - فكيف بقلوب المؤمنين؟!.
لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه النبي – - قبل اتخاذ المنبر حنَّ إليه، وصاح كما يصيح الصغير حتى تصدع وانشق، فنزل النبي – - من على المنبر فاعتنقه، فجعل يهدؤه كما يهدئ الصبي، وقال: ((لو لم أعتنقه لحنّ إلى يوم القيامة)) [2].
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
كان الحسن إذا حدث بهذا بكى، وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله – - فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
جعل النبي – - في آخر عمره يعرض باقتراب أجله. فإنه لما خطب في حجة الوداع، قال للناس: ((خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) [3]. وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع.
ولما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس فخطبهم وقال: ((أيها الناس: إنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب)) [4].
وعن أبي سعيد الخدري – - قال: خرج رسول الله في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس، فقام على المنبر فقال: ((إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها، فاختار الآخرة))، فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر – - فقال: بأبي وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا يا رسول الله. ثم هبط رسول الله من على المنبر، فما رئي عليه حتى الساعة)) [5].
ورأى العباس بن عبد المطلب – - عم النبي – - في المنام كأن الأرض تنزع إلى السماء بأشطان [6] شداد – يعني حبال – فقصها على رسول الله – - فقال: ((ذاك وفاة ابن أخيك)) رواه الطبراني [7].
كل هذا توطئه لوفاة النبي – -. بدأ المرض برسول الله – - في أواخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما أو قريبا من ذلك. وكان أول ما ابتدئ به رسول الله – - من مرضه وجع رأسه، وكان صداع الرأس يعتريه كثيرا في حياته، ويتألم منه أياما. وفي مرضه اشتدت عليه الحمى، فكان يجلس في مخضب، ويصب عليه الماء من سبع قرب، يتبرد بذلك.
وكان عليه قطيفة، فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده على القطيفة، ومن شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه، ثم يفيق.
قالت عائشة – رضي الله عنها – ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول الله – - [8].
واشتد عليه الوجع ليلة الاثنين، وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول: ((اللهم أعني على سكرات الموت)). قالت عائشة رضي الله عنها: وكان يقول: ((لا إله إلا الله، وإن للموت لسكرات)) [9].
وفي حديث معضل أنه قال: ((اللهم أعني على الموت وهونه عليّ)) [10].
لما ثقل النبي – - جعل يتغشاه الكرب، قالت فاطمة – رضي الله عنهما-: واكرب أبتاه! فقال لها: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم)) [11].
ولم يقبض رسول الله- - حتى خير بين الدنيا والآخرة، غشي عليه ساعة، وهو على فخذ عائشة – رضي الله عنها – وكانت تنظر إليه متحيرة حبيبها بين يديها يموت، ولا تملك له نفعا، ولا تدفع عنه ضرا. ثم أفاق، فاشخص بصره إلى سقف البيت، ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى)) [12]. فاختار لقاء ربه. وأصابته بحة شديدة، وقال: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً [النساء:69]. اختار رسول الله – - الآخرة على الدنيا، وأحب لقاء ربه.
والله لو أنك توجتني بتاج كسرى ملك المشرق
وقلت لي: لا نلتقي ساعة اخترت يا مولاي أن نلتقي
قال عبد الله بن مسعود – -: نعي إلينا حبيبنا ونبينا – بأبي هو ونفسي له الفداء – قبل موته بست، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت آمنا عائشة – رضي الله عنها – فنظر إلينا فدمعت عيناه. رواه البزار [13].
حق والله لتلك العينين أن تدمع، إنها صعوبة الفراق والنأي عن الأحباب.
ومدت أكف للوداع تصافحت وكادت عيون للفراق تسيل
وفي أيامه الأخيرة وقد عصبت رأسه قال للفضل: خذ بيدي فأخذ الفضل بيد النبي حتى انتهى إلى المنبر ثم قال للفضل: صح في الناس فلما اجتمعوا، حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ((يا أيها الناس إني قد دنا مني أجلي فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ألا ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، لا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله – - ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حق إن كان له، أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس ألا وإني لا أرى ذلك مغنيا عني حتى أقوم فيكم مرارا)) رواه الطبراني [14].
وكانت وفاته – - في يوم الاثنين ثاني عشر من شهر ربيع الأول.
وكان قد كشف الستر في ذلك اليوم والناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر، فهم المسلمون أن يفتتنوا من فرحهم برؤيته حين نظروا إلى وجهه كأنه ورقة مصحب، وظنوا أنه يخرج للصلاة، وأنه شفي من مرضه، جعل النبي – - ينظر إليهم وهم ينظرون إليه.
إنها النظرات الأخيرة، نظرة الوداع.
هممت بتوديع الحبيب فلم أطق فودعته بالقلب والعين تدمع
فأشار إليهم النبي – - أن مكانكم ثم أرخى الستر وتوفي رسول الله – - حين اشتد الضحى من يوم الاثنين.
وروي أن ملك الموت استأذن النبي – - في قبض روحه، فقال: ((امضِ لما أمرت به)) فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله! هذا آخر موطئي من الأرض وجاءت التعزية يسمعون الصوت ولا يرون الشخص كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [آل عمران:185]. إن في الله عزاء من كل مصيبة.
وكانت وفاته – - في يوم الاثنين، في شهر ربيع الأول بغير خلاف، والمشهور أنه كان ثاني عشر ربيع الأول.
ولما توفي رسول الله – - اضطرب المسلمون؛ فمنهم من دهش فخولط؛ ومنهم من أقعد فلم يطق القيام؛ ومنهم من أعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية من شدة وجده عليه.
بلغ أبا بكر الصديق – - الخبر، فأقبل مسرعا حتى دخل بيت عائشة – رضي الله عنها – ورسول الله – - مسجى، فكشف أبو بكر عن وجه رسول الله – - وأكب عليه، وقبل وجهه مرارا وهو يبكي، ويقول: وانبياه! واخليلاه! واصفياه!.
إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله رسول الله.
فلو أن رب العرش أبقاك بيننا سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
ودفن رسول الله – - ورجع أصحابه بعد دفنه.
لئن رجعت عنك أجسامنا لقد سافرت معك الأنفس
فقالت فاطمة – رضي الله عنها -: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله – - التراب ؟ [15].
لبيك رسول الله من كان باكيا فلا تنس قبرا بالمدينة ثاويا
جزى الله عنا كل خير محمدا فقد كان مهديا وقد كان هاديا
وكان رسول الله روحا ورحمة ونورا وبرهانا من الله باديا
وكان رسول الله بالقسط قائما وكان لما استرعاه مولاه راعيا
وكان رسول الله يدعو إلى الهدى فلبى رسول الله لبيه داعيا
أينسى رسول الله أبر الناس كلهم وأكرمهم بيتا وشعبا وواديا
أينسى رسول الله أكرم من مشى وآثاره بالمسجدين كما هيا
تكدر من بعد النبي محمد عليه سلام كل ما كان صافيا
وبعد موت النبي – - دخل أبو بكر المسجد، وعمر يكلم الناس، وهم مجتمعون عنده، وهو يقول من شدة وجده على النبي – -: إن محمدا لم يمت. فتكلم أبو بكر، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر. فقال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، وتلا:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [آل عمران:144].
فاستيقن الناس بموت النبي – - وكأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل، فتلقاها الناس، وجعلوا يتلونها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] رقم (1599)، ضفعه البوصيري في الزوائد (578) وعزاه لابي يعلى الموصلي في مسنده.
[2] أحمد (1/249)، وابن ماجة (1415)، والدارمي (1/19) ، والطبراني (12/187)، غيرهم. وصححه ابن كثير وانظر طرقه عنده في البداية : 6/131 فما بعد وكذا الالكائي : 4/797. وقال البوصيري في الزوائد (500): اسناد صحيح رجاله ثقات. وعزاه لاحمد بن منيع في مسنده وعبد بن حميد والحارث ابن ابي اسامة. وانظر رقم (501).
[3] جزء من حديث جابر الطويل رواه مسلم (1297).
[4] مسلم (2408).
[5] أحمد (3/91) ، وابن حبان (593)، الإحسان ، وابو يعلى (1155)، والدارمي (87) وانظر صحيح البخاري (3904)، ومسلم (2382).
[6] الشطن :الحبل.
[7] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/24): رواه البزار الطبراني ورجالهما ثقات.
[8] البخاري (5646)، ومسلم (2570)والنسائي وابن ماجة كما في تحفة الأشراف :12/307.
[9] انظر جامع الاصول لابن الاثير الجزري :11/64.
[10] قال العراقي في تخريج للإحياء(3930) : رواه ابن ابي الدنيا في كتاب الموت من حديث طعمة بن غيلان الجعفي وهو معضل سقط منه الصحابي والتابعي.
[11] البخاري (4462)، وابن ماجة (1629)، والدارمي :1/41، من حديث أنس – -.
[12] البخاري (4437)، ومسلم (2444)،واحمد:6/89.
[13] انظر قول البزار فيه في مجمع الزوائد :9/25، قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي وهو ثقة. رواه الطبراني في الاوسط بنحوه.
[14] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/26): رواه الطبراني في الكبير والاوسط وأبو يعلى بنحوه... وفي إسناد أبي يعلى عطاء بن مسلم، وثقه ابن حبان وغيره وضعفه جماعة ، وبقية رجال أبي يعلى ثقات وفي إسناد الطبراني من لم اعرفهم. اما قصة القضيب والقصاص من رسول الله – - فباطل. انظر مجمع الزوائد للهيثمي (9/31) قال : رواه الطبراني وفيه عبد المنعم بن ادريس وهو كذاب وضاع.
[15] البخاري (4462)، وابن ماجة (1629)، والدارمي :1/41 ، من حديث أنس – -.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أمة الإسلام: إن حبيبكم ونبيكم محمدا – - مات شهيداً قتيلا مسموما.
قتله وسمّه تلك الأمة المغضوب عليها (اليهود) أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل قتلة الأنبياء وأكلة السحت، أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية وأبعدهم من الرحمة وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء وديدنهم العداوة والشحناء بيت السحر والكذب والحيل، لا يرعون لنبي حرمة ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
لما كان يوم خيبر أهدت امرأة يهودية للنبي – - شاة مسمومة فأكل منها فجعل السم يثور عليه أحيانا.
وفي صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان النبي – - يقول في مرض موته: ((لا أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)) [1].
والأبهر: عرق في الظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه.
وجعل الله موت نبيه على يد اليهود لننابذهم العداوة.
أساجلك العداوة ما بقينا وإن متنا نورثها البنينا
إنا برءاؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده [سورة الممتحنة:4].
أمة الإسلام: إن اليهود قتلوا عددا من الأنبياء والأصفياء، وتواتر غدرهم ونقضهم للمواثيق، ومن الأمثلة على ذلك ما حصل من يهود بني قينقاع، كان بينهم وبين النبي – - عهد إلا أنهم نقضوا عهدهم بإعتدائهم على امرأة مسلمة حين دخلت سوق بني قينقاع، وجاءت إلى صائغ يهودي لعلها تشتري منه حليا، فعمد الصائغ اليهودي إلى طرف ثوبها من خلف، وعقده إلى ظهرها، وهي جالسة دون أن تشعر، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحك اليهود وسخروا بها، فصاحت المرأة واستغاثت بالمسلمين لشرفها المهان، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله فشدت اليهود على المسلم فقتلوه وقامت الحرب بين المسلمين واليهود.
فأجلى النبي – - يهو بني قينقاع من المدينة.
وهكذا يهود بني النضير حين أتاهم النبي – - في نفر من أصحابه وقعد إلى جنب جدار.
قال اليهود: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل يعلوا على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه. فلما صعد أحدهم ليلقي على رسول الله – - الصخرة، نزل الوحي على رسول الله – - وأخبره بغدر اليهود.
فرجع النبي – - إلى المدينة وجهز الجيش وأجلى يهود بني النضير منها.
وهكذا بنو قريظة، نقضوا عهدهم وخانوا رسول الله – - يوم الأحزاب حين تكالب عليه أعداؤه ولكن الله سلط عليهم رسوله والمؤمنين وعاقبهم رسول الله – - عقابا شديدا وطهر رسول الله – - المدينة من اليهود.
وهذا لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر، سحر النبي – - في مشط ومشاطة ووضعة في بئر (ذروان) حتى كان النبي – - يخيل إليه أنه يفعل الشيء، ولم يفعله [2].
هذه صور من غدرهم ومكرهم عليهم لعنة الله. فهل من مدكر.
قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد [آل عمران:12].
[1] البخاري (4428)، واحمد :6/18.
[2] البخاري (3268)، ومسلم (2189)، ابن ماجة (4535)، أحمد:6/57.
(1/377)
الشفاعة
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الشفاعة, اليوم الآخر
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الشفاعة في اللغة والاصطلاح. 2- شروط الشفاعة المقبولة. 3- الشفاعة العظمى.
4- أنواع أخرى من الشفاعة. 5- من الذي يشفع يوم القيامة. 6- أسباب نيل شفاعة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما [طه :108-112].
إذا كان يوم القيامة ذلت الرقاب كلها إلى الله عز وجل وخاب وخسر كل ظالم وربح ونجا كل تقي عامل للصالحات وفاز بشفاعة المصطفى.
فما الشفاعة؟ ولماذا؟ وما الشفاعات التي خص بها النبي ؟ وما أسبابها؟ وموانعها؟ وما موقف المسلم منها؟
الشفاعة لغة: هي السؤال في التجاوز عن الذنوب.
اصطلاحا: سؤال الله الخير للناس في الآخرة، فهي نوع من أنواع الدعاء المستجاب.
وينبغي أن تعلم:
أن الله تعالى خص حبيبه المصطفى دون سائر خلقه بأمور للحديث: ((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأعطيت الشفاعة، وكل نبي بعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) ( [1] ).
أن الشفاعة لا تبطل قوانين العمل والجزاء فليس في الأمر ما يدعو إلى الغرور أو التهاون في ترك ما كلف الله به عباده، فالأصل والقاعدة هي قانون الجزاء قال تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:7-8]. وقال تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى [النجم:38-41].
أن للشفاعة شروطا:
أ- فهي مقيدة بالإذن من الله سبحانه: قال تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه للحديث: ((فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة)) ( [2] ).
ب- وأن تكون لمن رضي الله أن يشفع له قال تعالى: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [الأنبياء:28]. ولا يرتضي الله الشفاعة إلا لمن يستحقون عفوه سبحانه على مقتضى عدله عز وجل.
ج- والشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد، فمن كان ولاؤه لغير الله ورسوله والمؤمنين فهو محروم، ومن كان من جند الباطل يسعى في نصرة مذهب هدام فهو محروم، ومن اعتقد أن غير منهج الله هو الأصلح للحياة فهو محروم، ومن سخر أو جحد أو أنكر من منهج الله فهو محروم.
للحديث: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه)) ( [3] ).
قال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب: (فإذا أقر بالشهادتين ثم امتنع عن شيء من الفرائض جحودا أو تهاونا على تفصيل الخلاف فيه حكمنا عليه بالكفر وعدم دخول الجنة) ( [4] ).
وأما لماذا الشفاعة؟
لبيان وإظهار مقام المصطفى.
وللحديث: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر)) ( [5] ).
لأنها الدعوة المدخرة لرسول الله : ((سأل رجل رسول الله : يا رسول الله ألا سألت ربك ملكا كملك سليمان؟، فضحك رسول الله ثم قال: لعل لصاحبكم (عن نفسه) عند الله أفضل من ملك سليمان، إن الله لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة، منهم من اتخدها دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه فاهلكوا بها، فإن الله أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) (6).
وأما أنواع الشفاعة:
النوع الأول: الشفاعة الأولى، وهي العظمى، الخاصة بنبينا من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، فقد رويت في الصحيحين، وغيرهما عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين، أحاديث الشفاعة.
منها: عن أبي هريرة ، قال: ((أتى رسول الله بلحم، فدفع إليه منها الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد، واحد، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدا شكورا، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى ،أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، قال: هكذا هو، وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد ، فيأتوني، فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ذنبك، ما تقدم منه وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، فيقول: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، ثم قال: والذين نفسي بيده، لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى))( [6] ). أخرجاه في الصحيحين بمعناه، واللفظ للإمام أحمد.
النوع الثاني: الشفاعة لأهل الجنة حتى يدخلوها: للحديث: ((آتي باب الجنة يوم القيامة فاستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك ))( [7] ).
فأهل الجنة لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته عليه الصلاة والسلام، وهو أول من يدخلها.
النوع الثالث: شفاعته لأهل الكفر وهذا خاص بعمه أبي طالب لمواقفه ودفاعه عن رسول الله : ((سأل العباس بن عبد المطلب رسول الله هل أنت نافع عمك بشيء فإنه (أي أبا طالب) كان يغضب لك ويحوطك؟، فقال : نعم لقد نفعته، إنه في ضحضاح من النار (أي قليل منه) ينتعل نعلين من حرارتهما يغلي دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذابا ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار))( [8] ).
النوع الرابع: شفاعته لأهل التوحيد من أهل المعاصي بعد أن ينالوا نصيبهم من النار للحديث: ((يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ولا متكلم يومئذ إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم، اللهم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان تخطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل ثم ينجو)) ، وقال رسول الله : ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة)) وقال رسول الله : (( فيخرجون من النار فكل ابن آدم تأكله النار إلا آثار السجود فيخرجون من النار وقد امتحشوا (احترقوا) فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة)) ( [9] ).
ومن الشفعاء: الأنبياء والعلماء والشهداء والقرآن :
أ - القرآن: للحديث: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه)) ( [10] ).
ب- الشهيد: للحديث: ((يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته)) ( [11] ).
ج- الأنبياء والعلماء: للحديث: ((يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء)) ( [12] ).
د- المؤمنون: للحديث: ((إن من أمتي من يشفع للفئام (الجماعة من الناس) ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة)) ( [13] ).
هـ – الأبناء لأبائهم: للحديث: ((إن رجلا كان يأتي رسول الله ومعه ابن له ففقده النبي فقال: ما فعل ابن فلان، قالوا: يا رسول الله مات، فقال النبي لأبيه: أما تحب أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك فقال رجل: يا رسول الله أله خاصة، أو لكلنا؟ قال: بل لكلكم)) ( [14] ).
أو بسبب دعائهم للحديث: ((إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنى لي هذه، فيقال: باستغفار ولدك لك)) ( [15] ).
و- الصيام: للحديث: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول: الصيام أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان)) ( [16] ).
ز- شفاعة المصلين على الميت: للحديث: ((ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه)) ( [17] ).
وأما أسباب نيل شفاعة المصطفى :
الصلاة على النبي وطلب الوسيلة له: للحديث: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، من سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) ( [18] ).
الصلاة على رسول الله : ((إن أولى الناس بي (أي بشفاعتي) يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)) ( [19] ).
سكنى المدينة للحديث: ((من صبر على لوائها كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة)) ( [20] ).
كثرة التنفل للحديث: ((سأل خادم لرسول الله فقال: حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة، فقال: فأعني بكثرة السجود)) ( [21] ).
قضاء حوائج المسلمين للحديث: ((من قضى لأخيه حاجة كنت واقفا عند ميزانه فإن رجح وإلا شفعت له)) ( [22] ).
الأخوة في الله للحديث: ((أنا شفيع لكل رجلين اتخيا في الله من مبعثي إلى يوم القيامة)) ( [23] ).
وأما موانع الشفاعة: منها كثرة اللعن: للحديث: ((إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)) ( [24] ).
( [1] ) متفق عليه.
( [2] ) رواه البخاري.
( [3] ) رواه البخاري.
( [4] ) الترغيب والترهيب مجلد ص 413.
( [5] ) رواه ابن ماجة.
( [6] ) صحيح ، وهو في المسند 2/435 بسند الصحيحين.
( [7] ) رواه مسلم.
( [8] ) رواه البخاري.
( [9] ) البخاري.
( [10] ) رواه مسلم.
( [11] ) رواه أبو داود.
( [12] ) ابن ماجة والبيهقي والبزار.
( [13] ) الترمذي وأحمد.
( [14] ) رواه أحمد.
( [15] ) رواه أحمد.
( [16] ) رواه أحمد بسند صحيح.
( [17] ) رواه مسلم.
( [18] ) رواه مسلم.
( [19] ) رواه الترمذي.
( [20] ) رواه مسلم.
( [21] ) رواه أحمد.
( [22] ) أبو نعيم في الحلية.
( [23] ) أبو نعيم في الحلية.
( [24] ) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/378)
الكفر
التوحيد
نواقض الإسلام
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكفر في اللغة والاصطلاح. 2- الإسلام دين الكائنات. 3- أسباب الوقوع في الكفر.
4- أنواع الكفر. 5- ععاقبة الكفر في الدنيا والآخرة. 6- موقف المسلم من الكفر والتكفير.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا [النبأ:40].
تحشر الخلائق كلها يوم القيامة الجن والإنس والطير والحيوان والدواب، ويبلغ من عدل الله سبحانه أن يقتص للشاة الجماء من القرناء ثم يقال: كوني ترابا، فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا، أي حيوانا فأرجع إلى التراب.
فما الكفر؟، ولماذا؟، وما أنواعه؟، وما عاقبته؟، وما موقف المسلم منه؟
الكفر لغة: الستر والتغطية وسمي الزارع كافرا: كمثل غيث أعجب الكفار نباته [الحديد:20]. أي الزراع لأنهم يغطون الحب بالتراب.
وأما اصطلاحا: هو الإنكار لشيء مما جاء به النبي ووصل إلينا بطريق يقيني قاطع.
وينبغي أن تعلم:
أن الله تعالى فطر الوجود على معرفته بالعهد الأول الذي أخذه، قال تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين [الأعراف:172].
وقال تعالى: أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون [آل عمران:83].
أن الوجود كله ذاكر لله مسبح له سبحانه، قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [الإسراء:42].
أن الله تعالى ضرب للكافر مثلا، فقال: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون [البقرة:171].
فهم كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، قد أغلقوا نوافذ الإدراك عن كل ما يصلحهم، وهم تبع لكل ناعق.
وأما لماذا الكفر؟: فإن للكفر أسباباً:
الشيطان وتزيينه الكفر قال تعالى: كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين [الحشر:16]. وقال تعالى في بيان علة الكفر لملكة سبأ وقومها، فقال: وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون [النمل:24].
وذلك بإثارة الشبهات والشهوات، والشبهات في العقول، والشهوات في القلوب.
جنود الشيطان من أصحاب المبادئ الهدامة للحديث: ((خط رسول الله خطا ورسم على جوانبه خطوطا وقال: هذا هو طريق الله وهذه السبل على رأس كل واحد منها شيطان يدعو إليه)) ( [1] ).
فالشيوعية والوجودية وغيرها من مناهج الإلحاد كلها من صنع يهود لعلهم أنه لا نصر إلا بإفساد شباب الأمة ومثقفيها في عقولهم وتشكيكهم بإسلامهم وعند ذلك فقط تزول عوائق الأمة أمام أعدائها.
حيوانية الغاية : قال تعالى: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم [محمد: 12].
فأتباع فرويد اليهودي صاحب النظرية الجنسية، وأدونيس رائد الحداثة والخلاعة.
ونزار قباني شاعر النهود والفروج وغيرهم ممن عاشوا أعمارهم لإثارة الغريزة والهبوط بالإنسانية إلى دركات البهيمية ورفض ضوابط الدين والأخلاق والعرف.
والذي يريد أن يحيا بلا ضوابط لابد له من مبرر، وقد صنع سادة العهر والدعارة لأتباعهم منهجا يبررون به سفالتهم بدعاوى التحرر والانطلاق ونبذ الجمود.
حب الرئاسة والاستكبار وخوف الذم والتعيير:
حب الرئاسة: كحال هرقل ملك الروم وقد بان له الحق فلما عرض الإسلام على الأساقفة نفروا منه وبادروا إلى الأبواب معرضين، فأمر هرقل بردهم وقال: أردت أن أختبركم ( [2] ). وصده حب الملك والرئاسة عن الإيمان.
والاستكبار: ككفر فرعون وملئه وقد رأوا الحق بأعينهم في المعجزة التي أيد الله بها نبيه موسى عليه السلام، قال تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [النمل:14].
وخوف الذم والتعيير: ككفر أبي طالب: لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي وعنده أبو جهل، فقال رسو الله : ((أي عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)) فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر ما كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي : ((لاستغفرن لك ما لم أنهَ عنك)) فنزلت: إنك لا تهدي من أحببت ( [3] ).
وأما أنواع الكفر:
فينقسم الكفر إلى قسمين:
كفر مخرج من الملة ويكون صاحبه مرتدا عن الإسلام وتجري عليه أحكام المرتدين إن كان مسلما، وتشمل:
أ- المكفرات الاعتقادية: كإنكار أصل من أصول الإيمان كإنكار الخالق سبحانه أو صفة من صفاته أو اعتقاد عجزه أو أنه سبحانه غير عادل في أحكامه وقضائه، أو إنكار الملائكة أو الكتب السماوية أو اليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وجنة ونار أو إنكار فريضة من فرائض الإسلام أو إنكار حرمة كالزنا أو الربا أو اعتقاد حرمة ما أحل الله من أكل لحوم الأنعام.
ب- المكفرات القولية: وذلك بأن يقول بعقيدة مكفرة أو جحد جزئية من الإسلام في عقائده وأحكامه أو سب الخالق أو الرسل أو الكتب السماوية أو سب الدين أو اعتراض على عدل الله في قضائه واتهامه بالجحود سبحانه وتعالى.
ج- المكفرات العملية: وهو كل عمل يعتبر علامة على عقيدة مكفرة كالحكم بغير ما أنزل الله وتمزيق المصحف إهانة له أو إلقائه في القاذورات أو تعليق الصليب وتعظيمه، وكذا موالاة الكفار وإظهار الود لهم واستعارة قوانينهم وتحسين أفكارهم والتشبه بهم وطاعتهم والركون إليهم: ومن يتولهم منكم فإنه منهم [المائدة:51].
كفر لا يخرج صاحبه من الملة:
كفر النعمة والحقوق: قال تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [إبراهيم:34].
وقول رسول الله : ((يا معشر النساء إأني رأيتكن أكثر أهل النار، قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكفرن العشير، لو أحسن الزوج إليكن الدهر كله ثم أساء قلتن: ما رأينا منك خيرا قط)) ( [4] ).
قتال المسلم لأخيه: للحديث: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) ( [5] ) ، أي قتله كالكفر في الإثم والتحريم، وقال تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما [الحجرات:9]. قال ابن كثير: سماهم مؤمنين مع الاقتتال.
وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت ( [6] ).
وأما عاقبة الكفر:
أما في الدنيا:
1- فإن الكافر في ضلال ومقت من الله عليه: قال تعالى: ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل [البقرة:108].
فهو في شقاء ضلاله حيث لا هداية ولا توفيق في رأي أو عمل فيكون وبالا على نفسه ومن، ثم مقت الله له: ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا [فاطر:36].
2- وأن عقوبته القتل: أجمع الفقهاء على أن من تحول عن دين الإسلام إلى غيره فإنه يقتل لقول النبي : ((من بدل دينه فاقتلوه)) ( [7] ).
3_ إنه مغلوب مهما كاد ومكر، قال تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد [آل عمران:12].
ومهما دبر الكافر وكاد لأهل الإيمان من مكائد ودسائس وتضييق وتلفيق للتهم وقتل وتشريد فإن الغلبة لله ورسوله والمؤمنين.
أما في الآخرة:
1- محروم من مغفرة الله سبحانه قال تعالى: إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم [محمد:34].
2- ولا ينفعه عمله الصالح من إعانة مريض أو تصدّق على فقير فإن الله يعجل له ثوابه في الدنيا فيعافه في بدنه أو يغنيه حتى إذا جاء يوم القيامة لا حسنة له، قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [الفرقان:23]، قال ابن كثير: فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله ( [8] ).
3- عظم جسده في النار ليزداد عذابا وألما: للحديث: ((ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)). وللحديث: ((ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث)) ( [9] ).
4- نقمة الكافر على من أضله: قال تعالى: وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدمنا ليكونا من الأسفلين [فصلت:29].
وأما موقف المسلم من الكفر والتكفير:
الابتعاد عن أسباب الكفر من الشبهات والشهوات للحديث: ((جاء رجل إلى النبي ، فقال: يا رسول الله إني لأحدث نفسي بالشيء لأن أخرَّ من السماء أحب إلي من أن أتكلم به، فقال النبي : الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)) ( [10] ).
الحذر من إطلاق لفظ الكفر على إنسان بعينه إلا بعد تثبت وإقامة الحجة عليه:
للحديث: ((إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء به أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)) ( [11] ). ذلك لأنه ليس كل قول أو فعل فاسد يعتبر مكفرا.
كما لا ينبغي أن يكفّر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن، أو كان في كفره خلاف، وكذلك لا يجوز تكفير مكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لقوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [النحل:106].
وعلى هذا فيجب على الناس اجتناب هذا الأمر والفرار منه وتركه للعلماء لخطره العظيم ( [12] ) ، ذلك لأن التساهل مدعاة للفساد والعبث بأحكام الإسلام واستباحة حرمات ودماء وأموال المسلمين بغير حق، ومن مصائب الأمة أن تبتلى بمن يتصدر الفتوى من الجهلة وتلك من علامات الساعة للحديث: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) ( [13] ).
ويقابل ذلك على العكس منه خور العلماء وجبنهم عن كلمة الحق والصدع بها في وجوه المرتدين، وإيثارهم الدنيا على الآخرة فيكونوا من علماء السلطة، وأصحاب الفتاوي الجاهزة، وعند ذلك يكون السقوط فيتخذ الناس من أنفسهم موجهين ومفتين يغلب جهلهم علمهم من أرباع المتعالمين فتحل المصيبة بالأمة.
وعلى الأسرة أن تتولى مسؤوليتها في توجيه الأبناء إلى الدين الحق وهو الإسلام وحفظهم من كل منافق ومفسد ومظل سواء كان ذلك من خلال الكلمة المسموعة أو المقروءة أو المرئية للحديث: ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) ( [14] ). وكذا المعرفة المخالطين من الأصدقاء وتخير الصالحين منهم لأبنائك وصدق الله العظيم: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة [التحريم :6].
( [1] ) رواه أحمد.
( [2] ) الكفر والمكفرات ص8.
( [3] ) رواه مسلم.
( [4] ) البخاري.
( [5] ) متفق عليه.
( [6] ) مختصر ابن كثير مجلد3 ص364.
( [7] ) البخاري.
( [8] ) مختصر ابن كثير مجلد2 ص624.
( [9] ) مسلم.
( [10] ) أحمد وأبو داود.
( [11] ) البخاري.
( [12] ) الموسوعة الفقهية 13 ص228.
( [13] ) متفق عليه.
( [14] ) ابن حيان.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/379)
أثر الذنوب والمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
علي بن عبد الله النمي
الرياض
خبيب بن عدي رضي الله عنه
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرر المعاصي على القلب كضرر السموم على البدن 2- ما نزل بلاء إلا بذنب , ولا
رُفع إلا بتوبة 3- شؤم المعصية يتعدى المذنب إلى غيره من المخلوقات 4- عاقبة الذنوب في
الدنيا 5- فضيلة الاستغفار والتوبة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه في السر والعلن ولا تعصوه، واعلموا أن الذنوب والمعاصي – تضر في الحال والمآل، وأن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان.
وما في الدنيا والآخرة شر وداء، إلا وسببه الذنوب والمعاصي فبسببها أخرج آدم عليه السلام من الجنة، وأخرج إبليس من ملكوت السموات، وأغرق قوم نوح، وسلطت الريح العقيم على قوم عاد، وأرسلت الصيحة على قوم ثمود، ورفعت قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم قلبها الله عليهم، فجعل عاليها سافلها، وأرسل على قوم شعيب سحب العذاب كالظلل.
فسبب المصائب والفتن كلها الذنوب فالذنوب والمعاصي ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، ولا في نفوس إلا أفسدتها.
وللمعاصي آثار وشؤم، تزيل النعم، وتحل النقم.
قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]. فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160].
روى أحمد عن ثوبان – رضي الله عنه -: ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )) ( [1] ). وفي الحديث الآخر: ((الذنوب تنقص العمر)).
ومن شؤم المعصية أنها تمنع القطر، وتسلط السلطان، ففي سنن ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤن وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القِطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)) ( [2] ). وقال مجاهد في قوله تعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ [البقرة:159]. قال: دواب الأرض تلعنهم، يقولون: يمنع عنا القطر بخطاياهم.
وقال عكرمة: دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (( إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم)).
وشؤم المعصية بلغ البر والبحر، كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
ومن شؤم المعصية أنها تورث الذل، وتفسد العقل،و تورث الهم، وتضعف الجوارح، وتعمي البصيرة، وأعظم من ذلك كله تأثيرها على القلب.
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه. وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن)) ، كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
وقال حذيفة رضي الله عنه: القلب هكذا مثل الكف فيذنب الذنب فينقبض منه ثم يذنب الذنب فينقبض منه حتى يختم عليه فيسمع الخير، فلا يجد له مساغاً ( [3] ).
وقال الحسن: الذنب على الذنب، ثم الذنب على الذنب حتى يغمر القلب فيموت ( [4] ). فإذا مات قلب الإنسان لم ينتفع به صاحبه. قال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
والأحسن من هذا قول الله عز وجل: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القبر، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.
وقال سليمان التميمي: إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته.
ومن خطورة المعاصي أنها تضعف الحفظ، وربما أذهبته، وتحرم صاحبها العلم، كما قال الشافعي – رحمه الله -:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يعطاه عاصي
اتقوا الله - عباد الله - ولا تقترفوا الذنوب، ولا تستهينوا بها، قالت عائشة رضي الله عنها: أقلوا الذنوب، فإنكم لن تلقوا الله عز وجل بشيء أفضل من قلة الذنوب.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
قال بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت.
وقال بشر: لو تفكر الناس في عظمة الله، ما عصوا الله عز وجل.
قال وهيب بن الورد: اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك.
ومن خطورة السيئة وشؤمها فعل السيئة بعدها: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].
قال أبو الحسن المزين: الذنب عقوبة الذنب.
وكما قال القائل:
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
وقد بين الله عز وجل أن سبب كفر بني إسرائيل وقتلهم الأنبياء أنهم اقترفوا المعاصي قال الله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61].
واعلموا – عباد الله – أن الذنب دين في ذمة فاعله لا بد من أدائه. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: البر لا يبلى والإثم لا ينسى.
قال الفضيل بن عياض: ما عملت ذنباً إلا وجدته في خلق زوجتي ودابتي.
ونظر أحد العباد إلى صبي فتأمل محاسنه، فأتي في منامه وقيل له: لتجدن غبها بعد أربعين سنة.
وقال ابن سيرين حين ركبه الدين واغتم لذلك: إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة. وقال أحد السلف: نسيت القرآن بذنب عملته منذ أربعين سنة.
ومن أضرار الذنوب والمعاصي أنها تثخن صاحبها عن العبادة، كما قال رجل للحسن: يا أبا سعيد! إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال: ذنوبك قيدتك.
وقال الحسن أيضاً: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل.
وقال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته.
وقال بعض السلف: كم من أكلة – يعني من حرام – منعت قيام ليلة، وكم من نظرة – يعني حرام – منعت قراءة سورة.
وقال أبو سليمان الداراني: لا تفوت أحد صلاة الجماعة إلا بذنب.
لذا فإن المؤمن العاقل يجتهد في البعد عن الذنوب، ويهجر أهل الذنوب والمعاصي، فإن شؤم معصيتهم يبلغه.
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، قال: قلت: يا رسول الله! يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم)) ( [5] ).
ولما تزلزلت المدينة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله لئن عادت مرة أخرى لا أساكنكم فيها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات، والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
( [1] ) قال في الفتح الرباني (14/2066): خرجه النسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وصححه وأقره الذهبي. وقال البوصيري في الزوائد (3/247): إسناد حسن.
( [2] ) قال البوصيري في الزوائد (3/246): رواه الحاكم، وقال: حديث صحيح الإسناد. قال البوصيري: هذا حديث صالح العمل به.
( [3] ) الدر المنثور (8/446).
( [4] ) الدر المنثور (8/447).
( [5] ) البخاري (4/284)، ومسلم (2884).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد:
عباد الله: فكما أن الذنوب والمعاصي تمحق بركة العمر، وبركة الرزق والعلم، كذلك الاستقامة والتقوى تجلب البركة على العباد والبلاد، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96] وقال تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسقَيْنَاهُمْ مَاءً غدقاً [الجن:16].
قال الحسن: لو استقاموا على طاعة الله، وما أمروا به لأكثر الله لهم الأموال حتى يغتنوا بها. ثم يقول الحسن: والله إن كان أصحاب محمد لكذلك، كانوا سامعين لله مطيعين له، فتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ( [1] ).
وقال نوح عليه السلام لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق.
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إلى الله يقول النبي : ((يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) رواه مسلم ( [2] ). وقال الله عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. وعلى العبد المؤمن أن يأخذ بأسباب المغفرة وأجلها التوبة النصوح والاستغفار والاعتراف بالذنب والندم عليه.
يقول النبي : ((ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ، فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب، إلا غفر الله له)) رواه الخمسة ( [3] ).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رجلاً أذنب ذنباً فقال: أي رب! أذنبت ذنباً. أو قال: عملت عملاً، فاغفر لي، فقال تبارك وتعالى: عبدي عمل ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب. قد غفرت لعبدي)) ( [4] ) متفق عليه.
وقال النبي : ((يا عائشةَ إن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا أذنب ثم استغفر الله غفر الله له)) رواه أحمد، وصححه ابن حبان.
( [1] ) الدر المنثور (8/305).
( [2] ) رواه مسلم (2702)، وأبو داود (1515).
( [3] ) أحمد (1/10)، وأبو داود (1521)، والترمذي (309)، وابن ماجه (1395)، والنسائي، وصححه ابن حبان كما في الترغيب (2/269).
( [4] ) البخاري (13/393)، ومسلم (2758).
(1/380)
الردة
التوحيد
نواقض الإسلام
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الردة. 2- شمولية الإسلام لمناحي الحياة. 3- الحذر من التكفير. 4- متى يكون
المسلم مرتداً. 5- ذكر بعض نواقض الإسلام. 6- أحكام المرتد. 7- أسباب الارتداد عن
الإسلام. 8- موقف المسلم من الردة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [البقرة:217]. العبد مخير بين الإسلام والكفر لا إكراه في الدين، فإذا أسلم وجب عليه الالتزام فإن رجع إلى الكفر فقد أبطل كل خير عمله في الدنيا ويوم القيامة.
فما الردة؟ ومتى يكون المسلم مرتدا؟ وما أحكام المرتد؟ وما أسبابها؟ وما موقف المسلم منها؟
الردة: لغة الرجوع في الطريق الذي جاء منه.
اصطلاحا: رجوع المسلم البالغ العاقل عن الإسلام إلى الكفر باختياره دون إكراه من أحد.
وينبغي أن تعلم:
أن الإسلام عقيدة وشريعة: عقيدة تتضمن الإيمان بالله والنبوات والبعث والجزاء، وشريعة تتضمن العبادات والآداب، والمعاملات، والأحوال الشخصية، والعقوبات الجنائية، والعلاقات الدولية، والمسلم هو الذي يعتقد شمولية الإسلام للحياة ويعمل على تطبيق ذلك في واقعه.
وينبغي الحذر من إطلاق لفظ المرتد أو الكافر دون دراية أو معرفة حقة للحديث: ((إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما)) ( [1] ).
كما أن الوساوس وخواطر السوء لا يؤاخذ عليها العبد إذا لم يعمل العبد بموجبها أو ينشرها بقصد الإفساد والتشكيك للحديث: ((إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به)) ( [2] ).
وأما متي يكون المسلم مرتدا؟:
فلا يعتبر المسلم مرتدا حتى يشرح صدره للكفر ويطمئن قلبه به، ويدخل فيه بالفعل لقوله تعالى: ولكن من شرح بالكفر صدرا [النحل:106].
من صور الردة:
1- الردة عن الدين: بأن يغير دينه فالردة مقصورة على المسلمين فالردة عن الدين بأن يترك المسلم دين الإسلام ويخرج عليه بعد اعتناقه، وذكر العلماء: أن اليهودي إذا انتقل إلى دين آخر كالنصرانية لا يتعرض له لأنه انتقل من دين باطل إلى دين يماثله في البطلان بسبب التحريف، والكفر ملة واحدة، ولكن الانتقال من الإسلام إلى غيره من الأديان فإنه انتقال من الهدى إلى الضلال ومن دين الحق إلى دين الكفر قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران: 85].
2- الردة بالإنكار لوجود الله تعالى: والشيوعية مذهب هدّام أنشأها (كارل ماركس) سنة 1847م وهو رجل يهودي واليهود من أحقد الناس على الإسلام قال تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا [المائدة:82].
وللحديث: ((وما خلا يهودي بمسلم إلا همّ بقتله)) ( [3] ). وأساس عقيدته هي الإلحاد فهو القائل: (لا إله والحياة مادة) ويتساءل الملاحدة إذا كان الله موجودا فلماذا لا نراه؟ علما أن قاعدة وصفها العلماء فقالوا: ليس كل ما لا تدركه بحواسك ليس موجودا، فنحن لا نرى الكهرباء، ولا جاذبية الأرض، وقبل قرن من الزمن لم نكن نعلم بوجود شيء اسمه الجراثيم والبكتريا حتى جاء المجهر واستطعنا به أن نرى ما عجزت عيوننا عن رؤيته وصدق الله العظيم: فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [الحاقة:37-38]، وقد أجمع العلماء أن الشيوعي كافر ومن اعتنق مبدأهم من المسلمين فهو مرتد عن الإسلام.
3- الردة بالإنكار لمصدر من مصادر التشريع كالسنة النبوية المطهرة: والسنة ثلاثة أنواع قولية وفعلية وتقريرية (والتقريرية: ما صدر من أصحابه من أفعال وأقوال أقرها الرسول الله بسكوته وعدم إنكاره) والقرآن هو المصدر الأول للتشريع.
والسنة هي المصدر الثاني وأحكام السنة لا يمكن الاستغناء عنها كما ادعى سفهاء زماننا جهلا وغباء وردة.
فالسنة هي المفسرة والشارحة للقرآن مما جاء مجملا لقوله تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [النحل:44].
فالسنة هي التي فصلت كيفية إقامة الصلاة وأوقاتها وأركانها وسننها وما جاء في كتاب الله مجمل كقوله تعالى: وأقيموا الصلاة وكذا بالنسبة للزكاة في الأنصبة والشروط ومصارف الزكاة تفصيلا لقوله: وآتوا الزكاة ثم إن السنة جاءت بأحكام سكت عنها القرآن كقول النبي في الذهب والحرير: ((هذان حرامان على رجال أمتي حلالان لنسائها)) ( [4] ). ((لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)) ( [5] ). وقوله: ((يحرم الرضاع ما يحرم من النسب)) ( [6] ). فمنكر السنة مرتد عن الإسلام.
4- الردة بالسخرية والاستهزاء والسب لله أو الرسول أو الدين: وكم رأينا وسمعنا وقرأنا أنواعا من السخرية بالحجاب وأنه يعيق المرأة من العمل والتفكير، ومن يسخر بعذاب القبر وملائكته الكرام ومن يسخر بالله والرسول والأصحاب في فكاهة بمجلة الأطفال (أن خمسة دخلوا مطعما ورفضوا دفع الحساب وقال: أحدهم أنا محمد وهذا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فقال صاحب المطعم: وأنا الله وسوف أعاقبكم). وآخر يتشفى بأن امرأة سوف تحكم ويجعل في هذا الانتصار انتصار على الدين، ورسول الله يقول: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) ( [7] ).
ويقف المسلم متحيرا في أمر هؤلاء الجبناء الذين لا يصارحون الأمة بكفرهم وردتهم فهم يلمزون ويلدغون ويفسرون الإسلام تفسيرا معوقا يدل على اعوجاج في القلوب والعقول معا، يصفون من يتمسك بدينه ويغار عليه بالمتعصب الرجعي ويظنون في أنفسهم العقل والحكمة والدهاء.
إن كل من يسخر بالإسلام وأحكامه كافر مرتد عن الإسلام قال تعالى: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة:66].
وأما أحكام المرتد فإن المرتد يستتاب، وتقدم له الأدلة والبراهين التي تعيد الإيمان إلى القلب فإن رجع وأقر بالشهادتين وبرئ من كل دين إلا دين الإسلام قبلت توبته وإلا أقيم عليه الحد، ومن الأحكام التي تترتب على الردة:
القتل: للحديث ((من بدل دينه فاقتلوه)) ، رواه البخاري ومسلم، يقول الشهيد عبد القادر عودة صاحب كتاب التشريع الجنائي في الإسلام: (وتعاقب الشريعة على الردة بالقتل لأنها تقع ضد الدين والإسلام وعليه يقوم النظام، وأكثر الدور الاجتماعي للجماعة، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام، وأكثر الدول تحمي نظامها بأشد العقوبات تفرضها على من يخرج على هذا النظام أو يحاول هدمه أو إضعافه، وهي الإعدام فالقوانين الوضعية تعاقب على الإخلال بالنظام الاجتماعي بنفس العقوبة التي وضعتها الشريعة لحماية النظام الاجتماعي الإسلامي) ويقول أيضا: (فالدولة الشيوعية تعاقب من رعاياها من يترك المذهب الشيوعي وينادي بالديمقراطية، وكذا تحارب الدول الديمقراطية الشيوعية وتعتبرها جريمة وهكذا) ( [8] ).
إنهاء العلاقة الزوجية: إذا ارتد الزوج أو الزوجة انقطعت علاقة كل منها بالآخر وهذه الفرقة تعتبر فسخا فإذا تاب وعاد إلى الإسلام كان لا بد من عقد ومهر جديدين، والمرتد عن الإسلام لا ينكح لأنه ليس بمسلم، ولا يجوز لمسلمة أن ترضى بمرتد عن الإسلام زوجا وحكمه حكم اليهودي والنصراني.
والمرتد لا يرث أحدا من أقاربه المسلمين، لأن المرتد لا دين له، فإن قتل المرتد ولم يرجع إلى الإسلام، انتقل ماله هو إلى ورثته المسلمين للحديث: ((لا يرث الكافر المسلم)) ( [9] ).
وأما أسباب الارتداد:
شكوك وشبهات: وأعداء الله تعالى لم يتركوا بابا للشك إلا أثاروه فالمناهج والمبادئ والنظريات والأفكار المدمرة التي لبست ثوب العلم فأغرت الكثير من أبناء الإسلام على تصديقها، ثم الشبهات حول ذات الله ووجوده وشريعة الإسلام واتهامها بالرجعية والقصور، وأنها عقبة أمام العلم واتهام الحدود الشرعية بالوحشية وظلم المرأة وغير ذلك كثير مما أوقع البلبلة في قلوب وعقول الكثير من أبناء الإسلام.
الشهوة العارمة: والعبد إذا غلبته شهوته هان عليه دينه، ذكر ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (ذم الهوى) بابا سماه: باب في ذكر من كفر بسبب العشق وأورد هذه القصة: بلغني عن رجل كان ببغداد، يقال له صالح المؤذن، أذن أربعين سنة، وكان يعرف بالصلاح، فصعد يوما إلى المنارة ليؤذن، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه وطلبها زوجة له فقالت: لا إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذه لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكل من لحم الخنزير، فأكل، قالت: فاشرب الخمر، فشرب، فلما دنا منها وقد سكر ولعبت الخمرة بعقله، قالت له: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوجني منك وصعد مترنحا فسقط فمات فجاء أبوها وعرف القصة وأخرجه في الليل ورماه في قارعة الطريق ثم ظهر خبره فرمي في مزبلة ( [10] ). نسأل الله العافية.
وكذلك في واقعنا أن فتاة مسلمة في مدرسة أجنبية عشقت نصرانيا فسافرت معه وتزوجت وولدت منه: فلما جاءها بعد ذلك من يخبرها أن المسلمة يحرم عليها أن تتزوج نصرانيا، قالت: أول مرة في حياتي أسمع هذا.
البيئة الفاسدة: وللبيئة أثرها في إفساد العبد في دينه فيكون الإفساد من جهة:
أ- الوالدان: للحديث: ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) ( [11] ).
ب- المجتمع: قال تعالى في شأن بلقيس: وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين [النمل:43]. أي إنها كانت من قوم راسخين في الكفر فلم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بين ظهرانيهم ( [12] ).
ج- رفقه السوء: وللرفقة أثرها البالغ في استقامة أو انحراف العبد للحديث: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) ( [13] ). ويقال: (قل لي من تصحب أقول لك من أنت) (إن الطيور على أشكالها تقع).
د- الاستعلاء الأثيم: جبلة بن الأيهم ملك من ملوك الغساسنة أسلم زمن عمر ، جاء لأداء فريضة الحج وكان يطوف حول البيت الحرام، فداس أعرابي خطأ على إزاره فسقط فلطمه جبلة فهشم أنفه، فشكى الأعرابي أمره إلى الخليفة عمر ، فطلب جبلة، وخيّر الأعرابي بين القصاص والدية فأبى الأعرابي إلا القصاص، فقال له عمر: يا جبلة مكن الأعرابي منك ليقتص، فقال جبلة: أتمكنه مني وما هو إلا من سوقة الناس وعامتهم فقال عمر: دعك من هذا فقد سوى الإسلام بينكما، فقال جبلة: إذن أمهلني إلى غد، فلما كان الليل هرب ولحق بملك الروم وتنصّر.
وأما موقف المسلم من الردة:
عدم الانسياق وراء وسواس وشكوك وليكن صاحب اعتقاد جازم بأنه على الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال فلا يتحدث به على سبيل الإشاعة لهذا الشك للحديث: ((جاء أناس من أصحاب النبي فسألوه فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به! قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم قال: ذلك صريح الإيمان)) ( [14] ). أي استعظام الكلام به فضلا عن اعتقاده.
أن نتعرف على إسلامنا بشكل أكثر جدية وعمق، فكل منا جندي في موقعه من جند الله وعليه أن يكون مزودا بالحجة والدليل على صدق ما يحمله وإمكانية الرد على أعداء الله وشكوكهم وهذا يفرض علينا أن تكون لنا صلة بالكتاب الإسلامي الموثق وكذا سؤال أصحاب العلم والخبرة والتجربة قال تعالى: فاسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون [النحل:43].
ألا نذل لشهواتنا ذلا يخرجنا عن إسلامنا، ويا خيبة الغبي الذي يبيع دينه وآخرته لأجل نزوة حيوانية تذهب لذتها وتبقى تبعتها وسواد وجه صاحبها في الدنيا والآخرة وليكن لنا في ديننا عاصم وفي يوسف عليه السلام قدوة قال تعالى حكاية عنه: قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين [يوسف:33].
( [1] ) رواه مسلم.
( [2] ) رواه مسلم.
( [3] ) الحفاظ ابن مردويه.
( [4] ) أحمد وابن ماجة.
( [5] ) مسلم.
( [6] ) البخاري.
( [7] ) أحمد والبخاري والنسائي.
( [8] ) التشريع الجنائي مجلد 1 ص 536.
( [9] ) رواه الأربعة.
( [10] ) ذم الهوى ص 348.
( [11] ) البخاري ومسلم.
( [12] ) الألوسي ج19 ص207.
( [13] ) أبو داود بإسناد حسن.
( [14] ) مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/381)
الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما هو الموت. 2- صفة الموت. 3- لماذا كان الموت مصيبة. 4- سنن الاحتضار.
5- الاستعداد للموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون [الجمعة:8].
سبحان من قصم ظهور عباده بالموت، وجدير بمن كان الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه، والجنة أو النار مآله، أن لا يشغله عن الموت شاغل.
فما الموت؟ وما صفته؟ وهل الموت مصيبة؟ وما هي سنن الاحتضار؟ وكيف يكون الاستعداد له؟
أما الموت: لغة: فهو ضد الحياة.
وأما اصطلاحا: هو عبارة عن خروج الروح من الجسد، وقيل هو سلب وكشف؛ أما أنه (سلب) فلأن العبد يسلب من محبوباته من بين أهله وماله وولده وجاهه ومنصبه لحديث جبريل عليه السلام: ((يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب ما شئت فإنك مفارقه)) ( [1] ).
وأما أنه (كشف): فلأن العبد إذا مات انكشف له ما كان خافيا عليه قبل موته، فالناس نيام فإذا ماتوا استيقظوا قال تعالى: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ق:22]. أي قوي.
وينبغي أن تعلم:
أن الموت نهاية كل حي قال تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه [القصص:88]. كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن :26]. كل نفس ذائقة الموت [آل عمران:185]. فلا منجى ولا مهرب.
وهو الداء الذي لا شفاء منه قال تعالى: كلا إذا بلغت التراقي بلغت الروح عظام الترقوة وقيل من راق من يرقيه ومن يشفيه وظن أنه الفراق وأيقن أنه لا طيب ينفع ولا علاج يدفع. (والتفت الساق بالساق) أي شدت إحدى قدميه بالأخرى وقد كان عليها جوالا: إلى ربك يومئذ المساق [القيامة:26-30].
وإذا المنية نشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
وقد تحدى رب العزة سبحانه أن يرد أحد الروح بعد خروجها: فلولا إذ بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فولا إن كنتم غير مدينين أي غير مغلوبين مقهورين: ترجعونها إن كنتم صادقين [الواقعة:83-86].
ينبغي أن تعلم أخيرا، أن تمني الموت حرام، دخل النبي عليه الصلاة والسلام على عمه العباس وقد نزل به مرض وهو يتمنى الموت، فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا عباس، يا عم رسول الله عليه الصلاة والسلام لا تتمنى الموت، فإن تك محسنا تزداد إحسانا، وإن تك مسيئا تستعتب)) ( [2] ) ، أي تستغفر من ذنبك وترجع عنه، إذا بلغ الأمر مداه، فلا بأس أن يدعو العبد بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام: ((اللهم أحيني إن كانت الحياة خير لي، وتوفني إن كانت الوفاة خير لي)) ( [3] ) ، فيرد الأمر كله إلى الله عز وجل، والانتحار حرام، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من تردى من جبل فهو يتردى منه في نار جهنم، خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسّى سماً فسمه بيده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن توجأ بحديدة بيده، فهو يتوجأ بها في نار جهنم، خالدا مخلدا فيها أبدا)) ( [4] ).
وأما صفة الموت؟
فإن في الموت ألم، وفيه ضعف وفيه فتنة وفيه رؤية:
أ- أما أنه ألم، فلقد وصف بعض السلف ألم الموت عند احتضاره، بأنه يعدل ألف ضربة بالسيف، ووصفه بعضهم كأنه في جب من نار، سأل عمر بن الخطاب كعبا عن الموت فقال له كعب: يا أمير المؤمنين كغصن كثيرة أشواكه، أدخلت في جوف رجل فأصاب كل شوكة كل عرق فيه، ثم نزعت منه مرة واحدة، أبقى منه ما أبقى وأخذ منه ما أخذ. ((إن رسول الله عليه الصلاة والسلام عند احتضاره، وكان أمامه قدح ماء، فكان يأخذ منه ويضع على جبينه الشريف، ويقول: اللهم هون علي سكرات الموت، إن للموت سكرات)) ( [5] ).
ب- من صفة الموت أن في الموت ضعف يصيب العبد بسبب الألم، العقل يتشوش، اللسان ينعقد، العينان تجحظان، الشفتان تتقلصان، الأطراف تضعف، يريد العبد أن ينفس عن نفسه بالصراخ فلا يستطيع لضعفه، ذكر لأحدهم عند احتضاره قيل له: كيف تجد نفسك؟ قال: أجد أن السماء أطبقت على الأرض، وكأني أتنفس من ثقب إبرة. هذا الهواء الذي ملأ الوجود، قل نصيب العبد منه فإنما هي أنفاس معدودة: إنما نعدّ لهم عدا [مريم :84]. أي نحسب لهم أنفاسهم حسابا دقيقا، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها.
ج- وفي الموت فتنة: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن الشيطان يأتي أحدكم قبل موته، فيقول له: مت يهوديا مت نصرانيا)) ( [6] ). أبو جعفر القرطبي عندما حضرته الوفاة قال له رواده: قل لا إله إلا الله، فقال: لا، قيل له: قل لا إله إلا الله، قال: لا، فلما أفاق وعرف بالذي كان يقوله، قال: لست إياكم أعني، أتاني شيطان عن يميني يقول لي: مت يهوديا فإنه خير الأديان فكنت أقول له: لا، ثم أتاني آخر عن شمالي يقول لي: مت نصرانيا فإنه خير الأديان فكنت أقول له: لا.كما جاء في كتاب التذكرة للقرطبي.
د- وفي الموت رؤية: فلن تخرج روح العبد حتى يرى مصيره إلى الجنة أو إلى نار، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لن يخرج أحدكم من الدنيا حتى يعلم أين مصيره وحتى يرى مقعده من الجنة أو النار)) ( [7] ).
وأما هل الموت مصيبة؟
فلقد سمى رب العزة الموت مصيبة فقال: فأصابتكم مصيبة الموت [المائدة:106].
أ- الموت مصيبة: لأن العبد إذا مات، أغلق عليه باب العمل وفتح عليه باب الحساب، فاليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل، يتمنى المرء أن يسبح لله تسبيحا، أن يسجد لله سجدة، أن يذكر الله لحظة واحدة، حتى يزحزح به عن النار: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [آل عمران:186]، أحد السلف صلى ركعتين خفيفتين لم يرض عنهما، بجوار قبر، أخذته سنة من النوم، رأى صاحب القبر يقول له في المنا:م يا هذا، صليت ركعتين خفيفتين لم ترض عنهما، إنهما لأحب إلينا من الدنيا وما فيها.
ب- الموت مصيبة لأن العبد إذا مات، انصرف كل شيء عنه إلا عمله الصالح: ((إذا مات ابن آدم تبعه ثلاث: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله)) ( [8] ).
ج- الموت مصيبة لأن العبد إذا مات خرج كل شيء تحت ملكيته إلى غيره.
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
دخل علي بن أبي طالب المقبرة فقال: يا أهل القبور ما الخبر عندكم؟ إن الخبر عندنا أن أموالكم قد قسّمت، وأن بيوتكم قد سكنت، وأن زوجاتكم قد زوجت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ ثم بكى ثم قال: والله لو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا: إنا وجدنا أن خير الزاد التقوى، كان عبد الرحمن بن يزيد خِلاً لبعد الملك بن مروان الخليفة، فلما مات عبد الملك وتصدع الناس عن قبره، وقف عبد الرحمن بن يزيد على قبر عبد الملك وقال: أنت أمير المؤمنين، أنت عبد الملك بن مروان، لقد أصبحت لا تملك من ثيابك إلا ثوبين ولا من أراضيك وأطيانك إلا أربعة أذرع في ذراعين ثم انقلب إلى أهله واجتهد في العبادة، وترك صحبة الملوك، إلى صحبة ملك الملوك سبحانه.
د- الموت مصيبة لأن العبد إذا مات تحسّر على كل صلة شغلته عن الله عز وجل، من كان نعلا للطغاة يأتمر بأمرهم وينتهك الحرمات لأجلهم: وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا [الأحزاب:67]. من كانت له صحبة شغلته عن الله عز وجل: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا [الفرقان:27-29]. فيندم العبد أن قدّم الزوجة والولد على الله عز وجل: يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [عبس:34-37]. يقول عكرمة: ((يلقى الرجل زوجته يقول لها: أي زوج كنت لك؟ تقول: نعم الزوج، فيقول لها: فإني أسألك اليوم حسنة واحدة أنجو بها مما أنا فيه، فتقول: ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مما تتخوف منه، يلقى الرجل ولده يقول له: أي والد كنت لك؟ فيقول: نعم الوالد فيقول له: فإني أسألك اليوم حسنة واحدة أنجو بها مما أنا فيه فيقول: ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مما تتخوف منه)).
هـ- الموت مصيبة لأن الموت يأتي على غير وقت معلوم حتى يستعد العبد له: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت [لقمان:34].
مشيناها خطا كتبت علينا ومن كتبت عليه خطا مشاها
و من كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها
و- الموت مصيبة لأن الموت فيه فراق للحبيب الوفي، فيه فراق من ألفته النفس وسكن إليه القلب، في وقت عزّ فيه الحب وعزّ فيه الوفاء.
ذهب الذين يعاش في أكفانهم وبقي الذين بقاؤهم لا ينفع
ويقول أحد السلف كان الناس ورق لا شوك فيه، فأصبحوا شوكا لا ورق فيه، فعندما تظفر بمن تطمئن إليه ففراقه تكون فيه الحسرة بعد ذلك، ولا يكون الموت مصيبة للمجاهد، فالشهادة أمنية يتمناها العبد، وصاحب "الضلال" شهيد القرآن سيق إلى المشنقة وكان يقرأ قول الله تعالى: وعجلت إليك رب لترضى [طه:84]. المحب يحب الموت لأنه السبيل للقاء الحبيب سبحانه. سأل أحد السلف أحد الزهاد قال له: أتحب الموت؟ فكأنه توقف فقال له: لو صدقت الله في حبك لأحببت الموت لأن الله تعالى تحدى اليهود عندما ادعت محبة الله وولايته فقال لهم: فتمنوا الموت إن كنتم صادقين [البقرة :95].
ثم الصبور الذي تحمل لسعات الدنيا وأذاها يستريح لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((مستريح ومستراح منه، قيل: يا رسول الله ما مستريح ومستراح منه؟ قال: أما المؤمن فيستريح من نصب الدنيا وعنتها، إلى رحمة الله عز وجل، وأما الكافر فيستريح منه العباد والشجر والدواب)) ( [9] ).
وأما سنن الاحتضار:
فأولها تلقين المحتضر (لا إله إلا الله) لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) ( [10] ). فمن استطاع أن ينطق بها فهو دليل حسن حال في الآخرة، لقول النبي : ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) ( [11] ).
الإمام القرطبي يقول: والعبد ينشغل باحتضاره بما كان منشغلا به في الدنيا، فإن كان الغالب عليه ذكر الله عز وجل كان كذلك عند احتضاره، وإن كان ما سواه كان ما سواه والعياذ بالله، ذكر لأحد التجار عند احتضاره قيل له: يا فلان قل لا إله إلا الله، قال: الدار الفلانية أصلحوا سقفها، يا فلان قل لا إله إلا الله قال: افتحوا في البستان ترعة. وقيل لآخر من أهل اللهو: قل لا إله إلا الله فقال: اشرب واسقني. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت أي: لا إله إلا الله، في الحياة الدنيا أي عند الاحتضار وفي الآخرة أي عند السؤال في القبر: ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [إبراهيم:27].
ومن سنن الاحتضار أيضا تغميض عيني الميت.
دخل النبي عليه الصلاة والسلام على أبي سلمة وقد شق بصره (أي ارتفع) فأغمض النبي عليه الصلاة والسلام عيني أبي سلمة وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الروح إذا قبض تبعه البصر)) ( [12] ).وأن يتوسد جنبه الأيمن وأن يستقبل القبلة بقدمه كذا فعلت فاطمة رضي الله عنها عند ما حضرتها الوفاة، استقبلت القبلة بقدميها وتوسدت بجنبها الأيمن ( [13] ) ، وهي الصورة التي من السنة أن تنام عليها وأن تحتضر عليه، وأن تدفن عليها في قبرك.
ومن سنن الاحتضار إبراء الذمة، من حق لله أو حق للعباد، من حق لله عز وجل كالحج، سألت امرأة، رسول الله : إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((نعم حجي عنه)) ( [14] ) ، ثم حق للعباد، كالدّين مثلا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((نفس المؤمن معلقة بديْنه)) ( [15] ) أي محبوسة عن مقامها الكريم.
وأما كيف يكون استعداد العبد للموت؟
فلابد أولا أن تدرك قصر الدنيا: لم يلبثوا إلا عيشة أوضحاها [النازعات:46]. من السنة إذا ولد المولود أن يؤذن في أذنه اليمنى وإذا مات أن يصلى عليه، قال الشاعر:
أذان المرء حين الطفل يأتي وتأخير الصلاة إلى الممات
دليل أن محياه يسير كما بين الآذان إلى الصلاة
أي ولد فأذن ومات فأقيمت الصلاة وحياته ما بينهما.
وأخيرا لابد من اغتنام الأوقات قبل رحيلها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضتك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك)) ( [16] ) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ثم أن تنشغل بعيبك، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أمسك عليك لسانك وليسعك وبيتك وابك على خطيئتك)) ( [17] ) ، ثم الأخذ بالعزائم، فسلعة الله غالية، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)) ( [18] ) ، ويقول رب العزة عن الجنة: خالدين فيها أبدا ، فما قيمة المحدود أمام اللامحدود، ثم إن عليك أن تدرك أن كل لذة مرت عليك، سوف ينتهي أمرها بعد ذلك.
والله لو عاش الفتى في دهره ألفا من الأعوام مالك أمره
متنعما فيها بكل نفسية أبدا ولا ترد الهموم بباله
ما كان هذا كله في أن يفي بمبيت أول ليلة في قبره
( [1] ) الطبراني في الأوسط والحاكم.
( [2] ) رواه البخاري.
( [3] ) رواه البخاري ومسلم.
( [4] ) رواه البخاري ومسلم.
( [5] ) رواه البخاري ومسلم.
( [6] ) الترمذي والنسائي.
( [7] ) ابن أبي الدنيا.
( [8] ) متفق عليه.
( [9] ) رواه مسلم.
( [10] ) رواه مسلم.
( [11] ) رواه أبو داود الحاكم وقال صحيح الإسناد.
( [12] ) رواه مسلم.
( [13] ) فقه السنة مجلد 1 ص 442.
( [14] ) البخاري.
( [15] ) أحمد والترمذي.
( [16] ) ابن الدنيا بإسناد حسن.
( [17] ) رواه الترمذي.
( [18] ) رواه الترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/382)
عذاب القبر
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القبر أول منازل الآخرة. 2- مشروعية زيارة القبور. 3- ماذا يكون في القبر. 4- عذاب
القبر في الكتاب والسنة. 5- أسباب عذاب القبر. 6- أسباب النجاة من عذاب القبر. 7- موقف المسلم من عذاب القبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [المؤمنون:99-100].
هذه قولة الكافر عند الاحتضار ثم ما يقوله في قبره في لهفة أن يرجع إلى الدنيا حتى يعمل صالحا، يقول قتادة رحمه الله: إن الكافر لن يطلب أن يعود إلى مال أو أهل أو ولد إنما يتمنى أن يرجع إلى الدنيا حتى يعمل صالحا، فرحم الله امرأ عمل فيما يتمناه الكافر عندما يرى العذاب، والبرزخ الحاجز بين الدنيا والآخرة، وهي القبور حيث يُنعم المؤمنون ويُعذب الكافرون والعاصون.
فما القبر؟ وما صفته؟ وهل للقبر عذاب؟ وما أسبابه؟ وكيف النجاة منه؟
القبر: أول منازل الآخرة، يكرم فيه المؤمن تهيئة لما ينتظره في الجنة ويعذب فيه الكافر والعاصي تهيئة لما ينتظره في جهنم.
وينبغي أن تعلم:
أن الموت كأس وكل الناس شاربه قال تعالى: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن :26-27]. كل نفس ذائقة الموت [آل عمران:185]. كل شيء هالك إلا وجهه [القصص:88]. فلا منجى ولا مهرب.
إن زيارة القبور مستحبة لقوله : ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)) ( [1] ).
لما فيها من التذكر والاعتبار وكان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتل لحيته فسئل عن ذلك وقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفت على قبر؟ فقال: سمعت رسول الله يقول: ((إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر وإن لم ينج منه فما بعد أشد)) ( [2] ).
يقول ابن القيم رحمه الله: كان النبي إذا زار القبور يزورها للدعاء لأهلها والترحم عليهم والاستغفار لهم ومر يوما بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: ((السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر)) ( [3] ).
كان الربيع بن خثيم قد حفر في داره قبر فكان إذا وجد في قلبه قسوة دخل فيه فاضطجع ثم يصرخ (رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت) ثم يرد على نفسه: يا ربيع قد رجعت فاعمل، ووقفة على القبور تريك الأعمار المتفاوتة، ومآلك إلى هذه الحفرة الضيقة، فناء هذه الأبدان التي أوليتها اهتمامك، تركك وحيدا فلا زوجة ولا ولد.
وأما صفة القبر: فاعلم أن للقبر:
أ- كلام: للحديث: ((إن الميت يقعد وهو يسمع خطو مشيعيه فلا يكلمه شيء إلا قبره ويقول: ويحك ابن آدم أليس قد حذرتني وحذرت ضيقي ونتني ودودي فماذا أعددت لي؟)) ( [4] ).
ب- ضمة: للحديث: ((للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ)) وفي رواية: ((هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهد له سبعون ألفا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه)) ( [5] ).
ج- فتنة: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كل إنسان يسئل بعد موته قبر أم لم يقبر فلو أكلته السباع أو صار رمادا لسئل عن أعماله وجزي بالخير خيرا وبالشر شرا: للحديث: ((إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله قال: فيقول: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، وأما الكافر والمنافق فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقولان: لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين)) ( [6] ).
وأما هل للقبر عذاب؟: فإن عذاب القبر ثابت في الكتاب والسنة.
من الكتاب
1- قال تعالى: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون [السجدة:21]. قال ابن عباس: جزء منه في الدنيا والنصيب الأكبر منه في القبر والعذاب الأكبر هو عذاب جهنم، قال مجاهد: يعني به عذاب القبر.
2- قوله تعالى: وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر:45-46].
قال ابن كثير: وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبر ( [7] ). حيث أثبت سبحانه لآل فرعون عذابا في الليل والنهار ويوم تقوم الساعة ينتقلون إلى العذاب الأكبر في جهنم.
قوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون [الأنعام:93]. فالأمر لا يتأخر إلى انقضاء الدنيا فهم يعذبون قبل قيام الساعة الكبرى وهو عذاب القبر.
ب- ومن الحديث:
حديث: ((القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)) ( [8] ).
((لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يريكم عذاب القبر فقالت أم بشر: وهل للقبر عذاب؟ فقال: : إنهم ليعذبون عذابا تسمعه البهائم)) ( [9] ).
ومن دعائه وبعد التشهد الأخير: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال)) ( [10] ).
ما هي أسباب عذاب القبر:
1- التهاون في الطهارة وسوء الخلق: للحديث: ((إن النبي مر على قبرين فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما هذا فكان لا يستنزه من البول، وأما هذا فكان يمشي بالنميمة)) ( [11] ).
النميمة نقل الكلام للإفساد بين الناس والتنزه هو الاستبراء والتطهر للحديث: ((تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)) ( [12] ).
2- التهاون في الوضوء وتركه نصرة أخيه المظلوم للحديث: ((أمر بعبد من عبيد الله أن يجلد في قبره مائة جلدة فما زال يسأل الله عز وجل حتى صارت جلده فلما ضرب اشتعل عليه قبره نارا فلما أفاق قال: علام جلدتموني؟، فقيل له: إنك صليت صلاة من غير طهور ومررت على مظلوم فلم تنصره)) ( [13] ).
وأمة الإسلام واقعة في هذا الإثم فكم من مستصرخ أو مستنجد تستباح أرضهم وأعراضهم وأمة الإسلام لاهية سادرة في عبثها ولهوها.
3- أو جريمة كالسرقة: كان رجل يقال له كركرة على متاع رسوله فمات فقال النبي : ((هو في النار وإن الشملة تشتعل عليه نارا في قبره)) فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها)) ( [14] ). والغلول: السرقة من الغنيمة. والشملة: هي الكساء من الصوف يتغطى به.
يقول ابن القيم رحمه الله: فعذاب القبر عن معاصي القلب والعين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، ولما كان أكثر الناس كذلك كان أكثر أصحاب القبور معذبين والفائز منهم قليل فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات ( [15] ).
وأما أسباب النجاة من عذاب القبر:
1- أعظم أسباب النجاة من عذاب القبر هي الشهادة في سبيل الله فنسأل الله أن يبلغنا إياها بمنه وكرمه أمين.
سئل رسول الله : ((ما بال الشهداء لا يفتنون في قبورهم؟ فقال: كفى ببارقة السيف على رأسه فتنة)) ( [16] ).ويقول: ((إن للشهيد عند الله سبع خصال: أن يغفر له من أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلة الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه)) ( [17] ).
2- المداومة على قراءة سورة تبارك للحديث: ((إن في القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له)) ( [18] ).
3- الأعمال الصالحة الخالصة: للحديث: ((إن الميت إذا وضع في قبره، إنه يسمع خفق نعالهم حين يولوا مدبرين فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عن يمينه وكانت الزكاة عن شماله وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلاة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل ثم يؤتي عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتي عن يساره فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل ثم يؤتي من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والمعروف والإحسان: ما قبلي مدخل)) ( [19] ).
4- أن يموت يوم الجمعة أو ليلتها: للحديث: ((من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أجير من عذاب القبر وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء)) ( [20] ).
5- المرابط في سبيل الله: للحديث: ((رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)) ( [21] ).
6- أن يحاسب العبد نفسه ويجدد توبته قبل النوم، يقول ابن القيم رحمه الله: ومن أنفع الأسباب المنجية من عذاب القبر أن يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه ثم يجدد له توبة نصوحا، ويفعل هذا كل ليلة فإن مات من ليلته تلك مات على توبة وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل مسرورا بتأخر أجله حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته ( [22] ).
ولا سيما إذا أعقب ذلك استعمال السنن عند النوم.
7- الدعاء للميت والاستغفار والصدقة عنه ووفاء ديونه وقضاء ما قصر فيه من حج فإنه له نفع للأحاديث: ((كان النبي إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)) ( [23] ).
أن رجلا أتى النبي فقال: ((يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها (فاجأها الموت) ولم توص واظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم)) ( [24] ).
وأما موقف المسلم:
الإيمان المطلق والتصديق الذي لا شك فيه فالله ربنا ونحن عبيده، ورسول الله نبينا ونحن أتباعه وصدق الله العظيم: ومن أصدق من الله حديثا [النساء:87]. وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [النجم:3-4].
إن عذب القبر ونعيمه غيب كما أن الجنة والنار والملائكة غيب ومن سمات المؤمنين قال تعالى: الذين يؤمنون بالغيب [البقرة:3].
إن للنفس أربع دور كل دار أعظم من التي قبلها.
الأولى (في بطن الأم) حيث يتخلق فيه وتنفخ فيه الروح.
الثانية (دار الدنيا) وفيها يكتسب العبد الحسنات والسيئات.
الثالثة (دار البرزخ) وهي أوسع ونسبتها إليه كنسبة هذه الدار إلى الأولى.
الرابعة (دار القرار) وهي الجنة أو النار فلا دار بعدها: فتبارك الله أحسن الخالقين [المؤمنون:14].
( [1] ) أحمد ومسلم.
( [2] ) الترمذي وحسنة وابن ماجة.
( [3] ) رواه الترمذي.
( [4] ) ابن أبي الدنيا ورجاله ثقات.
( [5] ) رواه النسائي.
( [6] ) رواه الشيخان.
( [7] ) ابن كثير مجلد3 ص246.
( [8] ) الترمذي.
( [9] ) رواه مسلم.
( [10] ) رواه مسلم.
( [11] ) البخاري.
( [12] ) الدار قطني.
( [13] ) الطبراني.
( [14] ) البخاري ومالك.
( [15] ) الروح ص112-113.
( [16] ) النسائي.
( [17] ) أحمد والطبراني.
( [18] ) أبو داود والترمذي.
( [19] ) الطبراني في الأوسط وابن حيان في صحيحه.
( [20] ) رواه أحمد والترمذي.
( [21] ) رواه مسلم.
( [22] ) الروح / ابن القيم ص 115.
( [23] ) أبو داود وقال الحاكم صحيح الإسناد.
( [24] ) رواه الشيخان.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/383)
الجنة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكان الجنة والنار. 2- أسماء الجنة. 3- لم خلق الله الجنة. 4- صفة الجنة وسكانها
وخدمها. 5- أسباب دخول الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول رب العزة سبحانه: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [آل عمران:133].
دعوة من الله سبحانه لعباده أن يسارعوا إلى كل خير وإلى كل عمل صالح، حتى يفوزوا بمغفرة الله والجنة. وقدّم المغفرة على الجنة - كما قال العلماء - لأن السلامة تطلب قبل الغنيمة وأصحاب الجنة هم المتقون.
فما الجنة؟ ولماذا؟ وما صفة الداخلين إليها؟ وما صفتها؟ وما أسباب دخولها؟
أما الجنة:
فهو الاسم العام المتناول لتلك الدار، دار رب الأرباب وملك الملوك، التي أعدها لعباده المؤمنين من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وأهل التوحيد من أمة محمد عليه الصلاة والسلام بعد أن يطهرهم رب العزة سبحانه من ذنوبهم.
وسميت الجنة جنة، لأن الداخل إليها تستره بأشجارها وتغطيه.
وينبغي أن تعلم:
أن هاهنا إشكال أورده البعض في قول الله تعالى: وجنة عرضها السماوات والأرض [آل عمران:133]. فإذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار. أورد ابن كثير رحمه الله تعالى رواية عن الإمام أحمد: أن هرقل كتب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار ؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ((سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار؟)) ( [1] ). إذا جاء النهار غشى وجه العالم في جانب، ويكون الليل في الجانب الآخر، فكذا الجنة في أعلى عليين، والنار في أسفل سافلين ( [2] ). كذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى.
سمى رب العزة الجنة بأسماء باعتبار صفاتها:
أ- دار السلام: قال تعالى: لهم دار السلام عند ربهم [الأنعام:127]. ذلك لأن الداخل إلى الجنة قد سلم من كل آفة ومن كل بلاء ومن كل مكروه، فلا تنكيد ولا تنغيص. لقول النبي : ((ويؤتي بأشقى أهل الدنيا من أهل الجنة، فيغمس غمسة في الجنة، فيقال له: هل رأيت شرا قط؟ قد مر بك شر قط؟ فيقول: لا والله، ما رأيت شرا قط ولا مر بي شر قط)) ( [3] ).
ب- جنات عدن: وصدق الله العظيم: جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا [مريم:61]. العرب تقول: عدن الرجل في المكان: أي أقام فيه فلم يرتحل. وكذا الداخل إلى الجنة، لا يرتحل عنها أبدا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((فيؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش، فيقال لأهل الجنة والنار: أتدرون ما هذا؟ فيقولون: نعم إنه الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم)) ( [4] ).
ج- جنات النعيم: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم [لقمان:8]. ذلك لما في الجنة من اللذائذ والأطايب التي أعدها رب العزة لأوليائه، ظاهرة وباطنة.
وأما لماذا الجنة؟ فلا بد من الجنة:
حتى لا يستوي الصالح بالطالح، ولا المحسن بالمسيء، ولا المؤمن بالكافر، ولا المظلوم بالظالم، وصدق الله العظيم:
أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون [القلم:35-36]. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون [الحشر:20].
فإذا كانت الموازين قد اختلت في الأرض.
يوما تريك خسيس النار مرتفعا ويوما تخفض العاني
أما ترى البحر تطفو فوقه جيف وتستقر بأقصى قعره الدرر
وكم على الأرض أشجارا مورقة وليس يرجم إلا من به ثمر
فإن موازين السماء لن تختل أبدا: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا [الأنبياء:47].
حتى يعوّض رب العزة سبحانه المحسن عن إحسانه، والمجاهد عن جهاده، والصابر عن صبره، والمحتسب وجه الله عز وجل في كل بلية جرت عليه. في الحديث القدسي يقول الله سبحانه: ((يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ فيقول: نعم، فيقول رب العزة: وماذا قال عبدي؟ يقول: حمدك واسترجع: (أي قال: الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون) فيقول رب العزة سبحانه: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسمّوه بيت الحمد)) ( [5] ).
ويقول رب العزة سبحانه في الحديث القدسي: ((إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه – أي بعينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة)) ( [6] ). وهذا أصل في التربية عظيم، بل هو البلسم الشافي لجراحات القلوب.
لأنها أمنية الصالحين، ومهوى أفئدة السالكين، فما دمع العين ولا حرقة القلب ولا انزعاج الجوارح إلى العمل بطاعة الله عز وجل، إلا لنيل تلك الجنان. فعند ذكرها تهون المصائب ويلذ الجهاد بل الموت في سبيل الله.
أخي إن مت نلق أحبابنا فروضات ربي أعدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود
عندما حضرت بلال الوفاة، قالت زوجته: واحزناه! قال: بل قولي: وافرحتاه! غدا نلق الأحبة، محمدا وصحبه.
وأما صفة الداخلين إلى الجنة:
في سنهم وخلقهم: يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((يدخل أهل الجنة على سن ثلاث وثلاثين، على خلق آدم عليه السلام ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع)) ( [7] ) ، ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: وهذا السن أبلغ ما يكون العبد فيها من القوة، وبكمال القوة يكون كمال التلذذ والاستمتاع بما أعده رب العزة سبحانه.
في تنزههم عن الفضلات والأذى: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك)) ( [8] ). سأل رجل من أهل الكتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام عن أهل الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ويعطى الرجل في الجنة قوة مائة رجل في المطعم والمشرب والجماع: فقال الرجل: يا محمد، أين تكون الفضلات بعد ذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تكون رشحا ويكون الرشح مسكا)). تكون عرقا ويكون هذا العرق مسكا بقدرة الله عز وجل.
في تطهيرهم في ظواهرهم وبواطنهم: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وعند باب الجنة شجرة، يخرج من أصلها عينان، إذا شربوا من الأولى جرت عليهم نظرة النعيم، وخرج منهم ما في داخلهم من كل بأس وأذى، وإذا اغتسلوا من الثانية لم تشعث أشعارهم أبدا)) ( [9] ).
قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أهل الجنة يدخلون الجنة جماعات جماعات لقول رب العزة سبحانه: وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا )) [الزمر:73]
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: كل أهل طاعة يحشرون ويأتون الجنة كجماعة لحالها، وذلك مما يؤنس بعضهم ببعض ويقوى بعضهم بعضا ويفرح بعضهم ببعض. وأهل النار والعياذ بالله يساقون إلى النار جماعات: وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا [الزمر:71]. يقول ابن القيم: وذلك حتى يلعن بعضهم بعضا ويتهم بعضهم بعضا ويسب بعضهم بعضا، وهذا أبلغ في الهتيكة والخزي بأهل النار من أن يذهبوا إلى النار واحدا واحدا.
وباب الجنة لن يفتح لأحد إلا أن يكون أول داخل إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: ((آتي الجنة فأستفتح أي فأستأذن فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: أنا محمد فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك)) ( [10] ). وهذا تعظيم لقدر نبينا عليه الصلاة والسلام وتكريم له.
وأما صفة الجنة:
1- في أبوابها: فهي ثمانية، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من توضأ ثم أحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية)) ( [11] ). فهي ثمانية أبواب. وكل باب قد خصه رب العزة بطاعة، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)). فقال أبو بكر الصديق : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وما على أحد من ضرورة أن يدعى من الأبواب كلها؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((لا، وأرجو أن تكون منهم)) ( [12] ) ، أي: وأرجو يا أبا بكر أن تكون ممن يدعى من الأبواب الثمانية.
2- وأما أرضها: فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((إنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها طينتها المسك، وترابها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم)) ( [13] ).
3- ما يكون لأدنى أهلها منزلة وما يكون لأعلاهم منزلة، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يجيء آخر رجل ممن يدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم، فيقول له رب العزة: ادخل الجنة ،فيقول: يا رب وأين أكون وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! فيقول له رب العزة سبحانه: أترضى أن يكون لك مثل مُلك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب. فيقول له رب العزة: لك ذلك ومثله ومثله ومثله مثله. فيقول في الخامسة: رضيت يا رب، فيقول: لك ذلك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك)).
وأما أعلاهم درجة فيقول رب العزة سبحانه: ((أولئك الذين أردت - أي اخترت - ختمت كرامتهم بيدي، وأعددت لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) ( [14] ).
4- وأما أنهارها، فهي أربعة أنواع من الأنهار، يقول رب العزة سبحانه: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم [محمد:15].
وأعظم أنهارها الكوثر، قرأ النبي عليه الصلاة والسلام: إنا أعطيناك الكوثر [الكوثر:1]. فقيل: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال: ((نهر أعطانيه ربي حافتاه من الذهب، حصباؤه اللؤلؤ والياقوت، آنيته عدد نجوم السماء، ترد عليه أمتي يوم القيامة، لونه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا)) ( [15] ).
5- وأما حورها ونسائها: فيعلمنا المصطفى عليه الصلاة والسلام:
أ- عن مادة خلقهن: فيقول: ((خلق الله تعالى الحور العين من الزعفران)) ( [16] ) ، يقول ابن القيم: فإذا كانت الصورة الآدمية في حسنها وتناسقها مادة خلقها التراب: فكيف يكون حال الحور العين وقد خلقن من الزعفران هناك؟!
ب- في عفتهن: يقول رب العزة سبحانه: وعندهم قاصرات الطرف عين [الصافات:48]. عفيفات قد قصرن أبصارهن إلا عن أزواجهن، ذهب الحياء بخير الدنيا والآخرة.
ج- في طهرهن: وأزواج مطهرة [آل عمران:15]. فلا حيض ولا نفاس.
د- في حسنهن: يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((يسطع نور في الجنة فيرفع أهل الجنة رؤوسهم فيرون حورية قد ابتسمت)) ( [17] ).
ه- في نكاحهن: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وإن المؤمن ليصل في اليوم الواحد إلى مائة عذراء)) ( [18] ).
ولكنه لا مني ولا إنزال ولا ما يوجب الغسل، قول النبي : ((لا مني ولا منية)) ( [19] ) أي لا إنزال ولا موت يكون في الجنة.
6- وأعظم عطاء الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة: ودخل أهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقول أهل الجنة: ألم يبيّض وجوهنا؟! ألم يجرنا من النار؟! ألم يثقل موازيننا؟! فيكشف الحجاب، فينظرون إلى وجه الله الكريم، فما اعطوا عطاء أحب إليهم من النظر إلى وجه الله الكريم)) ( [20] ). وصدق الله العظيم: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [القيامة: 22-23]. للذين أحسنوا الحسنى – أي الجنة- وزيادة [يونس: 26]. أي وأعظم من الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال الإمام مالك.
7- وأخيرا هنالك في الجنة أمنيات تتحقق. جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((يا رسول الله، هل في الجنة خيل؟ فإنها تعجبني، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أحببت أتيت بفرس من ياقوته حمراء تطير بك في الجنة حيث شئت)) ( [21] ).
قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا استقر أهل الجنة في الجنة، اشتاق الإخوان إلى الإخوان، فيطير سرير هذا إلى سرير هذا، فيذكران ما كان بينهما في الدنيا ويقول له: أتذكر مجلس كذا، جلسنا فدعونا الله أن يغفر لنا فغفر لنا)) ( [22] ).
وأما أسباب دخول الجنة؟
فينبغي أن تعلم أن الجنة غالية، والأمر يحتاج إلى جد لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من خاف أدلج – أدلج بالطاعة - ومن أدلج بلغ المنزل..)) ((ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)) ( [23] ).
والأمر يحتاج إلى تشمير، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ألا من مشمّر للجنة، فإنها ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وزوجة حسناء، فقال الأصحاب: نحن المشمرون لها يا رسول الله، قال: قولوا: إن شاء الله، فقال القوم: إن شاء الله)) ( [24] ).
والأمر يحتاج إلى عمل: ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون [الأعراف:43].
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
لا تركنن إلى الدنيا وزينتها فالموت لا شك يفنيها ويبديها
واعمل لدار غدا رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
وتنافس في أعلى مقامات الجهاد: قال تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله [التوبة:111]. فالمشتري هو الله، والبائع هو المؤمن، والسلعة هي الأنفس والأموال، والثمن هي الجنة، والطريق هو الجهاد.
وعلى الجهاد ربى رسول الله أصحابه رضوان الله عليهم، حتى صار الموت في سبيل الله تعالى أسمى أمنياتهم وأغلاها، وهذا صحابي جليل ممن اشتاق إلى لقاء الله تعالى على أكرم صورة، هي شاهد صدق على حب الله تعالى الذي اختلط بدمائهم وعصبهم ولحمهم، هو الصحابي عبد الله بن جحش وفي غزوة أحد يرفع يده ويدعو، وبماذا يدعو؟! ويا عجبا لما يدعو! يقول: اللهم إنك تعلم أنه قد حضر ما أرى، أي من التقاء الجيشين، فأسألك ربي أن تبعث إلي رجلا كافرا صنديدا قويا يقتلني ويجدع أنفي وأذني ويضعها في خيط، (زيادة في النكاية والتمثيل) ثم آتيك ربي فتقول: فيم ذاك يا عبد الله؟ فأقول: فيك يا رب، أي لأجلك يا رب قد فعل بي هذا.
ومن أبواب الجنة هو الإنفاق: يقول رب العزة سبحانه: لن تنالوا البر – أي لن تدخلوا الجنة – حتى تنفقوا مما تحبون [آل عمران:92]. قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((عندما خلق الله الجنة قال لها: تكلمي، فقرأت: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون واللذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون ، فقال رب العزة سبحانه: وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل)) ( [25] ).
ثم الصلاة:
في الفرض يقول جرير بن عبد الله: كنا عند النبي عليه الصلاة والسلام، وكان القمر بدرا، فكان عليه الصلاة والسلام: ((إنكم سترون ربكم كرؤيتكم القمر – أي في الوضوح- لا تضامون في رؤيته – أي لا تملون- فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)) ( [26] ) - أي صلاة الصبح وصلاة العصر – وما أكثر تضييعنا لها.
في النافلة، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من صلى اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في الجنة: ركعتان قبل صلاة الصبح، وأربعا قبل الظهر، واثنتان بعدها، وركعتان بعد صلاة المغرب، وركعتان بعد صلاة العشاء)) ( [27] ).
في قيام الليل: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة:16]. قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)) ( [28] ).
ثم أن تلزم ذكر الله سبحانه، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من قال: سبحان الله والحمد لله، غرست له نخلة في الجنة)) ( [29] ). وللحديث: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وإنها قيعان وإن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) ( [30] ).
الخلق الحسن: للحديث: ((ألا أخبركم برجالكم في الجنة: النبي في الجنة، والصديق في الجنة والشهيد في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر لا يزوره إلا لله في الجنة، ونساؤكم من أهل الجنة الودود الولود التي إذا غضبت جاءت حتى تضع يدها في زوجها ثم تقول: لا أذوق غمضا حتى ترضى)) ( [31] ).
( [1] ) رواه الإمام أحمد.
( [2] ) مختصر ابن كثير ج1 ص 318.
( [3] ) مسلم.
( [4] ) رواه البخاري.
( [5] ) الترمذي وابن حيان.
( [6] ) البخاري.
( [7] ) رواه أحمد.
( [8] ) رواه مسلم.
( [9] ) رواه البيهقي.
( [10] ) رواه مسلم.
( [11] ) رواه مسلم.
( [12] ) رواه البخاري ومسلم.
( [13] ) رواه الترمذي.
( [14] ) رواه مسلم.
( [15] ) رواه الترمذي.
( [16] ) الطبراني مرفوعا.
( [17] ) ابن أبي الدنيا.
( [18] ) الترمذي.
( [19] ) الطبراني.
( [20] ) مسلم.
( [21] ) الترمذي.
( [22] ) ابن أبي الدنيا.
( [23] ) رواه الترمذي.
( [24] ) ابن ماجة وابن حيان.
( [25] ) رواه أحمد والترمذي والنسائي.
( [26] ) متفق عليه.
( [27] ) رواه مسلم.
( [28] ) الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
( [29] ) الترمذي.
( [30] ) الترمذي.
( [31] ) النسائي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/384)
جهنم
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسماء جهنم. 2- لماذا خلق الله النار. 3- صفة جهنم. 4- من هم أهل النار. 5- إيمان
المسلم بالنار.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [آل عمران:197]. متعب للنفس المسلمة أن ترى الباطل في صولة وسلطان. وأن ترى الحق في ذل وهوان ولكن ذلك يزول عندما تعلم وتوقن أن الدنيا متاع، ولابد للمتاع أن ينفد، وجهنم هي المآل والمصير للباطل وأهله.
فما جهنم؟ ولماذا؟ وما صفتها؟ ومن هم أهلها؟ وكيف النجاة منها؟
أما جهنم: فكما أنه سبحانه جعل مستقر رحمته لأوليائه الجنة فقد جعل مستقر عذابه لأعدائه جهنم.
وينبغي أن تعلم:
1- أن لجهنم أسماء تدل على شدتها وأهوالها، ومن أسمائها :
أ/ الهاوية: فأما من خفت موازينه فأمه هاوية [القارعة:8-9]. قال ابن زيد: (الهاوية النار هي أمه ومأواه التي يرجع إليها) ( [1] ).
ب/ الحطمة: كلا لينبذن في الحطمة [الهمزة:4]. قال ابن كثير: (لأنها تحطم من فيها) ( [2] ).
ج/ لظى: كلا إنها لظى نزاعة للشوى [المعارج:15-16]. فهي تتلظى وتلتهب وتحرق جلدة الرأس وهي الشوى وقيل الجلود والهام وقال الضحاك: (تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا) ( [3] ).
2- الداخل إليها لا يموت فيستريح ولا يحيي حياة طيبة: ثم لا يموت فيها ولا يحي [الأعلى:13]. لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها [فاطر:36]. وعند ذاك يكون الموت أمنية الداخلين، الموت الذي كان أبغض شيء لهم في الحياة يصير أمنية يتمنونها: ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون [الزخرف:77]. قال ابن عباس: مكث ألف سنة ثم قال: إنكم ماكثون ( [4] ).
وأما لماذا جنهم؟:
1- فلا بد من وجود جنهم حتى لا يمضي الظالم من غير عقاب، فإذا ما اختلت موازين العدالة في الأرض فإن موازين السماء ثابتة لا تعبث بها الأهواء والمصالح والأموال والوساطات: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا [الأنبياء:47].
وللحديث: ((يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ فيقول الله عز وجل: فيم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزة لفلان. فيقول الله عز وجل للقاتل: تعست)) ( [5] ).
حتى يتشفى قلب المؤمن من الطغاة والظلمة الذين سفكوا وقتلوا ونهبوا وحرفوا الأمة عن ربها، ومثلوا دور الأمناء وهم الخونة، والصادقين وهم الكذبة والعلية وهم السفلة. ويوم القيامة هو يوم العدل والقصاص، سخرية تقابلها سخرية: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون [المطففين:29]. ويوم القيامة: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون [المطففين :34]. وعذاب يقابله عذاب: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [البروج:10]. وشتان بين عذاب العباد وعذاب رب العباد للعباد.
2- لأن بواعث النفس للعمل ثلاثة فأما أن يكون الباعث هو معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وهذا هو حال رسول الله : ((فقد كان يقوم حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا أكون عبدا مشكورا)) ( [6] ).
وأما أن يكون الباعث الرغبة في الجزاء والمثوبة والجنة: إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا [النبأ:31-34].
وأما أن يكون الباعث للعمل الصالح هو الخوف من عذاب الله وعقابه وناره: إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم [الطور :26-27].
وأما صفة جهنم:
مادة وقودها: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة [البقرة:24]. والوقود هو ما يلقي في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، فوقود جهنم هم الداخلون إليها، فكلما دخلها فوج تأججت وازدادت لهيبا.
عمقها: حديث ابن مسعود: سمعنا وجبة (أي صوتا شديدا) فقلنا ما هذه؟ فقال رسول الله : ((هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها)) ( [7] ).
لونها: للحديث: ((أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء لهبها)) ( [8] ).
حرارتها: وللحديث: ((إنها لجزء (أي نارنا) من سبعين جزءا من نار جهنم وما وصلت إليكم حتى نضحت مرتين بالماء لتضيء لكم)) ( [9] ).
طعامها وشرابها: للحديث: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه؟)) ( [10] ). وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه [الكهف:29]. والمهل الماء الأسود المنتن الغليظ الحار. قال سعيد ابن جبير: (إذا جاع أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقوم، فيأكلون فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم) ( [11] ).
ثيابهم: قال تعالى: هذا خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود [الحج:19-30]. قال سعيد بن جبير: فصلت لهم مقطعات من النار من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي) ( [12] ). وللحديث: ((إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه - وهو الصهر- ثم يعاد كما كان)) ( [13] ).
عميان أهلها: ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم [الإسراء:97]. وعن أنس : ((قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاههم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم)) ( [14] ).
عظيمة أجسامهم: للحديث: ((ضرس الكافر مثل أحد (أي جبل أحد) وفخذه مثل البيضاء (اسم لجبل) ومقعده من النار كما بين قديد ومكة)) ( [15] ). ((إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة)) ( [16] ).
أقل أهل النار عذاب: للحديث: ((إن أهون أهل النار عذابا رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم)) ( [17] ). والقمقم ما يسخن به الماء من نحاس وغيره.
وللحديث: ((إن أدنى أهل النار عذابا الذي له نعلان من نار يغلي منهما دماغه)) ( [18] ).
وأما من هم أهلها؟:
الملحدون: الذين يدعون العقل ولا عقل، والذين انكروا أن يكون للكون إله وعاشوا وماتوا على ذلك، فإن من العقول من لا تؤمن حتى ترى العذاب: لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم [الشعراء:201].
المشركون: الذين جعلوا مع الله إلها آخر سواء كان صنما أو شجرا أو طاغية يأخذون منه المنهج والتشريع، وأعرضوا عن منهج الله المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذين اعتقدوا أن غير الله سبحانه هو النافع الضار المحيي المميت، الرازق المانع: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداد يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعا وإن الله شديد العذاب [البقرة:165].
المنحلون: الذين يريدون أن تنزلق الأمة إلى مهاوي الرذيلة والخنا حتى يسهل قيادها لأعداء الله ويلتمسون لذلك الأساليب من ترويج لصور العاهرات والساقطات حيث لم يتركوا عاهرة إلا وعقدوا معها لقاء وأظهروها بمظهر المتحررة من القيود البالية، ومن يثيرون الغرائز الحيوانية بالكلمة المسموعة أو المقروءة أو المرئية ومن لا يحسنون إلا (أدب الفراش) من شعراء النهود، ومن يتكسبون الأموال بالحفلات الماجنة وتأجير الشقق للدعارة وتحويل البلاد إلى بيت دعارة باسم السياحة والانفتاح قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [النور:19].
المجرمون: الذين لا تجدهم في مواطن الرجولة والدفاع عن الأمة وساحات الكرامة الذين لا يحسنون إلا قتل الأبرياء والعُزّل من المؤمنين، والأمة إذا فسقت ذلت وهانت وصارت نعلا بقدم الطاغية: فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين [الزخرف:54]. يسلب مالها، ويهتك عرضها، ويسلك بها سبل الضلالة والغواية والسقوط، وهي ترقص وتغني وتضحك وتصفق للمجرم الذين يغتال صالحيها: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما [النساء:93].
المضيعون لفرائض الله سبحانه: ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين [المدثر:43-45]. قال ابن كثير: (أي ما عبدنا ربنا ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا وكلما غوى غاو غوينا معه حتى جاءهم الموت) ( [19] ).
وأما موقف المسلم من جهنم:
فإن العبد كلما ازداد معرفة كلما ازداد خشية وكلما ازداد خشية ازداد صلاحا واغتناما للأوقات قبل رحيلها، فهناك تعظم الحسرات وتسيل العيون بالدموع والعبرات أنهارا: ((إن أهل النار ليبكون حتى لو اجريت السفن في دموعهم لجرت، وإنهم ليبكون الدم مكان الدمع)) ( [20] ). وتعض الأيدي ندما وتحسرا: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [الفرقان:27]. وتصرخ الألسن بالأمنيات: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا [الأنعام:27]. يا ليتني قدمت لحياتي [الفجر:24]. يا ليتها كانت القاضية [الحاقة:27]. قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت [المؤمنون:99-100].
فكان لابد من:
1) أن تعلم أن اللذة والنشوة الحرام سوف تذوي وتذوب عند أول غمسة في النار: ((ويؤتي بأنعم أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغه ثم يقال: يا ابن آدم: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب)) ( [21] ).ويصبغ أي يغمس.
التوبة: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا [التحريم:8]. قال ابن كثير: (التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته وتستغفر منه كلما ذكرته) وقال عمر : (إن يتوب الرجل من العمل السيئ ثم لا يعود إليه أبدا) ( [22] ) واستيفاء شروط التوبة من الندم والعزيمة على أن لا تعود إلى الذنب ورد الحقوق إلى أصحابها والإقلاع عن المعصية.
المحاسبة: محاسبة النفس لازمة للنجاة يقول عمر : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا) فما وجدته من خير فأحمد الله عليه وما وجدته من شر فاستغفر الله عنه واعزم على أن يكون غدك خير من يومك ويومك خير من أمسك.
2) العمل: فما ذكر الله الإيمان إلا واتبعه بذكر العمل الصالح الذي يصدقه، والذي يوزن يوم القيامة هي الأعمال: فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية [القارعة:7-9]. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:7-8].
3) المجاهدة: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [العنكبوت:69]. ((حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره)) ( [23] ) مخالفة هوى النفس وطاعة الرحمن هي السبيل إلى تلك الجنان.
4) أن تحفظ جوارحك وحواسك عن الحرام: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا [الإسراء:36]. يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [النبأ:40]. (( من يضمن لي ما بين لحييه (عظما الحنك أي اللسان) وما بين رجليه (الفرج كناية عن الزنا) ضمنت له الجنة )) ( [24] ).
وسأل عقبه بن عامر رسول الله فقال: ((يا رسول الله ما النجاة؟ فقال: امسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) ( [25] ).
5) أن يكون لك ورد تحافظ عليه في يومك وليلتك:
من قراءة لجزء من القرآن في كل ليلة ما أمكن.
والمحافظة على الصلوات المكتوبة في المسجد، والمحافظة على السنن الراتبة.
وأن يكون لك ركعات بعد صلاة العشاء ومن الليل.
وأن تكون محافظا على الأوراد والأدعية.
وأن تكون لك في كل باب من أبواب الخير نصيباً، لعلك تنجو وتزحزح وتفوز.
( [1] ) مختصر ابن كثير ج3ص270.
( [2] ) مختصر ابن كثير ج3 ص675.
( [3] ) مختصر ابن كثير ج3 ص549.
( [4] ) مختصر ابن كثير ج3 ص 297.
( [5] ) الطبراني في الأوسط وروانه رواه الصحيح.
( [6] ) متفق عليه.
( [7] ) مسلم.
( [8] ) رواه البيهقي والأصبهاني.
( [9] ) البزار والحاكم.
( [10] ) الترمذي والنسائي وابن ماجة.
( [11] ) مختصر ابن كثير ج2 ص417.
( [12] ) مختصر ابن كثير ج2 ص 536.
( [13] ) ابن جرير والترمذي.
( [14] ) متفق عليه.
( [15] ) رواه أحمد واللفظ المسلم.
( [16] ) الترمذي وابن حبان.
( [17] ) رواه البخاري ومسلم.
( [18] ) الطبراني.
( [19] ) مختصر ابن كثير ج3 ص573.
( [20] ) الحاكم وقال صحيح الإسناد.
( [21] ) رواه مسلم.
( [22] ) مختصر ابن كثير ج3 ص523.
( [23] ) مسلم.
( [24] ) البخاري.
( [25] ) الترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/385)
بعثته صلى الله عليه وسلم
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
بعثته صلى الله عليه وسلم وهو في أكمل حالته – لقاؤه صلى الله عليه وسلم مع الوحي أول
مرة وكيف كان – وصف جبريل عليه السلام , وعداء اليهود له – إرهاصات النبوة ومعجزاته
صلى الله عليه وسلم – نشأته صلى الله عليه وسلم ويتمه وصبره – أول ما أمر به صلى الله
عليه وسلم : العلم والتوحيد ودلالة ذلك على عِظَم شأنهما , ثم الأمر بالعمل بالتوحيد والدعوة
إليه – لطائف في قوله تعالى : ( قم فأنذر وربك فكبر... )
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لما بلغ رسول الله الأربعين من عمره انبجست عليه أنوار النبوة وتفجر ضياؤها وهو في أحسن حالاته وأكملها وفي أحسن أوقاته وأفضلها صلى الله عليه وسلم، إذ ظهر له جبريل وهو مختلٍ بغار حراء يتحنث أي يتعبد لربه عز وجل وكان ذلك في رمضان، ظهر له جبريل القوى الأمين عليه السلام في الصورة الآدمية فضمه ضماً شديداً ثلاث مرات حتى بلغ منه الجهد ثم أوحى إليه اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [العلق:1-5]. ورجع بها إلى أهله ترجف بوادره قد أخذه الروع والفزع من هذا الحدث الجلل العظيم، وقال لأهله: ((دثروني دثروني)) , فدثروه وغطوه بغطائه فنام حتى سكن جأشه واطمأن قلبه وذهب عنه الروع والفزع, وبعد ذلك إذا بالقوي الأمين جبريل عليه السلام يظهر له مرة أخرى جالساً علي كرسي بين السماء والأرض وأوحى إليه: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر [المدثر:1-7]. وجبريل القوي الأمين هذا عليه السلام هو رئيس الملائكة وسفير الله تعالى إلى أنبيائه ورسله من خلقه, جبريل هذا كان يظهر للنبي على الصورة الآدمية لم يره على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها إلا مرتين, مرة عند بدء الوحي وهو بغار حراء فظهر له جبريل على صورته الحقيقية بين السماء والأرض فسد الأفق بين المشرق والمغرب وإذا له ستمائة جناح ينتثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت, كما روى ذلك الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود عن النبي بإسناد جيد، ثم ظهر له مرة أخرى على هذه الصورة الهائلة العظيمة في حادثة الإسراء عند سدرة المنتهى وإلى هذا أشار قوله تعالى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى [النجم:13-14].
جبريل هذا القوي الأمين عليه السلام يكن له اليهود وأذناب اليهود من الزنادقة العداوة والبغضاء ويتهمونه بالخيانة, لقد سجل الله تعالى هذا الجرم القبيح وهذا القول الشنيع في قرآنه ورد عليهم هذا الاتهام متوعداً إياهم بأشد الوعيد فقال تعالى قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين [البقرة:97-98]. وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام هذا الملك العظيم من عباده من الملائكة وصفه في كتابه بأوصاف القوة والأمانة فقال سبحانه نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [سورة الشعراء:193-195]. وقال سبحانه: علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى [سورة النجم:5-7]. وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين [التكوير:20-21]. فكان جبريل عليه السلام القوي الأمين هو الرسول بين الله تعالى وبين عبد الله ونبيه محمد ينزل عليه بوحي ربه وينزل معه أحياناً ميكائيل وإسرافيل وهما من رؤساء الملائكة العظام عليهم السلام وينزل أحياناً غيرهم من الملائكة يشيعون بعض الوحي, وهكذا نزل جبريل القوى الأمين عليه السلام بهذا الأمر الجليل العظيم الذي هو الوحي على سيدنا محمد وهو في الحالة المناسبة وهو في أحسن الحالات وأنسبها لتلقي هذا الوحي العظيم ولتحمل هذا القول الكريم, هذا القول الثقيل في تبعاته ومسؤولياته: إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً [المزمل:5]. نزل عليه الوحي بعد مقدمات وإرهاصات كانت تتوالى عليه تهيئه لهذا الحدث الجلل العظيم, ومن تلك المقدمات والإرهاصات تلك المعجزات والآيات العظيمات التي حفت به منذ صغره, منذ ولادته, منذ هو في بطن أمه صلى الله عليه وسلم, ومنها عصمته منذ صغره حتى عما يقع فيه أمثاله وأترابه من فتيان قريش وشبانها ومنها تلك النشأة الخاصة التي نشأ بها فتعلم خلالها الصبر على الشدائد وعلى مكابدة الحياة بين اليتم وبين رعي الغنم وبين التجارة, لم ينشأ في حلل الترف والنعيم إنما نشأ يتيم الأبوين يرعى الغنم في فتوته ويشتغل بالتجارة في شبابه حتى يتعلم الصبر على الشدائد وعلي مكابدة الحياة, ثم حبب إليه الخلاء, حبب إليه التعبد في غار حراء, ثم أصبح يرى الرؤية الصادقة فتأتي وتتحقق مثل فلق الصبح وهذا هو أول ما بدئ به من شعب النبوة حتى إذا فجأه الوحي وهو بغار حراء في أكمل أحواله وجاءه جبريل القوى الأمين بالوحي من رب العالمين تلقى هذا الأمر العظيم من ربه وهو في أحسن الأحوال وأنسبها مؤهلاً لذلك خير أهلية.
ومن عجائب هذا الأمر العظيم ودروسه الجليلة أن يكون أول ما يبدأ من أمر هذا الدين وأمر هذا الوحي الذي تنزل علي سيدنا محمد أن يكون أول شيء أنزل عليه الأمر بالعلم والأمر بالتوحيد ومعرفة الله عز وجل بصفاته, أنزل عليه أول ما أنزل اقرأ باسم ربك [العلق:1]. (اقرأ) هذا هو الأمر بالعلم, (باسم ربك) هذا هو الأمر بالتوحيد, ثم جاء تعريفه بربه فهو الرب سبحانه وتعالى: باسم ربك هو ربك ورب الخلق أجمعين الذي اتصف بالخلاق فهو الذي خلق وهو الأكرم وهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم, فهذه أوصافه سبحانه وتعالى, يتعرف الرب عز وجل لنبيه وربه ومصطفاه بهذه الأوصاف منذ أول لحظة من لحظات الوحي الكريمة, فالتوحيد والعلم هو أول أمر هذا الدين, التوحيد هو أول ما بدأ به الوحي وهو أول ما افتتح به القرآن الكريم فقد افتتح بسورة الفاتحة وهي توحيد واختتم القرآن الكريم بالتوحيد بسورة الناس وهي توحيد. فيا أيها المسلم إياك أن تلقى الله بغير توحيد فتعلم التوحيد فإنه أول هذا الدين وأخره وأول ما بدئ به من الوحي.
ثم نزل عليه صلى الله عليه وسلم: يا أيها المدثر قم فأنذر [المدثر:1-2]. وفيها الأمر بالعمل وبالدعوة إلي التوحيد, فانظر كيف بدأ هذا الأمر العظيم مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
أولاً: أمره ربه عز وجل أن يتعلم التوحيد وأن يعرف ربه بأوصافه ثم أمره بالعمل بالتوحيد: وربك فكبر وأمره بالدعوة إلى التوحيد, فقد نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر لأن الأمر بالدعوة جاء في قوله: قم فأنذر فقام بالدعوة خير قيام صابراً محتسباً معظماً أمر ربه مكبراً إياه غير عابئ بمن سواه حتى لو اجتمع أهل الأرض جميعاً فوضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره ما تزحزح عن أمر ربه وعن تبليغ دعوة ربه والصبر على ذلك والمثابرة فيه.
فإذا تأملت هذه التوجيهات الربانية التي وجهها الله إلى عبده ونبيه ومصطفاه قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر [المدثر:2-6]. إذا تأملت أيها المسلم هذه التوجيهات الربانية منذ أول يوم من أيام الوحي العظيم تجد فيها روح التوحيد وطيب برد التوحيد وحلاوة طعم التوحيد, إذ التوحيد هو تكبير الله وحده وتطهير النفس عن أدران الشرك وهجران الأوثان والخضوع والانقياد للواحد الديان والصبر على طاعة الرحمن, وهذه التعليمات والتوجيهات هي التي تضمنتها هذه الآيات العظيمات لسيدنا محمد والمخاطب أمته أجمعون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى [النجم:1-6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102].
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [النساء:1].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [الاحزاب:70-71].
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه وأعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408)عن أبي هريره رضي لله عنه
(1/386)
الشرك الأصغر
التوحيد
الشرك ووسائله
علي بن يحيى الحدادي
الرياض
جامع عائشة بنت أبي بكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشرك أعظم الذنوب 2- الشرك الأكبر وصورته وعاقبته 3- الشرك الأصغر ومنزلته
بين أنواع الشرك 4- الرياء احد صور الشرك الأصغر 5- تعليق التمائم والودع إحدى صور
الشرك الأصغر 6- بعض صور الشرك الأصغر قد تتحول – حسب اعتقاد صاحبها – إلى
شرك أكبر 7- الحلف بغير الله 8- العطف على الله بالواو 9- نسبة الأحداث إلى أسبابها
الكونية الظاهرة ونسيان المسبب الحقيقي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اعلموا – عباد الله – أنه ما عصي الله بذنب أعظم من الشرك؛ لأن الشرك تنقص لمقام الربوبية ومساواة للمخلوق، الضعيف ،الفقير. بالخالق القوي، الغني العزيز.
ولذلك كان كل ذنب يلقى به العبد ربه لم يتب منه فهو تحت مشيئة الله إن شاء غفر وإن شاء عذبه، إلا الشرك فإنه لا يغفر إلا بالتوبة، يقول الله سبحانه: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. [النساء:48].
عباد الله: ينقسم الشرك إلى قسمين شرك أكبر، وصاحبه محرم عليه دخول الجنة أبدا. وهو أن يصرف العبد شيئا من العبادة لغير الله، كأن يدعو الولي أو يستغيث به، أو يطلب منه الولد والغنى والصحة، ومثل الذبح للقبر والضريح والسيد فلان، أو للجن لدفع شرهم، فهذا وأمثاله من الشرك الأكبر، وإن صلى صاحبه وصام وحج إلى بيت الله الحرام.
فهؤلاء إن كانوا آمنوا بالله إلا أنهم لم يكفروا بالطاغوت والله يقول: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى.
والرسول يقول: (( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله دخل الجنة)).
والنوع الثاني من أنواع الشرك.
هو الشرك الأصغر، وهو أعظم عند الله من كبائر الفواحش والآثام ؛لأنه لا يغفر إلا إن تاب منه صاحبه.
بل لا بد أن يلقى جزاءه وعقابه نسأل الله السلامة والعافية.
وتعريف الشرك الأصغر: كل ما أطلق عليه اسم الشرك وليس بشرك أكبر.
وهذا الذي لا يكاد يسلم منه أحد – والعياذ بالله -، ومظاهره كثيرة في الحواضر والبوادي، وفي النساء والذكور؛ ولهذا وجب التحرز منه والتحذير والنهي عنه.
وإليكم بعض أمثلته على وجه الاختصار:
أولا: الرياء:
وهو أن يعمل العمل الصالح حتى يراه الناس ويمدحوه ويثنوا عليه وصاحبه متوعد بالوعيد العظيم: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون والمراؤون أول المعذبين بالنار يوم القيامة، فاتقوا الله واحفظوا أعمالكم من الرياء، فإنه لص خفي يسرق الأعمال الصالحة الكثيرة من حيث لا تشعرون.
ثانيا: تعليق التمائم، والوَدَع، وربط الخيط والحلقة؛ لأجل دفع الضر من عين، ومرض، وحسد، بعد نزولها أو للوقاية منها قبل وقوعها.
ومن هذا ربط الخرق السوداء- على بعض السيارات – أو رسم صورة العين كما يرى في بعض الشاحنات أو تعليق مجسم لرأس الغزال، أو صورته هذه كلها شرك إذا كانت لهذا الغرض...
وهذه الأفعال قد تكون شركا أكبر، وقد تكون شركا أصغر، فتكون شركا أكبر، إذا أعتقد أنها هي الضارة النافعة بنفسها ولا علاقة لله بها.
وإليكم بعض النصوص في هذا الموضوع:
يقول الله تعالى: قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته، قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)). ويقول : ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)). وفي رواية: ((من تعلق تميمة فقد أشرك)). ورأى رسول الله – - رجلا في يده حلقة من صُفر ،فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة؟ أي: لبستها حتى لا اصاب بمرض الواهنة الذي يصيب اليد، أوحتى يزول الضرر. فقال الرسول – -: (( انزعها ،فإنها لا تزيدك إلا وهنا )) ، ثم قال كلمة عظيمة مخيفة: ((إنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا)).
ورأى حذيفة بن اليمان – - رجلا في يده خيط، فقام إليه وقطعه، وتلا قول الله تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.
أخوة الإسلام: ينتشر وجود هذه المخالفات الشرعية، من لبس الخيط، وتعليق الحجب، ولبس الحلق، وخصوصا في البوادي والقرى والهجر.
وقد علمتم إنها شرك وقد تصل إلى الشرك الأكبر، فاتقوا الله وقوموا بواجب الأمر والنهي كل بحسب استطاعته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إخوة الإسلام: ومن الأمور التي اعتبرها الشارع شركا أصغر: الحلف بغير الله، كالحلف بالنبي – -، والحلف بالسيد،أو الولي، أو حياة فلان، أو رأسه، أو الحلف بالشرف والعرض، أو الحلف بالأمانة أو الذمة أو غير ذلك، أي أن يكون حلفا بغير الله، فهذا كله شرك أصغر.
فإن اعتقد أن هذا المحلوف به غير الله أعظم من الله أو مساوٍ لله فهذا شرك أكبر والعياذ بالله.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)). وقال عليه الصلاة والسلام: ((من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)). وأرشد الرسول – - من حلف بغير الله أن يقول عقبه: (( لا إله إلا الله، وينفث عن شماله ويستغفر)). فهذا كفارته.
ومن أنواع الشرك الأصغر:
نسبة النعم إلى غيرالله كنسبتها إلى أسبابها كأن تنسب الشفاء إلى مهارة الطبيب، أو جودة الدواء، أو تنسب النجاة من الحادث إلى مهارة قائد السيارة، أو نسبة المطر إلى نجم كذا ونوء كذا، يقول الله تعالى: يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وأكثرهم الكافرون.
فإنكارهم لها يكون بنسبتها إلى غيره والله يقول وما بكم من نعمة فمن الله ، وهذا لا ينافي شكر من كان سببا فيها ومكافأته والدعاء له.
ومن أنواع الشرك الأصغر:
العطف على الله بالواو في الأفعال، ومن أمثلة ذلك: أنا داخل على الله وعليك. فهذا لا يجوز بل الصحيح أن تقول: أنا داخل على الله ثم عليك. وأحسن منها: أنا داخل على الله وحده. وأقبح شيء قول الرجل: أنا داخل عليك؛ لأن الدخول بمعنى العوذ والالتجاء.
وهناك بعض الألفاظ بجب تنزيه اللسان منها لأنها محرمة تنقص التوحيد أو تنافيه.
مثل: حرام يكون كذا. مثل: حرام يموت فلان. أو يصاب. فالله لا جابر له، ولا موجب عليه سبحانه.
ومثل: سب الأيام والليالي، أو سب الزمان.
ومثل: دعاء الصفات كأن تقول: يا وجه الله، فصفات الله لا تدعى، ولكن يتوسل بها فقط.
ومن الألفاظ المنهي عنها: قول بعضهم لبعض، تراني متوكل عليك، أو على الله وعليك.
فالتوكل عبادة خالصة لله، فلا تقول إلا توكلت على الله وحده، ثم وكلتك، أو أنبتك، والوكالة غير التوكل ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
اللهم طهر قلوبنا وألسنتنا من الشرك كله أكبره وأصغره...
(1/387)
النية
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, شروط التوحيد
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى النية. 2-أهمية النية وموطنها. 3- أهمية حديث إنما الأعمال بالنيات. 4- الأجر
والوزر والنية. 5- مواطن نحتاج فيها إلى النية وتجديدها. 6- عواصم من انحراف النية.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا [سورة الكهف:28].
عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي ستة نفر، فقال المشركون للنبي : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل الآية. يقول ابن كثير: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي أن يجلس معهم وحدهم، ولا يجالسهم مع ضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك.
لقد أرادها المشركون إقليمية طبقية وأبى الله إلا أن تكون عالمية، فعلى أكتاف هؤلاء الضعفاء تقوَ الدعوات.
فما النية؟ ولماذا؟ وما مواطن حاجة العبد إليها؟ وما عواصم النية من الانحراف؟
أما النية: لغة: القصد والإرادة، وقد جاء في كتاب الله بلفظ الإرادة والابتغاء قال تعالى: وما ينفقون إلا ابتغاء وجه الله ، وقال تعالى: يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
وحديث النية: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) ( [1] ).
أصل عظيم في إسلامنا، صدر له البخاري كتابه (الجامع الصحيح) إشارة إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو مردود على صاحبه للحديث: ((إن العبد ليعمل أعمالا حسنة فتصعد الملائكة في صحف مختمة فتلقى بين يدي الله تعالى فيقول: ألقوا هذه الصحيفة فإنه لم يرد بما فيها وجهي)) ( [2] ).
والنية موطنها القلب، لذا كان القلب هو موضوع نظر الجبار سبحانه للحديث: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) ( [3] ).
وحديث النية ثلث العلم ويدخل سبعين بابا من أبواب الفقه كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله، فبالنية تتميز العبادات عن العادات، وتتميز العبادات عن بعضها، فالصيام لابد له من نية تميزه عن الانقطاع عن الطعام لأي سبب آخر من مرض أو غيره، والصلاة لابد من نية تتميز بها الفرائض عن النوافل، وفي الصدقة لابد من النية لتتميز الزكاة عن النذر عن الكفارة وهكذا.
والعبد يؤجر على النية الصالحة ويأثم على النية الفاسدة السيئة للحديث: ((إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله عز وجل علما وما لا فهو يعمل بعلمه في ماله فيقول رجل: لو آتاني الله تعالى مثل ما آتاه لعملت كما يعمل فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يتخبط بجهله في ماله فيقول رجل: لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت كما يعمل فهما في الوزر سواء)) ( [4] ).
وأما مواطن حاجة العبد إلى النية: فالنية لازمة لكل عمل في أوله وأثنائه وآخره.
1- في أول العمل: فبواعث العمل في الناس مختلفة فذكر رب العزة أصنافا من الناس وبواعث إقبالهم فمنهم المخادع قال تعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون [البقرة:8-9].
ومنهم النفعي قال تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [الحج:11] ، قال ابن عباس: (كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء) ( [5] ). ومنهم الصادق في إقباله قال تعالى: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد [البقرة:207] ، قال ابن عباس: (نزلت في صهيب الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية) ( [6] ).
2- وفي أثناء العمل:
أ - في تعبدنا، للحديث: ((من صام يرائي فقد أشرك ومن صلى يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك)) ( [7] ).
ب- في جهادنا: أتى أعرابي رسول الله فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل حميه والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى مكانه فأيهم في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) ( [8] ). وجاء في الخبر: (إن رجلا قتل في سبيل الله وكان يدعى قتيل الحمار) ( [9] ) ، لأنه رأى رجلا فانطلق ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته.
والذي هاجر لينكح امرأة قال ابن مسعود: (هاجر رجل فتزوج امرأة منا وكان يسمى مهاجر أم قيس) ( [10] ).
ج- واستحب العلماء أن يكون للعبد نية في الطيب الذي يضعه للحديث: ((ومن تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة)). قال الغزالي رحمه الله: فإن تطيب قاصدا التنعم بلذات الدنيا أو صرف القلوب إليه حتى يعرف بطيب ريحه فذلك أنتن من الجيفة يكون، وإن أراد من التطيب اتباع السنة وإراحة إخوانه فهو المأجور على فعله ( [11] ).
3- في آخر العمل وخاتمته: وحتى تحفظ أعمالنا من الضياع والنقصان نحن بحاجة إلى النية في: ألا نمنّ بأعمالنا على الله والناس فذلك مما يذهب العمل، فالله سبحانه لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة للحديث القدسي: ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما يغمس المخيط في البحر ثم انظر بما يرجع فيه يا عبادي إنما هي أعمالكم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) ( [12] ).
وعندما جاءت بنو أسد إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك فقال رسول الله : ((إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم وأنزل الله قوله: يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ))[ق:17] ( [13] ).
وكذا المنة على الناس لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [سورة البقرة:264]، وللحديث: ((لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر)) ( [14] ) وفي قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [الأنعام:160] : جاء اللفظ القرآني (جاء) ولم يقل (عمل) إشارة إلى أن الحسنة لا تضاعف حتى تحفظها من كل ما ينقصها من منة ورياء وسمعة حتى يأتي بها رب العزة وهي محفوظة من كل شائبة وعند ذلك تكون الحسنة بعشر أمثالها فتأمل.
وما يفسد العمل أن يختمه بانحراف وردة للحديث: ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) ( [15] ) ، لذا كان من علامة رضا الله سبحانه وتعالى ما أخبر عنه المصطفى بقوله: ((إذا أراد الله بعبد خير استعمله. قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت ثم يقبض عليه)) ( [16] ).
وأما عواصم النية من الانحراف:
الدعاء: يقول أبو موسى الأشعري: خطبنا رسول الله ذات يوم فقال: ((يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل: قالوا: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل؟ قال: قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه)) ( [17] ).
أن تجعل باعث العمل رضا الله سبحانه، وذلك لا يكون إلا بعد طول مجاهدة ومحاسبة ومراقبة والنية الخالصة لا يمكن اكتسابها بمجرد قول باللسان كالذي يقول: نويت أن أحب فلانا في الله فلا يمكن تحقق الأمر إذا لم يكن هناك باعث إيماني غمر القلب بأنواره حتى تنبعث منه هذه النيات ولهذا امتنع جماعة من السلف عن بعض الأعمال إذا لم تحضرهم النية، وكان بعضهم يقال له: تعال نذهب لزيارة فلان فيقول: اصبر حتى أحدث له نية.
أن تعد نفسك للحساب فالله تعالى يقول: ليسأل الصادقين عن صدقهم (الصادقين المبلغين المؤدين عن الرسل) ( [18] ) وقيل: (يقال لهم: هل كان تصديقكم لوجه الله)؟ ( [19] ). أقول فليحذر الدعاة إلى الله من أن تكون دعوتهم لشخوصهم وذواتهم وأفكارهم وليست لله تعالى، ولو كانت دعوتهم لله حقيقية لما كان هذا الشتات وتلك الفرقة وذلك التمحل والتحذلق ثم الإعراض عن الأصول من ربانية وعالمية وشمولية وجهاد والكل يقرأ كتاب الله ولكن كما تقول عائشة رضي الله عنها: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه).
( [1] ) متفق عليه.
( [2] ) أخرجه الدار قطني من حديث أنس بإسناد حسن.
( [3] ) أخرجه مسلم.
( [4] ) رواه الترمذي.
( [5] ) مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 532 / سورة الحج آية (11).
( [6] ) مختصر ابن كثير / مجلد 1 ص 185 – سورة البقرة آية 207.
( [7] ) رواه البيهقي.
( [8] ) متفق عليه.
( [9] ) رواه أبو اسحاق الفزاري في السنن من وجه مرسل.
( [10] ) أخرجه الطبراني بإسناد جيد.
( [11] ) احياء علوم الدين مجلد 4 ص 364 ، والحديث أخرجه أبو الوليد الصفار مرسلا.
( [12] ) رواه مسلم.
( [13] ) مختصر ابن كثير مجلد 3 ص 369 والحديث رواه البزار.
( [14] ) أخرجه أحمد وابن ماجة.
( [15] ) متفق عليه.
( [16] ) رواه أحمد والترمذي.
( [17] ) رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى.
( [18] ) مختصر ابن كثير مجلد 3 ص 83.
( [19] ) الألوسي مجلد 321 ص 155.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/388)
اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة اللسان وأنه سبب لورود النار. 2- المنطق عند الطير والحيوان. 3- أفضل الكلام
كلام الله. 4- عاقبة الصدق في الدنيا والآخرة. 5- نماذج من مآثم اللسان. 6- دعوة القرآن
للأدب في المنطق.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:16-18].
فإذا كنا نحتال على قضاء الدنيا وقضاتها بالجاه والمال والإنكار بالحجة الكاذبة واليمين الغموس فإن شهود الآخرة ليسوا كذلك، وأعظم شهادة هو الله فقد أحاط علمه بما توسوس به نفس العبد، ولا يتكلم العبد بكلمة إلا ولها رقيب يرقبها، معد لذلك يكتبها.
فما اللسان؟ وما خطره؟ وما أنواع النطق؟ وما أدب النطق في إسلامنا؟
أما اللسان: فهو رسول القلب وترجمانه ودليله، صغير جرمه، عظيم خطره، وأعصى الأعضاء على الإنسان هو اللسان.
واللسان آية سبحان مبدعها وصانعها، فاللسان واحد في الشكل والمنظر ولكن الكلام مختلف قال تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين [الروم:22].
واللسان باب عظيم إلى النار لحديث معاذ بن جبل: ((أنؤاخذ على ما نقول؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)) ( [1] ). كما أنه باب عظيم إلى الجنة للحديث: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها سبعين خريفا في جهنم)) ( [2] ).
واللغة والنطق ليست فارقا بين الإنسان والحيوان بل لكل لغته قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [الإسراء:44]. وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها [النمل:17-19].
والإمساك عن فضول الكلام نجاة، قال عقبة بن عامر: يا رسول الله ما النجاة؟ فقال: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) ( [3] ). وكان أبو بكر يضع الحصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام، وكان الربيع بن خثيم إذا أصبح أعد قلما ودواة وقرطاسا فكل ما يتكلم به يكتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء.
وما أنواع النطق والكلام؟
فأعظم الكلام وأكرمه هو كلام رب العالمين، كلامه بالقرآن الكريم، والعبد يتعبد الله تعالى بقراءته أو سماعه أو النظر إليه كما ذكر ذلك غير واحد من السلف للحديث: ((من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة ومن تلاها كانت له نور القيامة)) ( [4] ).
وكان من السلف من يحرص ألا يتحدث إلا بآيات من كتاب الله مخافة الوقوع في الزلل.
يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: خرجت إلى بيت الله الحرام وزيارة مسجد نبيه عليه الصلاة والسلام، فبينما أنا في الطريق إذا أنا بسواد على الطريق فإذا امرأة عجوز فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقالت: سلام قولا من رب رحيم فقلت: رحمك الله ما تصنعين في هذا المكان؟ قالت: ومن يضلل الله فلا هادي له ، فعلمت أنها ضالة عن الطريق فقلت لها: أين تريدين؟ قالت: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فعلمت أنها قد قضت حجتها وتريد بيت المقدس، فقلت لها: أنت منذ كم في هذا الموضع؟ قالت: ثلاث ليال سويا ، فقلت: ما أرى معك طعاما تأكلين. قالت هو يطعمني ويسقين فقلت: بأي شيء تتوضئين؟ قالت: فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فقلت: لم لا تتكلمين مثل ما أكلمك؟ قالت: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد فقلت: هل أوصلك إلى حيث تريدين قالت: وما تفعلوا من خير يعلمه الله فلحقنا بالقافلة.
والمحروم من حرّم جوفه القرآن للحديث: ((إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب)) ( [5] ). ((إن أصغر (أي أحقر وأقلها بركة) البيوت بيت ليس فيه شيء من كتاب الله)) ( [6] ).
النطق الصادق:
أ- في الدنيا:
الاستقامة على قولة الحق التي قالها تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [فصلت:30]. قرأها النبي ثم قال: ((قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها)) ( [7] ). وللصدق أثر في القول والصوت. عندما دخل النبي المدينة، قال أحد المشركين بعد سماعه لحديث المصطفى : ((والله ما هو بوجه كذاب ولا بصوت كذاب))، وصدق العهد الذي بين الله وعباده أن يبذلوا له المال والأرواح قال تعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر [الأحزاب:23]. قال ابن كثير: ينتظر الشهادة، فيحيا حياة الشهداء فلا ركون إلى الدنيا، ولا حرص على الدنيا ولا تضييع لفرائض الله تعالى للحديث: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)) ( [8] ).
ب- في الآخرة:
ضحك النبي ثم قال: ((عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول: أي ربي أليس قد وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: بلى، فيقول: فإني لا أقبل علي شاهدا إلا من نفسي، فيقول الله تعالى أوليس كفى بي شهيدا والملائكة الكرام الكاتبين. فيردد ذلك مرارا، فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل فيقول: بعدا لكنَّ وسحقا عنكنَّ كنت أجادل)) ( [9] ). قال ابن عباس تخاصم الأفواه الجوارح فتقول الجوارح: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [فصلت:21]. قال تعالى: اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [يس:65].
النطق الآثم:
1- أن يقول العبد ما لا يعتقده: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون [المنافقون:1]. كاذبون لأنهم قالوا ما لا يعتقدونه.
2- أن يقول العبد ما لا يفعله قال تعالى: لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [الصف:2-3].
الإساءة إلى منهج الله وأوليائه: ((شرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرءاء العيب)) ( [10] ). أي الذين يلصقون التهم والشبهات للبرءاء لأجل إلحاق الضرر بهم بالكلمة المسموعة أو المقروءة وستبقى كل كلمة كتبت محفوظة حتى يلقى العبد ربه.
وما من كاتب إلا ستبقى كتابته وإن فنيت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
إشاعة الفاحشة في الأمة وتحبيب الفاحشة إليهم قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [النور:19]. فبمجرد حب إشاعة الفاحشة استحقوا هذا الوعيد من العذاب فكيف بمن يروجون لها ويدعون إليها، اللهم نسألك العافية.
أدب النطق في إسلامنا:
اللين حتى مع المخالف: اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [طه:43-44]. وبال أعرابي في المسجد فقام الأصحاب ليوقعوا به فمنعهم رسول الله وقال: ((دعوه حتى يكمل بوله)) ثم دعى بسطل ماء وصبه على بول الرجل ثم قال للأصحاب: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين فيسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)) ثم التفت إلى الأعرابي وقال: ((إنما بنيت المساجد لذكر الله وللصلاة)) فلما حسن أدب الأعرابي في الإسلام كان يقول: بأبي هو وأمي رسول الله لم يعنفني ولم يؤنبني)) ( [11] ).
البعد عن السخرية والطعن: لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن [الحجرات].
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى
وحظك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت لديك معايبا فصنها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
وفارق ولكن بالتي هي أحسن
( [1] ) الترمذي والحاكم.
( [2] ) ابن ماجة والترمذي.
( [3] ) الترمذي.
( [4] ) أحمد.
( [5] ) الترمذي والحاكم.
( [6] ) الحاكم.
( [7] ) النسائي والبزار عن أنس / مختصر ابن كثير مجلد 3 ص 262.
( [8] ) مسلم.
( [9] ) مسلم.
( [10] ) أحمد.
( [11] ) مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/389)
السمع
موضوعات عامة
مخلوقات الله
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السمع وأنواعه باعتبار الجارحة. 2- أيهما أفضل السمع أم البصر؟ 3- من صفات الله
السميع. 4- أمور أمر الشرع باستماعها. 5- أمور نهى الشرع عن استماعها. 6- موقف السلم
من السماع.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا [الإسراء:36].
نوافذ الاستقبال والعلم والتأمل والتدبر والرؤية السمع والبصر والفؤاد، والعبد مسؤول عن أعمالها فيما يحبه الله ويرضاه يقول ابن عباس : يسأل الله العباد فيما استعملوا هذه الثلاثة السمع والبصر والفؤاد.
فما السمع؟ وما أنواعه؟ وما موقف المسلم منه؟
أما السمع: آلة سبحان مبدعها وخالقها، فهي القدرة على التقاط الأصوات بواسطة الأذن، والسمع نوعان:
خلقي: وهو ميسر لكل صاحب آلة.
وسمع فهم وتدبر: وهذا وقف على أصحاب الصلات القوية مع الله تعالى.
وقد أنزل الله تعالى المعطلين لأسماعهم عن سماع الحق منزلة الذي لا سمع له قال تعالى حكاية عن أهل النار: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [تبارك:10]. ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون ولهم آذان لا يسمعون بها [الأعراف:179].
وإذا أفسد العبد إيمانه بالكفر فسد عليه سمعه فهو يتقزز وينفر من ذكر الله والطاعة ويأنس لكل باطل ولغو قال تعالى: وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون [الزمر:45] من أغنية عاهرة أو لغو.
والسمع أفضل من البصر: يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: من عدم السمع عدم المواعظ والنصائح وانسدت عليه أبواب العلوم وانفتحت عليه أبواب الشهوات التي يراها بعينه. ولهذا لم يكن في الصحابة أطرش وكان منهم جماعة عميان وقلّ أن يبتلي الله أولياءه بالطرش ويبتلي كثيرا منهم بالعمى ( [1] ).
أنواعه: وأعظم السمع سمع الحق جل وعلا وهو سمع يليق بجلاله، من غير تشبيه ولا تعطيل يقول علماء العقيدة: (كل ما خطر ببالك فهو على خلاف ذلك) قال تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى:11]. ومن سمعه جل وعلا: سماعه سبحانه للقرآن وقارئه: ((لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته)) ( [2] ).
سماعه سبحانه للشكوى: خولة بنت ثعلبة: تقول عائشة رضي الله عنها: ((تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله وهي تقول: يا رسول الله، أكل مالي، وأفنى شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني (أي قال: لها أنت علي كظهر أمي) قال رسول الله (ما أعلمك إلا قد حرمت عليه) وكان الظهار يعد طلاقا فقالت: أشكو إلى الله ما نزل بي وبصبيتي. فأنزل الله تعالى قوله: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير [المجادلة:1]. ثم قال : مريه فليعتق رقبة، فقالت: والله ما عنده ما يعتقه، فقال: مريه فليصم شهرين متتابعين قالت: والله إنه لشيخ كبير ما به صيام، قال: فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر، فقالت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده، فقال : فإنا سنعينه بفرق من تمر، فقالت: وأنا سأعينه بفرق آخر فقال : قد أصبت وأحسنت فاذهبي وتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا، فقالت: ففعلت)) ( [3] ).
سماعه للدعاء: رفع الأصحاب أصواتهم بالدعاء عندما اقتربوا من المدينة فقال : ((إن الذي تدعون ليس بأصم ولا غائب إن الذي تدعون سميعا بصيرا وهو أقرب إليكم من أعناق ركابكم)) ( [4] ). قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقرة:186].
سماع: وهو سماع كريم في كل أحواله:
أ- عند مولده: من السنة أن يؤذن في أذن المولود اليمين ويقيم في الأذن اليسرى ليكون أول ما يطرق سمعه اسم الله تعالى، للحديث: ((من ولد له ولد فأذن في أذنه اليمنى وأقام الصلاة في اليسرى لم تضره أم الصبيان)) ( [5] ). وهي القرينة.
ب- سماعه القرآن: قال تعالى: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون [الأعراف:204]. وللحديث: ((من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة)) ( [6] ).
ج- والعمل به وهي طبيعة التلقي للتنفيذ يقول ابن مسعود : إذا سمعت "يا أيها الذين آمنوا" فأرعها أذنيك فإما هو خير تؤمر به أو شر تنهى عنه.
د- سماع الإمام إذا خطب يوم الجمعة للحديث: ((من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له: أنصت لا جمعة له)) ( [7] ) ، قال الشافعي: لو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه لأن التشميت سنة، ولو سلم رجل على رجل كرهت ذلك ورأيت أن يرد عليه لأن السلام سنة ورده فرض ( [8] ). وكذا الصلاة على رسول الله للأمر الرباني: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56].
سماع آثم: وهو على صور شتى منها:
أ- سماع الغيبة: للحديث: ((المغتاب والمستمع شريكان)) ( [9] ). وعلى المسلم أن يرد عن عرض أخيه للحديث: ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) ( [10] ).
ب- التجسس بقصد إيقاع الضرر بمسلم بسبب إسلامه للحديث: ((لا يدخل الجنة نمام)) ( [11] ). ((من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوبا بين عينيه يائس من رحمة الله)) ( [12] ) ، ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الروح: أن رجلا دفن أختا له، فلما ولى أدرك أنه قد سقطت حافظة نقوده في القبر عند الدفن فعاد فلما نبش القبر وجد أخته وقد أحاطت بها النار من كل جانب فأهال التراب وعاد مصعوقا إلى أمه يسألها عما كانت تعمل أخته من سوء فقالت: إنها كانت تصلي من غير وضوء وكانت تتسمع إلى الجيران وتنقل أخبارهم.
ج- سماع الشائعة وترديدها للحديث: ((كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع)) ( [13] ) ، وعندما تحدث رأس المنافقين في عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك وجاءت براءتها من فوق سبع سماوات جاء التأديب من الله تعالى للمؤمنين في أدب سماع الشائعة قال تعالى: ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم [النور:16]. ورأس المنافقين هو عبد الله بن أبي بن سلول.
وما موقف المسلم من السمع والسماع:
أن نتدرج ونترقى بأسماعنا من دركات المعصية إلى مدارج الطاعة فأسمعها القرآن وذكر الله والنصيحة والكلم الطيب حتى تعتاده، يقول عمر : (لولا ثلاثة ما أحببت البقاء: تجهيز الجيوش في سبيل الله، ومكابدة الليل بالقيام، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي الناس أطايب الثمر).
البعد عن مجالس الكفر واللغو الفاحش قال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [الأنعام:68]. وإلا كانت المساواة فيما هم فيه والإثم لاحق قال تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم [النساء:140].
( [1] ) مفتاح دار السعادة.
( [2] ) أحمد.
( [3] ) أحمد.
( [4] ) متفق عليه.
( [5] ) رواه البيهقي وابن السني.
( [6] ) أحمد.
( [7] ) أحمد.
( [8] ) فقه السنة مجلد1 ص 274.
( [9] ) الطبري.
( [10] ) الترمذي وقال حديث حسن.
( [11] ) متفق عليه.
( [12] ) ابن ماجة.
( [13] ) مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/390)
دروس من سيرته صلى الله عليه وسلم ودعوته
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أول أمر للنبي صلى الله عليه وسلم كان بالعلم والتوحيد حيث نبئ بـ : ( اقرأ باسم ربك... )
وأُرسل بـ : ( قم فأنذر ) – دعوته صلى الله عليه وسلم 13 عاماً للتوحيد وتأسيس الإيمان
والأخلاق في القلوب – هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتأسيس أركان الدولة -
من دروس مدرسة الدعوة النبوية في الصبر والثبات والأخذ بالأسباب – مراعاة طبيعة كل
مرحلة وأخذ العدة والأسباب لها – النصر مرتبط بالأخذ بالأسباب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فكان أول انبثاق نور الله على عبده ورسوله ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم والتوحيد فنزل عليه اقرأ وهذا أمر بالعلم, باسم ربك وهذا أمر بالتوحيد, الذي خلق خلق الإنسان من علق وهذا أمر بمعرفة ربوبية الله, أقرأ وربك الأكرم هذا أمر بمعرفة ألوهية الله عز وجل فهو أكرم من كل شيء إذ هو أكبر من كل شيء, إذ هو الإله الذي يستحق وحده العبادة. كان هذا أول ما نبئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أرسل بالمدثر, نزل عليه صدر سورة المدثر وفيها الأمر بالبلاغ والأمر والأمر بالتوحيد قم فأنذر هذا هو الأمر بالبلاغ, وربك فكبر فهذا هو الأمر بالتوحيد, وثيابك فطهر أي من الشرك ورجزه, والرجز فاهجر والرجز هو عبادة الأصنام فهذا أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بالمبالغة في هجران الأصنام, في هجران الشرك وأهله وأمر له بالثبات والاستمرار والدوام علي ذلك.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بواجب الدعوة إلي ربه خير قيام لبث في مكة ثلاثة عشر عاما يدعو قومه إلي توحيد الله عز وجل ويدعوهم إلي مكارم الأخلاق وينهاهم عن عبادة الأوثان ويسفه أحلام أولئك الذين عبدوا أحجارا لا تنفع ولا تضر, ثلاثة عشر عاما كلها دعوة دائبة ثابتة مستمرة لتأسيس الإيمان في القلوب وغرس بذرة التوحيد في النفوس ورعايتها حتى تؤتي أكلها بإذن ربها.
ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلي هذه المدينة المباركة وواصل فيها دعوته النبوية المباركة فمكث في هذه المدينة عشر سنين أكمل فيها بناء المجتمع الإسلامي وثبت خلالها أركان الدولة الإسلامية وأشهر خلالها نار الجهاد مع نور الدعوة وكان مجمل عمر دعوته النبوية صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين عاما غير فيها وجه التاريخ بإذن ربه وأشعل نور سراج الإسلام الذي مازال ينير للناس طريقهم حتى اليوم. ثلاثة وعشرون عاما عمر قصير في تاريخ البشرية ولكنها كانت كافية لتحقيق تلك الأهداف العظمى علي يد النبي صلى الله عليه وسلم, وهنا درس عظيم في مدرسة الدعوة النبوية يجب أن نعيه وندركه تماما فثلاثة وعشرون عاما كابد فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشاق ما تنوء به كواهل البشر ومرت به خلالها من المحن والشدائد والفتن والمواقف الحرجة ما تنهار دونه الجبال الرواسي ولكنه صلى الله عليه وسلم تحمل كل ذلك صابرا محتسبا ثابتا علي طريق الدعوة. فلماذا كل هذا الابتلاء الشديد؟ ولماذا كل هذه المكابدة العظيمة للنبي المصطفي صلى الله عليه وسلم؟ فالله جل جلاله قادر علي أن يحقق لنبيه ومصطفاه كل تلك الأهداف العظيمة من دعوته دون أي مكابدة أو مشقة يلاقيها صلى الله عليه وسلم, قادر أن يحقق له كل ذلك بطريق المعجزة والخوارق, ألم يشق له القمر نصفين حتى رأت قريش كل نصف منهما في جهة فلماذا لم يحقق جل جلاله كل تلك الأهداف السامية العظيمة في الدعوة النبوية بلا مكابدة أو مشقة بطريق المعجزة, لقد شاء جلت قدرته أن تكون الدعوة النبوية درسا لهذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم, ولذلك فقد سارت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في طريق السنن الربانية وليس في طريق المعجزات والخوارق الكونية لأن محل القدوة هو في تلك السنن وليس هو في تلك الخوارق مع أن المعجزات صاحبت دعوته صلى الله عليه وسلم وظهرت خلال حياته صلى الله عليه وسلم لكن المعجزة كانت تأتي وظيفتها بعد أن يستنفذ النبي صلى الله عليه وسلم كافة مستلزمات السنن الربانية التي لا تتغير ولا تتبدل لأحد, ولنضرب بعض الأمثلة والنماذج علي هذه الحقيقة الهامة وعلي هذا الدرس العظيم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخدم في دعوته الوسائل والأساليب التي تتطلبها المرحلة وتقتضيها الظروف ففي بادئ الأمر في بداية دعوته صلى الله عليه وسلم وهو وحيد أو هو مع أفراد قلائل ممن آمن وعود الدعوة طرى بعد كان صلى الله عليه وسلم يدعو إلي الله سرا, لبث يدعو إلي الله سرا ثلاث سنين حتى نزل عليه قوله تعالى: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين [الحجر:94]. حينئذ جهر صلى الله عليه وسلم بدعوته وفي تلك المرحلة السرية التي امتدت ثلاث سنين في مكة كان صلى الله عليه وسلم يتخذ كافة الاحتياطات اللازمة لإخفاء نشاطاته وتحركاته عن أعين جبابرة المشركين وطواغيت قريش آنذاك حتى لا يئد الدعوة في مهدها حتى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما أراد قبل إسلامه الوصول إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أين يجده ولا أين يجتمع صلى الله عليه وسلم بأصحابه ولولا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأوا رقة عمر وميله إلي الإسلام , لولا أنهم دلوه علي مكانه صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم ما اهتدى إليه عمر وفي هذا درس عظيم لهذه الأمة أن تتخذ لكل شيء سببا , فأما إذا لم تتخذ الأسباب فلا تلومن حينئذ إلا نفسها إذا خابت النتائج, في هذا درس عظيم للمؤمنين ألا يغتروا بأنفسهم ويتقاعسوا عن بذل الأسباب ثم ينتظرون النصر والتمكين ينزل عليهم من السماء علي أجنحة الملائكة, كلا ليس الأمر كذلك فان القضية ليست قضية خوارق ومعجزات ولكنها قضية أسباب ومسببات فمن بذل الأسباب أدرك النتائج ومن فوت الأسباب فوت النتائج, فإذا لم يبذل المؤمنون الأسباب ولم يوفوا بالشروط فاتهم الظفر والتمكين وفي دعوة النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم لهم قدوة وأسوة ودرس بليغ في ذلك وإلي بقية هذا الدرس العظيم في دعوة المصطفي صلى الله عليه وسلم في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما أستخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينه الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [سورة النور:55].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فان يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار وأعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فانك مفارقه وأعمل ما شئت فانك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا علي خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] اللهم صلى وبارك علي محمد وعلي آل محمد كما صليت وباركت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم انك حميد مجيد وأرضى اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم عن أبي هريرة (1408).
(1/391)
الشم
موضوعات عامة
مخلوقات الله
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف بآلة الشم ونعمة الشم ونعمة الأنف. 2- من السنة وضع الطيب. 3- حاسة البصر
والشتم عند الإنسان والحيوان. 4- أنواع طيبة من الريح. 5- أنواع خبيثة من الريح.
6- أحكام متعلقة بالرائحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم [القلم:10-16]. توجيه الله لرسوله ألا يطيع من كانت هذه مثالبه كثير الحلف، حقير، عياب، نمام، كثير الإثم، دعي في قومه استقوى بماله وولده فقال كفرا فتوعده رب العزة أن يجعل له علامة على أنفه وهو مكان العزة والحمية عند العربي وهو أكرم موضع والمراد ب سنسمه أي سنهينه في الدنيا ونذله غاية الإذلال.
فما آلة الشم؟ وما أنواع ما يجده العبد من ريح؟ وما الأحكام المتعلقة به؟
أما آلة الشم: فهي آية إدراك الروائح بواسطة الأنف سبحان مبدعه وخالقه، أودع الله فيه حاسة الشم وبها تدرك الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارة.
تأمل ابن القيم رحمه الله بديع صنع الله في الأنف فقال: نصب الله سبحانه قصبة الأنف في الوجه فأحسن شكله وهيأته ووضعه وفتح فيه المنخرين وحجز بينهما بحاجز فإذا نزلت الفضلات من أحد المنافذ في الغالب يبقى الآخر للتنفس وجعل أعلاه أدق من أسفله، فإذا تجمعت فيه الفضلات خرجت بسهولة ( [1] ).
ومن السنة وضع الطيب وقبوله إذا عرض للحديث: ((من عرض عليه طيب فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة)) ( [2] ).
وشبه الرسول الجليس الصالح بحامل المسك فقال: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تجد منه ريحا طيبا ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة)) ( [3] ).
وحاسة الشم لدى الإنسان قاصرة والكلب خير منه في ذلك وبه يستعان لكشف المجرمين وتتبع آثارهم، وكذا جميع حواس الإنسان قاصرة ففي سمعه لا يسمع إلا ما كان تردده من 5 – 25 ألف ذبذبة في الثانية فما نقص أو زاد لا يسمع. وبصر الإنسان قاصر فهو لا يرى عالم الجراثيم والبكتريا إلا بواسطة المجهر، فلا يجوز بل من الغباء أن ينكر العبد وجود عالم غيبي كالملائكة أو الجن لأنه لا يجد لهم لونا أو طعما أو رائحة وهو قاصر في حواسه تلك..
والقاعدة ليس كل ما لا تراه ليس موجودا.
والفطر السليمة تتفق على استحسان الريح الطيب واستقذار الريح الخبيث.
وأما أنواع ما يجده من الريح:
فأكرم الريح ريح الجنة، قال تعالى: فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم [الواقعة:88-89]. والحب ذو العصف والريحان [الرحمن:12]. والريحان: كل نبت طيب الريح، وفي الحديث: ((ألا مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها، وهي ورب الكعبة نور تتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة)) قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها، قال: قولوا: إن شاء الله فقال القوم: إن شاء الله)) ( [4] ). والمحروم من حرم ريحها وهو يوجد من مسيرة خمسمائة عام للحديث : ((صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يرون الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) وفي رواية ((خمسمائة عام)) ( [5] ).
ومن الريح الطيب ريح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: يقول أنس: صحبت رسول الله عشر سنين وشممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيب من نكهته. وكان عرقه الطيب فعن جابر قال: ((كان في رسول الله خصال لم يكن في طريق فسلكه أحد إلا عرف أنه سلكه من طي عرقه أو ريح عرقه)) ( [6] ). ثم ريح يوسف عليه السلام عندما قال لمن كان عنده من إخوته بعد أن عرفهم بنفسه، قال تعالى: اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا [يوسف:93-96]. خرجت العير من عريش مصر ويعقوب قريبا من بيت المقدس مسيرة ثماني أيام وللأنبياء مقام كريم، وعلم وكرامة ومعجزة لمنزلتهم من الله تعالى: قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون [يوسف:96].
ريح دم الشهيد: والشهيد الذي يقتل في سبيل الله لا يصلى عليه ولا يغسل لكرامته، لا يصلى عليه لأنه في نص القرآن قال تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [آل عمران:169]. ولا يغسلون للحديث: ((لا تغسلوهم فإن كل دم يفوح مسكا يوم القيامة)) ( [7] ) ، بل إن الغبار الذي يثار في سير المجاهد من طيب الجنة للحديث: ((بينما رسول الله يسير إذا بشاب من قريش يسير معتزلا فقال: أليس ذلك فلان؟ قالوا: نعم، قال: فادعوه، فجاء فقال له النبي مالك اعتزلت عن الطريق؟، قال: كرهت الغبار، قال: فلا تعتزله فوالذي نفسي بيده إنه لذريرة (نوع من الطيب) الجنة)) ( [8] ) ، وكتب ابن المبارك إلى الفضيل ابن عياض من ساحات الجهاد، والفضيل مجاور الحرمين يقول له في أبيات تكتب بماء الذهب:
يا عباد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا وهج السنابك والغبار الأطيب
لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
ريح خبيثة: كريح المرأة إذا استعطرت لغير زوجها للحديث: ((أيما امرأة مرت على قوم فوجدوا ريحها فهي زانية)) ( [9] ) ، وفي الحديث في ليلة الإسراء: ((مررت بجب منتن الريح فسمعت فيه أصواتا شديدة فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: نساء كن يتزين للزينة ويفعلن ما لا يحل لهن)) ( [10] ). أي اللاتي يظهرن التبرج ويتعطرن ويتحلين لصيد الرجال في شرك الغواية.
وللغيبة ريح عن جابر قال: ((كنا مع النبي فارتفعت ريح منتنة فقال رسول الله : أتدرون ما هذه الريح؟، هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)) ( [11] ). وفي الآخرة عقابهم كما جاء في حديث الإسراء: ((لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء؟، قال: الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) ( [12] ).
ومن الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع:
في صلاتنا: أن نبعد عن كل ريح خبيثة كالثوم والبصل ومن باب أولى هو الدخان للحديث: ((من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به ابن آدم )) ( [13] ) إلا أن يميتها طبخا.
إذا شك المتوضئ في الحدث: هل أحدث أم لا؟، فإنه لا يضره حتى يستيقن للحديث: ((إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فاشكل عليه اخرج منه شيء أم لا، فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا)) ( [14] ).
أن يتطهر الإنسان ويتطيب ويتنظف عند مجيئه إلى المسجد لقوله تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد [الأعراف:31]. وللحديث: ((حق على كل مسلم الغسل والطيب والسواك يوم الجمعة)) ( [15] ).
( [1] ) مفتاح دار السعادة.
( [2] ) مسلم.
( [3] ) رواه البخاري ومسلم.
( [4] ) رواه ابن ماجة.
( [5] ) رواه مسلم.
( [6] ) البيهقي في دلائل النبوة.
( [7] ) رواه أحمد.
( [8] ) رواه الطبراني.
( [9] ) رواه أحمد.
( [10] ) رواه أبو داود.
( [11] ) متفق عليه.
( [12] ) رواه مسلم.
( [13] ) متفق عليه.
( [14] ) رواه الجماعة إلا الترمذي.
( [15] ) رواه أحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/392)
دعوته صلى الله عليه وسلم وصبره على الابتلاء
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
الحكمة مِن تَعَرُّضه صلى الله عليه وسلم للابتلاء , وارتباطها بالسنة الربانية في ابتلاء المؤمنين-
الابتلاء سنة الدعوات – من الدروس المستفادة من سيرته صلى الله عليه وسلم :
1- الأصل في البلاغ أنه إنذار وتبشير 2- عِظَم ابتلائه صلى الله عليه وسلم من أجل دعوته
وما في ذلك من الأسوة للدعاة والمسلمين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فعبد الله ورسوله ونبيه ومصطفاه وحبيبه وخليله فضله على أنبيائه ورسله وجعله سيد ولد آدم واتخذه الله خليلا واجتباه وفضله علي الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ومع ذلك كله لما قام صلى الله عليه وسلم بأمر ربه يدعو إلى عبادة الله وحده ابتلاه فكاد الناس يكونون عليه لبدا وتحمل صلى الله عليه وسلم كل ما أصابه من ابتلاء شديد ومحنة أثناء دعوته إلى الله عز وجل.
فلماذا كان ذلك الابتلاء الشديد لخليل الرحمن وحبيب رب العالمين؟ إنها سنن ربانية لا تتغير ولا تتبدل, أن المؤمن يبتلى بالشدائد والمحن تمحيصا له وزيادة لدرجاته عند ربه وأشد المؤمنين بلاء الذين قاموا بواجب الدعوة لله عز وجل وأشد هؤلاء بلاء الأنبياء والمرسلون, فما بعث نبي وما أرسل رسول إلا أوذي في ذات الله عز وجل فليست هناك دعوة بغير ابتلاء, قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع منه خبر الوحي الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم : ليتني كنت حيا إذ يخرجوك قومك. فقال صلى الله عليه وسلم: ((أومخرجي هم؟)). قال ورقة: نعم لم يأت رجل بمثل ما أتيت به قط إلا عودي [1] , إلا أوذي. نعم لقد أوذي صلى الله عليه وسلم وابتلي ابتلاء شديدا, آذاه قومه وابتلوه وتحمل صلى الله عليه وسلم كل ذلك في ذات الله.
وهنا في هذه اللمحة من سيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم نتعلم درسين جليلين علينا أن نتأملهما ونستفيد منهما ونتعظ بما فيهما من العظة والدروس:
الدرس الأول: أن الأصل في البلاغ , أنه إنذار وتبشير قال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين [النساء:165]. فأمر هذه الدعوة مبني علي الإنذار والتبشير أخذا من قوله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين, تأمل أيها المسلم كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ في دعوته تنفيذا للأوامر الإلهية في قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين [الشعراء:21]. وقوله في صدر سورة المدثر: قم فأنذر وأول ما قام به صلى الله عليه وسلم هو إنذار قومه, فعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين ((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فقعد عليه ونادى: يا صباحاه وا صباحاه )) فاجتمع إليه الناس بين رجل يأتي بنفسه وبين رجل يبعث رسوله فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتم لو أخبرتكم بأن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني. قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا. فأنزل الله تعالى: تبت يدا أبي لهب وتب )) [2]. أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم.
فتأمل أيها المسلم قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين وقوله: قم فأنذر ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم تنفيذا لهذه الأوامر الإلهية قوله لقومه إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. تعلم أن هذا كله هو من باب الإنذار والترهيب وليس من باب الترغيب والتبشير, فأمر الدعوة مبني علي الاثنين علي التبشير والترغيب والترهيب والوعد والوعيد ولكنه صلى الله عليه وسلم لما بدأ دعوته بدأ بالإنذار ولكننا نسمع اليوم من بعض المتفلسفين تذكيرا علي التبشير والترغيب ويعتبرون استعمال الترهيب في الدعوة تنفيرا, هكذا نسمع من بعض المتفلسفين اليوم حتى ميعوا دين الله عز وجل وجعلوا الدعوة إليه أشبه بأحوال الرهبان, رهبان البوذية أو رهبان النصارى.
الدرس الثاني: هذه اللمحة من سيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم أبلغ وأعظم وعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يتنبه إليه ويستحضره في حياتهما فقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل هذه الدعوة أذى شديدا كما أشرت إلى ذلك وتحمل من قومه البلاء الشديد حتى إنه صلى الله عليه وسلم سجد يوما وهو يصلي فجاء بعض سفهاء المشركين فوضعوا فرث جزور وسلاها بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وظل ساجدا لا يرفع رأسه حتى أقبلت ابنته فاطمة تسعى رضى الله عنها وأرضاها فألقت عنه ذلك الأذى وهي تسب أولئك السفهاء من المشركين.
و أقبل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يطوف بالبيت وطواغيت المشركين وكبراؤهم في الحجر مجتمعون فلما مر بهم صلى الله عليه وسلم غمزوه وسخروا منه فعرف ذلك في وجهه أي من الغضب حتى إذا مر بهم الثالثة وغمزوه صلى الله عليه وسلم غضب فوقف وقال لهم: ((أتسمعون يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح. فخافوا وقال بعضهم لبعض: تعلمون أن محمدا لا يكذب. ثم أقبلوا عليه يتلطفون به صلى الله عليه وسلم ويقولون له يا أبا القاسم ما كنت جهولا فانصرف راشدا)).
وفي يوم أخر أقبلوا إليه وهو عند البيت واجتمعوا عليه فوثبوا عليه صلى الله عليه وسلم وأخذوا بمجمع ردائه وكادوا يخنقونه وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه يدفعهم عنه صلى الله عليه وسلم ويقول لهم وهو يبكى: ((أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)). وهكذا تحمل أكرم الخلق خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم تحمل كل ذلك البلاء الشديد والمحن والأذى في ذات الله عز وجل حتى إذا اشتد بلاء المشركين عليه وعلى أصحابه دعا عليهم, دعا على طواغيت المشركين ثلاثا فقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم عليك بقريش, اللهم عليك بعمرو بن هشام, اللهم عليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد)). دعا على هؤلاء الطواغيت ثلاث مرات صلى الله عليه وسلم.
قال عمرو بن العاص رضى الله عنه وقد كان شهد ذلك: فو الله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر قد غيرتهم الشمس في يوم حار وسحبوا إلى قليب بدر فألقيت جيفهم فيه.
كل أولئك الطواغيت من مشركي قريش الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, لقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم كل تلك الشدائد والمحن في سبيل الله وفي ذات الله وقدم التضحيات في سبيل الله وفي ذات الله. وأنت يا أيها المسلم ماذا أصابك في ذات الله؟ وماذا قدمت من تضحيات في سبيل الله ولدين الله عز وجل؟ تعيش اليوم في رغد وبحبوحة من العيش في نعم تبقى ولا تنفذ ثم تبخل بالقليل من جهدك ووقتك ومالك ونفسك أن تقدمه لله عز وجل, بل إنك حتى لا تضحي بشهواتك ورغباتك من أجل الله تعالى. ما أبخلك أيها الإنسان وما أشد جزعك. ما أبخلك إذا طلبك ربك واستقرضك وما أشد جزعك إذا أصابك ما أصابك, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم علي صلاتهم دائمون [سروة المعارج:19-3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري :ك:الوحي (3)
[2] البخاري :ك:التفسير (4492).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين علي وعن بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن ابي هريره رضي لله عنه.
(1/393)
الصبر
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الصبر. 2- صور للصبر على المصائب. 3- ضرورة الصبر لحياتنا. 4- أنواع
الصبر. 5- موقف المسلم من الصبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين [الأنعام:34]. جرت سنة الله تعالى أن الأنبياء ومن سار على دربهم هم أشد الناس بلاء، والصبر هو ملجأ الأنبياء وأصحاب البلاء في كل زمان ومكان.
فما الصبر؟ وهل نحن بحاجة إلى الصبر؟ وما أنواعه؟ وما موقفنا منه؟
أما الصبر: فهو حبس النفس على ما يقتضيه الشرع، في عقولنا فنوقن بقصورها عن الإحاطة بحكمة الله عز وجل فيما قضى وقدر: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216]. وفي ألسنتنا فلا نتجاوز ما أخبر به الحق عن أوليائه عند المصيبة قولهم: الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون [البقرة:156]. وفي الجوارح فلا تظهر التسخط للحديث: ((ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) ( [1] ). وللحديث: ((من ضرب فخذه - أي عند المصيبة- حبط أجره، والصبر عند الصدمة الأولى)) ( [2] ).
وأما هل نحن بحاجة إلى الصبر ؟
1- فنعم ذلك لأن الدنيا دار بلاء وهموم وغموم تذيب القلب وتطحن البدن فيعقوب عليه السلام فقد بصره من كثرة بكائه لفقده يوسف عليه السلام فلم يجد غير الشكوى إلى الله والصبر ملجأ: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [يوسف:18]. سئل الإمام علي : (ما أشد جند الله عز وجل؟ فقال: الجبال، والحديد يقطع الجبال فالحديد أقوى والنار تذيب الحديد فالنار أقوى، والماء يطفئ النار فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء فالسحاب أقوى والريح يعبث بالسحاب فالريح أقوى والإنسان يتكفى الريح بثوبه ويده فالإنسان أقوى والنوم يغلب الإنسان فالنوم أقوى والهم يغلب النوم فالهم أقوى فأقوى جند الله عز وجل الهم).
2- ونحن بحاجة إلى الصبر لأن مشيئة الله نافذة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومن أنت حتى تعترض على قضاء الله وأمره جاء في الحديث القدسي: ((عبدي أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد فإذا رضيت عما أريد كفيتك ما تريد وإن لم ترض بما أريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد)).
وأما أنواع الصبر:
الصبر على الطاعة: صلتنا بالله ليست صلة أيام ومواسم كالذين لا يعرفون الله إلا في رمضان فإذا خرج رمضان خرجوا كالأنعام إلى شهواتهم. غايتنا أن نلقى الله تعالى عن كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله سبحانه: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين أي الموت وقال: رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا [مريم:65]. وكلما ازداد العبد صبرا على الطاعة ازداد حبا لها وشوقا فهذا أحد الصالحين يفرش له فراشه بعد صلاة العشاء فيضع يده عليه ويقول: والله إنك للين ولكن فراش الجنة ألين منك ثم يقوم إلى صلاته إلى الفجر، حتى يسأل عمر ما أحب شيء إلى نفسه؟ فيقول: (ضرب السيف وصيام بالصيف)، ورسول الله يقول: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط)) ( [3] ).
أ - قبل العمل: بأن تكون النية خالصة لله: ((إنما الأعمال بالنيات)) ( [4] ).
ب- عند العمل: فلا يكسل ولا يفتر: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)) ( [5] ).
ج- وعند الفراغ منه فلا يمن به ولا يطلب به سمعة: من جاء بالحسنة فله عشر أمثلها [الأنعام:160].
الصبر عن المعصية: فتحفظ نفسك عن كل ما يدنيك من المعصية في بصرك: ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها لله تعالى أبدله الله نورا يجد حلاوته في قلبه)) ( [6] ) ، وفي لسانك: ((أمسك عليك هذا وأشار إلى لسانه يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)) ( [7] ). وفي بطنك فلا يدخلها حرام للحديث: ((واعلم أن اللقمة الحرام إذا وقعت في جوف أحدكم لا يتقبل عمله أربعين ليلة)) ( [8] ). وفي فرجك فلا تزني للحديث: ((من ضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له الجنة)) ( [9] ).
رحم الله أحد الأصحاب وكان يشعل سراجا ثم يضع إصبعه عليه ويقول: ((حس حس ألم تفعل ذنب كذا، ألم تفعل ذنب كذا)).
الصبر على المصائب: والمسلم موقن بقدم ما كتبه الله على عبيده للحديث: ((قدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) ( [10] ) ولله در الشافعي إذ يقول:
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفسا إذ حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلا على الأهوال جلدا وشيمتك السماحة والوفاء
وأرض الله واسعة ولكن إذا نزل القضا ضاق الفضاء
فهذا أيوب عليه السلام ابتلي في نفسه وولده وماله وتسأله زوجه أن يسأل الله كشف الضر وهو النبي المستجابة دعوته فيقول لها: ((كم مضى علينا في عافية فتقول: ستين سنة، فيقول لها: فإني أستحي أن أسأل ربي العافية وما بلغنا في البلاء ما بلغناه في عافية)). فالصحة أعوام والمرض أيام، والعافية سنوات والبلاء ساعات وكلها تمضي وتكون شيئا من الماضي كما قال الشاعر:
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الكاشف الله
سهرت عيون ونامت عيون في أمور تكون أو لا تكون
إن الذي كفاك بالأمس هما يكفيك غدا ما سيكون
وأما موقفنا من الصبر:
فعلينا أن نوقن أن العاقبة للصابرين المتقين: فهذا يوسف عليه السلام تآمر عليه إخوته فصبر وألقي في البئر فصبر وبيع بيع العبيد وهو الحر فصبر، وعمل خادما في قصر وهو الشريف فصبر، واتهم في عرضه وهو العفيف فصبر وسجن وهو البريء فصبر فأبلغه الله بعد ذلك المنزلة العالية حيث جعل أرزاق الناس وحاجتهم إليه في المؤونة حتى جاءه إخوته بائسين محتاجين الذين قالوا بالأمس: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا [يوسف:9]. هم الذين يقولون اليوم: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين [يوسف:88].
واعلم أنه لا صبر إلا بيقين بالله وحكمته وعدله، وباليوم الآخر وما فيه من جزاء وحساب عادل للحديث: ((ما من عبد مؤمن أصيب بمصيبة فقال كما أمر الله تعالى: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم اؤجرني في مصيبتي واعقبني خيرا منها إلا فعل الله به ذلك)) ( [11] ).
ومن الدعاء المأثور عن النبي قوله: ((اللهم إني أسألك من اليقين ما تهوّن علي به مصائب الدنيا)) ( [12] ).
( [1] ) البخاري ومسلم.
( [2] ) مسلم.
( [3] ) مسلم.
( [4] ) البخاري ومسلم.
( [5] ) البخاري ومسلم.
( [6] ) الطبراني.
( [7] ) الترمذي وصححه.
( [8] ) الطبراني.
( [9] ) البخاري.
( [10] ) رواه مسلم.
( [11] ) أخرجه مسلم.
( [12] ) أخرجه الترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/394)
مراحل الدعوة النبوية
سيرة وتاريخ, فقه
الزكاة والصدقة, السيرة النبوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
مراحل دعوته صلى الله عليه وسلم : 1- مرحلة النبوة والأمر بالعلم والعمل قبل الدعوة
والإنذار 2- مرحلة إنذار عشيرته الأقربين 3- إنذار قومه أجمعين 4- مرحلة إنذار العرب
قاطبة 5- إنذار جميع الخلق – لم يكن نجاح دعوته صلى الله عليه وسلم العظيم نتيجة مجردة
عن المقدمات والأسباب – صبره صلى الله عليه وسلم ومصابرته ومثابرته في الدعوة
وحرصه على هداية الناس – زكاة الفطر ؛ حكمها والسنة فيها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مرت بخمس مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة النبوة وفيها أمر صلى الله عليه وسلم بالقراءة فالعلم قبل القول والعمل قبل الدعوة والإنذار.
المرحلة الثانية: إنذار عشيرته الأقربين.
المرحلة الثالث: إنذار قومه أجمعين وهم قريش.
المرحلة الرابعة: إنذار العرب قاطبة وهم القوم الذين ما أتاهم من نذير من قبله صلى الله عليه وسلم.
المرحلة الخامسة: إنذار جميع الخلق من كل من بلغته دعوته من الجن والأنس.
لقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المراحل وأنجزها في صبر عظيم وثبات ومثابرة وحرص شديد علي هداية قومه وإرشادهم وإنقاذهم من ربقة الشرك والوثنية واستجاب له في بادئ الأمر ثلاثة نفر, امرأة وصبي وعبد, أما المرأة فزوجه خديجة, وأما الصبي فابن عمه علي بن أبي طالب, وأما العبد فمولاه زيد بن حارثة. ثم استجاب له صديقه وحبيبه أبو بكر الصديق فكان أول سيد من سادات قريش يستجيب للنبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن بدعوته ثم أخذت أنوار الدعوة النبوية تنتشر في بطاح مكة حتى بلغ المسلمون أربعين نفرا كانوا يجتمعون سرا في دار الأرقم بمكة يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد ومكارم الأخلاق.
وما لقي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه حتى سارت جيوشه فشرقت وغربت في جزيرة العرب , بل وضربت إحدى القوتين الكبيرتين في ذلك الزمن وهي دولة الروم ضربها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه في غزوة تبوك مفتتحا بذلك هجوم رايات الجهاد على قوى الطغيان الكبرى خارج جزيرة العرب.
وكانت دعوته صلى الله عليه وسلم أنموذجا عظيما في النجاح, لقد كان ذلك النجاح الذي حالف دعوته صلى الله عليه وسلم أنموذجا رائعا عظيما فيه القدوة والأسوة للمسلمين أفرادا وجماعات. أتظنون أن ذلك النجاح العظيم الذي حالف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته كان مجرد فلتة أو كان مجرد معجزة يبدأ دعوته بثلاثة نفر امرأة وصبي وعبد ثم وفي خلال ثلاثة وعشرين عاما يغير وجه جزيرة العرب من جزيرة وثنية كئيبة إلي جزيرة إيمانية مشرقة وقاعدة إسلامية تنطلق منها جيوش الدعوة والجهاد لتحدث ذلك التغير نفسه في وجه البشرية جميعا, لم يكن ذلك النجاح النبوي العظيم مجرد نتيجة بلا مقدمات ولا مسببات بلا أسباب فقد ثابر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثابرة عظيمة وصبر صبرا عظيما علي دعوة قومه وكان شديد الحرص علي هدايتهم وإرشادهم حتى كانت نفسه الشريفة الرقيقة تكاد تتقطع من شدة الحزن إذا رأى إعراضهم وعدم استجابتهم لنداء الإيمان حتى كاد صلى الله عليه وسلم يهلك نفسه من شدة الحزن والحسرة والألم علي قومه إذ لم يستجيبوا لنداء الإيمان فخفف عنه ربه عز وجل بقوله: فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون [فاطر:8]. وبقوله: فلعلك باخع نفسك على أثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [الكهف:6]. وباخع نفسك أي مهلك نفسك.
لم يكن هم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحقيق مجد سياسي ولا جمع أموال ومتاع ولا حشد أنصار وخدم وأتباع كان كل همه صلى الله عليه وسلم تبليغ دعوة ربه وإنقاذ أولئك البؤساء الأشقياء الذين عبدوا غير الله إنقاذهم من ربقة الشرك والوثنية. بينما كان أولئك البؤساء الأشقياء يناوئونه ويحاربونه ويسبونه ويهينونه ويلحقون به الأذى كلما أمكنهم ذلك بينما يفعلون ذلك به صلى الله عليه وسلم كان هو في مقابل ذلك شديد الحرص على هدايتهم وإرشادهم وإنقاذهم من ربقة الشرك والوثنية لسان حاله ومقاله كلما اشتد صلفهم وعظمت نكايتهم به صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)).
ولم يكن ربه عز وجل غافلا عن كل ذلك فمحمد نبيه ومصطفاه وخليله ومجتباه ما ودعه ربه وما قلاه وما وكله إلى خلقه حتى يستضعفوه ويقهروه صلى الله عليه وسلم, بل كان صلى الله عليه وسلم بعد أن يستنفذ كافة قدراته البشرية يأتي بعد ذلك المدد الرباني ليبدد حلكة الظلمات ويزيل وعورة المسالك, يوم أحد نظرت حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فإذا الحبيب المصطفي جريح تسيل الدماء من وجنتيه صلى الله عليه وسلم إذ دخلت حلقة المخفر في خده وكسرت ثنيتاه فعجبا لقوم أدموا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم, يدعوهم إلى النجاة قالت أم المؤمنين عائشة للحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم: هل أتى يا رسول الله عليك يوم كان أشد من يوم أحد. فقال صلى الله عليه وسلم : ((لقد لقيت من قومك - أي ما أكثر ما لقيت منهم - من الشدة والأذى والبلاء وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد كلال فأبى أن يجيبني إلي ما طلبته فانطلقت مهموما على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني: يا محمد إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث معي ملك الجبال لتأمره بما أردت فيهم. قال صلى الله عليه وسلم ثم ناداني ملك الجبال فسلم علي وقال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وقد بعثني إليك لتأمرني بما شئت فيهم فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين, - والأخشبان جبلان عظيمان حول مكة - فقال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)) [1].
فصلى الله تعالى وبارك على النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم ما أرحمه وما أشد شفقته وما أعظم رقة نفسه الشريفة, آذاه قومه وسبوه وأهانوه وأحزنوه حتى إنه من شدة ما لقي منهم هام على وجهه حزينا مغموما وغضب الجبار عز وجل لنبيه ومصطفاه وخليله ومجتباه فبعث إليه ملك الجبال وأمره أن يضع نفسه تحت تصرف النبي صلى الله عليه وسلم وأن ينفذ ما يأمره به فان أمر بأن يمحو قومه من الوجود ويطبق عليهم الجبلين العظيمين نفذ ما يأمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبى النبي المصطفي أن ينكل بقومه الذين عادوه وآذوه رجاء أن يخلق الله من أصلابهم من يستجيب لنداء الإيمان, فإذا كان هؤلاء العصاة الطغاة البؤساء الأشقياء من مشركي قريش لم يستجيبوا لنداء الإيمان فإن النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم يرجو أن يخلق الله من ذرياتهم ويخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا وقد كان ذلك فأخرج الله من أصلاب أولئك المشركين من عبد الله وحده لا شريك له وأبلى في الإسلام بلاء حسنا وأبلى في الجهاد بلاء عظيما كأمين هذه الأمة أبي عبيدة لقد أخرجه الله من صلب كافر وهو الجراح وكعكرمة رضى الله عنه أحد أبطال الجهاد من الصحابة العظام أخرجه الله من صلب كافر, من صلب عدو الله ابن أبي جهل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم [التوبة:128-129].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري :ك:بدء الخلق (3059).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102].
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [النساء:1].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [الأحزاب:70-71].
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان. ثم اعلموا يا أيها المسلمون أن الله قد افترض عليكم في هذا الموسم العظيم وهذا الشهر الكريم زكاة الفطر وهي واجبة على كل مسلم ذكرا كان أو أنثى, صغيرا أو كبيرا إذا فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته صاع, فإنه يخرج هذه الزكاة فيبدأ بنفسه فيخرج زكاة الفطر عن نفسه ثم يخرجها عمن يعول إذا ملك أكثر من صاع ويخرج هذه الزكاة صاعا من بر أو شعير أو أقط أو تمر أو زبيب , ويجوز أن يخرجها صاعا من طعام أهل البلد وقوتهم , من أرز مثلا ويجوز أن يخرج قيمة الصاع إذا كان ذلك أنفع للفقير لأن المقصود هو إغناء الفقراء يوم العيد عن السؤال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أغنوهم عن الطلب يوم العيد)) كما رواه سعيد بن منصور في سننه.
ووقت هذه الزكاة من غروب الشمس ليلة عيد الفطر إلي صلاة العيد وإن عجلها قبل ذلك بيوم أو يومين جاز ذلك, أما إذا عجلها قبل ذلك لم يجز, ولا يجوز له أن يؤخرها عن صلاة العيد فإن أخرجها بعد صلاة العيد أجزأته وقد خالف السنة وإن أخرها بعد صلاة العيد أثم ولكنها تجزؤه ولا تسقط عنه بل هي في ذمته حتى يخرجها.
فعليكم أيها المسلمون أن تبادروا لهذه الزكاة, زكوا عن أنفسكم ولا تنسوا إخوانكم الفقراء يوم العيد, ادخلوا السرور على أنفسهم وأغنوهم يوم العيد عن السؤال كما أمركم بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريره رضي لله عنه.
(1/395)
الخوف
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخائفون من الله في الدنيا آمنون يوم القيامة. 2- علامة الخوف من الله. 3- أسباب خوف
السلف وأمننا.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين [الأنعام:15-16]. يوم القيامة يوم عظيم خطبه، عظيم خطره، ليس للأنبياء فيه دعاء إلا قولهم: ((يا رب سلّم)) فكيف بغيرهم؟، ورسول الله على علو قدره وقربه يعلم خشيته ويرجو رحمة ربه.
فما الخوف؟ وما أسباب خوفهم وما أسباب أمننا؟ وما الذي ينبغي أن يخافه العبد؟
أما الخوف: فهو ألم يلازم القلب المقبل على الله بسبب توقع المكروه في المستقبل.
والفرق بين الخوف من الله والخوف من غيره يقول: أبو القاسم الحكيم: من خاف شيئا هرب منه، ومن خاف الله هرب إليه.
وأخبر الحق عن حال أهل الجنة وهم يذكرون حالهم في الدنيا: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم [الطور:25-27]. وفي الحديث القدسي: قال الله تعالى: ((وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة)) ( [1] ).
وعلامته:
وجل في القلب قال تعالى: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [الحج:35].
قشعريرة في الجلد: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [الزمر:23]. قال ابن كثير: هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار لما ينهون من الوعد والوعيد، وللحديث: ((إذا قشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات من الشجرة ورقها)) الطبراني.
ودموع من العينين: ((قال عقبة بن عامر: ما النجاة يا رسول الله؟ قال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك وابك على خطيئتك)) ( [2] ).
همة في الطاعة للحديث: ((من خاف أدلج (أي بكّر وهو كناية عن التشمير للطاعات)، ومن أدلج بلغ المنزل إلا أن سلعة الله غالية إلا أن سلعة الله هي الجنة )) ( [3] ). والمتأمل في أقوال السلف يجد العجب العجاب على صلاحهم وطاعتهم وجهادهم. فهذا عمر كان في وجهه خطان أسودان من الدموع وكان يأخذ تبنة من الأرض ويقول: (يا ليتني كنت هذه التبنة، يا ليتني لم أك شيئا مذكورا). وهذا أبو عبيدة بن الجراح يقول: (وددت أني شاة فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحتسون مرقي). وهذا عبد الله بن المبارك يقول: (لو أن رجلا وقف على باب المسجد ونادى ليخرج شر الناس لما سبقني إليه إلا رجل أوتي أكثر مني قوة أو سمعا).
فما أسباب خوفهم وما أسباب أمننا؟
1- معرفتهم بالله تعالى قال تعالى: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [الزمر:67]. يقول عبد الواحد المقدسي: ركبنا البحر فألقتنا السفينة إلى جزيرة فرأينا رجلا يعبد وثنا، قلنا له: ما تعبد؟ فأشار إلى الوثن، قال: وأنتم ما تعبدون؟ قلنا نعبد الله، قال: ومن الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي الناس قضاؤه، قال: وما أعلمكم به ؟ قلنا: رسول الله من عند الملك، قال: فأين الرسول ؟ قلنا: مات، قال: فهل ترك من علامة ؟ قلنا: كتاب من عند الملك، قال: ينبغي أن تكون كتب الملوك حسانا، أئتوني به، فجئناه بالقرآن الكريم فقرأنا عليه فبكى ثم قال: ما يصنع من أراد الدخول في دينكم؟، قلنا: يغتسل ويتوضأ ويقول كلمة التوحيد ويصلي. فاغتسل وقال كلمة التوحيد وصلى فلما جن علينا الليل أخذنا مضاجعنا، قال: أسألكم الإله الذي دللتموني عليه إذا جنه الليل ينام؟، قلنا: لا بل هو حي قيوم لا ينام، قال: بئس العبيد أنتم تنامون وربكم لا ينام)). وأما سبب أمننا لجهلنا بالله وصفاته وعظيم قدره وللأثر ((يأتي على الناس زمان يجتمعون في مساجدهم ويصلون وليس فيهم مؤمن)).
2- حبهم لله سبحانه: فملك عليهم قلوبهم يقول ابن القيم: (من عرف ربه أحبه) كيف لا ومصدر النعمة هو الله: وما بكم من نعمة فمن الله [النحل:53]. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [إبراهيم:34]. وإليه شكواك ونجواك: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله [يوسف:86]. وإليه وحده تلجأ عند بلواك: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو [الأنعام:17]. فأي حب ينبغي أن يكون.
لقد أصبح من البداهة أن نسمع من يبذل ماله لعاهرة أو ينتحر لأجل لعوب ضاربا مثلا حقيرا لسالكي دربه، وأصبح من النادر أن نجد من يبذل ماله ونفسه لربه. رحم الله عمر وقد سئل: أي شيء أحب إليك، قال: صوم في الصيف وضرب بالسيف. وهذه رابعة تناجي ربها فتقول: إلهي غارت النجوم ونامت العيون وأنت الحي القيوم، إلهي خلا كل حبيب بحبيبه وأنت حبيب المستأنسين وأنيس المستوحشين، إلهي إن طردتني عن بابك فباب من أرتجي وإن قطعتني عن خدمتك فخدمة من أرتجي، وأما سبب أمننا فهو انحرافنا في حبنا ولمن يكون، فمنا المحب للمال وللنساء والمنصب وهي فتن على الطريق للحديث: ((ولكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)) ( [4] ). ((وما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) ( [5] ). ((تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار)) ( [6] ).
اليقين: وهو كمال التصديق والرسوخ بوجود الله والجنة والنار والحساب، يرى رسول الله أحد الأصحاب فيقول له: ((كيف أصبحت؟، فيقول: أصبحت مؤمنا حقا، فيقول المصطفى: وما حقيقة إيمانك؟، فيقول: أصبحت أرى عرش ربي بارزا، وأصبحت أرى أهل الجنة وهم يتزاورون، وأهل النار وهم يتعاوون فقال : عرفت فالزم)) ( [7] ). وأما أسباب أمننا فضعف اليقين والثقة بالله وما أخبر عنه فخسرنا أنفسنا وخسرنا ديننا.
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
وأما الذي ينبغي أن يخافه العبد:
أن يخاف على دينه: للحديث: ((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا يبيع دينه بعرض من الدنيا زائل)) ( [8] ). وكل مصيبة تهون إلا مصيبة الدين، وكان من دعائه : ((اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا)).
أن تشغله الدنيا عن الآخرة: أتي عمر بكنوز كسرى قام عمر يتفحصها وينظر إليها وهو يبكي ومعه عبد الرحمن بن عوف فقال له عبد الرحمن: (يا أمير المؤمنين: هذا يوم فرح ويوم سرور فقال عمر: (أجل ولكن إن هذا (أي المال) لم يعطه الله قوما قط إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء) ( [9] ).
سوء الخاتمة: إنما الأعمال بالخواتيم، وللحديث: ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) ( [10] ).
( [1] ) ابن حبان مرسلا.
( [2] ) الترمذي.
( [3] ) الترمذي.
( [4] ) الترمذي.
( [5] ) متفق عليه.
( [6] ) البخاري.
( [7] ) البزار في مسنده.
( [8] ) رواه مسلم.
( [9] ) حياة الصحابة مجلد 2 ص 244.
( [10] ) الشيخان.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/396)
أثر الكِبر في حرمان الهدى
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, مساوئ الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
الهداية نوعان : أ- هداية بيان وإرشاد ؛ وهذه أثبتَها الله لرسوله ب- هداية التوفيق وهذه إلى
الله وحده – الأسباب المانعة للهداية : الكبر والتجبر – نماذج لأثر الكبر في حرمان الهداية
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فالهداية نوعان نوع بعث به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو هداية البيان والإرشاد والتعليم والتربية فبين ما أرسل به من الحق أوضح بيان وعلم الناس ما أنزل إليه من القرآن وأرشدهم إلى الدين القويم وربى الرعيل الأول من هذه الأمة الذين اتبعوه ونصروه رباهم أحسن تربية فكان كما وصفه ربه عز وجل حين قال تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [الجمعه:2]. وهذه الهداية هي المقصودة بقوله تعالى مخاطبا نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى:52].
وأما النوع الثاني فهو هداية التوفيق والتوفيق إلى الهداية وتوجيه القلب إلى الحق وشرح الصدر للإسلام وهذا أمره بيد الله عز وجل, ليس شيء من ذلك بيد أحد من الخلق فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء, يهدي من يشاء ويضل من يشاء فإذا شاء سبحانه أن يهدي أحدا إلى الإسلام شرح صدره وفتح مغاليق فؤاده, فإذا بأنوار الهداية تغمر قلبه فتغسله غسلا فلا تدعه إلا وهو نقي من أدران الباطل, نظيف من أقذار الشهوات , يتلألأ ذلك القلب بنور الحق حتى يكاد يرى ذلك في وجه صاحبه.
وأما إذا شاء عز وجل أن يضل أحدا أو أن يهلك أحدا فإنه يجعل صدره ضيقا حرجا ويعمي بصره ويغلق مفاتيح قلبه فمهما كانت الآيات البينات والحجج الواضحات تقع على ذلك القلب فهو أصم أبكم أعمى لا يسمع ولا يرجع ولا يعقل, إذا أراد الله أن يضل أحدا غلق مفاتيح قلبه فيكون الحق أمامه ومع ذلك هو لا يبصره ولا يحس به, فسبحانه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء.
ولذلك فعلى الإنسان أن يتوجه إلى ربه وأن يلجأ إلى جنابه متذللا متضرعا يسأله الهداية والتوفيق والسداد فإنه سبحانه إذا رحمه فكتب له السعادة وهداه ظهرت وبانت أمامه أنوار الحق. وأما إذا كانت الأخرى والعياذ بالله فمهما فعل من أجل ذلك الشقي فإنه لا يهتدي أبدا, هذه الهداية هي المقصودة بقوله تعالى مخاطبا نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: ((إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)) وفصلها وبينها سبحانه بقوله: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [القصص:56]. وأنت أيها المؤمن تقرأ كل يوم في صلاتك قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم [الفاتحة] فهذا تعليم لك وتذكير لك بأن تطلب دائما من ربك عز وجل الهداية إلى صراطه المستقيم وأن تستعين به على عبادته وطاعته فإنك بدون ذلك لا تهتدي أبدا ولا تصلح أبدا.
والله سبحانه وتعالى يفعل في ملكه ما يشاء: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [الانبياء:23]. وهو أخبرنا سبحانه أنه لا يظلم أحدا وأنه حرم الظلم على نفسه, فأولئك الأشقياء الذين كتب عليهم الشقاوة لولا أنهم أهل لها ويستحقونها ما أشقاهم, ولكنه علم من أحوالهم وما في قلوبهم ما استحقوا به تلك العقوبة الشنيعة وهناك من الأسباب المانعة للهداية الحائلة بين الإنسان وبين اتباع الحق ما يجب أن يعرفه كل مسلم ويحذره أشد الحذر ومن أشد ذلك ضررا وأثرا على قلب الإنسان الكبر والتجبر, فإن الكبر إذا حل في قلب إنسان فلا مكان فيه أبدا لأنوار الهداية, أنى لأنوار الهداية حينئذ أن تتسرب إلى ذلك القلب, وغالبا ما يصحب الكبر في القلب الجبروت والقسوة والطغيان, قال تعالى: كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر جبار [غافر:35]. فالكبر إذا حل في القلب يجعل الإنسان في أغرب حال يعلم الحق ويتدبره ويرى أنواره أمامه ساطعة كالشمس إلا أنه لا يهتدي إلى الحق أبدا مع أنه قد يراه ساطعا أمامه واضحا في عقله لكن قلبه مختوم عليه ومطبوع عليه فلا يستطيع أن يهتدي إلى الحق ولا يتبعه والعياذ بالله يغلبه الكبر والعناد والتجبر ويجره إلي الضلال والهلاك, أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي أحد سادات قريش وطغاتها وجبابرتها وهو يعلم مثل غيره من القرشيين أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يكذب لقد رأى مثل غيره من القرشيين الآيات والمعجزات التي صاحبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وسمع القرآن وعرف أنه حق بل كان يستعذب سماعه ويتسلل ليلا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إلى ترتيل النبي بالقرآن دون أن يشعر به أحد ومع ذلك كفر وتجبر وعاند وتكبر بل بلغ من تكبره وطغيانه أنه عزم ذات يوم على أن يطأ عنق النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد وأخبر بعض القرشيين بعزمه هذا فتبعوه ينظرون ماذا يفعل حتى إذا توجه تلقاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة ولى أبو جهل فجأة مدبرا, فسأله بعد ذلك القرشيون فقال: لقد رأيت بيني وبين محمد خندقاً فيه نار عظيمة ورؤوس وأهوال.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم معلقا على ذلك: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا)) , [1] وفي ذلك أنزل الله قوله: إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [العلق:6-7]. أبو جهل هذا كان من رؤساء قريش كما ذكرنا في الجمعة الماضية ومنهم أبو سفيان والأخنس الثقفي كانوا يتسللون إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلا يستمعون إلى ترتيله بالقرآن وهو يصلي من الليل في بيته صلى الله عليه وسلم, يستعذبون سماع القرآن من ترتيل النبي صلى الله عليه وسلم فيقعد كل واحد منهم في مكان لا يعلم به صاحبه ولا يشعر كل واحد منهم بصاحبه فعلوا ذلك ثلاث مرات ثم لما انصرفوا في الثالثة وتعاهدوا عن أن لا يعودوا ذهب الأخنس الثقفي إلى أبي سفيان في بيته فقال له: يا أبا سفيان ما رأيك في ما سمعت من محمد؟ فقال أبو سفيان: لقد سمعت شيئا ما سمعت مثله قط. ثم جاء الأخنس إلى أبي جهل في بيته فقال له: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال أبو جهل: وماذا سمعنا من محمد لقد نازعنا بنو عبد مناف الشرف فأطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تساوينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فكيف ندرك نحن بني مخزوم مثل هذه, لا والله لا نطيعه ولا نؤمن به أبدا.
انظر إلى هذا الكبر في قلب أبي جهل إنه يعلم صدق النبي ويعلم أن القرآن حق وأن الوحي يأتي محمداً صلى الله عليه وسلم من السماء ولكنه الحسد والكبر أن تسبقهم بنو عبد مناف عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشرف العظيم شرف النبوة التي لا يستطيعون أن ينافسوهم فيها ولذلك أعرض ونأى بجانبه وتكبر وتجبر فرعون هذه الأمة أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي وكان مثل سلفه إبليس الذي أبى الانقياد لأمر ربه وهو من أعلم الناس بأن أمر الله لا يناقش بل يجب أن ينفذ دون تردد ومع ذلك غلبه الحسد والكبر والتجبر والعناد فأبى الانقياد لأمر الله وقال مخاطبا ربه: أأسجد لمن خلقت طينا [الاسراء:61]. أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ص:76]. فكانت عاقبته تلك اللعنة الأبدية إلى يوم الدين. وهكذا يفعل الكبر إذا تسلط على المخلوق. نعوذ بالله من الكبر والبطر والكفر والطغيان. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا علي دينك. اللهم أرنا الحق حق وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطل وارزقنا اجتنابه. اللهم اهدنا وأرشدنا وسددنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من لراشدين. أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسلم :ك:ضعات المسلمين (2797).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102].
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [النساء:1].
يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [الأحزاب:70-71].
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريره رضي لله عنه.
(1/397)
موانع الانقياد للشرع ودور الإعلام في عقوق الأبناء
الأسرة والمجتمع, التوحيد
قضايا الأسرة, نواقض الإسلام
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
19/2/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
كلمة الإسلام وما تتضمنه من معانٍ , ومعناها الرئيس هو الاستسلام والانقياد لله وحده بالقلب
والجوارح – لا تنفع المعرفة والإقرار بدون انقياد للدخول في الإسلام – طبيعة اليهود وموقفهم
من الرسالة – الحسد والبغي أكثر أسباب الكفر , وهما تركة إبليس – الشهوات والأهواء
من أشد موانع الانقياد , والفرق بين تسلطها حتى تضعف الانقياد , وبين منعها له ابتداء
وتطبيق ذلك على موقف كسرى وقيصر والنجاشي من دعوته صلى الله عليه وسلم -
ظاهرة العقوق مظاهرها وأسبابها والدور الخبيث لوسائل الإعلام في ذلك وأثرها على الأمة -
الواجب تجاه هذا الإعلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد بينا أن كلمة إسلام تتضمن المعاني الآتية: الاستسلام والتسليم والانقياد والطاعة والسلامة والسلام.
أما الجانب الرئيسي من معنى هذه الكلمة فهو الاستسلام والانقياد لله وحده لا شريك له انقيادًا كاملاً يشمل انقياد القلب وانقياد الجوارح.
وبينا أنه لا يمكن الفصل بين هذين فلا يُتصور أن ينقاد القلب لله وتتمرد الجوارح. أما إذا تمردت الجوارح على أمر الله فذلك دليل على أن القلب نفسه متمرد. ويتفرع من هذا أن المعرفة وحدها ليست إسلامًا، فإذا عرف الإنسان الحق وأقربه بلسانه إلا أنه لم يتبعه وأبى الانقياد له فإن تلك المعرفة لا تنفعه عند الله شيئًا. بل وذلك الإقرار أيضًا باللسان لا ينفعه أيضًا. لا ينفعه شيئًا. بل إن الإنسان الذي عرف الحق وأبى أن يتبعه وينقاد له هو أسوأ حالاً من ذلك الذي جهل الحق فلم يتبعه، ولهذا فقد ذم الله اليهود أشد مما ذم سواهم من الكفار والمشركين، ذلك لأن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه قال سبحانه في وصف حالهم وذم حالهم فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيًا أن يُنزِّل الله من فضله على من يشاء فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين [البقرة:89-90]. اليهود عرفوا الرسول وعرفوا أنه النبي الذي بشرت التوراة والإنجيل وعرفوا أن ما جاء به هو الدين الحق بل وأقروا بذلك بألسنتهم إلا أنهم لم يتبعوه ورفضوا الانقياد لما جاء به حسدًا وبغيًا، بغيًا وحسدًا ممن عند أنفسهم، فإنهم إنما كانوا ينتظرون أن يُبعث هذا النبي منهم من بني إسرائيل، فلما بُعث من قريش حسدوه وعاندوه وبغوا عليه. فالمانع الذي منعهم هنا من الانقياد والاستسلام لأمر الله هو الحسد والبغي.
وهذان هما أكثر أسباب الكفر تحكمًا في البشر وتفشيًا في بني آدم، تلك تركة إبليس وسنته السيئة التي بذر بذرتها يوم أن رفض الانقياد والامتثال لأمر الله عز وجل مع علمه لألوهيته وعظمته سبحانه وأنه لابد من الانقياد لأمره دون تردد أو سؤال أو نقاش، مع ذلك كفر إبليس بعدم انقياده وامتثاله، مع توافر علمه، وسبب كفره هو الحسد والبغي قال لربه: أأسجد لمن خلقت طينًا [الإسراء:61]. ثم تمادى في حسده وبغيه فقال وهو بين يدي رب العزة فقال: أرأيتك هذا الذي كرمت علىّ لئن أخرتني إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلاً [الإسراء: 62].
وقد تكون الشهوات والأهواء والمصالح المتشابكة المبنية عليها قد تكون مانعًا من أشد الموانع التي تمنع الانقياد، من أشد هذه الموانع تأثيرًا في النفس البشرية. فإذا قامت الشهوات والأهواء والمصالح المبنية عليها، إذا قامت حائلاً بين الإنسان وبين الانقياد الكلي لأمر الله ودينه، قامت بينه وبين الانقياد ومن حيث المبدأ، قامت حائلاً بين الإنسان وبين الانقياد الكلي فحينئذ لم يتحقق شيء من معنى الإسلام في نفس الإنسان.
وهناك فرق بين أن تتسلط هذه الأهواء والشهوات والمصالح المبنية عليها تتسلط على الإنسان فتضعف فيه أصل الانقياد الموجود وبين أن تقف حائلاً بينه وبين الانقياد من حيث المبدأ.
ففي الحالة الأولى شيء من معنى الإسلام موجود إلا أنه أضعفته تلك الأهواء والشهوات والمصالح المترتبة عليها وفي الحالة الثانية لاحظ للإنسان من معنى الإسلام، لا شيء من معنى الإسلام موجود مع وقوف تلك الموانع حائلاً بينه وبين الانقياد من حيث المبدأ.
هناك ثلاثة أمثلة بارزة من سيرة المصطفى توضح هذا المبدأ. فقد أرسل النبي كتبًا إلى ملوك أهل الأرض في زمنه وكان من أبرز ملوك أهل الأرض في زمنه كسرى ملك الفرس، وهرقل ملك الروم، والنجاشي ملك الحبشة.
فأرسل النبي إلى كل واحد منهم كتابًا يقول فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس - أو إلى هرقل عظيم الروم - السلام على من اتبع الهدى، أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم)) [1] ، أما كسرى فلما قرأ كتاب النبي استشاط غضبًا ومزق الكتاب أي أعلن بوضوح صارح تمرده على أمر الله عز وجل. ورفضه الوقح للانقياد لله سبحانه وتعالى، ولما بلغ النبي أن كسرى مزق الكتاب دعا عليه [2] بأن يمزق الله ملكه فوالله ما هي إلا سنوات قلائل هي قصيرة في عمر الممالك وإذا بملك كسرى يتمزق شذر مذر وتطأ سنابك خيل المسلمين أرض بلاده ويهيم هو على وجهه شريدًا طريدًا حتى قتله أحد خدمه غيلا.
أما هرقل عظيم الروم فلما قرأ كتاب رسول الله وسمع أوصافه رق قلبه ومال إلى الإسلام بل وأعلن ذلك وأقر به لسانه وبأن هذا النبي حق وهو الذي بشرت به التوراة والإنجيل، بل قال أكثر من ذلك، قال: ليملكن ما تحت قدمي هاتين وودت أني أصل إليه وأغسل الأرض تحت قدميه، لكنه مع ذلك لم يتبع النبي أبى الانقياد لأمر الله الذي جاء به محمد. وذلك خوفًا منه على ملكه وسلطانه وشهواته وأهوائه ومصالحه المترتبة عليها خاف على كل ذلك لما رأى قساوسته ورهبانه سخروا وكفروا وأبوا أن يقروا لسيدنا محمد بالنبوة فخاف منهم ومالأهم وتابعهم على كفرهم فهل نفعته معرفته للحق شيئًا. هل نفعه علمه بالحق شيئًا بل وإقراره بلسانه بل وأكثر من ذلك تمنيه أن يصل إلى النبي ويغسل الأرض قدميه هل نفعه كل ذلك شيئًا، لم ينفعه ذلك شيئًا وبقى هرقل كافرًا ملعونًا بسبب عدم الانقياد.
أما النجاشي رحمه الله فلما قرأ كتاب النبي الذي يدعو فيه إلى الإسلام أسلم [3] وحسن إسلامه رحمه الله، ولما سمع آيات من القرآن قرأها عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بكى النجاشي وفاضت عيناه من الدمع، وفيه يُقال نزل [4] قوله تعالى: ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق [المائدة:82-83].
وامتثل النجاشي رحمه الله لأمر سيدنا محمد فأكرم صحابته الذين هاجروا إليه، هاجروا إلى الحبشة وآواهم ووفر لهم الحماية ودافع عنهم بل ووكله سيدنا رسول الله أن يزوجه من أم حبيبة بنت أبي سفيان فزوجه النجاشي إياها بل وروى أن النجاشي رحمه الله أرسل إلى النبي يسأله إن كان يأمره بالقدوم إليه فيرحل إليه، لكن الرسول لم يأمره بذلك.
النجاشي رحمه الله مسلم وحسن إسلامه بل وصلى عليه رسول الله صلاة الغائب لما بلغه نبأ وفاته.
أما هرقل فكافر فما الفرق بينهما وكلاهما عرف الحق وعلمه وأقر به بلسانه. الفرق بينهما هو الانقياد فالنجاشي عرف الحق واتبعه وانقاد له وامتثل لأمره، أما هرقل فعرف الحق ولم يتبعه وأبى الانقياد له والامتثال لأمره أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد [آل عمران:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي باب كيف بدء الوحي إلى رسول الله (1/8-9).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد ، باب دعوة اليهود والنصارى (3/1074).
[3] أخرجه الواحدي وأخرجه الطبري (7/3) وسنده حسن.
[4] أخرجه النسائي في تفسيره (1/443) وغيره.ومسنده صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إن من أبرز الظواهر المفزعة في مجتمعاتنا نحو المسلمين اليوم ظاهرة عقوق الوالدين ظاهرة عقوق الأولاد للآباء والأمهات، حياتنا الاجتماعية كلما ابتعدت عن الحياة الإسلامية وكلما اقتربت من الفرنجة كلما اقتربت من الأمركة كلما اقتربت من أسلوب الحياة المادية ضعفت فيها هذه القيم فالأواصر الإنسانية والعلاقات الأسرية لا قيمة لها في المجتمع الأوربي، وفي المجتمع الأمريكي لا قيمة لكل تلك القيم ولا لتلك الأواصر الإنسانية، ولا إلى العلاقات الأسرية الصلة بين الابن وأبويه، من أقوى أنواع العلاقات الإنسانية ومع ذلك فقد تقطعت هذه الصلة عندهم بشكل مريع، تقطعت عندهم وانهارت بشكل مريع وعندنا اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية طابور خامس من أذناب الغرب رضعوا من البان الغرب النجسة فانحرفت فطرتهم وتشوهت وتلوثت مفاهيمهم هذا الطابور الخامس المنحرف المتفرنج يدعو مجتمعاتنا الإسلامية إلى الفرنجة ويسعى إلى فرنجة مجتمعاتنا الإسلامية، وهذه هي مظاهر هذه الفرنجة عقوق الوالدين، كم نعاني اليوم في حياتنا المعاصر من تمرد الأبناء والبنات من سوء أدبهم مع الوالدين، بل من عقوقهم للوالدين. ومن أقرب الأمثلة على ذلك في حياتنا الاجتماعية المعاصرة يكبر الأبناء والبنات فإذا كبروا وذهب كل واحد منهم إلى سبيله تركوا الأبوين وحيدين مهجورين وربما كان أحدهما باقيًا فيُترك مهجورًا وحيدًا وقد بلغ مرحلة الشيخوخة بلغ مرحلة من العمر هو في أمس الحاجة فيها إلى الخدمة والرعاية وإلى وقوف الذرية بجانبه، ثم يتلفت فلا يجد أحدًا من أولاده حوله فأي عقوق هذا أي عقوق شنيع هذا تفشى في مجتمعاتنا نحن المسلمين اليوم.
هذا مرض أجنبي وافد، مرض غربي أوربي أمريكي وفد إلينا من تلك البلاد القذرة النجسة اضطروا إلى أن يُنشئوا الملاجئ للآباء والأمهات الذين بلغوا مرحلة الشيخوخة وهجرهم أولادهم فلم يجدوا من يرعاهم أو يخدمهم وهم في هذه المرحلة البائسة الصعبة فهل وصلنا اليوم في حياتنا الاجتماعية إلى الحد الذي نضطر فيه إلى إنشاء مثل هذه الملاجئ، هذه هي الحياة الأمريكية الأوربية الإفرنجية الذي يدعونا إليها ذلك الطابور الخامس من أذناب الغرب الذي عشش في مجتمعنا وبث سمومه في مجتمعنا، هذه هي الحياة الأمريكية، هذه هي الحياة الأوربية التي تدعونا إليه تلك الوسائل الإعلامية الهدامة المدمرة التي تبث سمومها فينا كل يوم صباحًا ومساء إنها تغسل أدمغة المشاهدين وتصبغ النفوس بالصبغة الغربية حتى بدأنا نحس بآثارها في حياتنا الاجتماعية هذه المشكلات التي ما كنا نعهدها في مجتمعات المسلمين.
تلك البرامج الإعلامية الهدامة والمدمرة تحرض الأبناء والبنات على التمرد على الآباء والأمهات تحرضهم على سوء الأدب مع الوالدين تحرضهم على العقوق للوالدين، وقد قال : ((أكبر الكبائر الإشراك وعقوق الوالدين)).
ولما سُئل رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) قيل: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) [1].
فانظر كيف رتب سيدنا رسول الله الواجبات والفرائض فجعل بر الوالدين وطاعتهما والإحسان إليهما وبرهما بعد الصلاة وقبل الجهاد في سبيل الله. فيا أيها المسلمون جميعًا أوقفوا هذا السيل الإعلامي الهدام المدمر وانفوا هذا الغزو المدمر الذي يحرض أولادكم وأبناءكم على التمرد على الانفلات من الضوابط والأخلاق، كل مسلم منا مسئول أن يفكر كيف يوقف هذا السيل الهدام. كل مسلم منا مسئول أن يحاول أن يوقف هذا السيل الإعلامي الهدام الذي هجم على بيوتنا وعلى أولادنا وعلى مجتمعاتنا، أوقفوا هذا التدمير هذه الفرنجة أيها المسلمون، هذا التخريب أوقفوه قبل أن تخسروا أولادكم وتخسروا أسركم وتخسروا بناتكم وتخسروا مجتمعكم.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ولو كنت وحدك على ذلك.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [2].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باب البر والصلة (5/2227).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه الأدب باب عقوق الوالدين من الكبائر (5/2229).
(1/398)
أثر الإعلام الهدام في إفساد الأمة
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية جانب الاستسلام لله والانقياد له في الدين – واقع الدين اليوم في حياة الناس ونظرتهم له
وأثر الإعلام في تهميش دور الدين – التناقض بين دعوانا الإسلام ثم مخالفته في سائر
شئون الحياة – الإسلام الحقيقي وأثره في الحياة , وتطبيق ذلك على الصحابة -
دور اليهود وأثرهم في الإعلام – دور الإعلام الهدَّام في إفساد المجتمع والأسرة والمرأة -
واجب الأمة تجاه هذا الإعلام الهدام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد ركزنا الكلام منذ جمعتين على أن الجانب الرئيسي في معنى الإسلام هو الاستسلام التام والانقياد الكامل لله وحده لا شريك له. وذلك لأن هذا الجانب هو روح هذا الدين الذي بدونه يبقى جسدًا بلا روح ولأن أكثر المسلمين اليوم قد ضعفت هذه الروح عندهم فأصبح الدين عندهم مجرد طقوس وعادات يؤدونها بدون همة وانفعال ولا تأثر وتأثير، وربما كانت هذه الروح قد ماتت عند بعضهم فإذا بالدين عند هذا البعض مجرد تراث وتاريخ يتعامل معه كما يتعامل مع مقتنيات المتاحف حتى المسلسلات التليفزيونية والبرامج الإعلامية التي سلسلوا بها الناس فأصبحت من الواجبات اليومية عندهم لا تقدم للناس دينهم إلا على أنه تاريخ وتراث ليس روحًا يصبغ الحياة بأكملها.
أما إذا قدموا الحياة وما يتعلق بها من مشكلات فإنهم يقدمونها من وجهة نظر التغريب والفرنجة، من وجهة نظر أهل التغريب والفرنجة أهل التخريب والتدمير، الدين عند الإعلاميين الهدامين هو مجرد تاريخ يقدمونه للناس أحيانًا كما يقدمون لهم تاريخ الهنود الحمر، كما يقدمون لهم تاريخ انقرض أو أوشك على الانقراض هذا هو الدين عندهم بينما الدين روح يصبغ الحياة بأجمعها يصبغ الحياة بأكملها من أجل هذا الجهل، من جراء هذا الجهل بالمعنى الحقيقي للإسلام استحكم التناقض في حياتنا نحن المسلمين اليوم.
فنحن ندعى والحمد لله أننا مسلمون وأننا مجتمع إسلامي ونرتاد المساجد ونصوم رمضان وربما شددنا رحالنا إلى بيت الله الحرام لكن جل شئون حياتنا يناقض ذلك، فهذا الربا مستحكم في حياتنا الاقتصادية وهذا الإعلام الهدام الفاسد المفسد الذي يشيع الفاحشة ويدعو إلى التغرب والفرنجة متفشٍ في حياتنا الاجتماعية، مستحكم متسلط على حياتنا اليومية، وهذه النظم الاجتماعية بل وتلك القوانين الوضعية فرنسية كانت أو إنجليزية بل وربما رومانية كما هو الحال في بعض بلاد المسلمين يأبون تحكيم ما أنزل الله على رسوله ويحكمون القوانين الفرنسية الإنجليزية وغيرها من شرقية أو غربية ومع ذلك يدعون أنهم مسلمون وأنهم مجتمع مسلم بينما القرآن قال بأبلغ عبارة وأوضح تقرير: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا [النساء:65].
تأمل يا مسلم هذا التعبير القرآني الواضح البليغ: ويسلموا تسليمًا فالإيمان تسليم والإسلام استسلام، تسليم واستسلام لله رب العالمين وحده لا شريك له. أتريدون أن تخدعوا الله يا مسلمون تعاملونه بإسلام اسمي مجرد واجهة وعنوان بينما حقائقكم وحياتكم تناقض الإسلام. حقائقكم وشئون حياتكم تناقض الإسلام، لقد وصف الله تعالى هذا الدين بأوصاف وكان مما سماه سماه روحًا وسماه نورًا فقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى: 52].
الإسلام يا مسلمون نور يضئ القلوب والنفوس ويصبغ الحياة بصبغة الله الإسلام روح يسري في النفوس وفي القلوب فيصبغها بصبغة الله.
إذا سرت هذه الروح في نفس الإنسان وانبثق هذا النور في قلبه تغير كيانه كله تغيرت حياته كلها، حصل له تغيير فوري وانقلاب فوري فأما إذا لم يحدث هذا التغيير وهذا الانقلاب في حياته وفي كيانه فمعناه أن إسلامه وإيمانه بلا روح، جسد بلا روح.
كان العربي من أسلافكم فكم يسمع القرآن من النبي إذا سمع القرآن من فم النبي فأسلم وآمن ينطلق حالاً للعمل وللجهاد [1] وينطلق فورًا للعمل وللجهاد لا وقت هناك للتردد ولا للتباطؤ ولا الانتظار ولا التسويف أليس المرام هو الجنة، أليست الجنة هي المراد وهي المآب فما هو أقصر طريق إلى الجنة.
جاء أعرابي إلى النبي والنبي راكب ناقته فأمسك بزمام ناقته وقال: يا رسول الله دُلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار فأعجب النبي قول ذلك الأعرابي والتفت إلى أصحابه وقال: ((لقد وُفِّق لقد وفِّق ثم قال أن تعبد الله وحده لا شريك له وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتؤدي الخمس من المغنم وتصل الرحم، دع الناقة دع الناقة)) [2].
هكذا كان اهتماماتهم رضوان الله عليهم أجمعين ما هو أقصر الطريق إلى الجنة؟ ما هو الذي يباعدهم عن النار ويقربهم إلى الجنة، إنهم يسألون عن أقصر طريق إلى الجنة فإذا عرفوه سلكوه بغير تردد ولا تسويف.
ذلك الصحابي الجليل رضي الله عنه [3] وهو واقف بين صفى الجهاد سمع سيدنا رسول الله وهو يقول: ((من قاتل في سبيل الله فقُتل مقبلاً غير مدبر دخل الجنة)) فألقى ذلك الصحابي تمرات كانت في يده وقال: إنها لحياة طويلة إن أنا عشت حتى آكل هذه التمرات ثم انطلق بين الصفين يقاتل مع المسلمين حتى قُتل شهيدًا رحمه الله رضي الله عنه وأرضاه.
إنها حياة طويلة أن يعيش حتى يأكل تلك التمرات فماذا نقول نحن المسلمين اليوم في وصف حياتنا ليتها كانت بضع تمرات أو أصغر من ذلك ولكنها دنيا بأجمعها بكلكلها بأحمرها وأصفرها وبهارجها وشهواتها وآفاتها ومصائبها هجمت على قلوبنا وجثمت على نفوسنا حتى نسينا الجنة لقد أصبح إسلامنا اليوم في نفوسنا وفي مجتمعاتنا جسدًا بلا روح لأنه إسلام اسمي مجرد واجهة وعنوان إسلام بلا استسلام وإيمان بلا تسليم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين [النمل:91-92].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في صحيحه باب إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه (3/1401-1402).
[2] أخرجه الباري في صحيحه الأدب باب فضل صلة الرحم (5/2231).
[3] أخرجه البخاري فيصحيحه في المغازي باب غزوة أحد (4/1487)، رواه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد (3/1509-1510).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: الإعلام الهدام بضاعة يهودية صهيونية، يصدرها اليهود إلى سائر أنحاء العالم وإلينا نحن المسلمين على وجه الخصوص ومما يزيد في خطورة هذه البضاعة الخبيثة مما يزيد في خطورتها أن لها وكلاء بيننا من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا وكلاء لهذه البضاعة اليهودية الخبيثة إنهم الطابور الخامس المندس في صفوفنا يبث سمومه في صفوفنا وفي قلوبنا وفي بيوتنا وفي أولادنا وفي مجتمعاتنا يدعونا إلى التغريب والحداثة والتحديث وهم في الحقيقة يدعونا إلى التخريب والتدمير مع أنهم ثلة قليلة ضئيلة، أقلية خبيثة تمارس التخريب والتدمير في مجتمعنا ونحن الأكثرية، نحن سائر الأمة واقفون نتفرج عليهم مكتوفي الأيدي لا نتحرك أبدًا ولو في سبيل الدفاع عن أنفسنا وبيوتنا وآدابنا وديننا ومعتقداتنا.
الإعلام الهدام غزانا على أكتاف هؤلاء. هذا الطابور الخامس والله لو كان عمر بن الخطاب بيننا لما رضي أبدًا ولا هدأ أبدًا حتى يقطع رؤوس هؤلاء ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم أو ينفيهم في الأرض إنهم هم المفسدون في الأرض، المفسدون الحقيقيون.
الإعلام الهدام كيف يحارب إسلامكم في أنفسكم وفي مجتمعكم وفي أبنائكم وبناتكم يا مسلمون يا نائمون على فراشكم الوثير، فراش الغفلة.
خذوا مثلاً لذلك المرأة كيف يقدمها هذا الإعلام الهدام يقدمها في برامجه الخبيثة المدمرة سافرة متبرجة متزينة متكشفة مائلة مميلة مختلطة بالرجال أو مختلية بالرجل وربما تصارحه الحب والغرام وتتفنن أمامه بأسباب الفجور أما المسلسلات التليفزيونية التي نتلقى جرعاتها كل يوم فالمرأة فيها دائمًا متمردة متمردة على البيت متمردة على الآداب الإسلامية متمردة على الزوج متمردة على الأب سافرة متبرجة.
يا مسلم يا نائم أبناؤك وبناتك يرون هذه الصور كل يوم بشكل خلاب مؤثر فعّال فتغسل أدمغتهم وتلوث نفوسهم وتخرب عقولهم.
أبناؤكم وبناتكم يتلقون هذه الجرعات الإعلامية الهدامة كل يوم دعك من أساليب التدمير الخلقي الأخرى الإعلامية التي تفلتت من سائر الضوابط وهي أشد فتكًا وخطرًا وتدميرًا وتخريبًا وهي أشرطة الفيديو التي تفشت وانتشرت بيننا وفُتحت مراكزها ومحلاتها في أسواقنا تحت سمعنا وبصرنا جميعًا.
تلك مدرسة يهودية أخرى أشد خبثًا وفتكًا يتعلم الناس منها كبارًا وصغارًا ذكورًا وأناسا يتعلمون منها شرب المسكرات وتعاطي المخدرات ومقارفة الفواحش والشذوذ ويتعلمون منها فنون الجريمة التي ما كنا نعرفها ولا نعهدها قبل اليوم، مدرسة يهودية إعلامية مدمرة.
هذه وتلك مدارس يهودية صهيونية مدمرة قل لي بربك يا مسلم كيف سنربي أبناءنا وبناتنا على الآداب الإسلامية في هذا الجو الموبوء إعلاميًا في هذا الجو الملوث إعلاميًا. ماذا يبقى في نفوس نسائنا وبناتنا من معانٍ لقوله تعالى: وقرن في بيوتكن أي لا تتمردن على بيوتكن: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [الأحزاب:33].
ماذا يبقى في نفوس أبنائنا وبناتنا ورجالنا ونسائنا من معانٍ لقوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن [النور:30-31].
قل لي بربك يا مسلم يا نائماً على فراش الغفلة الوثير ماذا يبقى في نفوس ناشئتنا وأهلينا ونسائنا وشبابنا من معانٍ لسيدنا وقائدنا ومعلمنا رسول الله : ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) [1].
أو قوله : ((أيما امرأة استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية)) [2] ولو كانت متحجبة فقط استعطرت فضلاً عن أن تتزين وتتبرج وتسفر عن سائر زينتها وفتنتها أمام الرجال: ((فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية)) صدق الصادق المصدوق.
قل لي بربك يا مسلم ماذا يفعل أبناؤنا وبناتنا وهم حائرون بين هذه الآداب الإسلامية التي يتلقونها مني ومنك ومن المدرسة ومن حلقات العلم إن كانوا يرتادون تلك الحلقات وبين تلك الجرعات الإعلامية الهدامة المدمرة الفعالة المؤثرة التي يتلقونها كل يوم إنهم يعيشون في وسط هذا التناقض المريع ممزقين حائرين فأوقفوا هذا الوباء الإعلامي هذه الكوليرا الإعلامية الخطيرة، أوقفوها على كل مسلم ومسلمة أن يسعى في سبيل مكافحة هذه الكوليرا الإعلامية اليهودية الصهيونية المدمرة التي هجمت علينا وتفشت بيننا وانتشرت بين أبنائنا وبناتنا.
أوقف الهدم والتخريب أولاً حتى تتمكن من بنائك حتى تستطيع أن تبني بيتًا سليمًا ونشأً مستقيمًا ومجتمعًا إسلاميًا نقيًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ولو كنت وحدك على ذلك.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإن ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [3].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه أحمد في مسنده (1/26) وابن ماجة (2363) وغيرها.
[2] أخرجه الترمذي (2786) وابو داود (4173) والنسائي (8/153) وأحمد (4/414) وغيرهم.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد (1/306) رقم (408).
(1/399)
الغيرة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الغيرة. 2- الغيرة نعمة من نعم الله. 3- أنواع الغيرة. 4- موقف المسلم من الغيرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف:33]. استدل العلماء بهذه الآية الكريمة على أنها أصل في إثبات الغيرة لله تعالى، ومن غيرته جل وعلا أن حرّم الفواحش (أي المعاصي) وهي ما يجب فيها الحد، والإثم اسم لما لا يجب فيه الحد، والبغي: هو الظلم التجاوز للحد وأن يجعل لله ندا وهو خالقه.
فما الغيرة؟ وما أنواعها؟ وما موقف المسلم منها؟
الغيرة: هي الحمية والأنفة، والغيرة لا تكون إلا إذا كانت المحبة فكلما قويت محبتك لشيء قويت غيرتك عليه.
والغيرة من صفات الله سبحانه للحديث: ((ليس شيء أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)) ( [1] ).
والغيرة من سمات المؤمنين للحديث: ((المؤمن يغار والله أشد غيرة)) ( [2] ).
وذهاب الغيرة ذهاب بالإيمان كله يقول ابن القيم رحمه الله: (إذا ترحلت الغيرة من القلب، ترحلت منه المحبة، بل ترحل منه الدين، والغيرة أصل الجهاد والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فإن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف) ( [3] ).
وذهاب الغيرة علامة من علامات الساعة للأثر: (إذا كان آخر الزمان رفع الله أربعة أشياء من الأرض: رفع البركة من الأرض، والعدل من الحكام والحياء من النساء، والغيرة من رؤوس الرجال).
وأما لماذا الغيرة؟
لأن العبد إذا رزق الغيرة كان حريصا أن يكون عزيزا معتزا بدينه وألا يكون أعداء الله خيرا منه قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [البقرة:165]. وقع عبد الله بن حذافة السهمي مع مجموعة من الجند أسيرا لدى ملك الروم، فدعاه إلى النصرانية فأبى، فشده إلى شجرة ورمي بالسهم ما بين يده ورجليه فلم يرتهب، ثم حبسه أياما حتى بلغ به الجوع مبلغه فعرض عليه الخمر ولحم الخنزير، فقال: إن ديني ليبيح لي أكلها به للضرورة ولكني لن أشمت في كافرا. ثم جاء بقدر عظيم ووضع فيه زيتا وأشعل تحته النار حتى غلا، ثم رمى أحد المسلمين فذاب فيه، ثم حمل عبد الله بحبل ونكس في القدر فلما كاد أن يصل بكى عبد الله، فاستبشر ملك الروم وقال: أخرجوه ثم عرض عليه النصرانية فأبى فسأله: علام البكاء؟ قال: لأن لي روحا واحدة، وإني لأتمنى أن يكون لي مائة روح تخرج الوحدة تلو الأخرى لله عز وجل، فطلب ملك الروم منه أن يقبّل رأسه ويطلق سراحه، قال عبد الله: لا حتى تطلق سراح من معي، قال :أفعل فقبل رأسه وأطلق سراحه وسراح من معه، يعود عبد الله إلى عمر وهو حزين، فسأله عمر عن سبب حزنه؟ قال: قبلت رأس كافر! فقام عمر وقال: حق على كل مسلم يراك أن يقبل رأسك وأنا أبدؤهم ( [4] ).
وإذا رزق العبد الغيرة كان الشيطان بعيدا عن أن يجره إلى المعصية، فالغيرة خير عاصم قال تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه سميع عليم [الأعراف:200]. والنزغ: اسم للحركة التي يحدثها راكب الدابة إذا أراد تحريكها، فكأن الشيطان قد جعل من العاصي دابة وامتطاه لتنفيذ ما يريد. رحم الله عمر بن الخطاب حيث يصفه المصطفى : ((لو سلك ابن الخطاب فجا (أي طريقا) لسلك الشيطان فجا غيره)) ( [5] ).
وأما أنواعها:
فأعظمها غيرة الله عز وجل ومن غيرته تعالى:
أ- غيرته على كتابه الذي أنزله ليكون المنهج الذي يحكم خلقه، فمنهج الله مبرأ عن الجهل والظلم والمحاباة، وهي سمات بارزة في مناهج البشر فإذا أعرض العبيد عن منهجه غار الله تعالى لكتابه فكتب الشقاء والاضطراب لكل مخالف له: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [طه:124]، بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج أي مضطرب ومن غيرته أن يرفع كتابه من الأرض وهي أعظم علامة من علامات الساعة كما نص العلماء للحديث: ((يدرس الإسلام حتى لا يدرون ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا تبقى في الأرض منه آية)) ( [6] ).
ب- غيرته على محارمه وكل ما حرمه الله وقع في حماه فلا يجوز لأحد أن يقع فيه للحديث: ((ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه)) ( [7] ). لذا كانت البلايا والمصائب تبعا لكل انحراف للحديث: ((يا معشر الأنصار خمس خصال إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر في السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله ورسوله إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، ولم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم)) ( [8] ).
ج- غيرته على أوليائه: إذا أوذوا للحديث: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)) ( [9] ) ، ولكن شاءت حكمته سبحانه أن يمد لأعدائه حتى يأتوا مثقلين بذنوبهم للحديث: ((إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته)) ( [10] ) وحتى تزداد مرتبة العبد المجاهد رفعة في الآخرة وقد ذكر: أن عالما قال كلمات حق أغضبت أحد الخلفاء فقال أحد الجلساء: اقتله فقال الخليفة: لا إن هؤلاء يعلمون إذا قتلناهم كانوا شهداء وكنا بقتلهم من أهل النار.
غيرة المؤمن: المؤمن حقاً ينظر للأمور بنظر الله كما قال تعالى: إنهم يرونه بعيدا، ونراه قريبا [المعارج:6-7]. قال ابن كثير ونراه: (أي الله والمؤمنين) يرون اليوم الآخر قريبا واقعا لا يتخلف فيغضبه ما يغضب الله ويفرحه ما يرضاه الله.
أ- غيرته على محارم الله تقول عائشة رضي الله عنها: ((وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله بها)) ( [11] ).
ب- غيرته على أهله فالديوث وهو الذي لا غيرة له على عرضه وأهله محروم من الجنة للحديث: ((لا يدخل والجنة ديوث)) ( [12] ) والرجل هو المسؤول الأول عن أهل بيته للحديث: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته)) ( [13] ) فيأمرهم بطاعة الله، قال تعالى في إسماعيل عليه السلام: وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا [مريم:55]. فيحذرهم من كل فعل خاطئ بالكلمة الهادفة الطيبة ذكرت إحدى أزواج النبي امرأة بنقص فيها فقال عليه الصلاة والسلام: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)) ( [14] ) وأن يصحح المفاهيم: تصدق رسول الله بشاة وأبقى الكتف فقالت عائشة رضي الله عنها: ((ذهبت كلها إلا كتفها فقال عليه الصلاة والسلام: ((بل بقيت كلها إلا كتفها)) ( [15] ) ، ويتعاونان على الطاعة للحديث: ((إذا قام الرجل من الليل وأيقظ أهله فصليا ركعتين كتبا عند الله من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات)) ( [16] ) ويعلمها أمر دينها: زوج سعيد بن المسيب ابنته لتلميذ عنده ماتت زوجته فلما كان الصباح همّ الزوج للذهاب فقالت ابنة سعيد: إلى أين؟ قال: أطلب العلم من والدك. فقالت: اجلس فإن علم سعيد بن المسيب عندي. لقد أصبحت الكثير من بناتنا لا يعرفن حتى فيما يتعلق بشؤون النساء أنفسهم بل إنها لا تتقن إلا التزين لغير زوجها وإثارة الزوج على أهله واستحداث المصائب حتى أصبحت الكثير من البيوت جحيما لا يطاق.
ج- وأن يكون دينه أعظم عنده من أهله وزوجه قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم [التغابن:14]. نزلت في عبد الرحمن بن مالك الأشجعي وكان كلما أراد الجهاد قام إليه أهله وبنوه فرققوا حالهم عنده وقالوا: إلى من تتركنا، بعدك؟ فيرق لحالهم فيجلس فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأما موقف المسلم من الغيرة:
لابد أن نعلم أن العلماء جعلوا الضروريات الخمس المطلوب حفظها هي الدين والعقل والمال والعرض والنفس وقالوا: كلها فداء للدين: فلتوظف طاقات العقل وليذهب المال ولتزهق النفس لأجل الدين.
وإن الغيرة لا تعني أن يكون الرجل جبارا ظالما في أهل بيته للحديث: ((إن المؤمن ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) ( [17] ). ((وإن الرجل ليكتب جبارا وليس عنده إلا أهل بيته)) ( [18] ). بل يكون حكيما في تصرفه فلكل مقام مقال وآخر الدواء الكي والتدرج بالعقوبة واجب قال تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا [النساء:34].
وألا ننظر إليها من زاوية مظلمة، فكل إنسان له عيوب وللحديث: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره بها خلقا رضي منها آخر)) ( [19] ). ومعنى لا يفرك أي لا يبغض، قال تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [البقرة:216].
وأن تعلم أن التي تصحبك في حياتك الزوجية إنسانة لها كرامتها ومشاعرها، ولها قلب ينبض بالحب والإحساس وللحديث: ((لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم)) ( [20] ) فذاك دليل سماجة وخلق سيئ.
( [1] ) أحمد والشيخان.
( [2] ) متفق عليه.
( [3] ) الفوائد.
( [4] ) حياة الصحابة مجلد 1 ص 284.
( [5] ) البخاري.
( [6] ) ابن ماجة من حديث حذيفة.
( [7] ) متفق عليه.
( [8] ) ابن ماجة في سننه.
( [9] ) البخاري.
( [10] ) متفق عليه.
( [11] ) البخاري ومسلم.
( [12] ) أحمد والنسائي.
( [13] ) متفق عليه.
( [14] ) أبو داود والترمذي.
( [15] ) رواه الترمذي وقل حديث حسن صحيح.
( [16] ) أبو داود بإسناد صحيح.
( [17] ) أبو داود وابن حبان.
( [18] ) ابن حبان في كتاب الثواب.
( [19] ) مسلم.
( [20] ) البخاري ومسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/400)
محاسبة النفس
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاسبة النفس سمة المؤمن. 2- لماذا يحاسب المؤمن نفسه. 3- على ماذا يحاسب المؤمن
نفسه.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون [الحشر:18]. لن يبلغ العبد درجة التقوى حتى يحاسب نفسه، والله تعالى يأمرنا أن نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا يوم القيامة حيث لا تخفى على الله خافية في الأرض ولا في السماء سبحانه.
فما محاسبة النفس؟ ولماذا يحاسب العبد نفسه؟ وعلى ماذا يحاسب العبد نفسه؟
1- أما محاسبة النفس: فهو أن ينظر العبد في أعماله وأحواله وأقواله ليومه أو شهره أو سنته أو عمره فما وجد من حسنه حمد الله عليها وما وجد من سيئة أحدث لها ندماً للحديث: ((الندم توبة)) ( [1] ). وتوبةً للحديث: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) ( [2] ). وعزيمةً على الترك فلا إصرار قال تعالى: ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ، وللحديث: ((المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربه)) ( [3] ).
2- ومحاسبة النفس سمة المؤمن للحديث: ((الكيس (أي الفطن) من دان نفسه (أي اتهمها وحاسبها) وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)) ( [4] ).
3- والذنب وارد ولكن لابد من التوبة للحديث: ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) ( [5] ).
4- وأبواب السماء مشرعة أمام التائبين في كل وقت للحديث: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) ( [6] ).
وأما لماذا يحاسب العبد نفسه؟:
1- حتى يخفف عنا حساب الآخرة: يقول الحسن: (المؤمن قوام على نفسه يحاسبها وإنما خف الحساب على أقوام لأنهم كانوا يحاسبون أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب على أقوام لأنهم لم يأخذوا هذا الأمر بالجد ولم يكونوا يحاسبون أنفسهم) يقول عليه الصلاة والسلام: ((من نُوقش الحساب عُذّب)) فقالت عائشة رضي الله عنها: أو ليس يقول الله تعالى: فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ؟ فقال: ((ليس ذلك بالحساب إنما ذلك العرض، من نُوقش الحساب عُذّب)) ( [7] ). تتضح صورة الحساب اليسير الذي لا تدقيق فيه لدقائق الأعمال بمنه وكرمه سبحانه من الحديث: ((يدني الله تعالى المؤمن يوم القيامة فيضع عليه كنفه (أي ستره عن أعين الخلق) فيقرره بذنوبه: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا؟ فيقول: أعرف، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك فيعطى صحيفة حسناته وأما الكافر والمنافق فينادى عليه على رؤوس الخلائق : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين)) ( [8] ).
2- والعبد يحاسب نفسه لأن الشهود كثير فإذا كان قضاة الدنيا يمكن الاحتيال عليهم بالرشوة والوساطة والنفوذ وإحضار شهود زور فإن شهود الآخرة لا يجري عليهم ذلك وأعظم شهادة هو الله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم [المجادلة:7]. ثم الرسل: وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم [المائدة:117].
الملائكة: إذا يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:17].
الجوارح: اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [يس:65].
الجلود: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [فصلت:21].
الأرض: يومئذ تحدث أخبارها. قيل: يا رسول الله ما أخبارها؟ قال: ((أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا)) ( [9] ).
3- والعبد يحاسب نفسه لأن ألد عدو له نفسه فهي الأمارة بالسوء كما وصفها خالقها: إن النفس لأمارة بالسوء [يوسف:53]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)) ( [10] ). فما تشتهيه نفسك هو السبيل إلى النار وما تكرهه هو السبيل إلى الجنة، فكان لابد من الرقي بها بالمعاتبة والتوبيخ واللوم فإن لم يجد فعاقبها بالإيذاء، والإيلام والحرمان حتى تستقيم على أمر الله بالدرة ويقول: ماذا قدمت اليوم؟ والأحنف بن قيس كان يضع إصبعه على النار ويقول: حس حس ألم تفعل ذنب كذا في يوم كذا؟، وعمر أشغله بستانه عن صلاة العصر فتصدق به لله تعالى، والبخاري فاتته صلاة الجماعة فصلاها سبع وعشرين مرة للحديث: ((صلاة الجماعة خير من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة)).
وآخر نازعته نفسه إلى الفاحشة فوضع يده على النار وهو يقول: (إن صبرت على نار الدنيا فأنت على سواها أصبر) فأحرق شهوته بانشغاله بإحراق يده.
وأما على ماذا يحاسب العبد نفسه؟:
1- الوقت: وقد أقسم الله بالوقت لأنه فيه تقع حركات بني آدم قال تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر [العصر:1-2]. يقول الفضيل بن عياض: (يا ابن آدم إنما أنت عدد فإذا ذهب يومك ذهب بعضك). جلس توبة بن الصمة بحاسب نفسه وكان قد بلغ الستين من عمره فحسب أيامها فكانت واحدا وعشرين ألفا وخمسمائة، فقال: (لو أذنب في كل يوم ذنبا كيف ألقى الله بصحاف مملوءة بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة؟ فأغمي عليه فلما أفاق قال :وهو يعقل أن أذنب ذنبا واحدا كيف لو أذنبت عشرا أو مائة أو ألفا، كيف ألقى الله بكل هذه الذنوب فأغشي عليه فلما جاءه أهله وجدوه ميتا) ( [11] ).
2- الأموال: في كسبها وإنفاقها: للحديث: ((من لم يبال من أين يكتسب ماله لا يبال الله من أي باب يدخله ناره)) ( [12] ) فاحذر الحرام فإنه يفسد كل عمل صالح للحديث: ((واعلم أن اللقمة الحرام إذا وقعت في جوف أحدكم لا يتقبل عمله أربعين ليلة)) ( [13] ) ، وأن تنفقها فيما يحبه الله ويرضاه فالمال مال الله ونحن مستخلفين فيه قال تعالى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه [الحديد:7]. فحبسه عن مجالات الخير جريمة للحديث: ((من آتاه الله مالاً ولم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة على صورة شجاع أقرع له زبيبتان يلمزه من شدقية يقول له: أنا كنزك أنا مالك)) ( [14] ).
3- إبراء الذمة من الحقوق: فحقوق العبيد معظمة عند الله للحديث: ((وأول ما يسأل عنه العباد يوم القيامة الدماء)) ( [15] ) ، وهذا الشهيد الذي يقتل في سبيل الله في الحديث: ((يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين)) ( [16] ). ((وكان يؤتى بالرجل كي يصلي عليه فيسأل: هل عليه دين؟ فإن قالوا: نعم قال: صلوا على أخيكم)) ( [17] ). ولابد من براءة الحقوق، فرسول الله وهو في آخر أيام عمره المبارك يقف على المنبر ويقول: ((من جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليجلده لا تقولوا: فضوح، فإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة)) كلمات تذيب الحجر، وفي الحديث: ((من كانت عنده لأخيه مظلمة فليتحلله منها اليوم قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه درهم ولا دينار)) ( [18] ).
4- الكلمة: لحديث معاذ: ((أو نؤاخذ على ما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم؟)) ( [19] ).
فلا غيبة: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)) ( [20] ).
( [1] ) ابن ماجة والحاكم.
( [2] ) ابن ماجة.
( [3] ) البيهقي.
( [4] ) الترمذي.
( [5] ) الترمذي.
( [6] ) مسلم.
( [7] ) متفق عليه.
( [8] ) متفق عليه.
( [9] ) الزلزلة / مختصر ابن كثير / والحديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي.
( [10] ) مسلم.
( [11] ) إحياء علوم الدين مجلد4 ص 406.
( [12] ) الديلمي.
( [13] ) رواه الطبراني.
( [14] ) متفق عليه.
( [15] ) الدار قطني.
( [16] ) مسلم.
( [17] ) الدار قطني.
( [18] ) البخاري.
( [19] ) الترمذي والحاكم.
( [20] ) أخرجه أبو داود والترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/401)
التنافس
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى المنافسة والمسابقة. 2- النصوص تأر بالمنافسة على الخيرات. 3- التنافس قبل
ظهور العوائق. 4- الآخرة درجات. 5- أنواع التنافس وصوره.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون [المطففين:22]. بيان وتشويق، بيان لحال أهل الجنة، وقد بدى النعيم فيهم وفيما حولهم وفي الوجوه، شرابهم ليس ككل شراب مختوم بالمسك بدل الطيب وقيل في نهايته يجد الشارب رائحة المسك عند الانتهاء منه وتشويق إلى المبادرة والإسراع لنيل ذلك المقام.
فما التنافس؟ ولماذا؟ وما أنواعه؟ وما السبيل إليه؟
أما التنافس: فهو التسابق والتغالب وأصله من المنافسة وهي مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم كما قال الراغب.
والله تعالى يدعونا إلى الإسراع إلى كل خير، قال تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [آل عمران:133]. وقال: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض [الحديد:21]. وقدم المغفرة على الجنة لأن المغفرة سلامة والجنة غنيمة، والسلامة قبل الغنيمة تطلب.
والصادق في خوفه وإقباله، علامة صدقة الإسراع للحديث: ((من خاف أدلج (أي بكر بالطاعة) ومن أدلج بلغ المنزل (الغاية) ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة)) ( [1] ). وقد سأل رجل أحد الصالحين عن الحديث: ((من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)) فقال الرجل الصالح: (نعم ولكن للمفتاح أسنان وأسنان مفتاح الجنة هي أوامر الله تعالى فإذا جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك).
والخاسر من كان يومه كأمسه ليس فيه زيادة عمل صالح للأثر: (من استوى يوماه فهو مغبون) ( [2] ). فكيف بمن كان في هبوط دائم؟
وأما لماذا التنافس؟: فلابد من التنافس: في مبادرة الأعمال الصالحة:
قبل ظهور العوائق للحديث: ((بادروا بالأعمال سبعا هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر)) ( [3] ) ، وفي العبادة كالحج للحديث: ((تعجلوا الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) ( [4] ) ، وفي الصدقة للحديث: ((إن رسول الله صلى العصر فلما سلم قام سريعا فدخل على بعض نسائه ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته فقال: ذكرت وأنا في الصلاة تبراً (ذهبا) عندنا فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا فأمرت بقسمته)) ( [5] ).
لأن مقامات الناس في الجنة على قدر أعمالهم للحديث: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف فوقهم كما تتراءون الكوكب الغائر في الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال بلى: والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) ( [6] ). وللحديث: ((إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما يرون النجم الطالع)) ( [7] ) ، حتى يختلفون في إشراقة وجوههم للحديث: ((أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءه)) ( [8] ). وأصحاب العافية من أهل الجنة في درجات دنيا ويتمنون بلوغ ما بلغه إخوانهم من أهل البلاء لعلو درجاتهم للحديث: ((إن أهل النعيم (من أهل الجنة) في الآخرة يتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا فتقرض جلودهم بالمقاريض لما يرون من درجة أهل البلاء)) ( [9] ).
وأما أنواع التنافس:
التنافس في مرضاته:
في طلب الشهادة في سبيله: جاء جماعة من الأصحاب إلى رسول الله وطلبوا منه ما يحملهم عليه للغزو فقال لهم: ((والله لا أجد ما أحملكم عليه))، فتولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا فأنزل الله عذرهم في كتابه فقال: ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون [التوبة:90]. أو في إظهار الرضا بقضائه سبحانه: أغارت الروم على جواميس لبشير الطبري وعنده أربعمائة جاموس فركب هو وابن له فلقيا العبيد الذين يعملون عنده مقبلين يقولون: يا مولانا ذهبت الجواميس، استلبها الروم. فقال بشير الطبري: وأنتم أيضا اذهبوا معها فأنتم أحرار لوجه الله تعالى فقال ابنه: أفقرتنا فقال بشير: اسكت إن ربي اختبرني فأردت أن أزيده ( [10] ).
التنافس في الطاعات:
والعبد إذا مات أيقن أن كل مظهر أو زينة كان يحياها تافهة وليس له من مؤنس إلا عمله الصالح للحديث: ((إذا مات العبد تبعه ثلاثة: أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله)) ( [11] ). وسئل أحد الصالحين عن سبب صلاحه قال: (رأيت لكل إنسان محبوب ولكن هذا المحبوب لا يدخل معه في قبره وإنما يدعه ويذهب فجعلت محبوبي الحسنات فهي معي لا تفارقني).
ومن الطاعات:
التنفل بكثرة السجود للحديث: ((سأل رجل رسول الله مرافقته في الجنة فقال له: أعني على نفسك بكثرة السجود)) ( [12] ) وقول رسول الله لبلال: ((يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام إني سمعت دف (أي صوت) نعليك بين يدي في الجنة (أي أمامي) فقال بلال: ما أذنت قط إلا وصليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها ورأيت أن لله علي ركعتين فقال رسول الله : فبذلك)) ( [13] ) ، قال ابن القيم: تقدم بلال بين يدي رسول الله في الجنة فلأن بلال كان يدعو بالأذان فيتقدم أذانه بين يدي رسول الله فتقدم دخوله كالحاجب والخادم.
ومن الطاعات قضاء حوائج المسلمين وتفقد أحوالهم، كان عمر يتفقد عجوزا كبيرة عمياء في حواشي المدينة (أطرافها) من الليل فيستقي لها ويقوم بأمرها ويخرج عنها الأذى وكان إذا جاءها وجد غيره سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة فلا يسبق إليها فرصده عمر فإذا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنهما الذي يأتيها وهو خليفة ( [14] ).
ومن الطاعات ذكر الله تعالى: ((قال الفقراء لرسول الله ذهب أهل الدثور (الأموال) بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم فقال ، أوليس قد جعل لكم ما تتصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة وتحميدة صدقة وتهليلة صدقة وتكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويضع أحدكم اللقمة في أهله فهي له صدقة)) ( [15] ) وفي رواية أبي ذر: ((أفلا أدلك على عمل إذا أنت عملته أدركت من قبلك وفقت من بعدك إلا من قال مثل قولك؟ تسبح الله بعد كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمده ثلاثا وثلاثين وتكبر أربعا وثلاثين)).
وما السبيل إلى التنافس؟:
أن نعظم أمر الآخرة: وتلك سمة الأنبياء، قال تعالى: إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار [ص:46]. وثمرة ذلك انشغالك بربك وما يرضيه يقول أحد السلف: (من كان اليوم مشغولا بنفسه فهو غدا مشغول بنفسه، ومن كان اليوم مشغولا بربه فهو غدا مشغول بربه).
العناية بآخرتنا فكل طاعة إنما هي إعمار لها، فلا تنشغل بتنافس أهل الدنيا يقول أحد السلف: (إذا رأيت من ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة)، ودع عنك موازين الناس لبعضهم وقل :
فليت الذي بيني وبينك عام ر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود يا غاية المنى
فكل الذي فوق التراب تراب
( [1] ) الترمذي.
( [2] ) إحياء علوم الدين وقال رواه البيهقي عن عمر بن عبد العزيز.
( [3] ) الترمذي وقال حديث حسن.
( [4] ) أحمد والبيهقي.
( [5] ) البخاري.
( [6] ) البخاري ومسلم.
( [7] ) أحمد.
( [8] ) البخاري ومسلم.
( [9] ) الترمذي.
( [10] ) صفة الصفوة لابن الجوزي.
( [11] ) البخاري ومسلم.
( [12] ) مسلم.
( [13] ) البخاري ومسلم.
( [14] ) حياة الصحابة.
( [15] ) البخاري ومسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/402)
العبادة
التوحيد
الألوهية
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لماذا خلقنا الله. 2- معنى العبادة. 3- الأنبياء يدعون العباد لعبادة الله. 4- معرفة الرب
تحتم حجته وعبادته. 5- لماذا نعبد الله. 6- أنواع العبادة ونماذج منها. 7- أثر العبادة على المؤمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات:56-58]. خير ما يفسر هذه الآية هو الحديث القدسي: ((يا عبادي إني ما خلقتكم لأستأنس بكم من وحشة ولا لأستكثر بكم من قلة ولا لأستعين بكم من وحدة على أمر عجزت عنه ولا لجلب منفعة ولا لدفع مضرة وإنما خلقتكم لتعبدوني طويلا وتذكروني كثيرا وتسبحوني بكرة وأصيلا)).
فما العبادة ولماذا؟ وما أنواعها وما أثرها؟
أما العبادة لغة: الخضوع والذل يقال: طريق معبد، إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام، والعبادة تضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له سبحانه يقول ابن القيم رحمه الله: أصل العبادة محبة الله بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه.
وما بعث الأنبياء إلا بالدعوة إلى عبادة الله سبحانه: وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله [الأعراف:73]، وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله [الأعراف:65]. والله يقول لحبيبه المصطفى : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [الحجر:99].
والقلب لا يتسع إلا لإله واحد يعبد قال تعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه [الأحزاب:4]. فإن لم يكن هو الله، فهو غير الله من هوى أو مال أو زوجة ومعصية الله في طاعتهم قال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه [الجاثية:23]. وللحديث: ((تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار)) ( [1] ).
وكلما ازداد العبد معرفة بربه ازداد حبا له وتعبدا، يقول ابن القيم: من عرف ربه أحبه فهو المنعم: وما بكم من نعمة فمن الله ، والنفس الإنسانية مجبولة على محبة من يحسن إليها فكيف بإحسان الله ومنّه وكرمه؟ فكيف لا يحب العبد ربه ولا يتعبده وهو القائم سبحانه على شؤون خلقه، المسلم منهم والكافر بالرزق والحفظ والحياة للحديث القدسي: ((أنا والجن والإنس في نبإ عظيم، أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي أتحبب إليهم بالنعم ويبتعدون عني بالمعاصي، خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد)) ( [2] ).
وأما لماذا العبادة؟:
1- فالعبادة غذاء للروح: فالإنسان جسد وروح والجسد غذاؤه الطعام والشراب فإذا حرم الجسد الطعام أياما أصابه القلق والجوع والألم ويبلغ حد الجنون، وكذلك الروح لها غذاؤها من تعبد لله سبحانه وذكر له فإذا حرمت الروح غذاؤها أصابها ما يصيب الجسد عند الجوع فيتخبط ويصيبه الجزع والهلع والانحراف، ولذا يلجأ البعيدون عن الله تعالى إلى كل مسكر أو مخدر أو محرم حتى ينسوا أنفسهم، ذلك الجوع والفراغ الروحي الذي يعيشوه وصدق الله العظيم: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [الأنعام:125]. يقول أحد السلف: (مساكين أهل الغفلة خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها فقيل له: وما هو؟ قال: محبة الله والأنس به).
2- أداء للأمانة قال تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان [الأحزاب:72]. وإذا أدى العبد الأمانة بتنفيذ ما أمره الله به، أدى الله له الأمانة بالحفظ والتوفيق والخير قال الرازي: رأيت أعرابيا أتى باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء، فلما خرج لم يجد ناقته، فقال: اللهم إني قد أديت أمانتك فأين أمانتي؟ يقول الرازي: فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وسلم الناقة إليه. قال الرازي: إنه لما حفظ أمانة الله حفظ الله أمانته ( [3] ). فإذا أصلحت فيما بينك وبين ربك وأنت تحت سلطانه أصلح الله فيما بينك وبين من تحت سلطانك من زوجة وولد ودابة ( [4] ) ، يقول أحد السلف: (إني لأرى شؤم معصيتي في خُلق زوجتي وولدي ودابتي).
وأما أنواع العبادة: يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
الانقياد إلى شرع الله: ((إن عدي بن حاتم دخل إلى النبي وفي عنقه صليب من فضة فسمع النبي يقرأ: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقال عدي: ما اتخذوهم أربابا فقال: بلى، ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فأطعتموهم؟ فقال عدي: بلى فقال رسول الله : فذلك عبادتكم إياهم)) ، ولذا قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا قال السدي: (أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله فهو الحلال، وما شرعه أتبع، وما حكم به نفذ) ( [5] ).
عمل الإنسان عبادة إذا كان في دائرة الشرع: للحديث: ((مر على النبي رجل فرأى الأصحاب من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله)) ( [6] ) ، وللحديث: ((من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له)) ( [7] ) ، ((التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء)) ( [8] ).
وكل عمل اجتماعي نافع عبادة:
أ- كإصلاح ذات البين للحديث: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين )) ( [9] ).
ب- عيادة المريض للحديث: ((من عاد مريضا ناداه مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا)) ( [10] ).
ج- إماطة الأذى عبادة للحديث: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق فقال: لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم. فأدخل الجنة)) ( [11] ).
د- جماع الرجل أهله عبادة للحديث: ((وفي بضع أحدكم صدقة: قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجرا؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا:نعم. قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) ( [12] ) ، قال العلماء: إذا نوى أداء حق الزوجة وإحصان الفرج.
وأما أثر العبادة:
إنها تجعل حياة المسلم كلها ربانية فلا تراه إلا مشدودا إلى الله تعالى يبغي رضاه في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل قال تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:7-8]. قال صعصعة بن معاوية عم الفرزدق: (حسبي ألا أسمع غيرها). للحديث: ((اتقوا الناس ولو بشق تمرة)) ( [13] ).
ولو بكلمة طيبة: ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)) ( [14] ). فكل شيء سجل في صحيفتك قال تعالى: لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها [الكهف:49]. (الصغيرة هي البسمة والكبيرة هي الضحكة).
صلاح النفس ثمرة للعبادة: قال الله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [العنكبوت:45]. وفي الحديث: ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا)) ( [15] ). وذكر لرسول الله قوم يصلون ولكنهم يقومون بأمور لا تليق بمن يقيم الصلاة فقال: ((إن صلاتهم ستنهاهم)) ( [16] ).
( [1] ) البخاري.
( [2] ) رواه البيهقي عن أبي الدرداء.
( [3] ) إحياء علوم الدين.
( [4] ) الجواب الكافي لابن القيم ص55.
( [5] ) مختصر ابن كثير ، مجلد 2 ص137.
( [6] ) رواه الطبراني.
( [7] ) رواه الطبراني.
( [8] ) الترمذي.
( [9] ) الترمذي.
( [10] ) ابن ماجة.
( [11] ) مسلم.
( [12] ) مسلم.
( [13] ) متفق عليه.
( [14] ) مسلم.
( [15] ) ابن أبي حاتم.
( [16] ) البزار والإمام أحمد في مسنده.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/403)
خطر الإعلام الهدام
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
من معاني كلمة الإسلام واشتمالها على معنى السِلم والسلام – السلام الحقيقي وكيف يتحقق
وأثره – ارتباط الأمن بالإيمان – خطورة المعاصي والاستخفاف بالحدود – خطر الإعلام الهدام
وكيف نواجهه – دور الإعلام الإسلامي وكيف ننهض به
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فما زلنا نكتشف معاني كلمة "إسلام" التي هي علم على هذا الدين الذي أنزله الله على سائر الرسل وعلى خاتمهم وإمامهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ما زلنا نكتشف معاني هذه الكلمة ومن عجيب أسرارها أنها في أصل معناها واشتقاقها اللغوي تحمل في طياتها معنى السلام – فالإسلام سلم وسلام كما أن الإيمان أمن وأمان – هكذا في أصل المعنى اللغوي وكذلك في المعنى الشرعي.
فقد جاء الإسلام بالسلم والسلام فمن حقق الجانب الرئيسي منه أي الاستسلام والتسليم – إذ أن الإسلام استسلام لله والإيمان تسليم لله – يتحقق له السلام والأمن.
أول ما يغشى السلام والأمن نفس الإنسان يتكاتف أفراد المجتمع على تحقيق معنى الإسلام، يسود معنى الإسلام والإيمان، يسود السلام والأمن سائر المجتمع – فإذا بكل فرد سلام في نفسه وعلى غيره، آمن في نفسه وعلى غيره – الأمن الفكري والديني والأمن الاقتصادي والسياسي والعسكري. الأمن وحدة متوحدة مترابطة، فإذا اختلت حلقة منها أو سقطت جرت منها سائر الحلقات.
بتحقيق معنى السلام، المعنى الحقيقي، يسود السلام في المجتمع لأن كل فرد حينئذ يحقق قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) [1] ويتمثل في قول المصطفى أيضا: ((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)).
ولهذا سمى الله تعالى في كتابه الكريم، سمى الإسلام سلما: يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة [البقرة:280]. أي ادخلوا في الإسلام كافة.
وهذا من أوجه الإعجاز في القرآن الكريم، ارتباط وصف السلم هنا بالدخول في الإسلام، بمعنى أنه بقدر ما ينقص من قدر تطبيقك للإسلام تخسر من السلم بقدر ذلك.
إذا تذكرت مع ذلك قوله سبحانه وتعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام:82]. تأمل ارتباط الأمن هنا بالإيمان.. ولكن أي إيمان، الإيمان الذي لم يخالطه ظلم.. وأفدح الظلم الشرك – فمع الشرك لا أمن ولا أمان. وأما ما دون الشرك من أنواع الظلم فقد يبقى معها إيمان ولكن إيمان ناقص، وبقدر ما ينقص هذا الإيمان ينقص هذا الأمن والأمان.
بيان في ثنايا كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله سبحانه: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكذبون [الأعراف:96]. فالإيمان هنا هو جانب الاعتقاد ، و"اتقوا" هو جانب السلوك.
هذا هو الإسلام كله: إيمان وتقوى، فالإيمان هو جانب الاعتقاد والقاعدة الفكرية والتقوى هي التي تضبط السلوك وتحكم الحياة، فإذا ما تحقق الإيمان وتحققت التقوى، انظر إلى تصوير القرآن الكريم وروعة بيانه: لفتحنا عليهم وكأنها أبواب مغلقة فتفتح بهذين المفتاحين فتنهمر البركة وتهطل الرحمة.
أما في حالة العصيان، إذا تفشت المعاصي وانتشر الفساد، أي ضعف معنى الاستسلام والتسليم، فحينئذ تغلق أبواب البركة والرحمة بابا بعد باب، ثم تأتي العقوبات بالتدريج رحمة الله بعباده، لأن المقصود بالعقوبات حينئذ هو تنبيه العباد لعلهم يرجعون. فإذا لم يرجعوا، وعاند العباد تأتي حينئذ العقوبات الشاملة والعياذ بالله.
إذا اختلت العقائد يتبع ذلك اختلال السلوك تنتشر المعاصي ويستخف الناس بحدود الله عز وجل فحينئذ يؤاخذهم الله بفسادهم ويعاقبهم ببعض أعمالهم: ولكن كذبوا فأخذناهم بم كانوا يكسبون [الأعراف:96]. أي يقترفون ويعملون، فهذا هو جانب السلوك، إذا اختلت التقوى يؤاخذهم الله لعلهم يرجعون.
قال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون [الروم:41].
بارك الله لى ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري :ك:الإيمان(10).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ماذا نصنع؟ ربما يتساءل هكذا بعض المصلين ، بعدما سمعنا نشرح المشكلة، مشكلة الإعلام الهدام الذي نعيش نحن المسلمون اليوم تحت وطأته. ماذا تصنع يا مسلم لو انتشر وباء من الأوبئة الصحية الجسدية – أجار الله المسلمين من الوباء والغلاء والمحن – تشدد الحصار الدقيق وتشدد الحراسة حول أهلك وأولادك حتى لا يتسرب هذا الوباء إليكم، وهكذا يفعل المجتمع، يتخذ كافة الإجراءات والاحتياطات للقضاء على جراثيم ذلك الوباء ومد يد العون لمن أصيب بهذا الوباء، هكذا فلتفعل يا مسلم، فالوباء انتشرت جراثيمه في سائر أنحاء العالم، هو وباء أخلاقي ومصدروه هم الصهيونية الخبيثة التي لم تتغير طبيعتها الهدامة أبدا، ووصل إلينا بسبب غفلتنا.
فها هي مواده السامة الفتاكة المخربة تكاد تكون في كل بيت بعدما استيقظت عيون الشهوة ونامت عيون البصيرة، على كل مسلم ومسلمة واجب في هذا المجال، فكل مسلم مسئول عن نفسه وعن أهله وعن أولاده وكل مسلمة كذلك - فعليك يا مسلم أن تنظر إلى هذا الأمر بعين الشرع لا بعين الشهوة، بعين البصيرة لا بعين الهوى والغرائز.
فعليك أن تفعل كما لو أن ما انتشر هو وباء صحي. ماذا كنت تفعل لو رأيت في حوزة ولد من أولادك شيئاً من المخدرات؟؟ بعض أشرطة الفيديو المنتشرة في أسواقنا أشد فتكا وتدميرا من المخدرات لأن كلهم جميعا يتعلمون تعاطي المخدرات والمسكرات من تلك الأشرطة وأيضا فنون الجريمة ووسائلها.
فافعل يا مسلم كما لو كنت تفعل لو رأيت في حوزة أولادك أو نسائك شيئاً من المخدرات، اضرب الحصار حول بيتك وحول أولادك ونسائك، لا تسمح لتلك المواد السامة التي صدرتها الصهيونية، لا تسمح لها أن تدخل إلى بيتك.
وإن كان هناك أحد مبتلى قد وصل هذا الوباء إلى بيته فليبادر بالعلاج بالحكمة والموعظة الحسنة والتوجيه الحنون، أما إذا لم ينفع ذلك فعليك بالحزم فلا يجوز لك أن تقف متفرجا والخطر يهدد بيتك ويهدد أولادك ونساءك ولكن لا تترك بيتك موحشا، املأ فراغ البيت بالبديل، املأ فراغ أولادك وبناتك بالبديل، بذكر الله وقراءة القرآن الكريم وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، واصبر على نفور أولادك في بادئ الأمر فالتواصي بالحق يحتاج إلى التواصي بالصبر. فاصبر على مهمتك هذه. كما يجب عليك أن تتجه إلى الإعلام الإسلامي الصالح، إن كان هناك بديل إعلامي صالح. فالإعلام أداة بإذاعته وصحافته، هو أداة يمكن استخدامها للبناء ويمكن استخدامها للتدمير ولكن حتى اليوم يحتكر التفوق في هذه الصناعة الخطرة يهود العالم!.
فمتى نعمل على تقديم الإعلام الصالح البديل الذي يبني ولا يهدم ويربي ولا يفسد والذي يصلح الناس؟!
وهذه هي أوصاف الإعلام الإسلامي وهذه هي مسئولية سائر الأمة، المجتمع كله وخاصة أصحاب الأموال وأصحاب الإمكانيات التنفيذية الفعلية، ونخص منهم أهل المواهب العلمية والأدبية، فبتظافر جهود هؤلاء يمكن تقديم الإعلام الإسلامي البديل.
فمتى يتحرك القادرون؟ متى تتحرك الأمة؟ ومتى يتحرك المجتمع لتقديم البديل الأشد ضرورة في حياتنا بأسرها وهو البديل الإسلامي.
ألا إن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة والجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ولو كنت وحدك على ذلك.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان. ثم صلوا على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. فقال الله تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليها عشرا)) [1] اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الأجلاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين علي وعن الصحابة أجمعين وعنا معهم بعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريره رضي لله عنه
(1/404)
الرحمة
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الأسماء والصفات, مكارم الأخلاق
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرحمة ومعناها. 2- من صفات الله وأسمائه الرحمن الرحيم. 3- من صفات المؤمنين
الرحمة. 4- من الرحمة بالمجتمع إقامة الحدود. 5- أهمية صفة الرحمة. 6- أنواع الرحمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول رب العزة سبحانه: وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين [الأنبياء:83].
لا أحد أرحم من الله عز وجل، فالله أرحم بعبيده من عبيده بأنفسهم، يرى النبي عليه الصلاة والسلام امرأة من السبي وهي تحتضن وليدا ترضعه، فيسأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه: ((هل ترون هذه طارحة وليدها في النار))؟ فيقولون: لا والله يا رسول الله، فيقول عليه الصلاة والسلام ((لله أرحم بعبيده من هذه بوليدها)) ( [1] ).
فما الرحمة؟ ولماذا؟ وما أنواعها؟ وكيف يبلغ العبد تلك المنزلة؟
أما الرحمة:
لغة: فهي الرأفة والعطف.
وأما اصطلاحا: فكما عرّفها العلماء: خلق رفيع كريم، يبعث على الإغاثة والعون والمساعدة وتلبية حاجة المحتاجين وإيصال الخير لهم ورفع الضر عنهم.
وينبغي أن تعلم:
أن من أسماء الله عز وجل: الرحمن الرحيم ، بل مبدأ كل سورة في القرآن نبدؤها بـ بسم الله الرحمن الرحيم إلا في سورة واحدة هي سورة التوبة، لأن مطلعها فيه البراءة من أعداء الله، والسيف وتحديد العلاقة بالمجتمع الجاهلي، براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين [التوبة:1].
أن المؤمن لا يكون مصدر إيذاء أبدا، وإلا ففي إيمانه نظر، قيل لرسول الله عليه الصلاة والسلام: فلانة تقوم الليل وتصوم النهار ولكنها تؤذي جيرانها؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((دعوها إنها من أهل النار)) ( [2] ).
يقول عليه الصلاة والسلام: ((على كل مسلم صدقة)) فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يجد؟ فقال: ((يعمل بيده وينفق)) قال: فإن لم يعمل؟ قال: ((يعين ذا الحاجة الملهوف))، قال: فإن لم يفعل؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير))، قال: فإن لم يستطع، قال: ((يكف شره عن الناس، فإنها صدقة منه على نفسه)) ( [3] ).
أن هناك صلة بين الرحمة والعدل، فوضع الرحمة في غير موضعها غباء وجهل، فلا ينبغي للمجرم أن يرحم، بل إن الرحمة للمجتمع ينبغي من خلالها أن يعاقب المجرم، وصدق الله العظيم: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون [البقرة:179].
الزوجة الناشز، من الغباء أن يسكت على نشوزها، فتطغى، والله عز وجل يقول: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن [النساء:34].
الولد المعوج، لا ينبغي أن يُرحم، حتى يؤدب بل من الرحمة به أن يؤدب، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)) ( [4] ).
وأما لماذا الرحمة؟
فلابد من الرحمة، لأنها:
سبب إلى رحمة الله عز وجل، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) ( [5] ) ، ((من لا يرحم لا يُرحم)) ( [6] ). وفي الآخرة أيضا، ذكر أن الإمام أحمد بن حنبل كان يجمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، فدل على رجل في قرية نائية في الشام، فلما وصل إليها رآه يطعم الكلاب، فسلم وجلس، وانشغل صاحب الحديث بإطعام الكلاب حتى انتهى، ثم نظر إلى الإمام أحمد فقال له: لعلك وجدت علي في نفسك؟ قال: نعم، انشغلت بالكلاب عني، قال: إنا بأرض منقطعة، ولا تأتينا الكلاب إلا نادرا، وقد جاءتني ترجوني أن أطعمها فقد جاء في الأثر: (من قطع رجاء من ارتجاه قطع الله رجاءه يوم القيامة).
حتى يكون التكافل في المجتمع، فيجد المسكين من ينفق عليه، ويجد اليتيم من يرعاه، وتجد الأرملة من يعنى بأمرها، يرى النبي عليه الصلاة والسلام في يوم عيد صبيا منزويا عن أصحابه يبكي، يسأله النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما يبكيك؟)) فيقول: يا رسول الله استشهد أبي في غزوة، يأخذه النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيته، ويعطيه ما يُعطى الطفل، ويقول له: ((أما تحب أن يكون محمدا أبا لك وعائشة أما لك، وفاطمة أختا لك!)) ويسري عنه، ويذهب الطفل بعد ذلك يلعب)) ( [7] ). أراد النبي عليه الصلاة والسلام بذلك الرعاية والاهتمام، لا التبني، فلا تبني في الإسلام.
وإذا ترحلت الرحمة من المجتمع، انقلب المجتمع إلى مجتمع غاب، يأكل القوي فيه الضعيف، وتداس في الحقوق، ويشكو الوالد ولده، وتشكو الزوجة زوجها، والقضايا المتراكمة في المحاكم تشهد بذهاب خلق الرحمة بين الناس، بل يحدثني أحدهم أن زوجته وأولاده اجتمعوا، فاستطاعوا أن يستصدروا أمرا بالحجر عليه وأنه مجنون. فأصبح فقيرا معدما، وزوجته وعياله يتنعمون بماله، فأي رحمة قد ترحلت من القلوب.
أنواع الرحمة:
رحمة الحق سبحانه، وهي أجلها وأكرمها وأعظمها، وصدق الله العظيم: ورحمتي وسعت كل شيء [الأعراف :156]. ومن دعاء عمر بن عبد العزيز يقول: (اللهم إنك قلت في كتابك: ورحمتي وسعت كل شيء ، وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين).
ومن صور رحمة الحق سبحانه:
أ- رحمته في التشريع: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [البقرة:286].
في الطهارة والوضوء: عمرو بن العاص، خرج في سرية فأصبح جنبا، فصلى بعد أن تيمم، بالناس إماما، فلما عاد إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال له: ((صليت بالناس وأنت جنب؟!)) قال عمرو بن العاص: يا رسول الله، تأولت قول رب العزة سبحانه: ولا تقتلوا أنفسكم إنه كان بكم رحيما فضحك النبي عليه الصلاة والسلام وأقره على فعله)) ( [8] ).
في الصلاة: ((من استطاع أن يصلي قائما فليفعل، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنبه)) ( [9] ).
في الصيام: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [البقرة:185].
وفي الحج: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [آل عمران:97].
ب- أنه يقابل إساءة العباد بالإحسان إليهم، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ((أنا والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، وأتحبب إليهم بالنعم ويبتعدون عني بالمعاصي، خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد)) ( [10] ).
ذكر أن إبراهيم الخليل عليه السلام كان مضيافا، وكان لا يأكل طعاما إلا ويكون معه ضيف، مر به رجل فقير فاستضافه الخليل إبراهيم، سأله عن دينه فعلم أنه مجوسي، فقال له: لن تأكل معي طعاما حتى تغير دينك. فأبى المجوسي أن يغير دينه ومضى، أوحى الله تعالى إلى الخليل إبراهيم يقول: أبيت أن تطعمه مرة حتى يغير دينه، ونحن نطعمه منذ سبعين سنة وهو على كفره، يسرع الخليل إلى الرجل يغير الكلام والموقف ويدعوه إلى الطعام، فسأله المجوسي عن سبب التغير في المعاملة! فيذكر له وحي الله إليه، فقال المجوسي: أهكذا يعاملني ربي؟! أعرض علي الإسلام، فأسلم ( [11] ).
ج – يوم القيامة، أعظم حديث سمعته هو قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن لله مائة رحمة، أنزل واحدة منها إلى الأرض بين الجن والإنس والهوام، فبها يتراحمون وبها يتعاطفون وبها تعطف الوحش على وليدها، وادخر تسعة وتسعين رحمة إلى يوم القيامة)) ( [12] ). نسأل الله تعالى أن يشملنا برحمته إنه جواد كريم.
رحمة المصطفى عليه السلام: وصدق الله العظيم: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [التوبة:128]. ومن صور رحمة النبي عليه الصلاة والسلام:
أ- مع أعدائه: عندما دعا أهل الطائف إلى الإسلام، فأجابوه شر إجابة وأغروا به السفهاء، ويخرج النبي عليه الصلاة والسلام وقدميه الشريفتين تسيلان دما، يبعث الله إليه ملك الجبال يأتمر بأمر النبي عليه الصلاة والسلام، يقول له: ((إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فيقول عليه الصلاة والسلام: لا تفعل عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله)) ( [13] ) ، والأخشبان: هما الجبلان المحيطان بمكة.
ب- مع الجاهل بدينه: بال أعرابي في المسجد، فقام الأصحاب ليوقعوا به الأذى، منعهم النبي عليه الصلاة والسلام حتى يكمل الرجل بوله، ثم أتى بسجل من ماء فصبه على بول الرجل، وقال للأصحاب: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، فيسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)). وقال للأعرابي: ((إنما بنيت هذه المساجد لذكر الله وللصلاة)) ، بعد أن حسن أدب الأعرابي في الإسلام كان يقول: ((بأبي هو وأمي رسول الله لم يعنفني ولم يؤنبني)) ( [14] ).
ج- مع الأعراب الذين لم يستكملوا جانب التربية في الإسلام: ((يأتيه أحدهم فيقول: يا محمد، ويضع أظفاره في كتف النبي عليه الصلاة والسلام، ويلتفت إليه رسول الله مبتسما)) ( [15] ).
الآخر يستقرض منه رسول الله قرضا، فيأتيه قبل موعده ويقول: يا محمد أعطني قرضي، إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل ( [16] ) ، حتى يهم الأصحاب بضربه، فيمنعهم ويقول: ((إن لصاحب الحق مقالة)) ( [17] ).
رحمة ولي الأمر بأمة محمد علي الصلاة والسلام:
من دعاء الرسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم، فارفق به، اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم، فاشقق عليه)) ( [18] ).
ولاية الأمر في إسلامنا تكليف لا تشريف ولا مظاهر، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يا أبا ذر، إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الحق الذي عليه فيها)) ( [19] ).
ولاة الأمر من سلفنا الصالح كانوا يتفقدون أحوال الأمة، لا بقصد التجسس والتضييق عليهم وبث الرعب في قلوبهم، حتى يكون الخوف في مطعمهم ومشربهم منامهم، كما هو الحال في كثير من بلداننا في عالمنا الثالث، بل كانوا يتفقدون أحوال الأمة حتى يخففوا عنها من مآسيها.
كان عمر بن الخطاب يتفقد امرأة عجوزا عمياء في طرف المدينة يذهب إليها يرفع عنها البول والغائط، يأتيها بالطعام يأتيها بالماء، ثم يذهب، رأى عمر بن الخطاب هناك من يسبقه في خدمة هذه المرأة العجوز العمياء فأراد أن يرصد من الذي يسبقه لهذا الخير، يقول عمر بن الخطاب: (فجئت في أول الليل فإذا به أبو بكر الصديق وكان يومئذ خليفة) ( [20] ). كان خليفة، لكنه كان يتفقد حال امرأة عجوز عمياء، يتقرب بهذا العمل لله عز وجل، لم تغيرهم الدنيا، ولم تعبث بقلوبهم المناصب، وإنما زادتهم ذلا وتواضعا وبحثا عن الأجر في أي مكان يكون.
رحمة المسلم بالحيوان:
وهناك صور محرمة في إسلامنا :
أولها الحبس: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)) ( [21] ).
التحريش بين البهائم: وهو حرام، فقد: ((نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن التحريش بين البهائم)) ( [22] ).
أن تجعل من الحيوان غرضا لسهمك ورميك حرام، فقد: ((لعن النبي عليه الصلاة والسلام من اتخذ شيئا فيه روح غرضا)) ( [23] ).
قتل الحيوان بقصد العبث واللعب حرام، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن العصفور ليحج ( [24] ) إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب، إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة)) ( [25] ).
ثم حتى في ذبح الحيوان: ((إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذحة وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) ( [26] ). يرى النبي عليه الصلاة والسلام رجلا وقد أبطح شاة تحت قدمه، وهو يحد شفرته، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ويلك! أمتّها موتتان، هلاّ حددت شفرتك قبل أن تضجعها للذبح)) ( [27] ).
كيف يبلغ العبد درجة الرحمة؟
فينبغي ابتداء أن يعلم:
أن دوام الحال من المحال: لتركبن طبقا عن طبق [الانشقاق:19]. حالا بعد حال، غنى بعد فقر، وفقرا بعد غنى صحة بعد مرض، ومرضا بعد صحة، فالحال لا يدوم: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير [آل عمران:26].
يرى النبي عليه الصلاة والسلام أبا مسعود وهو يضرب غلاما له، فيقول له النبي عليه الصلاة والسلام: ((اتق من هو أقدر عليك، منك عليه)) ( [28] ).
ثم لابد من الممارسة الفعلية لخلق الرحمة، جاء رجل يشكو إلى النبي عليه الصلاة والسلام قسوة قلبه، فقال له عليه الصلاة والسلام: ((امسح على رأس اليتيم، وأطعم المسكين)) ( [29] ). ممارسة عملية لخلق تتعوده، يبعث فيك الرحمة بعد ذلك.
ثم أن تجعل في ذهنك قضية الجزاء، كما تدين تدان. لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) ( [30] ).
وما أكرم شاب شيخا لسنه، إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنه، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((بروا آباءكم، تبركم أبناؤكم)) ( [31] ) ، يرى الناس رجلا يضرب أباه في السوق، فيجتمع الناس يحولون بين الوالد والولد، فيقول لهم الوالد: دعوا ولدي يضربني، لقد كنت أضرب أبي في هذا الموضع، فسلط الله علي ولدي من بعده.
( [1] ) رواه البخاري.
( [2] ) رواه أحمد.
( [3] ) متفق عليه.
( [4] ) رواه أبو داود والحاكم.
( [5] ) رواه أبو داود والترمذي.
( [6] ) رواه الطبراني.
( [7] ) قبسات من حياة الرسول ص264.
( [8] ) روه أحمد وأبو داود.
( [9] ) رواه البخاري.
( [10] ) رواه البيهقي.
( [11] ) إحياء علوم الدين مجلد 4 ص 152.
( [12] ) رواه البخاري.
( [13] ) متفق عليه.
( [14] ) رواه الجماعة إلا مسلما.
( [15] ) متفق عليه.
( [16] ) أي تماطلون في دفع الدين.
( [17] ) رواه البخاري.
( [18] ) رواه مسلم.
( [19] ) رواه مسلم.
( [20] ) حياة الصحابة مجلد 2 ص76.
( [21] ) رواه البخاري.
( [22] ) رواه أبو داود والترمذي.
( [23] ) رواه أبو داود والترمذي.
( [24] ) أي يشكو.
( [25] ) رواه النسائي.
( [26] ) رواه مسلم.
( [27] ) رواه الطبراني في الكبير.
( [28] ) رواه مسلم.
( [29] ) رواه أحمد.
( [30] ) رواه مسلم.
( [31] ) مجمع الزوائد 1/35.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/405)
من أخلاق المداينة وأحكامها
فقه
الديون والقروض
علي بن يحيى الحدادي
الرياض
جامع عائشة بنت أبي بكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الناس إلى بعضهم 2- القرض الحسن من أفضل الأعمال عند الله 3- الحث على
عدم الاستدانه ما امكن 4- كل قرض جر نفعا فهو ربا 5- المسارعة إلى قضاء الدين
6- فضيلة التجاوز عن المعسر وإمهاله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الناس لا يستغنون في حياتهم عن القرض والمداينة، ولذلك شرع الله القرض لعباده، غير أنه حدّ حدودا لا ينبغي لمسلم أن يتجاوزها، وإلا وقع في الإثم.
وندب إلى أخلاق عالية، ينبغي أن يتحلى بها كل مقرض ومقترض، ألا وإن كثيرا من الناس قصروا في هذه الأحكام والآداب فأحببت تذكير نفسي وإياكم بها، لعلنا أن نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
أولا: فضل القرض:
إن إقراض المحتاجين من فضائل الأعمال، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – - قال: (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن سعى في قضاء حاجة أخيه، قضى الله حاجاته، ومن فرج عن أخيه كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما، ستره الله يوم القيامة)).
وقال : ((ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة )) ، رواه ابن ماجه. وقد قيل: إن القرض أفضل الصدقة، لأنه لا يقترض إلا محتاج.
فالقرض فعل معروف، وتفريج للضائقة عن المسلم وقضاء لحاجته. وقد ذم الله تعالى قوما فقال: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يرآءون ويمنعون الماعون. أي: أساءوا مع ربهم فضيعوا حدوده، وأساءوا مع الخلق فمنعوهم المعروف حتى الدين والإعارة.
فإذا أتاك أخوك المسلم في طلب دين، وكان عندك فضل مال، وزيادة عما يجب عليك لنفسك ولمن تعول، فأقرضه أخاك ولا تبخل به يكن لك أجرا إذا احتسبت الأجر، ويكن لك ذكرا حسنا في دنياك وبعد موتك.
ثانيا: ينبغي للإنسان ألا يستدين إلا إذا احتاج؛ لأنها حقوق الناس يتحملها في ذمته ولا يدري هل يستطيع قضاءها أم لا؟
ورحم الله الإمام أحمد، كان في الأسفار يسقي للناس، ويحمل الأحمال، ويؤجر نفسه حتى لا يحتاج إلى الدَين، وسرقت ثيابه بمكة فاختبأ في غار، فوجده بعض أصحابه بعد ثلاثة أيام، فأراد أن يرمي له بثوب يستر به عورته، فقال أحمد: لا آخذ منك شيئا هبة ولا دينا، ولكن أكتب لك أحاديث بأجرة، فرضي صاحبه بذلك، وهذا مثل عظيم في ترك الدين مع إمكان الاستغناء عنه.
فإذا احتاج إليه فلا باس به.
ثالثا: إذا أسلفت أخاك فلا يجوز أن تشترط قضاءه بأكثر منه؛ لأن اشتراط الزيادة في قضاء الدين ربا محض، سواء سمي ربا أم فائدة، أم غير ذلك.
رابعا: جاء في الحديث: ((كل قرض جر نفعا فهو رباً)). وثبت عن أربعة من الصحابة الفتوى بمقتضاه.
ومعنى الحديث: أنك إذا أقرضت شخصا فلا يحل لك أن تقبل منه هدية، أو منفعة كأن يوصلك على سيارته، أو يحمل لك متاعك، أو يقدم لك خدمة، إلا بعد قضاء الدين. فإن قبلت منه شيئا من ذلك كان رباً، وينبغي أن يعلم أن هذه المنافع تكون ربا في حالتين:
الحالة الاولى: إذا اشترطها المقرض اشتراطا صريحا، كأن يقول أقرضك، لكن بشرط أن تعيرني سيارتك، أو تسهل معاملتي في الدائرة الفلانية، ونحو ذلك.
الحالة الثانية: ألا يشترطها اشتراطا صريحا، ولكنه ينوي بذلك القرض حصول هذه الخدمات ويتطلع إليها ويلمح بها ونحو ذلك.
والقاعدة: إذا كان سبب تلك المنافع هو القرض كانت رباً، أما إذا كانت عادة سابقة على القرض وليس للقرض فيها سبب من قريب أو بعيد في حصولها فلا بأس.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري أنه قال: ((قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاشٍ، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه. فإنه رباً )).
وأما بعد أداء الحقوق فلا بأس بقبول المنافع.
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
فالمسألة الخامسة من مسائل الدين:
المسارعة إلى قضاء الدين إذا حان وقته، وعدم التساهل في ذلك ألا وإن كثيرا من الناس يتساهل في هذه القضية سواء في تعامله مع الأفراد أو مع المؤسسات والحكومية أو المؤسسات التجارية، وأصبحنا نرى ونسمع عن كثير من الكفلاء أنهم اضطروا إلى السداد حين أخل المستدينون بما عليهم.
عباد الله: لقد ورد الوعيد الشديد فيمن أخذ أموال الناس وهو عازم على عدم الأداء، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ((ومن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) ، والعياذ بالله.
سادسا: يستحب للمستدين أن يرد الدين بأفضل منه في الكيف أو في العدد، إذا كان تبرعا منه بدون شرط سابق، كأن تستلف ألفا، ثم ترده ألفا ونصف تبرعا وتفضلا منك، أو تقترض حيوانا، أو مركوبا، فترد أحسن منها من جنسها. وفي ذلك يقول : ((إن من خياركم أحاسنكم قضاء)).
سابعا: إذا حان الأجل ولم يسدد المستدين ما عليه، وأراد صاحب الحق أن يطالب بحقه فعليه أن يحسن الطلب والاستقضاء، فلا يعنف ولا يشهر ولا يلح، ولكن بالتي هي أحسن وقد قال الرسول – - لعمر: ((هلا أمرته بحسن الاستقضاء)). أي بالحسن في طلب حقه.
ثم إن كان معسرا، فأمامك أيها المقرض ثلاثة خيارات:
الأول منها: أن تعفو عنه وتسقط الدين الذي لك كله، وهذا أعلاها وأفضلها، ومن فعل ذلك ابتغاء مرضات الله تجاوز الله عنه، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله – - قال: ((كان فيمن قبلكم تاجر يداين الناس إن رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه)).
الخيار الثاني: أن تسامحه في بعض الدين، فمثلا لك عليه عشرة الآف، فتضع عنه نصفها أو ربعها، ونحو ذلك.
الخيار الثالث: أن تؤجله حتى يوسع عليه.
وفي هذين يقول – -: ((من أنظر معسرا أو وضع له – أي أسقط عنه الدين كله أو بعضه – أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)).
وقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة – - أنه طلب غريما له فتوارى عنه، ثم وجده فقال الغريم: إني معسر. فقال أبو قتادة: آلله؟ قال الرجل: آلله. قال أبو قتادة: فإني سمعت رسول الله – - يقول: ((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)).
فيا إخوة الإسلام: هذه هي الأخلاق الإسلامية في المداينة، قضاء حاجة، وعدم استغلال حاجة المحتاج في إرهاقه في الطلبات والخدمات والفوائد، ثم القضاء بإحسان، ثم الإنظار عند العسرة.
وحين أخل كثير من الناس بمثل هذه الأخلاق العالية، وجدت الخصومات والحزازات، واحتاج الناس إلى البنوك الربوية، والتعامل معها بما حرم الله ،فلا هو يجد من يقرضه قرضا حسنا، ولا المقرض يجد من يسدد له قرضه تسديدا حسنا، حتى ضاع المعروف بين الناس، إلا من رحم الله، وقليل ما هم.
إخوة الإيمان: صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه.
(1/406)
الحياء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الحياء. 2- الفرق بين الحياء والخجل. 3- ضرورة صفة الحياء. 4- الحياء من
الله. 5- حياء العبد في نفسه. 6- صور من الحياء. 7- حياء المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول رب العزة سبحانه: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم [المجادلة:7]. أصحاب الفطرة السليمة يغشاهم الحياء ويتحرجون من الكلمة أو الفعل المشين إذا اطلع عليهم من يتحرجون من نظره والأولى بالتعظيم وأن يستحيى منه هو الله رب العالمين.
فما الحياء؟ ولماذا؟ وما أنواعه؟ وكيف حفظ الإسلام للمرأة حياءها؟
أما الحياء لغة: فهو مأخوذ من الحياة، اصطلاحا - كما عرفه العلماء - :هو انقباض النفس عن القبائح، قيل: هو أن لا يفتقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك، وينبغي أن تعلم أن:
الحياء من صفات الله عز وجل، يقول المصطفى عليه الصلاة: ((إن الله حيي كريم يستحي من عبده، إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا)) ( [1] ). الحياء من خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام فلقد: ((كان أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئا عرف في وجهه)) ( [2] ).
الفرق بين الحياء والخجل عظيم ذلك لأن الحياء منقبة وفضيلة ومعناها هو أن يترفع العبد عن المعاصي والآثام وأما الخجل فإنه منقصة لشعور الإنسان بقصوره أمام الآخرين، فلا يطالب بحقه لخجله ولا يقول كلمة الحق لخجله ولا يتحدث أمام الآخرين لشعوره أن من معه خير منه، وعلى الجرأة ربى السلف الصالح أبناءهم.
رسول الله عليه الصلاة والسلام سأل الأصحاب يوما فقال: ((إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المسلم في نفعها)) فوقع الأصحاب في شجر البوادي، كل منهم يذكر اسم شجرة ورسول الله لا يوافقهم، كان في الأصحاب عبد الله بن عمر وكان صبياً يقول: فوقع في نفسي أنها النخلة، ولكن كان في المجلس أبو بكر وعمر فلم يتكلما، فاستحييت أن أتحدث بوجودهما ثم قال عليه الصلاة والسلام: إنها النخلة، فلما خرج عبد الله مع أبيه عمر بن الخطاب ، قال عبد الله: يا أبت والله لقد وقع في نفسي أنها النخلة، فقال عمر بن الخطاب : والله لئن كنت قلتها، لهي أحب إلي من الدنيا وما فيها)) ( [3] ).
باعث الحياء، إما أن يكون هو الله، وإما أن يكون الناس والعبد إذا لم يستح من الله ولم يستح من الناس كان هو والبهائم سواء، مصطفى السباعي رحمه الله تعالى في كتابه: (هكذا علمتني الحياة) يقول: (إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بالله فإن لم ترعوِ فذكرها بالناس، فإن لم ترعوِ فاعلم أنك قد انقلبت حمارا).
وأما لماذا الحياء؟ فلابد من الحياء:
لأن العبد إذا رزق الحياء، رزق الفضائل، رزق الخلق الحميد، ابن القيم رحمه الله، في كتابه (مفتاح دار السعادة) يقول: الحياء هو من أعظم الأخلاق وأكرمها ذلك لأنه مصدر الفضائل، فالولد يبر بوالديه بسبب الحياء، وصاحب الدار يكرم ضيفه بسبب الحياء، والعبد يفي بالموعد بسبب الحياء أيضا، لذلك عندما سئل المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: ((إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء)) ( [4] ).
ومن الأصحاب من عرف بالحياء، كعثمان بن عفان وأرضاه، استأذن أبو بكر وعمر وعلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان جالسا وقد بدت ركبتاه، فلما استأذن عثمان بالدخول غطى رسول الله ركبتيه، فلما خرجوا، سألت عائشة عن السبب فقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا استحي من رجل تستحي منه ملائكة السماء)) ( [5] ).
إذا فقد العبد الحياء ما الذي يكون؟
إذا فقد العبد الحياء فلا تراه إلا صفيقا بليدا لا يبالي بمشاعر الآخرين ليس عنده من رادع يمنعه من الوقوع في الإثم أو الوقوع في الدنايا، لا يعرف ربا ولا دنيا، ولا يعرف عرفا ولا يعرف خلقا.
رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)) ( [6] ) ، لذا كان في إسلامنا أن فاقد الحياء لا غيبة له، يجوز لك أن تذكره بأفعاله السيئة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له)) ( [7] ) ، عمر بن الخطاب يقول: (ثلاثة لا غيب لهم: المبتدع والفاسق المجاهر بفسقه والحاكم الظالم)، ثلاثة لا حرمة لهم ولا ما يقال في حقهم غيبة لأنهم فقدوا الحياء من الله، وفقدوا الحياء من الناس.
وأما أنواع الحياء:
أولا:
فأكرم الحياء وأعظمه هو الحياء من الله عز وجل في ثلاثة مواضع، وهي:
أ- الحياء من أن تقابل إحسان الله بالإساءة ونعمه بالجحود، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((أنا والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، أتحبب إليهم بالنعم ويبتعدون عني بالمعاصي، خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد)) ( [8] ) ، جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم يقول: إن نفسي تراودني المعصية ولا أستطيع كبح جماحها، فماذا أفعل؟ قال: إذا وفيت بخمس فاعص الله ما شئت، قال: وما هي؟ قال: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه، ولا تنم في أرضه، ولا تعصه أمام عينيه قال: وكيف يكون هذا؟ وكل ما في الأرض لله والأرض ملكه، والسماء سماؤه، وفي أي ركن أكون منها، فالله تعالى يعلم السر وأخفى! قال: أما تستحي أن تأكل من رزقه وتنام على أرضه وتعصه أمام عينيه؟ قال: إذا أردت أن تعصي الله وجاءك ملك الموت فلا تذهب معه أو جاءتك زبانية العذاب فلا تذهب معهم، قال: وكيف يكون هذا؟: إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، قال: فإذا علمت قدر نفسك، لا تستطيع أن ترد ملك الموت، أو زبانية العذاب فلم تعصه؟ فكانت توبة بعد ذلك نصوحا.
ب- ومما ينبغي لزوم الحياء به بينك وبين الله تعالى هو ألا تتضجر عند البلاء فتنسى قديم إحسان الله إليك ذكر الإمام الألوسي رحمه الله تعالى: أن أيوب عليه السلام عندما فقد المال وفقد الولد وفقد عافيته، قالت له زوجته: أنت نبي الله فلو سألت الله تعالى أن يرفع عنك البلاء لفعل، فقال لها أيوب عليه السلام: كم مضى علينا ونحن في عافية؟ قالت: ستين سنة قال: والله إني لأستحي أن أسأل الله رفع البلاء وما بلغت في البلاء ما بلغته في العافية ( [9] ).
ج- من حياء العبد مع الله عز وجل أيضا أن يحفظ العقل من أن يكفر بأمر إجرامي أو معصية أو أن تدخل فكرة منحرفة إلى عقله، وأن يحفظ جوفه عن الحرام، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((استحيوا من الله حق الحياء؟ قالوا: وكيف نستحي من الله حق الحياء؟ قال:أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) ( [10] ).
ثانيا:
ومن الحياء أيضا حياء العبد في نفسه، وينبغي أن يحرص صاحب الحياء على أن تكون سمعته كريمة بيضاء ناصعة لا تمس بشائبة أبدا، خرج النبي عليه الصلاة والسلام يوما في الليل حتى يوصل إحدى زوجاته إلى دارها فمر به رجلان من الأصحاب فلما رأيا رسول الله ومعه امرأة، أسرعا في مشيهما فنادى عليهما عليه الصلاة والسلام وقال: ((على رسلكما إنها صفية، قالا: سبحان الله يا رسول الله أنشكّ بك؟ قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلبيكما شرا)) ( [11] ).
صاحب العفاف ينأى بمائه عن أن يضعه إلا في الموضع الكريم الذي أذن الله تعالى به، لأنه يعلم حديث النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما من ذنب أعظم عند الله من نطفة يضعها رجل في رحم لا يحل له)) ( [12] ) ، يوسف عليه السلام وقد دعته امرأة العزيز وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك. قال: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي [يوسف:23]. شهوة ومتعة يتكالب عليها السفلة يدوسها يوسف عليه السلام بقدمه وفي واقعنا متقاعدون قد بلغوا من الكبر عتيا قد جعلوا من دور العاهرات في بانكوك أو بتاي سكنا لهم ولا يأتون إلى دورهم إلا في المناسبات وآخر يوصي ابنته أن تغرزه الإبر وتعطيه الحبوب حتى يتقوى بها على الحرام، هل يبقى للبنت بعد ذلك من حياء؟
جاء في بعض كتب الله المنزلة: ((عبدي دق عظمك وانحني ظهرك، وشاب شعرك، فاستحِ مني فإني أستحي منك)) ، يا أبناء الخمسين زرع قد دنا حصاده؟ ويا أبناء الستين ماذا قدمتم؟ ويا أبناء السبعين هلموا إلى الحساب؟ يقول عليه الصلاة والسلام: ((أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)) ( [13] ). يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا بلغ الرجل أربعين سنة، ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار)) ( [14] ).
من حياء العبد في نفسه أن يحفظ عورته، في الحمامات مثلا، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة)) ( [15] ) إلا الزوجة للحديث: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك)) ( [16] ).
ثالثا:
ومن الحياء أيضا حياء العبد في مجلسه وينبغي للعبد في مجلسه أن يتكلم بالخير أو ليصمت، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) ( [17] ) ، أما فاقد الحياء فإنه لا يجد ألذ من أن يتحدث بالذي يكون بينه وبين أهله سفلة، قال النبي عليه الصلاة والسلام وقد صلى بالناس فالتفت، فقال: ((أيكم الرجل الذي إذا أراد أن يأتي أهله أغلق بابه وأرخى ستره، ثم جامع أهله، ثم يخرج إلى الناس يقول: فعلت بأهلي كذا وكذا، فسكت القوم، فجلست امرأة على ركبتيها وقالت: والله يا رسول الله إنهم ليتحدثون وإنهن ليتحدثن، فقال عليه الصلاة والسلام: أتدرون ما مثل من يفعل ذلك؟ إن مثل من يفعل ذلك مثل الشيطان أتى شيطانة في قارعة الطريق فجامعها والناس ينظرون إليهما)) ( [18] ).
أو أن يتحدث عن ماضيه القبيح وما كان فيه من الآثام والمعاصي لا على جهة الندم أو أخذ العبرة منه، وإنما على سبيل التفاخر والندم على الأيام التي مضت وليتها عادت من جديد، أمثال هؤلاء لا مغفرة لهم، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي معافى، أي معفو عنهم، إلا المجاهرون)).
ومن المجاهرة أن يعمل العبد العمل بالليل ويصبح وقد ستره الله فيقول: ((يا فلان عملت البارحة كذا وكذا! بات يستره الله وأصبح يفضح نفسه)) ( [19] ).
رابعا:
ومن الحياء أخيرا، الحياء مع الوالدين ومع ذوي الفضل والعلم.
مع الوالدين: رأى أبو هريرة غلاما يمشي مع رجل فقال للغلام: من هذا منك. قال: أبي، قال: اسمع! لا تمش أمامه، ولا تجلس قبله، ولا تناده باسمه.
ومع العلماء: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((العلماء ورثة الأنبياء)) ( [20] ).
ويدعونا إلى التواضع لما لهم من علم كريم، يقول عليه الصلاة والسلام: ((تعلموا العلم، وتعلموا للعلم سكينته وتواضعوا لمن تعلمون منه)) ( [21] ).
زار أحد العلماء الأجلاء بلدا ولكن البعض أساء الأدب معه بأن يتهمه بأنه صاحب فتنة وأنه جاء ليفرق الأمة، وآخر يتهمه بأنه جاهل، علما أن الرجل قد فتح الله عليه فتحا كريما في معرفة دسائس اليهود ودسائس النصارى، هذا البعض لا يحسن إلا استقبال العاهرات والثناء على الماجنين والسفلة، وشاعر يأتي ويستقبل أكرم استقبال وتستضيفه الجمعيات النسائية ويفصل في أجسادهن جزاء فجزءا.
وأما كيف حفظ الإسلام للمرأة حياءها؟
فاعلم أن العلماء وضعوا شروطا في جواز مداواة الطبيب للمرأة وذلك:
أ- أن يكون الطبيب تقيا.
ب- أن لا يكشف من أعضاء المرأة إلا قدر الحاجة.
ج- أن لا تكون هناك امرأة مختصة تقوم مقام الطبيب.
د- أن لا يكون الطبيب كافرا مع وجود مسلم.
أما أن تحرص المرأة على أن يكون الطبيب رجلا أجنبياً مع وجود الطبيبة المختصة فهذا دليل فقدان للحياء والدين معا.
وينبغي أن تعلم أن أجمل ما في المرأة حياؤها، وصدق الله العظيم: فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت.. [القصص:25]. أعداء الله علموا أن أكرم ما في المرأة حياؤها، فوجهوا إلى هذا الحياء سهامهم، واستغلوها في الدعاية لأحذية لابد إلا أن يضع معها امرأة، والدعاية لإطارات لابد إلا أن يضع معها امرأة في وضع مهين، أو على أغلفة المجلات، حتى أصبح المثل السائد في الغرب (حبة عنب تساوي مائة امرأة) فسارت المرأة المسكينة كالبلهاء وراء الضباع باذلة لحيائها وشرفها.
وحفظ الإسلام للمرأة حياءها يوم فرض عليها الحجاب، وحرم عليها التبرج وصدق الله العظيم: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [الأحزاب:33].
والغاية هي إقامة مجتمع نظيف لا تهيج فيه الشهوات ولا تستثار فيه الغرائز مما له الأثر المدمر في إشاعة الفاحشة والجريمة وفقدان مقومات البقاء، وتحقيق رغبة أعداء الله في السيطرة والتحكم.
( [1] ) أبو داود.
( [2] ) مسلم.
( [3] ) البخاري.
( [4] ) مالك.
( [5] ) رواه أحمد.
( [6] ) أخرجه البخاري.
( [7] ) أخرجه بن عدي.
( [8] ) رواه البيهقي.
( [9] ) تفسير الألوسي ج 17 ص 80.
( [10] ) الترمذي.
( [11] ) أخرجه الشيخان.
( [12] ) أخرجه ابن أبي الدنيا.
( [13] ) الترمذي.
( [14] ) أبو الفتح الإزدي / الألوسي مجلد 26 ص 18.
( [15] ) مسلم.
( [16] ) أحمد وأصحاب السنن.
( [17] ) متفق عليه.
( [18] ) رواه أحمد والبزار.
( [19] ) متفق عليه.
( [20] ) أبو داود والترمذي.
( [21] ) الطبراني في الأوسط.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/407)
الدعوة
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ترك الدعوة موجب للهلاك. 2- العمل الدعوي الجماعي ودليل مشروعيته. 3- منزلة
الداعية. 4- صفات الداعية. 5- أدب الدعاة عند الاختلاف. 6- أسباب الاختلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين [يوسف:108].
الدعوة إلى الله تعالى فرض على كل متبع للمصطفى سواء كان ذكرا أم أنثى كل بحسب حاله.
فما الدعوة؟ وكيف تؤدى؟ وما مكانة الداعية وصفته؟ وما آداب الدعاة عند الاختلاف؟ وما أسباب الاختلاف؟
أما الدعوة: فهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وترك الدعوة موجب للعنة، قال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [المائدة:79].
ترك الدعوة موجب لمنع إجابة الدعاء للحديث: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم)) ( [1] ).
ترك الدعوة موجب للعذاب الأليم للحديث: ((إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب)) ( [2] ).
أما كيف تؤدى؟ فالدعوة تؤدى على نحوين:
فردية: للحديث: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) ( [3] ).
جماعية: ولها دلائل من الكتاب: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ومن السنة: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)) ( [4] ) والقاعدة الفقهية: ((ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)). ثم إن الواقع الجاهلي لا يستقيم بجهد فردي بل لابد من تلاقي الجهود والطاقات لاختصار عامل الزمن وقطع المراحل دون تبديد للطاقات والحفاظ على القلوب من تغيرها مع طول المدة.
وأما مكانة الداعية وصفته:
1- فالداعية إلى الله تعالى من أعظم الناس أجرا للحديث: ((فو الله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)) ( [5] ).
2- والداعية من أكرم الناس قولا وأحسنه قال تعالى: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين [فصلت:23].
3- والداعية من أعظم الناس غيرة على دينه فليس في إيمانه بلادة ولا خمود بل هو إيمان متأجج فيه اللوعة وفيه الحرقة ولن تقر عينه بشيء من متاع حتى يرى كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، يقول الفضيل بن عياض: ((إن قلوب الأبرار لتغلي بأعمال البر وإن قلوب الفجار لتغلي بأعمال الفجور، والله يرى همومكم فانظروا رحمكم الله ما همومكم)).
4- والداعية من أبرأ الناس ذمة يوم القيامة والحساب، حيث بلغ الأمانة وأدى الرسالة ونصح وبلغ ورغب ورهب لأحد عليه حجة قال تعالى: وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [الأعراف:164].
5- والداعية من أحق الناس بكرامة الله له فذات مرة احتاج المسلمون إلى نصب معسكرهم في إحدى غابات أفريقيا التي كانت تموج بالسباع والحشرات السامة، فوصل عقبة بن نافع قائد الجيش إلى ناحية ببعض أصحاب رسول الله ، فشكى إليه الجند كثرة الهوام والسباع فصعد ربوة ونادى: (أيتها السباع أيتها الحشرات، أيتها الهوام، نحن أصحاب رسول الله جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد فارحلوا، فإنا نازلون وما هي إلا لحظات قليلة إذ تم انتشار هذا الخبر في أوساط هذه الحيوانات، فارتحلت كلها وهي تحمل أولادها) ( [6] ).
6- والداعية من أعرف الناس بمقام الأنبياء والرسل، وبتقدير جهادهم، لأنه يقف موقفهم، ويحس بمعاناتهم من خلال إعراض المعرضين، وسخرية الساخرين، كما أنه يكون أكثر إدراكا لقصص الأنبياء في القرآن الكريم، وأكثر تأثرا بآيات الرجاء والتصبر والاحتساب.
7- والداعية هو الذي يعرف مواطن الداء، ويتقن فن إعطاء الدواء، فليس بالفظ قال تعالى: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [آل عمران:159]. وليس بالساذج الذي ما يفسده أعظم مما يصلحه بسوء أدبه وجافئه أو أن يضخم جانبا على حساب آخر قال تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون [البقرة:85].
8- الداعية هو الذي يؤثر ولا يتأثر، يؤثر في الناس بصدقه وإخلاصه وخلقه وعلمه وثباته ولا يتأثر بالمفاهيم الجاهلية التي يتعامل بها الناس أو يحتكمون إليها من إقليمية بغيضة وتعلق بالأشخاص، وموازين معوجة وصدق الله العظيم: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [التوبة:85]. قال العلماء: تأمل كيف أن الله تعالى نهى المؤمن عن الإعجاب لأن الإعجاب هو تكريم لهم، وتكريمهم لا يجوز للحديث: ((لا تقولوا للمنافق سيدا، فإنه إن يكن سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل)) ( [7] ).
وفي شرح الحديث تحريم وصف المنافق بأوصاف الاحترام والتقدير، وأن وصفه بذلك يستدعي غضب الله عز وجل لأنه تعظيم لعدوه الخارج عن طاعته المستحق للإهانة والتحقير ( [8] ).
9- الداعية هو الذي يحب الخير للناس كل الناس، ويعيش هموم المسلمين وأفراحهم، فهو عالمي الهم، عالمي الفرح يقول ابن عباس : إن فيّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلي لا أقاضي إليه أبدا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين موجودة في كل مجلة أو صحيفة أو كلمة، وهو من أبعد الناس عن أداء دور فعلي جاد، لمعاجلة أو تخفيف مصائب الآخرين الذين يحيطون به وهذا دليل بلادة وانحراف، بلادة في الحس، وانحراف في الفهم.
وأما أدب الدعاة عند الاختلاف: فالناس يختلفون في نظرتهم إلى أي أمر فكل يراه من ناحية، فكان اختلاف الأقوال، وارد وهذا أمر قديم ولا ينكره منصف عارف، ولكن الذي ننكره هو اختلاف القلوب بسبب اختلاف الأقوال.
وما ينبغي أن يعلمه كل داعية إلى الله تعالى على وجه الخصوص هو:
جواز تعدد الصواب: الرجلان اللذان فقدا الماء فتيمما وصليا ثم وجداه فقام أحدهما فتوضأ وأعاد واكتفى الآخر بالصلاة الأولى، فلما عادا إلى الرسول قال للذي أعاد: ((لك الأجر مرتين، وقال للآخر أصبت السنة)) ( [9] ).
إن هناك منكرا أصغر ومنكرا أكبر: وكل منكر أصغر إنما يستمد وجوده من المنكر الأكبر.
إنا دعاة لا قضاة: فالحكم على الناس بالكفر أو الإيمان من غير بينة أو إقرار أو أداء لواجب الدعوة مخالف لعقيدتنا يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: ((ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)).
أن نستشعر خطر العدو المشترك فالكفر ملة واحدة بل يد واحدة، اليهودية تلتقي مع الصليبية مع الشيوعية ضد إسلامنا والله تعالى يدعونا أن نتخذ من الكفار قدوة في موالاة بضعهم لبعض قال تعالى: والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير [الأنفال:73]. أما المنازعات والمهاترات التي تقطع حبائل المودة فهذه لن تزيدنا إلا ضياعا إلى ضياع وذلا إلى ذل.
وأما أسباب الاختلاف: فكثيرة منها:
سوء التقدير والموازنة بين الأصول والفروع: دخل الإمام البنا ورأى المصلين يتنازعون في صلاة والتراويح منهم المصر على صلاة عشرين للأثر الثابت عن عمر ومنهم المصر على صلاتها ثماني لفعل المصطفى ولما كان هذا الباب باب تطوع والزيادة فيه جائزة كما نص على ذلك الشوكاني في كتابه، نيل الأوطار، قال لهم الإمام البنا أرى أن تصلوا العشاء ثم تغلقوا المسجد وكل يصلي في بيته ما شاء، فقالوا له: ولم؟ قال: لأن صلاة التراويح كلها سنة وأخوتكم فريضة فلا تهدر الفريضة لأجل السنة.
فقدان العالمية: إسلامنا لا يعرف الإقليميات ولا الانتساب إلى الطيب ولا اختلاف الألسن والألوان وإنما هو دعوة عالمية لكل البشر قال تعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [الأعراف:158].
فقدان الشمولية: إسلامنا كل لا يتجزأ ولا يحل لأحد مهما كان له من علم أو دراية أن يقدم أو يؤخر أو يضخم جانبا على حساب جانب آخر قال تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا [البقرة:85].
الأهواء: ومداخل الشيطان إلى قلب العبد لا يقف حائلا دونها إلا التقوى فإهمال المتقادم في وجوده فيما نحث عليه المبتدئ من صلاة وصيام وذكر واستغفار ومجاهدة للحديث: ((إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس وإذا نسي التقم قلبه)) ( [10] ). وللحديث: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ( [11] ) - فضيقوا مجاريه بالجوع)) ( [12] ). وبغير هذه الرياض الروحية، يعرض العبد قلبه لسهام الشيطان، بل يزيده لجاجة وإضلالا، بتلبيسه حيث يوحي إليه بالقياس الفاسد ومعارضة النصوص بتأويلات ساقطة وحذلقة لا يقرها عاقل وصدق الله العظيم: وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا [الجاثية:9]. والحديث: ((إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)) ( [13] ).
( [1] ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.
( [2] ) النسائي.
( [3] ) رواه مسلم.
( [4] ) أصول الدعوة 446.
( [5] ) متفق عليه.
( [6] ) أسباب سعادة المسلمين للكاندهلوي بتصرف ص 59.
( [7] ) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
( [8] ) نزهة المتقين مجلد 2 ص 1176.
( [9] ) رواه أبو داود والنسائي.
( [10] ) أخرجه الحافظ الموصلي.
( [11] ) متفق عليه.
( [12] ) الزيادة رواها ابن أبي الدنيا.
( [13] ) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/408)
الداعية محمد صلى الله عليه وسلم
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, السيرة النبوية
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محمد خاتم الأنبياء. 2- تكريم الله لنبيه محمد. 3- اسمه وولادته وطفولته. 4- لماذا كانت
الرسل بشراً لا ملائكة 5- جوانب من حكمة الله الظاهرة في جعل رسله بشراً. 6- سمات
أتباعه عليه الصلاة والسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالا مبين [آل عمران:164].
لو أوكل الله البشرية إلى عقولها لضلت لكنها منة من الله ورحمة أن بعث إليها الأنبياء والرسل بعد أن أطلعهم على جانب من جوانب الغيب المحجوب فيما ينصلح به حال العباد والبلاد وجعل خاتم الأنبياء محمد.
فمن هو محمد وما مكانته؟ ولماذا اختاره الله من البشر؟ وكيف انتصر في دعوته؟ وما سمات أتباعه ؟
أما محمد : فهو رسول رب العالمين: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [الأعراف:158].
وخاتم الأنبياء والمرسلين: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين [الأحزاب:40].
وفي الحديث: ((إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي)) ( [1] ). والبشرية مدعوة للإيمان به للحديث: ((لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا حرم الله عليه الجنة)) ( [2] ).
وأما مكانته:
فإن الله تعالى جعل اسمه قرينا لاسمه سبحانه فقال: ورفعنا لك ذكرك قال مجاهد أي: (لا أذكر إلا ذكرت معي) ( [3] ). ومن مناجاة رسول الله لربه: ((يا رب، إنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد كرمته وجعلت إبراهيم خليلا وموسى كليما وسخرت لداود الجبال، ولسليمان الريح والشياطين وأحييت لعيسى الموتى فما جعلت لي؟ فقال: أوليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله إني لا أذكر إلا ذكرت معي )).
وأنه أخبر سبحانه أن أهل السماء يصلون على النبي ودعا أهل الأرض لذلك فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وصلاة الله معناها الرحمة، وصلاة الملائكة الدعاء وفي الحديث: ((ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة يوم القيامة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)) ( [4] ).
وما من نبي إلا ناداه رب العزة باسمه فقال: يا إبراهيم، يا يحيى، إلا محمد فكان النداء بلفظ الرسالة والنبوة: يا أيها الرسول ، يا أيها النبي.
وتأمل دعوة موسى عليه السلام: رب اشرح لي صدري وخطاب الله لرسوله : ألم نشرح لك صدرك.
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، اشتق اسمه من الحمد وأمه آمنة من الأمن، ومرضعته حليمة من الحلم، ولد في عام الفيل سنة 571م وكانت بعثته على سن الأربعين ووفاته على سن الثالثة والستين ومات أبوه عبد الله من العبودية لله وهو جنين في رحم أمه قال العلماء: حتى لا يقول أبي وإنما يقول ربي.
وأما لماذا اختاره الله من البشر؟ فقد كانت مطالب المشركين أن ينزل الله عليهم ملكا رسولا ولو بعث الله ملكا لما اتبعه أحد لأمور:
لأن الملائكة مخلوقة من نور ولا ترى إلا أن تتشكل بصورة إنسان وحينئذ يختلط الأمر عليهم أهو ملك أم بشر؟ قال سبحانه: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [الأنعام:9]. أي لاختلط الأمر عليهم.
ثم أن الملائكة خلقت للطاعة ليس لها شهوة ولا شهية ولا يحتاجون إلى نوم ولا طعام قال سبحانه: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك [البقرة:30]. لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون إذن سوف يجد كل إنسان الحجة في عدم اتباعهم لأنهم ملائكة يستطيعون ما لا يستطيعه البشر لذا كانت بعثة الأنبياء والرسل من البشر قال سبحانه: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم [يوسف:109]. وقال على لسان نبيه: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد [الكهف:110].
فلا حجة لأحد أمام الله تعالى أن يترك الدعوة والالتزام، لكبر سنه فرسول الله بعث على سن الأربعين وهاجر على سن الثالثة والخمسين وهو مطلوب حيا أو ميتا على جائزة قدرها مائة ناقة لمن يأتي به وينتقل إلى الرفيق الأعلى على سن الثالثة والستين بعد أن أرسى دعائم دولة الإسلام وبنى دعائمها.
وليس لأحد حجة أن يدع الطريق لأجل زوجة أو مال أو عيال فيجعل منهم عائقا بينه وبين الالتزام، فرسول الله كان له من النساء تسع، وكان له عيال فلم تكن عائقاً بينه وبين ربه، يقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: كنا إذا حمي الوطيس (الحرب) احتمينا برسول الله فكان أقربنا إلى العدو.
ولا حجة لأحد أن يدع الطريق بسبب إيذاء الناس له وسخريتهم به فرسول الله اتهم بالجنون والسحر والكذب، ووضعوا على ظهره سلا جزور وهو ساجد لربه ويحبس مع أصحابه في شعب أبي طالب ثلاث سنين لا يواكلونهم ولا يناكحونهم ولا يحادثونهم، حتى يشد رسول الله الحجر على بطنه من الجوع.
وأما كيف انتصر رسول الله في دعوته؟ فقد كان ذلك:
1- لأنه استعلى على مغريات الأرض كلها، فرجل العقيدة لا يباع ولا يشترى، جاءت قريش تسأل رسول الله : ((إن كنت تريد بهذا الأمر مالا جمعنا لك الأموال حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا فلا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا)) ( [5] ) ، فيقول لهم رسول الله كلمة هي قمة الاستعلاء على ركام الأرض ومتاعه ((والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه )). وأمتنا عاشت لفرجها وبطنها وعشقت الحياة أي حياة حتى ولو كانت تحت نعال اليهود أو النصارى أو الأراذل وصدق فينا قوله : ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الحياة وكراهية الموت)) ( [6] ).
2- انتصر رسول الله في دعوته لأنه كان معظما لربه ذاكرا له سبحانه يغضبه ما يغضب ربه ويرضيه ما يرضي ربه تقول عائشة: ((وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله)) ( [7] ).
وأما سمات اتباعه :
فينبغي أن تعلم أن الأتباع ليسوا سواءا في إيمانهم واتباعهم، يقول ابن تيميه رحمه الله: (عامة الناس معهم إيمان مجمل ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم تحصل شيئا فشيئا إذا أعطاهم الله ذلك، فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد، إذ ليس عندهم من قوة اليقين ما يقدمونه على المال والأهل) ( [8] ). فعلى هذا يكون الأدعياء كثيرون يقول ابن الجوزي رحمه الله: (ليس كل مصل بمتعبد، ولا كل صائم بزاهد، ولا كل مستمع بخاشع، أتنحر وما لك بعير؟ أتمد القوس وما لها وتر؟ أتتجشأ من غير شبع؟) ( [9] ).
ولكنها سمات لمن أراد الصدق في اتباعه :
الحب: ولن يبلغ الإيمان درجة الرضى إلا بالحب الكامل لرسول الله للحديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) ( [10] ) ، ولهذا الحب صور تدل عليه.
أ - أن يتجرد العبد المحب عن كل رأي أو حكم حتى ينظر قول الله ورسوله في الأمر قال تعالى لا تقدموا بين يدي الله ورسوله قال ابن عباس: (أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة) ( [11] ).
ب-أن يكون دائم الصلاة على رسول الله للحديث: ((أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)) ( [12] ). أي أحقهم بشفاعته وأقربهم مجلسا منه.
ج- أن تكون له غيرة أن ينال أحد رسول الله أو منهجه بالسوء، فهذا حبيب الأنصاري، الذي وقع بيد (مسيلمة الكذاب) وأخذ الكذاب يقطع من لحم حبيب قطعة قطعة، ولا يريد منه إلا أن يذكر اسم رسول الله بالسوء فيقول حبيب (لا أسمع) حتى لقي ربه، أبى حبيب أن يذكر اسم الحبيب بسوء فأي حب دون أعناق الرجال:
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
روحي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الطهر والكرم
الثبات: فليس بالهزيل الذي تعبث به الأهواء وآراء الرجال وتيار الكثرة، والبلاء والشدة لابد منها للمحب الصادق للحديث: ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)) ( [13] ) ، يقول ابن الجوزي رحمه الله: (لا تنظروا إلى جولة الباطل، وارتقبوا دولة الحق، إذا رأيت منافقا قد تبع فتذكر الدجال غدا والسامري بالأمس وانتظر للسامري لا مساس، وللدجال باب لُدْ) (لد:مدينة في فلسطين يذبح عندها المسيح عليه السلام الدجال).
3 -الدعوة: فليس بالمنعزل عن مجتمعه، تاركا الساحة لأعداء الله يعبثون بها، مر رجل من الأصحاب بشعب (أي شق في جبل) فيه عين ماء عذبة، فأعجبته لطيبها، فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله ، فذكر ذلك لرسول الله فقال: (( لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما ألا تحبون أن يغفر الله لكم)) ( [14] ).
والدعوة سمة بارزة قال تعالى: قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ؤ [يوسف:108].
4- الوعي: رحم الله عمر إذ يقول: (لست بالخب (أي المخادع) ولا الخب يخدعني). فلا ينبغي أن يكون أتباع رسول الله سذجا أو أغبياء وتنطلي عليهم خدع يهود أو نصارى، ومن السذاجة بمكان أن يظن أن أعداء الله سذجا فتدخل معهم في تحالفات، وجسور وتعلن أن الهيمنة للإسلام، وتنسى أنه لا وزن للحق من غير قوة تحميه، ورجال يذودون عنه، وكم يحزن المتأمل في واقع الصف المسلم وهو يراه مهلهلا، وتتنازعه الأهواء، وآراء الرجال، في وقت يتحدثون فيه عن التحالفات والجسور، نقول: أليس الصف المسلم أولى بهذه التحالفات بين أفراده وشلله وإقامة جسور بينهم؟ وألا نكون جسرا لأعداء الله يمرون فوقنا إلى مآربهم ومصالحهم فليت قومي يعلمون.
( [1] ) رواه أحمد.
( [2] ) رواه أحمد ومسلم.
( [3] ) مختصر ابن كثير مجلد 3 ص 652.
( [4] ) رواه الترمذي.
( [5] ) سيرة ابن هشام 1/150.
( [6] ) رواه أحمد.
( [7] ) متفق عليه.
( [8] ) فتح المجيد ص 344.
( [9] ) اللطائف لابن الجوزي ص 72.
( [10] ) متفق عليه.
( [11] ) مختصر ابن كثير مجلد 3 ص 357.
( [12] ) قال الترمذي : حديث حسن.
( [13] ) رواه الترمذي.
( [14] ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/409)
أحكام المولود
الأسرة والمجتمع, فقه
الأبناء, الذبائح والأطعمة
علي بن يحيى الحدادي
الرياض
جامع عائشة بنت أبي بكر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هبة الله علينا في أولادنا 2- عدم البشارة بالأنثى من صنيع الجاهلية 3- أحام الرضاع
4- أحكام العقيقه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن المولود نعمة من الله يمن بها على من يشاء من عباده... وإنما يقدرها قدرها من فقدها، كغيرها من النعم...
يقول المولى – عز وجل -: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون.
وهذه المنة تشمل الهبة بالذكر والأنثى قال سبحانه وتعالى: يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور.
وقد اعتنى الإسلام بأمر المولود اعتناء عظيما.. ورعاه رعاية فائقة.. تضمن له مصالحه فقرر الأحكام العظيمة.. وشرع الشرائع المبينة.. التي جاءت شاملة كاملة خالية عن الظلم والحيف.. منزهة عن التلطخ بأنجاس الشرك والوثنية التي كان قد ابتلى بها العرب قبل الإسلام.
وسنعرض لبعضها بشيء من الاختصار.
إخوة الإسلام: إن الفرحة بالمولود أمر فطري؛ لأن الأب والأم يشعران بأنه امتداد لهما، وحفظ لذكرهما، ولكن من عادات الجاهلية تخصيص الذكر بالفرحة وأما يوم البشارة بالأنثى فهو يوم بؤس وتعس، فترى الرجل إذا بُشِّرَ بالأنثى اسود وجهه... وعلاه العرق... وطأطأ رأسه إذا كان في ملأ.. وتحين الفرصة للفرار من المجلس.. وإن لم يكن في نادي قومه.. توارى عنهم ولم يطق الخروج إليهم... ثم أخذ يفكر هل يبقيها مع الذلة والهوان.. أم يقتلها ويودعها التراب كما قال الله عنهم: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون. بل كانوا في الجاهلية يهنئون بولادة الذكر وبموت الأنثى – والعياذ بالله – فمحى الإسلام هذه العادة الجاهلية، وقرر أن كلا من الذكر والأنثى هبة وعطية من الله سبحانه.. وأن الأنثى قد يكون فيها من الخير والبركة ما ليس في الذكر.. بل خص الله أكثر الأنبياء بالبنات، حتى قال الإمام أحمد: ((الأنبياء آباء لعلات)).
وقال سبحانه وتعالى في النساء: فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً.
فعلى العبد أن يتقي الله... ويرضى بما كتب الله.. وأن يطهر قلبه من أدران الجاهلية وأوساخها.
وإذا ولد المولود فقد أرشد الإسلام إلى ضرورة رضاع أمه له... فقال سبحانه وتعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وظاهر أن الحولين يبدءان من يوم الولادة، بل قال الفقهاء: إن الأم إذا كان قد وجب عليها القتل في حد أو قصاص فإنها لا تقتل حتى ترضع ولدها اللبأ وهو أول الحليب الذي يخرج من ثديها بعد الوضع، ثم إن وجد من ترضعه سلم لها، وإن لم يوجد أخر عنها القتل حتى تتم الرضاعة.
وقد دلت الأبحاث المعاصرة على أهميته جسديا ونفسيا في طفولة المولود وفي مستقبله بعد ذلك.
ومع دلالة النصوص الشرعية والدراسات الطبية على ضرورته نرى عزوف كثير من الأمهات عن الرضاعة الطبيعية استغناءا بالرضاعة الصناعية التي أثبتت الدراسات خطرها يوما بعد يوم حتى اعتبرها بعض الباحثين قتلا بطيئا للمواليد...
فإذا كان يوم سابعه من غير يوم الولادة فلا يعتد به إلا أن يولد قبل الفجر، شرعت العقيقة، لحديث سمرة: (( الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويسمى)).
ولا ينبغي لمن قدر عليها أن يتركها... لقوله – -: ((الغلام مرتهن بعقيقته)).
وقد عق النبي – - عن الحسن وعن الحسين.. فثبتت سنيتها بقول النبي – - وفعله.. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من صغار التابعين: ((أدركت الناس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية )).
وأما عن وقت العقيقة فقد تقدم أن الأفضل في اليوم السابع للحديث في ذلك.. وما بعد ذلك فليس فيه توقيت عن النبي – - فيما أعلم.. وإنما يروي عن بعض الصحابة كعائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: ((سبعة أيام وأربعة عشر ولأحد وعشرين)).
يقول ابن القيم – رحمه الله -: ((والظاهر أن التقييد بذلك استحباب وإلا فلو ذبح عنه في الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده أجزأت)).
أيها الإخوة في الله: والذبح عن المولود أفضل من التصدق بثمن العقيقة لما فيها من الاقتداء وإحياء سنة المصطفى.
سأل صالح أباه الإمام أحمد: عن الرجل يولد له ولد وليس لديه مال، أيقترض؟ فقال: ((إني لأرجوا إن استقرض أن يعجل الله الخلف.. لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله – - واتبع ما جاء عنه )).
وأما مقدارها: فعن أم كرز – رضي الله عنها – أنها سألت رسول الله – - عن العقيقة. فقال: (( عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة. لا يضركم أذكرانا كن أم اناثا )) ، رواه الترمذي وصححه.
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: أمرنا عليه الصلاة والسلام: ((أن نَعُقَّ عن الغلام بشاتين وعن الجارية شاة )) ، رواه أحمد وغيره.
وهذه قاعدة من قواعد الشريعة، فإن الله سبحانه فاضل بين الذكر والأنثى، وجعل الأنثى على النصف من الذكر في المواريث والديات والشهادات والعتق والعقيقة..
وذلك لفضل جنس الذكور على الإناث، كما قال سبحانه وتعالى: وليس الذكر كالانثى.
فقبح الله الذين يدعون إلى المساواة المطلقة بين الذكر والأنثى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ،أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن أحكام العقيقة: جواز كسر عظامها بعد ذبحها ،فإنه لم يصح في المنع من ذلك ولا في كراهته سنة يجب العمل بمقتضاها. وقد جرت العادة بكسر عظام اللحم.. وفي ذلك مصلحة أكله، وتمام الانتفاع به. وأما السن المعتبرة في العقيقة فقد أجمع العلماء أنه لا يجزي فيها إلا ما يجزي في الاضاحي.
وقرر ابن القيم – رحمه الله – أنه لا يجوز الاشتراك في العقيقة، فلو ذبح جزور عن سبع لم يصح ؛لأن العقيقة نفس فداء نفس.
ويجوز أن تذبح العقيقة من الإبل والبقر والغنم.
ويجوز في العقيقة الاأل والاهداء، ولا بأس باجتماع الناس فيها، لعدم النهي عن ذلك.
ونختم الحديث عن العقيقة بذكر بعض حكمها وفوائدها مما ذكره الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى:
أولا: في ذبحها إحياء للسنة وإظهارا لها، وكفى بها فائدة وفضيلة.
ثانيا: أنه قربان يقرب به عن المولود في أول أوقات خروجه إلى الدنيا، والمولود ينتفع بذلك غاية الإنتفاع كما ينتفع بالدعاء له.
ثالثا: أنها فدية يفدي بها المولود، كما فدى الله سبحانه إسماعيل الذبيح بالكبش.
رابعا: غير مستبعد في حكمة الله في شرعه وقدره أن تكون سببا لحسن إثبات الولد، ودوام سلامته وطول حياته في حفظه من ضرر الشيطان.
خامسا: فيها معنى القربان والشكران والفداء والصدقة وإطعام الطعام عند حوادث السرور العظام؛ شكرا لله، وإظهارا لنعمته التي هي غاية المقصود من النكاح.
فلا أحسن ولا أحلى في القلوب من مثل هذه الشريعة في المولود، فإنها إظهار للفرح والسرور بإقامة شرائع الإسلام، وخروج نسمة يكاثر بها رسول الله – - الأمم يوم القيامة تعبدا لله، وإرغاما لعدوه.
معاشر المؤمنين: صلوا وسلموا...
(1/410)
سر التوحيد وحقيقته (1)
التوحيد
الألوهية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
سر التوحيد وحقيقته هو الإسلام لله وحده والتسليم له وحده – معنى الاستعانة الافتقار والحاجة
إلى الله – مقام إياك نعبد وإياك نستعين وفضل تحقيقه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد.. فإن الإسلام هو الاستسلام لله وحده والإيمان هو التسليم لله وحده، وهذا هو سر التوحيد هذا هو معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، لأنه إذا تحقق استسلامك لله وحده فأسلمت له وجهك وقلبك وجوارحك وإذا تحقق تسليمك لله وحده فخضعت لما قضى من حكم وقدر، ولما أنزل من أمر ونهى راضيًا بذلك منشرح الصدر فقد وصلت إلى سر التوحيد، وحينئذ تكون كل أمورك وأحوالك وحركاتك وسكناتك مرتبطة بهذا الاستسلام وهذا التسليم صادرة عنهما صلاتك ونسكك ومحياك ومماتك كل ذلك لله وحده، استعانتك وعبادتك كل ذلك لله وحده.
هذان يجمعان كل شيء الاستعانة والعبادة يجمعان كل شيء، والاستعانة معناها الافتقار والحاجة لله سبحانه وتعالى فمهما كنت مفتقرًا إليه محتاجًا إليه فعليك إذن أن تعلق كل حاجاتك على بابه وأن يكون لجوؤك وعياذك إلى جنابه وأن يكون توجهك له وحده وأن يكون ذُلّك وخضوعك له وحده وأن يكون تعلق قلبك به سبحانه وحده، وهو جواد كريم بحار جوده وكرمه وملكه لا تنفد لو اجتمع الخلائق أجمعون جنهم وإنسهم وأولهم وآخرهم وسأل كل واحد منهم مسألة فأعطاه سبحانه مسألته ما نقص ذلك من ملكه شيئًا.
ومن جوده وكرمه سبحانه أنه يرزق المسلم والكافر ويعطي البر والفاجر، أولئك الكفرة يجحدونه ويرزقهم، وهؤلاء الفجرة يعصونه ويحنو عليهم والكل يغترف من بحار جوده وكرمه. أما أنت يا مؤمن وقد أسلمت وجهك وقلبك وجوارحك لله وحده فاحرص أن تجمع إلى ذلك توحيده سبحانه وحده في عبادتك.
فهو وحده لا غيره الذي تصرف إليه خوفك كما تصرف إليه رجاءك وتصرف إليه ذُلّك وخضوعك وركوعك وسجودك، وحبك وتعظيمك كما تصرف إليه استعاذتك وسؤالك ودعاءك إذا حققت ذلك كله بشقيه الاستعانة والعبادة فاعلم أنك وصلت إلى سر التوحيد. وأنك كلما أوغلت في هذه الطريق ازددت قربًا من المحبوب وارتفعت درجتك عند المليك المقتدر.
وعلامة ذلك يا مؤمن علامة ذلك يا محسن أنك حينذاك لا تلتفت إلى أحد من الخلق، ما حاجتك إلى باب المخلوق وقد ولجت باب الخالق، كيف تلجأ إلى جناب المملوك وأنت في جناب المالك. ولماذا تعبأ بسلطان الضعيف الذي خُلق من ضعف وأنت في رعاية القوى القادر الكبير المتعال سبحانه وتعالى ، إذن أنت مؤمن حققت سر التوحيد في استعانتك وفي عبادتك فأنت علمت علم اليقين حينئذ أن الخلق كلهم لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك كما أنهم لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك.
فإذن يا مؤمن احرص على تحقيق سر التوحيد ولا تعبأ بعد ذلك بالعبيد.
واحرص على أن تكون من أهل إياك نعبد وإياك نستعين، احرص على أن تكون من أهل هذا المقام العظيم، مقام إياك نعبد وإياك نستعين فإنه مقام عظيم وكلما أمعنت صعودًا إلى هذا المقام ازددت قربًا إلى الملك العلام حتى إذا ما حظيت بغاية القرب وفاضت عليك نفحاته الربانية وغمرك نوره الكريم فإذا بك حينئذ وكل حركاتك وسكناتك وأقوالك وأفعالك نورانية فإن نوره الكريم سبحانه وتعالى يغمر يدك التي تبطش بها حينئذ ورجلك التي تمشي عليها وسمعك الذي تسمع به وبصرك الذي تبصر به ولئن استعذته حينئذ ليعيذنك ولئن سألته ليعطينك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فكما جرت عادتنا والحمد لله على أن نعالج في هذه الخطبة الثانية قضية من القضايا الحاضرة المتعلقة بحياتنا المعاصرة ومجتمعاتنا نحن المسلمين نطرح منذ اليوم بعض أهم قضايا التعلم والتربية انطلاقاً من قوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك [محمد:19]. فقد أمر تعالى في هذه الآية بالعلم والعمل وبالتربية.
العلم في قوله تعالى: اعلم والعمل والتربية في قوله تعالى: استغفر.
ونبدأ من قضايا التعلم والتربية بأولادنا وفلذات أكبادنا التي تمشي على الأرض قبل أن نسأل ماذا صنع الكبار وماذا يتعلم الكبار فلنسأل أنفسنا جميعًا ماذا صُنع بالصغار؟ يا مسلم هل علمت أولادك؟ وماذا علمتهم؟
هذا النشئ الطري العود صفحة بيضاء ناصعة لم تكدرها الشوائب بعد. فماذا نقشت فيها يا مسلم؟ وإن كنت نائمًا فماذا نقش فيها غيرك؟ هل تذهب تبحث عن النجاة لنفسك وتترك أهلك وأولادك والله تعالى يقول: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها [طه:132] ويقول: قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة [التحريم:6].
من الظواهر السيئة في مجتمعاتنا نحن المسلمين اليوم أن كثيرًا من الناس يكدون ويكدحون ليملئوا بطون أبنائهم وبناتهم وذويهم وقد تركوا عقولهم وقلوبهم ونفوسهم خاوية أو تركوها نهبة للناهبين الذين يفسدون العقول والقلوب ويخربون النفوس وما أكثرهم اليوم وما أخبث أساليبهم ووسائلهم ومخططاتهم رب الأسرة يحسب كل حساباته لتلبية المتطلبات المادية والجسمانية سواء لنفسه أو لأهله أو لأولاده وذويه، ناسيًا أو متناسيًا أن هناك متطلبات أخرى أهم من ذلك. أنت يا رب الأسرة لا تربي بقرًا بل تربي بشرًا فكيف تنسى أن تعلم أهلك وأولادك حب الله ورسوله؟
كيف تنسى أن تعرفهم بالرب جل جلاله؟ كيف تنسى أن تربيهم على روح التقوى؟
لا تخشى كثيرًا على مسألة الرزق، لا تخش على هذه المسألة كثيرًا فإنك إذا اتقيت الله عز وجل وعلمت أهلك وأولادك التقوى ففي السماء رزقك وما توعد، وفي السماء رزقكم وما توعدون [الذاريات:22]. اجعل معظم حساباتك لتعليم أولادك وأهلك الإسلام ولتعريفهم بالرب عز وجل ولتربيتهم على حب الله ورسوله، ولتربيتهم على التقوى فإن العواقب مرهونة بذلك.
قال تعالى: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقًا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [طه:132].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان، ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين عليَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/411)
المسؤولية
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مسؤولية الإنسان عن عمله فرع عن إدراكه ووعيه. 2- تسقط مسؤولية الإنسان عن فعله
في أحوال. 3- ما عدا هذه الأحوال فكل مسؤول عن فعله وقوله. 4- قد تتسع المسؤولية فيكون
مسؤولاً عن فعل غيره. 5- أنواع المسؤولية:
أ- مسؤولية القدوة والمنصب. ب- مسؤولية الكلمة. ج- مسؤولية العهد.
_________
الخطبة الأولى
_________
وقفوهم إنهم مسئولون مالكم لا تنصرون (1/412)
الحذر
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحذر في اللغة والاصطلاح. 2- الأمر بالحذر في الكتاب والسنة. 3- لا يغني حذر من
قدر. 4- الحذر من أعداء الدين وأذنابهم. 5- أنواع الحذر. 6- وسائل في أخذ الحذر.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول رب العزة سبحانه: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63]. طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة لله تعالى، ومعصية الرسول عليه الصلاة والسلام معصية له تعالى، وفي الآية تحذير من الله عز وجل للأمة من أن تعصي رسولها عليه الصلاة والسلام، لأن في معصية رسول الله فتنة وعذاب، فتنة في القلوب بالكفر والنفاق، وعذاب في الدنيا والآخرة.
فما الحذر؟ ولماذا؟ وما أنواعه؟ وما وسائل الحذر في إسلامنا؟
أما الحذر لغة: فهو اليقظة والتأهب.
اصطلاحا: هو أخذ الحيطة للأمر قبل وقوع المكروه.
وينبغي أن تعلم :
أن الحذر ثابت في الكتاب وثابت في السنة، ثابت في الكتاب قول رب العزة سبحانه: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا [النساء:71]. وفي السنة فعل النبي عليه الصلاة والسلام، عندما أراد الهجرة جاء إلى دار أبي بكر في الهاجرة، أي في وقت الظهيرة، ولما دخل دار أبي بكر قال: ((أخرج عني من عندك، فقال أبو بكر: إنما هما ابنتاي، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله أذن لي في الخروج والهجرة)) ، وهذا يدل على حذر النبي عليه الصلاة والسلام، في الزمان وفي المكان، مجيئه وقت الهاجرة وقت الظهيرة، حيث سكون الحركة، واطمئنان النبي عليه الصلاة والسلام أن المكان آمن بقوله: ((أخرج عني من عندك)) ( [1] ).
وينبغي أن تعلم أن الحذر من صفات المؤمنين، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن كيس فطن)) يقول عمر بن الخطاب : (لست بالخب ولا الخب يخدعني)، لست بالخب أي المخادع، ولا يستطيع مخادع أن يخدعني.
ينبغي أن تعلم أيضا أنه لا ينبغي للمؤمن أن يكون ساذجا، لا يعتبر بالأحداث تدور حوله، فإذا ما خانك إنسان فلا ينبغي أن تثق به مرة أخرى، فتلك هي السذاجة، وإذا ما جربت فساد أمر فلا ينبغي أن تعود مرة ثانية وتجرب التجربة مرة أخرى، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)) ( [2] ).
وينبغي أن تعلم أيضا أنه لا يغني حذر من قدر، مشيئة الله نافذة، وعند البلاء ينبغي أن تعلم أنك المقصود فيه، فإذا نجوت فإنما تنجو بقدر الله عز وجل، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك)) ( [3] ). لذا يعلمنا رسول الله عليه الصلاة والسلام عند البلاء أن لا نكثر من اللوم لأنفسنا بل أن نرضى بقضاء الله، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((فإن أصاب أحدكم شيئا فلا يقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)) ( [4] ).
وأما لماذا الحذر؟
فلابد من الحذر، لأن أعداء الله تعالى حريصون على إبادة هذا الدين وأهله، يرفعون لواء وشعار: "دمروا الإسلام أبيدوا أهله"، وهم لا يتحرجون من أن يستخدموا أي أسلوب لتحقيق هدفهم قط بالقتل، قال تعالى حكاية عن فرعون: ذروني أقتل موسى وليدع ربه [غافر:26] بالإخراج والنفي عن البلاد: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [الأعراف:82]. جريمة لوط عليه السلام أنه كان عفيفا، والعفيف لابد أن يخرج من البلاد، فالبلاد أرض الأرجاس فقط، ثم بالسخرية أيضا: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين [المطففين :28-31]. أو أن يلبس المفسدون ثوب الإصلاح: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون [البقرة:11-12].
ولابد من الحذر أيضا، لماذا؟ لأن الناس ليسوا سواء، فمن الناس الوفي ومنهم الغادر، ومنهم الطيب ومنهم الخبيث، ومنهم الصالح ومنهم الطالح، إن من النفوس نفوسا تبلغ في خستها أنها لا تنتقم إلا ممن يحسن إليها ويتفضل، يذكر لنا من سبقنا علما وفضلا في حادثة جرت أن رجلا ارتكب جرما، فأوى إلى بيت كرام فآووه، ورب الدار يطعمه ويسقيه ويكرمه في بيته شهورا طويلة حتى هدأت العيون وسكت الناس عن طلبه، بعد هذا يقوم الجاني فيقتل رب الدار، يقتل رب الدار الذي أحسن إليه، يسأله الناس بعد ذلك: لم فعلت هذا؟! فقد أحسن إليك كل الإحسان! فيقول لهم: إني كلما نظرت إليه تذكرت إحسانه علي، فيضيق صدري، فأردت أن أقتله حتى أستريح، نفوس كنفوس الوحش من الحيوان.
ذكر أن امرأة رأت جرو ذئب فكانت ترضعه من شاة عندها، لما كبر الذئب قام إلى الشاة فقتلها وأكلها وهرب، عادت العجوز تقول:
بقرت شويهتي وفجعت قلبي وكنت لها ابن ربيب
غذيت بدرها وعشت معها فمن أدراك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع ذئب فلا أدب يفيد ولا أديب
وأيضا لابد من الحذر، لأن من الناس من يعيشون على هفوات الآخرين وأخطائهم، بل قل يعيشون على كلمة الحق إذا قيلت، فيكتبون ويتجسسون والتجسس لا يكون في محيط المسلمين، ولا يكون إلا على أعداء الله عز وجل، ورب العزة يقول: ولا تجسسوا [الحجرات:12]. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة نمام)) ( [5] ) ، وهو الذي ينقل الحديث حتى يوقع الأذى بمن يريد، مر النبي عليه الصلاة والسلام على قبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يتنزه من البول)) أي لا يتحفظ من بوله ( [6] ).
وقد جاء في الأثر: ((لا تقوم الساعة حتى لا يأمن فيه المرء جليسه)).
وأما أنواع الحذر:
أولا: فأول الحذر حذر العبد من ذنوبه، إن للحسنة خيرا وبركة كما أن للسيئة غضبا من الله ولعنة، لقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد)) ( [7] ) ، وعلى العبد أن يحذر الذنب وأثر الذنب بعد ذلك، على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة.
على مستوى الفرد يقول رب العزة سبحانه: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفس محمد بيده ما يصيب العبد من خدش عود أو اختلاع عرق أو نكبة بحجر أو عثرة بقدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر)) ( [8] )
ب – وعلى مستوى الأمة، هلاك الأمة بمعاصيها يكون، وصدق الله العظيم: فأهلكناهم بذنوبهم [الشورى:30]. عندما فتح المسلمون قبرص وسبي أهلها، بكى أبو الدرداء ، قيل له: أتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ؟! قال: (دعك من هذا، إنما أبكي لهوان الخلق على الله، فبينما هي أمة قاهرة قادرة، إذ عصت أمر ربها فصارت إلى ما ترى).
ثانيا: ومن الحذر أن يحذر العبد إمهال الله واستدراجه: إن من أسماء الله الحليم، كما أن من أسماء الله الصبور، كما أن من أسماء الله المنتقم، من حلم الله عز وجل أنه لا يعجل العقوبة للظالم أو لغيره، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ( [9] ) ، ليملي، يمد للظالم في ظلمه.
بل إن الله عز وجل ينعم على العاصي حتى يوغل في المعصية، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه فاعلم أنه استدراج)) ، ثم تلى قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( [10] ).
ثالثا: ومن الحذر، حذر العبد من نفسه، وصف رب العزة النفس فقال: إن النفس لأمارة بالسوء [يوسف:53]، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)) ( [11] ) ، ما تكرهه النفس من بذل وعطاء وجهاد هو الطريق إلى الجنة، وما ترغبه النفس من فحش وحرام هو السبيل إلى النار، وعلى العبد أن يحذر نفسه في حال ضعفها أو قوتها، ففي حال ضعفها أن لا يسيء الظن بالله عز وجل فلا يأس مع الله: ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون [يوسف:87]. وفي حال قوتها: ((إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك)) ، رأى النبي عليه الصلاة والسلام أبا مسعود وهو يضرب غلاما عنده، قال عليه الصلاة والسلام مغضبا: ((اتقِ من هو أقدر عليك منك عليه))، يقول: فالتفت فإذا رسول الله غاضب، فقلت: هو حر لوجه الله يا رسول الله، قال: ((والله لو لم تقلها لمستك النار)) ( [12] ). أصحاب النفوس العلية الكريمة إذا وسّع الله عليهم لم يزدادوا إلا تواضعا وذلة لله وللمؤمنين، عمر بن الخطاب على جلالة قدره، ويدمر رب العزة دولة كسرى وفارس تحت قدمه، ويحكم ثلث العالم في وقته، وقف على المنبر والناس عند قدمه، فتعجبه نفسه فيقول – مخاطبا لنفسه -: (لقد كنت تسمى عميرا، ولقد كنت ترعى غنميات لآل الخطاب، على تمرات تأكلها وتسد بها جوعتك، ثم أصبحت تسمى عمرا، ثم أصبح يقال لك: أمير المؤمنين)، ثم ترك المنبر ونزل، سأله الناس، لماذا قلت هذا يا أمير المؤمنين ؟! قال: (أعجبتني نفسي فأردت أن أذلها)، إن الذين تفاجئهم النعمة، ولم يكن عندهم من الدين ما يحفظ لهم تماسك عقولهم وإيمانهم، طغوا وتكبروا واستكبروا ونظروا إلى الخلق نظر احتقار وسخرية واستهزاء، يريد من الناس أن يحترموه ولا يحترم، يريد من الناس أن يقدروه ولا يقدر، نفوس وضيعة لفقدانها الحذر من هذا الأمر.
رابعا: ومن الحذر أيضا حذر العبد من أهله: من أن يحولوا بينه وبين طاعة الله أو الجهاد، كان عبد الرحمن بن مالك الأشجعي كلما أراد الجهاد قامت إليه زوجته وولده يقولون له: إلى من تتركنا، كيف لو قتلت، ماذا نفعل بالحياة من بعدك؟ فيرق لحالهم ويجلس ولا يجاهد، فأنزل رب العزة قوله: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم [التغابن:14]. عدوا لكم يفعلون فعل العدو في أن يحولوا بينكم وبين طاعة الله سبحانه، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [المنافقون:9]. وليكن واضحا في ذهنك كيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة؟ يقول رب العزة سبحانه: يوم يفر المرء من أخيه (1/413)
التساهل بالصغائر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن علي السعوي
بريدة
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر 2- النظر الحرام وعبادة غض البصر 3- الخلوة
والاختلاط بالنساء الأجنبيات 4- التحذير من صحبة المُردان 5- التنابز بالألقاب وهجر المسلم
من الصغائر التي يجب الإقلاع عنها 6- إذا اجتمعت الصغائر على صاحبها أهلكته
7- آثار الذنوب على القلب 8- مكفّرات الذنوب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له، واعلموا ان الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه.
معشر المسلمين: كثير من الناس يتساهل بصغائر الذنوب ويصر عليها، وفي ذلك من الخطر والضرر ما يحمل المسلم والمسلمة على أن يأخذ حذره من سلوك الخاسرين.
إن حديثي إليكم في هذا المقام يتضمن خطر التساهل بصغائر الذنوب والمعاصي فضلا عن كبائرها، أما الكبائر فأمرها واضح، فلقد رتب الله عليها الحد في الدنيا أو الوعيد في الآخرة، عياذا بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (ومن أراد الوقوف على ما ورد في حقيقة الكبائر وفي عددها وما ترتب عليها، فعليه بكتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر، فإنه قد جمع فأوعى).
أيها المسلمون: ذهب بعض أهل العلم إلى أن الذنوب كلها كبائر، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الذنوب قسمان كبائر وصغائر، حيث قد جاء التفريق في القرآن الكريم بين الذنوب، قال تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [النساء:31]. وقال سبحانه: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم [النجم:32]. وقال النبي – -: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر)) [1]. فالذي بينهن هي الصغائر، فلقد أفادت هذه النصوص وغيرها، أن في الذنوب صغائر وهي المعبر عنها بالسيئات والعصيان واللمم، وسميت أيضا في الحديث بمحقرات الذنوب، وهي ما قل وصغر من الذنوب، ولا يسلم منها أحد إلا من سلمه الله وعافاه، قال النبي – -: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)).
معشر المسلمين: من الصغائر التي يتساهل بها الناس النظر إلى النساء الأجنبيات والشباب المردان سواء عن طريق مباشر كوجه لوجه، أو من وراء شق أو منظار أو عن طريق الصور الثابتة في المجلات ونحوها، أو الصور المتحركة في الأفلام، ولقد أمر الله تعالى المؤمنين والمؤمنات بالغض من أبصارهم، ذلك أن النظر هو المدخل الأساسي لتسرب الشهوة إلى النفس وطغيانها، فالغض من البصر يساعد على العفة وحفظ الفرج، قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن.. [النور:31]. سئل الإمام أحمد – رحمه الله – عن رجل قال بأنه ترك المعاصي وتاب وقال: لو ضرب بالسياط ما دخل في معصية أبدا غير أنه لا يدع النظر، فقال :أي توبة هذه؟. فالنظرة بشهوة سبب للفتنة وإشغال القلب، فاتق الله أيها المسلم وراقب الله، فإنه مطلع عليك، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قيل لبعض السلف: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى من نظرت إليه، ولقد كان الربيع ابن خثيم – رحمه الله – من شدة غضه لبصره وإطراقه يظن أنه أعمى، ولقد طرق الباب يوما على صاحب له فخرجت له الجارية، ثم رجعت إلى سيدها، وقالت إن بالباب صاحبك الأعمى، ومر يوما على عصبة من النساء، فقالت واحدة منهن انظرن إلى هذا الأعمى كفانا الله شر العمى وليس بأعمى إلا عن الفتنة والباطل، وامتثل قول الله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم [النور:30].
ومن صغائر الذنوب الخلوة والاختلاط بالنساء الأجنبيات كما قد يحصل في المحلات التجارية التي تحتوي على ملابس النساء والأطفال ومحلات الخياطة النسائية ومسلتزماتها أو في البيوت بين بعض الأقارب من غير المحارم، أو بين الخدم والسائقين في البيوت والسيارات، أو الحدائق والمجامع العامة التي يبدوا فيها من النساء السفور والتبرج، وكذلك ما يحصل في المستشفيات والمستوصفات من خلو الطبيب أو الممرض أو الموظف بالطبيبة أو الممرضة أو المرافقة، وقد قال النبي – -: ((إياكم والدخول على النساء..)) [2]. وقال: ((ما خلا رجل بامرأة ألا كان الشيطان ثالثهما..)) وكذلك الخلوة والاختلاط بالشباب المردان، وخاصة – حسان الوجوه، وذلك أن الأمرد مظنة الفتنة، ولقد بالغ الصالحون في الإعراض عن المردان وعن النظر إليهم وعن مخاطبتهم ومجالستهم.
قال الحسن بن ذكوان – رحمه الله -: لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإن لهم صورا كصور العذارى، وهم أشد فتنة من النساء، وذلك لتمكن الإجتماع بهم ما لا يمكن في حق النساء.
أيها المسلم: احذر ممازحة المردان لئلا تتهم بالسوء، جاء رجل إلى الإمام أحمد – رحمه الله – ومعه صبي – حسن الوجه، فقال من هذا منك؟ قال: ابن أختي، قال: لا تجئ به إلينا مرة أخرى، ولا تمش معه في طريق، لئلا يظن بك من لا يعرفك ولا يعرفه سوء، وقال سعيد بن المسيب – رحمه الله -: إذا رأيتم الرجل يحد النظر إلى الغلام الأمرد فاتهموه. ولقد ذكر أن معلماً لديه بعض الطلاب في المسجد، فكانوا يقومون واحدا تلو الآخر حينما يفرغون من تسميعهم، حتى لم يبق منهم إلا إثنان، فهم أحدهما بالقيام فأخذ بثوبه وقال: اجلس حتى يفرغ فلان، وذلك خشية من وسوسة الشيطان حين الخلوة، فاحذروا أيها الشباب من التساهل في هذا الأمر، وابتعدوا عن كل وسيلة تؤدي إلى حصول الفتنة.
أيها المسلمون: ومن الصغائر السب دون القذف كالتنابز بالألقاب، وكذلك الأشراف على بيوت الناس والتجسس على أحوالهم وأخبارهم، وكذلك هجر المسلم فوق ثلاث، والأكل بالشمال من غير حاجة، وغير ذلك مما لا يترتب عليه حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة.
أيها المسلمون: ولا يعني كون هذه الذنوب صغائر أنها سهلة وهينة، كلا بل إن المعاصي كلها سبب للضلال والعقوبة والعذاب، قال تعالى: ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً [الأحزاب:36].
وقال عز وجل: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً [الجن:33]. قال بلال بن سعد – رحمه الله -: ((لا تنظر إلى صغر الخطيئة أو المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت)) [3]. وقال علي بن أبي طالب لإبنه الحسن – رضي الله عنهما -: ((يا بني احذر من أن يراك الله عند معصية، ويفقدك عند طاعة فتكون من الخاسرين)) وقال النبي – : ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وذا بعود، حتى حملوا ما انضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)) [4]. وعن أنس – - قال: ((إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله – - من الموبقات)) [5]. قال: يعني بذلك المهلكات، وقال النبي – : ((إن المؤمن إذا أذنب نكتت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع وأستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت، فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [المطففين:14] )).
وقال النبي – -: ((لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة، فيجعلها الله – عز وجل – هباءا منثورا، أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، يأخذون من الليل ما تأخذون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) [6].
فعلينا معشر المسلمين أن نتقي الله تعالى ونذر ظاهر الإثم وباطنه قال تعالى: إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون [الأنعام:120]. نسال الله تعالى أن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأن يجنبنا سبيل الذين طبع على قلوبهم واتبعوا أهواءهم، الذين سول لهم الشيطان وأملى لهم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[2] رواه البخاري ومسلم.
[3] الجواب الكافي :46.
[4] رواه الامام احمد ج1 ص402 من حديث ابن مسعود.
[5] رواه البخاري.
[6] رواه ابن ماجة.
[7] رواه أحمد:5/238.
[8] رواه مسلم.
[9] تحفة الواعظ: ص99- 101.
[10] رواه مسلم.
[11] رواه الترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، الذي له ملك السموات والأرض، والله على كل شيء شهيد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد فعال لما يريد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوعد والوعيد.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى الذي يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون.
معشر المسلمين: إن للذنوب والمعاصي آثارا سيئة، وعقوبات في الدنيا والآخرة، قد جمعها ابن القيم – رحمه الله – في كتابه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي). فمما ذكره رحمه الله: أن المعاصي توهن القلب والبدن، وتسبب محق البركات ونقص الخيرات في العلم والعمل والمال والأهل، قال ابن مسعود – -: ((إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان تعلمه للخطيئة يعملها)) كما أن الذنوب تورث الذلة على صاحبها، قال سليمان التيمي – رحمه الله : إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته، ومن ذلك أنها تسبب حلول النقم وزوال النعم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بسبب ذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب – -: ((ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة))، وقد قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [الشورى:30].
أيها المسلمون: إني احذر نفسي وإياكم من التساهل بمعصية الله تعالى ومعصية رسول الله – - فإن ذلك موجب لسخط الله تعالى، قال النبي – -: ((إياكم والمعصية، فإن بالمعصية حل سخط الله – عز وجل -)) [7]. ولو لم يكن في ترك المعصية إلا حصول العافية، ومحبة الله تعالى، لكان جديرا بالمؤمن والمؤمنة أن يفرح بترك المعاصي، قال الحسن بن آدم – رحمه الله -: ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة، وقال محمد بن كعب القرظي – رحمه الله -: ما عبد الله بشيء أحب إليه من ترك المعاصي، ويؤيده قوله – -: ((إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) [8]. فأتى بالاستطاعة في جانب المامورات، ولم يأت بها في جانب المنهيات، إشارة إلى عظيم خطرها وقبيح وقعها، وأنه يجب بذل الجهد والوسع في المباعدة عنها، سواء استطاع ذلك أم لا، بخلاف المأمورات، واعلم أيها المسلم أن أعظم زاجر عن الذنوب هو الخوف والخشية من الله علام الغيوب.
سئل سعيد بن جبير – رحمه الله – عن الخشية، فقال: أن تخشى الله تعالى حتى تحول خشيته بينك وبين معاصيه، وقال بعض السلف: أرق الناس قلوبا أقلهم ذنوبا [9].
أيها المسلمون: من رحمة الله بنا وفضله علينا، أن جعل لتكفير السيئات ومغفرة الذنوب أسبابا، من ذلك اجتناب الكبائر مع فعل الطاعات كالصلوات وسائر الحسنات، قال النبي – -: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر)) [10]. قال – -: ((واتبع السيئة الحسنة تمحها)) [11]. وقال تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين [هود:144].
ومن المكفرات القرض والصدقات، قال تعالى: إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم [التغابن:17]. وقال عز وجل: إن تبدو الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم [البقرة:270].
ومن أسباب المغفرة الإستغفار مع عدم الإصرار، قال تعالى: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين [سورة آل عمران:135-136]. وقال تعالى: ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً [النساء:110]. علينا معشر المسلمين أن نبادر إلى تنظيف قلوبنا بالاستغفار وأن نحفظ جوارحنا من أدران الذنوب والإصرار، لنحظى بطعم الإيمان ولذة العبادة.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وسائر الأمراض، وطهر جوارحنا من الرياء وسائر المعاصي، وأعذنا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، والعدل في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى.
أيها المسلمون: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ، اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وإحسانك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] رواه مسلم.
(1/414)
الإصلاح
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قضايا دعوية
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإصلاح واجب. 2- الأنبياء يقومون بواجب الإصلاح. 3- المفسدون يدّعون الإصلاح.
4- أنواع من الفساد تنبأ رسول الله بظهورها. 5- الإصلاح يقي الأمة غضب الله والتقصير
فيه يعرضها للمقت. 6- إصلاح عقائد الأمة. 7- إصلاح سلوك الأمة. 8- صفات المصلحين.
_________
الخطبة الأولى
_________
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [الحجرات:10].
العداوة والبغضاء داء مدمر، يعصف بالإيمان والدين، وهنا تظهر فضيلة الإصلاح والمصلحين في سبيل نيل رحمة الله تعالى.
فما الإصلاح؟ ولماذا؟ وما الذي ينبغي في المصلحين إصلاحه؟ وما صفات المصلحين؟
الإصلاح لغة: ضد الإفساد.
اصطلاحا: إرادة الخير وتقويم العوج.
وينبغي أن تعلم:
أن الأنبياء ومن سار على دربهم بصدق هم المصلحون الحقيقيون قال تعالى حكاية عن شعيب: إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله [هود:88].
والمصلحون يحتسبون وجه الله سبحانه فيما ينالهم في سبيل إصلاح الفاسدين من إيذاء وإيلام وكيد وقتل قال تعالى في بيان ما تفنن به المشركون في محاربتهم لرسول الله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [الأنفال:30].
وما تعرض له النبي من خنق في جوف الكعبة، ووضع لفضلات الجزور على ظهره وهو ساجد وحبس في شعب أبي طالب حتى شد الحجر على بطنه من الجوع والسخرية والاستهزاء ووضع لجائزة لمن يأتي برسول الله حيا أو ميتا.
وأدعياء الإصلاح كثيرون فالكلام صنعة يتقنها الصادق كما يتقنها الكاذب، بل إن المفسدين لا يتحرجون من أن يصفوا فسادهم وإفسادهم بالصلاح والإصلاح بلا حياء ولا خجل قال تعالى: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
وقد أخبر النبي بظهور مفاسد في الأمة منها ما هو واقع بل كلها واقعة.
أ- فساد أمني: ففي الحديث: ((لا تقوم الساعة حتى يقتل الرجل أخاه لا يدري فيم قتله)) ( [1] ).
ب- فساد سياسي ففي الحديث: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة قالوا: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة)) ( [2] ).
ج- فساد خلقي :
1- للحديث: ((لا تقوم الساعة حتى يتسافد الناس في الطرق كما تتسافد البهائم)) ( [3] ).
2- وشرب الخمور ففي الحديث: ((ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالقينات والمعازف يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير)) ( [4] ).
د – فساد اجتماعي :
1- إهانة للأمهات والآباء ففي الحديث ((وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وأدنى صديقه وجفا أباه)) ( [5] ).
2- فقدان الأمانة وفي الحديث: ((يصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: أن من بني فلان رجل أمين)) ( [6] ).
وأما لماذا الإصلاح ؟
فلابد من الإصلاح حتى تحيا الأمة حياة كريمة، تأمن فيها على دينها وأعراضها وأموالها، لقد أثبتت كل النظريات التربوية فشلها كالتربية الوطنية وربط الإنسان بالأرض والطين بدل أن يربط بإسلامه ودينه الذي يبعث فيه الخشية والحياء.
يرى عمر غلاما يرعى غنما فيقول له: يا غلام بعني واحدة، فيقول الغلام: هي ليست ملكي إنما هي لسيدي، فيقول عمر - مختبرا -: يا غلام بعني واحدة وخذ ثمنها وقل لسيدك: الذئب أكلها فقال الغلام: فأين الله؟ أي أين أكون من الله إن قلت هذا؟ فاهتز عمر لهذه الكلمة واشتري الغلام وأعتقه وقال له: هذه كلمة أعتقتك في الدنيا أسأل الله أن يعتق بها رقبتك يوم القيامة ( [7] ).
حتى تنجوا الأمة من غضب الله ومقته، لابد أن تكون الصلة بين إيمان الناس وأحوالهم قوية فإذا بدلوا في إيمانهم بدل الله عليهم أحوالهم فأبدلهم بدل الأمن خوفا وبدل الرزق جوعا، إن الله يحفظ الأمة بالصالحين، والمنفقين والساعين إلى الخير لما ينالونه من دعوات صالحة من كل منكوب ومحتاج ومجاهد وفقير قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد:11].
جرى زلزال في المدينة زمن عمر فجمع الناس وقال لهم: (ما كان هذا ليحدث إلا بذنب، والله لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدا) ( [8] ). وقال تعالى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [هود:117]. فصلاح الأمة خير عاصم لها من عذاب الله ومقته.
وأما الذي ينبغي على المصلحين إصلاحه:
أولا: إصلاح الأمة في عقيدتها :
أ- بإفراد الله وحده بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية، فالعرب تقول: (أنا رب الدار) أي صاحبها القائم على شؤونها، والله هو رب العالمين القائم على شؤون خلقه سبحانه من خلق ورزق وإحياء وإماتة.
وتوحيد الألوهية: تقول العرب (أله الفصيل إلى أمة) أي لجأ ولد الناقة إلى أمة من مفزع أفزعه والمعنى إفراد الله وحده بالرهبة والرغبة والاستغاثة والدعاء والاستعانة.
ب – نبذ كل مظاهر الشرك: والشرك هو أن تجعل لله ندا وهو خلقك، ومن صور الشرك: الذبح لغير الله للحديث: ((لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه)) ( [9] ). ودعاء غير الله شرك والله تعالى هو النافع الضار قال تعالى: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [الأنعام:17]. وللحديث: ((أنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله)) ( [10] ).
والتقرب لغير الله ولو بشيء تافه شرك للحديث: ((دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا: لأحدهما قرب قال: ما عندي شيء. قالوا: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر قرب: قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله، فضربوا عنقه فدخل الجنة)) ( [11] ).
ثانياً: إصلاح الأمة في وعيها وفهمها:
أ - أن الإسلام عقيدة وشريعة: عقيدة تتضمن الإيمان بالله والأنبياء والبعث والجزاء وشريعة تتضمن العبادات والمعاملات والآداب، والأحوال الشخصية والعقوبات الجنائية، والعلاقات الدولية، فإسلامنا دين ودولة عقيدة ونظام، مصحف وسيف ولن يكون العبد مسلما إلا أن يعتقد شمولية الإسلام. قال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء [الأنعام:38]. ولن يكون العبد مسلما حتى يعتقد بأن الإسلام هو الحل لكل ما تعانيه البشرية وإلا فالله تعالى يقول: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة:44].
ب – أن تعي الأمة أعداءها من يهود ونصارى وشيوعيين وفرق باطنية ظاهرها الإسلام وباطنها الكفر كالبابية والبهائية والقاديانية والرافضة والعلوية وغيرهم.
ج – أن تعي الأمة معنى الولاء وأنه لا يكون إلا لله ورسوله والمؤمنين. والولاء معناه المحبة والنصرة قال تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم [المجادلة:22]. يقول عبد الله بن مسعود : والله لو قام رجل بين الكعبة والمنبر يعبد الله سبعين سنة إلا حشر يوم القيامة مع من أحب. وقد بلغ من جهل البعض من المسلمين أنهم يعتقدون أن موالاة أعداء الله ونصرتهم وخذلانهم المسلمين وإخوانهم قمة الفهم والتصرف الحكيم فتأمل.
ثالثا: إصلاح الأمة في قلوبها وسلوكها:
أ - ذلك لأن القلوب هي موضع نظر الحق سبحانه للحديث: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) ( [12] ). فلابد من تطهير للقلوب من الغل والحسد والحقد والانتقام والتشفي والعجب والتي أصبحت سمة ظاهرة في المصلحين وقد قيل :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
ب – أن تكون للمسلم شخصية واحدة في بيته وعمله ومسجده، وقد سمى الله تعالى اختلاف الشخصيات وأن يلبس المسلم لكل حالة ما يناسبه خيانة قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [الأنفال:27]. يقول عروة بن الزبير: أي (لا تظهروا لرسول الله من الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفوه في السر إلى غيره فإن ذلك هلاك لأماناتكم وخيانة لأنفسكم ) ، قال رسول الله : ((لأعلمن أقواما يأتون يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا، أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون لكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) ( [13] ).
وأما صفات المصلحين فيما بينهم:
الإخلاص: بأن يتجردوا إلى الله وحده في كل أقوالهم وأفعالهم من غير التفات إلى رتبة أو منصب أو تقدم أو ظهور وقديما قيل: (حب الظهور كم قصم الظهور) وإذا فقد الإخلاص تحول العمل من أن يكون لله تعالى إلى دعوة لشخوص أرضية وذوات بشرية أحاطت أنفسها بهالة من القدسية حيث لا تقبل النقد والتقويم ورحم الله عمر عندما قام إليه رجل فقال: اتق الله، فقيل للرجل: كيف تقول لأمير المؤمنين إتق الله؟ فقال لهم عمر: دعوه والله لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم. صدقت يا سيدي الفاروق ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم، لقد رحل الخير برحيل الرجال ولم يبق إلا أشباه الرجال الذين لا يرجى خيرهم بل يخشى شرهم ومكرهم من الذين لا تتسع قلوبهم لإخوانهم فلا يجدون إلا القمع والأساليب الجبانة سبيلا للانتقام مع الاستعانة ببعض المبررات الشرعية تحايلا وزورا.
التعاون فيما بين المصلحين: وصف رب العزة أعداءه بولاية بعضهم لبعض فقال: والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير [الأنفال:73]. وأي فتنة أعظم وأي فساد أكبر من أن يكون المصلحون بحاجة إلى من يصلحهم ويهذبهم ويعلمهم، إن على المصلحين أن يعوا حقيقة تغيب عن أذهان الكثيرين هي أن بناء الشخصية الإسلامية لا يتم إلا ببناء عقيدته ووعيه وقلبه وسلوكه، وأن الاقتصار على العقيدة فقط أو الوعي فقط أو القلب فقط يجعل البناء هشا معوقا منفرا، ضره أكبر من نفعه لما يعطيه، من صورة ناقصة قاصرة لهذا الإسلام العظيم، فحاجة المصلحين بعضهم إلى بعض حقيقة تستلزم فتح أبواب الحوار والتنسيق والتعاون وهذا هو المحك الذي يعرف من خلاله صدق المصلح من كذبه وإخلاصه لله سبحانه أو لهوى نفسه.
3 – الحركة: إسلامنا لا يعرف الجمود، وآيات الله بالأمر بالدعوة والحركة واضحة، قال تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [النحل:125]. وجعل سمة إتباع النبي الدعوة إلى الله قال تعالى: قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين [يوسف:108].
بل إن الداعية لا يفتر عن الدعوة وفي أشد الحالات كالسجن مثلا قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [يوسف:39].
( [1] ) رواه الحاكم.
( [2] ) رواه البخاري.
( [3] ) رواه الطبراني.
( [4] ) أبو نعيم.
( [5] ) رواه الترمذي.
( [6] ) متفق عليه.
( [7] ) قبسات من حياة الرسول ص 190.
( [8] ) الجواب الكافي ص46.
( [9] ) رواه مسلم.
( [10] ) رواه الطبراني.
( [11] ) رواه الطبراني.
( [12] ) رواه مسلم.
( [13] ) ابن ماجة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/415)
الجهاد
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الجهاد في سبيل الله. 2- غاية الجهاد الإسلامي. 3- الذل عاقبة ترك الجهاد
والتشاغل عنه. 4- سمات المجاهدين الصادقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216].
القتال فريضة كفريضة الصلاة والصيام، ومن أعداء الله من لا يفقهون إلا لغة القتل والقتال وقد شرع الله تعالى الجهاد إعلاء واستعلاء لكلمة الله سبحانه، واستعلاء للمؤمن على ركام الأرض.
فما الجهاد؟ ولماذا تركت أمتنا الجهاد؟ وما سمات المجاهدين؟ وما الذي نحذره في جهادنا؟
أما الجهاد لغة: بذل الإنسان جهده وطاقته.
اصطلاحا: هو الإعلاء لكلمة الله تعالى والتمكين لدينه في الأرض.
الجهاد أفضل عمل يتقرب به العبد لربه لحديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله: أي العمل أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله والجهاد في سبيله)) ( [1] ).
والرهبنة والاعتزال وترك الكفر يجول ويصول أمر لا يقره إسلامنا للحديث: مر رجل من أصحاب رسول الله بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته فقال :لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله فذكر ذلك لرسول الله فقال: ((لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)) ( [2] ). والفواق: هو ما بين الحلبتين.
البعيد من الجهاد قريب من النفاق للحديث: ((من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)) ( [3] ).
باب الجهاد باب مفتوح إلى الجنة للحديث: ((اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) ( [4] ).
وكتب ابن المبارك إلى الفضيل بن عياض من ساحات الجهاد بطرسوس والفضيل في رحاب البيت الحرام مقيم يقول له في سنة سبعين ومائة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا وهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
فما زاد الفضيل إلا أن بكى وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ( [5] ).
وأما لماذا الجهاد؟ فلابد من الجهاد:
لأن إسلامنا إعلان لتحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، والمسلم مأمور بتبليغ دعوة الله إلى الناس كل الناس، وأي قوة تقف عقبة دون وصول هذا النور يجب أن تزال بالجهاد قال تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [البقرة:193].
لأن الجهاد هو المحك الذي يتميز من خلاله الصادق من الكاذب، ومن جاء لآخرة ومن جاء لدنيا، وهذا الذي جعل الصف المسلم على عهد رسول الله متميزا واضحا، لا غبش فيه، فلا يرقى الأدعياء ولا صناع الكلام إلى درجة التوجيه والمسؤولية قال تعالى: أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون [التوبة:126]. قال ابن كثير عن قتادة: (أي يختبرون بالغزو في السنة مرة أو مرتين) ( [6] ) ، وفقدان الجهاد، وبعد الصف المسلم عنه، أفقد الصف المسلم صفاءه، ووضوحه، وتميزه وأصبح فيه من ليس أهلا بل هو سبة على الإسلام وأهله، وارتقاء الجبناء بعث للجبن والخور، ولكن كل هذا يحاط بالمبررات الشرعية، ومصلحة الإسلام، والحكمة التي لا يعلمها أحد سواهم.
وأما لماذا تركت أمتنا الجهاد؟
فإن منزلة الجهاد لا يرقى إليها إلا من عظمت الآخرة في قلوبهم وهانت الدنيا في أعينهم أما والحال قد انقلب، فعظمت الدنيا وهانت الآخرة في القلوب، وأصبح الحرص على الحياة أي حياة مهما كانت، وذلك هو الوهن وهو حب الحياة وكراهية الموت، الداء الذي انتشر في الأمة فأفقدها رجولتها، وغيرتها، ورغبتها إلى معالي الأمور وفي الحديث: ((إذا تبايعتم بالعينة (اشتغلتم بالبيع والشراء وقيل: نوع من البيوع المنهي عنها) وأخذتم أذناب البقر (أي اشتغلتم بالرعي والحرث والأعمال التجارية) ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا (ضعفا وامتهانا) لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) ( [7] ) ، وهذا الذي حذر منه عمرو بن العاص في قوله عندما سأله رجل: من المرتد على عقبه؟ فقال: (رجل أسلم فحسن إسلامه وهاجر فحسنت هجرته، وجاهد فحسن جهاده ثم مضى إلى أرض يزرعها وترك جهاده فذلك هو المرتد على عقبه).
وكثيرون هم الذين لا يفهمون أن الجهاد والصبر على تكاليف الطريق لا يفرع مرا ولا حالا(ما معنى هذا؟؟؟؟؟؟؟؟؟).
ميوعة الصف المسلم وانطفاء جذوة الجهاد فيه، حيث أصبح الكثيرون يخضعون منهج الله لأهوائهم، فيأخذ منه ما يناسب هواه ويدع ما لا يناسبه كأن يأخذ الصلاة وقراءة القرآن ويدع الجهاد والإنفاق والدعوة إلى الله. وصدق الله العظيم: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون [البقرة:85].
لأن أعداء الله استطاعوا أن يفقدوا الإنسان المسلم في واقعنا الإحساس بأنه إنسان له كرامة وحقوق، وينبغي أن يحافظ عليها، لقد أصبح المسلم في واقعنا يتمنى أن يحظى بالاهتمام الذي كان يحظى به الحيوان في زمن عمر بن الخطاب إذ يقول: ((والله لو عثرت بغلة في أرض العراق لخشيت أن يسأل الله عنها ابن الخطاب لِمَ لم يعبّد لها الطريق ؟)).
والشاعر يقول:
القطيع بأرض طاب منهلها وعشبها فاستقي من ماءها ورعى
فصاح راعيه هيا يا قطيع بنا ننجو من الذئب إن الذئب قد طلعا
قال القطيع له: ما الفرق بينكما كلاكما يبتغي من لحمنا شبعا
وأما سمات المجاهدين :
أنهم يحتسبون جهادهم لله تعالى، فليسوا طلاب دنيا ولا يحرصون على منصب، لذا كان الرسول إذا مر (بآل ياسر) وهم يعذبون فلا يعدهم بجاه ولا انتصار وإنما يقول لهم: ((صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة))، تعليق القلوب بالجنة أمان لها من الملل واليأس والقلق والانتكاس والردة فيما إذا تعلقت بغاية وهدف عاجل قد يطول الوقت لتحققه، وهذا توجيه الله لرسوله في قوله: وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [الرعد:40].
والمجاهدون الصادقون ليسوا هواة تغيير من باطل إلى باطل، ومن ضياع إلى ضياع ومن طاغوت يهودي إلى طاغوت عربي، وإنما هم آخذون بقول الله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [البقرة:191].
والمجاهدة الصادقون لا يتنازعون على المناصب، فالبناء واحد، والغاية واحدة فلم النزاع؟ ولم الدسائس لإزاحة إخوانك والساحة تتسع للجميع؟ وما أمامنا من عمل يحتاج إلى أضعاف، أضعاف ما عندنا من إمكانيات والموجود متمزق، تحكمه الفرقة والشتات، أين هذا العبث واللعب من الدور العظيم الذي ينبغي أن نتحسس ثقله وتبعاته ومسؤولياته مما يستلزم ضم كل الطاقات والجهود تحت شعار العالمية وإحياء دار الأرقم من جديد، فلا صلاح لنا إلا بما صلح به أولينا، وإلا فهو الاستبدال: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [محمد:38]. وكم كان موقف أبو عبيدة من عمرو بن العاص في غزوة (ذات السلاسل) كريما ومثلا يفتدي به، (حيث بعث رسول الله أبا عبيدة مددا (لعمرو) ولنجدته وقال له (لا تختلفا) فلما وصل أبو عبيدة قال له عمرو: إنما جئت مددا لي فأنا أميرك فقال له أبو عبيدة: يا عمرو إن رسول الله قال لي لا تختلفا وإنك إن عصيتني أطعتك) ( [8] ) ، بهذا الفهم الكريم انتصر سلفنا، ولا نصر إلا بمثل هذا الفهم الكريم وإلا فهي المهزلة وشماتة أعداء الله بنا.
وأما الذي نحذره في جهادنا ؟
نحذر أن نكون أداة تنفيذية للعبة يهودية أو نصرانية، والدخول ضمن دائرة السياسات الدولية، والمعادلات الصعبة، والمسرحيات التي يراد بها تلميع وجوه منكرة، وطمس وجوه أخرى احترقت أوراقها قول النبي : ((لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن غيرهم)) ( [9] ).
نحذر أن يكون ثمرة جهادنا لقمة سائغة، سهلة لأعداء الله، يجنون ثمار جهادنا بعد أن يركبوا الموجة في آخرها وتأمل معي، من الذي أخرج المستعمر من ديارنا، (الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي) أليست هي حركات إسلامية القائمون عليها هم من الشيوخ والعلماء كعمر المختار، وعبد القادر الجزائري وغيرهما، ثم كانت ثمرة الجهاد لأعداء الله، حيث البديل، والوكيل عن المستعمر ممن خلفوا المستعمر في استعمار بلادنا ولعل هذا الدرس ما زالت الأمة تجد الصعوبة البالغة في فهمه والاحتياط له وفي حديث خذيفة بن اليمان وهو يسأل رسول الله : ((وهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قال: صفهم لنا يا رسول الله، قال: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)) ( [10] ).
( [1] ) رواه البخاري ومسلم.
( [2] ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
( [3] ) رواه مسلم.
( [4] ) رواه الشيخان.
( [5] ) مختصر ابن كثير مجلد 1 ص 353.
( [6] ) مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 180.
( [7] ) رواه أبو داود.
( [8] ) فقه السيرة ص 402 للغزالي.
( [9] ) متفق عليه.
( [10] ) رواه أحمد في مسنده.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/416)
الحث على ذكر الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
محمد بن علي السعوي
بريدة
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر الله من أفضل الطاعات 2- النصوص الشرعية تحثّ على ذكر الله 3- ذكر بعض
الأذكار الشرعية 4- إنما شُرعت العبادات لإقامة ذكر الله 5- أثر الذكر في خشوع القلب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
معشر المسلمين: موضوع حديثي في هذا الموقف المبارك عن ذكر الله تعالى وأثره، وأثر الإعراض عنه.
أيها المسلمون: إن ذكر الله عز وجل من أعظم القربات وأفضل الطاعات وسبب لرفع الدرجات قال الله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:239].
وقال عز وجل: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، ذكر الله هو أفضل ما يشغل به الإنسان نفسه في الجملة قال النبي : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى)) ، رواه مالك والترمذي وغيرهما.
ولقد كان النبي يذكر الله على كل أحيانه.
ووصف الله المؤمنين بأنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد هو المداومة على الذكر في غالب الأحوال، لأن الإنسان قل أن يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث وهي القيام والقعود وكونه نائماً على جنبه.
أيها المسلمون: إن ذكر الله تعالى هو الحصن الحصين من شياطين الإنس والجن، والجُنّة الواقية من عذاب الله تعالى.
قال النبي : ((وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم)) رواه الإمام أحمد. وقال النبي : ((ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله ممن ذكر الله)) رواه الترمذي وغيره.
أيها المسلمون: ولقد أمر الله تعالى بالإكثار من ذكره قال سبحانه: يا أيها الذين ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]. وذكر سبحانه أن من صفات الذين يتأسون برسول الله أنهم يذكرون الله كثيراً بعد الإيمان الصادق بالله واليوم الآخر.
قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
أيها المسلمون: إن كثرة ذكر الله تعالى أمان من النفاق فإن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قال كعب رحمه الله: من أكثر ذكر الله عز وجل برئ من النفاق.
أتى رجل أبا مسلم الخولاني رحمه الله فقال له: أوصني يا أبا مسلم، قال: اذكر الله تعالى تحت كل شجرة ومدرة، فقال: زدني، فقال: اذكر الله حتى يحسبك الناس من ذكر الله مجنوناً.
قال: وكان أبو مسلم يكثر ذكر الله فرآه رجل وهو يذكر الله تعالى، فقال: أمجنون صاحبكم هذا، فسمعه أبو مسلم فقال: ليس هذا بالمجنون يا ابن أخي، ولكن هذا دواء الجنون ( [1] ).
أيها المسلمون: إن الله تعالى وعد الذاكرين الله كثيراً والذاكرات وغيرهم مغفرةً وأجراً عظيماً، والمراد بذكر الله كثيراً: هو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: يذكر الله في أدبار الصلوات وغدواً وعشياً وفي المضاجع وكلما استيقظ من نومه وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى ( [2] ).
معشر المسلمين: ذكر الله تعالى يكون باللسان ويكون بالأعمال الصالحة فيكون الذكر باللسان بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وقراءة القرآن، قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [آل عمران:41].
وقال النبي : ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) رواه البخاري.
وقال تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة:15].
وقال النبي : ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه)).
وقال: ((ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقال عز وجل في شأن القرآن: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:-7069].
وكذلك يكون الذكر بالأعمال الصالحة قال تعالى في شأن صلاة الجمعة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9].
وقال النبي : ((إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)).
وكذلك يكون الذكر في سائر الطاعات، قال سعيد بن جبير رحمه الله: ((كل عامل بطاعة الله فهو ذاكر لله)).
أيها المسلمون: إن ذكر الله عز وجل له أثر عظيم فهو سبب لخشوع القلب ووجله وذهاب قسوته، قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
كما أن الذكر سبب لطمأنينة القلب ورقته قال تعالى: الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]. وقال تبارك وتعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].
ومن أثر الذكر أن ينهى عن الفحشاء والمنكر، ويدعو الذاكرين إلى الاستغفار والتوبة.
قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
( [1] ) تذكرة النفس: (ص53).
( [2] ) الفتوحات الربانية (1/199).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/417)
الطاعة
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الطاعة. 2- طاعة الصديق النبي وانفاذه جيش أسامة. 3- عصيان رسول الله يوم
أحد. 4- الطاعة العمياء. 5- طاعة المرأة زوجها. 6- طاعة الوالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [آل عمران:132].
إن لله سننا في الأمم والأفراد فيما يتصل بهلاكهم أو عافيتهم، فمن شاء أن يرحم سواء كان أمة أو فردا فعليه بطاعة الله ورسوله.
فما الطاعة؟ ولمن تكون؟ وما أنواعها؟ وما موقف المسلم منها ؟
أما الطاعة: فهي ضد المعصية ومعناها الانقياد والاستسلام والخضوع.
وأما لمن تكون؟
فالأصل أن تكون الطاعة لله وللرسول قال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [الأحزاب:36].
وطاعة الرسول هي طاعة الله تعالى قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31]. ذلك لأن القرآن وحي الله إلى رسوله لفظا ومعنى، والحديث هو وحي الله إلى رسوله معنى واللفظ لرسول الله وصدق الله العظيم: وما ينطق عن الهوى (1/418)
الفوز والخسران
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المؤمن يزن الأمر بميزان الله. 2- الفوز والنجاة حقيقة إنما يكونان بدخول الجنة والبعد عن
النار. 3- صور من فوز الصحابة. 4- الخسران في ميزان الله تعالى. 5- كيف يحفظ الإنسان
دينه.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [الحج: 11].
الخسران كل الخسران أن تكون صلة العبد بربه هزيلة يثبت إذا وجد نفعا وينحرف إذا تعرض إلى اختبار ومحنة.
فما الفوز؟ وما موازين الخسران؟ وماالفوز عند المؤمن؟ وما الطريق حتى يحفظ العبد نفسه من الخسران؟
أما الفوز: فهو نيل العبد مراده ومبتغاه.
والمؤمن ينظر للأمر بهدي الله ونوره وقد سمى الله نفسه نورا: الله نور السماوات والأرض [النور:35]. وجعل النور لمن سلك طريقه فقال: أو من كان ميتا فأحيياه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس [الأنعام:122]. فهو ينظر بنور الله قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ الأنفال:29]. قال ابن كثير: (أي يجعل لكم نورا يقذفه في قلوب أوليائه فيعرفوا الحق من الباطل والحلال من الحرام).
وللنور علامات ذكرها المصطفى فقال: ((إذا دخل النور القلب أنفسح وانشرح، قالوا: يا رسول الله وما علاقة ذلك؟ قال:الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله)) ( [1] ).
وأما موازين الفوز في كتاب الله تعالى:
النجاة من عذاب الله قال سبحانه: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [آل عمران:185]. وأي فوز أعظم من أن ينجو العبد من عذاب جهنم العظيم الذي ينسي المتنعم كل نعيم مر عليه من أول غمسة فيها للحديث: ((يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ صبغة (فيغمس غمسة) في النار ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا والله يا رب)) ( [2] ) ، عذاب يصف رسول الله أخفه وأهونه فيقول: ((إن أدنى أهل النار عذابا يوم القيامة من ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه)) ( [3] ) ، وهو الذي يناله أبو طالب سأل العباس رسول الله : ((هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك (أي يحفظك من المشركين، ويدفع عنك) فقال رسول الله : نعم إنه في ضحضاح من النار من حرارته يغلي دماغه ولولا أنا لكان في أسفل السافلين)) ( [4] ).
أن ينخلع العبد من نفسه وماله لربه قال سبحانه: الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون [التوبة:20]. فهذا صحابي ضربه المشركون فصرخ: (فزت ورب الكعبة) وأبو الدحداح يسمع قول الله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة فقال: ((يا رسول الله إن لي بستان فيه مائة نخلة ولا أملك غيرها وإني أقرضتها ربي عز وجل. ثم يذهب إلى أهله يقول: يا أم الدحداح اخرجي وأخرجي بنيك فإني أقرضت البستان ربي عز وجل فتقول زوجته: ربح البيع يا أبا الدحداح)) ( [5] ) ، قال سبحانه: لن تنالوا البر (أي الجنة) حتى تنفقوا مما تحبون [آل عمران:92].
وأما الخسران في ميزان الله تعالى:
أن يدين العبد بغير الإسلام لقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران:85]. وللحديث: ((لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا حرّم الله عليه الجنة)) ( [6] ) ، وينبغي أن يكون إسلامنا إسلاما شاملا لحركتنا كلها، في تعبدنا وتعاملنا وإلا كان التناقض، قيل لرسول الله: ((فلانة (امرأة) تقوم الليل وتصوم النهار ولكنها تؤذي جيرانها، فقال: هي في النار)) ( [7] ).
ومن الخسران أن يعبد العبد ربه إذا كان في التعبد منفعة وإن لم يكن فيه منفعة عاجلة تركه قال تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [الحج:11].
وقال ابن كثير رحمه الله: (كان الرجل يؤم المدينة فيسلم فإذا عاد وكان العام عام خير ونتجت خيله وولدت امرأته غلاما قال: هذا دين صالح. وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء. وقال: هو المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة وإن فسدت عليه دنياه انقلب فلا يقيم على العبادة) ( [8] ).والمسلم الحق يحمد الله على السراء ويصبر على الضراء لأن في ذلك مغفرة للذنوب للحديث: ((ما يصيب المسلم من نصب (أي تعب) ولا وصب (أي مرض) ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) ( [9] ).
وأما الطريق حتى يحفظ العبد إيمانه:
أن يكيف العبد نفسه لدين الله ولا يكيف دين الله لنفسه قال تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا [البقرة:85]. فلا يأخذ من الإسلام ما يوافق هواه من صلاة وصيام لكنه لا يأخذ الزكاة ولا الإنفاق ولا الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه لأنها تخالف هواه.
وأن يزن الأمور بميزان الله في كل شأنه وأمره في الغاية من الوجود: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56]. وفي نظرته إلى الناس: إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13]. نظرته إلى المال والإنفاق: ((ما نقص مال من صدقة)) ( [10] ) ، ((أنفق يا ابن آدم أنفق عليك)) ( [11] ) ((أنفق يا بلال ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا)) ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))، كلها نصوص من حديث المصطفى في بيان عظيم الإنفاق، والأنصار عندما فتحت لهم الجزيرة ودانت، أحبوا الركون إلى أرضهم وإنماء أموالهم فأنزل الله تعالى قوله: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [البقرة:195].
وأن تكون غيرتنا لديننا أعظم من غيرتنا على بطوننا وشهواتنا تق ول عائشة رضي الله عنها : ((ما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله بها)).
( [1] ) أخرجه ابن أبي الدنيا والحاكم.
( [2] ) رواه مسلم.
( [3] ) متفق عليه.
( [4] ) رواه البخاري.
( [5] ) مختصر ابن كثير مجلد 1 ص 222.
( [6] ) رواه أحمد ومسلم.
( [7] ) أخرجه أحمد والحاكم.
( [8] ) مختصر ابن كثير ج2 ص 532.
( [9] ) متفق عليه.
( [10] ) رواه مسلم.
( [11] ) متفق عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/419)
المناهي التي تؤثر في الأخوة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الكبائر والمعاصي
محمد بن علي السعوي
بريدة
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نهى ديننا عن كل ما يزرع الشحناء بين المسلمين 2- النهي عن سوء الظن بالمسلمين
3- النهي عن التحسس والتجسس 4- النهي عن التحاسد والتدابر والتباغض 5- النهي عن
التناجش والبيع على بيع المسلم 6- النهي عن الظلم والسخرية والخذلان للمسلم
7- الوعيد لمن احتقر المسلمين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فـ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا.
معشر المسلمين :لقد أرسل الله تعالى نبيه محمدا رحمة للعالمين؛ ليجمع على الإيمان قلوب المؤمنين، ويزيل من قلوبهم كل أسباب الشحناء، ويطهر نفوسهم من كل أسباب البغضاء، ليكونوا إخوانا متحابين.
أخرج البخاري ومسلم – عليهما رحمة الله – في صحيحيهما عن النبي أنه قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا ولا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون: لقد تضمنت هذه الأحاديث أحد عشر نهيا يؤدي العمل بها إلى الائتلاف والصفاء بين قلوب المسلمين، وإلى البعد عن الاختلاف والشحناء بين المؤمنين.
قول النبي : ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) المقصود بالظن هنا هو التهمة التي لا سبب لها، وهو الظن السيء فإنه من الإثم والباطل، قال تعالى: إن بعض الظن إثم ، وقال عز وجل: إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ، فعلى المسلم أن يحذر من ظن السوء، وأن يحمل أخاه على أحسن الوجوه ما وجد إلى ذلك سبيلا. قال عمر : ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا. وقال سعيد بن المسيب – رحمه الله -: كتب إلي بعض إخواني: ((أن ضع أمر أخيك على الأحسن ما لم تغلب)) ، قوله فإن الظن أكذب الحديث: أي ما ينشأ عن الظن مما لا يطابق الواقع.
قوله: ((ولا تحسسوا ولا تجسسوا)) قال العلماء: التحسس: الاستماع لحديث القوم، والتجسس البحث عن العورات، وقيل: هو التفتيش عن بواطن الأمر، وأكثر ما يقال ذلك في الشر، قال الخطابي – رحمه الله -: معناه لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها.
قوله: ((ولا تحاسدوا)) أي: لا يحسد بعضكم بعضا، والحسد هو تمني زوال النعمة عمن لديه تلك النعمة، وهو سخط على الله في فضله ونعمته واعتراض على قسمته، قال تعالى: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، إن الحاسد حينما يرى نعمة على غيره قد ظهرت أو منقبة شكرت فإنه يغتم ويهتم ويتمنى النقمة لصاحب النعمة ويفرح بالمصيبة عليه، قال تعالى: إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط [سورة آل عمران:120].
وكل ذي نعمة فهو محسود قال عمر بن الخطاب : ما كانت نعمة لله على أحد إلا وجدت لها حاسدا، ولو كان الرجل أقوم من القدح – وهو السهم – لما عدم غامزا.
إلا ما ذكر عن التواضع فإنه من يحسد من يتصف به، قال المبرد: النعمة التي لا يحسد صاحبها عليها التواضع، والبلاء الذي لا يرحم صاحبه العجب.
ولعل السبب في كون المتواضع لا يحسد على تواضعه، لأن التواضع في نظر المستكبر ذلة وضعة، وهو في الحقيقة عزة ورفعة.
أيها المسلمون: إن الحسد داء يضر بالجسد، وسبب لهبوط منزلة المقصود، بل ربما يكون حسد الحاسد منبها إلى فضل المحسود، ونقص الحسود، كما قال أبو تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود
أيها المسلم: كن راضيا بقسم الله، شاكرا لأنعمه، دافعا ما يغمك بالإيمان بقدر الله، ليكون أطيب لنفسك وأهنأ بعيشك، وقد قيل: العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد.
قول النبي : ((ولا تناجشوا)) النجش: هو أن يزيد الرجل في قيمة السلعة وهو لا يريد شراءها، وإنما قصده نفع البائع على حساب المشتري، أو مضرة المشتري المحتاج وهو من أسباب البغضاء ومن الإعانة على أكل المال بالباطل ومن الغش للمسلمين، فلا يجوز لك أيها المسلم أن تزيد في ثمن سلعة ما عند المزايدة إلا إذا كنت تريد شراءها حقيقة لك أو لغيرك.
قوله: ((ولا تباغضوا)) أي: لا تفعلوا أسباب البغضاء فيما بينكم من السب والسخرية والغيبة والنميمة وإن من شرار الناس المشائين بالنميمة المتبعين لأهوائهم، لتحذر أيها المسلم أن تبغض أخاك من أجل أمره لك بمعروف أو نهيك عن منكر، فتبغضه من أجل أن وعظه لا يوافق هواك، فتكون ممن اتبع هواه بغير هدى من الله فتصبح من الضالين.
قوله: ((ولا تدابروا)) التدابر هو التهاجر والتقاطع فإن كلا من المتقاطعين يولي صاحبه دبره ويعرض عنه ولا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام، قال النبي : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم.
قال ابن عبد البر – رحمه الله -: قيل للإعراض مدابرة لأن من أبغض أعرض ومن أعرض ولى دبره والمحب بالعكس.
قوله: ((ولا بيع بعضكم على بيع بعض)) معنى ذلك أن أقول لمن اشترى سلعة في مدة الخيار إفسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأقل أو أجود منه بثمنه.
فليتق الله المسلم، وليقنع بما آتاه الله، ولا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله.
نسأل الله تعالى من فضله، ونشكره على نعمه، والله ذو الفضل العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة بعضهم أولياء بعض، والله ذو فضل على المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله جعله الله أسوة للمؤمنين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد :
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وكونوا عباد الله إخوانا، أي تعاملوا وتعاشروا معاملة الإخوان ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير مع صفاء القلوب والنصيحة بكل حال، قوله : ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره)).
قوله: ((لا يظلمه)) أي لا يجوز له ظلمه بقول أو فعل أو ترك، بل يسعى في نصحه وإعطائه حقه وعدم الاعتداء عليه، وقوله: ((ولا يخذله)) أي لا يترك نصرته وإعانته إذا استعان به في دفع الظلم عنه وهو يقدر على ذلك.
وقوله: ((ولا يحقره)) أي يستصغر نه من أجل أنه أقل منه في علمه أو في سنه أو في دنياه أو في مركزه ومنصبه أو في جاهه ونسبه أو في قبيلته وعشيرته، فإن الاحتقار منشؤه الكبر والاستكبار، والله لا يحب المستكبرين، وقد توعد النبي من كان في قلبه كبر بعدم دخول الجنة، حيث قال : ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) ، فقيل له: ((إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) ، رواه مسلم وغيره، ومعنى قوله: بطر الحق، أي رده ودفعه إلى قائله، وقوله غمط الناس أي احتقارهم وازدراؤهم، وكفى بالاحتقار شرا قول النبي : ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) قول النبي : ((التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات))، يدل على أن نظر الله تعالى إنما هو إلى القلوب والأعمال لا إلى الصور والأموال.
فيفيد أن الإيمان أصله في القلب، وأن ثمرته على الجوارح، فهو قول وعمل واعتقاد، وحب وبغض في الله، وفعل وترك، ولا يكفي من الإيمان التحلي، ولا من الإسلام التسمي، ولا من الأعمال التمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب، وصدقه العمل.
أيها المسلم: كما يحرم عليك دم أخيك المسلم وماله، فكذلك يحرم عليك عرضه بسب أو ثلب.
فكم من إنسان يغلب عليه إساءة الظن بالمسلمين الصالحين وغيبتهم، قال ابن القيم - رحمه الله – : ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والنظر الحرام، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، إلى أن قال: وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، لا يبالي ما يقول.
قال بعض السلف: ليكن حظ أخيك المؤمن منك ثلاث: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه.
أيها المسلم: أتحب أن يغفر الله لك؟ لا أشك أنك تحب ذلك إذا كنت مؤمنا سليم القلب، قال النبي : ((تعرض الأعمال في كل يوم إثنين وخميس، فيغفر الله في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرءا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا)) رواه مسلم – رحمه الله -.
أيها المسلمون: إن أعداء الإسلام يفرحون بتفرق المسلمين واختلافهم وتباغضهم وتحاسدهم؛ ليتمكنوا من الدخول عن طريق خلل الصفوف، فكونوا – أيها المسلمون – متحابين متلاحمين، ولا تدعوا فرجات وفجوات لشياطين الإنس والجن، بل اجتمعوا لطردهم واتحدوا لدحرهم وكونوا عباد الله إخوانا، لعلهم يموتون بغيظهم فيكفيكم الله شرهم ومكرهم وكيدهم، وما كيد الكافرين إلا في ضلال.
أيها المسلمون: صلوا وسلموا على النبي محمد....
(1/420)
الغربة
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الغربة. 2- غربة الأنبياء. 3- فائدة الغربة للعبد المؤمن. 4- صور لغربة الدين.
5- غربة الأخلاق. 6- موقف المسلم من الغربة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون [المائدة:100].
جرت سنة الله أن يكون أتباع الحق هم القليلون غالبا، ودعاة الضلالة هم الكثيرون، والحق تبارك وتعالى يحذرنا من أن نغتر بكثرة الهالكين أو نستوحش لقلة السالكين.
فما الغربة؟ ولماذا؟ وما أنواعها؟ وما واجب المسلم في الغربة؟
الغربة: هي الانفراد بوصف يخرج العبد عن أبناء جنسه فيكون بينهم غريبا.
وكثير من الأنبياء ومن سار على دربهم عاشوا الغربة في دعوتهم يقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: إن إبراهيم كان أمة [النحل:120]: وقد سمى إبراهيم أمة لأنه كان وحده مسلما وكل من في الأرض كفار، يقول ابن عباس : (لكيلا يستوحش السالكون حين يجدوا أنفسهم فرادى فيتخذوا من إبراهيم قدوة).
وكثير من الأنبياء ومن سار على دربهم عاشوا الغربة على أرضهم فهذا شعيب عليه السلام يحرص قومه على إخراجه وهو الطاهر بينهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أوَلو كنا كارهين [الأعراف:88]. وفي رسول الله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [الأنفال:30].
وحتى الإسلام نفسه يعيش تلك الغربة التي بدأ بها للحديث: ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)) قالوا: وما الغرباء يا رسول الله؟ قال: ((الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي)) ( [1] ).
وأما لماذا الغربة؟
حتى يتميز الصف فما من دعوة إلا وينضوي تحت لوائها الصادق والكاذب، والمخلص وغير المخلص، ومن جاء لدنيا ومن يريد الآخرة، والغربة لا تستبقي إلا من صدق الله في إقباله للحديث: ((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح المرء فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع أحدكم دينه بعرض قليل من الدنيا)) ( [2] ).
وعظم الأجر مع عظم البلاء للحديث: ((ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام فإن وراءك أياما شدادا الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل منهم أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم، قالوا: يا رسول الله منا أم منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم)) ( [3] ) ، وإذا كان إيماننا فيه العجب الكريم فكيف ثباتنا عليه؟ للحديث: ((أي الناس أعجب إيمانا؟ قالوا: أنت يا رسول الله، فقال: ومالي لا أؤمن والوحي يتنزل علي، قالوا: فنحن يا رسول الله قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين ظهرانيكم، قالوا :فمن يا رسول الله؟ قال: قوم يأتون بعدكم فلا يرون إلا صحفا فيؤمنون بها فأولئك أعجب الناس إيمانا)) ( [4] ).
وأما أنواع الغربة:
غربة الدين: قرأ رسول الله قوله تعالى: ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فقال: ((وسيخرجون أفواجا كما دخلوا)) ( [5] ).
أ - ومن غربة الدين غربة الفهم الشامل للإسلام فالكثير أصبح الإسلام في نظره هي الصلاة والصيام والحج فقط، ولا بأس عليه بعد ذلك أن تكون معاملاته مبنية على الحرام والمظالم أو لا بأس عليه أن يعتنق فكرة هدامة جاهلية فيجمع بين الإسلام والجاهلية في آن واحد. أو يأخذ من الإسلام منهج متكامل ينظم حركة العبد من يوم مولده إلى أن يلقى الله فيما يتعلق بينه وبين ربه أو نفسه أو الناس وفي كافة شؤون الحياة، خذوا الإسلام جملة أو دعوه، جاء بشير بن الخصاصية يسأل عن الإسلام حتى يبايع عليه، فقال له الرسول : ((الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والجهاد، فقال: يا رسول الله كلها أطيق إلا الصدقة والجهاد فقبض رسول الله عن البيعة وقال: يا بشير لا صدقة ولا جهاد فبم تدخل الجنة؟ فقال: يا رسول الله مد يدك أبايعك عليهن فمد رسول الله يده)) ( [6] ).
ب-ومن غربة الدين أن يتنازل عنه العبد لأجل أي متاع حقير للحديث: ((لا تذهب الليالي والأيام حتى يقوم القائم فيقول: من يبيع دينه بكف من الدراهم؟)).
ج- ومن غربة الدين ذهاب الصالحين حتى لا يذكر اسم الله للحديث: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله لله)) ( [7] ) ، وللحديث: ((يذهب الصالحون الأول فالأول فلا تبقي إلا حثالة كحثالة الشعير والتمر لا يبالهم الله باله)) ( [8] ).
د- ومن غربة الدين أن يكرم المفسدون ويهان المصلحون.
غربة الخلق: هناك قيم بثها الله في نفوس خلقه من يوم خلق السماوات الأرض، إن الصدق والكرم والوفاء والحياء فضائل وأن الغدر الكذب والظلم رذائل ولكن من علامات الساعة، أن تختل تلك القيم للحديث: ((يأتي على الناس سنوات خدّاعات يصدق فيه الكاذب ويكذب فيه الصادق ويؤتمن فيه الخائن ويخون فيه الأمين)) ( [9] ) ، إن هناك من الأخلاقيات التي كان يتعامل بها الجاهليون قبل الإسلام ما لا يجده اليوم إلا في النادر من المسلمين، يقول عنترة وهو شاعر جاهلي:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
ويذكر لنا من سبقنا عمرا قبل ثلاثين سنة جرت حادثة في إحدى البلاد أن زعيما للصوص تسلقوا جدارا لدار حتى دخلوها كي يسرقوها فنظر زعيمهم في الدار وكأنه قد عرفها فقال لأتباعه: اخرجوا ولا تأخذوا منها شيئا فاستغربوا كلامه فقال: هذا بيت أكلت فيه قبل سنتين ويحرم علي أن أسرقه. لقد أصبحنا في وقت لا تأمن فيه من ولدك من أن يقابل إحسانك بالنكران فضلا عن الصديق إلا من رحم ربي ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن غربة الخلق ندرة أهل الأمانة، للحديث: ((يصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: في بني فلان رجل أمين)) ( [10] ).
ومن غربة الخلق إشاعة الزنا حتى تكون عرفا للحديث: ((لا تقوم الساعة حتى تسافدوا في الطريق تسافد الحمير)) ( [11] ) وإذا كان الأمر جاريا في إعلامنا بلا إنكار بل هو الفن، فإن تكرار النظر والسماح للمعصية يذهب ما فيها من البشاعة والقبح تصبح أمرا مألوفا لا تنكره النفوس لخستها.
وأما واجب المسلم عند الغربة :
فعلى المسلم الحق أن يعتز بغربته فإنها محمودة، يشابه فيها الأنبياء، فالزم جماعة المسلمين للحديث: ((فالزم جماعة المسلمين وإمامهم، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) ( [12] ).
ألا تنخدع بكل مظهر أو فعل جاهلي، فإنما هي دنيا، وفي الحديث: ((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)) ( [13] ) ، ((مالي وللدنيا إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)) ( [14] ).
وللحديث: ((سيظهر شرار أمتي على خيارها حتى يتخفى المؤمن كما يتخفى المنافق فينا اليوم)) ( [15] ). ولله در الشاعر إذ يقول:
قل لمن بصروف الدهر عيرني
هل حارب الدهر إلا من به خط ر
أما ترى البحر تطفو فوقه جيف
و تستقر بأقصى قعره الدرر
وكم على الأرض أشجار مورقة
و ليس يرجم إلا من به ثمر
( [1] ) رواه الترمذي.
( [2] ) رواه أحمد ومسلم والترمذي.
( [3] ) رواه الترمذي.
( [4] ) رواه أبو يعلي والبزار.
( [5] ) أخرجه أحمد.
( [6] ) حياة الصحابة ج1 ص 220 والحديث أخرجه أحمد.
( [7] ) رواه أحمد والترمذي.
( [8] ) رواه أحمد والبخاري.
( [9] ) رواه أحمد والحاكم.
( [10] ) متفق عليه.
( [11] ) الطبراني.
( [12] ) متفق عليه.
( [13] ) رواه مسلم.
( [14] ) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
( [15] ) الجواب الكافي ص 50 وقال ذكره الأوزاعي عن حسان بن عطية.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/421)
الإسراء والمعراج
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, السيرة النبوية
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الإسراء والمعراج. 2- كيفية الإسراء والمعراج وموقف المؤمن منه. 3- بعض ما
رآه النبي في رحلة المعراج. 4- من دروس المعراج والإسراء وحدة الدين. 5- من دروس
المعراج والإسراء تبليغ الأمانة والعلم كرهه الناس أم رضوه. 6- معية الله للمؤمنين ونصرته
لهم. 7- درس في وجوب التضحية والعمل لدين الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول رب العزة سبحانه: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [الإسراء:1].
شاء الله الذي لا راد لمشيئته سبحانه القادر الذي لا يعجزه شيء أن يمن على حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام برحلة مباركة طيبة هي الإسراء والمعراج.
فما الإسراء والمعراج ؟ وما صفته ؟ وما الدروس المستفادة منه ؟
أما الإسراء: فهي رحلة أرضية تمت بقدرة الله عز وجل لرسول الله عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس.
أما المعراج: فهي رحلة سماوية تمت بقدرة الله عز وجل لرسول الله عليه الصلاة والسلام من بيت المقدس إلى السماوات العلا ثم إلى سدرة المنتهى ثم اللقاء بجبار السماوات والأرض سبحانه.
وينبغي أن تعلم :
أن الإسراء والمعراج كان بالجسد والروح معه واستدل العلماء على ذلك بقول رب العزة سبحانه: سبحان الذي أسرى بعبده [الإسراء:1]. والتسبيح هو تنزيه الله عن النقص والعجز وهذه لا يتأتى إلا بالعظائم ولو كان الأمر مناما لما كان مستعظما ثم بقوله تعالى : بعبده والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح.
إن المؤمن الجاد في إيمانه لا ينكر أبدا إمكانية الإسراء وهو مؤمن بقدرة الله القادر المقتدر: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون [يس:82]. المؤمن الجاد في إيمانه لا ينكر أبدا إمكانية الإسراء والمعراج وهو يقرأ في كتاب الله عز وجل أن الله تعالى أنزل عبدين من عباده من السماء إلى الأرض ورفع عبدا من عبيده من الأرض إلى السماء أنزل آدم وزوجه: قلنا اهبطوا منها جميعا [البقرة:38]. ورفع عيسى عليه السلام: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي [آل عمران:55]. فكيف نستكثر على رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يعرج به مولاه ؟
المؤمن يقرأ في كتاب الله عز وجل أن الله تعالى وهب عبدا من عباده القدرة على نقل عرش ملكة سبأ من جنوب اليمن إلى أرض فلسطين في غمضة عين: يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر [النمل:38-40]. فإذا كانت هذه قدرة عبد فكيف بخالقه وإذا كانت هذه إمكانية موهوب فكيف بالواهب سبحانه ؟
إن من الحقائق العلمية أن القوة تتناسب تناسبا عكسيا مع الزمن فكلما زادت القوة قل الزمن فكيف إذا كانت القوة هنا هي قوة الحق سبحانه ؟ لذا جاء في بعض الروايات أن النبي عليه الصلاة والسلام أًسري به وعرج وعاد وفراشه لم يزل دافئا عليه الصلاة والسلام.
أما صفة الإسراء والمعراج :
فآلة الركوب كانت هي البراق ، ((أتاه به جبريل فكانت تضع حافرها عند منتهى طرفها صلى النبي عليه الصلاة والسلام بالأنبياء إماما في بيت المقدس صعد إلى السماوات العلا اطلع على أهل الجنة واطلع على أهل النار ، اطلع على أهل الجنة فأري رجالا يزرعون يوما ويحصدون يوما كلما حصدوا عاد الزرع كما كان قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء المجاهدون في سبيل الله يخلف الله عليهم ما أنفقوا)) ( [1] ) ، وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه [سبأ:39]. (( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما: ((اللهم أعط ممسكا تلفا)) ، ويقول الآخر : ((اللهم أعط منفقا خلفا)) ( [2] ).
وأمتنا عندما تركت الجهاد عندما ظنت على الله عز وجل بمالها بأنفسها سلط الله عليها ذلا ليس بعده ذل أن أراذل خلق الله عز وجل يسوقونها: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم [الأنعام:64]. قال ابن كثير: ((من فوقكم أي الصواعق ومن تحت أرجلكم أي أن يسلط عليكم أراذلكم)) ( [3] ).
((رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجالا وأقواما ترضخ رؤوسهم بالحجارة قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة)) ( [4] ).
العقول والرؤوس التي كانت تحترم كل موعد بشرى يزيد من رصيدها ويزيد من مالها تخرج مبكرة وتعود في آخر ساعات الليل ولكنها تنسي موعدها مع الله عز وجل في موقف بين يدي الله في خمس صلوات مثل هذه الرؤوس لا وزن لها ولا كرامة لها عند الله وتستحق يوم القيامة الرمي بالحجارة ((ورأى النبي عليه الصلاة والسلام أقواما يسرحون كما تسرح الأنعام طعامهم الضريح (نبت ذو شوك) قال : من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم)) ( [5] ). وأي درك حيواني يبلغه الغني المسلم عندما يفتقد مشاعر الأخوة مشاعر الرحمة والرأفة بالضعيف الفقير ، ومثل هذا يستحق أن يحشر يوم القيامة على صورة الحيوان ، ((ورأى النبي عليه الصلاة والسلام رجالا يأكلون لحما نتنا خبيثا وبين أيديهم اللحم الطيب النضج قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء رجال من أمتك تكون عند أحدهم المرأة بالحلال فيدعها ويبيت عند امرأة خبيثة حتى يصبح)) ( [6] ) المؤمن ينأى بمائه أن يضعه إلا في الموضع الكريم الطاهر.
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه
أما النفس الهابطة أما النفوس العفنة فإنها لا تبالي أن يكون الفراش طاهرا أم نجسا: ((ورأى النبي عليه الصلاة والسلام نساءا معلقات من أثدائهن قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللواتي يدخلن على أزواجهن من ليس من أولادهن)) ( [7] ) أجمل ما في الرجل غيرته وأجمل ما في المرأة حياؤها ولكن من علامات قرب الساعة زوال ذلك كما جاء في الأثر: ( إذا كان آخر الزمان رفع الله أربعة أشياء من الأرض رفع البركة من الأرض والعدل من الحكام والحياء من النساء والغيرة من رؤوس الرجال ) جيل المستقبل المظلم الذي نعيشه في واقعنا والذي أصبح شغله الشاغل في ليله ونهاره أن يظفر بالنظرة الحرام وباللمسة الحرام وبالمتعة الحرام جيل سبق الجاهلية في جاهليتها عنترة الجاهلي يصف عفته فيقول:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يوارى جارتي مأواها
و ((عندما بايع النبي عليه الصلاة والسلام نساء مكة على ألا يزنين ولا يسرقن غطت هند بنت عتبة وجهها وقالت أو تزني الحرة يا رسول الله؟)) ( [8] ) ، استكثرت أن تبايع على هذا الأمر الذي تستقبحه المرأة الحرة فضلا عن أن تكون امرأة مسلمة.
الدروس المستفادة من حادثة الإسراء والمعراج!!!.
درس في النبوات ، صلاة النبي عليه الصلاة والسلام بالأنبياء إماما له دلالتان.
هي وحدة الأنبياء في دعوتهم فالكل جاء بالتوحيد الخالص من عند الله عز وجل ، الأنبياء إخوة ودينهم واحد: وما أرسلنا قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء:25]. وما جرى في اليهودية والنصرانية من الانحراف إنما هو بفعل أيديهم: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون [التوبة:30].
صلاة النبي عليه الصلاة والسلام بالأنبياء إماما لها دليل ولها دلالة أن النبوة والرسالة قد انقطعت فلا نبوة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا رسالة: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين [الأحزاب:40].
درس للدعاة إلى الله تعالى عاد النبي عليه الصلاة والسلام من رحلته الميمونة المباركة أراد أن يخرج للناس حتى يبلغهم فتشبثت به أم هانيء بنت أبي طالب تقول له: يا رسول الله إني أخشى أن يكذبك قومك فقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لأحدثنهموه)) ( [9] ) (سأخبرهم وإن كذبوني) درس للدعاة إلى الله عز وجل أن يبلغوا أمانة الله تعالى رضي الناس أم غضبوا ، رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه واسخط عليه الناس)) ( [10] ) ، وإذا كان أنبياء الله عز وجل يتهمون بالكذب والسحر والجنون فليس في ذلك غرابة بعد ذلك أن يتهم الدعاة إلى الله في واقعنا بالتطرف بالإرهاب والرجعية والتأخر.
3 – درس في بناء الرجال والرجال لا يمكن بناؤهم إلا من خلال المواقف عندما تحدث النبي عليه الصلاة والسلام بأمر الإسراء والمعراج طفق القوم بين مصفق وبين واضع يده على رأسه تعجبا يقول ابن كثير: ((وارتد ناس ممن آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام)) ( [11] ) فالأمر يحتاج إلى يقين ، يقين بقدرة الله ويقين بصدق المصطفى عليه الصلاة والسلام فالمحنة تفرز حقائق الرجال أفرزت هذا النموذج الذي لم يستطع أن يستوعب الأمر لضعف إيمانه وأفرزت رجالا كأبي بكر الصديق : (جاءته قريش يقولون له انظر ما قاله صاحبك إنه يدعي أنه أتى في بيت المقدس وعاد في ليلة ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهرا ذهابا وشهرا إيابا فقال أبو بكر: وهو قال ذلك، قالوا نعم ، قال: إن كان قد قال فقد صدق) ( [12] ) إيمان ثابت إيمان لا تعبث به الدنيا ولا تزلزله الجبال إيمان قد استقام على حقيقة منهج الله عز وجل.
4- درس في معية الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه طلبت قريش من النبي عليه الصلاة والسلام أن يصف لها بيت المقدس ورسول الله عليه الصلاة والسلام قد جاءه ليلا ولم يكن قد رآه من قبل يقول عليه الصلاة والسلام: ((فأصابني كرب لم أصب بمثله قط))، أي أن الأمر سيفضح أي النبي عليه الصلاة والسلام سوف يتهم بالكذب ولكن حاشا لله أن يترك أولياءه يقول عليه الصلاة والسلام : فجلى الله لي بيت المقدس فصرت أنظر إليه وأصفه لهم باباً بابا وموضعاً موضعا ( [13] ) ، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر:51]. فجلى الله: أي فكشف الله.
درس لكل صاحب هم لكل صاحب قلب مكلوم ألا يلتفت قلبه إلا إلى الله عز وجل رسول الله عليه الصلاة والسلام رجل واحد يحمل هم الدنيا كلها رجل واحد يحمل أمانة تنوء بها الجبال ماتت زوجه خديجة التي كان يأوي إليها عند تعبه مات عمه أبو طالب الذي كان يحميه كان يبحث عن رجال صدق يعينونه في تبليغ أمر دعوة الله عز وجل ذهب إلى ثقيف ولكنها ردته رداً سيئا وأغرت به السفهاء فضربوه بالحجارة حتى أدميت قدماه الشريفتان لجأ النبي عليه الصلاة والسلام إلى حائط وأخذ يناجي رب العزة سبحانه: (( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس إلهي أنت رب المستضعفين أنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل علي غضبك أو أن تحل بي عقوبتك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله )) ( [14] ). يبرأ النبي عليه الصلاة والسلام من حوله وقوته إلى حول الله قوته ويأتي حادث الإسراء والمعراج إيناسا للمصطفى عليه الصلاة والسلام وإعلاما للنبي عليه الصلاة والسلام ولسان الحال يقول :
إن كان أهل الأرض لم يعرفوا قدرك فإن أهل السماء قد عرفوك
فأنت أنت إمام المرسلين وأنت أنت حبيب رب العالمين
درس في الجهاد رأى النبي عليه الصلاة والسلام البيت المعمور وهو بمنزلة الكعبة في السماء تحجه الملائكة هناك ((رأى النبي عليه الصلاة والسلام جند الله عز وجل من الملائكة يدخلون البيت المعمور في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة)) ( [15] ) ولله جنود السماوات والأرض ولا يعلم جنود ربك إلا هو. فلماذا إذاً فرض الله علينا الجهاد؟ وهو القادر بكلمة كن فيمكن أن يبدل الحال غير الحال ولله عز وجل جنود الأرض والسماء ؟ يريد الله تعالى ألا يتنزل نصره على تنابلة كسالى يبخلون على الله بأنفسهم إن الله تعالى يحب أن يرى الدماء تسيل لأجله ويحب الله تعالى أن يرى الأموال تبذل لأجله وهذا عبد الله بن جحش في غزوة أحد رفع يده بدعاء. وتأمل في دعائه يقول: ((اللهم إنك تعلم أنه حضر ما أرى (أي من التقاء الجيشين) فأسألك ربي أن تبعث إلي رجلا كافرا صنديدا قويا يقتلني ويجدع أنفي وأذني ويضعها في خيط (زيادة في النكال والتمثيل) ثم آتيك ربي بدمي فتقول: فيما ذاك يا عبد الله؟ فأقول: فيك يا رب ، فيك يا رب قد تمزق جسدي وسال دمي )) ( [16] ). أمنية يتمناها المسلم عند الله عز وجل: (( من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)) ( [17] ) فنسأل الله الشهادة.
7 – درس في الصحوة الإسلامية تأمل العلماء الربط بين إسراء النبي عليه الصلاة والسلام من مكة البيت الحرام إلى بيت المقدس فذكروا أن مكة هي رمز للإسلام لدين الله عز وجل وبيت المقدس هو رمز لحال المسلمين فما يجري في تلك الأرض هي علامة صحوة المسلمين أو غفلتهم وجذوة الجهاد التي انطلقت من هناك دليل على أن أمر الغيرة ما زال في الأمة وأنه مازال فيها جيل وأن مازالت فيها الرغبة في أن تعود إلى الله عز وجل أن تعود إلى زعامة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وبيت الله عز وجل لا يتحرر إلا على أيد متوضأة طاهرة كريمة. أما الأيدي التي يحمل أصحابها أفكارا منحرفة وعقائد فاسدة وعلمانية كافرة مثل هذه الأيدي لا يبارك الله فيها وحاشى لله أن يكتب لها النصر والتأييد مصداقا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لتقاتلن اليهود فيختبأ اليهودي وراء الحجر أو الشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله)) ( [18] ).
( [1] ) البيهقي.
( [2] ) متفق عليه.
( [3] ) مختصر ابن كثير مجلد ص 587.
( [4] ) البيهقي.
( [5] ) البيهقي.
( [6] ) البيهقي.
( [7] ) البيهقي.
( [8] ) صفوة التفاسير مجلد 2 ص 366.
( [9] ) البداية والنهاية لابن كثير ص 110 عن ابن اسحاق.
( [10] ) ابن حبان في صحيحه.
( [11] ) تهذيب سيرة ابن هشام ص 94.
( [12] ) فقه السيرة للبوطي ص 147.
( [13] ) فقه السيرة للبوطي ص 147.
( [14] ) تهذيب سيرة ابن هشام ص 102.
( [15] ) رواه أحمد.
( [16] ) فقه السيرة للغزالي ص 282.
( [17] ) مسلم.
( [18] ) مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/422)
الإصلاح بين الناس
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
محمد بن علي السعوي
بريدة
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تأليف القلوب وإزالة الشحناء مقصد شرعي 2- الواجب على المسلمين السعي في الإصلاح 3- الخصومة بين المسلمين تمنع نزول المغفرة على المتخاصمين 4- جواز الكذب
في الإصلاح بين المسلمين 5- وجوب قبول اعتذار المخاصم 6- رسول الله يصلح بين
المتخاصمين 7- الله جلّ وعلا يصلح بين بعض المتخاصمين في الآخرة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى: وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [سورة الأنفال:1].
معشر المسلمين: كثير ما يكون بين الناس منازعات وخصومات، وذلك نتيجة لاختلاف الأهواء والرغبات والاتجاهات، ومن ثم فإن المنازعات والخصومات تسبب البغضاء والعداوات، وتفرق بين المسلمين والقرابات، ومطلوب منا أن نسعى إلى الإصلاح بكل الوسائل والإمكانات، قال الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [سورة الحجرات:10].
أيها المسلمون: لقد أرسل الله تعالى نبيه محمدا رحمة للعالمين؛ ليجمع على الإيمان قلوب المؤمنين، ويزيل من قلوبهم كل أسباب الشحناء، ويطهر نفوسهم من كل أسباب البغضاء، ليكونوا إخوانا متحابين، فإذا وجد بين بعضهم خصومة وشحناء ونزاع وبغضاء أمروا أن يتقوا الله، وأن يصلحوا ذات بينهم، وعلى المسلمين أن يسعوا في الإصلاح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري : ((رد الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن))، (من تفسير القرطبي :ج5 ص384).
وقد قال تعالى: وأصلحوا ذات بينكم ، أي أصلحوا ما بينكم من أحوال الشقاق والافتراق حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، ليكون المسلمان المتشاحنان متعرضين لمغفرة الله والجنة.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس لكل عبد لا يشرك بالله شيئا وفي رواية: تعرض الأعمال في كل يوم خميس وإثنين فيغفر الله – عز وجل – في ذلك لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)) (رواه مسلم – رحمه الله - :ص1987ج4).
أيها المسلمون: لقد اهتم الإسلام بإصلاح ذات البين حفاظا على وحدة المسلمين، وسلامة قلوبهم، وإن الإصلاح يعتبر من أعظم وأجل الطاعات، وأفضل الصدقات، فالمصلح بين الناس له أجر عظيم، وثواب كريم، إذا كان يبتغي بذلك مرضاة الله تعالى، فأجره يفوق ما يناله الصائم القائم، المشتغل بخاصة نفسه، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة)) (رواه أبو داود وغيره :ص929ج3) ومعنى الحالقة: أي تحلق الدين.
وعن أبي هريرة قال :قال رسول الله : ((كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم يعدل بين الناس صدقة)).
رواه البخاري – رحمه الله – وفي رواية لمسلم قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة. (ص699ج2 مسلم ). قوله تعدل بين الاثنين أي تصلح بينهم بالعدل.
أيها المسلمون: إن الإصلاح بين الناس تفضل فيه النجوى، وهي السر ودون الجهر والعلانية، ذلك أنه كلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه، لأن الإنسان يتأذى من نشر مشاكله أمام الناس، فالسعي في الإصلاح يحتاج إلى حكمة، وإلا فإن الساعي أحيانا قد يزيد من شقة الخلاف وحدته، قال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً [سورة النساء:114].
أيها المسلمون: ولأهمية الإصلاح بين الناس رخص فيه الكذب، وذلك إذا كان سبيلا للإصلاح ولا سبيل سواه، عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا)) (رواه البخاري: فتح الباري ج5ص299)، قوله: ((ينمي خيرا)) أي: ينقل الحديث على وجه الإصلاح، وفي صحيح مسلم: قال ابن شهاب – رحمه الله -: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها (ج4ص2011)، فأما الكذب في الحرب فإن الحرب خدعة، ومن ثم فإن الأمر يستدعي التمويه على الأعداء، ويتحدث بما يقوي به أصحابه ويكيد به عدوه مثل أن يقول جيش المسلمين كبير وجاءهم مدد كثير.
وأما الكذب في الإصلاح بين الناس، فمثل أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقوالهما بما يحقق التقارب، ويزيل أسباب الشقاق والخلاف، وأحيانا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما، وينسب إلى كل منهما من الأقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله مثل أن يقول: فلان يسلم عليك ويحبك، وما يقول فيك إلا خيرا ونحو ذلك، وأما الكذب بين الزوجين، فقد قال ابن حجر – رحمه الله -: المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها، وذلك أن الكذب بينهما قد يحتاج إليه أحيانا بحيث يخفي كل واحد منهما عن الآخر ما من شأنه أن يوغر الصدور، أو يولد النفور، أو يثير النزاع والفتن، ويزرع الشقاق والإحن، فمثلا لكل واحد منهما أن يخاطب الآخر بمعسول القول ما يزيد الحب، ويسر النفس، ويجمل الحياة يبنهما، وإن كان ما يقال كذبا، قال الخطابي – رحمه الله -: كذب الرجل على زوجته مثل أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه؛ ليستديم بذلك صحبتها، ويصلح بها خلقها.
أسأل الله أن يجعلنا من الصالحين المصلحين، وأن يوفقنا لحسن العمل وصالح الأخلاق، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بين سبل الفلاح، ورتب الرحمة على التقوى والإصلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه وبحمده بالغدو والرواح، والمساء والصباح، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، جعله الله أسوة في الصلاح والإصلاح، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين سعدوا بالفلاح والنجاح، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى: وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله رسوله إن كنتم مؤمنين.
أيها المؤمنون: إن أطيب حياة يعيشها المؤمن والمؤمنة في هذه الدنيا، هي حينما يكون مراقبا لله حسن الطوية لعباد الله. فأصلح – أيها المسلم – ما بينك وبين الله يصلح الله ما بينك وبين الناس، واحذر أسباب الشحناء والبغضاء، وإذا جاء إليك أخوك معتذرا فأقبل معذرته ببشر وطلاقة؛ بل ينبغي أن تسعى أنت إلى إنهاء الشحناء وإن كان لك الحق، قال عمر – -: أعقل الناس أعذرهم لهم، وقال الحسن بن علي – رضي الله عنهما -: لو أن رجلا شتمني في أذني هذه واعتذر إلي في أذني الأخرى لقبلت عذره. (ص 340 ج1/الآداب الشرعية لابن مفلح)، وروي أن الحسين بن علي كان بينه وبين أخيه محمد بن الحنفية خصومة – عليهم رضوان الله – وبعد أيام كتب محمد بن الحنفية رسالة ضمنها اعتذاره منه، فما إن وصل الكتاب إلى الحسن حتى قام لساعته وذهب إلى أخيه محمد، فالتقلا به في منتصف الطريق، فتعانقا وبكيا وتصالحا. (ص 501/الحلال والحرام لأحمد عساف بتصرف).
أيها المسلم: إذا علمت أن بين اثنين من إخوانك أو قرابتك أو أرحامك أو أصحابك أو جيرانك شحناء أو قطيعة، فعليك أن تبذل وسعك وغاية جهدك في الإصلاح بينهما، وإياك أن تتكاسل عن هذا العمل الجليل من أجل الاستماع إلى إيحاءات الشيطان، وأقوال المخذولين الذين يقولون: أنت في عافية فلا تكلف نفسك فيما لا شأن لك به، بل عليك – وأنت تقدر على ذلك – أن تسعى لإزالة أسباب التفرق والشحناء بين أخويك، فالصلح خير وذلك رحمة بهما وشفقة عليهما وطمعا في فضل الله ورحمته التي وعدها من أصلح بين الناس، قال تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فلقد كان يسعى بنفسه للصلح بين المتشاحنين مؤكدا بذلك أهمية الإصلاح بين الإخوة المؤمنين، فعن سهل بن سعد أن ناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي في أناس من أصحابه يصلح بينهم. (فتح الباري ج5 ص297) حتى أوشك أن تفوته صلاة الجماعة، وفي رواية قال: ((اذهبوا بنا نصلح بينهم)).
أيها المسلمون: بل إن الله تعالى ليصلح بين عباده يوم القيامة، قال ابن كثير – رحمه الله – عند قوله تعالى: وأصلحوا ذات بينكم ، قال: ولنذكر هاهنا حديثا أورده أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس قال: بينما رسول الله جالس إذا رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة - تبارك وتعالى – فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى: أعط أخاك مظلمته. قال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء. قال: رب فليحمل عني من أوزاري، قال: ففاضت عينا رسول الله بالبكاء، ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى الطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه، فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال هذا لمن أعطى ثمنه، قال: رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت تملكه قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك، قال: يا رب قد عفوت عنه، قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فادخلا الجنة، ثم قال : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي....
(1/423)
الخيانة
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإعلام السبق بنقض العهد. 2- الأمر بالوفاء والتحذير من الخيانة. 3- من أنواع الخيانة
خيانة الدين والعقيدة. 4- خيانة العرض. 5- خيانة الشخصية. 6- لماذا يقع الناس في الخيانة.
7- أثر الخيانة. 8- موقف المسلم من الخيانة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم علىسواء إن الله لا يحب الخائنين [الأنفال:58].
مادة في القانون الدولي الإسلامي العام: إنه إذا خشي الحاكم المسلم خيانة قوم للعهد الذي بينهم وبينه، أعلمهم بأنه قد نقض العهد حتى يكونوا على علم بالحرب قبل وقوعها، لأن الله لا يحب الخائنين.
فما الخيانة؟ ولماذا؟ وما أثر الخيانة؟ وما أنواعها؟
الخيانة: الغدر ونقض العهد.
والخيانة من سمات النفاق للحديث: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) ( [1] ).
وأشد الناس فضيحة يوم القيامة هم الخائنون، للحديث: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان)) ( [2] ).
وما القرآن إلا عهود ومواثيق بين الله وعباده وقد دعانا رب العزة إلى الوفاء فقال: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [المائدة:1].
وأما أنواع الخيانة :
خيانة العقيدة: وعقيدتنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وللعقيدة نواقض كما أن للوضوء نواقض، ونواقض العقيدة أن تستحل ما حرّم الله أو أن تنكر أمراً أمر الله به قال تعالى: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين [التحريم:10]. والخيانة هنا هي خيانة الدين لا الفاحشة قال ابن كثير :إن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء. قال ابن عباس: كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء. وصلة الزوجية لم تنفع ولو كانت مع نبي للحديث: ((يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت فإني لن أغني عنك من الله شيئا، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) ( [3] ) ، قال تعالى: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [المؤمنون:101].
خيانة الأعراض: وقد حرم الله الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه فقال: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [الإسراء:32].
وللحديث: ((ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة يضعها رجل في رحم لا يحل له)) ( [4] ) جاء فتى إلى النبي فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه فقال: رسول الله: ((ادنُ ثم قال له: أتحبه لأمك؟ قال :لا، والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أتحبه لأبنتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم قال: أتحبه لأختك قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. فوضع رسول الله يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه. قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء)) ( [5] ). ومن الخيانة في الأعراض النظرة الحرام قال تعالى: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور قال ابن عباس: هذا الرجل يدخل على أهل بيت وفيهم امرأة حسناء فإذا غفلوا نظر إليها وإذا فطنوا غض بصره. والديوث محروم من الجنة وهو الذي يرى الخبث في أهله ويسكت للحديث: ((لا يدخل الجنة ديوث)) ( [6] ) ، والمسلم يتقي الله في اختياره للزوجة حتى لا تكون باب هم وحزن وقلق للحديث: ((إياكم وخضراء الدمن. قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله ؟، قال: حسنة المظهر سيئة المنبت)) ( [7] ).
خيانة الشخصية: قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [الأنفال:27]. يقول عروة بن الزبير: أي لا تظهروا لرسول الله من الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفوه في السر إلى غيره فإن في ذلك هلاككم، وللحديث: ((لأعلمن أقواما يأتون يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا أما أنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلو بمحارم الله انتهكوها)) ( [8] ). وخيانة الشخصية الإسلامية تتضح في أكثر من صورة منها:
أن يكيف دين الله لنفسه ولا يكيف نفسه لدين الله للحديث: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: من ليس عنده دينار ولا درهم. قال: لا المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وحج ويأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته أخذت من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) ( [9] ).
خيانة الإخوة: فقد قال تعالى: أشداء على الكفار رحماء بينهم [الفتح:29]. فنكون على عكس هذه الصورة قوتنا على إخواننا ومحبتنا لأعدائنا، وخيانة في المشاعر: للحديث: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)) فتراه يحزن ويتألم إن فقد درهما ولكنه لا يحزن أبدا ولا يتأثر على مصائب المسلمين في العالم.
خيانة الكسب: والمسلم الحق يحرص على الحلال في مطعمه ومشربه فلا غش ولا خداع، ولا كذب وفي رواية: ((إن رسول الله مر على صبرة طعام (أي كومة) فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غشنا فليس منا)) ( [10] ).
خيانة الوطن: وذلك بأن يكون مطية لأعداء الله في تنفيذ مخططاتهم وما فيها من دمار للبلاد والعباد، أو دليلا لهم على عوراتها، والعرب قبل الإسلام كانت ترى في خيانة الوطن جرما يستحق صاحبه فيه الرجم وقد جاء في سيرة ابن هشام رحمه الله أن أبرهة بنى كنيسة وأراد أن يصرف العرب إليها فذهب إليها رجل من العرب وأحدث أي تغوط وبال فعزم أبرهة على هدم الكعبة وسير لذلك جيشا وخرج معه بالفيل حتى وصل الطائف فخرج إليه مسعود بن متعب فقال له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ونحن نبعث معك من يدلك فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة وفي الطريق مات أبو رغال فرجمت العرب قبره. فهو قبره الذي يرجم الناس بالمغمس ( [11] ).
وكذا إبن العلقمي لعنه الله وقد كان دليلا لهولاكو على عورات بغداد وتدمير دولة الإسلام فلعنة الله على الخائنين في كل زمان ومكان.
خيانة الذمة والعهد :وذلك بالغدر فيمن دخل في جوارك أو بلدك وتذكر لنا كتب السيرة موقفا للنجاشي رحمه الله، وقد اشتد الأذى بأصحاب رسول الله قال لهم :لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج ثلاثة وثمانون رجلا. فأرسلت قريش من يأتي بهم وهما عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل وأعطوا كل قسيس هدية ولما دخلوا على النجاشي وقدما الهدايا فقبلها منهما ثم قالا: أيها الملك إنه قد أوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت فقال لهم النجاشي: لا والله لا أسلمهم وقد جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي. ولما علم وفد قريش أن الهدية لم تفعل فعلها قالا: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما: فأرسل إليهم الملك وسألهم فقرأ جعفر بن أبي طالب سورة مريم: ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وبكى النجاشي وقال: إن هذا والذي جاء به عيسى عليه السلام يخرج من مشكاة واحدة. ثم أمر فردت الهدايا فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به ( [12] ).
هذا موقف سيبقى مثلا كريما يحتذى به في الوفاء والرجولة وأما مواقف الغدر والتعاون على إيذاء المؤمنين وإخراجهم من مأمنهم فمثل هذه المواقف الخانعة المهينة لأعداء الله سيجد أصحابها مقت الله وعذابه في يوم ليس لهم من دون الله عاصم.
وأما لماذا الخيانة؟
أن يكون العبد عبدا للدرهم والدينار والنساء والمناصب ومثل هذه له ثمن فيسهل على أعداء الله شراؤه وللحديث: ((تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة)) ( [13] ) أي هلك من كانت عبوديته لغير الله سبحانه كالمال والكساء وكلها إلى فناء.
أن يكون قد فقد الحياء من الله ومن الناس وللحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) ( [14] ).
وأما أثر الخيانة:
لا يأمن أحد أحدا حيث تترحل الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس فيحذر كلُ أحد كلَ أحد وقد جاء في الآثار: ((لا تقوم الساعة حتى لا يأمن المرء فيه جليسه)).
ينقطع المعروف فيما بين الناس مخافة الغدر والخيانة ومن قصص العرب أن رجلا كانت عنده فرس معروفه بأصالتها، سمع به رجل فأراد أن يسرقها منه واحتال لذلك بأن أظهر نفسه بمظهر المنقطع في الطريق عند مرور صاحب الفرس فلما رآه نزل إليه وسقاه ثم حمله وأركبه فرسه فلما تمكن منه أناخ بها جانبا وقال له: الفرس فرسي وقد نجحت خطتي وحيلتي.
فقال له صاحب الفرس: لي طلب عندك، قال: وما هو؟ قال: إذا سألك أحد كيف حصلت على الفرس؟ فلا تقل له: احتلت بحلية كذا وكذا ولكن قل: صاحب الفرس أهداها لي.
فقال الرجل لماذا؟
فقال صاحب الفرس: حتى لا ينقطع المعروف بين الناس فإذا مر قوم برجل منقطع حقيقة يقولون: لا تساعدوه لأن فلانا قد ساعد فلانا فغدر به.
فنزل الرجل عن الفرس وسلمها لصاحبها واعتذر إليه ومضى.
وأما موقف المسلم من الخيانة:
أن تربى القلوب على مخافة الله وخشيته: مر عمر يتفقد رعيته ليلا فيسمع امرأة تقول لابنة لها: اخلطي الماء باللبن، فقالت البنت: لقد نهانا عمر عن ذلك فقالت أمها: وما يدري عمر: قالت البنت: إن كان عمر غائبا فإن ربه حاضر. تقع هذه الكلمة في قلبه فيجمع ولده ويعزم على أحدهم أن يتزوج هذه الفتاة فيتزوجها ولده عاصم فيكون من ولده عمر بن عبد العزيز الذي ملأ الدنيا عدلا.
أن نجتنب المعاصي من مبدئها ولا ندعها حتى تستفحل فيصعب درؤها كما يقول ابن القيم رحمه الله: المعاصي مبدؤها خاطرة فإن لم تدفعها صارت وسوسة فإن لم تدفعها صارت فكرة فإن لم تدفعها صارت إرادة فإن لم تدفعها صارت عزما فإن لم تدفعها صارت عملا. ((إياكم ومحقرات الذنوب، قالوا: وما محقرات الذنوب؟ قال: أرأيتم لو أن قوما أرادوا أن يشعلوا نارا فجاء هذا بعود، وهذا بعود، وهذا بعود، فاجتمعت فأصبحت نارا عظيمة)) ( [15] ).
يقول ابن القيم رحمه الله :
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وأن تعلم أن البقاء في هذه الدنيا قليل للحديث: ((أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)) ( [16] ) ، فما قيمتها أمام: خالدين فيها أبدا والدنيا ساعة فاجعلها طاعة فلم الخيانة ولم الكذب.
تأمل معي قول الشاعر في وصف الدنيا وقصر نعيمها :
أذان المرء حين الطفل يأتي
وتأخير الصلاة إلى الممات
دليل أن محياه يسير
كما بين الأذان إلى الصلاة
أي الأذان في أذن الصبي عند الولادة، والصلاة على الميت عند موته دليل أن مكوثه هو ما بين الأذان إلى الصلاة، فما أحقرها من دنيا، وما أهونها، نسأل الله الصدق، آمين.
( [1] ) متفق عليه.
( [2] ) متفق عليه.
( [3] ) متفق عليه.
( [4] ) ابن أبي الدنيا.
( [5] ) موارد الظمآن ص 157.
( [6] ) رواه أحمد والنسائي.
( [7] ) رواه الدار قطني.
( [8] ) رواه ابن ماجة.
( [9] ) رواه مسلم.
( [10] ) رواه مسلم.
( [11] ) تهذيب سيرة ابن هشام ص 16.
( [12] ) تهذيب سيرة هشام ص 72 – 77 بتصرف.
( [13] ) رواه البخاري.
( [14] ) رواه البخاري.
( [15] ) رواه أحمد والطبراني.
( [16] ) رواه الترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/424)
النفاق
الإيمان
نواقض الإيمان
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى لفظة النفاق. 2- أنواع النفاق. 3- موافقة الظاهر الباطن. 4- المسلم مأمور بالصدق
وبإظهار ما في باطنه من إنكار للمنكر. 5- صفات المنافقين. 6- عقوبة المنافق يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون [التوبة:67].
السلوك ثمرة الفكرة وإذا سيطرت على العبد فكرة منحرفة اختلت موازين الخير والشر عنده فتراه يحب القبائح والفواحش ويكره ويحقد على أهل الخير، يسعى في إيذائهم حتى يتساوى معه الجميع في قبحه وفحشه، فلا يريد أن يرى أحدا خيرا منه.
فما النفاق؟ ومتى يكون؟ وما سمات المنافقين؟ وما عاقبتهم؟
النفاق لغة: مأخوذ من النفقاء وهو جحر اليربوع ومن عادة اليربوع عند إبتنائه لبيته أن يحفر في الأرض حفرتين واحد مفتوحة والأخرى مغطاة بساتر ترابي فإذا داهمة الخطر دفع الغطاء الترابي برأسه فخرج.
واصطلاحا: هو أن يظهر الإنسان غير ما يبطن.
والنفاق على نوعين إما إعتقادي ومعناه الكفر وهو أن يظهر العبد الإيمان بالله واليوم الآخر وهو لا يؤمن بهما، وإما سلوكي وهو من أعظم الذنوب وعلاماته مبينة في الحديث: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان)) ( [1] ).
وقد أجمع العلماء على أن المنافقين هم أشد خطرا على الإسلام من الكفار لأن الكافر واضح فتحذره أما المنافق فهو مع المسلمين في صلاتهم وتجمعهم ومع الكافرين في كيدهم للإسلام وأهله، ويكون عارفا بعورات المسلمين ومواضع ضعفهم.
والمسلم منهي أن يكون على غير حقيقته في ظاهره وباطنه إلا في حالة واحدة، أجازها الشارع للمسلم أن يقول كلمة يرضي فيها المسلم أعداء الله إذا لم يتحمل الأذى ولم يصبر فيظهر كلمة الكفر بلسانه وقلبه يأبى ذلك، عمار بن ياسر اشتد عذابه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا وفيه أنه سب النبي ، فلما جاء معتذرا للرسول قال له: كيف تجد قلبك؟ قال: ((مطمئن بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد)) ( [2] ) ، والثبات أولى كما فعل بلال وحبيب بن زيد الذي قطع مسيلمة لحمه وهو صابر محتسب حتى مات.
والنفاق مبني على الكذب والمسلم مأمور أن يكون صادقا واضحا صريحا لا يخاف في الله لومة لائم، ففي إسلامنا نتعلم الرجولة، وقول الحق أمام الظلمة والطغاة للحديث: ((سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله)) ( [3] ) ، ((إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منها)) ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) ( [4] ).
وفي إسلامنا نتعلم قولة الحق في صحبتنا، للأثر: ((إذا صحب الرجل أخاه ساعة من ليل أو نهار، إلا سئل يوم القيامة أقام حق الله فيها أم ضيع؟)) يقول عمر : (رحم الله امرأ أهدى إلى أخيه عيوبه) فليس في إسلامنا مجاملة ولا تغاضي ولا سكوت عن الحق لمراعاة مشاعر الآخرين، إن كان في مراعاتها انتهاك لحرمات الله أو منهجه، للحديث: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) ( [5] ).
والمسلم يتوخى الصدق حتى في تعامله مع الأطفال ومزاحه: ((رأي رسول الله امرأة تنادي على طفل لها: تعال أعطيك؟ فقال: وما تعطيه؟ قالت: تمرة، قال: والله لو لم تكن لكتبت عليك كذبة)) ( [6] ).
والمنافقون لم يكن لهم وجود في مكة حيث الإسلام محارب والرسول مضطهد، ومن يبايعه كان يبايعه على الموت وإنما ظهر المنافقون في أجواء العافية في المدينة، وكانوا يعتذرون عن الجهاد بأعذار واهية يبررون به كذبهم وجبنهم.
وأما سمات المنافقين:
التثاقل في أداء الطاعات، قال تعالى: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [النساء:142]. وهم يتثاقلون عن صلاتين بينها المصطفى بقوله: ((إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا)) ( [7] ) ، يقول ابن عمر رضي الله عنهما: كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن. فكيف لا وهي السبيل إلى الفوز بالنظر إلى وجه الله الكريم في الآخرة للحديث: ((إنكم سترون ربكم كرؤيتكم القمر لا تضامون في رؤيته (أي لا تشكون) فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)) ( [8] ). فترك العبد لمنامه وانخلاعه من كل العلائق دليل إيمان، للحديث: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)) ( [9] ).
نقض العهد: والإنسان لا يستقيم على حال واحد كما قال تعالى: لتركبن طبقا عن طبق فرخاء بعد شدة وشدة بعد رخاء وغنى بعد فقر وفقر بعد غنى وصحة بعد سقم وسقم بعد صحة، وعلى العبد أن يكون صابرا في الضراء شاكرا في العافية، وهذا ثعلبة بن حاطب لم يصبر على فقره وقال: ((يا رسول الله ادعو الله أن يرزقني مالا فقال له: يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأوتين كل ذي حق حقه، فقال: اللهم أرزق ثعلبة مالاً، فأتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة، فنزل أحد أوديتها حتى ترك الصلاة إلا الجمعة ثم ترك الجمعة فلما آن آوان الزكاة، بعث الرسول من يجمعها فنظر في كتاب رسول الله فقال: والله إنها الجزية والله إنها لأخت الجزية، اذهبوا فلا أعطي شيئا)) (علما أن زكاة الغنم في 40 إلى 120 شاة واحدة وفي 121 إلى 200 شاتان، وفي 201 إلى 300 ثلاث وعلى كل مائة شاة) ولكنه الانحراف، للحديث: ((لو كان لابن آدم وادي من ذهب لأحب أن يكون له واديان، ولا يملأ فاه ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)) ( [10] ) ، عاد الرسل إلى رسول الله فسمعوه يقرأ قول الله تعالى: ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصَدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ( [11] ). وحديث ثعلبة يرويه ابن جرير كما في مختصر ابن كثير، وفي أمتنا الكثير الكثير من أمثال ثعلبة ازداد عطاء الله لهم فازدادوا بخلا وطغيانا وكفرا، بل وإنفاقا لها فيما حرم الله ورسوله على فروج العاهرات وموائد القمار، وقد ظهر لنا جيل هو سبة في جبين الأمة ودليل على فساد منهجها البشري السقيم ودليل على المستقبل المظلم الذي ينتظر الأمة ويجعلها أهلا لغضب الله ومقته.
كثرة الكلام وقلة العمل بل لا عمل لهم والكلام صنعة يتقنها الكاذب كما يتقنها الصادق قال تعالى: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا [الأنعام:112]، والزخرف فيه مظنة الصنعة والإتقان فتراه مستعدا أن يتكلم في موضوع الجهاد مثلا ساعات ولكنه من أجبن الناس عند اللقاء: الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم [التوبة:79]. نزلت في عبد الرحمن بن عوف وقد تصدق بأربعة آلاف درهم فقال المنافقون: ما أعطى إلا رياء وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر فجاء بهما إلى رسول الله فقال: أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي فقال المنافقون: ألم يكن الله ورسوله غني عن صاع هذا، وهذا شأن المنافق يسخر من العاملين وهو لا يقدم شيئا من مال أو كلمة طيبة.
لا ثقة لهم بنصر الله بل يسخرون من أوليائه: قال قتادة: بينما النبي في غزوة تبوك وركب من المنافقين بين يديه يقولون: يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها هيهات هيهات، وفي رواية وحادثة أخرى قالوا: ما أرى قرآؤنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء فأنزل الله تعالى قوله: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة:66]. أطلع الله نبيه على مقالاتهم فدعاهم فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب فقال: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون وإن رجلي المنافق لتسعفان الحجارة وما يلتفت إليهما رسول الله ( [12] ).
وأما هل لأمتنا نصيب منه: فإن أمتنا أصبحت تعيش النفاق في كل حين وفي كافة المستويات.
بفقدان العلم النافع والهدي العاصم للعقل والقلب والروح قال تعالى: فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين [الزخرف:54]. قال الألوسي: أي وجدهم قليلة عقولهم بسبب فسقهم وانحرافهم فأطاعوه وأسرعوا فيما يأمرهم به.
وفي العلائق والارتباطات الاجتماعية يصدق فيه قوله : ((إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل، وتحاببتم بالألسن وتباغضتم بالقلوب فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)) ( [13] ).
وأما عاقبة المنافق :
شدة العذاب قال تعالى: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [النساء:145]. فالجنة درجات والنار دركات وهم في أسفلها يقول عبد الله بن مسعود: إن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل لأنه ضم إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله.
السخرية بهم في الآخرة قال تعالى: يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب [الحديد:13]. قال الضحاك: ليس أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة (أي على قدر أعمالهم) قال ابن عباس: فبينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلا من الله إلى الجنة فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين وضرب بينهم بسور باطنه الجنة وظاهره النار حيث النفاق والحيرة والشك والعذاب.
( [1] ) متفق عليه.
( [2] ) مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 348.
( [3] ) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.
( [4] ) رواه أبو داود والترمذي.
( [5] ) مسلم ,
( [6] ) رواه أبو داود.
( [7] ) متفق عليه.
( [8] ) متفق عليه.
( [9] ) رواه الترمذي.
( [10] ) متفق عليه.
( [11] ) التوبة ، مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 157 وقد كتبت بحوث في نفي هذه القصة وتبرئة ثعلبة منها، وإن الآية نزلت في رجل هذا شأنه وانظر "ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه"/عداب حمود الحمش. فقد جمع الأقوال في ذلك ، والله أعلم.
( [12] ) مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 153.
( [13] ) الجواب الكافي لابن القيم ص 44 ، من مراسيل الحسن.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/425)
الفرقة
أديان وفرق ومذاهب
أديان
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحذير رسول الله من الفرقة. 2- أهم أسباب الفرقة. 3- سمات الفرقة الناجية.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [الأنعام:153]. خط رسول الله خطا ورسم على جوانبه خطوطا وقال: ((هذا هو طريق الله وهذه السبل على رأس كل واحد منها شيطان يدعو إليها ثم قرأ الآية)) ( [1] ) ، فطريق الله واحد لا تعدد فيه وطرق الضلالة متعددة لا حصر لها والفرقة ثمرة لاتباع السبل المعوجة.
فما الفرقة وأسبابها؟ ومن الفرقة الناجية وسماتها؟ وما هو موقف المسلم من ذلك كله؟
أما الفرقة: فهي ضد الوحدة والتجمع، وهلاك الأمة بتمزيقها للحديث: ((سألت ربي ثلاث فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنين فأعطانيها وسألت ربي ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألت ربي ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)) ( [2] ).
وأهم أسباب الفرقة:
بعدنا عن إسلامنا: جرت سنة الله تعالى أن أمم الكفر قد تجتمع على باطلها وتتعاون وتتفق عليه قال تعالى: والذين كفروا بعضهم أولياء بعض [الأنفال:73]. وأن أمة الحق لا تستقيم إلا بالإسلام يقول ابن خلدون رحمه الله: (العرب أمة همجية ولا يسوسها ولا يهذبها إلا الدين) وهذا واضح جلي في استحالة اجتماع الأمة على أمر أبدا.
الاعتزاز بغير الله من عشيرة أو أرض أو دم أو طين وليت هذا الاعتزاز نظهره على أعداء الله ولكننا أقوياء على بعضنا أذلاء على أعدائنا، إسلامنا يدعونا بآياته فيقول: إنما المؤمنون إخوة [الحجرات:10]. إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13]. وبأحاديث يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ((إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل: يا بني آدم وضعتم نسبا ووضعت نسبا وضعتم نسباً: فقلتم فلان بن فلان ووضعت نسبا فقلت: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي)) ( [3] ).
أمراض القلوب: فليس إسلامنا مجرد مظهر إسلامي من مسواك ولحى بل لابد لذلك من باطن نظيف طاهر من الظلم والحسد والبغضاء والضغينة: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) ( [4] ).
الركون إلى الدنيا، قطع أواصر المحبة والمودة فأمة الحق كانت تعيش كلها بمشاعر واحدة وهم واحد وفرحة واحدة فهي: ((كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ( [5] ) ، ولكن حب الدنيا أفقدها معاني سامية كثيرة كالرحمة والرأفة والإيثار فعاشت في مادية قاتلة أذهبت بجمالها وأحالتها قبيحة منفرة.
أن نكيف دين الله لأنفسنا ولا نكيف أنفسنا لمنهج الله تعالى فنأخذ من إسلامنا ما يوافق أمزجتنا وندع ما لا يوافقها، فجرت علينا سنة الله تعالى كما جرت على الأمم من قبلنا قال تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم لقيامة [المائدة :14].
فالعداوة والبغضاء ثمرة لذلك الترك الجزئي لمنهج الله وميثاقه.
الخلاف حول الفرعيات: ومن سماحة إسلامنا أن في الكثير من أحكامه سعة ورحمة ومراعاة لأحوال الناس وتفاوتهم وينبغي أن يراعي في بحث أي مسألة قراءتها في أكثر من كتاب، وأن تكون المراجع من الكتب المعتمدة التي خطها سلف الأمة بأيد متوضئة ونفوس معظّمة لله تعالى، وعقول جمعت إلى العلم النزاهة والتجرد من الأهواء، وينبغي أن يراعي أيضاً وضع الفعل في موضعه فلا يجوز رفع السنة إلى درجة الفرض أو الهبوط بالفرض إلى درجة المستحبات، وينبغي أن يراعي أيضا ألا نبني محبتنا وبغضنا على اتفاق أو اختلاف في الأخذ بأي وجه ثبت عن رسول الله أو زكاه سلف الأمة فذاك دليل قصور في العقل وفساد في القلب.
وأما سمات الفرقة الناجية: فإن فرقة الأمة أمر قديم وقد أراد الله تعالى أن يقيم الحجة على عباده بعباد له متجردين في كل زمان ومكان سمتهم:
أنهم قليل من الناس قال تعالى: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث [المائدة:100]. وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله [الأنعام:116]. وللحديث: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى أن يأتي أمر الله)) ( [6] ).
وإن منهجهم فيه الشمول الكامل للدين الذي جاء به محمد بن عبدالله فليسوا مجزئين ولا مؤمنين ببعض وكافرين ببعض للحديث: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على إثنتي وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ما أنا عليه وأصحابي)) ( [7] ).
وإنهم مصلحون فلا يحبسون الخير في أنفسهم، وإنما لهم ولغيرهم والصبر في تبليغ شرع الله تعالى للحديث: ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي)) ( [8] ).
وإنهم مجاهدون فرجل القول غير رجل الجهاد، فالقول صنعة يتقنها الكاذب كما يتقنها الصادق والمحك هو الجهاد حيث ينفي خبث الصف ويصقل القلوب والعقول حتى تتجرد لخالقها سبحانه، للحديث: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة حتى يقاتل آخرهم الدجال)) ( [9] ).
وإنهم مستعلون عن كل منعطف أو ركون يشدهم إلى الأرض، عارفون بحديث المصطفى : ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)) ( [10] ).
وأما موقفنا من ذلك كله :
فعلينا أن نسأل الله دائما الثبات والصبر على دينه مرددين قوله تعالى وهو يعلّمنا: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب [آل عمران:8]. ومرددين دعاء المصطفى : ((اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا)).
وعلينا أن نكون جامعين لا مفرقين لأمة محمد ، ناصحين لا فاضحين دعاة لا قضاة، والذين يتسببون في هذه الفرقة مهما كان دافعهم فإنه لن يخرج عن دائرة، الإثم والحساب، إلا من رحم ربي وشاء، حيث داء الأنا الذي ورثوه عن الذي قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [الأعراف:12]. والجهل بالعدو المشترك، وعدم استكمال جوانب التربية، وقصور الفهم وضيق الأفق، والنظر إلى الأمور من خرم إبرة، والأهواء وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وانقلاب الموازين وعدم التثبت وسد الفتن، والاعتزاز بغير الله من نسب الأرض والطين والدم واللون والطبقة، وتضخيم جوانب على حساب أخرى من منهج الله، وسوء التقدير بين الأصول والفروع، كلها أسباب ثمرتها المرة هي الفرقة والاختلاف فاسدة لاصطدامها بالأصول المنصوص عنها في الكتاب والسنة، ولا اجتهاد في موضع النص فتأمل.
( [1] ) رواه أحمد.
( [2] ) أخرجه المسلم.
( [3] ) الطبراني في الأوسط والبيهقي.
( [4] ) مسلم.
( [5] ) متفق عليه.
( [6] ) رواه مسلم والترمذي.
( [7] ) أبو داود والترمذي.
( [8] ) رواه الترمذي.
( [9] ) رواه الحاكم.
( [10] ) متفق عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/426)
النصيحة والفضيحة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
محمد بن علي السعوي
بريدة
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل بني آدم خطّاء 2- الواجب للمخطئ نصيحته 3- يجب على المسلم التثبّت لما يسمعه
من أخبار 4- حمل أمر المسلمين على الظن الحسن والمَحْمل الخيِّر 5- التعيير والتشهير
فضيحة وليس بنصيحة 6- جواز القول في الناس في بعض المواطن
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم [سورة البقرة:235].
معشر المسلمين: إن بذل النصيحة للمسلمين من إرشادهم إلى الحق المبين، وتحذيرهم من الباطل والمبطلين، يعتبر من الدين، قال النبي : ((الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )) ( [1] ). قال الخطابي – رحمه الله -: النصيحة كلمة جامعة معناها: ((حيازة الحظ للمنصوح له)) ( [2] ).
أيها المسلمون: لا شك أن الإنسان معرض للخطأ والميل عن الحق والصواب، فقد جاء في الحديث: ((كل بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون)) ( [3] ) ، ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يبصره بعيوبه وأخطائه، وأن ينصح له في أمره وشأنه، لكن ينبغي أن يكون النصح برفق وحكمة، وليحذر المسلم من احتقار أخيه واتهامه بمجرد الظن، فإن الظن أكذب الحديث، وكفى به شرا قال النبي : ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) ( [4] ).
فإذا سمعت – أيها المسلم – عن أخيك المسلم شيئا تكره فلا تبادر إلى تصديق ما يقال لك عنه؛ بل يجب عليك أن تتثبت حتى تستيقنه، فإن كثيرا من الناس اعتاد إشاعة السوء بالباطل، وكثيراً منهم من إساءة الظن عنده أسرع من حسن الظن، فلا تصدق كل ما يقال، ولو سمعته مرارا حتى تسمعه ممن شاهده بعينه، ولا تصدق من شاهد الأمر بعينه حتى تتأكد من تثبته فيما شاهد، ولا تصدق من تثبت فيما شاهد حتى تتأكد من براءته من الغرض والهوى، ولذلك أمرنا الله تعالى باجتناب كثير من الظن، واعتبر بعضه إثما، فالظن ينافي العلم ولا يغني من الحق شيئا، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا [سورة الحجرات:12]. وقال عز وجل: وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً [سورة النجم:28].
وإذا رأيت – أيها المسلم – أمرا، أو بلغك عن أخيك المؤمن كلام يحتمل وجهين فاحمله محملا حسنا، فذلك أجدر بمكارم الأخلاق وصفاء الأخوة، قال عمر بن الخطاب – -: ((لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا)).
قالت بنت عبد الله بن مطيع لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم وكان طلحة أجود قريش في زمانه قالت: ما رأيت قوما ألأم من إخوانك، قال لها: مه مه! ولم ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال لها: هذا والله من كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بحقهم، فانظر كيف تأول طلحة صنيع إخوانه معه، وهو ظاهر القبح والغدر بأن اعتبره وفاء وكرما.
أيها المسلم: وإذا رأيت أخاك المسلم قد ارتكب خطأ لا مجال فيه لعذر أو شبهة، وجب عليك أن تتقدم إليه بالنصيحة سرا، بينك وبينه لا أمام الناس، فإن الإنسان لا يقبل أن يطلع أحد على عيبه، فإذا نصحته سرا، كان ذلك أرجى للقبول، وأدل على الإخلاص، وأبعد عن الشبهة، وأما إذا نصحته علنا أمام الناس فإن في ذلك شبهة الحقد والتشهير، وإظهار الفضل والعلم، وهذه حجب تمنع من استماع النصيحة والاستفادة منها، ولقد كان من خلق النبي وأدبه في إنكار المنكر وتبيين الحق، أنه إذا بلغه عن أحد أو جماعة شيء مما ينكر فعله لم يذكر أسماءهم علنا، وإنما كان يقول: ((ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)) ، فيفهم من يعنيه الأمر أنه هو المراد بالنصيحة، وهذا يعتبر من أرفع أساليب النصح والتربية.
قال الشافعي – رحمه الله -: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. فالمؤمن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المعصية التي وقع فيها، فهو يحب لأخيه ما يحب لنفسه أما الإشاعة وإظهار العيوب فهو مما حرمه الله تعالى ورسوله قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [سورة النور:19]. ففرق بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة، وعقوبة من أشاع السوء على أخيه المؤمن وتتبع عيوبه وكشف عورته أن يتبع الله عورته فيفضحه ولو بعد حين إلا أن يتوب.
أيها المسلمون: من مظاهر التعيير والتشهير: إظهار وإشاعته في قالب النصح، زاعما أن ما يحمله على ذلك هو التحذير من أقواله وأفعاله، والله يعلم أن قصده التحقير والأذى. مثال ذلك: أن تذم رجلا وتنتقصه وتظهر عيبه لتنفر الناس عنه رغبة منك في إيذائه لعداوتك إياه أو مخافتك من مزاحمته إياك على مال أو رئاسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة، فلا تتوصل بذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب من الأسباب الدينية أو الدنيوية، فمن فعل ذلك فإنه يدل على مرض في قلبه، وإن كان من الذين يحلفون أنهم لم يريدوا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون.
أيها المسلمون: ومن بلي بشي من هذا المكر بأن احتقر وعيب وتنقص منه فليتق الله وليصبر فإن العاقبة للتقوى: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [سورة فاطر:43].
أسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد، وأن يرزقنا قلوباً سليمة، وألسنة صادقة، وعلما نافعا، وعملا صالحا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
( [1] ) رواه مسلم :1/74.
( [2] ) فتح الباري :1/138.
( [3] ) رواه الترمذي وابن ماجة.
( [4] ) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد :
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن بعض الناصحين والناقدين في المجالس، وبعض الكتاب في الصحف وغيرها يقعون في بعض الأخطاء والهفوات التي تسبب النفرة، بحيث تصبح النصيحة فضحية، والتذكير تشهيرا، وهذا ما لا يرضاه الإسلام، قال ابن رجب – رحمه الله -: اعلم أن ذكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود مجرد الذم والعيب والنقص، أما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين أو خاصة لبعضهم، وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة، فليس بمحرم بل مندوب إليه، وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة، وردوا على من سوى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه، ولا فرق بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل.
أيها المسلمون: فإذا كان المقصود هو تبيين الحق فهذا داخل في النصيحة، وإذا كان المقصود هو تنقص القائل وتبيين جهله وقصوره في العلم فهذا محرم، سواء أكان رده لذلك في وجه من يرد عليه أم في غيبته، وسواء أكان في حياته أم بعد موته، وهو داخل في قوله : ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من اتبع عوراته يتبع اله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) [رواه أبو داود وغيره (عون المعبود:13/224)].
أيها المسلمون: يجمل بالمسلم أن يقف سدا منيعا يذب ويدافع عن عرض أخيه وسمعته ولا سيما إذا ذكر أمامه بما يكره قال : ((من رد عرض أخيه المسلم رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) [رواه الترمذي].
أيها المسلم: ولتكن واثقا من أخيك مطمئنا إليه فلا تؤول كلامه إلا بخير ما دمت تجد في الكلام محملا حسنا حتى تكون سعيدا في دينك ودنياك، وحتى تنجو يوم القيامة: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي...
(1/427)
الرجولة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الرجولة. 2- سمات الرجولة. 3- انقلاب الموازين.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الحق جلا وعلا: من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا [الأحزاب:23].
إن بين الله وبين المؤمنين بيعة، مفادها قول الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة :111]. المشتري هو الله، والبائع فيها هو المؤمن، والسلعة هي الأنفس والأموال، والثمن هو الجنة.
الله تعالى يعلمنا أن الرجال من المؤمنين هم الذين يصدقون الله في بيعتهم، وليس كل المؤمنين رجال.
فمن هو الرجل؟ وما سمات الرجولة؟ وما أسباب ضياعها؟
الرجل: هو عكس المرأة أو ضدها.
ونعني بالرجل: هو الذي أخضع ذاته ونفسه لمنهج الله عز وجل، فهما وسلوكا.
قال العلماء: الزمن يحوي الليل والنهار، وجنس الإنسان يحوي الذكر والأنثى، ولكل منهما مهمته، فكما أن الليل للسكنى والهدوء والنهار للكدح والعمل، فالرجل بمنزلة النهار، والمرأة بمنزلة الليل.
لذا جمع بينهما رب العزة سبحانه فقال: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى [الليل :1-4].
ولا ينبغي أن يتمنى الرجل أن يكون امرأة، ولا المرأة أن تكون رجلا، وصدق الله العظيم: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض [النساء:32]. يقول ابن كثير: نزلت في نسوة قالوا: ليتنا كنا رجالا فنغزوا كما يغزون ونجاهد كما يجاهدون، جاءت امرأة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تقول: يا رسول الله، إن الله كتب الجهاد على الرجال، فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا فهم أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن نقوم على شؤونهم فما لنا في ذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك وقليل منكن يفعله)) ( [1] ).
سمات الرجولة:
1) الذكر الدائم لله عز وجل، الرجولة هو أن لا تشغلك الدنيا عن الآخرة، بنص قول الله تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [النور:36].
كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يخطب على المنبر، فجاءت عير، فخرج الأصحاب ولم يبق إلا اثني عشر، فقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لو تتابعتم فلم يبق منكم أحد، لسال بكم الوادي نارا)) ، وأنزل الله قوله تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين [الجمعة:11].
2) أن تقدم طاعة الله على المال وعلى الولد، الله تعالى يقول: المال والبنون زينة الحياة والدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا [الكهف:46]. يقول عليه الصلاة والسلام: ((استكثروا من الباقيات الصالحات)) ، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح ولا حول ولا قوة إلا بالله هي الباقيات الصالحات)) ( [2] ).
الإمام الآلوسي يقول في تفسير هذه الآية: الأموال والأولاد سريعا الزوال، وذكر الله ليس كذلك، والمال قد يكون وبالا على صاحبه لكثرة أصحاب الحقوق فيه، والولد قد يعق وقد يفسد ولا تنتفع به في الدنيا ولا في الآخرة ( [3] ).
3) القوامة على الأسرة: قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم [النساء:34]. ابن كثير يقول: القيم أي الرئيس، الذي يحكم أهله ويقوم اعوجاجهم إذا اعوجوا، وهو المسؤول عنهم يوم القيامة، ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته)).
ولا يقدح في رجولة الرجل أن يعين أهله، فعائشة رضي الله عنها سئلت عن فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في بيته، قالت: ((كان يكون في مهنة أهله يشيل هذا ويحط هذا يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب شاته)) ( [4] ) ، وهو رسول الله.
ولا يقدح في رجولة الرجل أن يلاطفهن أو أن يمازحهن، تقول عائشة رضي الله عنها: سابقني رسول الله عليه الصلاة والسلام فسبقته، فلما حملت اللحم أي بدت علي السمنة، سابقني رسول الله عليه الصلاة والسلام فسبقني، فقال: ((هذه بتلك)) ( [5] ).
الذي يقدح في رجولة الرجل في مجال الأسرة هو:
انعدام غيرته على أهله:
أ – في أمر لباسها فلا يعنيه أن تخرج وأن تكشف عورتها للناس، والرسول عليه الصلاة والسلام أعلمنا أن من أهل النار: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة (كسنام البعير) لا يردن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام)) ( [6] ).
ب- أو لا تعنيه الجلسات المختلطة، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)) ( [7] ) وتركهما منفردين.
يقدح في رجولة الرجل أيضا أن يلقي للزوجة الحبل على الغارب، تخرج متى تشاء، وتعود متى تشاء، ولا يعرف الوجهة التي خرجت إليها، أو أن تسافر بغير محرم، أو عدم وجود الصحبة الطيبة التي تحفظ لها دينها وعفتها في الطريق.
هذه الأمور وعدم انشغال الرجل بها يدل على فقدان الغيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا يدخل الجنة ديوث)) ( [8] ). والديوث هو الذي لا غيرة له على عرضه.
ج- أيضا الذي يقدح في رجولة الرجل هو أن يسلم قيادة أمره إلى أهله، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((إذا كان أمراؤكم فساقكم وأغنياؤكم شراركم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير من ظهرها)) ( [9] ) ، وفي الأثر: (تعس عبد الزوجة).
د- الذي يقدح في رجولة الرجل أن يقدم محبة أهله على محبة الله ورسوله، عبد الله بن أبي بكر تزوج امرأة يقال لها عاتكة، وكانت ذات حسب ونسب وجمال وأدب، خرج أبو بكر يوما إلى صلاة الجمعة فسمع عبد الله يناغي زوجته وتناغيه بما يكون بين الرجل وأهله، فلما عاد من صلاة الجمعة ورآهما على الحال الذي تركهما عليه قال: يا عبد الله ألم تصلّ معنا؟ قال: أأجمعتم؟ قال أبو بكر: لقد شغلتك عاتكة عن ربك طلقها. فطلقها، ومضت ستة أشهر علم بعدها أبو بكر ندم عبد الله وندم عاتكة أنهما انشغلا بما يكون بين الرجل وأهله عن طاعتهما لله عز وجل، ثم قال له: أرجعها. فأرجعها.
4) حسن الخلق، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((إن المؤمن ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم )) ( [10] ).
5) التواضع، لا التكبر، جاء ضيف إلى عمر بن عبد العزيز ، فكاد السراج أن ينطفأ، فقال الضيف: يا أمير المؤمنين أقوم فأصلحه؟ فقال عمر بن عبد العزيز: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه، قال: أوقظ الغلام؟ قال: إنها أول نومته، ثم قام عمر بن عبد العزيز وأصلح السراج ثم عاد، فقال الضيف: أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يصلح سراجه!! قال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز وعدت وأنا عمر بن عبد العزيز. أي لم ينقص هذا الأمر من قدري، بل ازداد قدرا عند الله عز وجل ومن تواضع لله رفعه.
6) الرجولة في العفو لا في الانتقام، مسطح بن أثاثة كان ممن تكلم في أمر عائشة في حادثة الإفك، وحادثة الإفك ملخصها: أن رسول الله كان إذا خرج في غزوة أقرع بين نسائه، فإذا خرجت القرعة على إحداهن يأخذها معه في سفره تخدمه، وخرجت القرعة على عائشة.
لما قفل الجيش وعاد، خرجت عائشة بعد أن نزل الجيش في مكان لبعض شأنها، فلما عادت إذا بالجيش قد ارتحل، فجلست في مكانها تنتظر، وكان هناك صحابي يقال له صفوان بن المعطل كان ينتظر آخر الجيش، فإذا كان الجيش قد نسي متاعا مثلا يأخذه معه، لما رأى عائشة رضي الله عنها – وكان قد رآها قبل فرض الحجاب – قال: أم المؤمنين. هنا فأناخ بجمله فركبت ولحق بالجيش، فلما وصل الجيش تفقدوا الهودج الذي فيه عائشة فلم يجدوها، فلم يمض وقت قليل إلا وصفوان بن المعطل جاء وهو يسوق الجمل وعليه عائشة، فتكلم رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول وطعن في عرض رسول الله عليه الصلاة والسلام أن هناك صلة ما بين عائشة وصفوان.
وممن وقع في هذا الأمر مسطح، وكان فقيرا وكان أبو بكر ينفق عليه وهو يطعن في بنت أبي بكر ، وبعد أن نزلت آيات البراءة في سورة النور، أقسم أبو بكر ألا ينفق على مسطح بعد ذلك أبدا. فأنزل الله تعالى قوله: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( [11] ) فقال أبو بكر : بلى يا رب نحب، أن تغفر لنا. فأعاد نفقته على مسطح.
أسباب ضياع الرجولة :
نضع سببا واحدا هو انقلاب المقاييس، ورسول الله عليه الصلاة والسلام أعلمنا بانقلاب المقاييس فقال: ((يأتي على الناس زمان، يصدق فيه الكاذب ويكذب فيه الصادق، ويؤتمن فيه الخائن ويخون فيه الأمين، ويكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع ( [12] ) لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر)) ( [13] ) وقد جاء في الأثر: (لا تقوم الساعة حتى يعيّر الرجل بصلاته كما تعير الزانية بزناها).
فانقلاب الموازين في مجال الرجولة هو:
أ - أن تكون الاستطالة على الضعفاء مثلا: ((رأى رسول الله عليه الصلاة والسلام أبا مسعود يضرب عبدا له، فقال: ((اتق من هو أقدر عليك، منك عليه)) فالتفت فإذا هو رسول الله قد تملكه الغضب، فقال: هو حر لوجه الله يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لو لم تقلها لمستك النار)) ( [14] ).
ب- أصبحت الرجولة في عدم الوفاء بالعهد، أو الالتزام بالشرط، أو إذا وجد مجالا يستطيع به أن يحقق ربحا فلا شرط ولا عهد ولا التزام، وأن هذه هي الرجولة، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((ينصب لكل غادر لواءً ( [15] ) يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان)) ( [16] ).
ج- أو أن يكون الكذب هي الرجولة، للتخلص من المواقف المحرجة مثلا، لكن في إسلامنا الرجولة أن تكون صادقا، وتظهر العيب الذي كان، إن الرسول عليه الصلاة والسلام مر على رجل يبيع طعاما، فوضع أصبعه فيه فأصابه بلل، قال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟)) قال: أصابته السماء يا رسول الله. فقلبه فجعل الجيد فوق والرديء تحت فقال : ((ألا أظهرته، من غشنا فليس منا)) ( [17] ).
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إياكم وكثرة الحلف، فإنه منفق للسلعة منفق للبركة)) ( [18] ).
( [1] ) البزار والطبراني.
( [2] ) أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة ، مختصر ابن كثير مجلد 2ص 421.
( [3] ) روح المعاني مجلد 15ص286.
( [4] ) الطبراني.
( [5] ) أبو داود والنسائي.
( [6] ) رواه مسلم.
( [7] ) متفق عليه.
( [8] ) رواه أحمد والنسائي.
( [9] ) رواه الترمذي.
( [10] ) رواه أبو داود.
( [11] ) مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 593آية 22من سورة النور.
( [12] ) لكع بن لكع : أي لئيم ابن لئيم.
( [13] ) رواه أحمد والحاكم.
( [14] ) رواه مسلم.
( [15] ) لواء : أي علم مرفوع.
( [16] ) متفق عليه.
( [17] ) رواه مسلم.
( [18] ) رواه أبو داود.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/428)
المرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكامل المجتمع الإنساني بالعلاقة الزوجية بين الذكر والأنثى. 2- الليل والنهار نموذج لهذا
التكامل وصورة مقربة له. 3- التشبه بالكافرات أو الرجال محرم على المرأة. 4- قول الجهلة
بأن المرأة سبب خروج آدم من الجنة. 5- حال المرأة في المجتمعات الجاهلية قبل الإسلام.
6- تكريم الإسلام للمرأة زوجاً وبنتاً وأماً. 7- الفروق التي أقرتها الشريعة بين الذكر والأنثى.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول رب العزة سبحانه: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم:21].
حاجة المرأة للرجل كحاجة الرجل للمرأة، وقد جعل الله تعالى في اجتماعهما سكينة نفسية وعقلية وجسدية كافية، استجابة للفطرة وإعمارا للكون.
فما المرأة؟ وكيف كان حالها قبل الإسلام؟ وماذا صنع الإسلام لها؟ وما الفروق الشرعية بين المرأة والرجل؟ وما الذي يجب على المرأة المسلمة في واقعنا المعاصر؟
أما المرأة فهي ضد الرجل، كما أن الرجولة ضد الأنوثة.
1- وينبغي أن تعلم أن الله تعالى جعل الزمن ينقسم إلى نوعين، ليل ونهار، كذلك سبحانه جعل الجنس البشري ينقسم إلى نوعين، ذكر وأنثى، وذكر رب العزة سبحانه الليل والنهار والذكر والأنثى في آيتين متتاليتين، ليعلمنا عن اختلافهما في النوع وفي المهمة.
أما في النوع فقال تعالى: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى [الليل:1-4].
ثم اختلاف في المهمة، فكان الليل للسكنى والهدوء والراحة والستر، وجعل النهار للكدح والعمل والجهد والشقاء.
هيأ الله تعالى الرجل لهذا الجهد، ولهذا الشقاء، ومن قبل قال الله تعالى في حق آدم عليه السلام: إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [طه:117]. ولم يقل فتشقيا، فجعل الشقاء والعمل والكدح منوط بالرجل.
الرجل العائد إلى بيته يريد الهدوء بعد الضجر يريد الراحة بعد التعب، يريد السكون بعد الحركة.
المرأة الصالحة هي التي تهيئ ذلك كله، وصدق الله العظيم: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [البقرة:187]. فكلاهما، كل منهما ساتر لصاحبه.
2- وينبغي أن تعلم أن كمال المرأة في أنوثتها وأمومتها، كما أن كمال الرجل في رجولته وصلابته وتحمله، لعن النبي عليه الصلاة والسلام المرأة التي تتخلى عن أنوثتها، فتتشبه بالرجال في القول أو الفعل أو الحركة، ولعن النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي يتخلى عن رجولته فيتشبه بالنساء في القول أو الفعل أو الحركة. ((لعن النبي عليه الصلاة والسلام المتشبهين من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال)) ( [1] ) ، بل لا ينبغي لأحد أبدا أن يتمنى أن يكون على غير الوضع الذي خلقه الله تعالى.
وصدق الله العظيم: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض [النساء:32]. قالت نسوة ليتنا كنا رجالا نجاهد كما يجاهدون، ونغزوا كما يغزون، فدلهم النبي عليه الصلاة والسلام على أمر فيه نفع للأسرة وللمجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن طاعة الزوج، واعترافا بحقه يعدل ذلك كله وقليل منكن فاعله)) ( [2] ).
3- وينبغي أن تعلم أيضا أنه لا ينبغي للمسلم أبدا أن يردد القول الجاهل من أن سبب خروج آدم من الجنة إنما كان بفعل حواء.
المتأمل في كتاب الله يعلم أن فعل الذنب كان فعلا مشتركا في فعل الذنب وفي التوبة منه، قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [الأعراف:23]. بل تجد آية في كتاب الله تعالى، أن الله تعالى نسب الفعل إلى آدم وحده وقال تعالى: وعصى آدم ربه فغوى [طه:121]. فهو المسؤول الأول عن زوجه وأهله.
وأما حال المرأة قبل الإسلام: فعلى مستوى الأمم وعلى مستوى الأديان.
أ- أما على مستوى الأمم:
1- أوربا: في عصورها المظلمة، - وأوربا في كل عصورها مظلمة - في العصور الأولى كانت مجالس الفلاسفة تعقد ليناقشوا أمرا مهما، هل للمرأة روح كروح الرجل؟ هل لها روح إنسانية أم حيوانية؟ وينتهون في نقاشهم أن للمرأة روح ولكنها أدنى بدرجات كثيرة من روح الرجل.
2- عند الرومان: كان للرجل السلطة في أن يبيع زوجته وأن يطلقها، أن يعترف بولده أو لا يعترف به، والمرأة في اليونان لا ترث أبدا.
3- عند الهنود: وإلى وقت قريب من عاداتهم أن الرجل إذا توفى فإنه يحرق، وكانت توضع الزوجة الحية إلى جوار زوجها لتحرق معه، فلا معنى لوجودها بدونه.
4- عند العرب قبل الإسلام: كان مجيء ولادة المرأة هم وغم وحزن، وصدق الله العظيم: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون [النحل:58-59].
المرأة عند العرب كانت مجلبة للعار مجلبة للفقر، ورد الله عليهم فقال: وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت [التكوير:8-9]. ما الذي فعلته هذه البنت البريئة حتى تستحق القتل.
قيس بن عاصم يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، يقول يا رسول الله: إني وأدت اثنتي عشرة بنتا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((أعتق عن كل واحدة نسمة)) ( [3] ).
في قضية الرزق والفقر، يقول الله تعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا [الإسراء:31].
المرأة عند العرب كانت تورث ولا ترث فهي من سقط المتاع وصدق الله العظيم: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها [النساء:19]. بل ما بلغته المرأة عند العرب أنه يجوز للرجل أن يتزوج زوجة أبيه وهي بمنزلة أمه، أو أن يزوجها ويأخذ مهرها وصدق الله العظيم: ولا تنكحوا ما نكح آباءكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا [النساء:22]. وكان هناك نكاح البدل وهو أن يقول الرجل للرجل: انزل عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، كان هنالك نكاح الرهط، أن يجتمع ما دون العشرة على المرأة، كلهم يصيبها فإذا ولدت تخيرت منهم واحدا فيكون أبوه، هذا على مستوى الأمم.
ب- وأما على مستوى الأديان، فإن حالة المرأة:
في الديانة اليهودية: أن المرأة إذا كانت حائضا، أصبحت نجسة، المتعبدون من اليهود
كانوا يعزلون النساء الحيض في خيام بعيدا عن المدينة لا يجالسوهن ولا يشاركوهن، لأن
المرأة الحائض في توراتهم المحرفة أنها إذا مسّت شيئا فإنه يكون نجسا، المرأة في الديانة
اليهودية، لا ترث أبدا إنما الميراث يكون فقط بين الذكور.
عند النصرانية: في الإنجيل المحرف أن المرأة باب الشيطان ووسيلة من وسائل إغرائه.
الملك هنري الثامن أصدر قرارا يحرم على المرأة أن تلمس الإنجيل لأنها نجسة.
وفي شريعة حمورابي: كانت تحسب المرأة في عداد الماشية المملوكة للرجل.
هذا حال المرأة قبل الإسلام على مستوى الأمم وعلى مستوى الاديان.
ما الذي صنع الإسلام للمرأة؟ وينبغي على كل امرأة مسلمة وكل مسلم أن يعلم أنه لم ولن تعرف المرأة كرامتها إلا في الإسلام، أعاد لها إنسانيتها وأعاد لها كرامتها في مواضع كثيرة.
أولا: في وحدة الأصل والمنشأ: الله تعالى يقول: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا [الحجرات:13]. يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [النساء:1].
ثانيا: ثم وحدة في العمل ووحدة في الجزاء: فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى، بعضكم من بعض [آل عمران:195]. ثم الأهلية في التصرف والتملك: للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن [النساء:32]. لا كما يفعل من لا دين له أن يفرض على زوجته التي تعمل أن تعطيه راتبها لأنه أذن لها بالعمل، وهذا الأمر ليس له في الإسلام نصيب.
ثم اعلم أيضا أن إسلامنا رعى المرأة في أحوالها الثلاث بنتا زوجة وأما.
أما كونها بنتا: فقد سماها رب العزة هبة وعطاء منه سبحانه، وقدمها في الذكر رعاية لأمرها، وصدق الله العظيم: يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما. والجهلة من المسلمين في واقعنا، يفعل فعل الجاهلية في تذمره وألمه إذا ولدت له أنثى، أو أنه يهدد زوجته إذا ولدت له بنتا فهي طالق ونسي الغبي أن الفعل هو فعل الله تعالى وليس فعل المرأة نفسها.
يقال أن رجلا يقال له أبو حمزة ولدت زوجته بنتا، فهجرها، فمر على خيمة امرأته يوما، فسمعها تداعب ابنتها تقول :
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا وإنما نأخذ ما أعطينا ونحن كالأرض لزارعي نا
ننبت ما قد زرعوه فينا
فرجع أبو حمزة عن هجره لزوجته، وولج البيت وقبّل رأس امرأته وابنتها ( [4] ).
فليس للمرأة ذنب في هذا الأمر وفي هذا العطاء الذي يمنحه رب العزة سبحانه، ثم ينبغي أن تعلم أن رعاية البنت باب إلى الجنة، رسول الله يقول: ((من رزقه الله أنثى، فلم يؤذها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها دخل بها إلى الجنة)) ( [5] ). رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو كهاتين في الجنة)) وجمع بين السبابة والوسطى ( [6] ). ثم المساواة في العطية لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ساووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء)) ( [7] ).
رعى الإسلام أمر المرأة وهي زوجة وما حرم إرادتها في الموافقة أوعدم الموافقة على النكاح يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا تنكح (تتزوج) الأيّم (الثيب) حتى تستأمر (يطلب إذنها) ولا تزوج البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: أن تسكت)) ( [8] ). وإذا أعلنت البنت رفضها فالعقد باطل.
((جاءت امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام تقول: يا رسول الله إن أبي يريد أن يزوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، (فهو أدنى منها حالا ومكانا) فجعل النبي عليه الصلاة والسلام الأمر إليها فقالت: أجزت ما فعل أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء)) ( [9] ).
أوصى الإسلام برعاية الزوجة: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم)) ( [10] ).
وأما إن كانت أماً فحقها مقدم على حق الوالد لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك)) ، بل الجنة عند قدم المرأة الصالحة، ((جاء رجل إلى النبي يسأله عن عمل يدخله الجنة، قال: ألك أم؟ قال: نعم، قال: الزمها فإن الجنة عند قدمها تكتب لمن ذل لأمه وبر بها)) ( [11] ).
وأما الفروق الشرعية بين المرأة وبين الرجل: فهذا الباب الذي استطاع منه أعداء الله تعالى أن يرموا سهامه، ويشككوا المسلم بإسلامه ويظن المسلم أن الإسلام يظلم المرأة من خلال هذه الفروق، علما أن الأمر مبني على العدالة، مبني على مراعاة الحال، وليس انتقاصا للمرأة، أو انتهاكاً لحقوقها.
في قضية الميراث مثلا: قال الله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [النساء:11]. لماذا لا يكون حظ الأنثى كحظ الذكر؟ لماذا لا تكون المساواة؟ ورد العلماء فقالوا: المرأة في إسلامنا مكفولة عند الأب مكفولة عند الزوج، مكفولة عند الأخ لا تنفق من مالها وإن كانت موسرة درهما واحدا.
ولنضرب لذلك مثلا: أخ وأخت ورثا ثلاثة آلاف دينار للأخ ألفان وللأخت ألف، الأخ مكلف بالإنفاق على أخته حتى تتزوج شرعا.
وهي لا تنفق من ميراثها درهما واحدا، هو مكلف بالإنفاق على أسرته وعلى ولده وإن لم تكن له أسرة فعليه أن يسعى في زواج نفسه بالمال الذي يدفعه بالأثاث الذي يشتريه، فإذاً الأعباء الاقتصادية التي تترتب على الرجل أعظم بكثير من الأعباء الاقتصادية التي تطالب بها المرأة.
في قضية الطلاق: لماذا لا يكون الطلاق بيد المرأة ويكون الطلاق في الإسلام بيد الرجل؟ ورد العلماء على هذا من الناحية المادية ومن الناحية الجبلّية:
أما من الناحية المادية فالرجل يعلم في إسلامنا أنه إذا أطلق لفظ الطلاق ما الذي يترتب عليه؟ يترتب عليه من الأعباء الاقتصادية.
أولا: أن يدفع مؤخر المهر.
ثانيا: أن يدفع النفقة من مأكل ومشرب ومسكن للزوجة خلال العدة.
ثالثا: أن يدفع النفقة للأولاد حتى يكبروا.
رابعا: أن ينفق على نفسه.
خامسا: أن ينفق إذا أراد زواجا آخر من مهر وما إلى ذلك.
إذا أعباء اقتصادية كثيرة تجعله يفكر ألف مرة قبل أن يطلق لفظ الطلاق وإذا أطلقه فإنما يطلقه لشعوره أن الحياة أصبحت جحيما لا يطاق وعند ذلك يتحمل ما يتحمل لفض هذه الشركة.
ومن الناحية الجبلية: اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون المرأة مرهفة الحس شديدة الانفعال سريعة التأثر، الأمر الذي يتناسب مع مهمتها في تلبية حاجة الطفل التي لا تحتاج إلى تفكير، تلبية كاملة، وهذا من صفات كمالها أنها سريعة التأثر فلو أوكلنا لفظ الطلاق إلى المرأة، وفي لحظة سوء تفاهم أو كدر في العيش أو حصول أمر ما فسرعان ما تطلقه المرأة سريعا لأنها معفاة من الأعباء الاقتصادية ولأن الأمر يتناسب وعاطفتها الجياشة.
في واقعنا الحاصل: المرأة بمجرد أن تشعر بضيق تقول: يا فلان طلقني فكيف لو كان لفظ الطلاق معلقا بها؟ لهدمت أسر لا عد لها ولا حصر!!!
أخيرا في قضية الشهادة: قال تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [البقرة:282].
لماذا لا يكون هذا؟ ولماذا تكون شهادة الرجل الواحد تعدل شهادة امرأتين؟
ورد العلماء فقالوا: الشهادة إما أن تكون خاصة بالنساء وإما أن تكون في الحدود مثلا، فإذا كانت خاصة بالنساء لإثبات الرضاعة، لإثبات الثيوبة أو البكارة، لإثبات الجنس فهذا أمر متعلق بالنساء فشهادة المرأة الواحدة فيه تكفيه.
رجل تزوج امرأة على عهد النبي عليه الصلاة والسلام فقامت امرأة وقالت: إني أرضعتكما معا، ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وذكر له الأمر قال: ((كيف وقد قيل؟)) ( [12] ) ، أي لا بد من الفرقة بينك وبينها بشهادة امرأة واحدة.
أما فيما يتعلق بالحدود ولطبيعة المرأة وأنها شديدة الانفعال والتأثر ولغلبة الجانب العاطفي فيها فإذا رأت جريمة تحدث مثلا تغمض عينيها، وقد تهرب، وقد يغمى عليها، ولاستكمال جانب التحقيق في المسألة احتاج الإسلام إلى أن تكون أخرى بجانبها تذكرها ما خفي عليها عند حصول الجريمة وصدق الله العظيم: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [البقرة: 282]. فالأمر فيه عدالة وفيه مراعاة للحال وفيه استكمال لجانب التحقيق وليس فيه امتهانا وانتقاصا كما يقول أعداء الله.
وأما الذي ينبغي على المرأة المسلمة في واقعنا المعاصر فعليها:
أولا: أن تدرك ما يخطط لها، علم أعداء الله تعالى أن قضية المرأة هي قضية الأسرة والمجتمع وأن إفسادها إفساد للأسرة والمجتمع.
أول كتاب خرج يعنى بإفساد المرأة في الشرق الأوسط هو كتاب "المرأة في الشرق الأوسط" لفهمي مرقص وفيه يتحدث أنه لابد من السعي للمرأة المسلمة بنزع الحجاب والاختلاط، بترغيب المسلمات بالزواج من غير المسلمين، بتقييد الطلاق بالمنع من الزواج بأكثر من واحدة. ورفع هذا اللواء من عالمنا الإسلامي رفاعة الطهطاوي، قاسم أمين، هدى الشعراوي، أمينة السعيد، نوال السعداوي، نماذج حقيرة تتحمل إثمها وإثم من يصدقها ويسير وراءها.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)) ( [13] ). وعلى المرأة المسلمة أيضا أن تحذر من دعاة التحرر الذين يطالبونها أن تتحرر من الأخلاق، فالجنس عملية بيولوجية لا صلة لها بالأخلاق أبدا.
في إسلامنا أكرم ما في المرأة عفتها، أكرم ما في المرأة حياؤها، أعز ما في المرأة شرفها وإذا ُمسّ فالمرأة ساقطة لا وزن لها في إسلامنا.
أن تحذر ممن يدعونها أن تنزع الحجاب حتى تكون في متناول الجميع، الجميع يتلذذ بها فتكون سلعة بيد التجار، تجار الرقيق الذين يتاجرون بها.
ثانيا: ثم ينبغي على المرأة المسلمة أن تعلم أن السفلة من دعاة التحرر إذا عرض لأحدهم أن يتزوج فإنه سوف يبحث عن المرأة الفاضلة التي تحفظ له عرضه - إن كان له عرض - وأن تحفظ له ولده.
ذكر أحد الفضلاء أن عنده صديق له علاقة بامرأة لما أراد الزواج أخذ يبحث عن امرأة محجبة وهذه التي كانت تربطه بها صلة التليفون واللقاء قال: إنه لا يستأمنها على عرضه ولا يستأمنها على ولده وما فعلته معه يمكن أن تفعله مع غيره.
قاسم أمين الذي أخرج كتابا سماه "المرأة الجديدة" دعا فيه إلى الاختلاط وترك الضوابط الخلقية.
يذكر المؤرخ الإسلامي وفيق العظيم يقول: أردت أن ألقنه درسا فذهبت إلى دار قاسم أمين فطرقت بابه ولما خرج قلت: له أريد أن أقابل زوجتك حتى أتحدث معها بالأمور الاجتماعية والسياسية يقول وفيق العظيم: فامتعض وغضب قاسم أمين وقال: لا يمكن هذا، قلت: كيف تدعو الناس إلى أمر لا ترضاه لأهلك؟ قال: إنها قد ألفت تربيتها من والديها على التحفظ وعدم الاختلاط، يقول المؤرخ: قلت له: فاعلم أن الأمر الذي تدعوا إليه النساء يمجه الناس حتى أهل بيتك ( [14] ). ولكنهم سفلة يريدون أن يعبثوا بأعراض الآخرين من غير أن يمس عرضهم بشيء.
ثالثا: ثم اعلمي أن على المرأة المسلمة أن لا تخدع بالوهم من أن المرأة الغربية خرجت إلى العمل برغبتها.
المرأة في الغرب الجبان أُجبرت على العمل أعلمها الغرب أنها لا تستحق رغيف العيش إلا أن تعمل.
يقول أحد الكتاب الإسلاميين كنت في زيارة إلى النمسا، ركبت سيارة سائقها امرأة فسألتها: لماذا تعملين؟ فأوقفت محرك السيارة والتفتت إلي وقالت: هذا أعجب سؤال أسمعه في حياتي. سألتها: ولماذا لا ينفق عليك زوجك؟ قالت: وهل في بلد من العالم أن الزوج ينفق على زوجته؟ يقول: فقلت لها: في ديارنا بقية باقية من إسلامنا الذي تركناه من الأحوال الشخصية أن الزوج ينفق على زوجته. قالت: هذا خيال لا نطمع في الوصول إليه ( [15] ).
من يرضى أن يرى أمه وابنته أو زوجته تعمل سائقة أو بائعة لبنزين، في الغرب المرأة تريد أن تعيش فتاجرت حتى بشرفها وعرضها.
والزنا في دول الغرب مهنة تتقاضى الزانية على زناها أجرة من الدولة فمن الذي يرضى هذا لأمة الإسلام إلا ممن تربى على موائد الغرب؟.
( [1] ) رواه أحمد وأبو داود.
( [2] ) رواه البزار.
( [3] ) البزار عن عمر وأخرجه عبد الرزاق.
( [4] ) البيان والتبيين للجاحط ج ص186.
( [5] ) رواه أحمد وأبو داود.
( [6] ) مسلم والترمذي.
( [7] ) رواه الطبراني.
( [8] ) البخاري ومسلم.
( [9] ) رواه أحمد وأبو داود.
( [10] ) رواه الترمذي.
( [11] ) رواه الطبراني.
( [12] ) رواه البخاري ومسلم.
( [13] ) رواه مسلم.
( [14] ) المرأة ومكانتها في الإسلام /أحمد عبد العزيز الحصين ص 67.
( [15] ) محاضرة للأستاذ يوسف العظم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/429)
الشباب
الأسرة والمجتمع
الأبناء, قضايا المجتمع
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الشباب. 2- من الشيوخ من فاق الشباب. 3- استجابة شباب قريش لدعوة التوحيد.
4- صفات الشباب كما وردت في كتاب الله. 5- مشكلات الشباب. 6- كيف يقضي الشاب
وقت الفراغ. 7- أسباب مشكلات الشباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول رب العزة سبحانه: الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير [الروم:54].
الشباب هم عصب الحياة وقوامها، صلاحهم صلاح لأمتهم، وفسادهم فساد لأمتهم.
فما الشباب؟ وما هي سماتهم في كتاب الله عز وجل؟ وما هي مشكلاتهم؟ وما أسبابها؟ وما العلاج؟
أما الشباب لغة: فقد ذكر الثعالبي في كتابه فقه اللغة أن الشباب جمع شاب وهو ما بين الثلاثين والأربعين، وما بكت العرب على شيء كما بكت على الشباب حتى قال قائلهم:
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب
وأما اصطلاحا: فالشباب هو قوة بين ضعفين، قوة بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة وينبغي أن تعلم:
أن من العلماء من تحدث عن حقيقة الشباب فقال: إن الشباب ليس في قدرة الجسد ولا في قوة الشهوة، وإنما الشباب في صلابة العزيمة وحماسة الروح، فهذا عمر المختار وهو في التسعين من عمره، قاتل الإيطاليين قتال الأبطال، ودخل المعارك الكثيرة واستشهد أكرم استشهاد لله عز وجل.
لقد كان شيخا ولكنه يحمل همم الشباب وحماستهم.
هل يقاس هذا بالشباب العالة التافهين المترفين الذين لا همة لهم ولا غاية ولا أمل هم شيوخ وعجزة ومسنون ولكنهم في صورة شباب.
وينبغي أن تعلم أيضا: أن الله تعالى بعث المصطفى عليه الصلاة والسلام على سن الأربعين وهي أخصب فترة من فترات العمر وأنضجها، وأحاطه بالشباب.
فهذا أبو بكر الصديق ، أسلم يوم أن أسلم وهو في السابعة والثلاثين وعمر بن الخطاب أسلم وهو في الواحدة والثلاثين من عمره وعثمان بن عفان أسلم وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، وعلي بن أبي طالب أسلم وهو في الثامنة عشرة من عمره، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أوصيكم بالشباب خيرا فإنهم أرق أفئدة، ألا وإن الله بعثني بالحنيفية السمحة فحالفني الشباب وخالفني الشيوخ)).
وينبغي أن تعلم أيضا: أن الشباب لا يدوم ولابد للعبد أن يغتنم شبابه قبل رحيله، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك)) ( [1] ).
وينبغي أن تعلم أخيرا أن أهل الجنة يدخلون الجنة وهم شباب يقول النبي : ((أهل الجنة شباب مرد كحل لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم)) ( [2] ).
ومن مزاح النبي عليه الصلاة والسلام: ((أن امرأة عجوزا جاءت إليه: تقول يا رسول الله، أدع الله لي أن أدخل الجنة. قال: لا تدخل الجن عجوز، فذهبت تبكي فردها النبي عليه الصلاة والسلام، وقال لها: ألم تسمعي قول الله تعالى: إنا أنشأناهن إنشاءا فجعلناهم أبكارا عربا أترابا [الواقعة:35-36] )). أترابا أي في سن واحدة على سن ثلاث وثلاثين يدخلون الجنة.
ما هي سمات الشباب في كتاب الله عز وجل:
ضرب لنا رب العزة سبحانه أمثلة للشباب السوي المستقيم وذكر لنا سماتهم:
أنهم لا يخافون في الله لومة لائم: وصدق الله العظيم: إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا (أي أمام ملكهم دقيانوس) فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططا [الكهف:13-14]. ويتولى رب العزة أمر رعايتهم: وترى الشمس إذا طلعت تزور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال [الكهف:17]، فهي تعطيهم شيئا من ضوئها لحاجة الجسد إليه، ويعاملهم رب العزة معاملة الأم الرؤوم لأولادها: ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال [الكهف:18]، لذا نجد أن الأم تقلب وليدها من جانب إلى آخر لئلا يفسد لطول المدة، ويلقي عليهم الهيبة: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا [الكهف:18].
أنهم أصحاب عفة: وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون [يوسف:23]. استعلاء وعفة وحياء، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: لقد اجتمع ليوسف عليه السلام من الدواعي لإتيان الفاحشة الشيء الكثير فقد كان شابا وفي الشباب ما فيه، والمرأة هي التي دعته إلى نفسها، فلم يتجشم عناء إرضائها وهي ربة الدار وتعلم بوقت الإمكان وعدم الإمكان، وهي التي غلقت الأبواب ولقد كان غريبا لا يأنف مما يأنف منه من يكون بين أهله وعشيرته وكان عبدا، والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، ويدوس يوسف كل ذلك تحت قدمه.
الشهوة: التي يتكالب عليها كلاب المتعة في واقعنا ويبذلون لها الأموال ويقطعون لها المسافات الطوال لإتيان الفاحشة، يدوسها يوسف بنعله بل يقول: قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين [يوسف:33].
إنهم أصحاب تضحية وفداء، في موضعين، في إبراهيم عليه السلام موضع فيه الذلة ولكنها لله وموضع فيه العزة ولكنها على أعداء الله.
أما الموضع الأول الذي فيه الذلة لله: فلما بلغ معه السعي قال يبني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى [الصافات :102]. ورؤيا الأنبياء وحي من الله تعالى: فانظر ماذا ترى ، تحمل الأمر أنت إما أن تستقبل أمر الله تعالى فتصبر وإما أن تعارض: قال يأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين [الصافات:102].
ووضع إسماعيل عليه السلام شبابه وآماله كلها في موضع الذبح لله عز وجل.
الموضع الثاني: موضع العزة لله عز وجل، وعلى أعداء الله، إبراهيم عليه السلام في موقفه إذ قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون [الأنبياء:52]. إلى قوله تعالى: أف لكم ولما تعبدون هن دون الله أفلا تعقلون [الأنبياء:67]. وكم نحن بحاجة إلى شباب يدمرون أصنام الأمة الذي يسوسونها بغير منهج الله عز وجل.
وأما ما هي مشكلات الشباب:
الجنس: وينبغي أن تعلم أن الجنس لم يكن مشكلة في المجتمع المسلم الأول لأنه لم تكن هنالك المثيرات حتى تظهر هذه المشكلة.
ولم تكن هنالك البواعث ثم تربية النبي عليه الصلاة والسلام للشباب وإشعارهم أن عرض الأمة هو عرضهم: وقف شاب وقال: يا رسول الله، إئذن لي بالزنا، فقال عليه السلام : ((أترضاه لأمك؟ قال: لا فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: أترضاه لأختك؟ قال: لا فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: أترضاه لعمتك؟ قال: لا فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: أترضاه لخالتك؟ قال: لا فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: إذا زنيت فإنما تزني بأم أو أخت أو عمة أو خالة للمسلمين)) ( [3] ). والمعنى أنه لا يستبيح الزنا إلا من رضي أن يزني بأمه أو أخته أو عمته أو خالته، ثم إن الإسلام عالج هذا الأمر بالزواج المبكر يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فإن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) ( [4] ). ثم عالج الأمر بعدم الاختلاط.
الله تعالى يقول: وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب [الأحزاب:53]. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إياكم والدخول على النساء)) ( [5] ).
ذكر صاحب "حصوننا مهددة من داخلها": أن للاختلاط ثمرتين كلهما مر:
الثمرة الأول هي: اختلاط الأنساب والزنا، والحادثة التي ذكرتها جريدة القبس بتاريخ 14/5/1989م من اعتداء طالب جامعي على زميلته وهي في الجامعة، إذا كانت الفتاة تذهب إلى الجامعة في أكمل زينتها وكأنها تزف إلى عروسها، ويصادفها الشاب الذي لا دين له ما الذي تنتظره بعد ذلك؟ تضع النار وبجوارها الكاز، ما الذي يحدث بعد ذلك؟ أمتنا تعودت البغبغائية، تعودت أن تكون قردا تقلد غيرها في الاختلاط وفي غير الاختلاط.
ذكر أن السفير العثماني كان في جلسة مع كبراء رجالات انجلترا، فسأله أحدهم: لماذا لا تسمحون لنسائكم بالشرق أن يختلطن بالرجال؟ فقال له السفير العثماني: إن نساءنا في الشرق لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن.
والثمرة الثانية هي: التي ذكرها صاحب كتاب "حصوننا مهددة من داخلها" أيضا: البرود الجنسي، كثرة الاختلاط بالمجتمع النسائي يؤدي إلى البرود حتى إذا تزوج كان له الأثر السلبي في جماعه لأهله مما يؤدي إلى أن يكون النسل ضعيفا.
الفراغ: ولابد أن تعلم أن للوقت قيمة في إسلامنا، وأقسم رب العزة بالوقت وقال: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [سورة العصر].
فأقسم بالوقت وأن كل إنسان خاسر إلا من آمن، وصدق دعوى الإيمان بالعمل، ولزوم الحق والصبر عليه.
وينبغي أن تعلم: أن الوقت يجب أن يقضى بطاعة، فإن لم يقض بطاعة قضي بمعصية ومجالات قضاء الفراغ كثيرة.
منها الرياضة: يقول عمر بن الخطاب : (علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل).
منها أن يتعلم اللغة الأجنبية، في الحديث أن النبي سأل زيد بن ثابت وهو شاب: ((أتحسن السريانية؟ قال: لا، قال: عليه الصلاة والسلام: فتعلمها فإني تأتيني الكتب منهم: يقول زيد بن
ثابت فتعلمتها في سبعة عشر يوما)) ( [6] ).إتقان اللغة الأجنبية، فمن علم لغة قوم أمن مكرهم.
أو حفظ كتاب الله عز وجل أو حديث النبي عليه الصلاة والسلام، جاء في الأثر" (مثل الذي يتعلم العلم في الصغر، كالنقش على الحجر، ومثل الذي يتعلم العلم في الكبر كالنقش على الماء) فإنه سرعان ما ينسى.
أن يتعلم البيع والشراء، مر النبي عليه الصلاة والسلام بعبد الله بن جعفر ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو صبي يبيع فيقول له عليه الصلاة والسلام ويدعو له بالخير ويقول: ((اللهم بارك له في بيعه)) ( [7] ).
أو أن يعلم الشاب حرفة وصنعة، فيقول عمر بن الخطاب : (إن الرجل ليعجبني فأسأل عنه هل عنده حرفة؟ هل عنده صنعة؟ فإن قيل: لا سقط من نظري).
وكثير من الشباب في واقعنا يتهافتون على الوظائف التي لا عمل فيها فيتقاضى راتبه على كسله وعلى عدم العمل الذي يؤديه، صورة من صور الشباب الضائع في واقعنا والهدر في أموال الأمة وطاقاتها والذي أصبح سمة من سمات حياتنا.
أو أن تتعلم البنت فنون الخياطة وفنون الطبخ مما يجعلها امرأة ناجحة في بيت الزوجية بعد ذلك.
ما هي أسباب مشكلات الشباب؟
التناقض: التناقض في التوجيه، إعلامنا يبدأ بالقرآن وينتهي بالقرآن وما بين القرآن والقرآن هو السم الزعاف، تناقض في قضية الدعوة إلى الإصلاح ثم رصد للمصلحين وإيذاء لهم، تناقض بين إيجاد بواعث الجريمة في المجتمع ثم فتح السجون لمن يجرم بعد ذلك.
أمتنا تعيش التناقض في توجيهها في أساليبها في سياستها تعيش التناقض لأنها فقدت هويتها كأمة مسلمة.
انحطاط القدوة: الأصل أن القدوة هو النبي عليه الصلاة والسلام: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب:21]، زوجات النبي أمهات المؤمنين، السلف الصالح هؤلاء قدوتنا ولكن الواقع يشهد أن العاهرة واللاعب، والفنان والفنانة هي التي حلت محل رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومحل أزواج رسول الله ومحل السلف الصالح.
وما الذي يخطر في بال شبابنا وأبنائنا عندما يعلمون أن عاهرة قد قدمت عرضا مسرحيا لمدة أسبوع فتقاضت عليه خمسين ألف دينار أو أن مغن عابث تقاضى على أغنية واحدة 40 ألف دينار أو أن يودع اللاعب العابث بآلاف الهدايا.
تموت الأسد في الغابات جوعا ولحم الضأن يرمى للكلاب
وذو جهل ينام على حرير وذو علم ينام على تراب
اختلال موازين الرجولة في واقعنا: ما هي موازين الرجولة، لقد أصبحت أمنية الشاب، بل إن من الخطوط العريضة في حسه إن الرجولة هي في الميوعة، هي في التخنث، هي في التشبه بالنساء، هي أن يضع القلم المذهب في جيبه، هي أن يلبس السوار من الذهب، أو أن يلبس القلادة من الذهب، رسول الله عليه الصلاة والسلام، رفع الذهب والحرير وقال: ((هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها)) ( [8] ) ، ((ولعن النبي عليه الصلاة والسلام المتشبهين من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال)) ( [9] ) ذكر أن عمر بن عبد العزيز ، علم أن ولدا من أولاده اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه يقول: لقد بلغني أنك اشتريت خاتما بألف درهم، فإذا وصلك كتابي فبعه وتصدق على كل جائع بدرهم، واتخذ لك خاتما غيره، واكتب عليه: رحم الله امرءا عرف قدر نفسه.
موازين الرجولة لابد أن تعود: (اخشوشنوا فإن الترف يزيل النعم).
تخلي الوالدان عن مهمتهما: فظن الوالد أن مهمته تنتهي بمجرد إحضار الطعام والشراب والكسوة، وتظن الوالدة أن مهمتها تنتهي بمجرد الوضع والولادة وأما أمر التربية فهو يوكل بعد ذلك إلى الخادمة البوذية أو النصرانية هن اللائي يتولين أمر التربية في واقعنا، فتأمل كيف يأتي الجيل بعد ذلك بتربية خدم في حسه في مشاعره، في أخلاقه، في عقيدته؟.
وأما العلاج:
فلا بد أن نستشعر مسئوليتنا، الكل مسؤول عن هذا الأمر: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيتها وهي مسؤولة عن رعيتها)) ( [10] ). ويتحمل ولاة الأمور في أمة الإسلام المسؤولية العظمى عن ذلك، عمر بن الخطاب وفي يوم عرفة قال لولده عبد الله: (يا بني أوصني، فقال له ولده عبد الله: يا أبي انظر أمامك في يوم عرفة فنظر فإذا خلق كثير، انظر وراءك فنظر فإذا الخلق كثير، انظر عن يمينك فإذا الخلق كثير، انظر عن شمالك فإذا الخلق كثير، فقال له: يا أبي كل منهم يسأل الله أن يغفر له ذنباً بينه وبين الله بينما أنت مسؤول عن ذنوبهم يوم القيامة).
لابد أن يسن القانون الذي يحمي دين الأمة وأخلاقها، لقد أصبحت السخرية بالله ورسوله وكتابه من الحرية الشخصية، فكاتب يريد أن يعبر عن رأيه فيسب الله ويسب رسوله، ويسخر بدين الله عز وجل فهذه حرية شخصية، الدولة العثمانية كان من قوانينها أن من ذكر ذات الله بالسوء فإن عقوبته الإعدام. عمر بن الخطاب ، ذكر له أن في المدينة شاب يتخنث، يتشبه بالنساء فأمر به أن يحلق شعر رأسه وأن ينفي إلى خارج المدينة.
لابد من سن القانون الذي يحمي أخلاق الأمة ويحمي دينها.
قضية الدعاء لأبنائنا لا أن ندعو عليهم، الرسول عليه الصلاة والسلام يحذرنا من أن ندعو بالسوء عليهم، فيقول: ((لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أهليكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لئلا توافقوا من الله ساعة لا يسأل فيها عطاء إلا أجاب)) ( [11] ) بمعنى أنك إذا دعوت الله تعالى بالسوء على ولدك فوافق ساعة إجابة، تكون أنت السبب في ضياعه.
جاء رجل يشكو إلى سعيد بن المسيب فساد ولده فقال له سعيد بن المسيب: علّك دعوت عليه، قال: نعم، قال: أنت أفسدته بالدعوة عليه.
( [1] ) أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد حسن.
( [2] ) رواه الترمذي.
( [3] ) رواه أحمد بإسناد جيد.
( [4] ) رواه الجماعة.
( [5] ) متفق عليه.
( [6] ) رواه أبو داود والترمذي.
( [7] ) رواه أبو يعلى والطبراني.
( [8] ) رواه أحمد وابن ماجة.
( [9] ) رواه بالبخاري.
( [10] ) رواه البخاري ومسلم.
( [11] ) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/430)
النكاح
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النكاح سنة في الخلق. 2- مشروعية النكاح والإنكار على تركه. 3- أنواع الأنكحة في
الجاهلية. 4- صفات الزوجة الصالحة. 5- دعوة تحديد النسل. 6- صفات الزوج الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الحق جلا وعلا: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [البقرة:187]. حقيقة يضعها رب الناس سبحانه أن الزوجة الصالحة ساترة للزوج عن الحرام وأن الرجل الصالح ساتر للمرأة عن الحرام ففي النكاح سكينة بعد اضطرابها وقلقها وغض للبصر وإحصان للفرج.
فما النكاح؟ وما هي أنواعه؟ وما هي صفات الزوجة الصالحة والزوج الصالح؟
أما النكاح: فهو سنة من سنن الله في الخلق والتكوين، كرم الله تعالى به الإنسان عن غيره من العوالم فكان آية من آيات الله، فصدق الله العظيم: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم:21]. وتعهد رب بالعزة سبحانه أن يعين طالبه لقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة حق على الله عونهم المجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء الناكح يريد العفاف)) ( [1] ).
وليس في إسلامنا رهبنة ولا اعتزال، جاء رهط إلى بيوتات رسول الله عليه الصلاة والسلام – يسألون عن تعبده عليه الصلاة والسلام - فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقال أحدهم: هو رسول الله وقد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر أما أنا فأقوم الليل ولا أنام وقال آخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فاعتزل النساء فلا أتزوج، فسمع بهم رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: ((أما أني لأتقاكم إلى الله وأخشاكم له ولكني أقوم الليل وأنام وأصوم وأفطر وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) ( [2] ).
وأما أنواع الأنكحة:
فلقد كانت هنالك أنواع من الأنكحة في الجاهلية هي الزنا بعينه، كان هناك :
نكاح البدل: أن يقول الرجل للرجل، أنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي.
نكح الرهط: والرهط ما دون العشرة يجتمعون على المرأة كلهم يصيبها فإذا ولدت تخيرت منهم واحدا يكون أبا له.
نكاح الإستبضاع :إذا طهرت المرأة من حيضها يقول لها زوجها: اذهبي إلى فلان رئيس العشيرة واستبضعي منه - أي اطلبي منه الجماع - حتى يأتينا الولد النجيب.
جاء الإسلام بطهره بعفافه بصفاته، حرم تلك الأنواع من الأنكحة وأقر ما عليه الناس اليوم أن يخطب الرجل من الرجل أو إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها وجعل للنكاح في إسلامنا شروط من إيجاب وقبول وصداق وشهود. فلله الحمد والمنة وصدق الله العظيم: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:3].
وأما صفات الزوجة الصالحة:
فينبغي أن تعلم أن النكاح في إسلامنا بني على الاختيار وينبغي للمسلم عندما يقدم على هذا الأمر أن يستصحب الأسس والصفات التي جاءت في كتاب الله وفي هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام وإلا فهي التعاسة وهي الشقاء.
1- ابتداء لابد أن تنظر إلى الأسرة في أن تكون أسرة معروفة بالأصل معروفة بالشرف معروفة بالعفة والاستقامة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس)) ( [3] ).
وقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه أخوانهن وأخواتهن)) ( [4] ) ، وينبغي أن تعول على الجمال كثيرا، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إياكم وخضراء الدمن، قالوا وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: حسنة المظهر سيئة المنبت)) ( [5] ).
2- وينبغي أيضا في اختيار الفتاة نفسها أن تكون صالحة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)) ( [6] ).
والصلاح في النساء قليل لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إني رأيتكن أكثر أهل النار قالوا: مم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكفرن العشير، لو أحسن الزوج الدهر كله ثم أساء قلتن: ما رأينا منك خيرا قط)) ( [7] ).
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((المرأة الصالحة في النساء كالغراب الأبقع بين الغربان)) ( [8] ) ، والأبقع هو الذي يكون أبيض الصدر وهذا نادر في الغربان يكون، الرجل يتحمل مسؤولية صلاح المرأة أو فسادها يقول الله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا [التحريم:6]. ويقول : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته)) ( [9] ).
3- وأن تكون حسنة الخلق فدوام العشرة واستقرار الأسرة إنما يكون يخلق الزوجة وثمرة ذلك الخلق الحسن إنما هي الطاعة للزوج، جاءت امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام تقول: أنا وافدة النساء إليك كتب الله الجهاد على الرجال فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا فهم أحياء عند ربهم يرزقون ونحن نقوم على شؤونهم وأحوالهم فما لنا في ذلك فقال لها المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((اعلمي من وراءك من النساء أن طاعة الزوج والاعتراف بحقه يعدل ذلك كله وقليل منكن فاعله)) ( [10] ).
سوء خلق المرأة - كما يقول أحد العلماء- غل يلقيه الله في عنق من يشاء من عباده.
سئل أحد الأعراب: ما صفات المرأة السيئة الخلق قال: هي المرأة التي تدفن الحسنات وتفشي السيئات، هي المرأة التي تعين الزمان على زوجها ولا تعين زوجها إلى الزمان، هي التي إذا بكى زوجها ضحكت وذا ضحك زوجها بكت، هي التي تبكي وهي ظالمة هي التي يكون صبيها مهزول، هي الحنانة أي التي تحن إلى أهلها مما فيه إنقاص من حق الزوج هي الأنّانة أي التي تتشكى من غير مرض ومن غير سبب، هي المنانة أي التي تمن على زوجها بكل عمل تعمله.
أن تكون ذات دين، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، لحسبها، لجمالها، لدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) ( [11] ).
أراد الإمام أحد بن حنبل وأرضاه أن يتزوج فبعث خالته تخطب له فتاة فذهبت إلى إحدى الأسر الصالحة ثم عادت وهي تقول: إن عندهم فتاتين الكبرى سمراء بعين واحدة، والصغرى شقراء بعنين سليمتين وقد اخترت لك الصغرى لجمالها، ما الذي قاله الإمام أحمد وما هي موازين الإمام أحمد؟ قال لها: أي الفتاتين أكمل عقلا ودينا، قالت: هي الكبرى، قال: وأنا اخترتها على بركة الله ورسوله. سئل الإمام أحمد عن سب ذلك فقال: حقيقة المرأة في كل النساء موجودة، موضع الحرث، موضع النسل موضع الجماع، في كل النساء موجود، وإنما يتفاضل النساء بالعقل والدين فليس كل النساء لهم العقل وليس كل النساء لهن الدين، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا ومن تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقرا ومن تزوج امرأة ليغض بها بصره ويحصن بها فرجه، بارك الله له فيها وبارك الله لها فيه)) ( [12] ).
ذات الدين هي التي تحفظ لك فراش الزوجية، هي التي تمنع أبناءك من أن يتطاولوا عليك، رأينا في واقعنا من يخبرنا أن زوجته وأبناءه اجتمعوا حتى استطاعوا أن يصدروا قرارا بالحجر عليه وأنه مجنون، ويحجر على ماله وتتمتع الزوجة والولد بماله وهو مغلول اليدين.
أن تكون منجبة ويعرف ذلك بسلامة البدن وبقياسها على عماتها وأخواتها كما قال العلماء: يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) ( [13] ).
نظرية ماركس اليهودي، الانفجار السكاني وأن العالم مقبل على مجاعة ولابد من تحديد النسل، هذه نظرية لم تأخذ بها يهود إنما أخذت بها أمتنا وعرفنا خبث هذه النظرية بعد الحروب التي أحوجتنا إلى النسل الذي يحمي ديار الإسلام.
ولابد عند النكاح أن يكون هنالك تقاربا في السن لدوام العشرة ولحفظ فراش الزوجية.
خطب أبو بكر فاطمة بنت النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له: ((إنها صغيرة)) فلما خطب عمر بن الخطاب بنت النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: ((إنها صغيرة)) فلما خطبها علي بن أبي طالب زوجه إياها)) ( [14] ). لا ينبغي للمسلم أن يقع في هذا المطب، خاصة إذا كانت الفتاة لا دين لها، فلن تحفظ فراش الزوجية أبدا، وفي واقعنا المعاصر حادثة جرت مع كبير في السن أراد أن يتصابى فتزوج فتاة من عمر أحفاده، هو فاقد للقدرة على الجماع، عاجز لمجرد أن يعبث بها ومرت الأيام وإذا بها تمرض، وعرضت على الطبيب وبعد التحليل تبين أنها حامل، وهو عاجز فكيف حملت؟ ثم تبين أن أحد الخدم قد عبث بها.
لا ينبغي للمسلم وقد بلغ من العمر عتيا أن يوقع نفسه في هذا الموضع الأليم.
لابد من الاغتراب والبعد عن القرابة القريبة لأن فيها توريث للعاهات الجسدية من جنون أو ضعف في البصر مثلا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا تنكحوا القرابة لئلا يخلق الولد ضاويا)).
وأما صفات الزوج الصالح:
أن يكون صاحب دين، جاء رجل إلى الحسن يقول إن لي بنت فمن ترى أن أزوجها قال: زوجها ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمها وإن كرهها لم يظلمها.
الإمام الغزالي رحمه الله تعالى يقول: ((ومن زوج ابنته ظالما أو فاسقا أو شاربا للخمر فقد جنى على دينها وتعرض لسخط الله عز وجل)).
ابن تيميه رحمه الله يقول: ولا ينبغي للفاسق أن يزوج، لقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها)) ( [15] ).
حسن الخلق: يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((إذا أتاكم من ترضون دينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبيرا)) ( [16] ).
ظاهرة العنوسة التي يعاني منها البعض إنما سببها نحن فالمفاهيم الجاهلية التي نحملها والشرائط والشروط التي تقصم ظهر طالب الحلال وهذه أمور ينبغي على أمة الحق أن تتنزه عنها.
( [1] ) رواه الترمذي.
( [2] ) رواه البخاري ومسلم.
( [3] ) ابن ماجة.
( [4] ) ابن عدي وابن عساكر.
( [5] ) رواه الدار قطني.
( [6] ) رواه مسلم.
( [7] ) البخاري.
( [8] ) الطبراني.
( [9] ) البخاري ومسلم.
( [10] ) البزار والطبراني.
( [11] ) رواه البخاري ومسلم.
( [12] ) الطبراني في الأوسط.
( [13] ) رواه أبو داود والنسائي.
( [14] ) فقه السنة مجلد 2ص 19.
( [15] ) ابن حبان.
( [16] ) رواه الترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/431)
الزوجة
الأسرة والمجتمع, فقه
المرأة, النكاح
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكامل الحياة بوجود الرجل والمرأة. 2- مشروعية النكاح. 3- الخروج عن حدود الشرع
سبب انتشار الأمراض ودمار المجتمعات. 4- التأكيد على أهمية الإبقاء على عقد الزوجية.
5- المرأة الصالحة خير متاع الدنيا. 6- حقوق الزوجة على زوجها. 7- إزالة الشقاق بين
الزوجين.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [البقرة: 187].
إن من سنن الله في الخلق والتكوين أن الرجل متمم للمرأة، والمرأة مكملة للرجل، ولا غنى لأحدهما عن صاحبه حيث الوحدة في المشاعر والآمال والإنجاب والمضجع.
فما الزوجة؟ ولماذا الزوجة الصالحة؟ وما هي حقوق الزوجة على زوجها؟ وما موقف المسلم من ذلك كله ؟
الزوجة لغة: امرأة الرجل، ويقال لها زوج، وبها جاء القرآن اسكن أنت وزوجك الجنة [البقرة:35].
وينبغي أن تعلم:
1- أن الله سبحانه شرع النكاح وجعله السبيل الوحيد الكريم الحلال الذي أذن الله به وحرّم ما سواه فقال تعالى: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [المؤمنون:5-8].
لما فيه من تكريم للرجل وصيانة للمرأة وحفظ للأبناء من الضياع وسلامة المجتمع من الانحلال ونجاة من الأمراض التي كتبها الله على المنحرفين من طلاب المتعة الحرام من السفلس والهربس والإيدز مصداقا لقول رسول الله : ((لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم)) ( [1] ).
2- وقد سمى الله تعالى ما بين الرجل وزوجه ميثاقا غليظا قال تعالى: وأخذن منكم ميثاقا غليظا [النساء:21]. وهو العقد، وقد لعن رسول الله كل من كان سببا في التهوين أو الهدم والإفساد لذلك العقد الغليظ فقال في حق الرجل: ((لعن الله كل ذواق طلاق)) ( [2] ) وقال في حق المرأة: ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة)) ( [3] ) وقال في حق من يسعى لإفساد المرأة على زوجها: ((ليس منا من خبب (أي أفسد) امرأة على زوجها)) ( [4] ).
3- واستئذان المرأة فيمن يكون زوجا لها واجب ولها حق المطالبة بالفسخ للحديث: ((عن خنساء بنت ضرام أن أباها زوجها وهي ثيب. فأتت رسول الله فرد نكاحها)) ( [5] ) ،((الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها)) ( [6] ).
وأما لماذا الزوجة الصالحة؟ فلابد من الزوجة الصالحة أن تحرص عليها في اختيارك، وانتقائك وذلك:
لأنها خير متاع للحديث: ((الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)) ( [7] ).
سبب لسعادتك للحديث: ((ثلاثة من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح ومن شقاوة ابن آدم: المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء)) ( [8] ).
فالزوجة سلاح ذو حدين فمن شاء الله إسعاده كتب له الزوجة الصالحة ومن أراد الله شقاءه كتب له الزوجة السوء، سئل أحد الأعراب: عن صفات المرأة السوء، فقال: هي المرأة التي تدفن الحسنات وتفشي السيئات، هي المرأة التي تعين الزمان على زوجها ولا تعين زوجها على الزمان، هي التي إذا بكى زوجها ضحكت وإذا ضحك زوجها بكت، هي التي تبكي وهي ظالمة هي التي يكون صبيها مهزول، هي الحنانة أي التي تحن إلى أهلها مما فيه إنقاص في حق الزوج هي الأنانة أي التي تتشكى من غير مرض ومن غير سبب، هي المنانة أي التي تمن على زوجها بكل عمل تعمله.
هي التي تأمنها على عرضك وشرفك: فإذا خرجت من بيتك لا تلتفت وراءك أبدا مطمئنا إلى عفتها في غيبتك عنها كذا عرّف رسول الله المرأة الصالحة فقال: ((المرأة الصالحة تراها تعجبك وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك، المرأة (أي المرأة السوء) تراها فتسوؤك وتحمل لسانها عليك وإن غبت عنه لم تأمنها على نفسها ومالك)) ( [9] ).
وأما حقوق الزوجة على زوجها:
قال تعالى: وعاشروهن بالمعروف [النساء:19].
العشرة هي المخالطة والممازجة والصحبة وقد أمر الله تعالى بحسن صحبتهن والحديث: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)) ( [10] ).
وذلك يكون:
بالتبسط معهن ومداعبتهن للحديث: ((كان رسول الله من أفكه الناس مع نسائه)) ( [11] ) وسابق يوما عائشة رضي الله عنها فلما حملت اللحم (أي السمنة) سابقها فسبقها فقال: ((هذه بتلك)) ( [12] ).
أن يتجمل لها ويتزين، يقول ابن عباس : (إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين المرأة لي) فينظف نفسه ويزيل عرقه ويقلم أظافره كل هذا ما يتفق مع رجولته من غير تشبه بالنساء.
تعليمها أمور دينها: فالرجل مسؤول عن المرأة بين يدي الله سبحانه للحديث: ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) ( [13] ). يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا [التحريم:6]. فالرجل مسؤول أن يعلمها.
أ - ما يتعلق بالعبادات من أحكام الطهارة والوضوء والحيض والنفاس والصلاة والصيام.
ب- يعلمها حقوق الزوج والأهل والأقارب والجيران.
ج - يعلمها أدب التعامل مع الآخرين فلا سخرية ولا غيبة ولا نميمة ولا حسد.
د - يعلمها الحذر من ألفاظ الكفر وسب الدين والفاحش من القول أو الدعاء على الأبناء بالسوء أو على نفسها لئلا توافق ساعة إجابة تكون قد جنت على نفسها وبيتها بيدها.
عن أبي موسى قال: ((ما أشكل علينا - أصحاب رسول الله - حديثا قط سألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما)) ( [14] ).
بل إن النساء لابد أن يكون لهن درس خاص مع رسول الله فعن أبي سعيد قال: قالت النساء للنبي : يا رسول الله: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا من نفسك فوعدهن يوما فوعظهن وأمرهن وكان فيما قال لهن: ((ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان ذلك لها حجابا من النار فقالت امرأة: يا رسول الله واثنين: قال واثنين)) ( [15] ).
ويمكن إيصال ذلك بالمحاضرة أو الكتاب أو الشريط الإسلامي ومدارسة ذلك في لقاء أسري كريم تحفه الملائكة.
الغيرة والاعتدال فيها: المرأة تحب الرجل الذي يحميها من ذئاب الحياة وكلابها، وينأى به عن مواطن الريبة والتحلل.
أ- ومن دلائل الغيرة المحمودة أن يلزم أهله باللباس الشرعي، قال تعالى: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [الأحزاب:33].
ب- ومن دلائل الغيرة المحمودة أن ينأى بها عن الجلسات المختلطة: ((إياكم والدخول على النساء)) ( [16] ).
ج- ومن دلائل الغيرة المحمودة أن يصونها عما يخدش حياءها من الكلمة المسموعة والمقروءة والمرئية من كلاب المتعة الحرام وطلابها ومن الذين لا يحسنون إلا أدب الفراش وشعراء الهوى، والغيرة من سمات الرجل السوي للحديث: ((إن الله تعالى يغار والمؤمن يغار)) ( [17] ).
وفاقد الغيرة محروم من الجنة للحديث: ((لا يدخل الجنة ديوث)) ( [18] ).
ومن صور فقدان الغيرة أن يرضى لزوجته أو ابنته أو أخته أن تمشي عارية الساقين والصدر والظهر وأعين الذئاب تلتهمها بنظراتهم أو أن تجالس الرجال وقد وضعت فخدا على فخد أو أن تذهب إلى الكوافير الرجل أو الخياط الذي يقيس لها فستانها مع ما يصحب ذلك من اللمس والكلمات المائعة وكشف الأستار والواقع يشهد بما هو أنكى وأقبح وقد أعرضنا عنه لانحطاطه وما ذكرناه إنما هو إشارة للعاقل الرشيد.
المهر والنفقة: قال تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة [النساء:4]. صدقاتهن: أي مهورهن نحلة: أي فريضة وللحديث: ((أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو أكثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها، فإن مات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان)) ( [19] ).
وكذا النفقة لقوله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [النساء:34]. وللحديث: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)) ( [20] ).
وعليك أن تتحرى الحلال فلا تطعمهم الحرام ولقد كان نساء الأنصار يودعن أزواجهن في الصباح ويقلن لهم: (اتقوا الله فينا واطلبوا الحلال فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار) وللحديث: ((كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به)) ( [21] ).
العدل في القسم بين الزوجات لمن له أكثر من زوجة فيجب على الرجل، أن يعدل بين نسائه إن كان له زوجتان أو أكثر في المبيت والنفقة والسكن والعطاء وفي كل أمر يمكنه العدل فيه وهو معفي فيما لا يمكنه العدل فيه من ميله إلى واحدة دون الأخرى في المحبة لذا كان رسول الله يقول: ((اللهم هذا جهدي فيما أملك، ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك)) ( [22] ). وكان حبه لعائشة رضي الله عنها أكثر من حبه للأخريات من غير أن ينقص من حقهن شيء.
ثم الحذر من الظلم والميل إلى واحدة دون الأخرى للحديث: ((من كان له امرأتان فمال: إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة واحد شقيه مائل)) ( [23] ).
وأي ظلم أعظم من أن تستأثر واحدة به فتحرم الأخرى النفقة والمبيت فتصير كالمعلقة لا هي بالزوجة ولا هي بالمطلقة.
أن يرقى بزوجته فهما واهتماما: الزوجة هي من نتاج هذا المجتمع البعيد عن إسلامه المتأثر بانحرافات الأمة فلا تفترض فيها الفهم الإسلامي الكريم ولكن لما كانت هناك بذور صلاح وأصول طيبة فالمعالجة ممكنة.
فعن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة وتصدقوا بها إلا كتفها، فقال النبي : ((ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها فقال رسول الله : بقي كلها غير كتفها)) ( [24] ).
بعد ذلك كانت عائشة رضي الله عنها يأتيها عطاؤها فتفرقه كله فتقول لها مولاتها: (لو أبقيت شيئا تفطرين عليه، فتقول الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: والله لو ذكرتني لفعلت).
موقف المسلم من الزوجة:
في حالة الشقاق بين الزوجين: فإن كان السبب هي الزوجة فيعالج الرجل الأمر بالوعظ والتذكير فإن لم ينفع هجرها فلا جماع ولا لهو ولا مزاح ويستمر من 3 أيام إلى شهر ولا يزيد فإن لم ينفع فله أن يضربها تأديبا قال العلماء: يضربها بالسواك وهو عود لا يزيد عن غلظ أصبع وقيل بيده من غير أن يكسر عظما أو يسيل دما أو يمس الوجه قال تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا [النساء:34]. وإذا كان السبب هو الزوج أو كلاهما معا فإن الله يأمر أن يُبعث حكم من أهل الرجل وحكم من أهل المرأة للإصلاح: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليها أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير [النساء:35]. وإن خفتم شقاق بنيهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريد إصلاحا يوفق الله بنيهما [النساء:138].
فيقومان بالصلح أو التفريق إذا لم ينفع الصلح.
زيارة الزوجة لوالديها: ذهب المالكية والحنفية أن للمرأة الخروج لزيارة والديها كل جمعة ومحارمها كل سنة وأن الزوج لا يمنع أبوي الزوجة من الدخول عليها في كل جمعة، وإن اتهم والديها بإفسادها فله أن يدخل امرأة من جهته وذهب الحنابلة إلى إنه عرف بقرائن الحال حدوث ضرر بزيارتهما أو زيارة أحدهما فله المنع ( [25] ).
فإن امرأة بدون أخطاء تريد رجلا بدون أخطاء ولما كان الخطأ وارد وهو من طبيعة ابن آدم، بل إن أخطاء الزوجة هي سر حاجتها وانجذابها إلى الرجل وتلك من حكمة الحق سبحانه لذا كان لابد من المداراة والمعرفة بطبيعة المرأة وعدم حمل انفلاتها في عاطفتها محمل الجد الذي تبني عليه المواقف التي تؤدي إلى انهيار الأسرة بسبب كلمة قالتها فذلك جهل وعدم تقدير للمواقف وللحديث: ((استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع أعوج وأعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستمتعوا بهن على عوجهن)) ( [26] ).
( [1] ) ابن ماجة.
( [2] ) فقه السنة ج2 ص 216.
( [3] ) أصحاب الجنة.
( [4] ) أبو داود والنسائي.
( [5] ) الجماعة.
( [6] ) الجماعة والبخاري.
( [7] ) مسلم.
( [8] ) أحمد بسند صحيح.
( [9] ) الحاكم.
( [10] ) ابن حبان في صحيحه.
( [11] ) البزار والطبراني.
( [12] ) أحمد وأبو داود.
( [13] ) ابن حبان.
( [14] ) الترمذي.
( [15] ) الشيخان.
( [16] ) متفق عليه.
( [17] ) متفق عليه.
( [18] ) أحمد والنسائي.
( [19] ) الطبراني.
( [20] ) أبو داود وغيره.
( [21] ) الترمذي.
( [22] ) أصحاب السنن وابن حبان.
( [23] ) أصحاب السنن وابن حبان.
( [24] ) الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
( [25] ) الموسوعة الفقهية مجلد 24 ص82.
( [26] ) البخاري ومسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/432)
إذا غاب الإحسان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الإحسان كما في حديث جبريل. 2- رؤية الله لكل شيء وإحاطته بكل شيء.
3- الإحسان أفضل مراتب الإيمان. 4- صور للإحسان ينبغي أت تقوم في مجتمعنا.
5- الإحسان إلى الحيوان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن الوقوف الدقيق عند حديث رسول الله المنبعث من مشكاة النبوة، ليحمل النفس المؤمنة على أن تعرف أسراره، وتستضيء بأنواره، فلا ينفك يشرح للنفس ويهديها بهديه، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، وتتبع النور الذي أنزل معه، وكلما ذكر كلام المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، فكأنما قيل من فمه للتو. كلام صريح، لا فلسفة فيه، يجعل ما بين المرء وصنوه من النية، كما بين الإنسان وربه، من الخوف والمراقبة، كلام يقرر أن حقيقة المسلم العالية، لن تكون فيما ينال من لذته، ولا فيما ينجح من أغراضه، ولا فيما يقنعه من منطقه، ولا فيما يلوح من خياله؛ بل هو السمو الروحي الذي يغلب على الأثرة، فيسميه الناس برا، والرحمة؛ التي تغلب على الشهوة، فيسميها الناس عفة، والقناعة التي تغلب على الطمع فيسميها الناس أمانة.
عباد الله، إن تنشئة النفس المؤمنة على البر والتقوى والعفة والأمانة والخوف والمراقبة، هي وحدها الطريقة العملية الممكنة، لحل معضلة الشر والانحراف لدى المجتمع المسلم. أرأيتم الطفل، كيف يشب على الخُلق الكريم والنهج القويم، لو تعهده القيّم بالتوجيه والتقويم. وعلى العكس من ذلك، لو أهمل أمره، وتركه في مهب الريح، فإنه ينشأ شِرِّيرا، خطرا على نفسه ومجتمعه، ذلكم يا عباد الله أبرز مثل للنفس، حين ينشأ الفرد على مراقبة الله والخوف منه.
عباد الله، لقد ثبت في صحيح مسلم أن جبريل ـ عليه السلام ـ سأل النبي عن الإحسان، فقال له المصطفى : ((أن تعبد الله، كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك)) [1]. الله أكبر! إنه تعبير عجيب، تعبير يحمل في اختصاره حقيقة هائلة، وخلة مذهلة. إنها كلمات تحمل في طياتها قاعدة كبيرة، يقيم عليها الإسلام بناءه، هي أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قاعدة يقيم عليها نظمه كلها، وتشريعاته وتوجيهاته طرا، نظام القضاء، نظام الاقتصاد، نظام السياسة، نظام الأسرة، موقف الفرد من المجتمع، وموقف المجتمع من الفرد، نظام المجتمع بأسره، بل نظام الحياة كلها، تعبد الله كأنك تراه.
فالمرء المسلم، في مواجهة خالقه ومولاه، المستعلي على جميع المخلوقات، في مواجهة مولاه بنفسه جميعا، بكل جوارحه وكل خلجاته، بظاهرها وباطنها، بأسرارها وما هو أخفى من الأسرار: يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19]. سبحان الله! حتى خائنة الأعين، الخائنة التي يظن الإنسان أنه وحده الذي يحسها ويعرفها، دون أن يراها أحد من الناس أو يفهمها وحتى السر، بل وما هو أخفى من السر، الخطرات التائهة في مسارب النفس، لا تصل إلى ظاهر الفكر، ولا يتحرك بها اللسان للتعبير، إنه لا ستر إذن ولا استخفاء فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ?لسّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]. وكل هذه مكشوفة لله، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وإنه لخير لك ـ أيها المسلم ـ أن تعبد الله كأنك تراه، خير لك أن تتوجه إلى حيث يرقبك خالقك فتأمن المفاجأة.
إنها الرهبة في الحالين، رهبة مصحوبة بالأمل، حال كونك متوجها إلى الله، مخلصا له قلبك عاملا على رضاه.
ورهبة مصحوبة بالذعر، حال كونك متوجها بعيدا عنه، وهو من ورائك محيط فخير لك إذاً أن تعبد الله كأنك تراه.
أيها المسلمون، قول النبي في تفسير الإحسان، يشير إلى أن العبد، يعبد الله على هذه الصفة وهي استحضار قربه، وأنه بين يديه كأنه يراه، لأنه يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، وذلك أفضل الإيمان، كما ثبت عنه ، أنه قال: ((أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت)) [رواه الطبراني] [2].
وبه تفوز بوعد الله: لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ?لْحُسْنَى? وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وثبت عن النبي عند مسلم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله ـ عز وجل ـ في الجنة، وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان: هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا، على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك، النظر إلى الله عيانا في الآخرة. وعكس هذا، ما أخبر به ـ تعالى ـ، عن جزاء الكفار في الآخرة: إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] وجعل ذلك جزاء لحالهم في الدنيا، وهو تراكم الران على قلوبهم حتى حجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة.
إن الإحسان على ما فسره به رسول الله ينبغي أن يتجلى في الأمة بعامة، وفي كل شأن من شؤونها.
فالقاضي المسلم لا يظن فيه الظلم والجور، حين يرقب الله كأنه يراه !! ولا يجوز له أن يضع نزواته وهواه في مكان العدل، الذي يطلبه منه رقيبه ومولاه؛ بل كيف تتجه نفسه إلى البطش والغمط؟ ومن يرقبه يقول له: ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8] ويقول له: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ إِنَّ ?للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء:58].
إن القاضي المسلم، إذا لم يعبد الله كأنه يراه، فهو للدنيا أحب، وللزلل أقرب، ولربما اقتطع أموال اليتامى والأرامل، وأموال الوقف والفقراء والمساكين، فأكل الحرام وأطعم الحرام، وكثر الداعي عليه، فالويل ثم الويل لمن أورثه قضاؤه هذه الأخلاق. وصدق رسول الله إذ يقول: ((فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة)) [رواه البخاري] [3].
وكان يزيد بن عبد الله من قضاة العدل والصلاح، وكان يقول: (من أحب المال والشرف وخاف الدوائر لم يعدل فيها). إذاً خير لك أيها القاضي المسلم، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
أيها الناس، إن الإحسان بهذا المفهوم يُمكِّن للزوج وزوجته أن يتعاشرا بالمعروف وأن يصون كل واحد منهما عرضه في غيبة الآخر، ومطارق الخوف من الله ومراقبته تذكرهم بقوله ـ تعالى ـ عن يوسف ـ عليه السلام ـ: وَرَاوَدَتْهُ ?لَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ?لاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23].
لقد اجتمع ليوسف ـ عليه السلام ـ من الدواعي لإتيان الفاحشة الشيء الكثير، فلقد كان شابا وفي الشباب ما فيه، وقد غلقت الأبواب وهي ربة الدار وتعلم بوقت الإمكان وعدم الإمكان، فكان ماذا؟ قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون [سورة يوسف :23] استعاذة، وتنزه واستقباح لماذا؟ وما هو السبب؟ لأنه يعبد الله كأنه يراه، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ وذكر منهم ـ رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله)) [متفق عليه] [4].
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
الإحسان أمر جليل ذو مسلك طويل يظهر صدقه الموقف.
والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، يغيب الزوج عن زوجته اليوم واليومين والشهر والشهرين، فيحمل الإحسان المرأة، على صيانة عرض زوجها في غيبته، بعد أن فارقها مطمئنا إلى عرضه، وبيته وماله.
خرج الفاروق من الليل، فسمع امرأة تقول وقد غاب عنها زوجها للجهاد في سبيل الله:
لقد طال هذا الليل واسود جانبه وأرقني إلا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره لحرك من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصدني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
عباد الله، وأما العالم فيا لعظم العلم، وعلو منزلة العالم، ولكن يا لفظاعة الكبوة، وعظم الزلة في عيون الناس.
إن أشرف ما تنافس فيه المتنافسون، وأفضل ما بذلت فيه الجهود، طلب العلم النافع؛ فهو الروح، يمد الجسد بالحيوية، وهو النور الوضاء، يبدد ظلمات الجهل، ويهدي إلى السبيل: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَ [الأنعام :122]. وقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر:28].
فالعلماء هم أولى الناس بالإحسان، وأقرب الناس إلى الإحسان، وأكثر الناس دعوة إلى الإحسان.
والعالم الرباني هو من تحقق فيه ذلك، وجمّل علمه بالعمل به، كما تتجمل المرأة بالحلة الحسناء للدنيا، لأن العلم والعمل إنما يطلب به ما عند الله، من الدرجات العُلا، والنعيم المقيم، والقرب منه، والزلفى لديه، قال سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: (إنما فضل العلم لأنه يتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء). فمن طلب بالعلم والعمل، سيادة على الخلق، وتعاظما عليهم، وإظهارا لزيادة علمه، ليعلو به على غيره، فهو متوعد بالنار، كما قال المصطفى : ((من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف وجوه الناس إليه، أدخله الله النار)) [ رواه الإمام أحمد والترمذي] [5]. وقال علي بن أبي طالب : (يا حملة العلم، اعملوا به، فإنما العالم، من عمل بما علم فوافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم، لا يجاوز تراقيهم، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس إلى غيره).
والعالم المسلم، إذا عبد الله كأنه يراه كرهت نفسه الفتيا، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها.
قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: من عرض نفسه للفتيا، فقد عرضها لأمر عظيم. قيل له: فأيما أفضل: الكلام أم السكوت؟ قال: الإمساك أحب إلي، ثم قال: وليعلم المفتي، أنه يوقع عن الله أمره ونهيه، وأنه موقوف ومسؤول عن ذلك.
وكان سفيان الثوري يقول: (ما كفيت عن المسألة والفتيا، فاغتنم ذلك ولا تنافس، وإياك وأن تكون ممن يحب أن يعمل بقوله، أو ينشر قوله، أو يسمع قوله، وإياك وحب الشهرة، فإن الرجل يكون حب الشهرة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة).
وكان أحد السلف يعجبه ما يراه من علم أحد الناس، وحسن خطابه وسرعة جوابه فقال له يوما، وقد سأله عن مسألة فأجاب: أخشى أن يكون حظك من الدنيا لسانك، فكان ذلك الرجل، لا يزال يبكي من هذه الكلمة.
إذاً خير لك يا صاحب العلم أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري ح (50) ومسلم ح (8).
[2] عزاه المتقي الهندي في كنز العمال ح (66) إلى الطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو غير موجود بالمطبوع ، وضعّفه الألباني في ضعيف الجامع (1100).
[3] صحيح البخاري ح (7148).
[4] صحيح البخاري ح (660) ، صحيح مسلم ح (1031).
[5] حسن ، أخرجه الترمذي ح (2654) وقال : حديث غريب. وابن ماجه ح (253) ، والدارمي ح (367) ، أما الإمام أحمد فقد أخرجه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين قال : بلغني أن لقمان كان يقول : يا بُني لا تعلّم العلم لتباهي به العلماء ، أو تماري به السفهاء وترائي به في المجالس ، فذكره (1/190).
وأخرج أيضاً (2/338) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله : ((من تعلّم علماً مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)). قال سريج في حديثه : يعني ريحها. وهو حديث صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد البشر، اللهم صلِّ وسلم على هذا النبي الشافع المشفع في المحشر وعلى آله وأصحابه السادة الغرر.
أما بعد:
فيا عباد الله، إن من تأمل كلام المصطفى عن الإحسان، علم أن جميع العلوم والمعارف، ترجع إلى هذا الحديث وتدخل تحته، وينتج عن هذا الإحسان الإحسان في العمل، بأن يؤدي الإنسان واجبه على أكمل وجه، بل الإحسان على كل شيء كما قال رسول الله : ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) [ رواه مسلم] [1].
الله أكبر! إنه يأمر بالإحسان حتى في ذبح الذبيحة: ((وليرح ذبيحته)) ، إنه الحرص على إراحة الذبيحة، وهي تساق إلى الموت، العدم، إلى حيث لا تشعر. وهنا تتجلى رحمة المسلم بالحيوانات العجماوات، التي سخرها الله له، وجعلها في خدمته ومصلحته، فالإسلام دين الرحمة، ودين الرأفة، ودين الرفق بالإنسان والحيوان. ثبت في الصحيحين أن النبي قال: ((بينما رجل يمشي في الطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا، فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش، مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر الله له. قالوا يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرا ؟! فقال: في كل كبد رطبة أجر)) [2].
وفي مقابل جزاء من رحم الحيوان، نجد الرسول يقرر عقاب من أذى حيوانا وقسا عليه بقوله: ((عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا فدخلت فيها النار)) [أخرجه البخاري ومسلم] [3].
فإذا كان هذا جزاء من يعذب الحيوان الأعجم، فكيف تكون حال من يسيء معاملة والديه، أو يؤذي إخوانه، أو يصب شديد غضبه وعظيم شره على قرابته وجيرانه وبني ملته ومجتمعه..؟.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوا ربكم، وتخلَّقوا بالإحسان تُفلحوا وتفوزوا بوعد الله لكم، إنه لا يخلف الميعاد.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ...
[1] صحيح مسلم ح (1955).
[2] أخرجه البخاري (2363) ، ومسلم (2244).
[3] صحيح البخاري ح (3482) ، صحيح مسلم ح (2242).
(1/433)
الزوج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الزوج في الاصطلاح والعرف ، واللغة. 2- قوامة الرجل على المرأة. 3- ظلم
الرجل لزوجه. 4- الطلاق والخلع. 5- حسن اختيار الزوج وعدم رد الكفؤ. 6- حقوق الزوج
على زوجته. 7- وقفة مع طاعة الزوجة لزوجها.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة [البقرة:288].
اعلم أن كل حق يقابله واجب، وإذا عرف كلا الزوجين ماله من حقوق وما عليه من واجبات سارت الحياة الزوجية هادئة مطمئنة.
فما الزوج؟ ولماذا الزوج الصالح؟ وما حق الزوج على زوجه؟ وما موقف المسلم من ذلك؟
أما الزوج لغة: الذي له قرين قال تعالى: وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى [النجم:45]. وكل منهما زوج فالرجل زوج للمرأة وهي زوجه.
وأما اصطلاحا: فهو بعل المرأة.
وينبغي أن تعلم :
كل مؤسسة أو شركة لابد لها من رئيس والأسرة هي أخطر مؤسسة فكان لابد لها من رئيس يطاع وذلك لحفظ هذا المؤسسة من الضياع والرجل أحق بهذه القوامة من المرأة قال تعالى: الرجال قوامون على النساء [النساء:34]. وعلل ذلك بأمرين: وهبي وكسبي فقال بما فضل الله بعضهم على بعض بسبب تفضيل الرجال على النساء بخصائص جسمية وعقلية وتلك هبة الله سبحانه والثاني وبما أنفقوا من أموالهم أي بما أوجب على الرجال من الواجبات المالية كالمهر والنفقة فكان له عليها حق الطاعة.
إن هذه القوامة لا ظلم فيها ولا استعلاء ولا تعسف ومن كان كذلك فهو مع الظلمة يوم القيامة للحديث: ((إن الرجل ليكتب عند الله جبارا وليس عنده إلا بيته)) ( [1] ).
إن ما بين الرجل وزوجه مبني على المودة والرحمة: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21].
إن الإنسان ليفرح أن يكون صديقه رئيسا عليه في عمله، فكيف برئاسة الزوج على زوجته وما بينهما من المودة والرحمة ما لا نسبة بينه وما بين صديقين مخلصين.
وإذا بلغ الأمر مداه في كراهية الرجل للمرأة فله حق الطلاق، وإن كانت الكراهية من جهة المرأة فلها حق الخلع وذلك بأن تعطي الزوجة زوجها المهر الذي أخذته منه وقد جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر بعد الإسلام (أي كفران العشير) فقال رسول الله : ((أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم فقال رسول الله : أقبل الحديقة وطلقها تطليقة)) ( [2] ).
قال ابن كثير: فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء والخلع فقد قال رسول الله : ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة)) ( [3] ). وللحديث: ((المختلعات هن المنافقات)) ( [4] ).
وأما الزوج الصالح: فلا بد للولي أن يختار لكريمته فلا يزوجها إلا لمن له دين وخلق وشرف فإن عاشرها عاشرها بالمعروف وإن سرحها سرحها بإحسان قال تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [البقرة:229].
وذلك لأن تقواه ومخافته من الله تمنعه من الظلم: قال رجل للحسن بن علي رضي الله عنه: إن لي بنتا فمن ترى أن أزوجها له؟ قال: زوجها لمن يتقي الله فإن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها.
وذلك لأن حسن خلقه يمنعه من الإيذاء: للحديث: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) ( [5] ).
ولا ينبغي للولي أن يزوج كريمته لفاسق أو شارب للخمر أو زانٍ.
قال تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين [النور:3].
وللحديث: ((من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها)) ( [6] ).
ويقول ابن تيميه رحمه الله: من كان مصرا على الفسوق لا ينبغي أن يزوَج. ويقول الإمام الغزالى: ومن زوج ابنته ظالما أو فاسقا أو مبتدعا أو شارب خمر، فقد جنى على دينها وتعرض لسخط الله لما قطع من الرحم وسوء الاختيار.
وأما حق الزوج على زوجه:
أ - أن تعرف له مكانته وحقه :
فهو بابها إلى الجنة للحديث: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) ( [7] ).
ب- حقه مقدم وأعظم من حق أبيها وأمها للحديث: ((سئل الرسول من أعظم الناس حقا على المرأة؟ قال: زوجها)) ( [8] ).
ج- ولولا أن السجود محرم لغير الله لكان على الزوجة أن تسجد لزوجها للحديث: ((لو كنت آمراً أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) ( [9] ).
د- وإن طاعة الزوج بمنزلة الجهاد في سبيل الله للحديث: ((جاءت امرأة إلى النبي فقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون ونحن معاشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟ فقال رسول الله : أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك وقليل منكن من يفعل)) ( [10] ).
الطاعة للزوج: الأسرة لا يستقيم حالها إلا بالطاعة للرجل، فهو المسؤول عن أسرته في الدنيا والآخرة، والمرأة المسترجلة ملعونة على لسان رسول الله : ((لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)) ( [11] ).
وأخبر عن الصالحات فقال سبحانه: فالصالحات قانتات حافظات للغيب [النساء:33]. قانتات قال ابن عباس وغيره: (أي مطيعات لأزواجهن) حافظات للغيب قال السدي وغيره: أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله.
قيل لرسول الله : أي النساء خير؟ قال: ((هي التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا ماله بما يكره)) ( [12] ).
بلى إن طاعة الزوجة زوجها عبادة تتعبد الزوجة ربها بها، للحديث: ((إن المرأة إذا صلت خمسها وصامت شهرها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)) ( [13] ).
الطاعة أمر عام يدخل تحته كل أوامر الزوج، في غير معصية، ولو أدركت الزوجة لعلمت أن الزوج إذا رأى من زوجه الطاعة وحسن العشرة كسبت ثقته ومحبته فيعطي زوجته أضعاف أضعاف ما تعطيه بل يلبي لها كل رغباتها عن طيب نفس وخاطر.
ومن طاعة الزوج تلبيه ندائه إذا دعاها للفراش، ذلك حق للزوج على زوجته تمكينه من الاستمتاع فإذا تزوج امرأة أهلا للجماع وجب تسليمها نفسها إليه بالعقد إذا طلب ( [14] ).
وإذا امتنعت الزوجة فالعقوبة عظيمة للحديث: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)) ( [15] ).
بل عليها أن تترك ما يشغلها عن تلبية حاجة زوجها للحديث: ((إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور)) ( [16] ).
استئذانه في كل أمر ومنها:
استئذانه عند الخروج فلا تخرج إلا بإذنه للحديث: ((إن المرأة إذا خرجت من بيتها وزوجها كاره لعنها كل ملك في السماء وكل شيء مرت عليه غير الجن والأنس حتى ترجع)) ( [17] ).
ولا تصوم نفلا إلا بإذنه للحديث: ((لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد (أي حاضر) إلا بإذنه)) ( [18] ).
ولا تنفق إلا بإذنه للحديث: ((لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذنه)) ( [19] ).
فإن كان الزوج بخيلا فقد قالت هذا امرأة أبي سفيان: يا رسول الله: ((إن أبا سفيان رجل شحيح ولا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولده بالمعروف)) ( [20] ).
الغيرة على زوجها:
فلا تسمح لأحد أن يستخدم أشياءه الخاصة للحديث: ((فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم)) ( [21] ) ، ألا تسمح لأحد أن يتمتع بالأمور الخاصة بزوجها كالسرير واللحاف والملابس ( [22] ).
ولا تسمح لأحد أن يدخل بيته ممن يكره دخولهم للحديث: ((ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون)) ( [23] ).
فلا يجوز لها أن تدخل أحدا من محارمها إذا كان رافضا لدخوله وما سواهم فهو حرام أصلا: كابن العم وابن الخالة أو أخو الزوج أو صديقه لما في ذلك من فتح لباب الفتنة والفساد والعياذ بالله.
أن تتزين لزوجها: فالزوجة العاقلة هي التي تحرص أن يراها زوجها وقد تزينت له وتعطرت وقد نظفت بيتها، وهيأت نفسها لاستقبال زوجها بالكلمة الحلوة التي تمسح عنه متاعب الحياة لعموم الحديث: ((إن نظر إليها سرته)) ( [24] ). سواء كان بتجملها لزوجها أو نظافة بيتها، وكثير من النساء يدخرن زينتهن فلا يظهرنها إلا عند خروجهن ولا يظهرن أمام أزواجهن إلا في صورة منفرة أو أنها تنام الساعات الطوال ولا تقوم إلى عملها إلا في وقت مجيئه من العمل مما يدخل الملل وفقدان الرغبة في المجيء إلى البيت لأنه يعلم مسبقا ما ينتظره من منظر كريه ووضع غير مريح.
ومن وصايا العرب: وصية أم لابنتها (واحفظي أنفه وسمعه وعينه فلا يشمن منك إلا أطيب ريح ولا تقع عينه منك على قبيح والتفقد لوقت طعامه ومنامه فإن تواتر الجوع ملهبه وتنغيص النوم مغضبة).
وأما موقف المسلم:
إن طاعة الزوجة لزوجها فيما لا معصية لله فيه، فإذا أمرها بمعصية فلا سمع ولا طاعة.
وفرائض الله سبحانه المرأة والرجل فيها سواء، ففرائض الله سبحانه من صلاة وصيام (صيام شهر رمضان) وحجة الإسلام الفريضة على المرأة أن تؤديها رضي الزوج أم أبى وليس له منعها بخلاف التطوع من صلاة وصيام وحج فللزوج منعها منه. ويلحق بالفرائض ما فرضه الله على المرأة المسلمة من حجاب وابتعاد عن الجلسات المختلطة ومجالسة الفاسقين فإذا أمر الزوج زوجته بخلاف أمر الله سبحانه فلا تطعه أبدا.
عيادة الزوجة لوالديها: فمذهب الحنفية بأنه ليس للزوج منعها من عيادة والد زَمِن ليس له من يقوم عليه ولا يجب عليها طاعة زوجها أن يمنعها من ذلك، لأن القيام بخدمته فرض عليها في مثل هذه الحالة فيقدم على حق الزوج، أما الشافعية والحنابلة فقالوا: ليس لها الخروج لعيادة أبيها إلا بإذن زوجها وله منعها ولكنه ينبغي ألا يمنعها لما فيه ذلك من قطيعة وسوء معاشرة ومنعها من عيادة والد مريض ليس من المعاشرة الحسنة في شيء ( [25] ).
واستدلوا على ذلك أن رجلا خرج وأمر امرأته أن لا تخرج من بيتها فمرض أبوها. فاستأذنت النبي فقال لها: ((أطيعي زوجك فمات أبوها فاستأذنت منه في حضور جنازته فقال لها: أطيعي زوجك، فأرسل إليها النبي : أن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها)) ( [26] ).
خدمة المرأة زوجها فقد ذهب الجمهور أنه ليس على المرأة خدمة زوجها من العجن والخبز والطبخ ونحو ذلك لأن المعقود عليه من جهتها هو الاستمتاع فلا يلزمها ما سواه.
والمذهب الصحيح ما ذكره ابن القيم رحمه الله من لزوم خدمة الزوجة زوجها فيقول: (هذا أمر لا ريب فيه ولا يمنع التفريق بين شريفة ودنيئة، وفقيرة وغنية، فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها وجاءت الرسول تشكو إليه الخدمة فلم يشكها (أي لم يسمع شكايتها) ( [27] ). إشارة إلى فاطمة رضي الله عنها أنها أتت رسول الله تشكو إليه ما تلقى من الخدمة فقال: ((ألا أدلكما على ما هو خير لكما مما سألتما: إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا الله ثلاثا وثلاثين، وأحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)) ( [28] ).
وقد حكم رسول الله بين علي بن أبي طالب وبين زوجته فاطمة بنت النبي ، فجعل على فاطمة خدمة البيت، وجعل على علي العمل والكسب ( [29] ).
من وصايا رسول الله للرجال:
في حالة رؤية الرجل لامرأة فلا يستهين بزوجته: ((من نظر إلى امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن الذي مع هذه مع تلك)) ( [30] ).
في حالة كراهية الرجل لزوجته: للحديث: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر)) ( [31] ).
وعلى الرجل أن يضع حدا محدودا لا تتجاوزه المرأة أبدا.
وقد ذكرت لنا كتب الأدب أن امرأة توصي ابنتها فتقول: انزعي زجّ رمحه فإن سكت فكسري العظام على ترسه فإن سكت فقطعي اللحم بسيفه فإن سكت فامتطيه فإنما هو حمارك فإذا ما فسح الزوج للزوجة المجال في التطاول والجرأة امتد الأمر إلى ما لا تحمد عقباه.
( [1] ) ابن حبان.
( [2] ) البخاري والنسائي.
( [3] ) أحمد وأبو داود وابن ماجة.
( [4] ) الموسوعة الفقهية مجلد 10 ص205.
( [5] ) الترمذي.
( [6] ) ابن حبان.
( [7] ) ابن ماجة والترمذي.
( [8] ) البزار بإسناد حسن.
( [9] ) الترمذي وقال حديث حسن.
( [10] ) البزار.
( [11] ) البخاري وأبو داود.
( [12] ) أبو داود والنسائي.
( [13] ) ابن حبان.
( [14] ) الموسوعة الفقهية مجلد 24 ص 57.
( [15] ) البخاري ومسلم.
( [16] ) الترمذي.
( [17] ) الطبراني.
( [18] ) البخاري ومسلم.
( [19] ) الترمذي.
( [20] ) البخاري.
( [21] ) الترمذي.
( [22] ) السلوك الاجتماعي ج2 ص105.
( [23] ) الترمذي.
( [24] ) الترمذي.
( [25] ) الموسوعة الفقهية مجلد 24 ص 58.
( [26] ) الطبراني.
( [27] ) فقه السنة مجلد ص 183.
( [28] ) الموسوعة الفقهية مجلد 24 ص 59.
( [29] ) فقه السنة مجلد 2 ص 184.
( [30] ) مسلم.
( [31] ) مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/434)
حق المولود على والديه
الأسرة والمجتمع
الأبناء
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المراحل التي يمر بها الإنسان في حياته الدنيوية. 2- نعمة الله علينا في الأولاد. 3- فضل
رعاية البنات. 4- رعاية الإسلام للمولود في تحريم الزنا. 5- حقوق المولود على أبيه وأمه.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير [الروم:54].
سنة من سنن الله في الخلق والتكوين، أن العبد بين ضعفين بين ضعف الطفولة وضعف المشيب وما بينهما إنما هي سحابة صيف توحي بالقوة التي تؤول إلى الأفول.
فما الطفولة؟ وما مظاهر عناية الإسلام بالطفولة؟ وما حق المولود على والديه؟ وما مسؤولية الوالدين تجاه أطفالهم؟
أما الطفل: فهو المولود.
الطفولة: مرحلة بين الميلاد والبلوغ كما جاء في المعجم الوسيط.
وينبغي أن تعلم:
إن الطفل هبة من الله وعطاء قال تعالى: يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما [الشورى:50].
كراهية البنات جاهلية بغيضة، والجهلة من المسلمين من ضعف دينه ويقينه، يفعل فعل الجاهلية في تذمره وألمه إذا ولدت له أنثى: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون [النحل:58-59]. أو يهدد زوجته إذا ولدت أنثى فهي طالق، ونسي الغبي أن الفعل والأمر بيد الله وحده للحديث: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث إليها ملكا، فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: أسوي أم غير سوى! فيجعله الله سويا أو غير سويا)) ( [1] ).
ومن طرائف العرب أن رجلا يقال له أبو حمزة ولدت له زوجته بنتا فهجرها، فمر على خيمتها يوما فسمعها تداعب ابنتها وتقول :
ما لأبي حمزة لا يأتينا يضل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا
فرجع أبو حمزة عن هجره وقبل رأس ابنته وزوجته حيث أدرك أن الأمر بيد الله وحده. بل يوصي رسول الله بالبنات فيقول: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه)) ( [2] ). وقوله: ((من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن من جدته (أي ماله) كن له حجابا من النار)) ( [3] ).
وأما مظاهر عناية الإسلام بالطفولة :
شرع الزواج وحث عليه وجعله الوسيلة الوحيدة الكريمة التي يلتقي عليها الرجل والمرأة لما فيه من حماية النسل من الضياع واختلاط الأنساب فكان آية من آيات الله سبحانه: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم:21].
وللحديث: ((... وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) ( [4] ).
حرّم الزنا ونفر منه وعاقب عليه، لأنه علاقة حيوانية مبنية على قضاء الشهوة من غير أن يتحمل أحد مسؤولية الولد قال تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [الإسراء:32]. الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلده ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله [النور:2].
أن تتخير لطفلك الأم الصالحة والوعاء الكريم للحديث: ((تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس)) ( [5] ).
وأما حقوق المولود على والديه :
الأذان في أذن المولود: لحديث أبي رافع مولى رسول الله قال: ((رأيت رسول الله أذن في أذن الحسين بن علي - حين ولدته فاطمة - بالصلاة)) ( [6] ) يعني بأذان الصلاة وللحديث: ((من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان)) ( [7] ).
وأم الصبيان من الشياطين، فتكون أول كلمة تطرق قلبه "الله أكبر" وما فيها من التعظيم لله عز وجل وحده، ثم شهادة التوحيد "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله" ثم الدعوة إلى الصلاة والفلاح "حي على الصلاة، حي على الفلاح".
وفي ذلك تأكيد وتذكير بالعهد الأول الذي أخذه الله على الأرواح في عالم الغيب. وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا [الأعراف:172].
العقيقة: وهي ما يذبح عن المولود من شاة يوم السابع من ولادته.
للحديث: ((كل غلام رهين بعقيقته يذبح عنه يوما سابعه)) ( [8] ) ، يقول الإمام أحمد بن حنبل ومعنى:رهين بعقيقته: (أنه إذا مات وهو طفل ولم يعق عنه لم يشفع لأبويه) ( [9] ).
ومن أحكامها أن رسول الله : ((عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا)) ( [10] ).
والأكمل والأحسن أن يعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية شاة للحديث: ((عن الغلام شاتان متكافئتان (أي متشابهتان) وعن الجارية شاة)) ( [11] ).
يقول الإمام مالك رحمه الله: (الظاهر أن التقيد باليوم السابع إنما هو على وجه الاستحباب وإلا فلو ذبح عنه في اليوم الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده اجزأت العقيقة) ( [12] ).
حلق شعر الوليد: يستحب حلق شعر المولود يوم السابع والتصدق بوزنه فضة إن أمكن الحلق وإلا خمنه تخميناً وتصدق بما يساوي وزنه للحديث: ((لما ولد الحسن قال رسول الله : يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة، فوزنته فكان وزنه درهما أو بعض درهم)) ( [13] ).
وفي حلق شعر المولود تقوية له، وفتحا لمسام الرأس وتقوية لحاسة البصر والشم والسمع كما يقول ابن القيم رحمه الله.
تحنيكه بتمرة عقب الولادة: عن أبي موسى قال: ((ولد لي غلام فأتيت به النبي فسماه بإبراهيم وحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إلي)) ( [14] ).
والتحنيك معناه مضغ التمرة ودلك المولود بها بحيث يصير مائعا ثم يفتح فم المولود ويضعها فيه ليدخل شيء منها جوفه ( [15] ) ، ويستحب أن يكون من الصالحين رجلا كان أم امرأة.
التسمية باسم حسن: للحديث: ((إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء أبائكم فحسنوا أسماءكم)) ( [16] ) فتخير له الاسم الحسن للحديث: ((إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل هو عبد الله وعبد الرحمن)) ( [17] ).
أن يجنبه الاسم القبيح، وقد كان من هديه تغيير الاسم القبيح إلى الاسم الحسن فسمى عاصية جميلة، وسمى حربا سلما، وسمى المضطجع المنبعث.
التربية والتعليم: قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة [التحريم:6]. في الصلاة للحديث: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع)) ( [18] ).
وفي آداب الطعام: يقول عمر بن أبي سلمة: كنت غلاما في حجر رسول الله وكانت يدي تطيش في الصحفة (إناء الطعام) فقال لي رسول الله : ((يا غلام سم الله تعالى وكل بيمينك وكل مما يليك )) ( [19] ).
وفي الخلق الحسن ((يقول عبد الله بن عامر : دعتني أمي يوما ورسول الله قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله : ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرا، فقال رسول الله : أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة)) ( [20] ).
النفقة على الأبناء حتى يقوى عودهم فتتزوج الأنثى ويعود الذكر نفسه للحديث: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول)) ( [21] ).
التسوية في المحبة: للحديث: ((عن النعمان بن بشير قال: إن أباه أتى به النبي فقال: إني نحلت (أي وهبت) ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله ((أكل ولدك نحلته مثل هذا؟)) فقال: لا، فقال رسول الله : ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) ، وفي رواية: ((فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور)) ( [22] ) أي ظلم.
يقول الإمام أحمد رحمه الله: (يجوز التفاضل بين الأولاد إن كان له سبب كأن يحتاج الولد لزمانته (أي مرضه المزمن) أو دينه أو نحو ذلك.
الرحمة بهم مما له الأثر الكريم في استقرارهم النفسي والنشأة السوية الخالية من العقد والاضطرابات النفسية، وحدث أن قبل رسول الله الحسن أو الحسين بن علي وعنده الأقرع بن حابس فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا قط، فنظر إليه رسول الله وقال: ((من لا يرحم لا يُرحم)) ( [23] ).
وفي رواية أخرى: ((أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك)) ( [24] ).
وإذا ترحلت الرحمة من الأسرة دبت العداوة والبغضاء بين الأبناء والآباء، ومن ثم يعيش كل منهم في عزلة عن الآخرين مما يجعل أمر الانحراف وارد حيث يعيش كل منهم في عالمه الخاص الذي لا يسمح لأحد أن يتدخل فيه أو أن يوجهه.
وأما مسؤولية الآباء تجاه أبنائهم:
أن مسؤولية الآباء تجاه أبنائهم عظيمة، فأنت كأب المسؤول الأول بين يدي الله عز وجل للحديث: ((والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته)) ( [25] ).
وعلى هذه فمهمتك لا تقف عند توفير المطعم والمشرب والمسكن والسيارة الفارهة بل تتعدى إلى العناية بأمر دينه وآخرته، فليست العبرة بكثرة الأبناء والتباهي بهم وإنما العبرة بصلاح دينهم واستقامتهم.
القدوة الصالحة لهم: فلا تقع أعينهم منك على ما يشين في قول أو فعل أو حال.
وينشأ ناشئي الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
والعرب تقول: ومن شابه أباه فما ظلم.
مراعاة مراحل الطفل حتى البلوغ فلكل مرحلة لها أسلوبها يقول علي : (الولد سبع أمير، سبع أسير، وسبع وزير، ثم تشاوره ويشاورك).
وأن تدعوا لأبنائك بالصلاح والهداية، ورب العزة سبحانه يعلمنا أن نقول: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما [الفرقان:74].
واحذر أن تدعوا بالسوء للحديث: ((لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة يُسئل فيها عطاءً فيستجاب لكم)) ( [26] ).
( [1] ) رواه مسلم.
( [2] ) رواه مسلم.
( [3] ) رواه أحمد.
( [4] ) البخاري ومسلم.
( [5] ) ابن ماجة.
( [6] ) أبو داود والترمذي.
( [7] ) ابن السني.
( [8] ) أصحاب السنن.
( [9] ) نيل الأوطار ج5 ص 255.
( [10] ) ابن خزيمة.
( [11] ) الترمذي وصحيحه.
( [12] ) تربية الأولاد / علوان ص 93.
( [13] ) الترمذي والحاكم.
( [14] ) البخاري ومسلم.
( [15] ) نيل الأوطار / للشوكاني ج2 ص230.
( [16] ) أبو داود.
( [17] ) مسلم.
( [18] ) أبو داود.
( [19] ) البخاري ومسلم.
( [20] ) أبو داود والبيهقي.
( [21] ) أبو داود والنسائي والحاكم.
( [22] ) متفق عليه.
( [23] ) البخاري ومسلم.
( [24] ) البخاري ومسلم.
( [25] ) متفق عليه.
( [26] ) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/435)
الصحبة يا رسول الله
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مؤامرة قريش لقتل الرسول ليلة الهجرة. 2- نجاة الرسول من المؤامرة. 3- تضحية علي
ونومه في فراش النبي. 4- رسول الله وصاحبه في غار ثور. 5- سراقة بن مالك يلحق
برسول الله ليقتله. 6- رسول الله يبارك شاة أم معبد. 7-استقبال الأنصار للرسول. 8- التأريخ
بالهجرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فبتقوى الله ـ عز وجل ـ تجتمع الكلمة، وتتم النعمة، وتتجلى الحكمة.
أيها المسلمون، إن في دنيا الناس، ذكريات لا يمل حديثها، ولا تسأم سيرتها، بل قد تحلو أو تعلو إذا أعيدت وتكررت، كما يحلو مذاق الشهد وهو يكرر، ومن الذكريات التي لا يمل حديثها، ولا تسأم سيرتها، حياة محمد إمام البشرية، وسيد ولد آدم فهي من الذكريات الغوالي، التي تتجدد آثارها وعظاتها، كلما سلك المرء سبيله إلى الاعتبار والادكار، والعبد المؤمن إذ يغشى معالم سيرته فهو كعابد يغشى مصلاه، ومن حسن حظ المؤمن، أنه ما قلب سيرة المصطفى يوما فأخطأ دمع العين مجراه، وفي أيام محمد الجليلة النبيلة أيام خوالد، ما تزال تتضوأ على الأيام. وتتألق في غرة الزمان، ولعل من أسطعها وأروعها، يوم الهجرة، الذي تهب علينا نسمات ذكراه، في كل عام من أعوام الزمن، ومن شواهد عظم حادث الهجرة أنه يزداد بهاء وسناء كلما تناوله العرض والبحث، كالذهب والإبريز؛ كلما عرضته على النار لتمحصه، ازداد إشراقا وصفاء، وهجرة المصطفى كانت فاتحة الأمل، وبارقة النصر، وطريق العودة له ولأصحابه إلى مكة فاتحين ظافرين، كما قال ـ تعالى ـ: إِنَّ ?لَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ?لْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى? مَعَادٍ [القصص:85]. يعني إلى مكة.
عباد الله، إننا هنا، نعرض لمحات من هجرة المصطفى ، في الوقت الذي يشهد فيه المسلمون نكبات وويلات، تعصر قلوبهم، وتمزق صدورهم، وأمتهم وعقيدتهم وحرماتهم ومقدساتهم، تستصرخ ولا مجيب، وتطالب المسلمين بتضحيات وفداء وبذل. والهجرة النبوية، تعطينا في هذا المجال، قدوة وأسوة، ففيها تتجلى دروس ودروس، من التضحية والفداء والبذل، فهذا رأس الأمة، وإمام الملة صلوات الله وسلامه عليه يتحمل العبء الثقيل، في سبيل الدعوة إلى الله، وإعلاء كلمته، ويشتط المجرمون من أعدائه في مقاومته، بحيلة الوعد والإغراء، ثم بتسليط الغوغاء والسفهاء، ثم بالتآمر الدنيء، الذي ينتهي إلى الإجماع على اغتياله بلا ارعواء وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال:30].
أيها المسلمون، لما رأى المشركون أصحاب رسول الله قد تجهزوا، وخرجوا بالذراري والأطفال، وساروا بهم إلى المدينة، خافوا خروج رسول الله إليهم، ولحوقه بهم، فاشتد عليهم أمره، ولم يبق بمكة من المسلمين، إلا رسول وأبو بكر وعلي ـ رضي الله عنهم ـ وخلا من اعتقله المشركون كرها، فلما كانت ليلة همّ المشركون بالفتك برسول الله ، جاء جبريل بالوحي من عند ربه ـ تبارك وتعالى ـ فأخبره بذلك، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة. وجاء رسول الله إلى أبي بكر نصف النهار، في ساعة لم يكن يأتيه فيها، فقال له: ((أُخْرِجْ من عندك)) فقال: إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال: ((إن الله قد أذن لي في الخروج)) ، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال : ((نعم))، فقال أبو بكر، فخذ ـ بأبي وأمي ـ إحدى راحلتي هاتين فقال له رسول الله : ((آخذها بالثمن)) [1].
وأمر عليا أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش، يتطلعون من صِيْر [2] الباب ويرصدونه، ويأتمرون أيهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله فأخذ حفنة من البطحاء، فجعل يذروه على رؤوسهم وهم لا يرونه وهو يتلو وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـ?هُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:9]. ومضى رسول الله إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في داره ليلا، ثم مضى رسول الله وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه، وضرب العنكبوت على بابه، وجدَّتْ قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافلة، حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، فقال أبو بكر، يا رسول الله: لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا، فقال رسول الله يا أبو بكر ما ظنك باثنين، الله ثالثهما [3].
ولما يئس المشركون من الظفر بهما، جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منها مائة ناقة بدل كل واحد منها، فجدّ الناس في الطلب، فلما مروا بحي مدلج، بصر بهم سراقة بن مالك فركب جواده وسار في طلبهم، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي ، ثم دعا عليه رسول الله ، فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم قال سراقة: ادعو الله لي، ولكما علي أن أرد الناس عنكما، فدعا له رسول الله فأطلق، ورجع يقول للناس: قد كفيتم ما هاهنا [4].
ومر رسول الله في مسيره ذلك بخيمة أم معبد، فقال عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاه وحلبها لبنا كثيرا في سنة مجدبة، ما بهر العقول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ [5].
وقد كان بلغ الأنصار مخرجه من مكة، وقصده المدينة، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة، ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد حر الشمس، رجعوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يوم الاثنين، ثاني عشر ربيع الأول، على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة، خرجوا على عادتهم، فلما حَمِىَ حر الشمس رجعوا، وصعِد رجل من اليهود على حصن من حصون المدينة لبعض شأنه، فرأى رسول الله وأصحابه، فصرخ بأعلى صوته، يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدّكم الذي تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله وسمعت الرجة والتكبير، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه فتلقوه، وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه. وجاء المسلمون يسلمون على رسول الله وأكثرهم لم يروه بعد، وكان بعضهم أو أكثرهم، يظنه أبا بكر، لكثرة شيبه، فلما اشتد الحر، قام أبو بكر ، بثوب يظلل على رسول الله فتحقق الناس حينئذ رسول الله [6].
بذلك كله ـ أيها المسلمون ـ يتضح موقف هو أعظم المواقف، التي وقفها رسول الله ضد العدوان فغير به مجرى الأحداث، وضيع على خصومه فرصة الانتقام، وأحبط مسعاهم، وبلبل أفكارهم، وأسفر عن مبلغ تأييد الله له، وحمايته من كيد الكائدين، وطيش الظلمة الجاحدين.
أيها الناس، بمثل هذه السيرة العطرة، تتجلى الخواطر، لننهل منها دروسا عظيمة، عميقة الدلالة، دقيقة المغزى، بعيدة الأثر في نفوس الكرام من أبناء الملة. ومن واجب المسلمين أن يحسنوا الانتفاع بها، عن طريق التذكر المفضي إلى العمل بها: إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]. ومهما تتبارى القرائح، وتتحبر الأقلام، مسطرة فوائد الهجرة، فستظل جميعا كأن لم تبرح مكانها، ولم تحرك لسانها، وقد يعجز عن حصرها كثير من الناس. قال شيخ الإسلام، الإمام محمد بن عبد الوهاب المجدد لما اندرس من معالم الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ قال في حادث الهجرة: (وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها). انتهى كلامه ـ رحمه الله ـ.
ولعل من أبرز الدروس المستقاة من حادث الهجرة، هو أن صاحب الدين القويم والعقيدة الصحيحة، ينبغي ألا يساوم فيها، أو يحيد عنها، بل إنه يجاهد من أجلها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وإنه ليستهين بالشدائد والمصاعب – تعترض طريقه عن يمين وشمال – ولكنه في الوقت نفسه، لا يصبر على الذل يناله، ولا يرضى بالخدش يلحق دعوته وعقيدته.
ويلوح لنا في حادث الهجرة خاطر آخر، يتعلق بالصداقة والصحبة، فالإنسان في هذه الحياة لا يستطيع أن يعيش وحيدا منفردا، بل لابد من الصديق يلاقيه؛ ويناجيه ويواسيه، يشاركه مسرته، ويشاطره مساءته. وقد تتجلى هذه الصداقة والصحبة في تلك الرابطة العميقة، التي ربطت بين الرسول وبين أبي بكر.
لقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر، تقوم لعرضٍ أو لغرض، وتنهض على رياء أو نفاق، إلا من رحم الله، والأمة المسلمة اليوم أحوج ما تكون على عصبة أهل الخير، التي تتصادق في الله، وتتناصر على تأييد الحق، وتتعاون على البري والتقوى ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
وخاطر ثالث يتجلى من ذكر هذه الحادثة، وهو أن الله ينصر من ينصره، ويعين من يلجأ إليه ويعتصم به ويلوذ بحماه، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن المخلص، الموقن بما عند الله، حين تنقطع به الأسباب، وحين يخذله الناس، وبعض الأغرار الجهلاء يرون مثل ذلك فرارا وانكسارا، ولكنه - في الحقيقة - كان عزا من الله وانتصارا: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ?للَّهُ [التوبة:40]. وبم نصره الله؟ نصره بأضعف جنده وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]. نصره بنسيج العنكبوت [قصة العنكبوت حسنها الحافظ ابن حجر رحمه الله، انظر زاد المعاد بتحقيق الأرناؤوط]. وَإِنَّ أَوْهَنَ ?لْبُيُوتِ لَبَيْتُ ?لْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].
وخاطر رابع؛ يشير إلى أن الشباب إذا نبتوا في بيئة الصلاح والتقوى، نشؤوا على العمل الصالح، والسعي الحميد، والتصرف المجيد، والشباب المسلمون إذا رضعوا رحيق التربية الدينية الكريمة، كان لهم في مواطن البطولة والمجد، أخبار وذكريات. فعلي بن أبي طالب لم يتردد في أن ينام على فراش الرسول ، وهو يعلم أن سيوف المشركين تستعد للانقضاض على النائم فوق هذا الفراش، يتغطى ببردته، في الليلة التي اجتمع فيها شياطين الكفر والغدر، ليفتكوا برسول الله ، ويالها من نومة تحيطها المخاوف والأهوال، ولكن: فَ?للَّهُ خَيْرٌ حَـ?فِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ ?لرحِمِينَ [يوسف:64].
أيها المسلمون، هكذا تعطينا الهجرة اليوم ما يعظنا في حاضرنا، وينفعنا في أولانا وأخرانا، وهناك اليوم في أرجاء المعمورة إخوان لنا مهاجرون مسلمون، أرغموا على ترك ديارهم وأوطانهم، بعد أن فعل بهم الكفرة الأفاعيل، وبعد أن تربصوا بهم الدوائر، ووقفوا لدعوة النور في كل مرصد، يقطعون عليها الطريق، ويعذبون أهلها العذاب الشديد، لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله، فهاجروا كرها، وأخرجوا كرها، فهم يهاجرون من موطن لآخر، إقامة لدين مضطهد، وحق مسلوب في فلسطين، وفي البوسنة والهرسك، وفي كشمير، وإريتريا، وغيرها من بلاد المسلمين.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وقفوا وقفة المهاجر بنفسه، وإن لم يهاجر بحسه، فلنهاجر إلى الله ـ تعالى ـ بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا ولنلجأ إلى الله ليكون ناصرنا ومؤيدنا إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران :160].
[1] أخرجه البخاري ح (2138).
[2] الصِّيْر : شَقّ الباب (القاموس، مادة صير).
[3] أخرجه البخاري ح (4663) ، ومسلم ح (2381).
[4] أخرجه البخاري ح (3615) ، ومسلم ح (2009).
[5] انظر قصة أم معبد في معجم الطبراني الكبير ح (3605) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/58) : وفي إسناده جماعة لم أعرفهم. وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/9-10) وقال : صحيح الإسناد. قال الذهبي: ما في هذه الطرق شيء على شرط الصحيح. لكن للقصة شواهد تقويها ، ولذلك حسنها الألباني ، انظر : فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني ص 168 حاشية (1).
[6] أخرجها البخاري ح (3906) في قصة طويلة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على طريقه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، لقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي الهجري، منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، حيث جمع الناس إبان خلافته، فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ، فقال بعضهم: يبدأ من مولد النبي ، وقال بعضهم: يبدأ من بعثته، وقال آخرون: يبدأ من هجرته، وقال بعضهم: يبدأ من وفاته، ولكنه رجح أن يبدأ من الهجرة، لأن الله فرق بها بين الحق والباطل، فجعل مبتدأ تاريخ السنين من الهجرة، ثم تشاوروا من أي شهر يبدؤون السنة فقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي مهاجرا إلى المدينة، واتفق رأي عمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ على ترجيح البداءة بالمحرم؛ لأنه شهر حرام، ويلي ذا الحجة، الذي به تمام أركان الإسلام وهو الحج.
فعلينا جميعا أيها المسلمون، أن نأخذ بالتاريخ الهجري، فأعداء الله حريصون على أن يمسخوا الأمة المسلمة في كل شؤونها، حتى في تسمية الشهور والأعوام وإن استبدال تاريخ الكفار بالتاريخ الهجري عدول عن الطريق السوي، والمسلك القويم، وتشبه بالكفرة والمشركين، والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة في الأمور الباطنة، على وجه المسارقة والتدريج الخفي، والمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن؛ فتكون محرمة، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية، وأزكى البشرية...
(1/436)
البر بالوالدين والعقوق
الأسرة والمجتمع
الوالدان
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى البر. 2- فضل بر الوالدين. 3- بروا آباءكم تبركم أبناؤكم. 4- بر الوالدين.
5- صور للعقوق. 6- عقوبة عقوق الوالدين في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا [الإسراء:23].
إعلم أن الله تعالى جمع بين الأمر بتوحيده سبحانه والأمر بالإحسان إلى الوالدين ونهى عن الإساءة إليهما في الكلمة أو الفعل وأمرنا بالدعاء لهما في كل حين.
فما البر بالوالدين؟ ولماذا؟ وما صوره؟ وما العقوق وما عاقبته؟ وما موقف المسلم من الأمر كله ؟
أما البر لغةً: فهو الخير والفضل والطاعة.
اصطلاحا: يطلق في الأغلب على الإحسان بالقول اللين والإحسان بالمال وغيره من الأفعال الصالحات ( [1] ). فعلى هذا نعني بالبر بالوالدين: الإحسان إلى الوالدين والطاعة لهما في غير معصية وبذل الوسع في الفوز برضاهما وأداء حقهما في حياتهما وبعد مماتها.
وينبغي أن تعلم :
أن البر بالوالدين من أفضل القربات للحديث: ((عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟، قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)) ( [2] ). فأخبر رسول الله أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام.
إن حق الوالدين عظيم للحديث: ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه)) ( [3] ).
ورأى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلا يطوف حول الكعبة وهو يحمل أمه على كتفه ويقول:
إني لها مطية لا تنفر إذا الركاب نفرت لا تنفر
ما أطعمتني وأرضعتني أكثر الله ربي ذو الجلال الأكبر
تظنني جازيتها يا ابن عمر
فقال ابن عمر: لا ولا طلقة. أي صرخة من صرخات الولادة.
إن البر بالوالدين يكون ولو كانا كافرين: فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي : فاستفتيت النبي : فقلت إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال رسول الله : ((نعم صلي أمك)) ( [4] ).
وأنزل الله قوله: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم [الممتحنة:8].
وأما لماذا البر بالوالدين؟ فلا بد من البر بالوالدين.
لأن الكون مبني على العدل فكما تدين تدان للحديث: ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم)) ( [5] ).
ذكر أن رجلا رآه الناس وهو يضرب أباه في السوق، فقاموا يحولون بين الوالد والولد ويقولون للولد: كيف تضرب أباك؟ فقال لهم والده: دعوا ولدي يضربني فقد كنت أضرب أبي في هذا الموضع فسلط الله علي ولدي من بعده.
البركة في العمر والرزق للحديث: ((من سره أن يمد له في عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه)) ( [6] ).
المغفرة للذنوب للحديث: ((أتى رجل رسول الله فقال: إني أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرها)) ( [7] ). وفي رواية: ((هل لك والدان)) ( [8] ).
البر بالوالدين جهاد في سبيل الله للحديث: ((أن جاهمة جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت لأستشيرك؟ فقال: ألك والدان؟ قال: نعم، قال: فالزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما)) ( [9] ).
وأما صور البر بالوالدين:
في النظر إليهما، للحديث: ((ما برّ أباه من سدد إليه النظر بغضب)) ( [10] ).
فلا عبوس ولا حدة في النظر ولا تنظر إليهما شزراً من طرف عينك.
في القول: قال تعالى: وقل لهما قولا كريما [الإسراء:23]. قال ابن كثير: أي لينا طيبا حسنا بتأدب وتوقير وتعظيم وألا تكون سببا في سبهما أو لعنهما للحديث: ((إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) ( [11] ). فلا غلظة ولا فظاظة ولا تأفف ولا تضجر.
في المال: وذلك بالإنفاق عليهما إذا احتاجا والتوسعة عليها للحديث: ((أن رجلا جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي، فقال النبي : فأتني بأبيك، فنزل جبريل عليه السلام: إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ قال له النبي : ((ما بال ابنك يشكوك))؟ فقال: سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي، فقال رسول الله : أخبرني عن شيء قلته في نفسك فقال الشيخ :
غذوتك مولودا وعلتك يافعا
تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت
لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي
طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها
لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي
إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي
فعلت كما الجار المجاور يفعل
فحينئذ أخذ النبي بتلابيب ابنه وقال: ((أنت ومالك لأبيك)) ( [12] ).
لزوم الأدب معهما: إن أبا هريرة :أبصر رجلين فقال لأحدهما: من هذا منك؟ فقال: أبي فقال أبو هريرة: (لا تسمه باسمه، ولا تمشي أمامه، ولا تجلس قبله) ( [13] ) وسئل الفضيل بن عياض عن بر الوالدين فقال: ألا تقوم إلى خدمتها وأنت كسلان وقيل: ألا ترفع صوتك عليها ولا تنظر إليها شزرا ولا يريا منك مخالفة في ظاهر أو باطن وأن تترحم عليهما ما عاشا وتدعو لهما إذا ماتا ( [14] ).
إجابة دعوتهما وإن كنت في صلاة نافلة: للحديث: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتتة أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج فقال: يا رب أمي أوصلاتي؟ فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي أوصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج فقال: أي رب أمي أوصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات (وهن الزواني) فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه. فأتت إلى جريح، فلم يلتفت إليها فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت، سألوها عن أبيه؟، قالت: هو جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، قال: أين الصبي؟ فجاؤا به فقال: دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به)) ( [15] ).
قال العلماء: أفاد الحديث إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع، لأن الاستمرار فيها نافلة وإجابة الأم وبرها واجب وقيل: إنما دعت عليه لأنه كان بإمكانه أن يخفف صلاته ويجيبها ( [16] ). لو دعواه لأول وقت الصلاة وجبت طاعتهما وإن فاتته فضيلة أول الوقت ( [17] ).
ومن البر بهما بعد موتهما:
أ- الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة ودخول الجنة والنجاة من النار قال تعالى: وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا [الإسراء:23]. وللحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)) ( [18] ).
ب- التصدق عن الوالدين للحديث: ((أن رجلا قال للنبي : إن أبي مات ولم يوصي أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم)) ( [19] ).
ج- سداد الديون المالية وقضاء الفرائض التعبدية كالحج والنذر.
د- صلة أقربائهما للحديث: ((جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما (أي الدعاء لهما) والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما (العمل بوصيتهما) من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (مثل الجد والجدة والعم والخالة والخال وغيرهم) وإكرام صديقهما)) ( [20] ).
وأما العقوق: فهو مأخوذ من العق وهو القطع والمراد به الإساءة إلى الوالدين في القول والفعل وصور العقوق كثيرة ومنها تقديم رضى الزوجة على رضاهما للحديث: ((سألت عائشة رضي الله عنها: أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها، قلت: فعلى الرجل! قال أمه)) ( [21] ).
وكذا الغلظة والفظاظة ورفع الصوت والعبوس وعدم تلبية ندائهما أو التعير منهما وعدم الإنفاق عليهما وعدم استئذانهما لسفر فيه مشقة وعدم المبالاة بمشاعرهما أوالتسبب في سبهما.
وأما عاقبة العقوق :
العقوبة العاجلة للحديث: ((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يجعله لصاحبه في الحياة قبل الممات)) ( [22] ).
الخسران والهلاك للحديث: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة )) ( [23] ).
الحرمان من كلمة التوحيد عند الموت للحديث: ((عن عبد الله بن أبي أوفي قال: كنا عند النبي فآتاه آت، فقال: شاب يجود بنفسه، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فلم يستطع، فقال: كان يصلي؟ فقال: نعم، فنهض رسول الله ونهضنا معه، فدخل على الشاب، فقال له: قل لا إله إلا الله، فقال: لا أستطيع، قال: لم؟ قال: كان يعق والدته؟ فقال النبي : أحية والدته؟ قالوا: نعم، قال: ادعوها، فدعوها فجاءت، قفال: أهذا ابنك؟ فقالت: نعم، فقال لها: أرأيت لو أججت نارا ضخمة، فقيل لك: إن شفعت له خلينا عنه وإلا حرقناه بهذا النار، أكنت تشفعين له؟ قالت: يا رسول الله إذاً أشفع له، قال: فأشهدي الله وأشهديني أنك قد رضيت عنه قالت: اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيت عن ابني، فقال له رسول الله : ياغلام قل لا إله إلا الله، فقالها، فقال: رسول الله : الحمد لله الذي أنقذه من النار)) ( [24] ).
الجنة محرمة عليه للحديث: ((ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر الخبث في أهله)) ( [25] ).
وأما موقف المسلم من البر بالوالدين :
وجوب استئذانهما في الخروج إلى الجهاد: لأن البر بهما فرض عين لا ينوب عنه فيه غيره، وقال رجل لابن عباس : إني نذرت أن أغزو الروم، وأن أبواي منعاني، فقال: أطع أبويك فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك.
وهذا مقيد بأمرين الأول: إذا لم يكن النفير عاما وإلا أصبح خروجه فرض عين، والثاني: استنفار الإمام له وتعينه للخروج ( [26] ).
إن لطاعة الوالدين حد محدود فلا يجوز طاعتهما في أمر فيه معصية الله سبحانه:
فلقد كان سعد بن أبي وقاص بارا بأمه فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب شرابا حتى أموت فتعير بي ويقال: قاتل أمه، فقلت لها: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني فلما رأت ذلك أكلت، قال تعالى: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [لقمان:15].
ولا يجب أن يطلق الرجل زوجته إذا طلبا ذلك: سأل رجل الإمام أحمد فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي، قال: لا تطلقها، قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته فطلقها؟ فقال الإمام أحمد: حتى يكون أبوك مثل عمر. أي في تحريه للحق وعدم اتباع الهوى.
قال العلماء: إذا كانت الزوجة مؤذية للوالدين أو محرضة للزوج أو الأبناء على إيذائهما وجب عليه طلاقها.
وإن تعارضت طاعة الأم مع طاعة الأب فطاعة الأم مقدمة كما قال الجمهور ( [27] ).
للحديث: ((قال رجل يا رسول الله: من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)) ( [28] ).
إلا أن تكون في طاعة أحدهما معصية فعليه أن يطيع الذي يأمر منهما بطاعة، وأما إذا تعارض برهما في غير معصية فيحرص على إرضائهما ما أمكن.
روي أن رجلا قال: للإمام مالك رحمه الله: (والدي في السودان كتب إلي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له مالك: أطع أباك ولا تعص أمك) أي يبالغ في طاعة أمه ولو بأخذها معه مثلا ( [29] ).
( [1] ) الموسوعة الفقهية مجلد 8 ص 63.
( [2] ) البخاري ومسلم.
( [3] ) رواه مسلم.
( [4] ) البخاري.
( [5] ) رواه الطبراني بإسناد حسن.
( [6] ) رواه أحمد ورواته محتج في الصحيح.
( [7] ) الترمذي.
( [8] ) ابن حبان والحاكم.
( [9] ) الطبراني بإسناد جيد.
( [10] ) مجمع الزوائد 8.
( [11] ) مسلم.
( [12] ) الطبراني.
( [13] ) البيهقي وابن السني.
( [14] ) السلوك الاجتماعي في الإسلام / حسن أيوب ج2 ص 168.
( [15] ) البخاري ومسلم.
( [16] ) نزهة المتقين ص 271 مجلد1.
( [17] ) الموسوعة الفقهية مجلد 8 ص 71.
( [18] ) مسلم.
( [19] ) أحمد ومسلم والنسائي.
( [20] ) أبو داود وابن ماجة وابن حبان.
( [21] ) الحاكم.
( [22] ) الحاكم والأصبهاني.
( [23] ) مسلم.
( [24] ) الطبراني.
( [25] ) أحمد والنسائي.
( [26] ) الموسوعة الفقهية ج8 ص65.
( [27] ) السلوك الاجتماعي حسن أيوب ج2 ص 172.
( [28] ) البخاري.
( [29] ) الموسوعة الفقهية مجلد 8 ص 68.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/437)
الوصية
فقه
الفرائض والوصايا
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفات الناجين كما وردت في سورة العصر. 2- معنى الوصية في اللغة والاصطلاح.
3- صور الإضرار بالوصية. 4- لماذا ينبغي كتابة الوصية. 5- أنواع الوصايا باعتبار
الموصي:
أ- وصايا في الله عز وجل. ب- وصايا النبي. ج- وصايا الأنبياء. د- وصايا الحكماء.
6- الموقف من الوصايا.
_________
الخطبة الأولى
_________
والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [سورة العصر].
إن لأهل الإيمان سمات أربع: إيمان وعمل صالح يصدّق دعوى الأيمان، ووصية بعضهم لبعض بلزوم الحق، والصبر على تكاليف الطريق.
فما الوصية؟ ولماذا؟ وما أنواعها؟ وما موقف المسلم منها؟
الوصية: مأخوذة من الوصي، يقال: أرض واصية أي متصلة النبات.
واصطلاحا: هو ما يتقدم به الغير من قول أو فعل لإرادة الإصلاح والقربة إلى الله تعالى سواء كان في حال عافية أو عند الاحتضار، وإن كان الغالب إطلاق لفظ الوصية على ما يكون في حال الاحتضار وينبغي أن تعلم:
أن للمسلم أن يوصي عند احتضاره، ليستدرك ما فاته من الطاعات والقربات بالوصية للوالدين والأقربين، ممن لا يرث أو لبناء مسجد أو حفر بئر يشرب منها المنقطعون قال تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين [البقرة:180].
والإضرار بالوصية حرام، وصورة الإضرار تكون إما بالوصية للغني ومنع الفقير، أو الوصية للعاصي ومنع الطائع، أو لبناء كنيسة، أو دار للهو، أو الوصية مع قلة المال المورث وفي ذلك إضرار بالورثة كبير، للحديث: ((إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار)) ( [1] ).
والوصية تكون في الثلث أو دونه للحديث: ((عن سعد بن أبي وقاص y قال: جاء النبي يعودني، قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟، قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: فالثلث والثلث كثير إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم)) ( [2] ).
وأما لماذا الوصية؟ فلا بد من الوصية لأمرين:
لأن الآجال مجهولة، فلا يدري أحد منا متى يأتيه أجله قال تعالى: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت [لقمان:34]. لذا لزم أن تكون الحقوق محفوظة، معلومة، مالك وما عليك من الحقوق والديون للحديث: ((ما حق امرء مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) ( [3] ).
قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله يقول ذلك إلا وعندي وصيتي.
ولا بد من الوصية حتى لا تعذب بسبب غيرك، فعليك أن توصي بأنك مثلا بريء من كتاب كتبته وطعنت في الإسلام جهلا، أو في الفتوى التي تخالف صريح الكتاب والسنة، أو من الفعل الجاهلي الذي سننته واتبعك فيه آخرون كإقرار في العمل الإسلامي للحديث: ((ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)) ( [4] ).
ومن ذلك أيضا ما أشار إليه الشوكاني رحمه الله تعالى في شرحه للحديث: ((الميت يعذب في قبره بما نيح عليه)) ( [5] ).
قال الشوكاني رحمه الله: قال ابن المرابط: إذا علم المرء ما جاء في النهي عن النوح وأن أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره ( [6] ).
وأما أنواع الوصية :
1- فأجلها وأكرمها وأعظمها هي وصية الحق سبحانه، فأكرم بها من وصية، فالله تعالى أرحم بعبيده من عبيده بأنفسهم ومن وصايا رب العزة إلينا:
أ- الاستقامة على النهج والطريق الذي شرعه لنا وهو الإسلام وعدم الانحراف إلى السبل، سبل الضلال والضياع قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [الأنعام:153].
وعن ابن مسعود قال: خط رسول الله خطا بيده ثم قال: ((هذا سبيل الله مستقيما وخط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )) ( [7] ).
والسبل إنما تتفرق بأمة محمد إذا فقدت الأمة وعيها وإذا فقدت وعيها فقدت دينها وإلا فقل لي بربك: أي طريق أحق بالاتباع: طريق القائم عليه هو الله والمشرع له، والداعي إليه هو المصطفى ، والمنهج فيه منهج رباني لا ظلم فيه ولا محاباة ولا جهل، أوطريق القائمون عليه يهود أو نصارى، والداعون إليه هم السفلة والحثالة من البشر، والمنهج فيه منهج بشري قاهر فيه الظلم والمحاباة والجهل، فأيهما أحق بالإتباع؟.
ب- ومن وصايا رب العزة إلينا، وصيته بالإحسان إلى الوالدين، قال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير [لقمان:14].
رأى عبدالله بن عمر رجلا يحمل أمه على كتفه ويطوف به حول الكعبة ويقول:
إني لها مطية لا تنفر إذا الركاب نفرت لا تنفر
ما حملتني وأرضعتني أكثر الله ربي ذو الجلال الأكبر
تظنني جازيتها يا ابن عمر.
فقال ابن عمر: لا ولا طلقة. أي صرخة من صرخات الولادة وألمها لا يساوي عملك صرخة واحدة.
2- ومن الوصايا وصايا رسول الله لأصحابه وأمته:
عن أبي هريرة قال: ((أوصاني خليلي رسول الله بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد)) ( [8] ).
قال النووي: والإيتار قبل النوم إنما يستحب لمن لا يثق بالاستيقاظ آخر الليل فإن وثق فآخر الليل أفضل.
وهذه الأيام الثلاثة هي البيض وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر عربي، وركعتي الضحى: وأقلها ركعتان ويبتدئ وقتها بارتفاع الشمس قدر رمح وينتهي عند الزوال وأجرها عظيم للحديث: ((في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل عليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة)) ، قالوا: فمن الذي يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: ((النخامة في المسجد يدفنها أو الشيء ينحيه عن الطريق فإن لم يقدر فركعتا الضحى تجزئ عنه)) ( [9] ).
عن علي قال: أن النبي قال له: ((يا علي ثلاثة لا تؤخرها الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفئا)) ( [10] ).
الصلاة إذا أتت لقوله تعالى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتبا موقوتا [النساء:103].
والجنازة إذا حضرت: فمن السنة المبادرة بتجهيز الميت متى تحقق موته، لقول النبي حين عاد طلحة بن البراء فقال: ((إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به، عجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن يحبس بين ظهراني أهله)) ( [11] ).
3- وصايا الوالد لولده: ويقص علينا القرآن وصايا كثيرة منها في حال الحياة ومنها في حال الاحتضار.
وصايا لقمان لأبيه ومنها وصيته في بث الخشية، والحذر من فعل السيئة فيقول: يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير [لقمان:16]. أي أن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل وكانت مخفية في السماوات أو في الأرض أحضرها الله وجازى عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وصية في أدب السير والحديث والتعامل: فيقول: ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير [لقمان:19].
فأوصاه ألا يعرض بوجهه عن الناس إذا كلموه، احتقارا لهم، وألا يمشي خيلاء متكبرا عنيدا، وأن يمشي معتدلا، وألا يبالغ في رفع الصوت فيما لا فائدة فيه، فإن أقبح الأصوات لصوت الحمير.
وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام عند الاحتضار: قال تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة:132]. فكان الاطمئنان على مستقبل عقيدة الأبناء، هي الوصية التي نطق بها لسان الأنبياء عند موتهم، وهل هنالك أكرم من هذا الميراث، ميراث الدين، الذي فيه صلاح حال العبد في آخرته ودنياه.
4- ومن الوصايا وصية الزوج لزوجته: قول أبي الدرداء لامرأته: إذا رأتني غضبت فرضني، وإذا رأيتك غضبتى رضيتك، وإلا لم نصطحب ( [12] ).
ووصية أم لابنتها: وهي وصية أمامه بنت الحارث لابنتها لما حان زفافها إلى الحارث بن عمرو ملك كندة قالت: أي بنية إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبدا، واحفظي له خصالا عشرا، يكن لك ذخرا:
أم الأولى والثانية: فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله والرعاية على عياله، فالعماد في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة العاشرة: فلا تعصين له أمرا ولا تفشين له سرا، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره.
ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مهموما، والكآبة بين يديه إن كان فرحا.
وأما موقفنا من الوصية :
1- فينبغي أن يحرص كل منا على أن يبرئ ذمته من كل تبعة، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، وقبل أيام من وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، صعد المنبر ونادى: من أخذت منه مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ومن جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه. لا تقولوا فضوح، فإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة وللحديث: ((من كان عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم)) ( [13] ).
2- وينبغي أن تعلم أيضا أنه ليس كل وصية قائلها صادق آمين: فكثيرا ما يلبس الباطل ثوب الناصح الأمين زورا وكذبا: قال تعالى حكاية عن إبليس: وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين [الأعراف:21].
قال ابن كثير: نادى الله آدم: يا آدم أمني تفر؟ قال: لا ولكني استحييك يا رب قال: أما كان لك فيما منحتك في الجنة وابحتك منه مندوحة عما حرمت عليك؟ قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدا يحلف بك كاذبا. وهو قوله تعالى: وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ، أي حلف لهما بالله ( [14] ).
3- وينبغي أن تعرض كل وصية على كتاب الله وهدي النبي فما وافقهما اتبعته، وما خالفهما تركته.
( [1] ) رواه أحمد والترمذي.
( [2] ) رواه البخاري ومسلم.
( [3] ) رواه البخاري ومسلم.
( [4] ) رواه مسلم.
( [5] ) رواه أحمد ومسلم.
( [6] ) نيل الأوطار مجلد 2 جزء 4 ص 157.
( [7] ) رواه أحمد الحاكم والنسائي.
( [8] ) متفق عليه.
( [9] ) رواه أحمد وأبو داود.
( [10] ) رواه أحمد والترمذي.
( [11] ) رواه أبو داود.
( [12] ) فقه السنة جزء 2 ص 199.
( [13] ) البخاري.
( [14] ) مختصر ابن كثير مجلد 2ص 11.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/438)
الطلاق
فقه
الطلاق
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الطلاق عند الأمم السابقة. 2- الطلاق في شريعة الإسلام. 3- أسباب الطلاق الظاهرة
والباطنة. 4- ضوابط الطلاق في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الحق جلا وعلا: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [البقرة:229].
الطلاق من أبغض الحلال إلى الله عز وجل، والطلاق علاج للحالات المستعصية التي لا يمكن فيها الإصلاح بين الزوجين والجمع بينهما، ويكون فراقهما خير من اجتماعهما.
فما الطلاق؟ وما أسبابه؟ وما ضوابط الطلاق في الإسلام؟
أما الطلاق فهو حل للرابطة الزوجية وإنهاء للعلاقة بينهما، العرب قبل الإسلام في الجاهلية كان للرجل أن يطلق زوجته ما شاء أن يطلقها فإذا أوشكت عدتها أن تنقضي راجعها ثم طلقها فأنزل الله تعالى قوله: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان في الديانة اليهودية المنحرفة الطلاق بيد الرجل ويحق له أن يطلق زوجته لعيب خُلقي أو خَلقي وليس للمرأة أن تطلب الطلاق.
في الديانة النصرانية المنحرفة الطلاق محرم جاء في إنجيل متّى: (ما جمعه الله لا يفرقه إنسان) لذا يعيش كل منهما حياته الخاصة بين الخليلات في عهر ودعارة منهيان رابطة العلاقة الزوجية بينهما.
في إسلامنا الطلاق بيد الرجل ولكن للمرأة الحق أن تطلب الطلاق وللقاضي أن يفرق بين الزوجين إذا أثبتت الزوجة أن ضررا وإيذاء لحق بها من قبل الزوج.
الطلاق بيد الرجل لأن عليه الالتزامات المالية في النفقة في المهر ما يجعله أكثر صبرا وأكثر ترويا قبل الطلاق، والمرأة ليست كذلك فليس عليها من الالتزامات فيما لو حصل شجار أو نزاع أن تنطق ألفاظ الطلاق لو كان الطلاق بيدها.
أما أسباب الطلاق:
فمنها العامة والخاصة ومنها الظاهرة والباطنة:
حديثنا عن الظاهر العام ومعظمها يعود إلى:
1- الأسرة المفككة: التي أصبحت سمة من سمات واقعنا، التربية المعوجة، الوالد الذي يظن أن مهمته تنتهي بمجرد توفير الطعام والشراب لولده وهي نظرة لا تعدو أن تكون كنظرة الإنسان إلى الحيوان.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أما تخلت أو أبا مشغولا
فلا يجلس مع ولده جلسة المؤدب المعلم له فينشأ جيلا لا رجولة فيه وليس له إحساس بمسؤولية الزواج ولا يفكر بآثار الطلاق بعد ذلك وعواقبه.
والأم التي تظن أن مهمتها تنتهي بمجرد الوضع وتوكل أمر تربية الولد بعد ذلك إلى الخادمة أو المربية ولا تعد ابنتها للحياة الزوجية وإذا أرادت أن تعدها فإنما تعدها حتى تكون ندا لزوجها تعلمها كيف تسلبه ماله؟ تعلمها كيف تبرؤه من أهله من أمه من أبيه؟
الأمر الذي أثمر لنا بعد ذلك الأسرة المفككة الضائعة التائه.
2- تنازع القوامة:
فالأصل أن القوامة للرجل: الرجال قوامون على النساء [النساء:34]. فالرجل هو الذي ينفق على الأسرة وهو الذي يتولى مسئوليتها في الدنيا وأمام الله عز وجل يوم القيامة. ويتولى حمايتها وهو أكثر تحكما بعواطفه من المرأة فهو الأنسب في سياسة الأسرة والقوامة عليها ولكن التربية المعوجة هي التي أثمرت لنا المرأة المسترجلة التي شابهت الرجال الأمر الذي أصبح بعد ذلك سببا من أسباب الطلاق وهو فقدان الاحترام والمودة بين الزوجين، والأصل أن الأسرة تقوم على المودة، تقوم على الرحمة: وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21]. ولكن التربية هي التي تجعل المرأة تغفل عظيم حق زوجها عليها، ورسول الله يقول: ((لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) ( [1] ). يقول أنس كان الأصحاب إذا زفوا امرأة إلى زوجها يوصونها برعاية حقه وبطاعته.
تحفظ لنا كتب التاريخ وصية أمامة بنت الحارث وهي توصي ابنتها يوم زفافها تقول: فكوني له أمة يكون لك عبدا، وكوني له أرضا يكن لك سماء، وبالخشوع له والقناعة وحسن السمع له والطاعة، والتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينيه على قبيح ولا يشم منك إلا أطيب ريح، والتفقد لوقت طعامه ومنامه، فإن تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة.
نعم المرأة في واقعنا تخرجت من الجامعات والكليات ولكن خبرتها في الحياة وإقامة الأسرة المسلمة ورعاية الزوج قليلة وإن لم تكن مفقودة، فهي في جهالة جهلاء وضلالة عمياء.
3- فقدان الاحترام:
الرجل الذي نظر إلى زوجته أنها لا تعدو إلا أن تكون حماما يقضي فيها حاجته، فلا أحاسيس ولا مشاعر، رسول الله يقول: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم)) ( [2] ) ، والمرأة التي تنظر إلى زوجها نظرة السيد إلى الخادم، ولا يجوز أن يرفض لها طلبا، وتكلفه ما لا يطيق من الكماليات وتتباهى بين صويحباتها بقوة شخصيتها وضعف شخصيته.
4- اختلاف الطبائع واختلاف الأخلاق:
والله تعالى خلق خلقه منهم الطيب ومنهم الخبيث، ومنهم البخيل ومنهم الكريم، منهم الغضوب ومنهم الحليم، فإذا وجد خلقان متنافران في الأسرة فإما أن يصبر أحدهما على الآخر، وإما أن يكون الطلاق محتملا. رسول الله يقول: ((لا يفرك (لا يبغض) رجل امرأته فإن كره منها خلقا أحب فيها آخر)) ( [3] ).ورب العزة يقول: فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا [النساء:19].
5- مجالس النساء الفارغات:
مجالس النساء إذا كان فيها النصيحة البناءة والتذكير بالله وباليوم الآخر وتعظيم حق الزوج ورعاية الأبناء فاحرص على حضور زوجتك إليها، فإنها نافعة، وإن كانت مجالس غيبة ونميمة وتفاخر وإثارة للزوجة القانعة على زوجها، والراضية بإفساد ما بينها وبين زوجها فيقول ابن الجوزي رحمه ال:له (وأكثر العلاج في إصلاح المرأة منعها من محادثة جنسها وأن تكون عندها عجوز تؤدبها وتلقنها تعظيم الزوج) ( [4] ).
6- النظرة المعوجة في أول النكاح وفي أثنائه:
في أول النكاح: أن ينظر إلى النكاح على أنه صفقة تجارية الكل يريد أن يربح والكل يريد أن لا يخسر، الأمر الذي يجعل بعد ذلك النفوس متوترة ثم تبادل الاتهامات والأقاويل والخداع.
أن يطلب من الزوج مقدما دينارا واحدا مثلا، ثم يستنزف حاله كله بحجة أنه ديناه.
في إسلامنا رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((أعظم النكاح بركة أيسره صداقا)) ( [5] ) لأنه لا طمع فيه، تأمل معي:
خطب أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بنت سعيد بن المسيب إلى ابنه فرفض سعيد بن المسيب إمام التابعين وسيدهم، ورعا ومخافة من الله تعالى أن تعيش ابنته في بيت الخلافة وكثيرا ما تكون بيوت الخلافة فيها شيء من المظالم.
مظالم والله هي في واقعنا رحمات ولكنها في حسهم الإسلامي مظالم.
فيبعث أمير المؤمنين من يرغب سعيد ومن يرهبه فلا يلتفت إلى ذلك كله.
ويفتقد سعيد بن المسيب أحد تلامذته ابن أبي وداعة يوماً، فلما أتاه بعد ذلك، قال: لم تغيبت بالأمس؟ قال: ماتت زوجتي، قال: ألا تريد أن تتزوج؟ قال: ليس معي مال، قال: وما عندك، قال: درهمين فقال سعيد بن المسيب زوجتك ابنتي على درهمين.
يعود بعد ذلك مساء ابن أبي وداعة إلى بيته فإذا بالباب يطرق، قال: من؟ فأجابه الطارق: سعيد بن المسيب، فقال: ابن أبي وداعة، عله جاء يعتذر عما أبرمه مسرعا، ففتح الباب يقول: فرأيت وراء سعيد ظل امرأة، فقال سعيد: كرهت أن تبيت أعزب وهذه زوجتك، ودفعها وأغلق الباب، فقال: فاستغربت فعله، فخرجت إلى الجيران، قلت: استروني ستركم الله، والله ليس عندي طعام أطعم به ابنة سعيد بن المسيب، فيقول: فاحضروا لي الطعام، ولما كان الصباح أردت أن أذهب إلى سعيد حتى أطلب منه العلم، فقالت لي زوجتي: إلي أين؟ قلت: أطلب العلم من والدك، فقالت: اجلس فإن علم سعيد بن المسيب عندي.
مفاهيم حقيقية غفلناها في واقعنا لا نكاد نجلس مع بناتنا أو أخواتنا فنعدهم إلى الإعداد الذي ينبغي للحياة الزوجية بل كل ما تأخذه المرأة من أسرتها أن تكون رجلا في البيت بل لا تكاد تفرقها عن الرجل أيضا.
7- سوء اختيار الزوجة وسوء اختيار الزوج الرجل:
وغفلة كاملة عن قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها)) ( [6] ). ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((إذا أتاكم من ترضون دنيه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) ( [7] ).
رسول الله يقول: ((من تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقرا ومن تزوج امرأة لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة يغض بها بصره ويحصن بها فرجه بارك الله له فيها وبارك لها فيه)) ( [8] ).
8- رغبة الزوج في الزوجة الثانية :
وهذا أمر أباحه الشرع: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وهو علاج لمشكلة العنوسة في الأمة وكذلك لمرض الزوجة والشهوة العارمة للرجل وذلك بشرطين العدل بين الزوجات والقدرة على الإنفاق، ولكن الإعلام فعل فعله في إفساد المفاهيم وصوّر الزواج الثاني طعنا في كرامة الأولى وخيانة للعشرة، وسببا وجيها لطلب الطلاق.
9- قضية الولد:
أن يطلب الرجل الجاهل من زوجته أن تلد غلاما فإذا لم تلد فهي طالق، وغفلة عن قول الله تعالى: لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما [الشورى:49].
ذكر أن رجلا يقال له: أبو حمزة طلب من امرأته أن تلد له غلاما، فولدت جارية فهجرها عاما، مر بعد ذلك بخبائها (بخيمتها) فسمعها تداعب وليدتها وتقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنين ا تالله ماذاك في أيدينا
ونحن كالأرض لزارعينا نخرج ما قد زرعوه فينا
فكأنها نبهت في نفسه أمرا فدخل وقبل وليدته وقبل زوجته ورضي بعطاء الله.
رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده (يعني الذكور) عليها أدخله الله الجنة)) ( [9] ).
ضوابط الطلاق في الإسلام:
ينبغي على المرأة ألا تسأل زوجها الطلاق من غير بأس ومن غير ضرر حقيقي لحق بها ورسول الله يقول: ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة)) ( [10] ).
في الطلقة الأولى أو الثانية لا يجوز أن تخرج من بيت الزوجية أو أن يأمرها زوجها أن تترك بيت الزوجية، يقول الله تعالى: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [الطلاق:1]. قال العلماء: أي من الرغبة عنها إلى الرغبة إليها، ومن إيقاع الطلاق إلى استئناف الحياة الزوجية بينهما.
أما إذا خرجت المرأة من دار الزوجية ويعلم بذلك أهل الزوجين وتتدخل بعد ذلك الأطراف، الأمر الذي يوسع الشقة بين الزوجين بعد ذلك.
وصية من الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرجال والنساء معا: إلى الرجال أن يعرفوا طبائع النساء لغلبة الجانب العاطفي فيهن يقول عليه الصلاة والسلام: ((استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع أعوج، وأعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقومه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستمتعوا بهن على عوجهن)) ( [11] ).
ووصية للمرأة ألا تنكر معروف زوجها وإحسانه يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه)) ( [12] ) ، ويقول عليه الصلاة والسلام أيضا: ((يا معشر النساء إني رأيتكن أكثر أهل النار، قالوا: مم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكفرن، قلن: نكفرن بالله؟ قال: تكفرن العشير (أي الزوج) لو أحسن الزوج إليكن الدهر كله ثم أساء قلتن: ما رأينا منك خيرا قط)) ( [13] ).
( [1] ) ابن ماجة.
( [2] ) رواه الترمذي.
( [3] ) رواه مسلم.
( [4] ) اللطائف ص 135.
( [5] ) رواه أحمد والبيهقي.
( [6] ) رواه ابن حبان.
( [7] ) رواه الترمذي.
( [8] ) ابن حبان.
( [9] ) رواه أبو داود الحاكم.
( [10] ) رواه أبو داود والترمذي.
( [11] ) رواه البخاري ومسلم.
( [12] ) النسائي والبزار.
( [13] ) البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/439)
داء الشباب
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اتفاق الأنبياء في دعوتهم على حفظ الضروريات الخمس. 2- أنكحة الجاهلية. 3- من
فوائد النكاح. 4- مشكلة العنوسة. 5- أسباب تأخر الشباب عن الزواج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، لقد أشرق الإسلام بآدابه وتعاليمه الخالدة، فأقر كل خير وجد في الأخلاق الأصيلة، وغسلها مما علق بها خلال القرون من الأوضار الدخيلة، ثم أكملها بما أوحى به رب السماوات والأرض إلى نبيه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ؛ تحقيقا لقول الله ـ عز وجل ـ: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَـ?كَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً (1/440)
التربية
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى التربية. 2- الأثر العظيم للوالدين في التربية. 3- صفات المربي. 4- الخطوط
العريضة في تربية الأبناء. 5- موقف المسلم من التربية.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6]. اعلم أنه كلما اتسعت دائرة الحساب، فمسؤولية العبد بادئ ذي بدء عن نفسه أما وقد تزوج وأنجب أبناءا فيتسع الأمر بعد ذلك، تبعة ومسؤولية وحسابا بين يدي الله عز وجل، عن نفسه وزوجه وأبنائه، وخير ما يصلح الأبناء هي التربية الصالحة.
فما هي التربية؟ وما صفات المربي؟ وما الخطوط العريضة للتربية؟ وما موقف المسلم منها؟
أما التربية لغة: فهي مأخوذة من ربى يربي أي نشأ وترعرع، وأما اصطلاحا فعرف العلماء التربية فقالوا: هي عملية بناء الطفل شيئا فشيئا حتى يبلغ حد الكمال والتمام.
وينبغي أن تعلم:
أن تربية أبنائنا تقع تحت مسؤولية الجميع من ولي الأمر إلى الوالدين إلى الإعلام إلى التربية إلى المجتمع كله، مصداقا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ( [1] ).
وينبغي أن تعلم أيضا أن للوالدين الأثر العظيم في تحديد مسار الأبناء واختيارهم لدينهم لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، (أي الإسلام) فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) ( [2] ).
وينبغي أن تعلم أيضا أنه لابد من العناية بتربية أبنائك حتى تنتفع بهم في حياتك وبعد مماتك في آخرتك، في حياتك بأن تقر عينك برؤيتهم والذين يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين [الفرقان:74]، يقول عكرمة: والله ما أرادوا صباحة وجوه أبناءهم ولا جمال أجسادهم إنما أرادوا أن تقر أعينهم بصلاحهم وأن يكونوا مطيعين لله عز وجل ( [3] ) ، ثم بعد مماتك فالأجر متصل لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)) ( [4] ). وفي الآخرة قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا دخل الرجل الجنة سأل عن والديه وزوجه وأبنائه فيقال له إنهم: لم يعملوا عملك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيأمر الله تعالى أن يلحقوا به حتى تقر عينه في الجنة)) ( [5] ).
ولابد أيضا من العناية بتربية أبنائنا حتى لا تشقى الأمة بأبنائها وأي شقاء أعظم من أن يظهر في الأمة جيل مخنث ناقم على ذكورته ناقم على رجولته يفعل به ويلاط: أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [الشعراء:165]. ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) ( [6] ). أي شقاء أعظم تعيشه الأمة عندما يظهر فيها جيل يشتري الوهم والخيال والأحلام بأموال طائلة، بل إن أحدهم عرض عرضه حتى ينتفع بنشوة من شمة يشمها. أي شقاء للأمة يكون عندما يظهر فيها جيل من الزناة شغله الشاغل أن يعبث بأعراض الآخرين وأمثال هؤلاء لن تسلم أعراضهم.
إن الزنا دين إذا استقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
أمة ظهر فيها الحشاشون والزناة والمخنثون فأي مصير بعد ذلك تنتظر، وأي قبر تحفره بيدها.
وأما صفات المربي: فإن للمربي صفات:
أن يستشعر مسئوليته فعليه أن يستقيم، في منطقه في سلوكه في خلقه لأنه في موضع قدوة والعيون معلقة به، أنت بالنسبة لولدك كنسبة العود إلى الظل ولا يستقيم الظل والعود أعوج، إن من الآباء من أجرموا في حق أبنائهم بالقدوة السيئة التي ضربوها، والد يبدل طاقم الخادمات كل ستة أشهر مرة بعد أن يفجر بهن والزوجة تعلم والأبناء يعلمون، الزوجة تعلم وتسكت لأنها تربت على عفن الإعلام فألف خليلة ولا حليلة فليفعل ما يفعل المهم أن لا يتزوج عليها كذا علمها إعلامنا لأن الزوجة الثانية انتقاص من كرامتها وأنوثتها، والأبناء يعلمون ولكن.
إذا كان رب البيت بالدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
آباء متقاعدون لا يأتون البلاد إلا نادرا شغلهم الشاغل الفجور في بلاد الكفر وإذا أتى فلا يأتي إلا أياما ومنهم من يطلب من ابنته أن تعلمه ضرب الإبر حتى يستعين بها على الحرام فكيف يكون حال الأبناء بعد ذلك؟
من صفات المربي أن يكون قد أحسن اختيار الزوجة، فهي الساعد الأيمن بالنسبة له، هي الرديف، هي التي تجبر النقص الذي تفعله بسبب تقصيرك بانشغالك في الرزق مثلا لذا أكد النبي عليه الصلاة والسلام على تخير الزوجة الصالحة المؤمنة فقال: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) ( [7] ) ، ((خير متاع المؤمن المرأة الصالحة)) ( [8] ) ، أما المرأة المسترجلة التي ظاهرها أنثى وباطنها ذكر والتي تشيبك قبل المشيب والتي تنازعك القوامة ملعونة على لسان النبي عليه الصلاة والسلام عندما لعن المخنثين من الرجال والمسترجلات من النساء، أمثال هؤلاء يشغلنك عن تربية الولد بتلك الصراعات، وكذلك النزاع الذي يكون هو الجو السائد في الأسرة، وكذا خضراء الدمن التي غرك حسنها فلم تلتفت إلى أصلها ومنبتها، رسول الله حذرنا فقال: ((إياكم وخضراء الدمن قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: حسنة المظهر سيئة المنبت)) ( [9] ) ، ومثل هذه لا تؤتمن على عرض فضلا عن أن تؤتمن على تربية الولد، والدمن: ما بقي من آثار الديار ويستعمل سمادا.
من صفات المربي أن يكون عادلا فلا يفضل أحدا على أحدا حتى لا يزرع البغضاء والعداوة والنفرة بين أبنائه، وعندما أحس إخوة يوسف أن يعقوب عليه السلام يميل إلى يوسف وأخيه، صدق الله العظيم: إذا قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين [يوسف:8]. ويتفاقم الأمر إلى القتل: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين [يوسف:9]. حديث النعمان بن بشير جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((يا رسول الله إني نحلت ابني هذا غلاما، (أهديت له غلاما) وأريدك أن تشهد على ذاك، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: هل أعطيت كل ولدك ما أعطيت النعمان؟ قال: لا، قال: إذن لا تشهدني على جور)) ( [10] ) ، أي على ظلم.
من صفات المربي أن يكون حازما وفرق بين الحزم والرفق، الرفق والرحمة لابد منهما، فرسول الله عليه الصلاة والسلام كان من أرحم الناس بعياله وأهله وأما الحزم الذي نتكلم عنه فهو أن لا تسكت على خطأ أبدا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ولا ترفع عنهم عصاك أدبا)).
قسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
إذا لم تمارس مهمة الناصح المغير الذي لا يرضى على خطأ أبدا، إن لم تفعل هذا كنت صفرا على الشمال ويتجرأ عليك الصغير والكبير، تفقد هيبتك في بيتك لا يكون لك قيمة، لابد من ممارسة الحزم بأن تثني على الصواب وتعترض على الخطأ.
لابد أن تتولى أمر التربية بنفسك وتحت إشرافك فيكون لك وجود وحضور في أسرتك، أن ترصد كل ما يدخل بيتك من مجلة أو صحيفة أو فلم أو شريط أن ترصد كل ما يعرضه الإعلام من غث وسمين أن تسكت كل صوت لا ينبغي أن يسمع مما فيه دعوة إلى فاحشة وخنا، أن تنمي معاني الرجولة في أبنائك، ومعاني الحياء والعفة في بناتك وقبل أسبوعين نشرت مجلة "اليقظة" في باب أسئلة دينية فتاة تسأل هي طالبة في معهد للسكرتارية تتلقى العلم، لم تجد من يوصلها تبرع شقيق صديقتها أن يقوم بهذه المهمة، ففي الناس أشراف ولكنه كان كلبا مسعورا شغله الشاغل شهوته له صنعته من كلام معسول، يغري ناقصات العقل والدين ممن لم يكن لهن من الدين ما يعصمهن تطاول الأمر حتى مد يده إليها فلم ترفض، أخذ يصحبها إلى شقته يتمتع بها، تقول البنت: وما زلت احتفظ بشرفي، طلبت منه النكاح فرفض وقال: عندي عشرات من أمثالك، تقول: لا أستطيع الاستغناء عنه فماذا أفعل، ضع هذه جانبا وامرأة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، يقال لها أم خلاّد قتل ابنها في المعركة جاءت وهي متنقبة تغطي وجهها تسأل عن ابنها فقال لها بعض الأصحاب: اكشفي عن وجهك حتى نعرف من أنت ومن ابنك؟ قالت لهم: ((لأن أرزأ في ابني أحب إلي من أن أرزأ في حيائي)) أن أصاب بمصيبة في ابني فيموت أحب إلي من أن أصاب بمصيبة في حيائي فأكشف عن وجهي، هذا حديث يرويه أبو داود، تأمل في هذه القمم السامية التي تربت عند النبي عليه الصلاة والسلام وبين هذه السفوح الهابطة، فعل بها كل ما يريد وتقول: ما زلت احتفظ بشرفي، أي شرف يبقى بعد ذلك!! ما هي موازين الشرف في واقعنا! من أي بيت دعارة تخرجت؟! من هم والديها ماذا علموها؟! أسئلة يقف العاقل أمامها حائرا.
أما الخطوط العريضة في تربية الأبناء:
فالخط الأول هو أن تربط الولد بالله، بذكر الله عز وجل بأن تغرس في قلبه معاني اليوم الآخر من جنة ونار وحساب وعرض على الله عز وجل، عندما يولد المولود في إسلامنا من السنة أن تؤذن في أذنه فأول كلمة تطرق قلبه الله أكبر: ((ما من مولود يولد فيؤذن في أذنه اليمنى وتقام الصلاة في أذنه اليسرى إلا لم تضره أم الصبيان)) ( [11] ) وهو نوع من الجن، وإذا أراد الكلام فأول كلمة ينطق بها هي كلمة (لا إله إلا الله)) لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((افتحوا على صبيانكم لا إله إلا الله)) ( [12] ) ، ثم تغرس في نفسه معاني اليوم الآخر، أردف النبي عليه الصلاة والسلام ابن عباس وكان غلاما وراء ظهره ثم قال له: ((يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف)) ( [13] ).
التربية بالعادة أن يتعود الخلق الكريم وأن يتعود الطاعة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)) ( [14] ). وهو لم يعتد المساجد في كبره إلا لأنه نشأ على هذا الأمر منذ صغره، تقول أم عطية: ((كنا نصوم صبياننا فإذا بكوا أشغلناهم باللعب حتى يأتي وقت الأذان)) ( [15] ) ، أن يتعود قولة: السلام عليكم. أن يتعود أن يقبل يدي والديه أن يتعود احترام الكبير حتى تنغرس هذه الأمور منذ صغره فتنموا بعد ذلك في كبره.
من الخطوط العريضة أيضا هي التربية بالقصة: إعلامنا أجرم عندما جعل من العاهرة بطلة ومن العاهر بطلا، إعلامنا أجرم في حق أبنائنا فلم يترك عاهرة إلا وصورها وعقد معها لقاء، لابد أن يربط الولد بأنبياء الله عز وجل: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [الأنعام:90]. وبرسو ل الله عليه الصلاة والسلام: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الممتحنة:6].
إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاح
ولابد من التربية أخيرا بالعقوبة: الضرب للولد مثل السماد للزرع: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع)) ( [16] ) (الولد سبع أمير وسبع أسير وسبع وزير ثم تشاوره ويشاورك)، ما بين مولده وحتى السابعة من عمره تلبي له طلبه، ولا تستخدم العنف معه مما يفسد طاقاته ومواهبه وبين السابعة والرابعة عشر لابد أن يشدد على الولد، ولابد أن يفرض عليه الخلق فرضا، أصحب فلانا ولا تصحب فلانا، اقرأ كذا، ولا تقرأ كذا، فإذا فلت منك في هذه السن فلن تظفر به بعد ذلك.
وأما موقف المسلم من التربية:
فينبغي أن لا تكون النعمة سببا أن ننسى رسول الله عليه الصلاة والسلام وأن ننسى أخلاقنا يحدثني أحد الفضلاء من المدرسين أن ولدا مسك وهو يمارس الفاحشة في الحمام مع أحد الطلاب ولفداحة الأمر ولخطورته اتصلوا بولي أمره في عمله فلما جاء متلهفا مسرعا، وهذا أمر يثنى عليه عرض عليه الأمر بعد تحرج فنظر إليهم نظرة المستهزئ، وقال: لمثل هذا طلبتموني هل الأمر يستحق أن أترك عملي حتى تخبروني أن ولدي يمارس الفاحشة؟، هو يريد أن يلعب يريد أن يلهو فلماذا الاعتراض عليه؟، أهكذا فعلت بنا النعمة فأصبح الفجور بدل العفة والخلاعة بدل الحشمة والجنون بدل العقل أمور ينبغي أن نلتفت إليها: الذين بدلوا نعمة الله كفرا [إبراهيم:28]. فبدل أن نستقبل نعم الله بالشكر وأن نزداد لله طاعة تطيش العقول ونفقد ديننا وأخلاقنا ويصبح الدينار والدرهم رباً أمور ينبغي أن تراجع.
أيضا موقف المسلم من التربية أن يكون لك حضور في أهلك فإن لأسرتك منك نصيب، ولا يكون العمل هو الشغل الشاغل (حمار في النهار جيفة في الليل عالم بالدنيا جاهل بالآخرة) ومنهم من يكون شغله الشاغل أن يقضي وقته بالديوانيات لا يرى ولده ولا أهله فكيف تكون التربية بعد ذلك؟ وينمي النبي عليه الصلاة والسلام أمر القناعة في القلوب فيقول عليه الصلاة والسلام: ((من أصبح منكم آمنا في سربه، معافا في جسده عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها)) ( [17] ).
( [1] ) متفق عليه.
( [2] ) البخاري.
( [3] ) مختصر ابن كثير ج2 ص 641.
( [4] ) مسلم.
( [5] ) الطبراني.
( [6] ) رواه الخمسة إلا النسائي.
( [7] ) رواه البخاري ومسلم.
( [8] ) مسلم.
( [9] ) رواه الدار قطني.
( [10] ) متفق عليه.
( [11] ) البيهقي وابن السني.
( [12] ) الحاكم.
( [13] ) أحمد والترمذي.
( [14] ) الترمذي.
( [15] ) البخاري ومسلم.
( [16] ) أبو داود بإسناد حسن.
( [17] ) الترمذي وقال حديث حسن.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/441)
الستر
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الستر ومعناه في اللغة والاصطلاح. 2- أسرار الحياة الزوجية. 3- أنواع الستر.
4- متى يفضح الله العبد.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [النور:19].
إشاعة الفاحشة في المجتمع الإسلامي أسلوب يستخدمه أعداء الله للذهاب بالبقية من حياء الأمة، ويستخدمه الجهلة من المسلمين لينالوا ممن هم خيرا منهم بأن ينسبوا إليهم ما ليس فيهم والمسلم مأمور بالستر.
فما الستر؟ وما أنواعه؟ ومتى يفضح الله العبد؟
الستر: التغطية والحفظ. قال تعالى: له معقبات من بين يديه ومن خلقه يحفظونه من أمر الله [الرعد:11].
قال مجاهد: (ما من عبد إلا وله ملك يحفظه إلا من شيء أذن الله به فيصيبه).
والستر من خُلق الله عز وجل، للحديث: ((أن الله حيي ستير يحب الحياء فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)) ( [1] ).
والبيوت أسرار فلا يجوز نشرها، للحديث: ((إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) ( [2] ).
ولا يجوز كشف العورة إلا إذا اقتضى الأمر، للحديث: ((عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: قلت يا نبي الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك)) ( [3] ).
ولا يجوز ذكر ما بين الرجل وزوجته فيما يتعلق بالجماع للحديث: ((إن رسول الله صلى ثم سلّم ثم أقبل عليهم بوجهه فقال: مجالسكم من منكم الرجل الذي أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا وفعلت كذا، فسكتوا، فجثت امرأة على ركبتيها فقالت: أي والله إنهم يتحدثون وإنهن ليتحدثن، فقال: هل تدرون ما مثل من يفعل ذلك؟ إن مثل من يفعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه في السكة فقضى حاجته منها والناس ينظرون إليه)) ( [4] ).
وأما أنواعه:
ستر الخلقة والتكوين: يقول الإمام الغزالي: ((والله تعالى كثير الستر على عبيده ومن ستره سبحانه أنه أظهر الحسن من الجسد وأخفى القبيح منه كما قال تعالى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [التين:4].
فأخفى الدماء في العروق وأخفى العروق تحت الجلود، ومن ستره سبحانه أنه جعل موطن الخواطر هو القلب فلا يطلع عليه إلا الله تعالى، ولو اطلع الخلق على ما يدور في قلبك لمقتوك ولكنه ستر الله سبحانه.
ستر لأوليائه:
في الدنيا يصرفهم عن المعاصي للحديث: ((ما هممت بشيء مما كانوا في الجاهلية إلا حال الله بيني وبينه، ثم ما هممت حتى أكرمني الله بالرسالة، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: افعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عرفا، فقلت: ما هذا؟ قالوا: عرس، فجلست أسمع فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس وفي الليلة الثانية أصابني مثل ما أصابني مثل أول ليلة ثم ما هممت بعده بسوء)) ( [5] ).
في الآخرة، للحديث: ((يدني الله تعالى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه (أي ستره) فيقرره بذنوبه فيقول: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا، فيقول: أعرف، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته وأما الكافر والمنافق فينادي عليهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين )) ( [6] ).
ستره على عصاته وأعدائه: فيقابل إساءة العبيد وكفرهم بالإحسان إليهم للحديث القدسي: ((أنا والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، أتحبب إليهم بالنعم وأنا الغني وهم يبتعدون عني بالمعاصي وهم الفقراء، خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد)) ( [7] ).
كان لأبي حنيفة جار يعاقر الخمر وينشد:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
فافتقد صوته يوما فسأل، فقيل: إن عسس الليل أخذوه (شرطة الليل) فعزم على زيارته فلقيه تلميذه أبو يوسف، فقال: إلى أين؟ قال: لزيارة جاري، قال: هذا السكير، قال: نعم، قال: وكيف وأنت إمام المسلمين؟ قال أبو حنيفة: لقد نفعني، كان يقول: أضاعوني وهذا حال كل بعيد عن الله: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [طه:124]. فعظمت نعمة الإسلام، وكان يقيم الليل في معصية، فقلت: هذا يصبر نفسه على قيام الليل وهو في معصية ولا أصبر نفسي على قيامه وأنا في طاعة فأخذت أقيم الليل، هو ستر الله تعالى عليه شهورا وعسس الليل لا يهتدون إليه، فإذا كان هذا ستره على عصاته فكيف يكون ستره لأوليائه.
وإكراما لمجيء أبي حنيفة يطلق الوالي سراح السجناء وتكون توبة نصوحا لله تعالى.
ستر الأخوة: المسلم الحق عملة نادرة في زماننا فإذا ظفرت به فاحرص عليه، للأثر (المؤمن كثير بأخيه) وموسى عليه السلام سأل ربه أن يقويه بأخيه لأداء مهمة الدعوة: واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا [طه:31-36].
والجاهل هو الذي لا يجد مكانه إلا بأن ينحي غيره بالتجريح والطعن وهذا الصنف لا يبارك الله فيه ولا في قوله ولا في عمله، فحرمة المسلم عظيمة، للحديث: ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) ( [8] ).
فالغيبة حرام، للحديث: ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه يوم القيامة)) ( [9] ). والنميمة حرام، للحديث: ((لا يدخل الجنة نمام)) ( [10] ). وهو الذي ينقل الكلام لإيقاع الأذى بين الناس والمساعدة على إيذاء المسلم وقتله حرام، للحديث: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)) ( [11] ). والنصيحة الفاضحة لا تجوز يقول السلف: (من نصح أخاه بينه ويبنه فقد زانه ومن نصح أخاه في ملأ فقد شانه)، ولقد أصبح الكثيرون لا يحسنون النصيحة إلا بالأسلوب الفاضح المؤذي.
وأما متى يفضح الله العبد؟ فإن ذلك يحدث:
إذا كان حريصا على فضح إخوانه، للحديث: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه لا تتعبوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته)) ( [12] ).
المرأة إذا تبرجت وخلعت الستر الذي أمر الله به، خلع الله عنها ستره وحفظه ورعايته، للحديث: ((أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها إلا هتك الله عنها ستره)) ( [13] ).
المجاهرة بالمعصية، للحديث: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون ومن المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل ويصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، بات يستره الله ويصبح يكشف ستر الله عليه)) ( [14] ).
( [1] ) رواه أبو داود.
( [2] ) رواه مسلم.
( [3] ) رواه الترمذي والنسائي.
( [4] ) رواه أحمد والبزار.
( [5] ) فقه السيرة ص 72.
( [6] ) رواه مسلم.
( [7] ) رواه البيهقي عن أبي الدرداء.
( [8] ) رواه مسلم.
( [9] ) رواه الترمذي.
( [10] ) متفق عليه.
( [11] ) ابن ماجة والبيهقي.
( [12] ) رواه أبو داود.
( [13] ) رواه الطبراني.
( [14] ) متفق عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/442)
الزنا
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تدرج الأحكام في عقوبة الزنا. 2- أنواع الأنكحة في الجاهلية. 3- حكم مكاح المتعة.
4- عفة المسلم. 5- تهذيب الإسلام للنشاط الجنسي. 6- أثر الزنا. 7- أسباب الزنا.
8- عقوبة الزنا في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الحق جلا وعلا: ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا [الإسراء:32]. يأمر الله تعالى عباده أن يجتنبوا كل سبيل يؤدي إلى فاحشة الزنا حيث المعصية والطريق الخاطئ المدمر.
فما الزنا؟ وما آثاره؟ وما أسبابه؟ وما عقوبته؟ وما العلاج؟
أما الزنا: فهو أن يأتي الرجل المرأة بفعل الجماع من غير أن يكون بينهما علاقة زوجية شرعية قائمة.
الزنا من أعظم الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل، يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة يضعها الرجل في رحم لا يحل له)) ( [1] ).
ومن سمات إسلامنا التدرج في التشريع فكما أن رب العزة سبحانه تدرج في تحريم الخمر وفي تحريم الربا فهناك التدرج في عقوبة الزاني.
فبادئ ذي بدء في عقوبة الزاني هي الإيذاء، وصدق الله العظيم: والذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما [النساء:16].
ثم انتقل بعد ذلك إلى الحبس في البيوت حتى الموت يقول رب العزة سبحانه: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [النساء:15]. ثم انتقل إلى عقوبة الجلد للبكر مائة جلدة وللمحصن أن يرجم، يقول رب العزة سبحانه: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [النور:2]. ورجم المصطفى عليه الصلاة والسلام ماعز والغامدية، و((جاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله إني قد زنيت، شهد على نفسه أربع شهادات، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام، هل به من جنون؟ فقيل: لا، قال: هل أحصنت أي تزوجت؟ قال: نعم، قال: اذهبوا به فارجموه)) ( [2] ).
أنواع من الأنكحة كانت في الجاهلية، هي الزنا هدمها الإسلام:
نكاح البدل: أن يقول الرجل إنزل عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي.
نكاح الاستبضاع: أن يقول الرجل لزوجته إذا طهرت من حيضها: اذهبي إلى فلان رئيس العشيرة فاستبضعي منه أي اجعلي منه الولد النجيب فمكنيه من نفسك.
نكاح الرهط: والرهط ما دون العشرة يجتمعون على المرأة كلهم يصيبها فإذا ولدت تخيرت أحدهم فقالت له: أنت أبوه فيكون ملزما به.
ومن أنواع الأنكحة وهي الزنا بعينه: هو النكاح المؤقت أو الذي يسمى بنكاح المتعة، وهي أن يعقد الرجل على المرأة يوما أو أسبوعا أو شهرا، ونكاح المتعة ثابت تحريمه في الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى: ولا تقربوا الزنا.
قال العلماء الزنا لا تجري عليه أحكام النكاح، من طلاق ونسب وميراث وعدة.
غاية الزنا قضاء الوطر والشهوة وغاية نكاح المتعة قضاء الوطر والشهوة.
سئل الإمام جعفر الصادق عن نكاح المتعة فقال: هو الزنا بعينه، ومن السنة قول المصطفى عليه الصلاة والسلام، في فتح مكة: ((يا أيها الناس إني قد أذنت لكم بالاستمتاع ألا وإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة)) ( [3] ). وأكد المصطفى عليه الصلاة والسلام هذا التحريم عند فتح خيبر فنهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية، فالحمار الوحشي يجوز أكله أما الحمر الأهلية أي المستأنسة التي يحمل عليها في المدن فهذه التي يحرم أكلها.
أجمع أئمة المذاهب كلهم على تحريم نكاح المتعة أو المؤقت إلا بعض الفرق الباطنية أي التي تظهر الإسلام وتبطن الكفر داخلها وتنسب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ما لا يجوز أن ينسب إلى رسول الله ومن ذلك قولهم على لسان رسول الله (وحاشاه) أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((من لم يتمتع لقي الله وهو أجدع))، أو قولهم: ((من تمتع مرة عتق ثلثه من النار ومن تمتع مرتين عتق ثلثاه من النار من وتمتع ثلاثا عتق كله من النار))، كلام يندى له جبين الشريف أيصدق العقل أن يخرج من مشكاة النبوة وعلى لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام.
في إسلامنا للعفة مكانتها وأكرم ما في المرأة عفتها وقد ذكر رب العزة صفة المرأة الصالحة فقال: فالصالحات قانتات حافظات للغيب [النساء:34]. قانتات: أي خاشعات. حافظات للغيب: أي مطيعات لأزواجهن عند غيابهم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((خير متاع المؤمن المرأة الصالحة إن نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله)) ( [4] ).
العفيف يثيبه رب العزة بأن يهيئ له ويهب له المرأة العفيفة الزوجة العفيفة، لقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((عفوا تعف نساؤكم)) ( [5] ) ، والعفيف يوم القيامة يكون في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله سبحانه ففي الحديث: ((سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)) ( [6] ).
ليس في إسلامنا كبت للغريزة الجنسية، وإنما في إسلامنا ضبط لها فإذا وجدت القدرة من مال أو غيره فيجب على العبد أن يبادر فإن عجز فعليه بالتعفف، لقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج فإن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) ( [7] ).
أما أثر الزنا:
الزنا علاقة حيوانية لا تبعة فيها ولا مسؤولية ولا يقدم عليها إلا الجبناء الذين لا يريدون أن يتحملوا مسؤولية أسرة ولا تبعة أبناء ولكنهم يفعلون هذا الفعل الفاحش بستار التقدم والانطلاق والحضارة.
أما اثر الزنا:
إفساد للبيت وانهيار للأسرة: والأسرة أساس بناء المجتمع المسلم ففيه المودة وفيه الرحمة وفيه السكينة.
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21].
أما الزناة فإن فيهم شهوة أجساد فإذا قضيت تلك الشهوة مل أحدهما الآخر وذهب يبحث عن الجديد عما يثير شهوته بعد ذلك.
الزنا فيه الثمار المرة التي قدرها رب العزة بعدله وغيرته بالأمراض: كالزهري، والسيلان، والإيدز، والهربس قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم)) ( [8] ).
التمكين لأعداء الله وإطالة لعمر الباطل: جاء في كتاب بروتوكلات حكماء صهيون: إذا أردنا السيطرة على العالم فلابد من تدمير أخلاقها.
نابليون بونابرت في القديم عندما أراد أن يحتل بلدا من بلاد الإسلام جاء ومعه سفينة محملة بالعاهرات، فقيل له: نحن في حالة حرب فلم العاهرات؟ فقال: بالعاهرات أفتح بلاد المسلمين. ونشر في الصحف أن الموساد (المخابرات الإسرائيلية) تجند المصابات بمرض الإيدز بجوازات بريطانية وأمريكية أو أوربية وبعثهم إلى بلاد إسلامية لفتح دور البغاء هناك حتى يسقط طلاب المتعة بالحرام فيكونوا بعد ذلك شرا وبيلا على أمة محمد يفتكون بهم، هذا هو الحال وهذا الذي يريده أعداء الله منا فالذي يعيش في مستنقع الزنا هل يفكر بالأمة وما يراد بها وما يخطط لها؟ هو يعيش في هذا المستنقع الآثم القذر، فكيف يرقى فكره إلى أن يكون منقذا لأمته مما تعانيه ومما تجره من المخازي والمصائب؟
العزوف عن النكاح: فلم النكاح إذا كانت بضاعة الزنا مبذولة في البلاد عزوف عن النكاح بعد ذلك يكون وخاصة إذا أضيف إلى ذلك تعسير الحلال وتيسير الحرام.
طالب العفاف كم توضع عليه من الشروط ومن القيود ومن التكاليف التي تقصم ظهره، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((أعظم النكاح بركة أيسره صداقا)) ( [9] ) ، وزوج النبي عليه الصلاة والسلام على آيات من كتاب الله وقال: ((زوجتكها بما معك من كتاب الله)) ( [10] ).
ضياع الأنساب: وأن ينشأ جيل مشرد لا أب له ولا أم هذا الجيل هو الذي يكون لقمة سائغة للأحزاب الأرضية التي تجعلهم أداة تنفيذ لها مما يراد به تخريب الأمة من داخلها.
ما هي أسباب الزنا؟
للزنا أسباب كثيرة منها:
العقوبة المشجعة لا الرادعة، العقوبة يراد بها أن تردع الجرم ولكن بعد أن انحرفت أمتنا عن منهج الله، ونحّت كتاب الله عن الحياة جئنا بقوانين من بلاد كفرنسا التي تجيز في قوانينها التعايش الثلاثي وهو أن يعيش الزوجة والزوج والعشيق تحت سقف واحد، من هذه البلاد العاهرة أخذنا قوانينا، وفي بلاد الإسلام مادة معمول بها أن الرجل إذا زنا بالمرأة برضاها لم توقع عليه عقوبة وإذا زنا بامرأة متزوجة ولم يرفع الزوج بذلك دعوة لم توقع عليه عقوبة بمعنى إذا أردت أن تزني التمس رضا من تريد أن تزني بها أما أن تلمسها من غير رضاها فالعقوبة عشر سنوات ولكن إذا كان برضاها فليس عليك شيء في ذلك.
حادثة جرت ومن الجرائد نفسها امرأة غضبى خرجت من بيت زوجها فتلقفها سبعة عشر شابا وفعلوا بها الفاحشة، عرض الأمر على القضاء ما الذي حكم به القاضي أما الزوج الشريف فقد تنازل عن دعواه فالعرض عرضه وهو حر فيه فسقطت العقوبة عن الزوجة، وبما أن العقوبة سقطت عن الزوجة إذن تسقط العقوبة عن الزناة ويؤخذ عليهم تعهد بحسن سير السلوك لمدة ستة أشهر، تشريعات لا غيرة فيها، ولا يمكن أن تصدق أو تطبق إلا في مجتمع أفراده خنازير، تأمل معي عمر بن الخطاب كان يأكل الطعام فجاءه رجل يعدو ومعه سيفه وهو يقطر دما فجلس عند أمير المؤمنين، فجاء رجال يعدون قالوا: يا أمير المؤمنين إن هذا الرجل قتل صاحبنا، نظر عمر بن الخطاب إلى الرجل فقال له: ماذا يقولون؟ قال: يا أمير المؤمنين دخلت داري فرأيت رجلا بين فخذي امرأتي فعلوته بالسيف فإن كان صاحبهم فقد قتلته. نظر إليهم وقال: ماذا تقولون؟ قالوا: إنه صاحبنا، نظر عمر بن الخطاب إلى الرجل وأخذ سيفه وهزه هزة المعجب به، وقال: بارك الله فيك وفي سيفك فإن عادوا فعد وأهدر دم الزاني ( [11] ).
ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أن الرجل إذا دخل داره ورأى رجلا فوق امرأته فقتلهما كلاهما فلا عقوبة عليه ويهدر دم المقتول، منهج من طبيعة الإنسان السليمة، ومن الفطرة المستقيمة لا كما هو الحال في ديارنا التي أخذنا قوانينها من ديار أعداء الله.
وفي سويسرا جرت حادثة، أن رجلا دخل داره فرأى رجلا في فراش الزوجية فألزمها أن يكونا في هذا الوضع واتصل بالشرطة في الحال، عرض الأمر على القضاء فبماذا قضى؟ يطلق سراح المرأة ويطلق سراح العشيق، وتأخذ غرامة من الزوج لأنه قيد حرية الرجل الغريب.
الترف والمال العريض إذا قدر لإنسان لا دين له أو عنده ضعف في الدين فتنقلب عنده المقاييس فكيف يتعامل مع نعم الله عز وجل.
يعلمنا الله سبحانه أن سليمان عليه السلام استقبل نعمة الله وشعر بأنها ابتلاء فقال: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر [النمل:40]. أما الذي لا دين له فإنه يستقبل نعمة الله بالكفر وصدق الله العظيم: الذين بدلوا نعمت الله كفرا [إبراهيم:28]. فبدل أن يستقبلها بالشكر استقبلها بالكفر.
ونشرت الجرائد أيضا أن ابنا كان يرى من أبيه أنه يغير مجموعة الخادمات كل ستة أشهر ورأى من أبيه أفعالا مشينة يسأل أمه ويلمح لها بالذي يفعله أبوه فتبين له أنها تعلم بالذي يفعله والده ولكن ألف خليلة ولا حليلة، ليفعل ما يفعل المهم ألا يتزوج عليها فصارح أخاه الأكبر فيعلمه بأنه يعلم أيضا بالذي يفعله أبوه، أهذه أسر في أمة محمد؟ هل بدلت الأمة دينها قولوها صريحة فلنكن يهودا أو نصارى أو سيخ لكن أن ننتسب لدين محمد وهذا الأسر في واقعنا هذا أمر لا يصدقه العقل أبدا.
الرغبة في الحصول على المال: وأيسر طريق لفاقد الدين والحياء أن يبذل عرضه من واقعنا في إحدى الشركات يأتي مستخدم بسيط براتب بسيط ولا تمضي الأيام والأشهر وإذا به يصبح مديرا للتعيينات في تلك الشركة كيف؟!! بذل زوجته لرئيس الشركة فارتقى بعرض زوجته إلى أن حصل على هذا المنصب.
الأسر المفككة: لكل منهم عالمه الخاص الذي يعيش فيه وتوكل أمر التربية إلى الخدم في إحدى الضواحي أجريت عملية إحصاء فتبين أن سكانها ثلاثة آلاف، ألف أهلها وألفان من الخدم، بمعنى أن لكل فرد خادمتان أو خادمان؟ وأثبتت الدراسات التي تكتب عن أثر الخادمات في الأسر وفي البيوت وأن فيه إفساد للخلق وللدين وللعقائد ولكن قومي لا يعلمون.
أما عقوبة الزاني فكيف تكون؟!
أما في الدنيا فإن الزاني لن يسلم عرضه، وقد جاء في الأثر: (بشر الزاني بخراب بيته ولو بعد حين)، (كما تدين تدان) ونذكر قصة الرجل الذي كان يتاجر بين الموصل والشام، بلغ به الكبر عتيا فطلب من ولده أن يخرج في التجارة وأوصاه أن يحفظ عرض أخته، لم يفهم الولد، أخته في الدار وهو خارج للتجارة فكيف يحفظ عرضها؟! لما عاد بعد أن ربح الربح الوفير وفي الصحراء رأى فتاة ترعى غنما راودها عن نفسها فلم يظفر منها إلا أن قبّلها في تلك اللحظة وفي هذه الأثناء كان هناك سقاء يدور على البيوت يضع لهم الماء كما هو الحال من قبل، رجل في العقد الخامس من عمره يطرق باب التاجر والتاجر في شرفة المنزل ينظر، تفتح ابنته الباب يدخل السقاء ويضع الماء فيغافل البنت فيقبلها ويهرب، لما عاد ولده وهو يخبره بالربح الوفير قال له: من الفتاة التي قبلتها ومتى وأين؟ فارتعب الولد من الذي أدرى أباه؟ ومن الذي أعلمه؟ قال: ألم أوصك أن تحفظ أختك، والله لو زدت لزاد، وجرت مثلا عند أهل الموصل قولهم [دقة بدقة وإن زدت لزاد السقا].
ثم عذاب الله عز وجل في الآخرة رأى النبي عليه الصلاة والسلام ليلة أسري به، رجالا يأكلون لحما نتنا تظهر رائحته ويتركون الطيب قال: ((من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء رجال من أمتك تكون عند أحدهم المرأة بالحلال فيدعها ويبيت عند امرأة خبيثة حتى يصبح)) ( [12] ).
ورأى النبي عليه الصلاة والسلام في رؤياه ما يشبه التنور وسمع فيه أصواتا وعواء فأطلع عليه فرأى رجالا ونساء عراة يأتيهم اللهب من أسفل منهم حتى يرقى بهم إلى أعلى التنور ثم يهبط بهم، قال: ((من هؤلاء؟ فقيل له: هؤلاء الزناة والزواني)) ( [13] ).
( [1] ) ابن أبي الدنيا.
( [2] ) متفق عليه.
( [3] ) رواه ابن ماجة.
( [4] ) رواه ابن ماجة.
( [5] ) الطبراني بإسناد حسن.
( [6] ) متفق عليه.
( [7] ) رواه الجماعة.
( [8] ) ابن ماجة.
( [9] ) رواه أحمد والبيهقي.
( [10] ) رواه البخاري ومسلم.
( [11] ) تلك حدود الله/ الوقفي ص 70.
( [12] ) تهذيب سيرة ابن هشام.
( [13] ) متفق عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/443)
الحرام
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الحرام. 2- التحليل والتحريم من خصائص ألوهية الله وربوبيته. 3- مالا يتم الواجب
إلا به فهو واجب. 4- الورع عن الشبهات. 5- آثار الحرام على الفرد. 6- أنواع المحرمات.
7- أسباب الوقوع في الحرام. 8- موقف المسلم من الحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول رب العزة سبحانه: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف:33].
اعلم أن الله ما أحل إلا طيبا وما حرم إلا خبيثا.
سئل أعرابي لماذا أسلمت؟ قال: لم أر شيئا من قول أو فعل يستحسنه العقل وتستطيبه الفطرة إلا وحث عليه الإسلام وأمر به وأحله رب العزة سبحانه، ولم أجد شيئا يستقبحه العقل وتستقذره الفطرة إلا ونهى الله عنه وحرمه على عباده.
فما الحرام؟ وما هي آثاره؟ وما هي أنواعه؟ ولماذا الوقوع في الحرام؟ وما موقف المسلم من الحرام؟
أما الحرام لغة: فكما عرفه الإمام الرازي في كتابه مختار الصحاح فقال: الحرام هو ضد الحلال وهو ما لا يحل انتهاكه.
وأما اصطلاحا فكما عرّفه علماء الأصول، فقالوا: هو ما طلب الشارع تركه على سبيل الإلزام والجزم بحيث يتعرض من خالف أمر الترك إلى عقوبة أخروية أي في الآخرة، أو إلى عقوبة دنيوية إن كان شرع الله مطبقا في الأرض.
وينبغي أن تعلم:
أولا: أن التحليل والتحريم من حق الله عز وجل وحده فلا يحل لأحد أبدا أن يحلل أو أن يحرم، فذلك من خصائص الربوبية لله عز وجل.
دخل عدي بن حاتم وكان نصرانيا على النبي عليه الصلاة والسلام، وسمعه يقرأ قول الله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
قال: يا رسول الله ما اتخذناهم أربابا، لم نسجد لهم، قال: ((ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فأطعتموهم؟ قال: بلى، قال: فذلك عبادتكم إياهم)) ( [1] ).
فكل من أطعت في أمر فيه معصية لله عز وجل فقد جعلته ربا وإلها من دون الله عز وجل.
ثانيا: وينبغي أن تعلم أن السنة النبوية هي المتممة لكتاب الله عز وجل والشارحة لكتاب الله سبحانه ولا يمكن الاستغناء بالكتاب عن السنة كما يدعي من لا دين عنده، فالسنة متممة لكتاب الله عز وجل وشارحة له، وكلاهما من وحي الله عز وجل.
الكتاب: اللفظ والمعنى من الله تعالى.
والسنة: المعنى من الله واللفظ من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وصدق الله العظيم: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [النجم:3-4]. بل إن في السنة من الأحكام ما لم ترد في كتاب الله عز وجل، لذا قال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر:7].
ثالثا: وينبغي أن تعلم أيضا أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام، الزنى حرام، ورب العزة يقول: ولا تقربوا الزنى [الإسراء:32]. ولم يقل: ولا تفعلوا الزنى، أي ينبغي أن تبتعد عن السبل التي تؤدي إلى الزنى، النظرة الخائنة حرام، الخلوة الآثمة حرام، الصورة العارية حرام، اللمسة الآثمة حرام، فكل ما أدى إلى الحرام فهو حرام.
رابعا: وينبغي أن تعلم أيضا أن الحلال بيّن لا لبس فيه وأن الحرام واضح لا لبس فيه، وما اشتبه عليك أمره أهو من الحلال أم من الحرام فعليك أن تتقيه خشية الوقوع في الحرام.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((الحلال بيّن، الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه؟ ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام)) ( [2] ).
لذا يقول أحد السلف: كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام.
خامسا: وينبغي أن تعلم أيضا أن المحرم لا يجوز بيعه لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن الله إذا حرّم شيئا حرم ثمنه)) ( [3] ) فلا يجوز بيع الخنزير ولا بيع الخمر ولا بيع أوراق اليانصيب فكلها حرام لا يجوز للمسلم أن يبيعه ولا يجوز إهداؤه.
جاء رجل إلى النبي وذكر للنبي عليه الصلاة والسلام أن عنده خمرا، وأنه يعلم بتحريم الله عز وجل له فقال: يا رسول الله أفلا أكارم بها اليهود (أي أهديها إلى اليهود) فاليهود يشربون الخمر، فقال عليه الصلاة السلام: ((إن الذي حرمها حرم إهداءها)) ( [4] ).
وأما ما هو أثر الحرام؟ فإن للحرام آثارا:
أن العبد لا تقبل منه طاعة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وأعلم أن اللقمة الحرام إذا وقعت في جوف أحدكم لا يتقبل عمله أربعين ليلة)) ( [5] ).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وإذا خرج الحاج حاجا بنفقة خبيثة (أي حرام) ووضع رجله في الغرز ونادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك زادك حرام وراحلتك حرام وحجتك مأزور غير مبرور)) ( [6] ). وترجع بالإثم ولا أجر لك.
من أثر الحرام أيضا أن المتصدق من الحرام لا أجر له بل يأثم على صدقته لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من جمع ما لا ثم تصدق منه فلا أجر له وإصره عليه)) ( [7] ). إصره عليه: أي إثمه عليه.
من أثر الحرام أيضا أن آكل الحرام لا يستجاب له دعاء.
سأل سعيد بن أبي وقاص النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله ادعُ الله أن أكون مستجاب الدعوة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا سعد أطب مطعمك تستجب دعوتك)) ( [8] ).
ومن أثر الحرام أيضا أن العبد لا يقوى على طاعة، يقول أحد السلف: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى علم أم لم يعلم.
ومن أثر الحرام أيضا أن مآل هذا الجسد إلى النار.
لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به)) ( [9] ).
ذكر أن جنيد البغدادي رحمه الله جاء يوما إلى داره فرأى جارية جاره ترضع ولده، فانتزع ولده منها، وأدخل أصبعه في فيه (أي في فمه) وجعله يتقيأ كل الذي شربه، فلما سئل، قال: جاري يأكل الربا، يأكل الحرام، وجارية جاري تعمل عنده فهي تأكل الحرام، وجارية جاري ترضع ولدي فهي ترضع ولدي الحرام، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به)) ( [10] ).
وأما ما هي أنواع المحرمات؟
أولا: فمن المحرمات ما يتعلق بالمطعم، قال رب العزة سبحانه: حرمت عليكم الميتة وهو: ما مات حتف أنفه، والدم وهو: الدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ما ذكر عليه اسم غير الله عز وجل ثم ذكر أنواع الميتة فقال: والمنخنفة وهي: التي تموت خنقا والموقوذة وهي: التي تموت بسبب الضرب أي تُضرب حتى تموت والمتردية وهي: التي تسقط من شاهق فتموت، والنطيحة وهي: التي تنطحها غيرها فتموت ثم استثنى فقال: إلا ما ذكيتم [المائدة:3].
يقول علي بن أبي طالب : (فما أدركته من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وفيه حركة من رجل أو عين أو جسد، فذبحته فقد حل لك أكله. واستثنى النبي عليه الصلاة والسلام من الميتة ميتتان ومن الدم دمان، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد الطحال)) ( [11] ).
من حديث النبي عليه الصلاة والسلام: ((أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع)) كالقطة والكلب والأسد والنمر والسبع فكلها من ذوات الأنياب فلا يجوز أكلها ((وكل ذي مخلب من الطير)) ( [12] ) ، كالنسر والصقر والحدأة وما إلى ذلك فكلها محرمة في إسلامنا.
ثانيا: وأما من الأشربة فأولها الخمر وتلحق بها البيرة أيضا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) ( [13] ) ، ولعن النبي عليه الصلاة والسلام، كل من له صلة بالخمر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها)) ( [14] ). فكل من له صلة بالخمر ملعون عن لسان النبي عليه الصلاة والسلام، ومن المشروبات أيضا المخدرات كالحبوب والحشيش والأفيون والكوكايين والهيروين.
ابن تيميه رحمه الله تعالى يقول: هذه الحشيشة يتناولها الفجار لطلب النشوة والطرب وفيها ذهول عن الواقع وخدر في الجسد وإتلاف للمال والبدن وعقوبتها عقوبة شارب الخمر (عقوبة شارب الخمر في إسلامنا أربعون جلدة).
ابن تيميه رحمه الله تعالى يذكر أن كل ما يخامر العقل فعقوبته عقوبة شارب الخمر، لأن عمر بن الخطاب وقف على منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فعرف الخمرة فقال: هو كل ما خامر العقل هو كل ما أذهل العقل عن الواقع.
ثالثا: ومن المحرمات أيضا ما يتعلق بالملبس والزينة، رفع النبي عليه الصلاة والسلام الذهب والحرير وقال: ((هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها)) ( [15] ). واستثنى النبي عليه الصلاة والسلام ما كان تحكمه الضرورة.
فقد أذن الرسول عليه الصلاة والسلام للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف أن يلبسا الحرير لحكة أصابتهما وأذن لصحابي أن يتخذ أنفا من ذهب لأنه قد ذهب أنفه في إحدى المعارك.
رابعا: من الزينة المحرمة على النساء:
((لعن النبي عليه الصلاة والسلام الواشمة (والوشم معروف وهو غرز الإبرة في الجسد أو البدن أو اليد أو الوجه ووضع الكحل في مكانه) والمستوشمة (وهي التي تطلب ذلك) والواشرة (وهي التي تقصر أسنانها وتحد فيما بينها حتى تبدوا صغيرة السن، والمستوشرة (وهي التي تطلب ذلك)، والنامصة (وهي التي ترقق حاجبها) والمتنمصة (وهي التي تطلب ذلك) )).
واستثنى العلماء إزالة الشعر الذي يكون في الوجه أو اليدين أو الرجلين لأن النص قيد الأمر في الحاجب فقط، والواصلة (وهي التي تصل شعرها بشعر غيرها سواء كان شعرا حقيقيا أو مستعارا كباروكة) والمستوصلة وهي التي تطلب ذلك )) ( [16] ).
ومن الحرام على النساء هو أن تتعطر لغير زوجها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم فوجدوا ريحها فهي زانية)) ( [17] ).
خامسا: ومن المحرم أيضا فما يتعلق بالكسب:
الرشوة حرام لعن النبي عليه الصلاة والسلام: ((الراشي والمرتشي والرائش)) ، وهو الوسيط بين آخذ الرشوة ومعطيها، والمال المأخوذ مقابل إخراج الإقامة حرام.
وأفتت لجنة الأوقاف بأن ما يأخذ من مال على عمل إقامة حرام لأنها من العقود التعاونية فلا ينبغي أخذ المال عليها.
وخلو الرجل حرام، أو القفلية، والقفلية ما يدفعه المستأجر الجديد للمستأجر القديم لقاء إخلاء العين حرام وهذا مما استحدثناه من المعاملات المحرمة في واقعنا.
وأخيرا من المحرم ما يتعلق بمجال الغريزة، والمتعة حرام. سئل الإمام جعفر الصادق، ، عن المتعة، فقال: هي الزنا بعينه، لأنه لا طلاق فيها ولا عدة ولا ميراث ولا نسب، فهي الزنا بعينه، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((والله أعلمن أن رجلا تمتع وهو محصن إلا رجمته)) ( [18] ).
التبني حرام، وإذا كان بقصد الرعاية والاهتمام فالأجر عظيم: ((أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)) ( [19] ). أما أن تلحق نسبه بنسبك فقد لعن النبي عليه الصلاة والسلام، من نسب إلى غير والديه.
وأما لماذا الوقوع في الحرام؟ فإن لذلك أسباب منها:
أولا: هو أن يفتقد العبد الحياء من الله تعالى بضعف إيمانه، وبضعف يقينه وبوجود النار يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرة حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)) ( [20] ).
ثانيا: من أسباب الوقوع في الحرام: التقليد، والتقليد داء يصيب الأفراد كما يصيب الأمم، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو كان فيهم من أتى أمه لكان في أمتي من يفعل ذلك)) ( [21] ).
ثالثا: من أسباب الوقوع في الحرام هو الرغبة في الربح العاجل فلقد أصبحت أعراض الأمة وأخلاقها ودينها في مهب ريح التجار، والمجال فيها فسيح من أراد أن يتاجر بالحبوب أو الخمرة أو المخدرات فليفعل، بالأسلوب المشروع أو غير المشروع رغم الأنوف تدخل، وهذا مشاهد واضح موجود.
رابعا: من أسباب الوقوع في الحرام أيضا هو انعدام الرقابة في الأسرة.
وحادثة جرت في بلد مجاور لها الأثر العظيم على أهلها:
بيت من بيوت المترفين وفي بيوت المترفين لابد من كمال الترف أن يكون لكل غرفة تلفاز ولكل غرفة جهاز فيديو ويأتي الولد بشريط جنسي ويجلس في غرفته يشاهده، تطرق الباب عليه أخته فلا يمانع من دخولها فتدخل فيجلسان يشاهدان الفيلم الجنسي وتحضر الشياطين ويتبادلان النظرات ثم لابد من التطبيق فيقع على أخته فيزني بها ثم تحمل منه وإتماما للجريمة وبعد أن ولدت يتبنى الوالد بنت بنته، حرام في حرام ثم يفضح الأمر بعد ذلك.
انعدام الرقابة في الأسرة فالوالد مشغول ولابد من رفع الرصيد والأم مشغولة ولابد من تحضير لزيارة فلانة وعلانة وأن تحضر المجالس النسائية الفارغة، وأما تربية الولد فهي موكولة إلى البوذية أو النصرانية.
وأما ما هو موقف المسلم من الحرام ؟
أولا: فعلى الأمة أن تتربى وتربي على مخافة الله عز وجل: ألم يعلم بأن الله يرى [العلق:14]. ذكر أن عمر بن الخطاب مر على غلام يرعى غنمه قال: يا غلام بعني واحدة، فقال الغلام: هي ليست ملكي إنما هي لسيدي وأنا الوكيل عنها فقال له عمر بن الخطاب مختبرا: يا غلام بعني واحدة وخذ ثمنها وقل لسيدك الذئب أكلها. (يرسم له طريق الحرام مختبرا له) فقال الغلام: فأين الله (أين أكون من الله إن قلت هذا)؟ ويهتز عمر بن الخطاب للكلمة ويشتري العبد من سيده ويعتقه ويقول له: هذه كلمة أعتقتك في الدنيا أسأل الله تعالى أن يعتق بها رقبتك يوم القيامة.
ثانيا: ثم ينبغي أن تعلم أن الله تعالى قد جعل في الحلال ما يغني عن الحرام، النكاح بدل الزنى، التجارة بدل الربا، المشروبات اللذيذة التي لها الفائدة للبدن والروح بدل الخمرة.
ثالثا: ولابد أن تعلم أيضا كيف يكون حال صاحب المعصية يوم القيامة المتمتع بالحرام يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار (أمضى حياته في حرام) فيُغمس غمسة في النار فيقال له: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك خير قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت خيرا قط ولا مر بي خير قط)) ( [22] ).
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة [الروم:55].
ثم اعلم أن الحرام تذهب لذته ولكن تبقى تبعاته ويبقى سواد الوجه عند الله يوم القيامة، وهذا أبو نواس عندما أمضى شطرا من حياته في ضياع ثم تاب وهو يقول:
ولقد نهزت مع الغوات بدلوهم وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرئ بشبابه فإذا عصارة كل ذا آثام
( [1] ) مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 137.
( [2] ) رواه البخاري ومسلم.
( [3] ) رواه أحمد وأبو داود.
( [4] ) رواه الحميدي في مسنده.
( [5] ) رواه الطبراني.
( [6] ) رواه الطبراني والاصبهاني.
( [7] ) رواه ابن خزيمة وابن حبان.
( [8] ) رواه الطبراني.
( [9] ) رواه الترمذي.
( [10] ) رواه الترمذي.
( [11] ) رواه أحمد.
( [12] ) رواه الشيخان.
( [13] ) رواه أحمد.
( [14] ) رواه أبو داود والترمذي.
( [15] ) رواه أحمد وابن ماجة.
( [16] ) رواه مسلم.
( [17] ) رواه حاكم.
( [18] ) ابن ماجة بإسناد صحيح.
( [19] ) البخاري.
( [20] ) رواه البخاري ومسلم.
( [21] ) أحمد وأبو داود.
( [22] ) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/444)
الاختلاف
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1-الاختلاف المذموم. 2- فتاوى علماء السوء. 3- أسباب الاختلاف. 4- أثر الاختلاف.
5- أنواع الاختلاف. 6- الاختلاف في وجهات النظر. 7- الاختلاف بين الزوجين.
_________
الخطبة الأولى
_________
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم [آل عمران:103]. الاختلاف داء، إذا أصاب الجماعة دمرها من داخلها، وصرفها الله تعالى عن حمل رسالته ودعوته فحملة دعوة الله لا ينبغي أن يكونوا مختلفين.
فما الاختلاف؟ ولماذا؟ وما أثره؟ وما أنواعه؟ وما أدب الإسلام عند الاختلاف؟
الاختلاف لغة: عدم الاتفاق على الشيء.
واصطلاحا: أن ينفرد كل واحد بطريق غير طريق الآخرين في رأي أو فعل أو حال.
وينبغي أن تعلم:
أن اختلاف الأقوال وارد، ولكن اختلاف القلوب هو الاختلاف المنهي عنه في الكتاب والسنة والإجماع، في الكتاب: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم [آل عمران:103].
وفي السنة: ((لا تقاطعوا ولا تدبروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا)) ( [1] ).
والإجماع: جاء في العقيدة الطحاوية: ونرى الجماعة حقا وصوابا والفرقة زيغا وعذابا.
والعلم إذا تجرد عن الإخلاص لله عز وجل كان سببا للشقاء إذا غلب صاحبه حب الغلبة والرياسة والثراء.
وعلماء السوء هم الذين يحلون ما حرّم الله كالذي أباح الربا عندما دعا الناس إلى شراء شهادات استثمارية بنية مساعدة الدولة ثم تلاعب بالألفاظ فسمى الفائدة أو الربا بالعائد الاستثماري، والربا هو الربا وهو حرام على جميع أنواع القروض سواء كان قرضا إنتاجيا أو استهلاكيا، وأمثال هؤلاء يوقعون الأمة في اختلاف وعندما يرى البسطاء اختلاف العلماء فيما بينهم، وليس هناك من اختلاف إنما هي التبعية وأكل الفضلات التي يلقيها أصحاب المال والجاه وقد ضرب الله لهؤلاء مثلا بالكلب فقال: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب [الأعراف:175-176].
وأما أسباب الاختلاف:
فإن الناس ليسوا سواء في مداركهم وعقولهم وطبائعهم فمنهم الحليم ومنهم العجول، ومنهم السطحي ومنهم الواعي لبواطن الأمور، ومنهم من يفسر الأمور تفسيرا آخذا فيه بقول عمر : التمس لأخيك بضعا وسبعين عذرا ومنهم من يأخذ بالمثل القائل: سوء الظن من حسن الفطن.
طمع وحرص: والدنيا سبب للاختلاف كبير: يقول عليه الصلاة والسلام: ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) ( [2] ).
التنافس على الدنيا هو الذي أفسد فيما بين الرجل وزوجته والوالد وولده، والإخوة الأشقاء بل يصل الأمر إلى القتل والانتقام بالاتهام الكاذب في العرض والعياذ بالله تعالى.
حظ الشيطان من هذه الأمة: للحديث: ((إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)) ( [3] ). فالشيطان حريص على أن يفسد فيما بين المسلم وأخيه، والقلب إذا لم يكن عامرا بتقوى الله ومخافته فإن الشيطان يعشعش في أمثال هذه القلوب ويسوسها بيده حيث يريد، قال تعالى: الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [الكهف:104]. من إيذاء الإخوة لإخوانهم، وتضييع لحقوقهم، ونصرة لشخوصٍ، وإحياء لنعرات جاهلية وإقليمية بغيضة.
وأما أثر الاختلاف:
ضعف وهوان: قال تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم (أي قوتكم) واصبروا إن الله مع الصابرين [الأنفال:46].
صراع ونزاع: للحديث: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) ( [4] ).
فرقة وتمزق: للحديث: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ما أنا عليه وأصحابي)) ( [5] ).
وأما أنواع الاختلاف:
اختلاف في الخلق والتكوين: اختلاف في الألوان، والألسنة، والملامح آية من آيات الله سبحانه تدل على عظيم قدرته عز وجل قال تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم [الروم:22]. كما أن اختلاف الألوان والألسنة والملامح سبب إلى التعارف فيما بين الناس فلو كان الناس على لون واحد واسم واحد لما تمّ التعارف فيما بينهم قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
أ- فلا سخرية في إسلامنا: قال تعالى: لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم [الحجرات:11].
ب- ولا انتقاص. عيّر أبو ذر بلالا بأمه وقال له: يا ابن السوداء، فقال النبي : ((ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل وإنك امرئ فيك جاهلية)) ( [6] ).
ج- ولا طبقية في إسلامنا: أن يقسم البشر إلى طبقات ودرجات: وقد زوج النبي بنت عمته زينب بنت جحش من زيد بن حارثة العبد الذي يباع ويشترى وتقول عائشة رضي الله عنها: ما بعث رسول الله سرية فيها زيد إلا أمره عليهم ولو عاش بعده لاستخلفه.
اختلاف الأئمة رضوان الله عليهم: كتب ابن تيميه كتابا سماه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وذكر أسباب اختلاف الأئمة فيما بينهم في وصول الحديث إلى أحدهم وعدم وصوله إلى الآخر وكذا اللفظ المحتمل لمعنيين، وكذا عدم معرفة الناسخ للحديث السابق وهكذا، فلا يجوز أبدا أن يكون اختلاف الأئمة سببا إلى الصراع والتناحر كما جرى من قبل كما ذكر صاحب كتاب (ما لا يجوز الخلاف فيه بين بعض المسلمين) فذكر صورا من التعصب المقيت الذي مر على الأمة المسلمة في بعض فتراتها كأن يكتب على باب المسجد: ممنوع دخول الكلاب والحنابلة. وإن الحنفية لا تتزوج الشافعي، والمسلم يسعى للوصول إلى الدليل الأقوى فيأخذه وإن كان على غير قول إمامه، فإن لم يستطع فلا بأس بأن يكون متبعا لأحد الأئمة رضوان الله عليهم من غير تعصب مقيت.
الاختلاف في وجهات النظر في الصف المسلم: ولابد من الأخذ بالقواعد التالية لتفادي تفاقم الخلاف إلى اختلاف القلوب والمعاداة والكيد والمكر بعد ذلك:
أ- إبداء وجهة النظر حق لكل مسلم يقول عمر : (رحم الله من أهدى إلي عيوبي).
ب- وجوب الاستماع للرأي الآخر: يقول عمر عندما قال له رجل: اتق الله، فاعترض الناس على الرجل: كيف تقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟ فقال عمر: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها منكم، والكلمة إن لم تسمع في السر، تمردت وانفجرت وسمعت علانية رغم الأنوف.
ج- وجوب التنازل عن الخطأ إذا تبين وجه الحق: ورسول الله : عندما اختار مكانا لغزوة بدر جاءه الحباب بن المنذر يقول: أهو منزل أنزلكه الله أم هي الحرب والمشورة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((بل هي الحرب والمشورة)) فقال الحباب بن المنذر: فإني أعلم مكان كذا وهو خير من المكان الذي أنت فيه. ويأخذ رسول الله بقوله)) ( [7] ).
د- استحضار إخلاص المخالفين في الرأي: من الغباء بمكان أن يفسر الرأي الآخر أنه الرغبة في التدمير وشق عصا الطاعة، وحب الظهور وهذا لحن ملّت قلوب المخلصين سماعه لسماجته وسطحيته وظلمه. وإذا دام الأمر كذلك فلا يبقى في الصف إلا الإمعات ممن لا يحسنون إلا الموافقة حفاظا على المناصب الوهمية من الضياع، وأي ضياع أعظم من خلو الصف من الرجال.
الاختلاف بين الزوجين: ولابد لاختلاف الزوجين من ضوابط:
أ- لا يكون أمام الأبناء حتى لا يزرع الشر في قلوبهم، ويحملون بذور العداوة منذ الصغر.
ب- المعرفة بطبيعة المرأة: للحديث: ((استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع أعوج وأعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوجا فاستوصوا بالنساء خيرا)) ( [8] ). فالعيب الذي تريد إصلاحه يحتاج منك إلى سنين حتى يستقيم، فلا تتعجل الأمور قبل أوانها، والزمن جزء من العلاج.
ج- أن تستحضر جوانب الخير فيها، للحديث: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا أحب منها آخر)) ( [9] ) ، جوانب الخير من عفة وتقوى لله عز وجل، وقيام ببعض واجبات الأسرة.
د- التدرج في التأديب: فآخر الدواء الكي، فلا يجوز التعجل في استخدامه قبل إقامة الحجة وتقويم العوج بالوسائل المتاحة والتي نص عليها القرآن: قال تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن [النساء:34].
وأما أدب الاختلاف في إسلامنا:
1- جواز تعدد الصواب: رجلان على عهد النبي افتقدا الماء فتيمما فصليا، ثم وجدا الماء فاكتفى أحدهما بالصلاة التي تيمم لها، وأما الآخر فلم يطمئن قلبه إلا أن يتوضأ فيعيد الصلاة فلما ذكرا ذلك لرسول الله : قال للأول: ((أصبت السنة)) وقال للثاني: ((لك الأجر مرتين)) ( [10] ).
احترام عقول وعواطف الآخرين: تأمل معي: رب العزة سبحانه يخاطب أعداءه المخالفين لمنهجه فيقول: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [سبأ:24].
2- ثم احترام عواطف الآخرين: لما انتصر المسلمون في غزوة (حنين) أعطى الرسول الطلقاء (حديثي العهد بالإسلام) ممن أسلموا في فتح مكة الغنائم، ومنع منها الأنصار وهم الذين نصروا الله ورسوله من أول الإسلام، وهم أهل التضحيات.
انظر كيف عالج رسول الله الأمر: خرج إليهم رسول الله (إلى الأنصار) ثم قال: ((ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، قال رسول الله: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ قالوا: وبماذا نجيب يا رسول الله قال: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدقتم: جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك وخائفا فآمنّاك ومخذولا فنصرناك، قالوا: المنُّ لله ورسوله، فقال: أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما أسلموا ووكلتم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس في رحالهم بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءً من الأنصار اللهم ارحم الأنصار، وابناء الأنصار، وابناء ابناء الأنصار، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا بالله ربا ورسوله قسما ثم انصرف وتفرقوا)) ( [11] ).
بأبي هو وأمي رسول الله : كيف عالج الأمر وهو النبي وطاعته عبادة، ورأيه وقوله وحي من الله تعالى، ومخالفته عذاب في الدنيا والآخرة، تأمل كيف تناول الأمر فذكرهم بنعم الله عليهم، ثم أثنى عليهم بذكر مواقفهم الكريمة فلا ينبغي أن تداس بالأقدام مواقف المخلصين عند الاختلاف بالرأي كما هو الحال في واقعنا. ثم زهدهم بالدنيا ورغبهم فيما عند الله والدار الآخرة، ثم جعل من نفسه واحدا منهم ودعا لهم بالدعاء المستجاب الذي لا يرد ففاضت الدموع ورضيت القلوب وقنعت.
3- مدارة الناس وحملهم على الحق شيئا فشيئا: فيقول النبي لعائشة: ((لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأمرت بهدم الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم)) ( [12] ).
فنتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.
وجود الرجل الحكيم الرحيم بمن معه الذي تجتمع عنده القلوب: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر [آل عمران:159].
يقول النبي : ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده)) ( [13] ).
( [1] ) متفق عليه.
( [2] ) متفق عليه.
( [3] ) رواه مسلم.
( [4] ) متفق عليه.
( [5] ) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
( [6] ) رواه أحمد.
( [7] ) تهذيب سيرة ابن هشام ص 156.
( [8] ) رواه البخاري ومسلم.
( [9] ) رواه مسلم.
( [10] ) رواه أبو داود والنسائي.
( [11] ) حديث صحيح رواه أحمد من فقه السيرة ص 421 للغزالي.
( [12] ) رواه مسلم.
( [13] ) رواه أبو داود والنسائي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/445)
سر التوحيد وحقيقته (2)
التوحيد
أهمية التوحيد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
منزلة التوحيد ومكانته في القرآن , ودِلالة فاتحة الكتاب عليه – استحقاق الله وحده للحمد
والعبادة وارتباط ذلك بمعنى الربوبية – من صفات الله تعالى : الرحمن الرحيم مالك يوم الدين
ومعنى هذه الصفات وارتباطها بمعنى الخوف والرجاء – وجوب الحذر من طريق اليهود
والنصارى – عدم الاغترار بكثرة المعرضين إذا حقَّق المرء التوحيد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فحقيقة التوحيد أن تعرف الألوهية فتقوم بحقها، ألوهية الله جل جلاله وتقدست أسماؤه هذه الألوهية التي افتتح بها قرآنه وبها اختتمه.
افتتحه بقوله: الحمد لله واختتمه بقول: أعوذ برب الناس
فالقرآن أوله توحيد الألوهية وآخره توحيد الألوهية وما بينهما كله في توحيد الألوهية وبيان ذلك أنه عز من قائل لما افتتح كتابه بقوله: الحمد لله رب العالمين أخبرنا بأن الحمد كله لله والله معناه المعبود فهو المعبود بحق دون سواه فوجب أن يكون الحمد كله له أي أن تكون العبادة كلها له لأن الحمد هنا عنوان على العبادة.
ولماذا يجب أن تكون العبادة كلها له؟ وأن يكون الحمد كله له؟ لأنه سبحانه رب العالمين أي خالقهم وموجدهم ومربيهم بنعمه الظاهرة والباطنة، فجعل سبحانه في مفتتح كتابه جعل الربوبية دليلاً على الألوهية، الحمد لله رب العالمين لمّا كانت الربوبية كلها له سبحانه وجب أن تكون الألوهية كلها له سبحانه على حد قوله عز وجل: ألا له الخلق والأمر [الأعراف:54]. له الخلق أي له الربوبية كلها لأنه الرب الذي خلق دون سواه، وله الأمر أي له الألوهية كلها فهو الإله الذي يأمر وينهي ويقضي ويحكم دون سواه، ومن كانت هذه صفاته وجب أن تكون العبادة كلها له، وجب أن يكون الحمد كله له، وجب أن يُعبد دون سواه لأنه ذو الألوهية المنفرد بها وهذا هو سر قوله عز وجل: إياك نعبد أي لا نعبد إلا إياك لأنك المنفرد بالألوهية، ووجب أيضًا أن يُستعان به دون سواه لأنه المنفرد بالربوبية، هو الرب الذي خلق دون سواه، هو الرب الخالق الرازق دون سواه وهذا هو سر قوله عز وجل: وإياك نستعين أي لا نستعين إلا بك لأنك المتفرد بالربوبية، وفي أثناء ذلك وقبله عرفنا سبحانه بنفسه فوصف نفسه بثلاث صفات الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.
يتحبب إلى خلقه سبحانه بهاتين الصفتين الرحمن والرحيم، فمعنى الرحمن ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء، وسعت كل خلقه وسعت الجن والإنس والمسلم والكافر وسعت سائر المخلوقات كلهم يعيشون في ظل رحمته الواسعة هذه ولولاها لهلكوا، وهو الرحيم بعباده المؤمنين اختصهم بخصوصية من رحمته ميزهم بها على غيرهم لأن الكافر وإن كان مشمولاً برحمة الله الواسعة في الدنيا إلا أنه محروم منها في الآخرة بخلاف المؤمن فقد حظي بالرحمة في الدنيا والآخرة، المسلم حظي برحمة الله المخصوصة في الدنيا والآخرة.
وبعد أن فتح الرب عز وجل لخلقه باب الرجاء يذكر هاتين الصفتين من صفاته العلى وقبل ذلك ذكر نفسه في معرض الألوهية باسمه الأعظم الذي هو الله، بعد أن ذكر صفة الرحمة عقب على ذلك بقوله: مالك يوم الدين، يشرع بذلك لخلقه مع باب الرجاء، باب الخوف، الخوف من الجزاء والحساب فيوم الدين هو يوم الجزاء والحساب يوم القيامة، فعليك أيها المسلم، عليك أن تزن نفسك بين هذين البابين باب الرجاء في رحمة الله الواسعة المخصوصة، وباب الخوف من حسابه وجزائه يوم الدين.
وبعد فاتحة القرآن سائر القرآن إما بيان للتوحيد وذكره لأهله الذين عرفوا الألوهية فقاموا بحقها وذكر لما أعد لهم من النعيم المقيم.
أو بيان للشرك وذكر أهله الذين تمردوا على الألوهية ولم يقوموا بها كما يجب فأشركوا أو جحدوا.
وإما أمثال ضربها الله عز وجل لكل من الفريقين.
وإما أمر ونهي يبينان ما يجب أن يفعله الإنسان من مقتضيات التوحيد، توحيد الألوهية، أو ما يجب أن يجتنبه الإنسان من نواقض التوحيد ومنغصاته والموحدون الذين عرفوا الإلهية فقاموا بحقها وتعلموا التوحيد وسلكوا طريقه هم عباد الله المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وعليك أيها الإنسان أن تسأل ربك الهداية إلى طريقهم وأن تسأله الإعانة على سلوكها فإنها الطريق المستقيمة الموصلة إلى الجنة، وهذا هو ما دل عليه قوله عز وجل: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم [الفاتحة: 5-6].
كما أن عليك أيها الإنسان أن تحذر كل الحذر من طريق المغضوب عليهم الذين مع معرفتهم للتوحيد لم يسلكوا طريقه تكبرًا وعنادًا وعتواً، كاليهود أو كطريق الضالين الحيارى الذين ضلوا عن طريق التوحيد وضيعوها كالنصارى وعلى ذلك دل قوله عز وجل: غير المغضوب عليهم ولا الضالين [الفاتحة: 7] فقد ثبت عن النبي أنه قال: ((المغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى)) [1].
وأما بعد: ذلك الإنسان إذا سلك طريق التوحيد وعرف الألوهية وقام بحقها إذا عرف حقيقة التوحيد وزبدته وسلك طريقه فلا يغرنه ما يشاهد من عناد الناس وتمردهم على الإلهية وطغيانهم وأذيتهم، عليه أن يلجأ إلى ربه عليه أن يفوض أمره إلى ربه، فإنه الذي خلقه وهو الذي يحميه ويرعاه، ولذلك عليه أن يعوذ بالله ويلوذ به من شرور الخلق أجمعين من جنهم وإنسهم، ولهذا السر ختم سبحانه وتعالى كتابه: قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس [الناس:1-6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (4/378-379) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: يا مسلم علِّم أولادك كيف يعبدون الله عز وجل. مرهم بالصلاة وهم صغار لم يبلغوا سن التكليف بعد ولكن لا تقهرهم على ذلك، اغرس في نفوسهم معرفة الله عز وجل وحب الله ورسوله وعلمهم كيف يعبدون الله وحده لا شريك له، علمهم عبادة الله وحده لا شريك له، علمهم توحيد الله وحده لا شريك له.
ولكن عليك أن تعلم أنهم وهم في مثل هذه السن نفوسهم طرية رقيقة فلا تستخدم معهم الخشونة والعنف فتنفرهم وتخرب نفوسهم، ولكن علمهم واغرس في نفوسهم عبادة الله عز وجل بأسلوب رقيق كرقة الطفولة.
إذا علمت ولدك الصلاة فإنه سيعرف الله عز وجل وسيتعلم كيف يعبده لأن الصلاة هي العبادة، فيها من سائر أنواع العبادة فيها تكبير وتحميد وتهليل وتسبيح وتعظيم وفيها دعاء واستغفار وقراءة للقرآن وركوع وسجود وقيام وغير ذلك من أنواع العبادة.
فعليك أن تأمر ولدك الصغير الذي لم يبلغ بعد سن التكليف فأمره بهذه الصلاة بأسلوب رقيق يناسب رقة الطفولة وشفافيتها وصفاءها ونقاءها وضعفها حتى إذا بلغ مرحلة أكبر العاشرة من عمره فأكثر حينئذ عليك أن تغرس في نفسه روح المسئولية وروح التكليف وأن تعلمه الانضباط مع قاعدة الجزاء والحساب تعاقبه إذا تمرد أو أساء ولو وصلت العقوبة إلى حد الضرب ،الضرب الذي لا يلحق به أذى جسمانيًا.ولكنه يحقق الهدف النفساني التربوي فيتربى ولدك على روح المسئولية والتكليف ويتعلم كيف ينضبط مع قاعدة الجزاء والحساب.
هذا هو مجمل وأبعاد قول سيدنا محمد : ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)) [1].
يا مسلم لا تترك أولادك هملاً، وهم في هذه السن سن التكوين، لا يعرفون ربًا ولا خالقًا ولا مسئولية ولا يتعلمون روح التكليف.
لا تترك أولادك ضحايا للشاشات الفضية أو المخربات الورقية أو الملهيات الرياضية إنك إن فعلت ذلك فإنك ضيعتهم وأي ضياع تركتهم مزلزلين مُدَمَّرين مُخَرَّبين في هذه الشباك التي نُصبت لهم في هذا العصر.
وتكون بذلك أيضًا قد ضيعت على نفسك بابًا من أبواب الجنة، فإن المسلم الذي أنعم الله عز وجل بشيء من هذه الذرية وخاصة الإناث منهم وقام على ذلك أحسن قيام حتى عرفوا الله وعبدوه ووحدوه فإنهن يدخلونه الجنة.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان، ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها النبي صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند أحمد (2/187) ، سنن أبي داود (495) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(1/446)
يوم التقى الجمعان
سيرة وتاريخ
غزوات
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رمضان وذكرى بدر. 2- استغاثة الرسول ونزول المدد. 3- تحقق الولاء والبراء في
معركة بدر. 4- رسول الله يلوذ بالصلاة. 5- مشهد الرضا بالقضاء في معركة بدر.
6- مشهد الشورى في معركة بدر. 7- مشهد للشباب الطموح في بدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه في السر والعلن، واعلموا أن تقوى الله ـ عز وجل ـ، هي زاد كل مسلم في هذه الحياة الدنيا، فمن لا تقوى له لا سعادة له في الدنيا، ولا نجاة له في الآخرة.
أيها الناس، إن كتاب الله ـ عز وجل ـ هو المنبع الثر للهدى والحق والخير، وسيرة رسوله ، وسيرة أصحابه، هي السجل الخالد للبطولات والأمجاد فيهما يجد المسلم النور الذي يضيء له الطريق، ومنهما يفوز بالقوة التي تحفزه إلى الخير، وتنقذه من الزلل، وتمنعه من الانحراف، وتدفعه للتغلب على الصعوبات، التي تقوم بينه وبين بلوغه الجنة، وما فاز من فاز إلا منهما وبهما، ولا خسر وهلك إلا من غفل عنهما وتركهما وراء ظهره.
عباد الله، إن دنيا الذكريات دنيا سعيدة، يعيش فيها المرء المسلم يحدوه الأمل، وتعلو جبينه السعادة في استرجاعها، ويستحثه الشوق إلى تجديد ماضي عهدها، لاسيما في هذا العصر الذي تكتوي فيها الأمة المسلمة، بلهيب الصراعات الدموية التي أفقدتها هويتها، والتي أصيبت على إثرها بوابل من الطعنات، التي ساعدت على نسيان ماضيها تراثا وأصالة وفكرا، يتذكر المسلم ذلك، ليذكر بحرارة وعظه، مواقف مشرفة، وأعمالا خالدة مدى التاريخ، كانت قد سطرت بقرآن يتلى ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
ما كان حديثا يفترى، ولا فتونا يتردد ذلكم الحديث، الذي روى به التاريخ أنباء أعظم ثلة ظهرت في دنيا الإيمان والعقيدة.
فإن من أجمل ذكريات الأمة المسلمة ما برحت تَشْرَئِبّ لمثل ذلك النصر على أعدائها، وما فتئت تعيش سعيدة، يحدوها الأمل بعز الإسلام، وإشراق نوره في الوبر والمدر ما بلغ الأجدان؛ الليل والنهار.
أيها المسلمون، في مثل هذا الشهر المبارك، وبعد منتصفه من السنة الثانية للهجرة النبوية، ـ على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ـ، تقابل ببدر صفان ؛ صف إسلام وصف كفر، صف إيمان وعقيدة وصف خذلان وجحود، صف أنصار الله ورسوله وصف أنصار العزى وهبل، في هذين الصفين يقول الله ـ جلا وعلا ـ: هَـ?ذَانِ خَصْمَانِ ?خْتَصَمُواْ فِى رَبّهِمْ فَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ ?لْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَ?لْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج :19-21].
لقد خرج رسول الله في قلة من أصحابه، وضآلة في عدده وعدته، يقابل جموع المشركين وصناديدها، في صولتها وكثرة عددها، ووفرة عدتها، وهو مؤمن أن الغلبة له عليها، نازلها في بدر، وكان قد شق عليه ما رأى من طغيانها وإعلانها العداء لله ورسوله، فتوجه إلى الله بدعائه ((اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض)) ويرفع يديه إلى السماء، حتى سقط الرداء عن منكبيه [1] ـ بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ـ.
فلم يرجع رسول الله يديه، إلا والملائكة تنزل مددا تقاتل في صفوف المسلمين إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ ?لْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].
ويمتن الله على عبده وعلى المسلمين بهذا النصر وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123].
فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يفرحون بهذا النصر الجميل، ويرفعون أيديهم إلى السماء، كما فعل رسول الله ضارعين إلى المولى ـ عز وجل ـ، أن ينصرهم على أعدائهم قائلين في حرقة وألم مما يصيبهم من أعدائهم: اللهم إننا ننشدك عهدك ووعدك الذي وعدتنا.
أيها المسلمون، إننا مهما وقفنا من وقفات صادقة مع هذه المعركة الفاصلة، فإننا لن نوفيها بعض حقها، إذ هي معين لا ينضب، ومعروف لا ينقطع، وحسبنا في هذا المقام، أن نشير إلى بعض سماتها، والدروس المستقاة منها، عَلَّ اللهَ أن يوفقنا لسلوك رسول الله ومسلك صحابته من بعده.
إن من أبرز سمات تلك المعركة، هو تلاشي الفروق العصيبة، والعُبِيَّة [2] الجاهلية، في اللون أو الجنس، إذ أصبح الأمر فيه أمر إسلام وكفر، إسلام من أي لون أو جنس وجد، وكفر من أي بشرة أو أي إقليم كان، حيث التقى في تلك المعركة الأخ مع أخيه، والقريب مع قريبه، أحدهما ينصر الله ودينه، والآخر ينصر قوميته وفخره.
وقد كانت تلكم الغزوة رابطة حقة بين المؤمنين الصادقين، وقد برزت تلكم الرابطة جلية في تلك الغزوة، حينما قال الفاروق لرسول الله ـ لما استشار أصحابه في أمر الأسرى ـ قال : ((أرى أن تمكنني من فلان قريب لي وتمكن عليا وحمزة من أخويهما فنضرب أعناقهم)) [3].
وفي تلك الليلة يبيت القوم، ورسول الله قائم يصلي ويلوذ بالحي القيوم، فيزيدنا هذا معرفة بشأن الصلاة وأثرها، إذ أنها تزيد المؤمن نورا وبهاء وفهما، قال ـ تعالى ـ في الحديث القدسي: ((وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) [4].
إن الصفاء الذي تتركه الصلاة في النفس النبيلة، يجعل للحق في النفس حسا يميزه عن الباطل، وكلما ابتعد المسلم عن الصلاة، فتح باب الكدر في هذا الصفاء، فغام وتعكر.
ويعترضنا مشهد آخر من مشاهد تلك الغزوة، يتمثل في عظم التوكل على الله، والرضا بقضائه وقدره؛ إذ أراد الرسول وأصحابه عِيْر أبي سفيان : وَإِذْ يَعِدُكُمُ ?للَّهُ إِحْدَى ?لطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ?لشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَـ?تِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ?لْكَـ?فِرِينَ [الأنفال:7]. يريدون العير، والله يريد القتال والجهاد، ذلك أن الإنسان محدود النظر، قد يرى ولكن في إطار، ويفكر ولكن لا يخرج عن نطاق، فلا يجد إلا التوكل على الله إذ عسى أن يكره شيئا وهو خير له، وعسى أن يحب شيئا وهو شر له، فرب مشتاق إلى مورد ما، والموت لو يعلم في ذلك المورد: كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة: 216].
ولم يغب في تلك الغزوة موقف الذكاء والفطنة والرأي من المسلمين، مع الأدب والطاعة، حين نزل الرسول أدنى ماء من بدر، فقام الحباب بن المنذر فقال يارسول الله: (أرأيت هذا المنزل. أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه؟ أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟) قال رسول الله : (( بل هو الرأي والحرب والمكيدة)) ، فقال: (يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ثم نفسد ما وراءه من القُلُب [5] ؛ فنشرب ولا يشربون)، فقال رسول الله : ((لقد أشرت بالرأي)) [6] ، الله أكبر! ما أعظم هذه الكلمات، التي تفوه بها الحباب ! (أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه).
هذا هو الأساس العظيم، الذي قام عليه بناء المسلم فيما مضى من الطاعة المطلقة، والانقياد لما أمر الله به، وأمر به رسوله ، لا تردد ولا تلكؤ، ولا مساومة ولا تسويف، ولكن إذا أمر الله بأمر فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، مهما أبدى لنا هوانا البليد وأعاد. فلا مصلحة، ولا حكمة، ولا هوى، بعد أمر الله ورسوله، بل الطاعة والانقياد، بكل حزم وعزم، فهو الرأي والحكمة والمصلحة جميعا، ولا يكون ذلك إلا للذين يحكم الشرع حياتهم، وهم مسلمون لله، مستسلمون لشرعه وأمره، أما الذين يتبعون شهواتهم ورغباتهم، ولا يعنيهم أيرضى الله شيئا أم يسخط عنه، فهم بحاجة إلى تصحيح أصل الإيمان في قلوبهم وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
وفي تلك الغزوة ـ أيها المسلمون ـ، يأبى الشباب الطموح المتطلع إلى ما عند الله، يأبون إلا أن يصولوا صولتهم، ويجولوا جولتهم من بين صفوف المعركة، لتعلو بذلك كلمة الله من بين ظلال السيوف، ولهج السنابك، يقول عبد الرحمن بن عوف : (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله ، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال مثلها، قال فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه. قال: فابتدراه، فضرباه بسيفهما حتى قتلاه) [رواه البخاري] [7]. الله أكبر! الله أكبر! ما أهونَ الخلق على الله أيها المسلمون! صنديد من صناديد قريش، وعظيم من عظمائها، يأبى الله إلا أن يكون حتفه على يد شابين يافعين. فأين أنتم يا شباب الإسلام من تلك الطموحات؟! ماذا سجلتم لأمتكم؟! وماذا عساكم أن تفعلوا بشبابكم وفراغكم وجدتكم؟! وما مدى صلتكم بتاريخ آبائكم وأجدادكم؟! الذين صنع الله على أيديهم البطولات. عودوا إلى تاريخكم فالعود أحمد، وتجنبوا مكر الشيطان ولو أرغى وأزبد.
عباد الله، إن هذه العبر والعظات قد كانت في مجموعها نتيجة للانضواء تحت أخوة الإسلام الحقة، وراية التوحيد المحضة، والتفاهم بإخلاص في الأمر، والاعتماد على الله واللجوء إليه، بعد بذل الأسباب المادية، ومحض النصح للقيادة، ابتغاء وجه الله. فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا من سيرة نبيكم تفلحوا. فدين الله وشرعه وإن غاب عنه شخص رسول الله فهو باق خالد، وضعت فيه صفات المتقين، وخطط المجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم ح (1763).
[2] الغُبِيَّة: الكبر. (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ، مادة عيب).
[3] أخرجه أحمد (1/30)، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (208): إسناده صحيح.
[4] أخرجه البخاري ح (6502).
[5] القُلُب: جمع قليب بمعنى: البئر التي لم تُطْوَ ، أي قبل أن تبنى بالحجارة ونحوها. (القاموس ، ومختار الصحاح ، والنهاية ، مادة قلب).
[6] أخرجه ابن هشام (2/620) فقال: فحُدّثت عن رجال من بني سلمة... فهو سند ضعيف. ورواه الحاكم (3/426 ـ 427) وضعّفه الذهبي. وانظر فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني ص (224).
[7] صحيح البخاري ح (3141)، وأخرجه مسلم ح (1752).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد،
فيا أيها الناس، إن العجب كل العجب، أن تتبدل أحكام الجِبِلَّة، وتمحى آثار الفطرة، إذ كيف تسفل النفس المؤمنة حتى لا تطلب رفعة؟ وكيف تقنط حتى لا يكون لها أمل؟ أما لو أيقن المسلمون أن لهذا الكون مدبرا عظيم القدرة، وتخضع كل قوة لعظمته، وتدين كل سطوة لجبروته، وأن هذا القادر العظيم بيده مقاليد كل شيء يصرف عباده كيف يشاء، لما أمكن مع ذلك أن يتحكم فيهم اليأس، أو تغتال آمالهم غائلة القنوط، فماذا يكون حال القانطين المنقطعة آمالهم، ويحكمون على أنفسهم بالحَطِّ، ويسجلون عليها العجز عن كل رفعة، فيأتون الدنايا، ويتعاطون الرذائل، ويوطنون أنفسهم على أن يشقوا ليسعد غيرهم، فيكونون كالجمال الحمالة، لا تستفيد مما تحمل شيئا.
ومن هذا المنطلق نرسل هذه الكلمات التي تحمل في طياتها الحرقة والأسى، إلى المجاهدين في سبيل الله عبر الأثير، الذين تحولت قبلة مدافعهم من صدور أعدائهم إلى نحور إخوانهم المسلمين وذويهم، فنقول لهم: اتقوا الله في هذا الشهر المبارك، راجعوا أنفسكم، وحاسبوها، لتكن غزوة بدر نبراسا ساميا لكم تنهلون من معينها، وتسلكون مسلك أصحابها، اتقوا الله واحقنوا دماءكم، حذار من الحور بعد الكور، ومن الذل بعد العز، ومن الخيانة بعد الأمانة، وحذار من حبوط العمل وخسرانه، ولو كان جهاد مائة عام.
دخلت العالية ـ امرأة أبي إسحاق السبيعي ـ على عائشة ـ رضي الله عنها ـ، فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم، فقالت: يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: (بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت، إن جهاده مع رسول الله قد بطل إلا أن يتوب) [رواه الدارقطني بسند جيد] [1].
فانظروا أيها المجاهدون في سبيل الله، كيف يبطل جهاد رجل جاهد مع رسول الله وفي سبيل الله، بسبب ربا نسيئة في دراهم معدودة، فكيف إذن بمن يزايد بدماء إخوانه المجاهدين تفاضلا ونسيئة، من أجل حظ من حظوظ الدنيا، أوَّه... عين الربا عين الربا.
فاتقوا الله أيها المجاهدون، وراقبوا ربكم، واعلموا أن المسلمين لا يسمح لهم إيمانهم بالله وبما جاء به رسوله ، أن يقنطوا من رحمة ربهم في إعادة مجدهم واسترداد سؤددهم، وليس عليهم من استرجاع مكانتهم الأولى، والصعود إلى مقامهم الأول، إلا أن يجمعوا كلمتهم ، بعد تمكن الجامعة الإسلامية بينهم ويجددوا سيرة سلفهم. إنهم إن فعلوا ذلك وعلم الله فيهم خيرا فسيداوي جراحهم، ويجمع شملهم، ويلمّ شعثهم، ويؤتيهم خيرا مما أخذ منهم، ويغفر لهم.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] أخرجه ابن الجعد في مسنده (80) ، والدارقطني في السنن (3/311) ، والبيهقي في السنن (5/330) ، من طريق العالية بنت أيفع زوجة أبي إسحاق عن عائشة رضي الله عنها.
(1/447)
الزاد
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الزاد. 2- غذاء الروح وغذاء الجسد. 3- الزاد إنما يستفيد منه العبد لا الرب.
4- أهمية التزود. 5- زاد المؤمن. 6- العزلة والخلطة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [البقرة:197].
الطريق إلى الله محفوف بالمزالق والعقبات، وحاجة السالك إلى الزاد عظيمة.
فما الزاد؟ ولماذا؟ وما الذي ينبغي على العبد أن يتزود به؟ وما الذي يعين العبد على التزود؟
الزاد لغة: طعام المسافر.
اصطلاحا: هو ما يتزود به العبد للصبر على تكاليف الطريق، حتى يلقى الله تعالى وهو حافظ لإسلامه ودينه.
وينبغي أن تعلم:
أن لحفة التراب غذاؤها من طعام أو شراب وإذا حرم الجسد غذاءه أصابه الجوع والألم والقلق الذي يبلغ به حد الجنون، وللروح غذاؤها من ذكر وصلاة، ودعاء، وجهاد، وإذا حرمت الروح غذاءها، أصابها الجوع والقلق والحيرة والجنون قال تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [الأنعام:125].
ذكر النووي بابا سماه: باب الحث إلى الازدياد من الخير في أواخر العمر في كتابه (رياض الصالحين)، وأورد قول الله تعالى: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير قال ابن عباس: أو لم نعمركم (أي ستين سنة) للحديث: ((أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة)) ( [1] ).
قال العلماء: أي فليس للعبد حجة أمام الله بعد أن أخر أجله هذه المدة: قال ابن عباس: وكان أهل المدينة إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة وللحديث: ((من بلغ أربعين سنة ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار)) ( [2] ).
جاء في بعض الكتب المنزلة: (يا أبناء الخمسين زرع قد دنى حصاده ويا أبناء الستين ماذا قدمتم؟ ويا أبناء السبعين هلموا إلى الحساب).
واعلم بأن الله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية للحديث القدسي: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسأل كل واحد مسألته فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما يغمس المخيط في البحر ثم انظر بما يرجع فيه يا عبادي إنما هي أعمالكم أوفيها إياكم فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) ( [3] ).
وأما لماذا الزاد؟ فلا بد من الزاد.
لأن قيمة العبد بعلمه: للحديث: ((بكت عائشة حتى سال دمعها، فسألها النبي فقالت: ذكرت الآخرة، هل يذكرون أهليهم يوم القيامة؟ قال: والذي نفسي بيده في ثلاثة مواطن فإن أحدا لا يذكر إلا نفسه: إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل؟ وعند الصحف حتى ينظر بيمينه يأخذ كتابه أو بشماله؟ وعند الصراط)) ( [4] ).
يقول أنس: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفتي الميزان ويوكل به ملك فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن خف ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا وعند خفة كفة الحسنات تقبل الزبانية وبأيديهم مقامع من حديد عليهم ثياب من نار فيأخذون نصيب النار إلى النار) ( [5] ).
حتى تتمرن النفس على تحمل المشاق: قال تعالى: يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [المزمل:1-5]، قال قتادة والحسن: (العمل به شاق لما فيه من الفرائض والحلال والحرام فمرّن نفسك على المشاق) وللحديث: ((ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات ويحط به الخطايا، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط)) ( [6] ) فمن كان عن هذا عاجزا فعن غيره أعجز.
لأن الآجال مجهولة: قال تعالى: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت [لقمان:34].
مشيناها خطا كتبت علينا ومن كتبت عليه خطا مشاها
ومن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها
يقول الفضيل بن عياض: يا ابن آدم إنما أنت عدد فإذا ذهب يومك ذهب بعضك، وأنفاسك محسوبة عليك قال تعالى: إنما نعد لهم عدا يعني الأنفاس.
وكل واحد يبعث على الحال التي مات عليها إن كان في طاعة أو في معصية للحديث: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)) ( [7] ) ، لذا كان حرص العبد على التزود والموت على أطيب الحال دليل حب الله لعبده للحديث: ((إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله، قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه)) ( [8] ).
وأما الذي ينبغي للعبد أن يتزود به فهو:
لزوم ذكر الله تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان [الرحمن:46]. يقول ابن تيميه رحمه الله: (هما جنتان إحداهما في الدنيا والأخرى في الآخرة فأما جنة الدنيا فهو أنس العبد بذكره لربه سبحانه وأما جنة الآخرة فهي التي وعدنا الله إياها، فمن لم يدخل جنة الدنيا لم يدخل جنة الآخرة). والوجود كله ذاكر لله مسبح لله قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [الإسراء:44].
في الجماد: قول النبي : ((هذا جمدان (اسم لجبل) سبق المفردون قالوا: ما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله والذاكرات)) ( [9] ).
وفي الحيوان: دخل النبي على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم: ((اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسراق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه)) ( [10] ).
وفي الطير: قال تعالى: ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير [سبأ:10]. قال ابن كثير: أوبي: أي سبحي والتأويب الترجيع فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها ( [11] ).
وفي قيام الليل زاد:
وقيام الليل شعار الصالحين: للحديث: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، فإن قيام الليل قربة إلى الله عز وجل وتكفير للذنوب ومطردة للداء عن الجسد ومنهاة عن الإثم)) ( [12] ).
وهو دليل معرفة العبد ربه، وشوقه إلى الجنة: كان أحد السلف يفرش له فراشه بعد العشاء، فيضع يده عليه ويقول: والله إنك للين، ولكن فراش الجنة ألين منك، ثم يصلي حتى الفجر.
وفي صيام رمضان زاد: ومنكر الصيام كافر لأنه فريضة ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع في الكتاب: كتب عليكم الصيام [البقرة:183]. وفي السنة: ((بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا)) ( [13] ). والإجماع منعقد على فرضيته يقول الذهبي: (الذي يفطر في رمضان من غير عذر شر من الزاني ومدمن الخمر بل ويشك في إسلامه)، وفي الصيام يتربى المسلم على الخلق الكريم واستشعار رقابة الله سبحانه فالصائم يحبس نفسه عن الحلال حياء وطاعة لله واستشعارا لرقابته. أيجرؤ على الحرام بعد ذلك للحديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) ( [14] ).
وعذاب الله شديد لكل مفطر من غير عذر للحديث: ((بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي (ما تحت الإبط) فأتيا بي جبلا وعرا فقالا: اصعد، فقلت: لا أطيقه فقالا: إنا سنسهله لك فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلقا بي، فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما، قلت: من هؤلاء؟ قالا: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم)) ( [15] ) ، والخاسر الخائب من أدركه رمضان فلم يستدرك فيه أمره، ويصلح فيه ما بينه وبين ربه، ويجدد العهد: ((صعد النبي المنبر، فلما رقى عتبة قال: آمين، ولما رقى الثانية قال: آمين، فلما رقى الثالثة قال: آمين ثم قال: أتاني جبريل وقال: يا محمد بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: بعد من أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فقلت: آمين ثم قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت: آمين)) ( [16] ).
وقراءة القرآن زاد: والقرآن كلام الله المعجز المنزل على محمد بن عبد الله:
أ- والأجر فيه عظيم للحديث: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ولا أقول: ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) ( [17] ).
ب- وهو شافع لأصحابه للحديث: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب منعته الطعام في النهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم في الليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)) ( [18] ).
ج- وحرص الأصحاب على تلاوته ليس له حدود: كان عبد الله بن عمرو بن العاص يقرأ القرآن كله كل ليلة ويصوم كل يوم يقول له النبي : ((صم صوم نبي الله داود فإنه كان أعبد الناس، واقرأ القرآن في كل شهر، فقال: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأ في كل عشرين، قال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأ في كل سبع، قال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأ في كل ثلاث ولا تزد على ذلك)) ( [19] ).
وفي الاعتكاف زاد: وهو لزوم المسجد والإقامة فيه بنية التقرب إلى الله تعالى.
وهو مسنون اقتداءا بالرسول : ((كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان وفي العام الذي توفي فيه اعتكف عشرين ليلة)) ( [20] ).
ومستحب: وليس له وقت محدود يقول يعلى بن أمية: إني لأمكث في المسجد ساعة ما أمكث إلا لأعتكف ( [21] ).
وواجب: وهو ما يوجبه المرء على نفسه كالنذر مثلا: قال عمر يا رسول الله: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال: ((أوف بنذرك)) ( [22] ). وعرف بعض العلماء الاعتكاف فقالوا: هو قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق سبحانه: وقيل لأحدهم: ألا تستوحش في خلوتك؟ فقال: وكيف استوحش وهو يقول: ((أنا جليس من ذكرني))؟ ( [23] ).
وإذا وطن العبد نفسه على هذه الطاعات فعلت فعلها الحسن في النفس وفجرت فيها الخير والقوة والعزة والغيرة فلا يذل إلا لله، ولا يطيع أحدا في معصية الله، ولا يأنس إلى أحد إلا إلى الله.
وأما الذي يعين على التزود فهو:
الصحبة الطيبة: إن وجدت وإلا فالعزلة أولى، وأقوال العلماء في الخلطة والعزلة تحتاج إلى بيان:
فقد أحب البعض العزلة للحديث: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) ( [24] ).
ومنهم من فضل الخلطة لحديث الذي أراد أن يعتزل في شعب يتعبد: فقال له النبي : ((لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله خير من تعبده في بيته سبعين سنة ألا تحبون أن يغفر الله لكم)) ( [25] ).
والصواب: أن كل إنسان بحسب حاله، فمن كان باستطاعته أن يصبر ويغير، ويؤثر ولا يتأثر فعليه بالخلطة وهو مأجور مثاب للحديث: ((الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) ( [26] ). والذي يجد في نفسه الضعف عن إصلاح غيره وخاف وخشي على نفسه الفتنة فالعزلة له أولى يقول أبوالدرداء: كان الناس ورقا لا شوك فيه، فأصبحوا شوكا لا ورق فيه.
وبالعزلة يسلم العبد من الغيبة والنميمة والرياء، وقرين السوء وأذاه.
أن تجعل تعاملك مع الله سبحانه ابتغاء أجره ورضاه من غير انتظار إلى ثناء الناس أو مقابلة إحسانك بالإحسان فقد تبتلى بقوم لئام تحسن إليهم ويسيئون إليك قال تعالى: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [الإنسان :7-9].
يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يارب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أستطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنه لو سقيته لوجدت ذلك عندي)) ( [27] ).
( [1] ) البخاري.
( [2] ) أبو الفتح الازدي عن ابن عباس مرفوعا / الألوسي ج 26 ص 18.
( [3] ) رواه مسلم.
( [4] ) أبو داود وإسناده صحيح.
( [5] ) إحياء علوم الدين مجلد 4 ص 520.
( [6] ) رواه مسلم.
( [7] ) رواه مسلم.
( [8] ) رواه الترمذي.
( [9] ) رواه مسلم.
( [10] ) رواه أحمد.
( [11] ) مختصر ابن كثير مجلد 3 ص 122.
( [12] ) رواه الترمذي.
( [13] ) متفق عليه.
( [14] ) متفق عليه.
( [15] ) رواه ابم خزيمة وابن حبان (قبل تحله صومه:أي يفطرون قبل وقت الإفطار).
( [16] ) ابن حبان.
( [17] ) رواه الترمذي.
( [18] ) رواه أحمد بإسناد صحيح.
( [19] ) البخاري ومسلم.
( [20] ) رواه البخاري.
( [21] ) فقه السنة مجلد 1 ص 420.
( [22] ) رواه البخاري.
( [23] ) البيهقي.
( [24] ) الترمذي.
( [25] ) الترمذي.
( [26] ) الترمذي ابن ماجة.
( [27] ) رواه مسلم.
وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [البقرة:197].
الطريق إلى الله محفوف بالمزالق والعقبات، وحاجة السالك إلى الزاد عظيمة.
فما الزاد؟ ولماذا؟ وما الذي ينبغي على العبد أن يتزود به؟ وما الذي يعين العبد على التزود؟
الزاد لغة: طعام المسافر.
اصطلاحا: هو ما يتزود به العبد للصبر على تكاليف الطريق، حتى يلقى الله تعالى وهو حافظ لإسلامه ودينه.
وينبغي أن تعلم:
أن لحفة التراب غذاؤها من طعام أو شراب وإذا حرم الجسد غذاءه أصابه الجوع والألم والقلق الذي يبلغ به حد الجنون، وللروح غذاؤها من ذكر وصلاة، ودعاء، وجهاد، وإذا حرمت الروح غذاءها، أصابها الجوع والقلق والحيرة والجنون قال تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [الأنعام:125].
ذكر النووي بابا سماه: باب الحث إلى الازدياد من الخير في أواخر العمر في كتابه (رياض الصالحين)، وأورد قول الله تعالى: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير قال ابن عباس: أو لم نعمركم (أي ستين سنة) للحديث: ((أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة)) ( [1] ).
قال العلماء: أي فليس للعبد حجة أمام الله بعد أن أخر أجله هذه المدة: قال ابن عباس: وكان أهل المدينة إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة وللحديث: ((من بلغ أربعين سنة ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار)) ( [2] ).
جاء في بعض الكتب المنزلة: (يا أبناء الخمسين زرع قد دنى حصاده ويا أبناء الستين ماذا قدمتم؟ ويا أبناء السبعين هلموا إلى الحساب).
واعلم بأن الله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية للحديث القدسي: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسأل كل واحد مسألته فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما يغمس المخيط في البحر ثم انظر بما يرجع فيه يا عبادي إنما هي أعمالكم أوفيها إياكم فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) ( [3] ).
وأما لماذا الزاد؟ فلا بد من الزاد.
لأن قيمة العبد بعلمه: للحديث: ((بكت عائشة حتى سال دمعها، فسألها النبي فقالت: ذكرت الآخرة، هل يذكرون أهليهم يوم القيامة؟ قال: والذي نفسي بيده في ثلاثة مواطن فإن أحدا لا يذكر إلا نفسه: إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل؟ وعند الصحف حتى ينظر بيمينه يأخذ كتابه أو بشماله؟ وعند الصراط)) ( [4] ).
يقول أنس: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفتي الميزان ويوكل به ملك فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن خف ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا وعند خفة كفة الحسنات تقبل الزبانية وبأيديهم مقامع من حديد عليهم ثياب من نار فيأخذون نصيب النار إلى النار) ( [5] ).
حتى تتمرن النفس على تحمل المشاق: قال تعالى: يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [المزمل:1-5]، قال قتادة والحسن: (العمل به شاق لما فيه من الفرائض والحلال والحرام فمرّن نفسك على المشاق) وللحديث: ((ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات ويحط به الخطايا، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط)) ( [6] ) فمن كان عن هذا عاجزا فعن غيره أعجز.
لأن الآجال مجهولة: قال تعالى: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت [لقمان:34].
مشيناها خطا كتبت علينا ومن كتبت عليه خطا مشاها
ومن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها
يقول الفضيل بن عياض: يا ابن آدم إنما أنت عدد فإذا ذهب يومك ذهب بعضك، وأنفاسك محسوبة عليك قال تعالى: إنما نعد لهم عدا يعني الأنفاس.
وكل واحد يبعث على الحال التي مات عليها إن كان في طاعة أو في معصية للحديث: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)) ( [7] ) ، لذا كان حرص العبد على التزود والموت على أطيب الحال دليل حب الله لعبده للحديث: ((إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله، قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه)) ( [8] ).
وأما الذي ينبغي للعبد أن يتزود به فهو:
لزوم ذكر الله تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان [الرحمن:46]. يقول ابن تيميه رحمه الله: (هما جنتان إحداهما في الدنيا والأخرى في الآخرة فأما جنة الدنيا فهو أنس العبد بذكره لربه سبحانه وأما جنة الآخرة فهي التي وعدنا الله إياها، فمن لم يدخل جنة الدنيا لم يدخل جنة الآخرة). والوجود كله ذاكر لله مسبح لله قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [الإسراء:44].
في الجماد: قول النبي : ((هذا جمدان (اسم لجبل) سبق المفردون قالوا: ما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله والذاكرات)) ( [9] ).
وفي الحيوان: دخل النبي على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم: ((اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسراق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه)) ( [10] ).
وفي الطير: قال تعالى: ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير [سبأ:10]. قال ابن كثير: أوبي: أي سبحي والتأويب الترجيع فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها ( [11] ).
وفي قيام الليل زاد:
وقيام الليل شعار الصالحين: للحديث: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، فإن قيام الليل قربة إلى الله عز وجل وتكفير للذنوب ومطردة للداء عن الجسد ومنهاة عن الإثم)) ( [12] ).
وهو دليل معرفة العبد ربه، وشوقه إلى الجنة: كان أحد السلف يفرش له فراشه بعد العشاء، فيضع يده عليه ويقول: والله إنك للين، ولكن فراش الجنة ألين منك، ثم يصلي حتى الفجر.
وفي صيام رمضان زاد: ومنكر الصيام كافر لأنه فريضة ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع في الكتاب: كتب عليكم الصيام [البقرة:183]. وفي السنة: ((بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا)) ( [13] ). والإجماع منعقد على فرضيته يقول الذهبي: (الذي يفطر في رمضان من غير عذر شر من الزاني ومدمن الخمر بل ويشك في إسلامه)، وفي الصيام يتربى المسلم على الخلق الكريم واستشعار رقابة الله سبحانه فالصائم يحبس نفسه عن الحلال حياء وطاعة لله واستشعارا لرقابته. أيجرؤ على الحرام بعد ذلك للحديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) ( [14] ).
وعذاب الله شديد لكل مفطر من غير عذر للحديث: ((بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي (ما تحت الإبط) فأتيا بي جبلا وعرا فقالا: اصعد، فقلت: لا أطيقه فقالا: إنا سنسهله لك فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلقا بي، فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما، قلت: من هؤلاء؟ قالا: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم)) ( [15] ) ، والخاسر الخائب من أدركه رمضان فلم يستدرك فيه أمره، ويصلح فيه ما بينه وبين ربه، ويجدد العهد: ((صعد النبي المنبر، فلما رقى عتبة قال: آمين، ولما رقى الثانية قال: آمين، فلما رقى الثالثة قال: آمين ثم قال: أتاني جبريل وقال: يا محمد بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: بعد من أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فقلت: آمين ثم قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت: آمين)) ( [16] ).
وقراءة القرآن زاد: والقرآن كلام الله المعجز المنزل على محمد بن عبد الله:
أ- والأجر فيه عظيم للحديث: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ولا أقول: ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) ( [17] ).
ب- وهو شافع لأصحابه للحديث: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب منعته الطعام في النهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم في الليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)) ( [18] ).
ج- وحرص الأصحاب على تلاوته ليس له حدود: كان عبد الله بن عمرو بن العاص يقرأ القرآن كله كل ليلة ويصوم كل يوم يقول له النبي : ((صم صوم نبي الله داود فإنه كان أعبد الناس، واقرأ القرآن في كل شهر، فقال: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأ في كل عشرين، قال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأ في كل سبع، قال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأ في كل ثلاث ولا تزد على ذلك)) ( [19] ).
وفي الاعتكاف زاد: وهو لزوم المسجد والإقامة فيه بنية التقرب إلى الله تعالى.
وهو مسنون اقتداءا بالرسول : ((كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان وفي العام الذي توفي فيه اعتكف عشرين ليلة)) ( [20] ).
ومستحب: وليس له وقت محدود يقول يعلى بن أمية: إني لأمكث في المسجد ساعة ما أمكث إلا لأعتكف ( [21] ).
وواجب: وهو ما يوجبه المرء على نفسه كالنذر مثلا: قال عمر يا رسول الله: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال: ((أوف بنذرك)) ( [22] ). وعرف بعض العلماء الاعتكاف فقالوا: هو قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق سبحانه: وقيل لأحدهم: ألا تستوحش في خلوتك؟ فقال: وكيف استوحش وهو يقول: ((أنا جليس من ذكرني))؟ ( [23] ).
وإذا وطن العبد نفسه على هذه الطاعات فعلت فعلها الحسن في النفس وفجرت فيها الخير والقوة والعزة والغيرة فلا يذل إلا لله، ولا يطيع أحدا في معصية الله، ولا يأنس إلى أحد إلا إلى الله.
وأما الذي يعين على التزود فهو:
الصحبة الطيبة: إن وجدت وإلا فالعزلة أولى، وأقوال العلماء في الخلطة والعزلة تحتاج إلى بيان:
فقد أحب البعض العزلة للحديث: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) ( [24] ).
ومنهم من فضل الخلطة لحديث الذي أراد أن يعتزل في شعب يتعبد: فقال له النبي : ((لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله خير من تعبده في بيته سبعين سنة ألا تحبون أن يغفر الله لكم)) ( [25] ).
والصواب: أن كل إنسان بحسب حاله، فمن كان باستطاعته أن يصبر ويغير، ويؤثر ولا يتأثر فعليه بالخلطة وهو مأجور مثاب للحديث: ((الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) ( [26] ). والذي يجد في نفسه الضعف عن إصلاح غيره وخاف وخشي على نفسه الفتنة فالعزلة له أولى يقول أبوالدرداء: كان الناس ورقا لا شوك فيه، فأصبحوا شوكا لا ورق فيه.
وبالعزلة يسلم العبد من الغيبة والنميمة والرياء، وقرين السوء وأذاه.
أن تجعل تعاملك مع الله سبحانه ابتغاء أجره ورضاه من غير انتظار إلى ثناء الناس أو مقابلة إحسانك بالإحسان فقد تبتلى بقوم لئام تحسن إليهم ويسيئون إليك قال تعالى: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [الإنسان :7-9].
يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يارب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أستطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنه لو سقيته لوجدت ذلك عندي)) ( [27] ).
( [1] ) البخاري.
( [2] ) أبو الفتح الازدي عن ابن عباس مرفوعا / الألوسي ج 26 ص 18.
( [3] ) رواه مسلم.
( [4] ) أبو داود وإسناده صحيح.
( [5] ) إحياء علوم الدين مجلد 4 ص 520.
( [6] ) رواه مسلم.
( [7] ) رواه مسلم.
( [8] ) رواه الترمذي.
( [9] ) رواه مسلم.
( [10] ) رواه أحمد.
( [11] ) مختصر ابن كثير مجلد 3 ص 122.
( [12] ) رواه الترمذي.
( [13] ) متفق عليه.
( [14] ) متفق عليه.
( [15] ) رواه ابم خزيمة وابن حبان (قبل تحله صومه:أي يفطرون قبل وقت الإفطار).
( [16] ) ابن حبان.
( [17] ) رواه الترمذي.
( [18] ) رواه أحمد بإسناد صحيح.
( [19] ) البخاري ومسلم.
( [20] ) رواه البخاري.
( [21] ) فقه السنة مجلد 1 ص 420.
( [22] ) رواه البخاري.
( [23] ) البيهقي.
( [24] ) الترمذي.
( [25] ) الترمذي.
( [26] ) الترمذي ابن ماجة.
( [27] ) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/448)
الصلاة
فقه
الصلاة
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الصلاة ووقت فرضيتها. 2- أحكام تارك الصلاة. 3- أهمية الصلاة. 4- دروس
مستفادة من الصلاة. 5- بواعث الخشوع في الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء [إبراهيم:40]. دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام أن يجعله مقيم الصلاة على الوجه الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى، وأن يجعل ذريته متمسكين بهذه الطاعة الجليلة.
فما الصلاة؟ وما مكانتها؟ ولماذا؟ وما الدروس المستفادة منها؟ وما بواعث الخشوع في الصلاة ؟
أما الصلاة: فمعناها الدعاء لغة
وهي اصطلاحا: عبادة تحوي أقوالا وأفعالا مخصوصة تبدأ بالتكبير لله تعالى وتختم بالتسليم.
وينبغي أن تعلم:
أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء والمعراج خمسين ثم أنقصت حتى جعلت خمسا ثم نودي: ((يا محمد إنه لا يبدل القول لدي وإن لك بهذه الخمس خمسين)) ( [1] ).
إن المحافظ عليها على خير عظيم، وتاركها في جحيم مقيم، جاء في الحديث: ((من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة ويحشر مع فرعون وهامان وأبي بن خلف)) ( [2] ). ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: أن (تارك الصلاة يحشر مع مثيله في الصد والامتناع فمن شغلته رئاسته عن الصلاة حشر مع فرعون، ومن شغلته وزارته ووظيفته حشر مع هامان، ومن شغلته تجارته وماله حشر مع أبي بن خلف).
وتارك الصلاة جحودا وإنكارا وسخرية كافر للحديث: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) ( [3] ). وإذا كان الترك للعجز والكسل مع الاعتراف بفرضيتها فهو فاسق وعقوبته القتل للحديث: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) ( [4] ).
وذهب جمهور العلماء إلى أن تارك الصلاة واحدة يقتل ويضرب عنقه بالسيف، وقيل: يضرب بالخشب ويجب على الوالد أن يأمر ولده وأن يضربه إذا بلغ عشرا ولم يصل للحديث: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع)) ( [5] ).
والتارك للصلاة سنين ثم عاد تائبا لله تعالى، هل يجب عليه القضاء لما فات؟ رجح ابن تيميه رحمه الله، أن تارك الصلاة عمدا لا يشرع له قضاؤها ولا تصح منه بل يكثر من التطوع وفعل الخير وليتب ويستغفر.
لماذا الصلاة؟ وهل لابد من الصلاة؟ نعم: لابد منها:
1- لأنها دليل اعتراف العبد بعبوديته لله، وصورة شكر العبد ربه: ((كان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتفطر قدماه فتقول له عائشة رضي الله عنها: إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر، فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا)) ( [6] ).
والأنبياء معصومون عن إيقاع الذنوب، ولعلو قدر المصطفى كان ما يقع منه خلاف الأولى يعتبر ذنبا وهو مغفور له.
2- ولأنها الباب الذي تبث فيه شكواك وهمك، إذا أحاطت بك الخطوب، فخانك الصديق، وانقلب الحبيب عدوا، وعقّك الولد، وأنكرت جميلك الزوجة، فمالك الأمر هو الله فإذا ضاقت عليك الدنيا فقل: يا الله، وإذا ادلهمت الخطوب فقل: يا الله، وإذا مرضت فقل: يا الله: ((كان رسول الله إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة)) ( [7] ).
وصدق الله العظيم: ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون [هود:123].
3- ولأن الصلاة أمانة الله تعالى عندك، فإذا حفظتها حفظك الله وإذا ضيعتها ضيعك الله، ذكر الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" حادثة عن الرازي: أن أعرابيا جاء المدينة وهو يركب ناقته فلما وصل المسجد ربط الناقة ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار والتعظيم لله، جل في علاه، فلما خرج لم يجد ناقته، فرفع يده وقال: اللهم إني أديت إليك أمانتك فأد إلي أمانتي فجاءته الناقة تسعى إليه.
4- ولأنها دليل حب العبد لربه، وتنشئ حبا من الله لعبده: أما أنها دليل حب، فهذه رابعة تناجي رب العزة وقت السحر فتقول: إلهي غارت النجوم، ونامت العيون، وأنت الحي القيوم، إلهي خلا كل حبيب بحبيبه وأنت حبيب المستأنسين وأنيس المستوحشين، إلهي إن طردتني عن بابك فباب من أرتجي؟ وإن قطعتني عن خدمتك فخدمة من أرتجي؟
وأما أنها تنشئ حبا للحديث: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن إستعاذني لأعيذنه)) ( [8] ).
فهذا عمر بن الخطاب كان يخطب يوم الجمعة، فقال في خطبته: (يا سارية بن حصن الجبل، الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم) فالتفت الناس إلى بعضهم ولم يفهموا مراد أمير المؤمنين، فلما قضى صلاته قال له علي : ما هذا الذي قلته؟ قال عمر: أسمعته، قال: نعم، أنا وكل من في المسجد، قال عمر: (لقد وقع في خلدي أن المشركين قد اختبئوا فوق الجبل وأن المسلمين يمرون، فإن عدلوا ظفروا، وإن جازوا الجبل هلكوا.. فخرج مني هذا الكلام).
وبعد شهر جاء البشير إلى المدينة فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم في تلك الساعة حين جازوا الجبل صوتا يشبه صوت عمر أمير المؤمنين يقول: يا سارية بن حصن الجبل، الجبل، فرفعنا رؤوسنا إذا العدو فوقه فأخذنا حذرنا وعدلنا عنه فنجونا ( [9] ).
قال العلماء: الحديث: ((كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به.. الخ)). كناية عن حب الله لعبده الذي يحبه وتأييده له، وقيل: كنت حافظا لسمعه وجوارحه أن يستعملها في غير طاعة الله، انتهى.
5- يتربى صاحبها على الجرأة في الحق، فالصلاة، هي التي كان يجهر بها المصطفى متحديا الكفر وأهله، ومثيرا لغضبهم وحنقهم فهذا عقبة بن أبي معيط: يرى النبي يصلي في حجر الكعبة فوضع عقبة بن أبي معيط ثوبه حول عنق رسول الله فخنقه خنقا شديدا حتى أقبل أبو بكر ودفعه عن النبي ( [10] ).
وأما الدروس المستفادة منها فهي أن:
الصلاة صورة للمجتمع الإسلامي الذي يدعونا رب العزة أن نجعله واقعا وحقيقة.
استدل بها الأصحاب رضوان الله عليهم على أن أولى الناس بالخلافة بعد رسول الله أبو بكر وقد أمر المصطفى قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى أبا بكر أن يصلي بالناس وقالوا: من رضيه رسول الله لديننا رضيناه لدنيانا فعلم الأصحاب أن الخلافة مبنية على الكفاءة والدين كإمامة المسلمين للصلاة للحديث: ( (يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة)) ( [11] ). فليس في إسلامنا إقليمية ولا عرقية للحديث: ((اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله)) ( [12] ).
وتعلم الأصحاب من الصلاة أن الإمام ومن يصلي وراءه إنما يخضعون لمنهج واحد في قراءتهم وركوعهم وسجودهم، فكذا الأمة ومن يتولى أمرها إنما يخضعون لمنهج واحدا من عند الله تعالى يحكم الحاكم والمحكوم معا فليس من صلاحية الحاكم أن يعبث بأعراض الأمة وأموالها ويظنها ملكا خالصا له، سيدي عمر بن الخطاب، وقد جاءته تجارة من اليمن تحمل الأقمشة فأعطى كل واحد قطعة، فلما صعد أمير المؤمنين المنبر بدت عليه قطعتان فلما قال: أيها الناس اسمعوا أطيعوا، قام إليه أعرابي، وقال: لا سمع ولا طاعة، قال: لم؟ قال: أعطيت كل واحد منا قطعة وعليك قطعتان، فنادى عمر في المسجد: أين ولدي عبد الله؟ فقام وقال: لبيك يا أبتي، قال: أو ليست الثانية لك وقد أهديتها لي، فقال ولده: بلى، فقال الأعرابي: الآن نسمع ونطيع. أي بعد أن علمنا أن أميرنا ليس بخائن ولا سارق ولم يخالف منهج الله تعالى، فمن حق الأمة في إسلامنا وفي المجتمع المسلم أن ترد الحاكم إلى المنهج كما أنا في صلاتنا نذكر الإمام إذا سها بقولنا: سبحان الله. فنذكره بالله بعد إذ غفل عنه بأمر الدنيا فسها.
وتعلم الأصحاب من الصلاة قوله : ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) ( [13] ). فمن كان منشغلا بسنة فعليه أن يدعها ويلتزم بالفرض مع الإمام. تعلم الأصحاب أن في شرع الله فرائض وسننا فلا تهدر الفرائض وتقام السنن، والمنكرات أنواع، فهناك المنكر الأكبر وهناك المنكر الأصغر وحفظ الطاقات وضمها لنصرة دين الله تعالى أولى من تضييعها في فروع لا تقدم ولا تؤخر في نصرة دين الله سبحانه.
وتعلم الأصحاب من صلاة الجماعة ما ينبغي أن يكون عليه الصف المسلم من التضامن والوحدة وسد الخلل، فلا يدعوا للشيطان مكانا بينهم للحديث: ((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله)) ( [14] ). ولا ينبغي للمسلم أن يشذ عنه فقد روي: ((أن النبي رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد)) ( [15] ). إلا أن يكون مضطرا لقول ابن القيم رحمه الله: (غاية الاصطفاف الوجوب وهو يسقط للضرورة) وفي الأحاديث إشارات كريمة لطبيعة الصف المسلم وما ينبغي أن يكون عليه من التراص والتضامن، واللين، وعدم السماح للشيطان أن يعبث بوحدة الصف المسلم، وأن يكون كل مسلم حريصا على وصل الصف لا قطعه وألا يرى رأيا يخالف فيه إجماع المسلمين إلا أن يكون مضطرا لعموم الفتنة التي أحاطت ولا بد لذلك من أدلة شرعية تبيح للمسلم مثل هذا الانفراد، وإلا فلا.
وأما بواعث الخشوع في الصلاة فهي:
فلابد أن تعقل ما تقرأ فمن هديه أن حذيفة بن اليمان صلى مع النبي فيصف قراءته فيقول: ((إذا مر بآية تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ)) ( [16] ) يقول الإمام النووي: (يسن لكل من قرأ في الصلاة إذا قرأ آية عذاب يقول: اللهم إني أسألك العافية وإذا مر بآية تنزيه لله قال: سبحان الله كقوله تعالى: سبح اسم ربك الأعلى ، فيقول: سبحان ربي الأعلى. وإذا قرأ: أليس الله بأحكم الحاكمين قال: بلى وإني على ذلك من الشاهدين ( [17] ).
ولابد أن نستحضر وقفتنا بين يدي الله عز وجل يقول الحسن: الصلاة من الآخرة. وكان إذا قام إلى الصلاة تغير لونه فيسأل عن ذلك فيقول: إني أريد القيام بين يدي الملك الجبار، ثم يقول: إلهي عبدك ببابك، يا محسن أتاك المسيء، وقد أمرت المحسن أن يتجاوز عن المسيء، فأنت المحسن وأنا المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بكريم ما عندك يا كريم. فليس للعبد نصيب من صلاته إلا بقدر ما خشع فيها للحديث: ((إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها وإلا عشرها)) ( [18] ).
ولابد من البعد عن مكروهات الصلاة، من العبث بالثوب أو البدن، فالصلاة تبطل من كثرة الحركة التي يظن الناظر أن فاعلها ليس في صلاة، أو يقوم إلى الصلاة مع مدافعة الأخبثين، أو كان بحضرة طعام جاء في الحديث: ((لا يصلي أحد بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان)) ( [19] ) ومر عمر بن الخطاب على رجل يعبث بلحيته، وهو في الصلاة فقال: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه)، والخشوع هو السكون أو رفع البصر إلى السماء في الصلاة للحديث: ((لينتهن أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم)) ( [20] ).
( [1] ) أحمد والنسائي.
( [2] ) أحمد والطبراني.
( [3] ) أحمد ومسلم.
( [4] ) رواه البخاري ومسلم.
( [5] ) رواه أحمد وأبو داود.
( [6] ) متفق عليه.
( [7] ) رواه أحمد وأبو داود.
( [8] ) رواه البخاري.
( [9] ) قبسات من حياة الرسول ص 45.
( [10] ) رواه البخاري.
( [11] ) رواه أحمد ومسلم.
( [12] ) رواه البخاري.
( [13] ) رواه أحمد ومسلم.
( [14] ) رواه أبو داود.
( [15] ) رواه أبو داود.
( [16] ) رواه مسلم.
( [17] ) فقه السنة مجلد 1 ص 134.
( [18] ) أخرجه أبو داود والنسائي.
( [19] ) أحمد ومسلم.
( [20] ) أحمد ومسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/449)
كفى بالموت واعظا
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الحرض وطول الأمل. 2- نازلة الموت تدهم بلا استئذان ولا إنذار. 3- الموت
مصير كل حي. 4- حديث عن حال المؤمن والكافر من حين النزع إلى يوم القيامة.
5- مواعظ السلف عن الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيرَكم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حِذركم، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
أيها المسلمون، لقد اختلفت آراء الناس وتوجهاتهم، وكثر نقاشهم حول قيمة الحياة الدنيا، حتى اعتبرها كثير منهم غاية لهم، وحكم الإسلام هو فصل الخطاب، فالحياة في نظر الإسلام أهم من أن تنسى، ولكنها في الوقت نفسه أتفه من أن تكون غاية وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77].
عباد الله، هنالكم خصلتان ذميمتان، خطيرتان على من لم يحذرهما، تلاحقان الإنسان ملاحقة شديدة، حتى في الأحوال التي تشيب فيها اللحية، وتضعف فيها الهمة، ويدنو فيها من انتهاء العمر، وزيارة القبر، خافهما رسول الله على أمته، وحذرها منهما بأسلوب الإخبار المتضمن للإنذار، ألا وهما الحرص وطول الأمل؛ الحرص على المال، والحرص على العمر، والحرص على الشرف، والحرص المفقر لأهله، مهما ملكوا من أمر وجمعوا من حطام، والأمل المتعب لهم، والسارح بهم في خيالات، يكون الأجل إليهم فيها أقرب من تحقق الأمل، قال : ((يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان، الحرص على المال، والحرص على العمر)) [رواه مسلم والترمذي] [1] ، وقال ((ماذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدنيه)) [رواه أحمد والترمذي] [2].
ومدار هذه الإخبارات مخاطبة ذوي القلوب الواعية، والنفوس المتطلعة إلى ما عند الله، أن يبذلوا جهودهم في تحرير عقولهم، وسل نفوسهم من هذه الأدواء الفتاكة، داء الحرص على المال والشرف، الذي يطوق الرقاب ويسترق الألباب، وقديما قيل: [أذل الحرص أعناق الرجال] وداء طول الأمل؛ السراب المبلقع، الذي طالما قطع الطريق على أهله، وحال بينهم وبين ما يشتهون.
أيها المسلمون، ليلتان اثنتان يجعلهما كل مسلم في ذاكرته، ليلة في بيته، مع أهله وأطفاله، منعما سعيدا، في عيش رغيد، وفي صحة وعافية، ويضاحك أولاده ويضاحكونه، يلاعبهم ويلاعبونه والليلة التي تليها، وبينما الإنسان يجر ثياب صحته منتفعا بنعمة العافية، فرحا بقوته وشبابه، لا يخطر له الضعف على قلب، ولا الموت على بال، إذ هجم عليه المرض، وجاءه الضعف بعد القوة، وحل الهم من نفسه محل الفرح، والكدر مكان الصفاء، ولم يعد يؤنسه جليس، ولا يريحه حديث، وقد سئم ما كان يرغبه في أيام صحته، على بقاء في لبه، وصحة في عقله، يفكر في عمر أفناه، وشباب أضاعه، ويتذكر أموالا جمعها، ودورا بناها، وقصورا شيدها، وضياعا جدّ وكدّ في حيازتها، ويتألم لدنيا يفارقها، ويترك ذرية ضعافا يخشى عليهم الضياع من بعده، مع اشتغال نفسه بمرضه وآلامه، وتعلق قلبه بما يعجل شفاءه، ولكن ما الحيلة إذا استفحل الداء، ولم يجدي الدواء، وحار الطبيب، ويئس الحبيب.
وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. عند ذلك تغير لونه، وغارت عيناه ومال عنقه وأنفه، وذهب حسنه وجماله، وخرس لسانه، وصار بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطق، يقلب بصره فيمن حوله، من أهله وأولاده، وأحبابه وجيرانه، ينظرون ما يقاسيه من كرب وشده، ولكنهم عن إنقاذه عاجزون، وعلى منعه لا يقدرون، فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ?لْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـ?كِن لاَّ تُبْصِرُونَ [الواقعة:83-85]. ثم لا يزال يعالج سكرات الموت، ويشتد به النزع، وقد تتابع نفسه، واختل نبضه وتعطل سمعه وبصره، حتى إذا جاء الأجل، وفاضت روحه إلى السماء، صار جثة هامدة وجيفة بين أهله وعشيرته، قد استوحشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه، ومات اسمه الذي كانوا يعرفون، كما مات شخصه الذي كانوا به يأنسون، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، إن أكبر واعظ هو الموت، الذي قدره الله على من شاء من مخلوق – مهما امتد أجله وطال عمره، إلا وهو نازل به، وخاضع لسلطانه كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57]. ولو جعل الله الخلود لأحد من خلقه لكان ذلك لأنبيائه المطهرين، ورسله المقربين، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه كيف لا، وقد نعاه إلى نفسه بقوله: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30]. فالموت حتم لا محيص عنه، ولا مفر منه، يصل إلينا في بطون الأدوية، وعلى رؤوس الجبال، فوق الهواء، وتحت الماء، فلا ينجو منه ملائكة السماء، ولا ملوك الأرض، ولا أحد من أنس أو جن أو حيوان، ولو كانوا في بطون البروج، وغياهب الحصون أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78]. ولو نجا أحد من الموت لبسطة في جسمه، وقوة في بدنه، أو وفرة في ماله، وسعة في سلطانه وملكه، لنجا من الموت كثير من الناس، وإلا فأين عاد وثمود؟ وفرعون ذو الأوتاد؟ أين الأكاسرة؟ وأين القياصرة؟ أين الجبابرة والصناديد الأبطال؟ فالموت لا يخشى أحدا، ولا يبقي على أحد، ينتزع الطفل من حضن أمه، ويهجم على الشاب الفتي، والفارس القوي.
أيها الناس، الموت على وضوح شأنه، وظهور آثاره، سر من الأسرار، التي حيرت الألباب، وأذهلت العقول، وتركت الفلاسفة مبهوتين، والأطباء مدهوشين، الموت كلمة ترتج لها القلوب، وتقشعر منها الجلود، ما ذكر في قوم إلا ملكتهم الخشية، وأخذتهم العبرة، وأحسوا بالتفريط وشعروا بالتقصير، فندموا على ما مضى، وأنابوا إلى ربهم، فنسيان الموت ضلال مبين، وبلاء عظيم، ما نسيه أحد إلا طغى، وما غفل عنه امرؤٌ إلا غوى، ولا يمكن علاج ذلك ولا التخلص منه إلا أن يتذكر الإنسان قول الله وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]. وقوله : ((أكثروا من ذكر هادم اللذات: الموت)) [3].
أيها المسلمون، قال رسول الله : ((إن العبد المؤمن، إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ويجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله ـ عز وجل ـ: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان ماهذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله فيقولان: ما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته، فينادي مناد من السماء، أن قد صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الحسن يجيء بالخير، فيقول أنا عملك الصالح. فيقول رب أقم الساعة رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي. وإن العبد الكافر، إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، وتخرج منها، كأنتن جيفة وجدت على الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون، فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له. ثم قرأ رسول الله : لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْو?بُ ?لسَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ حَتَّى? يَلِجَ ?لْجَمَلُ فِى سَمّ ?لْخِيَاطِ [الأعراف:40]. فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، ثم تطرح روحه طرحا، ثم قرأ: وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج :31]. فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي فافرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه القبيح يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة)) [رواه الإمام أحمد] [4].
أيها المسلمون، إن لنا في السلف الصالح أسوة حسنة، وقدوة طيبة، فقد كانوا يكثرون من ذكر الموت حتى في أوقات الصفاء، وأيام السرور، وكان ذلك يبعثهم إلى الجد في طاعة الله، والبعد عن مساخطه.
لما تولى عمر بن عبد العزيز، وخطب خطبة الخلافة، ذهب يتبوأ مقيلا، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، من لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: ادن مني أي بني، فدنا منه فالتزمه، وقبل بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني. فخرج ولم يقِل، وأمر مناديا له أن ينادي، ألا من كانت له مظلمة فليرفعها.
وقال بعض الناس: دخلنا على عطاء السلمي، نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: كيف حالك؟ فقال: الموت في عنقي، والقبر في يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يفعل بي، ثم بكى بكاء شديدا، حتى أغشى عليه، فلما أفاق قال: اللهم ارحمني وارحم وحشتي في القبر، ومصرعي عند الموت، وارحم مقامي بين يديك يا أرحم الراحمين.
ودخل المزني عند الإمام الشافعي، في مرضه الذي مات فيه، فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال: أصبحت عن الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولسوء عملي ملاقيا، ولكأس المنية شاربا وعلى ربي ـ سبحانه وتعالى ـ واردا، ولا أدري أروحي صائرة إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها.
قال بعض الحكماء: مازالت المنون ترمى عن أقواس، حتى طاحت الجسوم والأنفس، وتبدلت النعم بكثرة الأبؤس، واستوى في القبور الأذناب والأرؤس، وصار الرئيس كأنه قط لم يرؤس، فمن عامل الدنيا خسر، ومن حمل في صف طلبها كسر، وإن خلاص محبها منها عسر، وكل عاشقيها قد قيد وأسر مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:32].
فيا تائها بوادي الهوى، انزل ساعة بوادي الفكر، يخبرك بأن اللذة قصيرة، والعقاب طويل، واعجبا لمن يشتري شهوة ساعة، بالغم والنكد! كانت المعصية ساعة لا كانت، فكم ذلت بعدها النفس! وكم تصاعد لأجلها النفس! وكم جرى لتذكارها دمع! أعاذنا الله جميعا من الغفلة، ومن سواء المنقلب في المال والأهل والولد.
عباد الله، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم ح (1047)، سنن الترمذي ح (2339) وقال: حديث حسن صحيح.
[2] صحيح، مسند أحمد (3/456)، سنن الترمذي ح (2376) وقال: حسن صحيح.
[3] صحيح، أخرجه أحمد (2/213)،والترمذي ح (2307) وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي ح (1824) وابن ماجه ح (4258).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (4/287 ـ 288).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الدنيا، دار بلاء وابتلاء، وامتحان واختبار، لذلك قدر الله فيها الموت والحياة، وهي مشحونة بالمتاعب، مملوءة بالمصائب، طافحة بالأحزان والأكدار، يزول نعيمها، ويذل عزيزها، ويشقى سعيدها، ويموت حيها. مزجت أفراحها بأتراح، وحلاوتها بالمرارة، وراحتها بالتعب، فلا يدوم لها حال، ولا يطمئن لها بال.
فليت شعري ،أي امرئ سلم فيها من الشدة والنكبة، أي امرئ لم تمسسه المصيبة والحسرة، من عاش ولم يخل من المصيبة، وقلما ينفك عن عجيبة.
فكم من ملوك وجبابرة فتحوا البلاد، وسادوا العباد، وأظهروا السطوة والنفوذ، حتى ذعرت منهم النفوس، ووجلت منهم القلوب، ثم طوتهم الأرض بعد حين، فافترشوا التراب، والتحفوا الثرى، فأصبحوا خبرا بعد عين، وأثرا بعد ذات.
وكل إنسان، سيسلك الطريق الذي سلكوه، وسيدرك الحال الذي أدركوه، ولكنه مأخوذ بغمرة من الدنيا عابرة، ستليها ويلات. مستغرق في سبات عميق، ستكشفه سكرات أَلْهَـ?كُمُ ?لتَّكَّاثُرُ حَتَّى? زُرْتُمُ ?لْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:1-4].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ، على خير البرية، وأفضل البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/450)
الصيام
فقه
الصوم
هاشم محمد علي المشهداني
الدوحة
الريان الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الصوم. 2- دليل فرضيته. 3- الصيام عند الأمم السابقة. 4- فضائل شهر رمضان.
5- لماذا شرع الله الصوم. 6- كيف تقضي ليالي ونهار رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:183]. أيام قلائل إذا قيست بالعام كله.
فرض الله تعالى صيامها وجعل صيامها سببا إلى التقوى.
فما الصوم؟ وما فضائل رمضان؟ ولماذا الصوم؟ وكيف تقضى أيام رمضان؟ وما موقف المسلم منه؟
أما الصوم: فهو الإمساك، قال تعالى: إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا [مريم:26]. والمراد به الامتناع عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.
والصيام ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب قوله تعالى: كتب عليكم الصيام أي فرض عليكم، أما السنة فقوله : ((بني الإسلام على خمس شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا )) ( [1] ) ، والإجماع منعقد على ذلك من لدن رسول الله إلى قيام الساعة ومنكره كافر، يقول الذهبي رحمه الله: ((الذي يفطر في رمضان من غير عذر شر من الزاني ومدمن الخمر، بل ويشك في إسلامه )) ( [2] ).
والصيام قديم قدم البشرية على الأرض كما قال تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم [قال قتادة: كان الصيام زمن نوح ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخه الله بشهر رمضان، وأخبر القرآن أن موسى عليه السلام صام أربعين يوما استعدادا للقائه بربه سبحانه قال تعالى: وواعدنا موسى ثلاثين لليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة [الأعراف:143]. وفي الإنجيل أن عيسى صام أربعين يوما، وداود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما، أما أمة محمد فقد خصها الله بشهر رمضان.
وأما ما هي فضائل رمضان:
فيه ليلة القدر: وهي الليلة التي أنزل الله فيها القرآن وهي ليلة خير من ألف شهر قال تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر [القدر:1-3]. وذكر النبي رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله: ليلة القدر خير من ألف شهر. (التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر) ( [3] ). وألف شهر تعدل ثلاثة وثمانين سنة يختزلها الله تعالى لأمة محمد في ليلة واحدة، فأي عطاء وكرم منه سبحانه.
مضاعفة الحسنات: للحديث: ((من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه)) ( [4] ).
الأجر عظيم: للحديث: يقول الله عز وجل: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)) ( [5] ).
قال الخطابي: (سبب إضافة الصيام إلى الله تعالى (قيل) إضافة تشريف كقوله تعالى (ناقة الله) مع أن العالم كله لله تعالى: وفيه بيان عظيم فضل الصوم والحث عليه وقوله (وأنا أجزي به) بيان عظم فضله وكثرة ثوابه لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه اقتضى عظم قدر الجزاء وسعة العطاء) ( [6] ).
دعاء مستجاب: للحديث: ((ثلاثة لا ترد دعوته: الصائم حين يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)) ( [7] ).
وللحديث: ((إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد)) ( [8] ).
وعد بالفرح في الآخرة: للحديث: ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه)) ( [9] ).
باب في الجنة خاص بالصائمين: للحديث: ((إن في الجنة بابا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)) ( [10] ).
قال الشرقاوي: الريان نقيض العطشان مشتق من الري مناسب لحال الصائمين للحديث: ((من دخل شرب، ومن شرب لا يظمأ أبدا)) ( [11] ).
تنشط فيه بواعث الخير: للحديث: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)) ( [12] ). ((وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر)) ( [13] ).
مكفر للخطايا والذنوب: للحديث: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) ( [14] ).
وللحديث: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) ( [15] ).
وأما لماذا الصوم؟
فتلك شبهة يثيرها ضعاف القلوب والعقول يقولون: لماذا الصوم؟ ولماذا نعذب الجسد بالجوع؟ حتى قال أحدهم: إن الصوم يعطل اقتصاد البلاد: ونقول لهؤلاء ابتداء: الصوم عبادة وطاعة، أمرنا الخالق سبحانه بها، فالله ربنا ونحن عبيده وكفى بالله حكيما فيما شرع وقضى، وإن من الأحكام ما أبان رب العزة عن حكمة تشريعه كتحريم الخمر والميسر قال تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [المائدة:91]. وهناك أحكام لا تظهر حكمة التشريع إلا مع تقدم العلوم كتحريم لحم الخنزير حيث علمنا قبل قرن فقط أن في الخنزير الدودة الشريطية، والبيوض المتكيسة مع الأثر لآكله من فقدانه الغيرة كحال الخنزير، وأحكام يجتهد العبد في الاستنباط والبحث عن حكمة التشريع فإن أدرك شيئا فلله الحمد والمنة وإلا فكفى بالله حكيماً فيما حكم كعدد ركعات الصلاة في كل وقت، أو الطواف سبعا، أو مواضع الإسرار والجهر في الصلاة وهكذا، ثم نقول لهم: إن في واقعنا أنواعا من الصيام تافهة في مضمونها إذا قيست بأهداف الصيام في إسلامنا، ومع هذا نجد من يحترمها ويقرها مثال ذلك الصيام السياسي: وهو أن يمتنع أصحاب حق عن الطعام حتى تبلغ أصواتهم أسماع الآخرين، فينظروا في قضيتهم، وهناك الصيام الجمالي وهو أن يمتنع الرجل أو المرأة عن الطعام حتى يزيل تلك الترهلات التي تشوه منظره وقد يكون قاسيا وهو ما يعرف ((بالرجيم)) وهناك الصيام الصحي وهو أن ينصح الطبيب المريض بأن يحترز في طعامه، وأن يصوم أياما حتى تستريح أجهزة الجسم من الإجهاد والعنت وتسترد عافيتها بعد طول عمل، ويلبي المريض نداء الطبيب حرصا على صحته، ويلبي طالب الجمال نداء الجسد لينال الرشاقة، ويلبي صاحب الحق الذي يعتقده نداء الواجب، أليس رب العزة الذي يدعونا إلى الصيام أولى بالإجابة من كل أحد؟ اللهم نعم، اللهم لبيك، اللهم سمعا وطاعة لك.
ومما يهدف إليه الصوم:
تربية الإنسان على الخلق الكريم: فالذي يحبس نفسه عن الحلال حياء من الله تعالى، واستشعارا لرقابته سبحانه، أيعقل أن تتجرأ نفسه على الحرام؟ جاء في الحديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) ( [16] ). فدل على أن العبد عند ارتكابه لهذه المعاصي إنما كان في حال حيواني فقد فيه الحياء والتعظيم لنظر الحق جل وعلا. لذا قال تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:177]. والتقوى لا تقوم شريعة، ولا يفلح قانون على إيجادها إلا الشريعة التي أنزل ربنا جل وعلا وهذا ما يفسر لنا ندرة الجريمة على عهد الرسول والخلفاء، ومعظمها كان مصحوبا باعتراف الجاني نفسه طائعا مختارا، ثم قل لي بربك الذي يتحرج ويمتنع عن المطعم والمشرب الحلال، ويمتنع عن إتيان أهله بالحلال تعظيما لأمر الله في الصيام هل تجرؤ نفسه على فعل الحرام من سرقة أو زنا؟ وهو قد تربى في مدرسة الصيام على ترك الحلال فهو عن الحرام أبعد.
استعلاء وجهاد: فالمسلم حين يصوم إنما يحقق معنى الاستعلاء على ضرورات الأرض طاعة وتعظيما لله فلا يستذله مال، ولا سلطان، ولا شهوة، وقال العلماء: ((الصوم المتصل الدائم غايته فناء الذات والنوع أي الذرية وهذا يعني أن المسلم يعد نفسه ويعاهد الله تعالى أن يفني ذاته ونوعه في سبيله سبحانه وعلى هذا ترى الأصحاب والسلف فتحوا الأرض جهادا رافعين راية لا إله إلا الله محمداً رسول الله، أما الجيوش التي تعيش في بؤر الفساد والامتهان والاستعباد والمظاهر الجوفاء، الجيوش الورقية التي لا تثبت في معركة فيها شرف وكرامة، إنما تثبت في المعارك التي تكون ضد العزل ممن يقولون لا إله إلا الله وفي المعارك التي لا شرف فيها ولا كرامة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
التكافل: قوام الحياة بالطعام والشراب، أراد الله تعالى أن نعيش أياما معدودة نستشعر ما يلقاه إخوة لنا طوال السنة بل السنين من جوع ومرض وبسبب جهادهم كأفغانستان وفلسطين والفلبين وغيرهما، فيكون باعث غيرة وإحساس. لما للأخوة الإسلامية من حق وواجب للحديث: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر الحمى)) ( [17] ) ، ولكن في أمتنا لا نسمع إلا ما يندى له جبين الشريف، فلان يتبرع بعشرين ألف دينار لفريق كرة عابث، وآخر يتبرع لعاهرة بما لو أنفقته على شعب لأسعدهم، ولكنها البلادة والتخبط في مال الله بغير الحق: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء:227].
وأما كيف نقضي أيام رمضان؟ فهناك أعمال قولية وأخرى فعلية؟
فإن للصيام ركنين لا يصح الصيام إلا بهما: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
النية للحديث: ((من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له)) ( [18] ). وهي عمل قلبي، فمن تسحر الليل قاصدا الصيام فهو ناوٍ.
وأما الأعمال القولية:
قراءة القرآن: ((فإن جبريل عليه السلام كان يلقي الرسول في كل ليلة يدارسه القرآن)) ( [19] ) ، والقرآن شافع لأصحابه كالصيام للحديث: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان)) ( [20] ).
الدعاء: للحديث: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، والمظلوم)) ( [21] ) ، وللحديث: ((إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد)) ( [22] ). وكان عبد الله بن العباس يقول: ((اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي)).
الذكر للحديث: (( ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله، من ذكر الله عز وجل)) ( [23] ).
وأما الأعمال الفعلية:
قيام الليل: للحديث: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ( [24] ). وفي العشر الأواخر بالخصوص للحديث: ((قالت عائشة: إن النبي كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله وشد المئزر)) ( [25] ). وشد المئزر كناية عن التشمير للطاعة وقيل: عن تركه الجماع وتفرغه للعبادة.
الجود والتصدق: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فالرسول أجود بالخير من الريح المرسلة)) ( [26] ). والريح المرسلة أي في الإسراع والعموم.
كف الجوارح عن المعاصي للحديث: ((ليس الصيام عن الأكل والشرب، إنما الصيام عن اللغو، والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك، فقل: إني صائم، إني صائم )) ( [27] ).
وأما موقف المسلم من رمضان:
الاجتهاد في تلاوة القرآن: وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال وكان قتادة يختم في كل سبع دائما، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمه يقرؤها في غير الصلاة، وقال سفيان الثوري: (إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة وعليه يدل عمل غيرهم) ( [28] ).
وتحري ليلة القدر: وهي في الوتر من العشر الأواخر للحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله : ((إذا دخل العشر شد مئزره وأيقظ أهله )) ( [29] ).
وكان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره ( [30] ).
وقيام ليلة القدر يحصل بساعة، قيل: بإحياء معظم الليل، وقيل: بأن يصلي الصبح في جماعة وقال الشافعي: (من شهد العشاء والصبح ليلة القدر أخذ بحظه منها) ( [31] ). ولكن الأحسن الاجتهاد وبذل الوسع ما أمكن فقد ((كان رسول الله يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين)) ( [32] ). والمعول عليه هو القبول للحديث: ((رب قائم حظه من قيامه السهر)) ( [33] ) ، فكم من قائم محروم وكم من نائم مرحوم لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات والمبادرة إلى اغتنام العمل فعسى أن تستدرك به ما فات من ضياع العمر.
الرجاء والسؤال والدعاء أن يتقبل الله سبحانه صيام الشهر وقيامه وتلاوته وذكره واستغفاره، فلقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، يقول علي : كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: إنما يتقبل الله من المتقين [المائدة:27]. قال بعض السلف: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان ثم يدعون ستة أشهر أن يتقبله منهم، وكان علي يقول: يا ليت شعري من هذا المقبول منا فنهنيه، ومن هذا المحروم منا فنعزيه.
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وأن لا يردنا محرومين ولا خائبين ولا منكسرين إنه جواد رحيم كريم.
( [1] ) متفق علبه.
( [2] ) فقه السنة مجلد 1 ص 384.
( [3] ) أخرجه ابن أبي حاتم.
( [4] ) ابن خزيمة والبيهقي وابن حبان.
( [5] ) البخاري ومسلم.
( [6] ) الترغيب والترهيب ج2 ص 79.
( [7] ) أحمد والترمذي.
( [8] ) البيهقي.
( [9] ) مسلم.
( [10] ) البخاري ومسلم.
( [11] ) النسائي وابن خزيمة.
( [12] ) البخاري ومسلم.
( [13] ) الترمذي.
( [14] ) مسلم.
( [15] ) البخاري ومسلم.
( [16] ) رواه البخاري ومسلم.
( [17] ) متفق عليه.
( [18] ) رواه أحمد وأصحاب السنن.
( [19] ) رواه البخاري.
( [20] ) رواه أحمد بسند صحيح.
( [21] ) رواه الترمذي بسند حسن.
( [22] ) ابن ماجة.
( [23] ) رواه أحمد.
( [24] ) متفق عليه.
( [25] ) متفق عليه.
( [26] ) رواه البخاري.
( [27] ) رواه ابن خزيمة.
( [28] ) بغية الإنسان في وظائف رمضان ابن رجب الحنبلي ص 34 – 35.
( [29] ) البخاري ومسلم.
( [30] ) مسلم.
( [31] ) بغية الإنسان ص 56.
( [32] ) البخاري.
( [33] ) البيهقي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/451)
سر التوحيد وحقيقته وأهميته (3)
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أهمية التوحيد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
20/6/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
معنى معرفة الألوهية والقيام بحقها : معرفة الله والقيام بحقه من عبادته وحده – أقسام التوحيد
ومكانته في القرآن – حكمة الجمع بين أسمائه : الرحمن , الرحيم , مالك يوم الدين -
أسباب أهمية قضية التوحيد : 1- أنه أول واجب على العبيد 2- أن التوحيد هو مفتاح الجنة
3- أن المُوَحِّد موعود بالجنة والمشرك لا أمل له في النجاة – حديث " ما من مولود إلا ويولد
على الفطرة " ودِلالته على حقيقتين : 1- كل مولود يولد على فطرة التوحيد 2- خطورة
العوامل الخارجية وتأثيرها على الطفل , ومكر الأعداء ودور الإعلام في إفساد الأطفال
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: من عرف مقام الألوهية فقام بحقها، هذه هي القضية الأولى والأخيرة ما معنى أن تعرف الألوهية فتقوم بحقها؟
معنى ذلك أن تعرف الله فتقوم بحقه، وحقه عليك أن تعبده وحده لا شريك له وهذا هو ما يعنيه العلماء عندما قسموا التوحيد إلى قسمين توحيد المعرفة والإثبات وتوحيد العبادة أو توحيد القصد والطلب. هذا التوحيد بقسميه توحيد المعرفة وتوحيد العبادة، هو أول ما يطالعك من كتاب الله عز وجل.
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين يعرفك ربك بنفسه، عرفك ربك سبحانه بنفسه، أول ما عرفك بأنه الله، عرفك باسمه الأعظم الله، ومعنى الله أي المعبود، فهو المعبود بحق دون سواه ذو الألوهية سبحانه وتعالى.
ثم عرفك بربوبيته فهو رب العالمين خالقهم وموجدهم ومربيهم بنعمه ظاهرة وباطنة، ثم عرفك بأسمائه وصفاته فبعد اسمه الأعظم عرفك ببعض أسمائه وصفاته، بدأ بصفة الرحمة بنوعيها الشاملة والخاصة فهو الرحمن الذي وسعت رحمته جميع خلقه، وهو الرحيم بعباده المؤمنين، خصهم برحمة خاصة بهم دون غيرهم، ثم وصف سبحانه نفسه بمالك يوم الدين أي يوم القيامة يوم الجزاء والحساب وإنما خص يوم القيامة بذكر الملك لأنه يومئذ لا يستطيع أحد أن يدعي الملك مع الله.
أما في الدنيا فإنه وإن كان الملك فيها في الحقيقة لله وحده إلا أنه وجد فيها من خلقه من يدعي الملك ويغتر به ولذلك خص سبحانه هنا ذكر يوم القيامة بالملك.
وفي ذكر هذه الصفات الثلاثة: الرحمن الرحيم مالك يوم الدين أسلوب بديع من أساليب القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب فهو أولاً فتح باب الرجاء الذي هو باب الرحمة ورحمة ربنا سبقت غضبه ثم أعقبه بباب الخوف من الحساب والجزاء، الخوف من يوم الدين، يوم الحساب والجزاء فعلى الإنسان ألا ييأس من رحمة الله، على الإنسان ألا ييأس من رحمة الرحمن الرحيم، كما أن عليه أن لا يأمن من غضب الله وسطوته وشدة حسابه.
ثم بعد ذلك بعد أن عرفك الله سبحانه وتعالى بنفسه، بهذه الآيات من أول القرآن الكريم، بعد هذا دعاك إلى النوع الثاني من أنواع التوحيد الذي هو توحيد العبادة، الأول هو توحيد المعرفة أي معرفة الله عز وجل.
والثاني هو توحيد العبادة دعاك إلى هذا النوع في قوله عز وجل: إياك نعبد وإياك نستعين
[الفاتحة:5]. أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا إياك وهذا هو نفسه هو مضمون قولنا لا إله إلا الله.
لماذا نلح على هذه القضية قضية التوحيد ونكثر من الكلام فيها وفي بيان مسائلها ومعانيها ومغازيها ومراميها وفي ذكر مقاماتها ومراتبها. لماذا نلح على هذه القضية.
أولاً: لأن التوحيد هو أول واجب على العبيد والإشارة إلى ذلك واضحة في كلام الله المنزل في القرآن الكريم، فبالتوحيد افتتح كلامه سبحانه وتعالى كأنه يلفت أنظارنا كأنه ينبهنا إلى أن أول واجب علينا أن نعرفه سبحانه وأن نوحده في العبادة وقد بين سيدنا رسول الله بين هذا بيانًا وافيًا شافيًا بقوله وفعله.
أما قوله فمنه ما جاء في الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه لما بعثه رسول الله إلى اليمن ليعلم أهلها الإسلام، قال له: ((يا معاذ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)) ، وفي رواية: ((فإذا هم عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)) [1].
وقد بين ذلك بفعله أيضًا فقد مكث في مكة بعد بعثته ثلاث عشرة سنة يدعو قومه إلى معرفة الله وتوحيده في العبادة، ولم يُنَّزل أثناء ذلك لم يُنَّزل من الأحكام إلا الشيء القليل كالصلاة، بل كانت الدعوة النبوية في مكة مركزة على تثبيت أساس التوحيد، ومكارم الأخلاق ثم تنزلت الشريعة بعد الهجرة في هذه المدينة النبوية، فبين بفعله هذا أن أول واجب وأهم واجب على الناس هو التوحيد.
ثانيًا: لأن التوحيد هو مفتاح الجنة وهو شعار الإسلام الأعظم، روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله : ((مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة)) [2].
ومنها حديث عثمان بن عفان قال رسول الله : ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)) [3] ، ومنها حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الموجبتان من مات وهو يشرك بالله شيئًا دخل النار، ومن مات وهو لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة)) [4] روى هذه الأحاديث الثلاث مسلم في صحيحه.
ثالثًا: نلح على هذه القضية قضية التوحيد لأن صاحبها، صاحب التوحيد موعود بالنجاة وموعود بالغفران من الله عز وجل بخلاف من وقع في نقيض التوحيد الذي هو بخلاف الشرك، فمن وقع في الشرك فلا أمل له ولا رجاء في النجاة ولا في الغفران والعياذ بالله.
وهل هناك وعيد له أشد وأنكى من قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا [النساء:48]. وقوله تعالى: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة:72].
فالمشرك الذي وقع في نقيض التوحيد باب الرجاء والغفران موصد ومقفل أمامه فلا أمل له ولا رجاء، بخلاف الموحد فإنه وإن غلبته ذنوبه فباب الرجاء مفتوح أمامه وهو موعود بالغفران خاصة إذا تاب وأستغفر، وهل هناك وعد أعظم وأرجى للموحد من قوله تعالى في الحديث القدسي: ((يا بن آدم لو آتيتني بقراب الأرض (أي بملء الأرض) خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) [5].
فأبشروا يا أهل التوحيد وشمروا يا أهل التوحيد، وتعلموا التوحيد يا أمة لا إله إلا الله.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين وللمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم [محمد:19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (1458، 7372) ، صحيح مسلم (19) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
[2] الحديث ليس في صحيح مسلم وإنما في مسند أحمد (5/242) دون قوله: (مستيقناً..)
[3] صحيح مسلم (26).
[4] صحيح مسلم (93).
[5] مسند أحمد (5/147) ، سنن الترمذي (3540) وقال: حسن غريب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء فهل ترون فيها من جدعاء ثم قرأ: فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم )) [الروم:30].
هذا الحديث ينبهنا في مجال تربية الصغار إلى حقيقتين هامتين: أولاهما أن كل صغير يولد على فطرة الله وفطرة الله هي التوحيد كما دلت عليه الآية المذكورة في سياق الحديث فقد وُصفت فيها الفطرة بأنها الدين القيم، فكل مولود كل صغير حتى يبلغ مرحلة التكليف هو مسلم على فطرة الله، هو مسلم بفطرته يولد على هذه الفطرة النقية من شوائب الكفر والشرك.
كما تولد البهيمة أول ما تولد، تولد كاملة سليمة كاملة الأعضاء مجتمعة الأجزاء ثم يطرأ عليها النقص بعد ذلك بفعل العوامل الخارجية فتجدع أذنها أو غير أذنها من أعضائها. فعليك إذن يا مسلم أن تصون هذه الفطرة التي وُلد عليها صغيرك أن تصون تلك الفطرة النقية الصافية وتعمل على تنميتها وتربيتها بتعليم صغارك الإسلام، ولا تظن وأنت تعلمهم الإسلام أنك تحشر في أذهانهم معلومات أجنبية عنهم أو منافرة لطبيعتهم، بل أنت تعلمهم ما تقتضيه فطرتهم.
فعليك أن تضع ذلك في اعتبارك أن الإسلام هو دين الفطرة، لا تقلب الإسلام وأنت تغرس تعاليمه ومبادئه في نفوس صغارك. لا تقلب الإسلام بأسلوبك الخشن الجاف إلى مجموعة من المعلومات المعقدة أو الأوامر القاسية بل يجب أن تراعي ويجب أن تتنبه إلى أن الإسلام بتعاليمه وآدابه وأحكامه هو دين الفطرة هو فطرة الله التي فطر الناس عليها والتي يولد عليها كل مولود.
والحقيقة الثانية التي ينبهنا إليها حديث الفطرة هو التحذير الشديد من خطر العوامل الخارجية التي تعترض الصغار فتنحرف بهم عن الفطرة النقية الصافية فطرة الله عز وجل، وما أكثر هذه العوامل ما أكثر عوامل الانحراف وأساليب التخريب والتدمير في عصرنا الحاضر، فشياطين الإنس والجن في عصرنا الحاضر ابتكروا من الأساليب أخبثها وأمكرها في سبيل الانحراف بعباد الله عز وجل عن فطرة الله، إنهم يستخدمون كل شيء لتخريب هذه الفطرة وتدمير هذه الفطرة يستخدمون الإعلام ويستخدمون التعليم بل ويستخدمون حتى لعب الأطفال أنهم يودعون في هذه اللعب ما يشاءون من المعاني المخربة المفسدة المنافية للإسلام.
قل لي بربك يا مسلم يا رب الأسرة المسلمة، هل وجدت في أسواقنا تمثال بنت من القماش أو من البلاستيك مما يلعب به الأطفال هل وجدت تمثال بنت قد ألبسوها الزي الشرعي. لم أر في أسواقنا أبدًا إلا تماثيل بنات مما يلعب به الصغار عاريات أو لابسات زي الإفرنج، الزي الخليع الأوربي وهذا يغرس في نفس صغيرك وأنت لا تشعر معنى مخربًا مفسدًا.
طفلتك الصغيرة تنشأ وهى تلعب بمثل هذه اللعبة تنشأ وقد غُرست في نفسها وفي مخيلتها صورة التبرج الإفرنجي وتنشأ وهى تظن أن هذه هي الحياة فإذا ما جاء يوم وعلمتها الحجاب الشرعي الإسلامي صعب عليها ذلك.
فاحذر يا مسلم من أساليب الشياطين شياطين الإنس فإنها أساليب خفية ناعمة ماكرة، يستغلون كل شيء لتخريب الفطرة، ماذا كان يضير هؤلاء التجار الذين يستوردون لعب الأطفال، ماذا كان يضيرهم لو اشترطوا على المتجر الذي يصدر لهم مثل هذه الأشياء أن يصوغوا هذه اللعب بهيئة وشكل يتفق مع أهدافنا التربوية الإسلامية.
لقد رأيت يومًا في بعض أسواقنا كتابًا ناطقًا مزودًا بصور فإذا وضع الطفل يده على صورة نطق الكتاب فأخبره باسم تلك الصورة.
ومن الصور التي زُود بها هذا الكتاب صورة خنزير وصورة كنيسة فإذا وضع الطفل إصبعه على صورة الكنيسة نطق الكتاب فقال هذا معبد، وإذا وضع إصبعه على صورة الخنزير نطق الكتاب وأخبر صغيرك يا مسلم فقال له يا مسلم هذا خنزير، يعودون صغارنا على الخنازير، وعلى صورة الكنائس، لماذا عمى بصر ذلك التاجر المسلم الذي استورد هذه اللعبة الهامة الفعالة عن أن يشترط على المصنع أو على المصدر أن يصدر صورة المسجد بدلاً من صورة الكنيسة وصورة شاة أو بقرة أو جمل مما أحل الله عز وجل بدلاً من الخنزير.
لماذا تجلبون يا تجارنا بأموال المسلمين إلى أسواق المسلمين أساليب الشياطين التي تخرب الفطرة وتدمر صغارنا وتغرس في نفوسهم ما يريد الشياطين من مبادئهم المخربة المفسدة.
قال رسول الله : قال الله عز وجل: ((خلقتُ عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم)).
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد.
وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن زوجاته أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/452)
لسان الصدق
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الكذب بين المسلمين. 2- الصدق سبب للبركة في الرزق. 3- صور مطلوبة
الصدق. 4- مصير الكاذب يوم القيامة. 5- صدق السلف رحمهم الله. 6- الكذب رذيلة ذمتها
النصوص. 7-صورة من الكذب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، اصدقوا مع الله، واصدقوا مع عباد الله، فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا.
صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وعفة النفس، والقناعة بالمقسوم من صفات المؤمنين. والكذب والخيانة، والطمع الخبيث والخداع، من علامات المنافقين وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ [البقرة:204]. قد اشترى الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة والعاجل بالآجل، فهو من المارقين، وبظلمه واقترافه الكذب، قد خرج من المخاطبين بقوله: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، إن كثرة الكذب وقلة الصدق، آفة إذا استشرت في مجتمع ما، قوضت أركان سلامته، وهدمت أساس استقراره، وبدلت اطمئنان أفراده قلقا، وسعادتهم شقاء، لأن حياة المجتمع في الثقة بين أفراده، ولنا أن نتصور إنسانا يعيش في مجتمع مليء بالكذبة، فكيف تكون حاله؟
كل خبر يسمعه لا يطمئن إلى صدق مخبره فيه، حتى يتأكد بنفسه، وكل سؤال يسأله لا يرتاح إلى صدق مجيبه حتى يبلوه، لا يطمئن في التعامل مع أهله وجيرانه، ولا في بيعه وشرائه، ولا في مكتبه وعمله، لأنه لا يثق بصدق الناس في إخبارهم وتعاملهم، فهل يمكن للمسلم في مثل هذا الجو القاتم أن يحيا حياة مثمرة، فضلا عن أن تكون حياة سعيدة هانئة؟
إن تقدم المجتمع المسلم ورفاهيته وسلامته واطمئنان أفراده، كل ذلك مرهون بشيوع الصدق بين أفراده، وانتشار الثقة بينهم، واضمحلال الكذب إلى أقصى حد ممكن، في تعاملاتهم وعباداتهم وإعلانهم ومدارسهم، وفي شؤون حياتهم كلها.
أيها المسلمون، لقد حث النبي على الصدق، لأنه مقدمة الأخلاق، والداعي إليها وهو علامة على رفعة المتصف به، فبالصدق يصل العبد إلى منازل الأبرار، وبه تحصل النجاة من جميع الشرور، كما أن البركة مقرونة بالصدق، قال : ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا، بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) [رواه البخاري ومسلم] [1].
ولذا، فإنك لا تجد صادقا في معاملته، إلا وجدت رزقه رغدا، وقد حاز في ذلك الشرف والسمعة الحسنة، ويتسابق الناس إلى معاملته، فالصادق يطمئن إلى قوله العدو والصديق، الصادق الأمين مؤتمن على الأموال والحقوق والأسرار، ومتى حصل منه كبوة أو عثرة، فصدقه شفيع مقبول، والكاذب لا يؤمن على مثقال ذرة، ولو قدر صدقه أحيانا، لم يكن لذلك موقع، ولا حصل به ثقة ولا طمأنينة، ألا ترى قول الله ـ عز وجل ـ في إخوة يوسف عندما قالوا لأبيهم: يأَبَانَا إِنَّ ?بْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـ?فِظِينَ (1/453)
التوحيد أولا (لو كانوا يعلمون)
التوحيد
أهمية التوحيد
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إبراهيم يبني البيت العتيق لحماية جناب التوحيد. 2- بعثة الرسول لتطهير البيت من الشرك
والوثنية. 3- عبادة الحج مدرسة في غرس التوحيد. 4- التوحيد دعوة جميع الأنبياء. 5- معنى
كلمة التوحيد. 6- ضعف التوحيد ضعف لأمة الإسلام. 7- من صور الشرك سؤال الموتى
وعبادتهم وتعليقاتهم ومعرفة الغيب عن طريق الأبراج. 8- النصوص تدعو التحرر من الشرك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، فتقوى الله ـ تعالى ـ هي وصيته للأولين والآخرين وَللَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَكَانَ ?للَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً [النساء:131].
أيها الناس، من أجل التوحيد بني بيت الله العتيق، الذي رفع قواعده إبراهيم خليل الرحمن وابنه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ، وما برح هذا البيت العتيق، يطاول الزمان، وهو شامخ البنيان في منعة من الله وأمان، تتعاقب الأجيال على حجه، ويتنافس المسلمون في بلوغ رحابه، ففي جواره التوحيد، وفي رحابه الأمن والخير والبركة وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْر?هِيمَ مَكَانَ ?لْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْقَائِمِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ [الحج:26]. وَإِذْ قَالَ إِبْر?هِيمُ رَبّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا ?لْبَلَدَ امِنًا وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ?لنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [إبراهيم:35، 36].
لقد أرسل المصطفى بنور ساطع وضياء لامع، أضاء به الطريق وأوضح به السبيل، طهر الله به جزيرة العرب من رجس الوثنية، وهيمنة الأصنام، وكان كبير الأصنام هبل، بأعلى مكة، وحوله ثلاثمائة وستون صنما، كلها من الحجارة، فطعن فيها المصطفى بيده الشريفة، حين دخوله الكعبة يوم الفتح، وهو يردد قول الله: وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ إِنَّ ?لْبَـ?طِلَ كَانَ زَهُوقًا [1] [الإسراء:81]. وبعض المسلمين كان يردد: يا عزى كفرانك لا غفرانك إني رأيت الله قد أهانك.
وفي الحج أيها المسلمون، معانٍ كبيرة من معاني التوحيد، تمثلت في منع المشركين من دخول المسجد الحرام ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا ?لْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ?لْمَسْجِدَ ?لْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـ?ذَا [التوبة:28].
وبعث المصطفى سنة تسع، من ينادي: ((ألا يطوف بالبيت عريان، وألا يحج بعد العام مشرك)) [متفق عليه] [2].
وتمثل التوحيد في الحج، في رفع الأصوات بالتلبية ونفي الشريك عن الله ((لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك)) وبهذه التلبية، قضى المصطفى على تلبية أهل الشرك، التي كانوا يرددونها إبان حجهم ويقولون: ((لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك)) تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
لقد تمثل التوحيد في الحج في ركعتي الطواف، حين يقرأ المسلم في أولاهما بـ قُلْ ي?أَيُّهَا ?لْكَـ?فِرُونَ [الكافرون:1]. وفي الأخرى بـ قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ [3] [الإخلاص:1]. كما تمثل التوحيد في الحج أيضا، في خير الدعاء، وهو دعاء يوم عرفة حينما قال : ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) [رواه الترمذي] [4].
وتمثل التوحيد في الحج فيما شرعه الله من ذكره وحده، يوم العيد وأيام التشريق وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود?تٍ [البقرة:203]، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200].
أيها الناس، إن التوحيد الخالص، هو لباب الرسالات السماوية كلها، وهو عمود الإسلام، وشعاره الذي لا ينفك عنه، وهو الحقيقة التي ينبغي أن نغار عليها، ونصونها من كل شائبة فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36].
والطاغوت هو: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم، من يتحاكمون إليه من دون الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه ليس من طاعة الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ [النساء:60]. وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ?لطَّـ?غُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ?لنُّورِ إِلَى ?لظُّلُمَـ?تِ [البقرة:257]. أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ ?لْكِتَـ?بِ يُؤْمِنُونَ بِ?لْجِبْتِ وَ?لطَّـ?غُوتِ [النساء:51].
عباد الله، على كلمة التوحيد الجليلة، بنى المصطفى أمته، وأقام دعوته وشيد صرحها، وأنشأ جيلا يوحد الواحد الأحد، ويبرأ من كل الشركاء المزعومين، فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هي الحادي الذي لا يمل نداؤه، ولا يتلاشى صداه، وعندما يرددها الموحد، فهو يقصد أمرين عظيمين:
أولهما: إحقاق الحق وإبطال الباطل ؛ لأن معنى الكلمة: لا معبود بحق إلا الله، فكل ما خلا الله، فهو باطل، وما هو إلا وهم عقول مختلة، أو خداع حواس معتلة.
وثانيهما: ضبط السلوك البشري، داخل نطاق هذا التوحيد الخالص المنبثق من كلمة التوحيد، المشروطة بسبعة شروط، متمثلة في العلم بمعناها وهو أنه: لا معبود بحق إلا الله، ومتمثلة كذلك، في اليقين المنافي للشك، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المنافي للكذب، والقبول المنافي للرد، والانقياد المنافي للترك، والمحبة المنافية للبغض، وباجتماع ذلك، تتوحد العبادة بكل صورها، بحيث لا تكون إلا لله، فلا استنصار إلا بالله، ولا توكل إلا على الله، ولا رغبة ولا رهبة، ولا خوف ولا رجاء إلا بالله ومن الله، ومن ثم، يشعر الموحد من أعماق قلبه، أن ما دون الله هباء، فلا تروعه سطوة ساط، ولا تخدعه ثروة غني، ويستحيل عنده أن يغلب الله على أمره، أو أن يقطع شيء دونه، فالتعلق بغير الله عجز، والتطلع إلى سواه ضلال لاحق وَللَّهِ غَيْبُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ?لأمْرُ كُلُّهُ [هود:123].
ومن هنا، يظهر الفرق شاسعا بين الموحد وبين المشرك، فالموحد عرف خالقه، فعبده حق عبادته، والمشرك مكفوف البصيرة، تائه عن ولي نعمته، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى.
أيها الناس، التوحيد في القديم وفي الحديث، أوله الناس بتعدد الآلهة وهي المعبودات، وتعدد الآلهة خرافة هزيلة، لفظها الإسلام بقوة، ونبذها نبذ المسافر فضلة الأكل، وتتبع أوهام الناس فيها وهما وهما، فكشف الظلمة ودحض الشبهة، ولا عجب، فالتوحيد الخالص، شعار الإسلام الأول، في ميدان الاعتقاد والعمل، به عرف ومن أجله حورب، وعليه دار جدل طويل بين أهل الحق وأهل الباطل: إِنَّ إِلَـ?هَكُمْ لَوَاحِدٌ رَّبُّ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ?لْمَشَـ?رِقِ [الصافات:4، 5]. مَا ?تَّخَذَ ?للَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـ?هٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى? بَعْضٍ سُبْحَـ?نَ ?للَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91].
إن التوحيد الخالص، هو أفضل طلبة، وأعظم رغبة، وأشرف نسبة، وأسمى رتبة، هو وسيلة كل نجاح، وشفيع كل فلاح، يُصيِّر الحقير شريفا، والوضيع غطريفا، يطول القصير ويقدم الأخير، ويعلي النازل، ويشهر الخامل، ما شيد ملك عتيد إلا على دعائمه، ولا زال إلا على طواسمه، ما عزت دولة إلا بانتشاره، ولا زالت إلا باندثاره.
وإن معظم الشرور والنكبات التي أصابت أمة الإسلام، وأشد البلايا التي حلت بها، كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس، وما تسلط من تسلط من الأعداء، وتعجرف من تعجرف، وغار من غار على حياض المسلمين، واستأصل شأفتهم، واستباح حرماتهم، وأيم نساءهم، ويتم أطفالهم، إلا بسبب ضعف التوحيد، وما هجم التتار على ديار الإسلام، وفعلوا بهم ما فعلوا، إلا بفقد التوحيد، بل لقد بلغ ضعف التوحيد في النفوس مبلغا عظيما إبان الهجوم التتري لبلاد الإسلام، حتى لقد قال بعض المسلمين من الهلع والجزع: يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر، عوذوا بقبر أبي عمر ينجيكم من الضرر. كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.
أيها الناس، يعيش المسلمون في زمان، هرم خيره، شباب شره، نائم رشاده، صاحٍ فساده، قليل منصفه، كثير متعسفه، أفلت فيه شمس التوحيد ونجمه، ودجا فيه ظلام الشرك وظلمه؛ فتقدم متأخره، وتأخر متقدمه، تلاعبت بأهله الأهواء، ومزقت جماعتهم النحل والآراء، ركب كل منهم هواه، وكافح فصادموا المنقول، وخالفوا المعقول، فاخر ضُلاَّلُهم بما يبرزون من الضَّلاَل، ويبدعون من الزيغ، وصار الشجاع العاقل هو المجاهر بالغرائب والمصائب، والأديب الملهم هو الداعي إلى البدع المضلة، فعظم الويل، واتسع الخرق، واغتلم الداء، وأعوز الدواء.
هم قوم أزياؤهم أزياء الأناسي، وصورهم صور العقلاء، ونفوسهم نفوس العجماوات، وأخلاقهم أخلاق الطير، يتهافتون على الغفلة، تهافت الفراش على النبراس، ويأرزون إلى النقيصة، أروز الدود إلى الميتة، مع قرم وجعم، واحتدام وضرم، بهؤلاء وأمثالهم، ولدت أم الغباء، وعقمت أم الذكاء وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لانْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف:179].
لقد ابتلي كثير من الناس بالجهل بالتوحيد؛ فانحازوا إلى أصحاب القبور، والتجؤوا إليهم، وتضرعوا أمام أعتابهم، فقبلوها وتمسحوا بها، واستغاثوا بأهلها في الشدائد والكروب، بل لقد كثر مروجوها والداعون إليها، من قبوريين ومخرفين، الذين يخترعون حكايات سمجة عن القبور وأصحابها، وكرامات مختلقة، لا تمت إلى الصحة بنصيب، والذين ينشدون القصائد الطافحة بالاستغاثات والنداءات، التي لا تصلح إلا لفاطر الأرض والسماوات، بل لقد طاف بعض الناس بالقبور كما يطاف بالكعبة المعظمة، وأوقفوا الأموال الطائلة على تلك الأضرحة، حتى إنه لتجتمع في خزائن بعض المقبورين، أموال تعد بالملايين، ولقد أحسن القائل:
أحياؤنا لا يُكْرَمُون بدرهم وبألفِ ألف يكرم الأموات
لقد قصر أناس مع التوحيد ؛ فتقاذفتهم الأهواء، واستولت عليهم الفتن والأدواء، فمن مفتون بالتمائم والحروز، يعلقها عليه وعلى عياله، بدعوى أنها تدفع الشر، وتذهب بالعين، وتجلب الخير، والله ـ تعالى ـ يقول: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17].
وقد رأى النبي رجلا في يده حلقة من صفر فقال: ((ما هذا؟ قال من الواهنة، فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا)) [رواه أحمد بسند لا بأس به] [5].
ولأحمد أيضا، عن النبي أنه قال: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)) [6]. وفي رواية: ((من تعلق تميمة فقد أشرك)) [7].
وإن من المسلمين من قد افتتن بالمشعوذين، والدجاجلة الأفاكين، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، بدعوى أنهم يكاشفونهم بأمور الغيب، فيما يسمى مجالس تحضير الأرواح، أو قراءة الكف والفنجان، ليكاشفوا الناس على حد زعمهم، عما سيحدث في العالم، خلال يوم جديد، أو أسبوع سيطل، أو شهر أوشك حلوله، أو عام مرتقب قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]. قال رسول الله : ((من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) [رواه الأربعة والحاكم] [8].
وإن من الناس يا عباد الله، من هو مفتون بمستقبل الأبراج، فيمضي عاصب العينين، فاقد البصيرة، خلف قراء الأبراج، الذين يدعون أن السعادة كامنة في أصحاب برج الجدي، والغنى مستقر في أصحاب برج العقرب، أما أصحاب برج الجوزاء فيا لتعاسة الحظ وخيبة الأمل، إلى غير ذلك، من سيل الأوهام الجارف، والخزعبلات المقيتة أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَـ?نٍ مُّبِينٍ [الطور:38]. أَمْ عِندَهُمُ ?لْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ?لْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَـ?هٌ غَيْرُ ?للَّهِ سُبْحَـ?نَ ?للَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الطور:41-43].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] أخرجه البخاري ح (2478)، ومسلم ح (1780).
[2] أخرجه البخاري ح (369) ومسلم ح (1347).
[3] صحيح أخرجه الترمذي ح (431)، وقال: حديث غريب. وابن ماجه ح (1166) عن ابن مسعود أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في السنة التي بعد المغرب.
[4] حسن، سنن الترمذي ح (3585).
[5] مسند أحمد (4/445).
[6] مسند أحمد (4/154) وفي إسناده: خالد بن عبيد المعافري. ذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/342) أنه لم يرو عنه سوى حيوة بن شريح. فهو مجهول. انظر السلسلة الضعيفة (1266).
[7] صحيح، مسند أحمد (4/156).
[8] صحيح، سنن أبي داود (3904)، سنن الترمذي ح (135)، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى ح (9017)، وابن ماجه ح (639) والحاكم (1/8) وقال: صحيح على شرطهما. ووافقه الذهبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله معشر المسلمين، واعلموا أن التوحيد هو حق الله على العبيد، وهو إفراد الله بالعبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
والتوحيد هو دين الرسل، من أولهم وهو نوح ـ عليه السلام ـ، إلى آخرهم وخاتمهم وهو محمد ـ ـ؛ فمن أنكره، أو قصر في معرفته، فهو مزور كبير، ومبطل جريء.
فيا ويح من تعلق بغير الله أو عبد معه غيره ورضي به، مما هو تراب فوق تراب، يا ويحه ماذا دهاه؟
إن أسلافه الأماجد، لم يقنعوا بهذا العالم كله مطلبا وغاية، حتى عقدوا من أسيافهم، وصالح أعمالهم درجات، يمتطون بها ثبج الهواء، ويشقون بها حواجز المادة الجافة؛ ليتصلوا بخالقهم ورازقهم. فما هذا التعلق والرضا بالتراب؟!
لقد كان المشرك الدنس، يتلقى لا إله إلا الله، فتتمشى فيه، فتعقم جسمه ونفسه، وتطهرها من معاني الشهوة والفسوق، فيروح ويغدو، كأنه ملك في أثواب إنسان، فما للمتعلق بغير الله ومساءلة الأطلال الفانية؟ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَـ?فِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
لقد كان الموحد يتلو قول الله: أَلَيْسَ ?للَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوّفُونَكَ بِ?لَّذِينَ مِن دُونِهِ [الزمر:36]. فيحمل سيفه المثلم، ورمحه المحطم، فيسايف الأبطال المغاوير، فيقذف في غمرات الجهاد، يطعن ويضرب، وصدره يعي هذه الآية، فما للمتعلق بغير الله، وخشية التراب؟
لقد كان الموحد يقرأ قول الله: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18]. فتحول هذه الآية بينه وبين الخلق جميعا، وتسد عليه طريق ألمه، ولا يكشف لغير الله عن موضع علته، ولا تسمع منه أذن مخلوقه قولة: (آه)، حتى بايعهم المصطفى على ألا يسألوا الناس شيئا كما في صحيح مسلم، فما لهذا المتعلق بغير الله، ودعوة الأموات والشكوى إلى الرميم والعظام النخرة؟
ويح من تعلق بغير الله أو رجا غيره ! شرب المؤمنون صفوا، وشرب هو كدرا، ودعوا هم ربا واحدا، ودعا هو ألف رب ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ?للَّهُ ?لْوَاحِدُ ?لْقَهَّارُ [يوسف:39].
رفع المؤمنون أبصارهم إلى رب السماء، ونكس هو طرفه إلى الثرى، وأين الثرى من السماء، وأين عابد الأموات من عابد الحي الذي لا يموت، هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ?لْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الزمر:29].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية.
(1/454)
سر التوحيد وحقيقته (5) والزواج
الأسرة والمجتمع, التوحيد
شروط التوحيد, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
4/7/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
شروط لا إله إلا الله المُبَشَّر أهلها بالجنة , ومعناها : 1- العلم بمعناها 2- الاعتقاد والقبول
3- اليقين 4- الصدق 5- الإخلاص 6- الانقياد 7- المحبة – لا ينتفع بهذه الكلمة إلا من حقق
معناها وشروطها – الإكثار من النسل من سنته صلى الله عليه وسلم وسبيل ذلك – التعدد من
سنته صلى الله عليه وسلم , ومَن المخاطبون بذلك – دور العادات الغربية في مشكلة الزواج
والتعدد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن البشارة بالجنة لأهل لا إله إلا الله قُيدت بسبعة شروط كما دل على ذلك القرآن والسنة. فلا ينتفع صاحب لا إله إلا الله بهذه الكلمة العظيمة حتى يستوفي هذه الشروط ويحققها أما إذا أخلّ بواحد منها لا ينتفع صاحب هذه الكلمة بمجرد النطق بها:-
أولاً: العلم بمعناها.. العلم بمعنى لا إله إلا الله وما فيه من النفي والإثبات لأن المراد هو الاعتقاد والاعتقاد لا يتم إلا بالعلم فإذا علم معنى لا إله إلا الله يمكنه اعتقاده. قال الله عز وجل: فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد:19].
وهذا الخطاب لكل إنسان رجلاً كان أو امرأة: فاعلم أنه لا إله إلا الله وقال عز وجل: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون [الزخرف:86].
شهد بالحق معناه أنه شهد أن لا إله إلا الله لأن هذه هي كلمة الحق ثم قيد هذه الشهادة بالعلم بقوله وهم يعلمون، وفي الصحيح عن عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)) [1].
ثانيًا: الاعتقاد والقبول:إذ لا يكفي أنه مجرد معرفة معنى هذه الكلمة حتى يتلقى معناها بالقبول ويعقد قلبه عليه فالمراد هو الاعتقاد ومعنى الاعتقاد هو أن يتلقى معنى هذه الكلمة بالقبول والخضوع ويعقد قلبه على معناها ويؤمن بمعناها فيخرج القلب بذلك من ربقة المكذبين المستكبرين الذين قال الله فيهم: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أءنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون [الصافات: 34-36].
وإنما يصرف هؤلاء المستكبرين المكذبين عادة إنما يصرفهم عن قبول هذه الكلمة هذه الشهادة العظيمة، تقليد الآباء والجمود على التقاليد والعادات الموروثات كما أخبر بذلك الرب عز وجل حين قال: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبائكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين [الزخرف:21-25].
ثالثًا: اليقين.. فلا يكفي أن يعرف معنى هذه الكلمة ويعتقده بل يجب أن يعتقد معنى هذه الكلمة متيقنًا من ذلك أي يستقين بمعناها فإنه لا يغنى في الإيمان إلا علم اليقين. علم الظن لا يغنى في الإيمان شيئًا فكيف بالعلم الذي دخله الشك والارتياب.
الشك والارتياب إذا طرأ على الاعتقاد بلا إله إلا الله أبطله فلا ينتفع صاحبها بها حينئذ قال الله عز وجل: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [الحجرات:15].
انظر كيف علق الصدق في الإيمان على قولهم لم يرتابوا أي لم يشكوا قال رسول الله لأبي هريرة في الحديث المشهور في الصحيح: ((من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشّرة بالجنة)) [2].
وفي الحديث الصحيح أيضًا أنه قال: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله عبد بهما غير شاكٍ فيهما إلا حرمه الله على النار)) [3].
الشرط الرابع: هو الصدق.. أن يكون اعتقاده ويقينه بمعنى لا إله إلا الله صدقًا من قلبه الصدق المنافي للكذب أن يكون قلبه يواطئ لسانه في اعتقاده بلا إله إلا الله. وقد أعلن الرب عز وجل أنه سيمتحن قائلي هذه الكلمة فقال سبحانه وتعالى: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [العنكبوت:2-3].
فالرب عز وجل امتحن قائلي لا إله إلا الله حتى يظهر الصادق من الكاذب حتى يكشف الصادق من الكاذب، وفي الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((إن الله حرم على النار من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قلبه)) [4].
الشرط الخامس: الإخلاص: وهو من لوازم الصدق ومعناه تصفية الاعتقاد وتصفية القول والعمل من شوائب الشرك أن يكون إيمانه واعتقاده وقوله وعمله خالصًا لوجه الله تعالى أما إذا شابت نيته مقاصد أخرى من الشرك فإن ذلك يبطل إيمانه ويحبط عمله. قال الله عز وجل:
ألا لله الدين الخالص [الزمر:3].
وقال سبحانه: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء [البينة:5] وقال عزوجل:
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرًا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا [النساء:145-146].
وفي الصحيحين عن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) [5].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)) [6].
الشرط السادس: الانقياد.. لما دلت عليه لا إله إلا الله من معنى ومن مقتضى فإن هذا هو معنى الإسلام وهذا هو معنى الإيمان.
الإسلام هو الاستسلام لله والإيمان هو التسليم لله، الاستسلام والتسليم هذان هما الانقياد لله عز وجل، الانقياد لما دلت عليه لا إله إلا الله هذا هو الشرط السادس من شروط لا إله إلا الله الانقياد لما دلت عليه لا إله إلا الله.
الشرط السابع: المحبة: محبة ما دلت عليه لا إله إلا الله محبة هذه الكلمة ومحبة ما دلت عليه ومحبة أهلها العاملين بها فبدون هذه المحبة لا يسلم إيمان ولا يصح إسلام. فلو كره ما دلت عليه لا إله إلا الله كره معناها أو مقتضاها أو بغض أهلها العاملين بها فإنه لا ينتفع بمجرد النطق بها أو حتى اعتقادها. محبة هذه الكلمة ومحبة أهلها العاملين بها وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلون وعلى رأس المرسلين سيدنا محمد فمحبته ومحبة ما جاء به من شروط صحة لا إله إلا الله والانتفاع بلا إله إلا الله بدون محبة المصطفى لا ينتفع صاحب لا إله إلا الله بهذه الكلمة، وعلامة محبته أن يكون حبك لله ويكون هواك تبعًا بما جاء به محمد عن الله عز وجل كما ثبت في الحديث الصحيح قال رسول الله : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك ونسألك حب رسولك وحب من يحب رسولك، وحب كل عمل يقربنا إليك. أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (26).
[2] صحيح مسلم (31).
[3] صحيح البخاري (128)، صحيح مسلم (32) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري (5401) عن عتبان بن مالك رضي الله عنه وفيه اختلاف يسير.
[5] المصدر السابق نفسه.
[6] صحيح البخاري (99).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن مما جاء به سيدنا محمد من الهدى والسنن الإكثار من النسل كما ذكرنا في الخطبة الماضية. الإكثار من النسل لإكثار عدد أمة لا إله إلا الله لو لم يكن يا مسلم في هذا إلا أن تغيظ أعداء الله وتعظم النكاية بهم، عليك أن تحرص على ذلك فكيف وإن علمت أن هذا من أسباب قوة المسلمين ومنعتهم، وكيف وقد سمعت أن النبي يباهي بنا وبكثرتنا، يباهي بكثرتنا الأمم والأنبياء يوم القيامة فعليك يا مسلم عليك بهذا الأمر النبوي، ساهم في إكثار عدد أمة محمد والسبب الرئيسي في هذه المكاثرة هو الإكثار من الزواج وتيسير أسبابه هذا هو سبب المكاثرة، مكاثرة أمة محمد ولذلك كان الزواج هو سنة سيدنا محمد وسنة الأنبياء من قبله الزواج والتعدد في الزواج هو سنة المصطفى وهى سنة أتباعه من بعده، ومن هم أتباعه الذين يخاطبون بهذه السنة، هم الذين فهموا دين الإسلام وتعلموا منه العدل والرحمة والوفاء بالحقوق، فنحن إنما نخاطب بهذه السنة أهل الوفاء والرحمة والعدل وأداء الحقوق، أما أهل الظلم الذين لا يعرفون الوفاء ولا يؤدون الحقوق ولا يعدلون في المعاملة، فإن عليهم أولاً أن يتعلموا من إسلامهم، يتعلموا الرحمة والعدل والوفاء وأداء الحقوق، قبل أن يلتفتوا إلى هذه السنة، فالزواج هو سنة المصطفى والتعدد هو سنة المصطفى فعليك يا مسلم يا من تعلمت من دينك الرحمة والعدل والوفاء وأداء الحقوق عليك بهذه السنة وعليك أن تعلم أنها مرتبطة بشريعة العدل أنها مرتبطة بشريعة الوفاء، أنها مرتبطة بشريعة الرحمة.
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله : ((النكاح سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، فتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم)) [1].
ومعنى قوله : (فتزوجوا) أي تزوجوا مرة ومرة بعد مرة إلى الحد الذي ضربه الله لنا في كتابه وهو الأربعة كما قال الله عز وجل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [النساء: 3].
جعل الاقتصار على واحدة رخصة لمن يخافون من أنفسهم ألا يعدلوا في المعاملة ألا يقوموا بالحقوق، ألا يقوموا بواجب الوفاء والرحمة، والرخصة في الاقتصار على واحدة إنما شرع لضعفاء الهمة لضعفاء المال لضعفاء الإمكانات.
أما قوى الإيمان أما قوى الهمة أما قوى العدل أما قوى الإمكانات في ماله في جَدّه فعليه بسنة المصطفى عليه أن يتزوج واحدة ثم يتزوج الثانية حتى لا يرهق الأولى بكثرة الأولاد والأعباء يتزوج الثانية والثالثة والرابعة إن استطاع هذه هي سنة المصطفى فعليك بها يا مسلم يا أهل العدل والرحمة والوفاء عليكم بسنة المصطفى ولا تعبئوا بتلك العادة الإفرنجية الكاثوليكية التي تسللت إلى حياتنا نحن المسلمين في عصرنا الحاضر. عادة إفرنجية كاثوليكية تسللت إلى حياتنا نحن المسلمين في العصر الحاضر فجعلت الزواج من أصعب الأمور وجعلت التعدد أشد منه صعوبة في نفوس المؤمنين والمؤمنات.
صار هذا ثقيلاً وصعبًا على نفوس المؤمنين والمؤمنات، وليعلموا جميعًا أن هذا من تأثير اليهود والنصارى على حياتنا المعاصرة.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن ما شئت فكما تدين تدان، ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله في كتابه المبين: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين وأبي السبطين علىّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] سنن ابن ماجة (1846).
(1/455)
انبثق الوليد ( رمضان )
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, فضائل الأعمال
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انقضاء الأعمال من غير بركة. 2- رمضان شهر البطولة والأمجاد. 3- رمضان شهر
القرآن ، وحال السلف فيه مع القرآن. 4- الإنفاق والإطعام في رمضان. 5- رمضان شهر
القيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن عظم رمضان وجماله، وبهاء الشهر العظيم وروعته، بدا ظاهرا جليا فيما يلتزمه المسلمون في شهرهم هذا من مظاهر الطاعة في كل اتجاهاتها، طاعة فيها كل معاني السمو الروحي، التي تكبح جماح النفس عن نزواتها، وتحد من هفواتها وشهواتها، تتغلب فيه الروح على البدن والجسد، وتكون النفس المؤمنة، أكثر استعدادا لقبول نفحات خالقها ـ جل وعلا ـ.
عباد الله، قبل ليال، انبثق في كبد السماء، هلال رمضان الوليد، انبثق ذلك الوليد؛ ليعلم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، أن خالقهم قد آذنهم بشهر، له في مجتمعهم تأثير، وفي نفوسهم تأديب، وفي مشاعرهم إيقاظ، وكأنه لهم موسم ربيع، انبثق ذلك الوليد بعد أن ظلوا أحد عشر شهرا، وهم سائرون في مسالك الحياة، ينالون منها، وتنال منهم. انبثق ذلك الوليد، فتساءل الناس في دهشة وذهول، ما أسرع ما عادت الأيام، ورجعت الذكريات!.
إن الزمن، يجري بسرعة عجيبة، فهو دائب الحركة ليلا ونهارا، يتساءل الناس من كان بلغ العشرين من عمره، أو الثلاثين، أو أكثر أو أقل يتساءل عن تلك الأيام التي عاشها، والليالي التي قضاها، فلا ينفك يراها ماضيا تركه خلفه، لن يعود له مرة أخرى.
يشعر الناس جميعا بذلك صغيرهم وكبيرهم لا سيما عند لقاء ربهم حفاة عراة غرلا قَـ?لَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى ?لأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ?لْعَادّينَ [المؤمنون:112، 113].
على هذه البسيطة، يشب الطفل، ويشيخ الشاب، ومع ذلك ينظر المرء إلى عمره، فلا يجد إلا ماضيا لا يدري ما أوله وآخره، ولكن المرء الذي لا يدري ما كان، يجب أن يعلم، أن الله سجل عليه كل ما كان هَـ?ذَا كِتَـ?بُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِ?لْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29].
أيها المسلمون، تعارف كثير من الناس، على أن يتخذوا من رمضان، شهرا للتراخي والكسل، والتخفف من الجد في العمل، مع أن رمضان في تاريخ الإسلام، شهر جد واجتهاد، بل هو شهر بطولات وأمجاد، بطولات وأمجاد بكل ألوانها وأنماطها، بطولة الصراع في الميدان، بين الكفر والإسلام، وبطولة اليقين والإيمان، وبطولة التأبي على الشهوات، وبطولة الترفع عن خسيس الملذات. ولرمضان من كل هذه البطولات، حظه الوافر، في الماضي والحاضر، من تاريخ الأمة الإسلامية.
رمضان شهر مبارك يلمح فيه المسلم عدة خصال، فهو شهر القرآن إنزالا ومدارسة، شهر القرآن يوم يلقى جبريل ـ عليه السلام ـ رسول الله فيدارسه القرآن، شهر القرآن، وما أدراك ما شهر القرآن؟! إن الإنسان بلا قران، كالحياة بلا ماء ولا هواء، بل إن الإفلاس، متحقق في حسه ونفسه، ذلك أن القرآن، هو الدواء والشفاء وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ?لظَّـ?لِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82]. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44].
شفاء القلوب وشفاء الأبدان، فكلما ضاقت أمام المرء مسالك الحياة وشعابها، وافتقد الرائد عند الحيرة، والنور عند الظلمة، وجد القرآن خير الملجأ، لا يمل حديثه، وترداده يزداد به تجملا وبهاء، وجد في القرآن الملجأ والمعتصم إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لصَّـ?لِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].
كان بعض السلف، يختم في رمضان، في كل ثلاث ليال، وبعضهم في سبع، وبعضهم في عشر. وكان للشافعي ـ رحمه الله ـ، ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وكذا عن أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ، وكان مالك ـ رحمه الله ـ، إذا دخل رمضان، أقبل على تلاوة القرآن، وترك قراءة الحديث، وإنما ورد النهي عن النبي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث، على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن، وهذا قول الإمام أحمد وإسحاق، وغيرهما من الأئمة.
هذا الشهر المبارك، شهر القرآن، يشد الناس إلى الدين، يذكرهم بحق الله، تشم رائحة الدين في كل مجلس تجلس فيه، تحس بإقبال الناس على كتاب الله، يقرؤونه، ويسمعونه، ويتدبرون آياته، إنه يرفع في نفوس الناس درجة الاستعداد، لتغيير ما في النفس، حتى يغير الله ما بهم إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
يشعرهم القرآن بضرورة هذا الدين لهم، كضرورة الماء والهواء، وإن كل أمة تهمل أمر دينها وتعطل كلمة الله في مجتمعها، فإنما تهمل أعظم طاقاتها، وتعطل أسباب فلاحها في الدنيا والآخرة، وكل أمة يفقد التدين في مجتمعها، تضطرب أمورها، ويموج بعضها في بعض، ويقلب الله عزها ذلا، وأمنها خوفا، وإحكامها فوضى.
وشهر رمضان: شهر الجود وسعة العطاء: ففي الصحيحين من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ((كان النبي أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريل، أجود بالخير من الريح المرسلة)) [1].
فرسول الله أجود بني آدم على الإطلاق، وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله ـ تعالى ـ في إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم.
ومن هنا نعلم أن هذا الشهر المبارك، عون للمسلم على الجود، فسكون النفس، وخفتها في المأكل والمشرب، وكثرة المدارسة للقرآن، الذي يحث على المكارم والجود، كل ذلك له تأثير في الواقع.
فالجمع بين الصيام والصدقة، موجب من موجبات الجنة قال رسول الله : ((إن في الجنة غرفا، يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها)) قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)) [رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه] [2].
فيا أيها الأغنياء في كل قطر، ويا أيها الأثرياء في كل مصر، إن كان الله ـ تعالى ـ قد تفضل عليكم ورزقكم من الطيبات، وأغناكم عن الحاجة، وصان وجوهكم عن مذلة السؤال، فقد وجب عليكم أن تشكروه على ما منحكم لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
اتقوا الله في البؤساء، الذين أصابتهم الشدائد، والفقراء المحتاجين، من أرباب العيال.
فمن القسوة أن تمنعوا المعونة، وتقبضوا أيديكم شحا وبخلا، أمن الرحمة أن تكونوا في رغد من العيش، وسعة من الرزق، ومن أبقت عليهم صروف الحياة، في شدة من الضيق، وألم من الإعسار؟ أمن المروءة أن تتمتعوا بملابس الزينة، وأخوكم المسلم، يحرقه حر الصيف، ويقرصه برد الشتاء.
إن الغني الذي لا يحس بأن عليه للفقراء حقوقا وواجبات، لقاسي القلب، خال من الشفقة، بعيد من رحمة الله إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]. ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) [أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح] [3].
إن من الأغنياء، من لا يئن لمتألم، ولا يتوجع لمستصرخ، ولا يحن لبائس، تجرد من العاطفة وحنان الإخاء، يقع أمامه من الحوادث، ما يؤلم القلب ويدمع العين، فلا يتأثر ولا يلين، بل تجده كالصخرة الصماء، وما علم أولئك أن مالك الملك، وخالق الخلق، قادر على أن ينزع عن الغني لباس الغنى، ويعطي البائس الفقير ما يرضيه من متاع الحياة قُلِ ?للَّهُمَّ مَـ?لِكَ ?لْمُلْكِ تُؤْتِى ?لْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ ?لْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ ?لْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:26].
فاتقوا الله أيها الأغنياء، واصنعوا المعروف في أهله ما استطعتم، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون، واعلموا أن ما يضيعه البعض منكم في الكماليات لكثير، وقد ينفق في لحظة قصيرة ما يكفي البائس الفقير زمنا طويلا، فأدخلوا السرور على المساكين بالبر والإحسان، لعل الله أن يرحم الجميع، ويكشف ما بهم من ضيق وشدة، وذل وبلاء.
عباد الله، كما أن شهر رمضان، شهر جود وإنفاق، فهو كذلك شهر قيام لله ـ تبارك وتعالى ـ، قال رسول الله : ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه] [4].
ي?أَيُّهَا ?لْمُزَّمّلُ (1/456)
أحداث مكة وموقف الشيعة من أهل السنة
أديان وفرق ومذاهب
فرق منتسبة
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – ديمومة الصراع بين الحق والباطل
2 – وصية رسول الله بالتمسك بالسنة ومخالفة الرافضة لها
3 – نظرة الشيعة إلى أهل السنة وتاريخهم الأسود
4 – فارسية مذهب الشيعة وشعوبيته
5 – الفتنة التي أراد الشيعة إشعالها بمكة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وميدان جهاد ومصابرة، واعلموا أن الصراع بين الحق والباطل مستمر منذ أهبط آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض، وسيستمر إلى ما شاء الله؛ فالحق يحمله الرسل وأتباعهم من العلماء والمصلحين؛ يوضحونه للناس، ويبصرونهم به، ويكشفون عنه الشبه، ويجاهدون في سبيله، والباطل يحمله الشيطان وجنوده من شياطين الجن والإنس؛ مستخدمين لترويجه كل وسائل الدعاية والمغريات تارة، وتارة يلبسون باطلهم ثياباً إسلامية؛ ليغروا به السذج والبسطاء وينشروا باطلهم باسم الإسلام، والإسلام منهم براء وهو يحاربون الإسلام والمسلمين باسم الإسلام؛ فهم من الذين زين له سوء عمله فرآه حسناً.
عباد الله: لقد أوصى النبي أمته بالتمسك بسنته r فعن العرباض بن سارية؛ قال: وعظنا رسول الله يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة؛ ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع؛ فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟! قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي؛ فإنه من يعش منكم؛ ير اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ)) [1]
فالرسول أوصى بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين.
ولكن بعضاً ممن سول لهم الشيطان واتخذهم خيلاً له ورجلاً؛ تنكبوا السنة، وعادوا من تمسك بها، وسبوا أصحاب النبي وخلفاءه الراشدين، وافتروا عليهم، بل وكفروا بعضهم، عياذا بالله من تلك الفئة وعملها، وهذه الفئة هم من يسمون أنفسهم اليوم بالشيعة الرافضة، شر من وطئ الحصا.
عباد الله: وعداوة الشيعة لأهل السنة شديدة، وتلك العداوة والبغض متأصلة في نفوسهم منذ أن اعتنقوا عقيدة التشيع الفاسدة أصلا ومنهجاً، ولا عجب؛ فإن الحية لا تلد إلا حية، ومن يستقرئ التاريخ؛ فإنه يجد المآسي والمجازر التي أقامها الشيعة ضد أهل السنة، وتحالفهم مع أعداء الإسلام أشهر من أن يذكر.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (الشيعة ترى أن كفر أهل السنة أغلظ من كفر اليهود والنصارى؛ لأن أولئك عندهم كفار أصليون، وهؤلاء مرتدون، وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلى).
عباد الله: إن للشيعة الروافض مواقف خيانة غادرة بأهل السنة، سجلها التاريخ عليهم في مصادره الوثيقة، وذلك أن الرافضة عاشوا أكثر فترات حياتهم أو كلها تحت الذل والإهانة؛ جزاء مواقفهم، واتهامهم لأصحاب رسول الله بالخيانة، وسبهم لهم، وادعائهم عليهم أنهم انقلبوا على أعقابهم، فارتدوا عن الإسلام إلا القليل منهم، وأصحاب رسول الله هم الذين نشروا الإسلام ومدوه بدمائهم وأموالهم، فأذل الله تلك الطائفة التي أسس عقائدها عبد الله بن سبأ اليهودي الماكر، ولذلك؛ فقد عاشت متلبسة بالنفاق الذي تسميه التقية، فإذا وجدت حكومة إسلامية قوية في أي زمان؛ تملقوها بألسنتهم، ونافقوها بأعمالهم؛ مظهرين لها الإخلاص والولاء والتفاني والمدح والثناء عليها لقصد أخذ الأموال، وتبوء المناصب، وإذا تمكنوا من الفوز بتلك الدولة والفتك بالمسلمين من أهل السنة – حاكمين ومحكومين، علماء وعامة، رجالا ونساء، شيوخاً وأطفالاً -، انقضوا عليهم انقضاض الأسد على فريسته، وبأي أسلوب كان هذا الفتك والتدمير؛ فتجدهم يوالون الكفار والمشركين ويساعدونهم، ويقدمون لهم كل عون للوصول إلى القضاء على الإسلام والمسلمين، والواقع شاهد بذلك.
وسأقتصر على ذكر حادثة واحدة من غدرهم وخيانتهم للإسلام والمسلمين سجلها التاريخ على الوزير الرافضي ابن العلقمي؛ ليتبين لمعاشر أهل السنة من ذلك ماذا يريد الروافض بأهل السنة إذا سنحت لهم الفرصة.
قال ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية): (كان ابن العلقمي وزيراً للخليفة العباسي المستعصم بالله، وكان ابن العلقمي شيعيا رافضيا، والخليفة سني على طريقة واعتقاد الجماعة كما كان أبوه وجده، لكن كان فيه لين وعدم تيقظ، فكان وزيره الشيعي الرافضي يكيد للدولة العباسية من حين لآخر، يخطط لها لإبادة أهل السنة ودولهم وإقامة دولة رافضية.
وبحكم منصبه وزيراً للدولة وغفلة الخليفة؛ اجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريباً من مائة ألف مقاتل، فيهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم، إلى أن لم يبق منهم سوى عشرة آلاف، كلهم قد صرفوا عن استقطاعاتهم، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، ولما تم له ذلك، وأصبحت بغداد بلا جيش يدافع عن الإسلام والمسلمين؛ كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال وحينما قدم التتار بغداد بقيادة سلطانهم هولاكو خان في صحبته مستشاره النصير الطوسي إلى بغداد؛ كان أول من برز إلى ملاقاته ابن العلقمي، فاجتمع بهولاكو،ثم عاد وأشار على الخليفة العباسي المعتصم بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، وظل يقنع الخليفة، إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو؛ حجبوا عن الخليفة؛ إلا سبعة عشر نفساً، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم، ونهبت، وقتلوا عن آخرهم، فاجتمع الخليفة بهولاكو، ثم عاد الخليفة إلى بغداد في صحبته النصير الطوسي وابن العلقمي وغيرهما...فأحضر شيئاً كثيراُ من الذهب والجواهر، فلما عاد الخليفة إلى هولاكو؛ أمر بقتله، ويقال: إن الذي أشار بقتله هو ابن العلقمي والطوسي)
يقول ابن كثير رحمه الله: (بعد قتل الخليفة مالوا على البلد، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشباب، ودخل كثير من الناس في الآبار والحشوش، يكمنون أياماُ لا يظهرون، ويهربون إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري أودية من الدماء في الشوارع، وكذلك عملوا بمن في المساجد والجوامع، ولم ينج منهم أحد سوى ا ليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار ابن العلقمي الرافضي الذي دبر هذه المكيدة للمسلمين الأبرياء، حتى ذكر أن عدد القتلى ألف ألف وثمانمائة ألف.
عباد الله!
هذه خلاصة عما سجله ابن كثير رحمة الله عن هذه الخيانة العظمى للإسلام والمسلمين، وتحكي واقع الشيعة الروافض، من تربص وكيد بأهل السنة في كل زمان؛ فهل يعي المسلمون ما يحاك ضدهم؟! وهل يفيقوا من غفلتهم، وينتبهوا من سباتهم، ويعلموا أبناءهم ما يبيته الروافض لأهل السنة؛ لأن الرافضة يغرسون في نفوس أطفالهم بغض الصحابة، ويشعرونهم بأن أهل السنة أعداء لهم، وأنهم كفار يجب القضاء عليهم وعلى دولتهم؛ في حين أن أغلب أبناء أهل السنة لا يعرفون عن عقائد الروافض شيئاً؟!
عباد الله؟!
شباب الإسلام!
وهذه أمور لابد من معرفتها جيداً:
الأول: أن معظم الفرق الباطنية المتفرعة عن الشيعة لها جذور فارسية، وإن أظهروا ولاءهم لغير الفرس؛ فهي ألعوبة وكذب.
الثاني: أن الشيعة وسائر فرق الباطنية التي تتفرع عنها يتعمدون إصدار التصريحات المتضاربة، ويفتعلون الخلافات؛ فهذا يهدد بتصدير الثورة، وبعد أن يصبح هذا التهديد حدث العالم، يصدر مسؤول آخر تصريحاً يؤكد فيه أن ثورتهم غير قابلة للتصدير، وأن الذي أصدر التصريح الأول ليس مسؤولاً...
وما تصريحات حكام إيران هذه الأيام من ذلك ببعيد، فهي تنسج على المنوال نفسه، وتستخدم الأساليب التي يستخدمها الباطنيون نفسها، في نشر دعواهم وفوضاهم التي لا يأمن الإنسان في ظلها على نفسه وماله وعرضه، بل ويستغلون هذه الفوضى، فيعمدون إلى تصفية خصومهم، وإرهاب من لم يستطيعوا تصفيته، وما حادثة مثل حادثة إحسان إلهي ظهير رحمه الله إلا نموذج من هذا.
الثالث: ينظر الباطنيون الرافضة إلى المسلمين العرب بمنظار الحقد والكراهية، لا لشيء؛ إلا لأنهم هدموا مجد فارس، وقهروا سلطان كسرى، والتاريخ خير شاهد على عمق تعاونهم مع الكفرة والمشركين، والاستعانة بهم ضد السنة المسلمين، وشيعة هذا الوقت قد اتخذوا سراديب مظلمة بينهم وبين اليهود؛ فهم مطايا لأعداء الإسلام في كل عصر ومصر، وواهم جدار من أحسن الظن بهم.
الرابع: للباطنيين الرافضة جذور اشتراكية قديمة، ذلك لأن القرامطة غصن من غصون تجربتهم الخبيثة.
الخامس: ليس في عقيدتهم أصول تمنعهم من المحرمات أو تردعهم عن فعل المنكرات؛ فإيمانهم بالتقية جعل منهم أكذب أمة، وعقيدتهم في المتعة جعلت من معظمهم زناة بغاة، ووقاحتهم مع أصحاب رسول الله سهلت عليهم شتم المؤمنين وتكفيرهم والافتراء عليهم.
هذه الأصول وغيرها لابد أن يتذكرها المسلم عند قراءة كتب الرافضة، وعند متابعة أنشطتهم، وتقويم منهجهم ومخططاتهم، وعند تجاهل هذه الأصول؛ سيجد من يتصدى للحكم عليهم نفسه أمام متناقضات وقضايا متضاربة؛ فقد يحكم عليهم من خلال رأي سمعه من أحد زعمائهم، ويقبل هذا الرأي؛ لأنه لا يعلم أن عقيدة هذا الزعيم تبيح الكذب.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
قد يقول قائل: إن شيعة اليوم معرضون عن الخلافات القديمة التي وقعت بين أسلافهم وأهل السنة، حريصون على وحدة المسلمين!!
ولكن قائل هذا قد جانب الصواب؛ فشيعة اليوم أكثر سوء من شيعة الأمس، ومذهبهم ما قام في الأصل إلا لنقض عرى الإسلام، وزعزعة أركان هذا الدين، وإشاعة الفرقة بين المسلمين، والفتك بهم إذا تمكنوا من ذلك.
عباد الله!
ومن عرف الدور الذي قام به ابن العلقمي الوزير الرافضي من الفتك بالمسلمين؛ فإنه لا يستغرب ما وقع حول الحرم المكي الشريف؛ فإن الذي جرى حول الحرم المكي لم يكن مظاهرة، وإنما كان مؤامرة، ولم يكن مجرد مسيرة نظمها الحجاج الإيرانيون في مكة كما أرادوا تصويرها، وإنما كانت محاولة واضحة ومكشوفة لتوسيع نطاق حرب الخليج، وهي محاولة خطط لها النظام البائس في طهران، وأرادو نقل الاضطرابات إلى قلب الجزيرة، وهز الأمن والاستقرار.
لقد آن الأوان لإسقاط القناع الزائف عن وجه الثورة الإيرانية، وحان الوقت لكشف حقيقة الحرب بين إيران والعراق؛ فهذه حراب فارسية عربية، والإسلام منها براء، وليس الإسلام هو الذي يؤجج مشاعر الإيرانيين بقدر ما تشعلها النصرة الفارسية، وإحياء تلك النعرة الخطيرة بدأ قبل الثورة الإيرانية، التي لا أريد أن ألوث أسماعكم بزعمائها، وقبل سقوط الشاه بوقت، حينما نظم الشاه قبيل سنوات قليلة من سقوطه احتفالات ضخمة ومهرجانات هائلة لإحياء ذكرى قورش ( عظيم من عظماء فارس )، دعا عدداً كبيراً من خارج إيران للحضور، وقدم للحضور لحم الطاووس؛ احتفاء بهذه المناسبة.
وسقط الشاه، وبقيت النعرة التي أيقظها، نعرة أهل فارس وبقايا الإمبراطورية الفارسية التي أسقطها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً من الزمان وكأنها كانت إمبراطورية من القش.
وعندما قامت الثورة الحالية، واشتغلت إيران في حربها مع العراق؛ ركب زعماء الثورة موجة الفارسية العاتية في مشاعر الإيرانيين، وراحوا يصبغونها بالإسلام، ويجعلون من هذا المزيج القوي دافعاُ يجعل الإيرانيين يتسابقون إلى ساحات القتال؛ رافعين الصور...
وحتى نتأكد أن ما جرى حول الحرم إنما هو مؤامرة، وأن الذين نفذوها لم يقدموا من أجل الحج؛ علينا أن ننظر إلى تلك الأعلام الكثيرة والسكاكين واللافتات وغيرها، بل لقد نشرت جريدة عكاظ في عددها الصادر يوم الأربعاء الثامن عشر من هذا الشهر (ذى الحجة)، نشرت صورة لبطاقة دعوة مطبوعة، وزعها عملاء في المشاعر، أنقل ما فيها لكم بنصها:
كتب في أعلاها: بسم الله تعالى؛ تعظيماً لشعائر الله، وإحياء لسنة رسول الله، ندعوكم أيها المؤمنون للاشتراك في مسيرة البراءة من المشركين، الزمان: يوم الجمعة السادس من ذي الحجة (1407 هـ)، الساعة الرابعة والنصف عصراً، المكان مكة المكرمة، ميدان المعابدة.
كتبوا بسم الله؛ ذراً للرماد في العيون، استخدموا اسم الله فى الدعوة إلى العدوان.
ثم إن مسيرة من المؤمنين تكون في بلاد المشركين،فانظر كيف يعبدون زعماءهم ويطيعونهم في تحليل ما حرم الله من انتهاك حرمة البلد في الأشهر الحرم في البيت الحرام، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباُ من دون الله.
ثم ادعوا باطلاً أن عملهم الإجرامي هو اتباع لسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، والرسول يقول فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم،ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه)) (1).
وزعموا أن عملهم هذا تعظيم لشعائر الله؛ فمتى كان تعظيم شعائر الله بانتهاك حرمة بيته وحرمة أشهره الحرم وحرمة عباده المسلمين؟! إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
وليس الخبر كالعيان؛ فلقد نشرت الصحف صوراً لتلك الفتنة كاملة، صوراً تستفز المشاعر إلى أقصى درجة، تجمع هائل ملأ ساحات مكة المكرمة، وروعوا الآمنين، ودهسوا الأبرياء تحت أقدامهم، وأساءوا إلى قدسية المكان، من مكان تجتمع فيه القلوب، تتجه إلى الله العلي القدير بالدعاء وطلب المغفرة، تأتي إليه من كل فج عميق؛ ليحولوه إلى مشهد دام ومأساوي؛ فأي إيمان لمن فعل هذه الأفاعيل؟!
عباد الله!
إن أي عاقل لا يمكن إلا أن يدرك أن وراء هذا السيل الجارف من البشر خططا إرهابية وأهدافاً عدوانية ضد المسلمين ومقدساتهم.
عباد الله!
إن السؤال الذي يملأ نفس المسلم بالمرارة والأسى والذهول: أيمكن لمن يحرقون القرآن، ويكذبون على رسول الله ، ويسبون أصحابه، ويجعلون الكذب من دينهم؛ أيمكن لمن يقفون هذه المواقف أن يكونوا مسلمين؟!
عونك اللهم! فإن الجواب رهيب.
اللهم! آمنا في أوطاننا وأصلح ولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة يا رب العالمين !
اللهم! ومن أراد المسلمين بسوء؛ فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا رب العالمين !
اللهم! أهلك سلائل المجوس، واجعل شر ما صنعت أيديهم في نحورهم يا رب العالمين!
اللهم! زلزل ملكهم، ودمرهم تدميراً.
اللهم! إن زرعهم قد نما؛ فقيض له يداً من الحق حاصدة
اللهم! ردنا إليك رداً جميلاً
اللهم! اهد ضال المسلمين
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء.
اللهم! صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (1).
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
[1] د رواه الترمذى، قال :"حسن صحيح"
(1) رواه البخارى.
(1) النحل :90.
(1/457)
دور اليهود في إفساد الأخلاق
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
أديان, مساوئ الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
6/7/1409
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
خصال اليهود ووصفهم في القرآن , وحالهم مع أنبيائهم ورسلهم – الناظر في نصوص الشريعة
يدرك أهمية العقيدة والأخلاق , وأنهما يمثلان قاعدتين استراتيجيتين – خطورة العبث في العقيدة
والأخلاق – دور اليهود في إفساد أخلاق الأمة – التوجيهات القرآنية للمرأة المسلمة ( القرار في
البيت – عدم الخضوع بالقول )- دور الأمة في إبطال كيد اليهود
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد وصف الله عز وجل اليهود في كتابه بأنهم مصدر الحروب ومشعلوها ومصدر الفساد وناشروه وهذه حقيقة فسرتها الوقائع قديمًا وحديثًا، فقديمًا كان اليهود أعداء الله والرسل يقتلون الأنبياء بغير حق ويحاربون رسالات الله ثم أصبحوا أعداء البشرية جميعًا ويسمون ما سوى اليهود من البشرية: "الأمميين" ويحرصون بكل الوسائل على تدميرهم بإشعال نار الحروب بين هؤلاء الأمميين بتدمير عقائدهم وإفساد أخلاقهم أولاً، ثم ليسهل عليهم تدمير كيانهم ثانيًا. وذلك لأن أي أمة إذا اختلت عقيدتها وفسدت أخلاقها انهار كيانها.
فالمتفقّه في نصوص الشريعة الإسلامية يخرج بنتيجة هامة في هذا الصدد هي أن أهم وأخطر قاعدتين إستراتيجيتين في حياة الأمة المسلمة هي عقيدتها وأخلاقها العامة ولذلك فإن أي هجوم يتهدد هاتين القاعدتين الاستراتيجيتين فإنه يجب أن يعتبر بمثابة هجوم عسكري صريح للاحتلال، لأن تهديد عقيدة الأمة وتهديد أخلاقها العامة معناه تدمير الأمة واحتلالها ولذلك أيضًا فإن أي فرد من أفراد الأمة أو أي مجموعة في الأمة تحاول العبث في عقيدة الأمة أو أخلاقها العامة فإنها تشكل أخطر تهديد داخلي وترتكب أقبح وأخبث خيانة بحق الأمة لأنها بعبثها بأخلاق الأمة العامة، بالأخلاق العامة للأمة أو بعبثها بعاداتها فإنها تنفذ فعلاً مخططات اليهود الخبيثة الماكرة شعرت بذلك أو لم تشعر، قال الله تعالى في وصف اليهود كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين [المائدة:64]. فاليهود دائمًا يشعلون نار الحروب بين البشرية بين الأممين ويسعون أولاً إلى نشر الفساد الخلقي في مجتمعات الأممين حتى يسهل عليهم بذلك تدميرهم والسيطرة عليهم.
إنهم لا يتورعون عن ارتكاب واستخدام أي وسيلة لتحقيق أهدافهم الماكرة وأغراضهم الخبيثة. المرأة مثلاً يفسدونها ويغرونها للانطلاق في مجالات الفساد حتى إذا وقعت في حبائلهم الماكرة ومكائدهم المدمرة وخرجت المرأة من مملكتها الربانية من بيتها وتمردت على آدابها الشرعية استغلوها إذن أبشع استغلال لإفساد الأخلاق العامة للأمة.
انظر مثلاً في مجتمعات، انظر كيف اجترءوا على إبراز المرأة على شاشات التلفاز وعلى صفحات المجلات. أبرزوها وأظهروها متجردة من الحياء والحشمة متبرجة تصرخ مفاتنها بالتدمير والفساد للأخلاق العامة للأمة، تصرخ فتنتها على شاشات التلفاز وصفحات المجلات بتدمير الحصانة الخلقية والأدب الرفيع الذي ربانا عليها إسلامنا تصرخ فتنتها على شاشات التلفاز وصفحات المجلات بتدمير أخلاقنا السامية الرفيعة التي حصَّن الإسلام بها مجتمعات المسلمين.
أي مكيدة يهودية خبيثة هذه وأي هجوم صارخ خبيث على أخلاق الأمة لقد استغلوا المرأة أبشع استغلال وهذه خطة يهودية ماكرة معروفة إن هذا الذي ترونه في مجتمعات المسلمين على شاشات التلفاز أو على صفحات المجلات بهذا الشكل تمرد معلن على آداب القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى شرع للمرأة في كتابه الكريم مبادئ أساسية وآدابًا شرعية.
قال عز وجل مخاطبًا النساء المسلمات، مخاطبًا النساء في المجتمع المسلم: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا [الأحزاب: 33].
هذا هو المبدأ الذي شرعه الله عز وجل للنساء في كتابه فماذا تقول شاشات التلفاز وصفحات المجلات في مجتمعاتنا المسلمة إنها تصرخ وتقول بكل وقاحة: لا تقرن في بيوتكن بل أخرجن من بيوتكن، تبرجن وتحررن من الحياء والحشمة لا تقمن الصلاة لا تؤتين الزكاة ولا تطعن الله ورسوله حتى ينتشر الرجس في صفوف الأمة وتصبح الطهارة بين شبابها أحلامًا وأوهامًا.
من الآداب القرآنية التي شرعها ربنا عز وجل للنساء في مجتمعات المسلمين قوله تعالى: فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [الأحزاب: 32] فماذا تقول شاشات التلفاز وأجهزة الأعلام في مجتمعات المسلمين؟ إنها تحرض المرأة وتدعو المرأة للخضوع في القول بل إن خضوع المرأة بالقول في الأغاني الهابطة الساقطة ركن أساسي في برامج الإذاعات والتلفاز، فأي تمرد هذا أي تمرد معلن على مبادئ قرآننا وآداب شريعتنا المطهرة هذه من مكائد اليهود الماكرة الخبيثة التي حاكوها في الخفاء لكنها أصبحت معروفة معلنة التجارب من حولنا والوقائع في التاريخ، الوقائع قديمًا وحديثًا تتحدث عن هذه المكائد الخبيثة اليهودية الماكرة ولكننا نحن المسلمين ما أسهل وقوعنا في هذه الحبائل والمكائد اليهودية الماكرة الخبيثة. نقع فيها بكل سذاجة وسهولة ويسر ولكن كيف نتفرج نحن أفراد الأمة، كيف نتفرج على أخلاقنا العامة وعلى أعراضنا وهي تنهشها ليل نهار مخالب يهودية الطابع، إن كل فرد من أفراد الأمة المسلمة مسئول لأنه هو المقصود بهذا الغزو اليهودي الصارخ فعلى كل فرد منا أن يكافح هذا الغزو اليهودي الصارخ بما يستطيع.
لو أن كل فرد في المجتمع المسلم فعل ما يستطيع ضد هذه المكائد اليهودية الخبيثة لفشلت والله واندحرت ولكننا غافلون نائمون لا نحرك أيدينا ونحن نقدر على تحريكها لا نحرك ألسنتنا ونحن نقدر على النطق بها لا نحمي أعراضنا وأخلاقنا ونحن قادرون على ذلك، فحينئذ لا يلومن كل رب أسرة كل صاحب بيت كل أب أبناء وبنات لا يلومن إلا نفسه إذا وصل الحريق إليه إذا وصل الحريق إلى بيته وإلى أبنائه وبناته وأخواته ونسائه ثم نشتكي بعد ذلك من تفاقم الأزمات واشتداد المحن والأزمات من تفاقم المحن الاجتماعية على وجه الخصوص التي ملخصها وموجزها أن أوجه الحلال أصبحت محاطة بالصعوبات والتعقيدات والإعاقات والعراقيل التي صنعناها بأنفسنا بجهلنا وغفلتنا حتى عزف كثير من الشباب عن أوجه الحلال بينما أوجه المحرمات ومسالكها متاحة ميسرة وأبوابها مفتوحة مشرعة والشباب يجد كل تشجيع وكل دعم وإغراء لاقتحامها والأقدام عليها حتى إذا لم يوجد وجه من أوجه الحرام لدينا ووُجد عند غيرنا وجد شبابنا من يشجعه على شد الرحال والسفر إليها ويدعمونه وييسرون له ذلك بكل الوسائل والمغريات نشتكي من تفاقم الأزمات الاجتماعية هلاّ أوقفنا أولاً وقبل كل شيء هذا الهجوم الخبيث الماكر على أخلاقنا العامة وعلى أعراضنا، ماذا يجدي أن تصنع أي شيء قبل إطفاء الحريق وإنقاذ البيت من النار. أطفئ الحريق أولاً وأنقذ بيتك من الدمار والانهيار ثم بعد ذلك اصنع ما شئت في ترميم البيت وإعادة بناءه وترميم جدرانه وتقوية أركانه وإلا فلو ذهبت ترقع وترمم والحريق يقاومك ويغالبك ويسابقك فليس هذا حلاً مجديًا، أوقفوا أولاً الهجوم على حدودكم الحقيقية إن لكم يا مسلمون حدودًا حقيقية وحدودًا أرضية فاحرسوا حدودكم الحقيقية، احرسوا إيمانكم احرسوا عقيدتكم احرسوا أخلاقكم العامة وحصونها ودافعوا عنها كما تدافعون عن حدودكم الأرضية وكما تدافعون عن مناطقكم وحدودكم العسكرية، احرسوا حدودكم الحقيقية قبل أن تحرسوا حدودكم الأرضية.
يا عقلاء الأمة ما فائدة أن تحرسوا حدودكم الأرضية بكل ما أوتيتم من قوة وحدودكم الحقيقية إيمانكم وعقيدتكم وأخلاقكم العامة قد غزاها اليهود في عقر داركم وفي وسط بيوتكم وبين نسائكم وأبنائكم وبناتكم.
إذا حرستم حدودكم الحقيقية ودافعتم عنها حينئذ تنحل أزماتكم وتختفي مشكلاتكم وتحصلون على الأمن الحقيقي وعلى القوة الحقيقية وعلى السلامة الكاملة حينئذ فقط تنحلّ خطط اليهود، ويندحر هجومهم عليكم وتنطفئ نيران حربهم التي دأبوا على إشعالها، التي دأبوا على إذكائها دائمًا بينكم حينئذ فقط يتحقق وعد الله عز وجل بإطفاء تلك النار التي اعتاد اليهود أخبث خلق الله أعداء الأنبياء والرسل أعداء رسالات الله أعداء البشرية اعتادوا على إشعالها: كلما أوقدوا حربًا أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين [المائدة: 64].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد... فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب: 70،71].
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1]
اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/458)
الإخلاص وحقيقته وأنواعه
التوحيد
شروط التوحيد
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – مدار الأعمال على النيات
2 – معنى النية
3 – اختلاف الأجر لعلم واحد بإختلاف المقاصد والنيات
4 – الإخلاص في العبادات
5 – اول من تسعر بهم النار المراءون
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون !
اتقوا الله تعالى، وتوجوا أعمالكم بالإخلاص لله تعالى، واحرصوا على أن تكون صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتكون مقبولة عند الله تعالى.
عباد الله!
إن مدار الأعمال على النيات؛ فكل عمل لا يراد به وجه الله؛ فهو باطل لا ثمرة له فى الدنيا ولا فى الآخرة، إذ كان هذا العمل مفتقراً إلى النية؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) [1].
والنية عند العلماء يراد بها معنيان:
أحدهما: تمييز العبادات عن العادات؛ كتمييز الغسل عن الجنابة عن غسل التبرد والتنظيف، وتمييز العبادات بعضها عن بعض؛ كتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر مثلاً، وتمييز صيام رمضان عن غيره من صيام النوافل وما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المعنى الثاني للنية: تمييز المقصود بالعمل؛ هل هو لله وحده، أم لغيره؟
وهذا هو محل الاهتمام ومناط السعادة والشقاوة والثواب والعقاب؛ فقد يعمل شخصان مثلاً عملاً واحداً فى الصورة، يكون تعبهما متساوياً، لكن أحدهما يثاب والآخر لا ثواب له أو يعاقب؛ نظراً لاختلاف المقاصد.
فعن أبي هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم؛ قال: (( لخيل ثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذى له أجر؛ فرجل ربطها فى سبيل الله، فأطال لها فى مرج أو روضة؛ فما أصابت فى طيلها ذلك من المرج أو الروضة؛ كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين؛ كانت أثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر، فشربت، ولم يرد أن تسقي؛ كان ذلك حسنات له. ورجل ربطها تغنياً وتعففاً، لم ينس حق الله فى رقابها ولا ظهورها؛ فهى لذلك ستر. ورجل ربطها فخراً ورياءً ونواءً لأهل الإسلام؛ فهى على ذلك وزر)) 1.
عباد الله !
فالخيل هى دابة بالنسبة لهؤلاء الثلاثة، ولكن النية هى التى جعلت أحدهم يربطها فيؤجر، والآخر يربطها فيأثم، والآخر يربطها فلا يؤجر ولا يأثم.
فالمسلم مأمور بالإخلاص فى أعماله كلها؛ قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة 1
فالإخلاص ينبغى أن يكون فى التوحيد، وهو الأساس؛ قال (( إن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجهه)) 2.
وينبغى أن يكون الإخلاص فى التوكل، فعن أبي هريرة رضى الله عنه، عن رسول الله : ((أنه ذكر رجلاً من بنى إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء اشهدهم. فقال: كفى بالله شهيداً. فقال: ائتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلاً. قال: صدقت. فدفعها إليه على أجل مسمى، فخرج فى البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يركبه يقدم عليه للأجل الذى أجله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة، فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم! إنك تعلم أنى كنت تسلفت فلاناً ألف دينار، فسألنى كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضى بك، وسألنى شهيداً، فقلت: كفى بالله شهيداً. فرضى بذلك، وإنى جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذى له، فلم أقدر، وإنى أستودعكها. فرمى بها فى البحر، حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو فى ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذى كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله؛ فإذا بالخشبة التى فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها؛ وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذى كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله؛ ما زلت جاهداً فى طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذى أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إلى بشىء؟ قال: أخبرك أنى لم أجد مركباً قبل الذى جئت فيه. قال: فإن الله قد أدى عنك الذى بعثت فى الخشبة؛ فانصرف بالألف راشداً)) 1.
والإخلاص فى الصلاة سبب لقبولها ومغفرة الذنوب؛ فعن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه، عن النبي ؛ قال: ((ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق، فينتثر؛ إلا خرت خطايا وجهه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله؛ إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين؛ إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه؛ إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين؛ إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء؛ فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذى هو له أهل، وفرغ قلبه لله؛ غلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه)). 2
والإخلاص في الصيام سبب لمغفرة الذنوب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال
رسول الله : ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه)) 3.
والإخلاص فى الجهاد سبب لنيل الشهادة ومغفرة الذنوب؛ قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا؛ فهو فى سبيل الله)) 1 ، وعن أبى هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال : ((ما من مكلوم يكلم فى سبيل الله؛ إلا جاء يوم القيامة، وكلمه يدمى؛ اللون لون الدم، والريح ريح المسك)) 2.
عباد الله!
والإخلاص فى الصبر سبب لدخول الجنة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله قال: ((يقول الله تعالى: ما لعبدى المؤمن عندى جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه؛ إلا الجنة)) 3
والإخلاص فى أداء ما على الإنسان من الأموال التى للناس سبب لرفعة مؤديها؛ فعن أبى عبد الرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله يقول: ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل ،فسدت عليهم الغار، إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. وفيه: فقال أحدهم: اللهم نى استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم؛ غير رجل واحد، ترك الذى له وذهب، فثمرت أجره، حتى كثرت فيه الأموال، فجاءنى بعد حين، فقال: يا عبد الله! أد لى أجرى. فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله! لا تستهزئ بى. فقلت: لا أستهزئ بك. فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئا. اللهم! إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة)) 1.
فانظر أخى المسلم كيف فرج الله سبحانه وتعالى الصخرة عن هؤلاء المكروبين بسبب دعائهم بصالح الأعمال وإخلاصهم لله تعالى.
ألا فليسمع ذلك الذين يماطلون العمال أجورهم، ويستهزئون بهم، وربما أكلوا أجورهم، ولا يبخسوها، ولا يماطلوا بها.
عباد الله!
والإخلاص هو التاج على الأعمال، ولكنه ليس ادعاء؛ فإن الإنسان وإن ادعى الإخلاص وصدق الناس بذلك؛ فالله لا تخفى عليه خافية؛ فعن أبى هريرة رضى الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتى به، فعرفه نعمه، فعرفها؛ قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء؛ فقد قيل. ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار. ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به، فعرفه نعمه، فعرفها؛ فقال: فما فعلت فيها؟ قال تعلمت العلم، وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ؛ فقد قيل. ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقى فى النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به، فعرفه نعمه، فعرفها؛ قال: فما عملت فيها؟ قال: تصدقت فيك على الفقراء. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد؛ فقد قيل. ثم أمر به، فسحب على وجهه، ثم ألقى فى النار)) 2.
ولما بلغ معاوية هذا الحديث؛ بكى حتى غشى عليه، فلما أفاق؛ قال: صدق الله ورسوله، قال الله عز وجل: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم فى الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون 1.
بارك الله لى ولكم فى القرآن العظيم، ونفعنى وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لى ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله فى جميع أعمالكم، واجعلوها خالصة لله، واستغلوا أوقاتكم فى مرضاة الله.
عباد الله !
لقد جعل الله للمسلمين مواسم للتجارة الرابحة، التى يزدادون بها رفعة فى منازل الآخرة، وبعد أيام قلائل سيحل على المسلمين ضيف عزيز على قلوبهم، بالأمس ودعوه مرتحلاً، وفى هذه الأيام ينتظرون قدومه بفارغ الصبر، والضيف إذا طال غيابه على من يحب؛ ازداد المحب له شوقاً؛ فالمسلم الحق يجد فى قلبه شوقاً وحنيناً لهذا الضيف القادم، ويبدأ فى الاستعداد لاستقباله.
ولكن؛ ما هى نوعية الاستعداد؟ !
ففى هذه الأيام بدأ كثير من الناس يتهافتون على محلات بيع المواد الغذائية ووسائل التبريد ليتزودوا منها لدخول شهر رمضان !!
فهل هذا هو الاستعداد؟ !
كلا؛ فهذا عمل المترفين، الذين فهموا أن رمضان إمساك عن الطعام فى النهار، وانقضاض عليه فى الليل لتعويض ما فات بالنهار.
عباد الله !
إن الاستعداد لاستقبال هذا الضيف – شهر رمضان – بعقد العزم والنية الصادقة للاجتهاد فى العبادة بصيام نهاره وقيام ليله، والتوبة النصوح من كل معصية؛ فيصوم البطن عن الطعام، والجوارح عن الأثام، فيكون شهر رمضان فرصة للتخلص مما علق من الذنوب والآثام فى سائر العام.
فيجب على المسلم الذى يرجو ثواب الله ومغفرته أن يقوم جوارحه عن الآثام؛ فيجب عليه غض البصر عن النظر إلى المحرمات من نساء أجنبيات وصور فاتنة:
قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن 1
وقال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً 2
ويخطئ بعض الناس، فيظن أن غض البصر واجب عليه حال الصيام، فيرسل طرفه بعد إفطاره، ويطلق العنان له فى النظر إلى المحرمات، وهذا خطأ فاحش؛ فالمسلم مأمور بغض طرفه عن المحرمات فى حال صيامه وحال فطره، ولكنه يتأكد فى حال الصيام، وكذلك المسلمة.
وكذلك يجب على المسلم صون سمعه عن الإصغاء إلى كل محرم؛ من سماع لغناء وللغيبة... أو لغير ذلك.
وكذلك يجب عليه حفظ لسانه عن النطق بالفحش والبهتان؛ من سب وشتم، وكذب، وغيبة، ونميمة...
وكذلك يجب عليه حفظ بطنه من أن يدخله حراماً أكلاً وشرباً.
وهنا – عباد الله – ينبغى أن نقف عند هذا قليلاً، ونقول لهم: لا تظنوا أن المسألة مقصورة على أكل المحرم ذاته، ولكن يدخل فى هذا أكل ثمن المحرم، وكل لحم نبت من سحت؛ فالنار أولى به.
فيا من تتعاملون بالربا وتحتالون عليه! اتقوا الله، وتوبوا اليه، ولا تدخلوا فى بطونكم وبطون من تحت أيديكم حراماً.
ويا من تبيعون الدخان والمجلات الخليعة ! اتقوا الله، وطهروا محلاتكم منها، وتوبوا إلى الله، وإلا فانكم تأكلون سحتاً، والله لكم بالمرصاد.
ويا من بليتم بشرب الدخان! توبوا إلى الله، واعقدوا العزم على تركه، واستغلوا هذا الشهر الكريم للمساعدة على تركه؛ فأنتم تمسكون عنه بالنهار؛ فأمسكوا عنه بالليل؛ لأنه محرم فيهما جميعاً.
عباد الله !
وإن مثل من يتعاطون المحرمات بيعاً ويأكلون ثمنها مثل من يفطر على ما حرم الله؛ لأن تلك الأموال يشترون بها طعاماً لهم لإفطارهم وسحورهم.
عباد الله !
إن بعض الناس فهموا أن رمضان موسم من مواسم التجارة فى الدنيا؛ فتجدهم يكملون محلاتهم بكل جديد استعداداً لرمضان، ويفتحون محلاتهم للناس فى صلاة التراويح، ولا يؤدونها، وربما يمضى عليهم وقت الصلاة ولم يبيعوا شيئاً؛ فلم يستفيدوا دنيا ولا أخرى، ولو فرض أنه باع شيئاً؛ فذلك عرض زائل، وشر الناس من باع آخرته بدنياه.
عباد الله !
أن التقرب إلى الله بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات؛ فمن ارتكب المحرمات، ثم تقرب إلى الله بترك المباحات؛ كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، وقد قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه)) 1
اللهم ! اجعل أعمالنا خالصة لوجهك صواباً على سنة رسول الله.
اللهم! أنا نسألك خشيتك فى الغيب والشهادة، وكلمة الحق فى الغضب والرضى، والقصد فى الفقر والغنى.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين وسائر الطغاة المفسدين.
اللهم! ردنا إليك رداً جميلاً.
اللهم! آمنا فى أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة، واجعلهم نصرة للحق وأهله، وحرباً على الباطل وأهله.
اللهم! ومن أراد الإسلام أو المسلمين بسوء، فاشغله بنفسه، واجعل كيده فى نحره يارب العالمين!
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء.
اللهم! صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه اجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون 1.
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
[1] رواه البخارى ومسلم
1 رواه البخارى.
1 سورة البينة :5.
2 متفق عليه.
1 رواه البخارى.
2 رواه مسلم واحمد.
3 رواه البخارى.
1 متفق عليه.
2 رواه البخارى.
3 رواه البخارى.
1 متفق عليه.
2 رواه مسلم.
1 هود : 15-16.
1 النور : 31.
2 الإسراء : 36.
1 رواه بخارى.
1 النحل : 90.
(1/459)
الاستئذان
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – علة الأمر بالإستئذان
2 – آداب الإستئذان
3 – أخطاء يقع بها الناس في هذا الباب
4 – آداب إستئذان الأطفال
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس...
اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه أمركم بآداب شرعية؛ في التزامها تسود المحبة وتحفظ الحقوق، وفي تركها تصبح الحياة فوضى والحقوق مهدرة والبغضاء منتشرة.
ومن تلك الآداب الاستئذان، ولا شك أن الذي يرغب في دخول بيت غيره لا يخلو: إما أن يكون أجنبياً أو من محارمه:
فإن كان أجنبياً؛ فلا يحل له الدخول فيه من غير استئذان؛ لقوله تعالى : يا أيها آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها (1) ، ومعنى (تستأنسوا) ، أي : تستأذنوا؛ سواء كان الساكن في البيت أو لم يكن؛ لقوله تعالى : فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم (1).
وهذا يدل على أن الاستئذان ليس للسكان أنفسهم فقط، بل لأنفسهم ولأموالهم؛ لأن الإنسان كما يتخذ البيت ستراً لنفسه يتخذه ستراً لأمواله، وكما يكره اطلاع غيره على نفسه يكره اطلاعه على أمواله.
وسمي الاستئذان استئناساً؛ لأنه إذا استأذن أو سلم؛ أنس أهل البيت بذلك، ولو دخل عليهم بغير إذن؛ لاستوحشوا وشق عليهم.
وأمر مع الاستئذان بالسلام
والاستئذان ثلاث: فإن أذن للمستأذن، وإلا؛ فليرجع
فعن أبي سعيد الخدري؛ قال: كنت جالساً فى مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعاً مذعوراً، فقال: استأذنت على عمر ثلاثا، فلم يأذن لي، فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً، فلم يؤذن لي، فرجعت، وقال رسول الله : ((إذا استأذن أحكم ثلاثاً، فلم يؤذن له؛ فليرجع)). فقال: والله لتقيمن عليه بينة. أمنكم أحد سمعه من النبي قال: فقال أبيّ بن كعب والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قاله. (2) وفي بعض الروايات أن عمر قال لأبي موسى: إني لم أتهمك، ولكن الحديث على رسول الله شديد. وفي بعضها الآخر ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله.
عباد الله....
الاستئذان ثلاثاً هو سنة رسول الله لنفسه:
فعن قيس بن سعد بن عبادة؛ قال: زارنا رسول الله في منزلنا، فقال: ((السلام عليكم ورحمة الله)). فرد سعد رداً خفياً. قال قيس: فقلت: ألا تأذن لرسول الله ؟ فقال: ذره يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله : ((السلام عليكم ورحمه الله)). فرد سعد رداً خفياً، ثم قال رسول الله : ((السلام عليكم ورحمه الله)). ثم رجع، واتبعه سعد، فقال: يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك، وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام. قال: فانصرف معه رسول الله (1).
وينبغى لمن يستأذن أن لا يستقبل الباب تلقاء وجهه، وإن كان الباب كاشفاً لعورة؛ رده وصرف بصره عنها حتى لا يقع نظره على ما يكره أهل البيت.
فعن سهل بن سعد؛ قال: اطلع رجل في حجرة من حجر الني ، ومع النبي مدرى يحك به رأسه، فقال: ((لو أعلم أنك تنظر؛ لطعنت به في عينك،إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)) (2)
وعلى المستأذن أن يذكر اسمه صريحاُ إذا سأل عنه المستأذن عليه:
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: استأذنت على النبي ، فقال: ((من هذا؟)). فقلت: أنا. فقال النبي : ((أنا، أنا)) ؛ كأنه كره ذلك (39
قال العلماء: وإنما كره النبي ذلك؛ لأن قوله: أنا! لا يحصل بها التعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه؛ كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما.
ولا يجوز دخول بيوت الغير إلا بعد الإذن والتسليم، فإن أذن له؛ دخل، وإلا؛ فليرجع؛ كما فعل مع سعد وأبو موسى مع عمر رضي الله عنهما.
قال قتادة: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها، يقصد: وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم (1) ، وإني لأستأذن بعض أخواني، وأرجو أن يقول: ارجع! فأرجع وأنا مغتبط؛ لقوله تعالى: هو أزكى لكم (1)
إن بعض الناس يقرأ هذه الآية، ولكنه يغفل عن عظيم معناها؛ فإذا طرق الباب على أخيه، وكان أخوه مشغولاً، وطلب منه الرجوع؛ غضب، وانتفخت أوداجه، وربما اغتاب أخيه، ولم يعده مرة أخرى، وما علم أن الرجوع خير له من الدخول.
عباد الله !
وسواء على الإنسان أكان الباب مغلقاً أو مفتوحاً؛ لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه بإذن صاحبه.
وأما إن كان البيت غير مسكون، ودعت الحاجة إلى دخوله؛ فيجوز دخوله؛ قال تعالى: ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم (3)
قال ابن كثير رحمه الله: (هذه الآية تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد إذا كان له متاع فيها بغير إذن؛ كالمعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة؛ كفى).
فإن كان الداخل هو صاحب البيت، ومن فيه محارم له؛ فلا إذن عليهم؛ إلا أنه يسلم إذا دخل.
قال قتادة : (إذا دخلت بيتك؛ فسلم على أهلك؛ فهم أحق من سلمت عليهم).
فإن كان البيت يسكن فيه مع صاحبه أمه أو أخته؛ فقد قال العلماء: يتنحنح، أو يضرب برجله؛ حتى تتنبها لدخوله؛ فقد تكونان على حالة لا يحب أن يراهما فيها.
وروي ابن جرير عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود؛ قالت: (كان عبد الله إذا جاء من حاجة، فانتهى إلى الباب؛ نحنح، وبزق؛ كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه)
وعن أبي هريرة؛ قال: (كان عبد الله إذا دخل الدار؛ استأنس؛ تكلم ورفع صوته).
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (إذا دخل الرجل بيته؛ استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه)
ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله ؛ أنه نهي أن يطرق الرجل أهله طروقاً وفي راوية: (ليلاً يخونهم) (1)
إن بعض الناس لم يعر هذه الآداب أي اهتمام؛ فيأتي الواحد منهم إلى بيت قريبه، وهو أجنبي بالنسبة لمن في البيت من النساء، والبعض منهن يتحجبن منه، فيدخل لمجرد أن الباب مفتوح، أو بمجرد أن يأذن له أحد الصغار الذين لا يعقلون، ولربما بدأ يستأذن وهو يدخل حتى يتغلغل في البيت، وهذا أمر لا يجوز لعاقل أن يعمله؛ فلربما كان الرجل غير موجود، ولربما كانت النساء متبذلات في بيوتهن، فتقع عينه على ما حرم نظره!!
ولكن بعض أصحاب البيوت هم الذين يجرئون من يفعل ذلك على فعله، وذلك لأنهم لا ينبهون من وقع في مثل هذا، ولا ينهونه عن غيه، بل ربما يفعلون ذلك هم أنفسهم مع غيرهم.
وليعلم الرجل الذي يسمح للأجانب بدخول بيته بغير إذن، وإن كانوا من أقربائه، لكنهم أجانب عن محارمه؛ ليعلم أنه يجعل بيته كالشارع من حيث حرمته، بل إن الفتنة فيه أعظم من الشارع؛ لتحقق الخلوة.
فاتقوا الله عباد الله! وتأدبوا بما أمركم به، ومن لم يرض بما أمر الله؛ فلا بارك الله فيه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد.
عباد الله!
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (1).
هذه الآيات بينت استئذان الأقارب بعضهم على بعض
قال أكثر أهل العلم : إنها آية محكمة واجبة على الرجال والنساء؛ فقد أدب الله عز وجل عباده في هذه الآيات بأن على العبيد والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم يعقلون ما يرون أن يستأذنوا على أهلهم في هذه الأوقات الثلاثة، وهي الأوقات التي هي عرضة للانكشاف:
أولها: من قبل صلاة الفجر؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نياماً في فرشهم، وهو أيضا وقت انتهاء النوم ووقت الخروج عن ثياب النوم ولبس ثياب النهار.
الثاني: وقت القيلولة، حين تضعون ثيابكم من الظهيرة؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله.
الثالث: من بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت النوم، فيؤمر الأطفال والخدم أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال؛ لما يخشى أن تقع أبصارهم على أمر يجب ستره.
أما في غير هذه الأوقات؛ فمسموح لهم الدخول بغير إذن؛ لأن العورات بعدها تكون مستورة وعن ابن عباس؛ أن رجلين سألاه عن الاستئذان في ثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن، فقال ابن عباس: ( إن الله ستير يحب الستر، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم، ولا حجال في بيوتهم، فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله، ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط الله عليهم الرزق، فاتخذوا الستور والحجال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به ) (1).
وأما إذا بلغ الأطفال الحلم؛ فيجب عليهم الاستئذان على كل حال، وإن لم يكن في الأحوال الثلاثة؛ قال تعالى: وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم (2)
قال الأوزاعي: ( إن كان الغلام رباعياً؛ فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه؛ فإذا بلغ؛ فليستأذن على كل حال ) (1).
وأما الصغير الذي لا يميز بين العورة وغيرها؛ فيدخل في الأوقات كلها.
وأما إن كان أهلاً للتمييز بأن قرب البلوغ؛ فعلى والديه أن يمنعاه من الدخول في الأوقات الثلاثة؛ تأديباً وتعظيماً لأمور الدين؛ كما في الأمر بالصلاة إذا بلغ سبعاً وضربه إذا بلغ عشراً.
وقد أشير في الآية إلى علة الأمر، وهي بلوغ الأطفال الحلم؛ أي: نشأة شعور الجنس في نفوسهم.
عباد الله!
إن بعض الناس قد تهاونوا بهذا الأب مع أولادهم بدافع الدلال المفرط أو عدم المبالاة؛ فنجد أن بعض الناس يكون أولاده مدركين، ثم لا يأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة، بل إن البعض قد زاد هذا الأمر بجمعه معهم مضجع واحد، وظنوا أنه من مصلحتهم، ولكنهم مخطئون؛ فهم يدركون ما يرون، وربما وقعت أنظارهم على عورات أهليهم أو غيرها، وربما بدأ الشعور الجنسي عندهم مبكراً، ثم يشغل بالهم ما رأوه.
وقد ينتبه لهم الأبوان بعد هذه الحال، فيعزلونهم، ولكنهم لا يفرقون بين الذكور والإناث في المضاجع؛ فقد يقع فساد كبير، وفي ذلك الأدب حفظ لهم ولسلامة فطرهم.
فاتقوا الله عباد الله! وتأدبوا بآداب الإسلام، وألزموا أنفسكم وأولادكم بهذا الأدب الرفيع وغيره، وأبعدوهم عن كل ما يثير غرائزهم من أفلام وصور خليعة؛ لئلا تحطم أخلاق الناشئة كما حطمت أخلاق منتجيها، فأصبحوا كالحيوانات في حظائرها، تنزوا بعضها على بعض.
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (1).
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1) النور: 27.
(1) النور:28.
(1) الحديث رواه البخاري في (الاستئذان)
(1) الحديث رواه ابو داود في ( الاداب ، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان"من حديث بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن قيس بن سعد بن زرارة إسناده م نقطع.
قال الحافظ في " التهذيب قى ترجمة قيس بن سعد " روى عنه الأوزاعي مرسلا ، ولم يذكر قيس بن سعد " قاله المنذري في " مختصر سنن ابى دواد"
(2) رواة البخارى في ( الاستئذان ) من حديث سهل بن سعد ، ورواة مسلم في 0 ( الادب) والترمذى، في (الاستئذان).
(1) رواة ابن ماجة من حديث جابر رضى الله عنه في ( كتاب الادب) من طريق ابن ابى شيبة.
(3) النور :28.
(1) الدارمي في ( الاستئذان ، الباب الثالث).
(1) النور:58.
(1) ابن كثير في تفسير سورة النور في قولة تعالى : ( يا ايها الذين امنوا ليستأذنكم الذين ملكت ايمانكم)
( 2) النور : 95.
(1) ابن كثير في تفسير سورة النور في قوله تعالى ( يا ايها الذين امنوا ليستأذنكم الذين ملكت) الآية
(1) النحل :90.
(1/460)
الإفك والواجب نحوه
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – المسلمون أمة أعزها الله بالإسلام
2 – المصائب التي تصيب المؤمن اختباراً من الله وإبتلاءً
3 – بعض البلاء الذي أصاب رسول الله
4 – قصة الإفك كما ترويها عائشة ام المؤمنين رضي الله عنها
5 – منهج الإسلام في مواجهة الشائعات
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اشكروا الله على أن هداكم للإسلام، وجعلكم من خير أمه أخرجت للناس.
عباد الله!
لقد استطاع السلف الصالح رضي الله عنهم معرفة مرامي الشريعة، وأدركوا أنها سبب عزهم وكرامتهم؛ لأنها الشريعة التى رضيها الله سبحانه وتعالى للبشرية جمعاء، فالتفوا حولها، وذادوا عنها؛ لأنها تساوى فى نظرهم الحياة بأسمى معانيها؛ إذ لا قيمة لحياة لا ترتبط بمنهج الله ومراده، وهل يرضى سبحانه لعباده إلا ما ينفعهم ويأخذ بأيديهم إلى شاطئ الأمن والسلام؟! وبذلك سادوا وعمروا الأرض عدالة ورحمة؛ فكانوا أعزة على الكافرين، راياتهم خفاقة، وخيراتهم دفاقة؛ حين أرسوا في أنفسهم وفى الأرض خير رسالات السماء فكانوا خير أمة أخرجت للناس؛ أعلاها الله بالإيمان، وأعزها بالإسلام، وأبصر بها عيوناً عمياً، وأسمع بها آذاناً صماً ،عاشوا أعزة في السراء والضراء... صار الرسول هو الأعلى في مكة وقد صار مستضعفاً محارباً ،صار رسول الله هو الأعز في مكة وقد كان مطارداً مرصوداً... صار ذلك كله؛ لأن الإيمان هو المرتبة الأعلى ولأن الشرك والكفر والنفاق هو المرتبة الأدنى، والمؤمن أكثر الناس بلاءً ،ولكنه أعظمهم قدراً، والمؤمن أكثر الناس محاربة، ولكنه أملكهم للحرية.
فعن صهيب بن سنان رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله : ((عجباً لأمر المؤمن أن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء؛ شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء؛ صبر، فكان خيراً له )) (1).
وحرية المؤمن في كونه غير أسير لشهواته ولا مستضعف لنزواته؛ فهو عبد الله وحده، وغير المؤمنين عباد توزعت قلوبهم بين آلهة شتى.
لذلك؛ فإن ما ينتاب المؤمن أو يحل به من مصائب لا ينتزع منه العلو والعزة ما دام مؤمناً، فالمصائب والفتن اختبارات تبين مدى ما يمتلك العبد من الإيمان، وهي ضرورة للمؤمن؛ تشحذ همته، وتقوي إيمانه.
وفي ذلك قال ابن القيم رحمه الله عن ما يصيب المؤمن فى هذه الدار من إداله عدوه عليه وغلبته له فى بعض الأحيان أمر لازم لا بد منه، وهو كالحر الشديد والأمراض والهموم والغموم؛ لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين:
"وقد اقتضت حكمة الله في خلقه أن يعرضهم للابتلاء اختباراً لهم؛ قال تعالى: آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (2).
ولعل من حكمة الابتلاء أنه فرصة لمراجعة حسابات مضت ووقفة أمام تطلعات لمستقبل آت مؤمل؛ فالابتلاء يزيد الرجال نضوجاً وصلابة، والدعاة الصادقين ثباتاً وعمقاً.
ولن يكون الابتلاء شراً للمؤمنين أبداً؛ فهو خير يسوقه الله لعباده؛ ليعودوا وقد علتهم عزة الإيمان التى يمتلكونها، ولو كانت السياط اللاهبة تأكل من أجسادهم، والأطواق تحيط برقابهم، والسلاسل تقيد أيديهم وأرجلهم، وأعناق الدعاة مشرئبة تنتظر سقوط القلاع الشامخة، وما هي إلا لحظات؛ حتى نرى أنها زالت على شموخها، وقد سقط كل ما حولها وتحول إلى رماد.
عباد الله! معاشر عباد الله المؤمنين! طلاب العلم والدعاة إلى الله تعالى!
لا شك أن قدوتكم هو محمد بن عبد الله ؛ فانظروا ماذا حصل له من الابتلاء، لقد ولد يتيماً لم يرأباه، وفقد أمه وهو صغير، ونشأ فقيراً يرعى الغنم، وتزوج خديجة رضي الله عنها، وبعد ذلك بخمسة عشر عاماً أرسله الله، فوقف الطواغيت في وجهه يصدون عن دين الله، وكان عمه أبو طالب يقف بجانبه يحميه ويدافع عنه، وكانت زوجه خديجة تسري عنه وتخفف آلامه وتواسيه بمالها، وفى عام واحد توفيت خديجة رضي الله عنها وتوفي أبو طالب، فحزن رسول الله على ذلك حزنا شديدا، كيف لا يحزن وزوجه خديجة آمنت به حين كفر به كثير من الناس، وصدقته حين كذبه كثير من الناس، وواسته بمالها حين حرمه الناس، وأبو طالب الذى وقف يسانده ويدافع عنه ولا يسمح لإنسان أن يناله بسوء، وهو القائل : " والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا " ؟! لقد مات نصيره وأنيسه، فطمعت قريش في أذى الرسول وقد مات أولاده الذكور في حياته جميعا، فصبر، واحتسب، ولم يقف الابتلاء عند هذا الحد، فقد وقعت له مصيبة عظيمة، ودرس من أقسى دروس الابتلاء، ألا وهو حادثة الإفك، تلك الحادثة التى كشفت عن شناعة جرم المجرمين وبشاعته، وهو يتناول بيت النبوة الطاهر الكريم، ويتناول عرض رسول الله أكرم الخلق على الله، وعرض صديقه الصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه أكرم صحابته عليه، وعرض رجل من الصحابة وهو صفوان بن المعطل رضي الله عنه، ويشغل ذلك الحدث المسلمين بالمدينة شهرا من الزمان، هذا الحادث الذى جلب الهموم والآلام لقلب رسول الله وقلب عائشة رضي الله عنها وقلب أبي بكر الصديق وقلب صفوان شهرا كاملا.
عباد الله!
وتتحدث عائشة رضي الله عنها عن هذه الحادثة، حيث تقول: خرجت مع النبي في غزاة بعدما أنزل الحجاب، وانا أحمل فى هودج وأنزل فيه، فسرنا، حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته وقفل، ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأنى، أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت، فالتمسته، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوننى، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء آن ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم، فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفته، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل، وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم، وليس فيه أحد منهم، فتيممت منزلي الذى كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوننى فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة، غلبتني عيناي، فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي قد عرس وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فاتاني، فعرفنى حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهى بجلبابي، والله ما كلمنى بكلمة، ولا سمعت منه غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطىء على يديها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا معرسهم. قالت: فهلك في شأني من هلك، وكان الذي تولى كبر الإثم عبد الله بن أبي ابن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت بها شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر.. " حتى قالت: "لما علمت بما يتحدث به الناس؛ ازداد مرضي.." إلى أن قالت: "فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم".. واستمرت على ذلك حتى برأها الله من فوق سبع سموات.
قال تعالى: إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين (1).
من هذه الحادثة نأخذ أن الأنبياء وأتباعهم مستهدفون من قبل أعداء الإسلام من الكافرين والمنافقين وأتباعهم؛ بتلفيق التهم ضدهم، ورميهم في أعراضهم وفي أنفسهم، ولكن الله يدافع عنهم، ويرد كيد الأعداء في نحورهم، ويزيد أنبياءه وأولياءه الصالحين رفعة في الدنيا وثواباً في الآخرة، وأنه مهما لفق الملفقون من التهم ورموا به أولياء الله ؛ فإن الله تعالى كاشف ذلك، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون (2).
سبحان ربنا عالم السر وأخفى! سبحانك ما أحلمك!
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
لقد رسم القرآن الكريم لنا منهجاً في مواجهة الشائعات – وما أكثرها في زماننا هذا-!!:
فأولى الخطوات: عرض الأمر على القلب، واستفتاء الضمير ؛ فالمؤمن لا ينبغي أن يكون أذنا يمر الكلام عليه بلا ترو ولا تفهم، إنما بنقد واعتبار، فيتوقف حتى يتبين أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (2)
قال تعالى مبيناً للمؤمنين أهمية هذه الخطوة في قصة الإفك: لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً (3)
نعم، كان هذا هو الأولى: أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً، وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في هذه الحمأة، وكذلك فعل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه حينما قالت له امرأته أم أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها ؟ قال : نعم، وذلك الكذب؛ أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك.
عباد الله!
وهكذا إذا سمع المسلم شائعة أو تهمة ملفقة رمي بها أحد عباد الله الصالحين أو الدعاة المخلصين؛ عليه أن يظن بأخيه خيراً، ويعلم أبعاد حرب الحق والباطل، وليعلم أن رسول الله r قبله رمي في عرضه، لكن الله يدافع عن الذين آمنوا، وليعلم أن هذا هو دأب المنافقين والمأجورين والحاقدين مع عباد الله المؤمنين، الذين يدعون إلى صراط الله المستقيم، وأن هذا هو دأب الجبناء الذين يعملون من خلف الأستار بتلفيق أخس التهم الباطلة، ولكن؛ إن ربك لبالمرصاد.
عباد الله!
والخطوة الثانية من منهج مقابلة الشائعات: طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي:
قال تعالى مبيناً ذلك: لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (1) ؛ فعند طلب البينة تتضح الحقيقة، ولن يجد المبطل الأفاك بينة.
ويبين سبحانه وتعالى خطورة الغفلة عن هاتين الخطوتين:
قال تعالى: ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم (2)
فلقد احتسبها الله للجماعة المسلمة درساً قاسياً، فأدركهم بفضله ورحمته، ولم يمسهم بعقابه أو عذابه.
عباد الله!
إن هناك من الأخبار الملفقة والتهم الباطلة ما ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه، وأن تتحرج من مجرد النطق به، وأن تنكر أن يكون هذا موضوعاً للحديث.
فاتقوا الله عباد الله! وكونوا على حذر من كيد الأعداء، واعلموا أن الحرب بين الحق والباطل قديمة، ويوم أن يحمل أهل الحق الحق بصدق يزهق الباطل.
اللهم! إنا نعوذ بك من الشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين؛ من يهود، ونصارى، وشيوعيين، ومجوس، ومنافقين، وسائر الطغاة والملحدين.
اللهم! عليك بمن أراد إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا
اللهم! عليك بمن أراد تلفيق التهم بعباد الله المؤمنين.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر؛ إنك سميع الدعاء.
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (1)
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1) رواه مسلم.
(2) العنكبوت : 1 – 3.
(1) النور:11،12
(2) الأنبياء:18
(1) غافر:51
(2) الحجرات :6
(3) النور :12
(1) النور:13
(2) النور:15
(1) النحل : 90
(1/461)
المدافعة بين الإسلام والكفر
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال البشرية المظلم قبل الإسلام. 2- سطح نور محمد فحجب ذلك الظلام. 3- ترك الجهاد
سبب ذلة المسلمين. 4- أحاديث نبوية تصف الداء والدواء لضعف أمة الإسلام. 5- الواجب
تحقيق الولاء والبراء في حياة المسلمين. 6- البشارة بانتصار الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي، هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
أيها الناس، قبل نبوة المصطفى بعشرات السنين، كان الناس في هذه البسيطة، على فترة من الرسل، منقطعين عن المدد الروحي من السماء الذي كانت تعان به الأرض وأهلها، على اجتياز ظلمات المادة، وفسق المادة، وجفاف المادة، فخبّط الناس في مآرب الحياة ودربها خبط عشواء، في ظلمات ثلاث، ظلمة العقائد، وظلمة القوانين البشرية، وظلمة الأنفس.
ظلمة العقائد، لا يجد فيها الحاذق بصيص نور يهتدي به إلى هداية، أو يخلص به من ضلالة؛ فاستبد الأحبار والرهبان بقلوب الناس وعواطفهم.
وظلمة القوانين، لا يجد فيها عاقل ما يعين على عدالة، أو ما يخرج من مظلمة؛ فاستبد العظماء بأموال الناس وظهورهم، فالظلم عندهم، من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة منهم، فلعله لا يظلم.
وظلمة الأنفس لا يجد فيها المتأمل مكانا لرحمة، أو نورا يضيء ظلمة، إلا من رحم الله.
فما زالت الإنسانية، تتخبط في هذه الظلمات الثلاث، وتنحدر إلى هاوية سحيقة، حتى تمخضت عن أمم كان من قسوتها وفظاعتها أن تقتل بنيها شر قتلة، مخافة أن يشاركوهم في مأكلهم أو ملبسهم، قال ابن عباس : إذا سرك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ قول الله: قَدْ خَسِرَ ?لَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَـ?دَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:140].
وكان من عقلها ودينها أن تصنع معبوديها بأيديها، ومن مجدها التي تتغنى به الحذق في انتزاع الأرواح، والمهارة في إيتام الأطفال، وإرمال النساء، وإثكال الأمهات والآباء، حتى لقد صدق قول الله فيهم: أُوْلَئِكَ كَ?لانْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف:179].
بعد هذا التخبط المقيم، يبعث الله الرسول الأمي نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ?للَّهُ مَنِ ?تَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ?لسَّلَـ?مِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
بعثه في الأرض؛ فهزم كل ما أمامه من الظلمات الثلاث: ظلمة القوانين، وظلمة العقائد، وظلمة الأنفس. وما استطاعت ظلمة من هذه الظلمات الثلاث، أن تثاقفه أو توقفه، حتى صار لهذا الدين أنصار وقادة يحملونه في إحدى اليدين، وفي الأخرى يحملون الحديد ذا البأس الشديد، يذودون عنه الإيذاء والاعتداء، ويخلون له الطريق إلى القلوب والعقول، فما أجمل الحق، يعرضه القوي في لين! وما أجمل القوة، تنصر الحق في شجاعة!
حمل هذا الدين رجال وقادة، علمهم نبيهم أن لا يخاف العبد إلا ربه، وأن لا يذل، إلا لمن ذل له كل شيء وخلق كل شيء، ولمن بيده أسباب الخوف وأسباب الأمن وحده فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]. وعلمهم نبيهم، أن لا يتأخر عن الموت من طلب الحياة وأحبها، فإن من رغب في الموت وهبت له الحياة. قال أبو بكر : (احرص على الموت توهب لك الحياة).
كانوا يُقدِمون على الموت، إقدام من ليست حياته ملكا له، فأخذوا بنواصي الأكاسرة، وهامات القياصرة، وذروا التراب على وجوه الطغاة، الذين طالما جَرَّعُوا الإنسان جُرَع الذل والهوان، وأذاقوه غصص الخسف والاستبداد.
عباد الله، قال الله ـ تعالى ـ: وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [آل عمران:140].
وقال تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ?لارْضُ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ [البقرة:251]. المدافعة بين الإسلام والكفر، ضرورية لحياة الشعوب وبقائها، وكل شعب فقد هذا الدواء على مر التاريخ فقد الحياة ولا محالة، فأكلته شعوب الكفر، وطحنه تنازع البقاء، وذهب أقساما، بين أشتات المطامع والأهواء.
أيها الأحبة في الله، يخطئ كثيرا، من يظن أن هزائم المسلمين في عصرهم الحاضر، كانت بدعا في تاريخهم الطويل، كلا؛ فالأمر ليس كذلك؛ بل إن أمر المسلمين قد يعلو تارة، ويهبط أخرى، بمقدار قربهم من ربهم وإحيائهم لسنة الجهاد في سبيل الله. قال رسول الله : ((من لم يغز أو يجهز غازيا، أو يخلف غازيا في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)) [رواه أبو داود وابن ماجه [1] بسند جيد. والقارعة: هي الداهية].
لذا، فقد هبط أمر المسلمين في قرون مضت، حتى اغتصب الحجر الأسود بضع سنين، فما عاد إلى موضعه: إلا بعد لؤى وشدائد.
ولكن هذا التاريخ الذي هبط، سرعان ما علا وارتفع، وهكذا أصبح تاريخ المسلمين، يتأرجح بين مد وجزر، في صورة حقيقة لا ينكرها إلا غِرٌّ مكابر.
أيها المسلمون، إن المناظر في واقع العالم اليوم، إن كان ذا لب وبصيرة، فإنه لن يتمالك من قوة الفهم، إلا أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة! وما أشبه اليوم بالأمس! فها هو التاريخ يعيد نفسه، تتغير مراكز القوى، وتنقلب معايير النفوذ والاتساع، حتى أصبحت متمركزة في معسكرات الكفر، بحيث لا تفسر إلا بالقوة التي كان يمارسها الجاهليون ضد الإسلام، وإن كان دور أهل الكفر الذين سيطروا على المسلمين في قرون مضت لا يتجاوز سيوفاً ضربوا بها هام المسلمين ففلقوها، واحتزوا الرقاب فقطعوها، وضربوا منهم كل بنان، حتى يقول الكافر للمسلم: قف مكانك حتى آتي بسيفي لأقتلك، فيقف المسكين مكانه لا يحرك ساكنا، حتى يأتي ذلك الرجل فيقتله – إن كان ذلك، هو أسلوب أهل الكفر في ذلك الحين؛ فإن أسلوبهم في هذا العصر، ينطلق من محاور متعددة، أورثت لدى المسلمين جبنا وخورا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وانطلقوا يغزونهم في عدة ميادين، تمثلت في إذكاء التخلف العلمي، والتخلف الاقتصادي والصحفي، والتحدي الثقافي، في مجال الدراسات الإسلامية، والدراسات التاريخية والأدبية واللغوية، والتحديات الاجتماعية والإعلامية وإثارة الحروب الأهلية، والنعرات الطائفية، إنها حرب شعواء، لا هوادة فيها.
إن أهل الكفر، هم أبعد الناس عن العدالة، وأنأى الناس عن الرحمة، وإن زعموا العدل في محاكمهم الدولية، أو مجالسهم ومقرراتهم الدستورية، لقد صار غبيا عندهم من يحاول أن ينال حقه باسم العدالة أو الرحمة الدولية، أو القوانين الخاصة أو العامة أو باسم المدنية والإنسانية، وصار المغبون حقا، هو ذلك الضعيف المهزول، الجاثي على ركبتيه المهزولتين، أمام تلك القوى الكافرة الظالمة، يستجديها حقه، ويسألها إنصافه ويطلب إليها بمدمعه لا بمدفعه، أن يمسح الدم عن أظافيره الدامية، ويطهر فمه من لحوم الضعفاء الأبرياء، ويناديه باسم المدنية، وباسم الحقوق الإنسانية، فصار لا يوجد العدل إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السلم إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الكافرة الظالمة، لا تذكر العدالة ولا الحقوق الإنسانية إلا إذا تحدثوا إلى الأقوياء الباطشين أمثالهم. أما الضعيف العاجز عن المدافعة، فما له عندهم إلا التمدين، زعموا، ومعناه: التطبيع، وسائر ما للبؤس والشقاء من مظاهر ومعان.
كل ذلك أيها المسلمون مصداق لقول المصطفى : ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: أو من قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل)) [أخرجه أبو داود وأحمد [2] ، وهو صحيح].
هجمت عليهم الدنيا فتنافسوها؛ فقلبت موازين الحياة عندهم، نسوا قول الله وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]. ونسوا قول الله ـ تعالى ـ: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران :175]. وقول الله ـ عز وجل ـ: إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160].
ونسوا قول المصطفى : ((إذا تبايعتهم بالعينة، وأ خذتم أ ذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) [رواه أ بو داود ، وأحمد بنحوه [3] ، وهو صحيح].
انقلبت موازين الحياة عندهم، فأخرجت سنة المدافعة من النفوس، ظنوا أن الشجاع المقاتل يقتل دون الجبان المسالم، المقر للخسف في دينه وملته وأرضه، حسبوا أن الجبناء أطول آجالاً من الشجعان فقالوا:
يقرب حب الموت آجالنا وتكرهه آجالهم فتطول
ولأجل هذا، كان من يحرصون على الحياة، يهرعون إلى السلم والمسالمة. والحقيقة الواضحة أيها المسلمون على العكس من ذلك، فإنه لا يقتل غالباً إلا الجبان، ولا يقع في الحرب إلا الهارب إلى السلم، ولا ينال الشر إلا أهل الدعة واللين والخوف.
عباد الله، إن الإرهاصات المتتابعة، التي أذكاها أهل الكفر والشرك لم تذهب سدى، فنحن نرى بين الفينة والأخرى نفوسا ضعيفة، وأقلاما مأجورة، ترعرعت في كنف الكفر، فأخذت تبث دعايات مضللة، مفادها هدم ركن ركين، وأصل أصيل من أصول الإسلام، ألا وهو ركن الولاء والبراء، الولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين، الولاء والبراء، الذي هو من لوازم كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله محمد رسول الله))، ذلك اللازم المؤكد في قول الله ـ تعالى ـ: لاَّ يَتَّخِذِ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28].
وفي مثل قوله: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
وفي مثل قول المصطفى ، لجرير بن عبد الله البجلي لما بايعه على الإسلام قال له: ((أن تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر)) [رواه أحمد [4] بسند حسن].
قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36].
قال العالم المجدد، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ: فأما صفة الكفر بالطاغوت، فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها، وتكفر أهلها، وتعاديهم.
وذكر ـ رحمه الله ـ من نواقض الإسلام: من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم، أو يصحح مذهبهم كفر. قال الله: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51]. وقال رسول الله : ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)) [رواه مسلم] [5].
أيها الناس، هذا الركن الركين والحصين، مالت نفوس ضعيفة، اجتالتها الشياطين عن فطرة التوحيد، مالت بهم إلى نبذه من واقع حياتهم، فيما يسمونه بالعالمية، أو زمالة الأديان أو التطبيع بين الكفر والإسلام، ومعنى تلك المسميات كلها، هو توسيع دائرة الولاء؛ بحيث يدخل فيها كل الأقوام والأديان والأوطان، حتى يصبح المسلم لا يشعر بالفارق بينه وبين غيره من الكفار في بقاع الأرض، وقد يطغى على هذا المبدأ، ألفاظ براقة خادعة، كالحرية والإخاء، والعدل والمساواة، وبذلك يطمس الولاء والبراء، وتُشْعَرُ [6] ذروة سنام الإسلام، وهي الجهاد في سبيل الله، وقد ذم الله هذا الصنيع وحذر منه بقوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِر?طٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا [الأعراف:86].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وعودوا إلى دينكم عودا حميدا، اتقوا الله والتفتوا إلى واقعكم، انظروا إلى دماء الأبرياء من بني ملتكم، تصرخ ولا مغيث، إن ضعف المسلمين واستكانتهم جعلت من دم المسلم عملة رائجة في سوق سوداء، لا تخضع لنظام، ولا يحميها قرار.
أيها المسلمون، استمعوا إلى نصح ربكم في قوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِ?لْكِتَـ?بِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ?لاْنَامِلَ مِنَ ?لْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ?للَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:118-120].
بارك الله لي ولكم...
[1] سنن أبي داود ح (2503)، سنن ابن ماجه ح (2762)، وفي إسناده : الوليد بن مسلم قال فيه ابن حجر: ثقة لكه كثير التدليس والتسوية. التقريب (7506) والتسوية: أن يحذف الراوي راويًا ضعيفاً بين ثقتين سمع الأول من الثاني ليحسن الإسناد بذلك. انظر فتح المغيث للسخاوي (1/227).
[2] مسند أحمد (5/278)، سنن أبي داود ح (4297).
[3] مسند أحمد (2/84) ، سنن أبي داود ح (3462).
[4] مسند أحمد (4/357).
[5] صحيح مسلم ح (153).
[6] تُشْعَرُ: تُطْعَنُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، ثم اعلموا أن معركة الإسلام مع الكفر، ليست وليدة اليوم، وإنما هي فصول يقصها القرآن وترويها السنة، في أدوار مختلفة، ولن يخلو زمان أو مكان من تلك المعركة الضارية، غير أن النور الذي حمله رسول الله ليضيء الدنيا، لن ينطفئ أبدا، بل هو باق خالد، في أيدي المسلمين، يحملونه إلى البشرية ليضيء الدنيا مرة أخرى بأمر من الله، ويوحد الكلمة، ويجمع الشتات، وإن للمسلمين في وعد ربهم، ما يشد عزائمهم للثبات على دينهم وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
قال رسول الله : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) [رواه البخاري] [1].
وقال ـ تعالى ـ: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: أي ليعلي الإسلام على الملل كلها، ولو كره المشركون بالله ظهوره عليها.
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: أي يظهره على سائر الأديان كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله قال: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)) [2].
إن شعوبا لا تعرف إلا الله، لن يغلبها من لا يعرف الله، وإن من لا يعرف إلا الحق، لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل. فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان.
غير أن الأمر قد بات من الخطورة، بحيث يوجب البحث عن الأسباب المفضية إلى ضعف المسلمين، وخسائرهم الفادحة!!
ولننظر إلى مصدرها، هل هو غش ثقافي، أو عوج خلقي، أو خلل سياسي واجتماعي؟ وما الذي أفقد الأمة كيانها ثم جعلها تتلقى الضربات وتصرع أمامها.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وانظروا إلى نصوص الشرع برضى وطواعية، مصحوبين بالاستسلام لله ولشرعه، وليعلم الذين يقصون شرع الله من واقع حياتهم، أو يخرجون جانبا من جوانب الإسلام، في سياسة أو حكم أو اقتصاد أو ما شابه ذلك، ليعلموا أن ركب الإسلام سائر بإذن الله، وأن الله سيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولن يدع الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز به الإسلام، وذلا يذل به الكفر.
فالأولى بالمقصرين من أهل الإسلام، والمعادين له من أهل الكفر والشرك، أن يستسلموا لشرع الله بعودة صادقة إلى الله، وإخلاء الطريق للشعوب المسلمة لتسعد بشرع الله.
ليت الذي لم يكن بالحق مقتنعا يخلي الطريق ولا يؤذي من اقتنعا
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية.
[1] صحيح البخاري ح (7311) بنحوه، وأخرجه مسلم ح (156) بنحوه.
[2] صحيح مسلم ح (2889).
(1/462)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
2 – التحذير من التقصير في هذا الواجب
3 – عقوبة الأمة عندما تقصر في أداء هذا الواجب
4 – شبهة الإستمساك بمفهوم خاطئ للأية عليكم أنفسكم 5 – الصبر على الأذى في سبيل الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون:
اتقوا الله تعالى، فبالتقوى تنال العزة في الدنيا والكرامة في الآخرة.
لقد فرض الله على المسلمين أن يحملوا مواريث النبوة، ويقودوا الناس إلى طريق الخير، وبهذا وحده كانت هذه الأمة خير الأمم.
قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (1) وأمة هذا شأنها تنال من رحمة الله بجمع شملها، وإصلاح ذات بينها، ويقيها السوء، ويدفع عنها المفاسد والشرور، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله (2) فتسلم من النقص والخسران، وتسير إلى غايتها الكبرى من العلم النافع والعمل الصالح والتوجيه الحق، ومن ثم يمكن الله لها في الأرض، وتقوم بخلافة الله في تنفيذ أمره ونهيه؛ قال تعالى: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (1).
عباد الله:
وإذا كان لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه الآثار البعيدة المدى في حياة الأمة؛ فإن لإهمالها والاستهانة بها آثاراً عكسية في حياة الأمة ؛ من الاستخفاف بالدين، والتضييع للعقائد، والاستهتار بالأخلاق، والتهوين من شأن الفضائل، والإخلال بالآداب الحسنة؛ مما يعرض الأمة للعقاب الأليم.
ولقد حذرنا الله تعالى من أن نتعرض لما تعرض له غيرنا من اللعن بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (2).
ولقد ضرب رسول الله مثلا للأمة التي تقوم بهذه الفريضة فتنجو، والأمة التي تهملها فتهلك، فقال : ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء؛ مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا؛ هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم؛ نجوا ونجوا جميعاً)) (1).
ومن سنن الله أنه إذا وقع الإهمال بأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم وقع العذاب ؛ فإنه يعم الفاعل للمنكر والتارك للإنكار؛ قال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (2).
عباد الله:
إن كثيراً من الناس لا يشكون في فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يشكون في فائدته للأمة ولدينها في الحاضر والمستقبل، ولكنهم يتقاعسون عن ذلك؛ إما تهاوناً أو تفريطاً، أو اعتماداً على غيرهم وتسويفاً، وإما جبنا يلقيه الشيطان على قلوبهم وتخويفاً، والله تعالى يقول: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (3).
وبعضهم يتعلل بقوله: عليكم أنفسكم (4).
ولقد قطع الطريق على هؤلاء أبو بكر رضي الله عنه حينما خطب؛ فقال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه؛ أوشك أن يعمهم الله بعقاب)).
عباد الله:
إن تخويف الشيطان إياكم أولياءه وتسليطهم عليكم لا ينبغي أن يمنعكم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالقائم به قائم بوظيفة قام بها الرسل من قبل، ولابد أن يناله من الأذى ما يناله؛ كما قد لاقى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد لاقى الأنبياء والرسل من أقوامهم أشد الأذى وأعظمه، حتى بلغ ذلك إلى حد القتل؛ قال تعالى: إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (1).
فنوح عليه الصلاة والسلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فكان عظماؤهم وأشرافهم يسخرون منه، ولكنه صامد في دعوته، يقول: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون (2) ، حتى هددوه بالقتل حيث قالوا: لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين (3).
وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن سلك شتى الطرق مع قومه ؛ يدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر ؛ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: اقتلوه أو احرقوه فما ثنى ذلك عزمه، ولا أوهنه عن دعوته، بل مضى في سبيل دعوته إلى ربه بعزم وثبات حتى أزال منكرهم حينما كسر أصنامهم، حتى بلغ بهم الحال إلى أن أرادوا أن ينفذوا ما هددوه به من الإحراق، فأضرموا ناراً عظيمة، وألقوا إبراهيم فيها.
ولكن الله تعالى قال لها: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ، فكانت برداً لا حر فيه، وسلاماً لا أذى فيه، ومن خاصة النار الإحراق، ولكن الله تعالى سلبها هذه الخاصة.
وموسى حصل له معارك عديدة مع فرعون المتكبر الجبار، دعاه موسى إلى الله تعالى، فتوعد موسى بالسجن والقتل، فما وهن موسى ولا استكان، بل مضى في دعوته.
وهذا عيسى عليه السلام أوذي، ورميت أمه بالبغاء (أي: الزنى)، وعزموا على قتله، واجتمعوا عليه، فألقى الله شبهه على رجل، فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه وقالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم فقال تعالى مكذباً لهم: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم (1).
وهذا خاتم الأنبياء محمد r لم يسلم من الأذى في دعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، بل ناله من الأذى القولي والفعلي مالا يحتمله ولا يطيقه إلا من كان مثله، ولم يثنه ذلك عن دعوته إلى الله عز وجل، فآذوه بكل ألقاب السوء والسخرية، وآذوه بالأذى الفعلي، فوضعوا عليه سلا الجزور وهو ساجد، ورموا الأذى على بابه، ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، وخنقه عقبة بن أبي معيط في ثوبه خنقاً شديداً، ولم يثنه ذلك عن دعوته.
عباد الله:
إن هذا الصبر العظيم على هذا الأذى الشديد الذي لقيه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لأكبر عبرة يعتبر بها المؤمنون الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر؛ ليصبروا على ما أصابهم، ويحتسبوا الأجر من الله، ويعلموا أن للجنة ثمناً.
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (1)
عباد الله:
إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شأنه أن يحول المجتمع إلى جحيم المعاصي، ويجعله لقمة سائغة لأعدائه ؛ ينفثون فيه سمومهم، وبالتالي تتزعزع العقيدة في نفوس أبنائنا، ويتمكن أعداؤنا من سلب الأمة من ريادتها وإنزالها من عليائها إلى الحضيض.
شباب الإسلام:
مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وليكن لكم في سلفنا الصالح قدوة، ليكن قدوتكم بلال؛ حيث لقي في سبيل دعوته ألواناً من العذال وأصنافاً من البلاء، وعمار، وأمه سمية رضي الله عنهم جميعاً، ولا تلتفتوا إلى ما ينعق به أعداء الإسلام.
اللهم! اهدنا ويسر الهدى لنا، وارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فاستغفروه ؛ إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون:
اتقوا الله تعالى، واعتزوا بإسلامكم، وتمسكوا به، وقوموا بما أوجب الله عليكم.
عباد الله:
إننا إذا لم نقم بما أوجب الله علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله؛ فإن أعداء الإسلام يتربصون بنا، وقد أعدوا خططاً ماكرة لانتزاع المسلم من إسلامه، وضمه إلى حظيرة الكفر؛ فأعداء الإسلام يخططون وينفذون، ومكان التجارب والتنفيذ هو مجتمع المسلمين.
شباب الإسلام:
كونوا على حذر من مخططات أعداء الإسلام ومن يقوم بها من أبناء جلدتنا ممن يتكلمون بألسنتنا، لكنهم كما وصفهم الرسول : ((دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها؛ قذفوه فيها)).
ولقد أعلن اليهود في بروتوكولاتهم بخططهم في الغزو الفكري ليفسدوا على المسلمين عقائدهم وضمائرهم وعقولهم، بل تبنوا أفكاراً ومبادئ وشخصيات يهودية وغير يهودية تدعوا إلى هدم العقيدة وتحطيم الأخلاق الفاضلة؛ تحقيقاً لهدفهم، وتنفيذاً لمخططهم؛ كفرويد، وماركس، ودارون، بل لقد وصل الأمر باليهود أن رسموا لإفساد الإنسانية في عقائدها وأخلاقها منهجاً أخذوا في تنفيذه عن طريق وسائل الإعلام ودور النشر والإذاعات، وعن طريق المنظمات الماسونية التي أوجدوها، وعن طريق كاتب مأجور أو عميل.
فيقول اليهود في البروتوكول التاسع: "وقد تمكنا من تضليل غير اليهود، وإفسادهم خلقيا، وحملهم على البلادة عن طريق تعليم المبادئ التي نعتبرها نحن باطلة على الرغم من إيحائنا بها".
ويقولون في البروتوكول الثالث عشر: "ولكي نبعد الجماهير من الأمم غير اليهودية عن أن تكشف بأنفسها أي خط عمل جديد ينبغي أن نشغلهم بأنواع شتى من الملاهي والألعاب وهلم جرا، وسرعان ما نبدأ الإعلان في الصحف، وصرف الناس إلى الدخول في مباريات شتى من كل أنواع المشروعات؛ كالفن والرياضة ونحو ذلك.
إن هذه الملاهي الجديدة ستلهي الشعوب حتماً عن المسائل التي ستختلف فيها معنا، وحالما يفقد الشعب نعمة التفكير المستقل بنفسه سيهتف جميعه معنا، لسبب واحد؛ وهو أننا سنكون أعضاء المجتمع الوحيدين من الذين يكونون أهلاً لتقديم خطوط تفكير جديدة، وهذه الخطوط سنقدمها متوسلين بتسخير آلاتنا وحدها أمثال الأشخاص الذين لا يستطاع الشك في تحالفهم معنا.
إن دور المثاليين المتحررين سينتهي حالما يعترف بحكومتنا، وسيؤدون لنا خدمة طيبة حين يحين ذلك الوقت.
شباب الإسلام:
هذا جزء من مخطط أعداء الإسلام اليهود، ونجح اليهود – مع الأسف – فيما يرمون إليه، وصدروا ما لديهم من الفساد إلينا، فقضوا على الدين والأخلاق عند بعض الناس، وأخذوا الأموال الطائلة من خلال تقديم ذلك الفساد، ونرى بعض الناس يتفانى في الخدمة لأعداء الإسلام، وموالاتهم، فضربوا بالنصوص التي تأمر بالبراءة منهم عرض الحائط، واستقدموهم لبلاد الإسلام؛ ليشاركوا في البضاعة التي صدورها إلينا، ودفعت لهم المبالغ الطائلة، وقد لاقى أعداء الإسلام منهم ما لا قوا من التعظيم، وقدمت لهم الهدايا التذكارية؛ كالجواهر والخناجر والسيوف، وشد كثير من شباب المسلمين الرحال إليهم ليقابلوهم، وشد كثير من شباب المسلمين الرحال إليهم ليقابلوهم، حتى أشعروهم بالعزة والاستعلاء، حتى صرح أحدهم بأن قيمة الجلوس معه ساعة بأكثر من ثلاثين ألف ريال!!
الله أكبر! ما هذا الإكرام وقد أهانهم الله؟! وما هذه العزة وقد أذلهم الله؟! ما هذه المآسي التي يندى لها الجبين؟!
قال الله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير (1)
جميع ما يصيبنا من المكروه إنما هو بسبب أعمالنا، وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، فضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب ؛ فهو كالمعاند!!
قال أحد السلف: رجاؤك الرحمة ممن لا تطيعه من الخذلان الحق.
عباد الله:
إن نعم الدنيا متوافرة ومتنوعة، ولكن لننظر موقفنا من هذه النعم؛ أنحن شكرناها؟ أم أن بعض الناس استعملها في معاصي الله؟ والحق أن النعم تزيد، ولكن المعاصي أيضا تزيد، والنبي قال: ((إذا رأيت الله "عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب؛ فإنما هو استدراج)) ، ثم تلا قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (1)
وقال بعض السلف: إذا رأيت الله عز وجل يتابع عليك نعمة وأنت مقيم على معاصيه؛ فاحذره؛ فإنما هو استدراج منه يستدرجك به.
وقد قال الله تعالى: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين (2).
عباد الله:
إن الناظر في مجتمع المسلمين اليوم يجد أن أعداء الإسلام قد نجحوا إلى حد كبير في تمزيق الأمة؛ فالكل قد اشتغل بما عنده عن غيره؛ فحرب في أفغانستان، وحرب في الخليج، واضطهاد في دول الأقليات المسلمة، وقطيعة بين بعض المسلمين، ومهاترات أشعلوا بها الحروب بعد أن اشتعلت نار الفساد، وهكذا.... فإذا انتشر الفساد، وهجرت أحكام الله، وعصي في أرضه، وفعل المنكر، ودعي إلى المنكر؛ فإن الله يملي للظالم ويمهله، ثم إذا أخذه؛ لم يفلته، بل وسلط عليه أعداءه، حتى يسوموه سوء العذاب، ولا منقذ إلا العودة إلى الله.
وانظروا يا عباد الله إلى نعمة الأمن لدينا، واقرنوها بضدها لتميز فتصوروا حالة الخوف إذا حدث في بعض البلاد، حتى أصبحوا في مكامن تحت الأرض، لا يستطيعون الخروج ولا البحث عن الأكل والشراب، واشكروا الله تعالى على هذه النعم، واستقيموا على طاعته؛ لأن الله وعد بنصر من ينصره.
(1) آل عمران : 110.
(2) التوبة : 71.
(1) الحج : 40 ، 41.
(2) المائدة : 79.
( 1) أخرجه البخارى في ( الشركة ، باب هل يقرع في القسمة ،5/94) وفى (الشهادات ، باب القرعة في المشكلات) واخرجه الترمذى في (الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد او باللسان او بالقلب ، رقم 2174).
(2) الانفال:25.
(3) ال عمران 175.
(4) المائدة 105.
(1) آل عمران 21.
(2) هود 38.
(3) الشعراء 116.
(1) النساء 157.
(1) البقرة 214.
(1) الشورى 30.
(1) الانعام 44.
(2) الزخرف 33-35.
(1/463)
الترفيه : ما يباح منه وما يحرم
موضوعات عامة
الترفيه والرياضة
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – الذين يتقون الله هم الذين يهجرون المعاصي
2 – من اللهو ما هو مباح ومنه ماهو محرم
3 – مظاهر اللهو في مجتمعنا
4 – حال الجد عند صلاح الدين الأيوبي
5 – اللاهون آمنون في مكر الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً (1)
عباد الله:
إن التقوى وصية الله للأولين والآخرين ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله
وقد عرف بعض العلماء التقوى، حيث قال: هي أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
وعلى هذا؛ فمن عصى الله تعالى ؛ فهذا ما اتقاه، ولو زعم بلسانه أنه متق لله
عباد الله:
إن بعض الناس هداهم الله قد لجوا في المعاصي، وغرقوا فيها، فضيعوا كثيراً من أوقاتهم بمعصية الله، ولكنهم لبسوا هذه المعاصي لبوساً آخر، وسموها بغير اسمها، أسماء لا تغير من الحقيقة شيئاً، ففتحوا على أنفسهم باباً، ودخلوا منه، وأدخلوا من تحت ذممهم، وسموا ذلك الباب الترفيه، وادعوا أنهم يروحون عن أنفسهم، وزعموا أن هذا من حقهم، ولو عملوا ما عملوا، ولكنهم مخطئون في ذلك؛ فالترفيه والترويح عن النفس لا يكون في معاصي الله.
عباد الله:
إن الترفيه واللهو منه ما يباح ومنه ما يحرم:
أما المباح منه؛ فهو ما رواه حنظلة الأسيدي؛ قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله ؛ يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين؛ فإذا خرجنا من عند رسول الله ؛ عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله؛ إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله ؛ قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله : ((وما ذاك ؟)). قلت: يا رسول الله! نكون عندك؛ تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين؛ فإذا خرجنا من عندك؛ عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً! فقال رسول الله : ((والذي نفسي بيده؛ إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن؛ يا حنظلة! ساعة وساعة ثلاث مرات)) (1)
وليس المراد بقوله: (ساعة ساعة): أنه يطيع ساعة ويعصي أخرى؛ كما قد يفهم بعض الناس!! ولكن ساعة يلهو بلهو مباح؛ كما هو ظاهر في بقية الحديث.
ومما يدل على اللهو المباح ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه؛ أن رسول الله قال: ((كل ما يلهو به الرجل المسلم؛ فهو باطل؛ إلا: رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته أهله؛ فإنهن من الحق)) (1)
ففي هذا الحديث دليل على أن كل لهو يلهو به ابن آدم باطل ممنوع، ما عدا هذه الثلاثة التي استثناها رسول الله ؛ فإنها من الحق، أو وسيلة إليه.
قال الخطابي: قوله: (ليس من اللهو إلا ثلاث)؛ يريد: ليس من اللهو المباح إلا ثلاث، وفي هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة.
وقال الشوكاني: (إنما صدق عليه اسم اللهو؛ لأنه داخل في حيز البطلان؛ إلا تلك الثلاثة الأمور)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذا الحديث:
((كل لهو يلهو به الرجل؛ فهو باطل))
وقال أيضا ما معناه (الباطل ضد الحق؛ فكل ما لم يكن حقا أو وسيلة إليه، ولم يكن نافعاً؛ فإنه باطل، مشغل للوقت، مفوت على الإنسان ما ينفعه في دينه ودنياه، فيستحيل على الشرع إباحة مثل هذا)
عباد الله:
إن هناك فئة من الناس ظنوا أن ما تشتهيه نفوسهم من اللهو؛ فهو مباح، ولو كان فيه معصية لله، ولقد ضلوا وما كانوا مهتدين، ولذلك تقلبوا في المعاصي وألفوها من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
فإن نظرت إلى بعض مناسبات الأفراح كمناسبات الزواج مثلاً؛ وجدت فيها من اللهو المحرم ما الله به عليم؛ من رفع أصوات النساء بالغناء المحرم، وضرب الطبول من نساء أعددن أنفسهن لهذا الغرض، وتدفع لهن الأموال الطائلة، وغير ذلك من المحرمات، والإسراف المبالغ فيه في إعداد الولائم.... إلى غير ذلك من الأموال.
وكذلك بعض الأسر تقضي أوقات فراغها الكثيرة أمام آلات اللهو المحرم بحجة الترفيه، فيسمعون الأغاني المحرمة، ويبقون حتى ساعة متأخرة من الليل، فيستخدمون نعمة السمع والبصر والمال فيما حرم الله، وينشئون الصغار على ذلك، وكل هذا باسم الترفيه وقضاء وقت الفراغ.
وبعض النساء تستقبل إجازة آخر الأسبوع في التنقل بين المحلات في الأسواق التجارية دون ما حاجة، مستخدمة أطيب طيبها وأحسن ثيابها مما لا تستخدمه لزوجها الذي أمرت بالتزين له، وهذا لا يجوز.
وبعض الناس من أصحاب العوائل ينتظرون إجازة آخر الأسبوع بفارغ الصبر، فيخرجون بنسائهم إلى الأماكن العامة، وهي ما يسمى بالمنتزهات، فيلقون بتلك النسوة في صعدها؛ فيكنّ عرضة لأنظار الرائح والغادي من الناس الذين يأتون ليتلصصوا بأنظارهم على النساء، وحال غالب النساء تستخدم أرجوحة الأطفال، فتتمايل أمام وخلف، وحدث ولا حرج من التكشف، والأجانب ينظرون إليها، ويجري هذا تحت سمع وبصر الأولياء!!
فيا سبحان الله! أوصل حالنا إلى ما نرى؟! أفقدت الغيرة؟! أذبحت الأخلاق؟!
ومن هنا؛ فإنه إذا كان ولابد من تلك الترفيهات ؛ فيجب على من يهمه الأمر أن يجعل مكاناً خاصاً للنساء، ومن دخله من الرجال ؛ عوقب بما يناسبه، أما أن تكون بأوضاعها الحالية، فإن سلبياتها أكثر من إيجابياتها، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
وهناك أناس همهم في نهاية الأسبوع أن يتجولوا في الشوارع بنسائهم الكاشفات عن وجوههن؛ ليصبحن فتنة لكل مفتون.
عباد الله:
كل هذا يجري، وما خفي أعظم، والأمة الإسلامية تقاسي من محنتها ما تقاسي، والعالم من حولنا يموج بالجوع، والخوف، والنقص، والتشريد، وانتهاك الأعراض، والحروب المدمرة التي رملت النساء ويتمت الأطفال وتركت ضحاياها بين قتل وجريح ومنقطع الأطراف ومعدوم الحواس، والمسجد الأقصى تحت سيطرة اخوة القردة والخنازير، وأصبح اليوم أرخص الدماء هو الدم المسلم.
ومع هذا؛ هناك متبع لأولئك القوم؛ يلهون ويعصون الله جهاراً نهاراً.
ويحهم!!
أأمنوا مكر الله؟! فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
أأخذوا العهد والأمان من الله؟! فإن الله إذا عصي في أرضه؛ غار في سمائه!!
والسعيد من وعظ بغيره.
ورحم الله صلاح الدين، حينما كان جالساً مع قومه؛ قال له بعضهم: لماذا لا نراك ضاحكاً أيها القائد؟ فأجاب: (أستحي من الله أن أضحك والمسجد الأقصى في يد الصليبين)
عباد الله:
إن من يفعل تلك الأمور أو غيرها من المعاصي هم الراقصون على جراح أمتهم، وهم الذين سيمكنون عدوها منها.
إن الواجب على أمة الإسلام أن تداوي جراحها، بينما البعض يمسك بالمدى ليوسع الجرح ويجعله ينزف، حتى يغرقها بدمار العار، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن كلا منكم على ثغر من ثغور الإسلام؛ فليحذر أن يؤتى الإسلام من قبله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبوم أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (1)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى حق تقواه، استمسكوا من الإسلام بأوثق عراه، واحذروا أسباب سخط الله؛ فإنه أعد النار لمن عصاه، واعلموا أن العزة في طاعة الله، وقد تستولي على المسلم حالة ضعف فيستسلم لهواه وينقاد لشهواته ويطيع شيطانه فيرد المهالك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الهوى إله يعبد من دون الله)، ثم تلا: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه (1)
وقال عكرمة رحمه الله في قوله تعالى: ولكنكم فتنتم أنفسكم (2) ؛ يعني: بالشهوات، وتربصتم ؛ يعني: بالتوبة، وارتبتم يعني: في أمر الله وغرتكم الأماني ؛ يعني: بالتسويف، حتى جاء أمر الله ؛ يعني: الموت، وغركم بالله الغرور ؛ يعني: الشيطان.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اعقدوا هذه النفوس عن شهواتها (أي: امنعوا)؛ فإنها طلقة تنزع إلى شر غاية، إن هذا الحق ثقيل حري، وإن الباطل خفيف وبي، وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أخاف عليكم اثنتين: اتباع الهوى، وطول الأمل؛ فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة).
وقال بعض الحكماء: هواه أعطى عدوه مناه
عباد الله:
إن بعض الناس قد جعل الصديق – وهو العقل – مقطوعا، وجعل العدو – وهو الهوى – متبوعاً، ومن هذا فعله؛ فهو أحمق؛ فأفضل الناس من عصى هواه.
عباد الله:
ولما كان الهوى غالباً إلى سبيل المهالك مورداً موارد السوء؛ جعل العقل عليه رقيباً مجاهداً؛ يلاحظ غفلته، ويدفع بادرة سطوته، ويدفع خداع حيلته؛ لأن سلطان الهوى قوي، ومدخل مكره خفي، ومن هذين الوجهين يؤتى العاقل، حتى تنفذ أحكام الهوى عليه بأحد الوجهين: قوى سلطانه، وخفاء مكره:
فأما الوجه الأول؛ فهو أن يقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه، حتى تستولي عليه غلبة الهوى والشهوات، فيكل العقل عن دفعها، ويضعف عن منعها، مع وضوح قبحها في العقل المقهور بها، وهذا يكون في الأحداث أكثر، وعلى الشباب أغلب؛ لقوة الشهوة ودواعي الهوى المتسلط عليهم.
عباد الله:
قد يتساءل البعض: ما هو العلاج لأولئك الناس الذين استولت عليهم أهواؤهم فأصبحوا يسيرون حيث سيرهم الهوى، وإن كان في ذلك ضرر عليهم؟
فأقول: حسم ذلك أن يستعين العقل بالنفس النفور، فيشعرها ما في عواقب الهوى من شدة الضرر، وقبح الأثر، وكثرة الإحراج، وتراكم الآثام، وليعلم أن النبي قال: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) (1) ، فأخبر أن طريق الجنة باحتمال المكاره، والطريق إلى النار باتباع الشهوات؛ فإذا انقادت النفس للعقل بما أشعرت به من عواقب الهوى؛ لم يلبث الهوى أن يصير بالفعل مدحواً بالنفس مقهوراً، ثم الحظ الأوفى في ثواب الخائف؛ قال تعالى: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى (2)
وأما الوجه ا لثاني الذي يؤتى منه العاقل؛ فهو أن يخفي الهوى مكره، حتى تموه أفعاله على العقل، فيتصور القبيح حسناً، والذي يضر نافعاً، وهذا يدعو إليه أحد شيئين:
إما أن يكون للنفس ميل إلى ذلك الشيء؛ فيخفي عنها القبح حسن ظنها، فترى القبيح حسنا، لشدة ميلها؛ كما قال الشاعر:
حسن في كل عين من تود
أما السبب الثاني؛ فهو انشغال الفكر عن تمييز ما يشق، وطلب الراحة في اتباع ما يسهل، ومن هذه حاله؛ فلا شك أنه سيتورط بخداع الهوى وزينة المكر.
اللهم! إنا نعوذ بك من تسلط الهوى.
اللهم! إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى.
اللهم! آت نفوسنا تقواها، وزكها أن خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم! أعز الإسلام، وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وسائر الطغاة والمفسدين.
اللهم! آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة يا رب العالمين!
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر؛ إنك سميع الدعاء.
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (19
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1) النساء131.
(1) الحديث اخرجه مسلم في ( التوبة ، باب فضل دوام الذكر والفكر في امور الاخرة والمراقبة)
(1)د رواه الترمذى في (فضائل الجهاد ) وهو مرسل وله شواهد من حديث عقبة الطويل الذى ذكر فيه " كل لهو باطل وليس من اللهو محمود الا ثلاثة "
(1) الأعراف : 97- 99
(1) الجاثية : 23.
(2) الحديد: 14.
(1) رواه مسلم من حديث انس بن مالك رضى الله عنة في 0 صفة الجنة في فاتحتة، وكذا الترمذ في ( صفحة الجنة ، باب حفت الجنة بالمكارة) ، ورواه البخارى من حديث ابى هريرة رضى الله عنه بلفظ " حجبت " بدلا من " حفت".
(2) النازعات: 40، 41.
(19 النحل: 90.
(1/464)
آفة العصر (المسكرات والمخدرات)
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العقل هبة الله للبشر. 2- حماية العقل واجبة لأنه مناط التكليف. 3- الخمرة في الجاهلية.
4- التناقض بين الإيمان والخمرة. 5- أعداء الإسلام ينشرون الخمر في بلادنا ومجتمعاتنا.
6- أضرار الخمر والمخدرات. 7- الخمر أم الخبائث. 8- تدرج الإسلام في تحريم الخمر.
9- هجر شارب الخمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، اتقوا ربكم وراقبوه في السر والعلن، فبتقوى الله ـ عز وجل ـ، تصلح الأمور، وتتلاشى الشرور، ويصلح للناس أمر الدنيا والآخرة.
عباد الله، لقد كرم الله ـ عز وجل ـ، بني الإنسان على كثير من مخلوقاته وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]
كرم الله ـ عز وجل ـ بني آدم بخلال كثيرة، امتاز بها عن غيره من المخلوقات، من جماد وحيوان ونبات وجان؛ كرمه بالعقل، وزينه بالفهم، ووجهه بالتدبر والتفكر، فكان العقل من أكبر نعم الله على الإنسان، به يميز بين الخير والشر، والضار والنافع، به يسعد في حياته، وبه يدبر أموره وشئونه، به يتمتع ويهنأ، به ترتقي الأمم وتتقدم الحياة، وينتظم المجتمع الإنساني العام، وبالعقل يكون مناط التكليف.
العقل جوهرة ثمينة، يحوطها العقلاء بالرعاية والحماية؛ اعترافا بفضلها، وخوفا من ضياعها وفقدانها.
بالعقل يشرف العقلاء، فيستعملون عقولهم فيما خلقت له، كما قال ـ تعالى ـ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ?لأَيَـ?تِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:17]. وقال تعالى: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ي?أُوْلِى ?لاْلْبَـ?بِ [المائدة:100]. وقال ـ تعالى ـ: إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لاِوْلِى ?لنُّهَى? [طه:128]. وقال ـ تعالى ـ: هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ [الفجر:5].
وإذا ما فقد الإنسان عقله، لم يفرق بينه وبين سائر الحيوانات والجمادات، بل لربما فاقه الحيوان الأعجم بعلة الانتفاع. ومن فقد عقله، لا نفع فيه ولا ينتفع به، بل هو عالة على أهله ومجتمعه.
هذا العقل الثمين، الذي هو مناط التكليف، يوجد في بني الإنسان، من لا يعتني بأمره، ولا يحيطه بسياج الحفظ والحماية، بل هناك من يضعه تحت قدميه، ويتبع شهوته، وتعمى بصيرته، كل هذا يبدو ظاهرا جليا، في مثل كأسة خمر، أو جرعة مخدر، أو استنشاق مسكر وشرب مفتر، تفقد الإنسان عقله؛ فينسلخ من عالم الإنسانية، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك والفاحشة؛ فتشل الحياة، ويهدم صرح الأمة، وينسى السكران ربه، ويظلم نفسه، ويهيم على وجهه، ويقتل إرادته، ويمزق حياءه، أيتم أطفاله، وأرمل زوجته وأزرى بأهله لما فقد عقله، فعربد ولهى ولغى. وبذلك كله يطرح ضرورة من الضروريات الخمس، التي أجمعت الشرائع السماوية على وجوب حفظها، ألا وهي ضرورة العقل.
إنها واجبة الحفظ والرعاية؛ لأن في حفظها قوام مصلحة البشرية؛ ففاقد العقل بالسكر، يسيء إلى نفسه ومجتمعه، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار؛ فيخل بالأمن، ويروع المجتمع، ويعيد أساطير الثمالى الأولين، ومجالس الشراب عند العرب الجاهليين.
عباد الله، فقدان العقل بالسكر عادة قبيحة، كانت تلازم أهل الجاهلية، عند معاقرتهم الخمرة، يقضون الليالي الساهرة، مع الأصحاب والخلان على احتسائها.
وهم مع ذلك يعدونها وسيلة من وسائل الفخر والكرم.
لقد أغرم الجاهليون بالخمرة، حاضرة وبادية، وافتخر الشعراء بمعاقرتها، وبذل المال في سبائها.
أقبل الجاهليون على الخمرة من أجل قتل الفراغ، ونسيان الفقر، فأكثر شعراؤهم القول في الخمور، على حين فترة من الرسل، فصدرت الخمرة في مطلع معلقة هي من أشهر معلقات العرب السبع، التي قيل: إنها علقت على أستار الكعبة، أنشد فيها عمرو بن كلثوم:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
تناقل العرب والشعراء تلك المعلقة، وكأنها قرآن يتلى؛ فأخذت بمجامع الناس، وأيام العرب، حتى قال قائلهم:
ألهى بني تغلبٍ عن كل مَكْرُمَةٍ قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثوم
إذاً، كانت الخمرة في الجاهلية من دواعي فخر العربي وكرمه، وكان تقديمها للضيوف وجمع الفتيان لشربها مفخرة أيَّ مفخرة.
ثم يأتي رسول الله معلنا لأمته قولَه: ((ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)) [أخرجه مسلم] [1].
أيها الناس، ثبت في الصحيحين عن النبي في حادث الإسراء، أنه قال: إن أمة لا تحافظ على عقول بنيها لأمة ضائعة، ماذا فعل السكر بأهل الجاهلية؟ هل أعاد لهم مجدا تليدا أو وطنا سليبا؟ هل أخرجوا الناس من ظلمات الجهل والتيه ـ ((وأتيت بإناءين، في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فشربت، فقيل لي: هديت الفطرة، أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر، غوت أمتك)) [2] ، وفي بعض روايات ابن جرير ـ رحمه الله ـ أن جبريل قال: ((أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل)) [3] ـ إلى نور الهدى والاستقامة؟ أيفلح قوم استفحل السكر والخمر في ديارهم جهارا نهارا؟ لا، وكلا وألف لا.
الله أكبر! إن قول جبريل ـ عليه السلام ـ يؤكد أن الأمة المسلمة الحقة، لا يمكن أن تتبع شارب خمر، حتى ولو كان رسول الله وحاشاه عن ذلك ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً لا يجتمع في الأمة لبن وخمر، بمعنى أنه لا تجتمع فطرة وخمر، فإما فطرة صالحة بلا خمر، وإما خمر وتيه بلا فطرة. قال رسول الله : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) [رواه البخاري ومسلم] [4].
عباد الله، إن الخمر التي كانت من مفاخر الجاهلية ومن تقاليدهم المألوفة، جاء الإسلام بإلغائها، وخلص الجماعة المسلمة من رواسب الخمرة، بعد أن رسخ دعائم التوحيد والعقيدة في نفوسهم، وأخرجهم من عبادة العباد وعبادة الشهوة والجسد، إلى عبادة الله وحده. وأخرج كثيرا من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من منادمة الخمرة، فصقلهم الإسلام صقلا هجروا بسببه كل عادة تغضب الله ورسوله.
فها هو حسان بن ثابت يقول عن الخمر في الجاهلية:
ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما يهنينا اللقاء
فلما خالط الإسلام قلبه، صار شعره أشد على نحور المشركين من وقع النبل، كما قال ذلك رسول الله. [أخرجه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح] [5].
وهذا أبو محجن الثقفي ، الذي اشتهر بالخمرة في جاهليته، وهو الذي ينسب إليه قوله:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروّي عظامي في الممات عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألاّ أذوقها
فلما تمكن حب الله ورسوله من قلبه أبلى بلاء حسنا في القادسية، وقال له سعد بن أبي وقاص لا حبستك في الخمر بعدها أبدا، فقال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها بعد اليوم أبدا، فنعم الإسلام هاديا ومؤدبا.
أيها الناس، إن رذيلة المخدرات والمسكرات آفة خبيثة، لم تفش في عصر من العصور كما فشت في عصرنا الحاضر، ولم تصب المجتمعات بحمى السكر التي شنها أعداء الإسلام على جميع بلاد المسلمين، بهدف تخديرهم، وإهدار طاقاتهم، وشل جهودهم، وتغييب عقولهم علنا، كما أصيبت في هذا العصر.
لقد قام أعداء الإسلام، بزج كميات مخيفة من جميع أصناف المخدرات، إلى بلاد المسلمين حسدا من عند أنفسهم، يريدون للأمة المسلمة أن تتورط بهذه السموم، فلا تخرج منها إلا بعد لأي وشدائد، وتعب مضن، وتوبة صادقة.
وقع جمع من الناس في براثنها، ورضعوا من أثداء المخدرات والمسكرات؛ فنقضوا بناء المجتمعات ونثروا أعضاءها، وبددوها شذر مذر، نفخت روح الحضارة العصرية في بعضهم نفخة كاذبة، وخيلت إليهم أنهم خلق وجيل، مغاير لما مر من الأجيال في التاريخ كله، زعم المتفننون منهم، أنهم خلق لا تنطبق عليهم سنة، ولا يخضعون لسابقة، رأوا في عصر الذرة، وعصر المعلومات، فقالوا للناس أجمع: أما علمتم أن الدنيا دخان وكأس سكر وغانية؟!.
أمة الإسلام، كم من الآلاف في أمتنا، يعكفون على المسكرات والمخدرات، يهلكون أنفسهم عن طريق هذه الكيوف السامة القتالة، فأخذوا يزهقون أرواحهم، ويحفرون قبورهم بأيديهم حتى صاروا أشباحا بلا أرواح، وأجساما بلا عقول.
أيها المسلمون، إن للمسكرات والمخدرات مضارَّ كثيرةً أثبتها الطب العصري، وأكدتها تجارب المجتمعات، وذكروا فيها أكثر من مائة وعشرين مضرة، دينية ودنيوية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "إن الحشيشة حرام، يحد متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر، من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله".أ.هـ كلامه ـ رحمه الله ـ.
ومن أعظم مضار المسكرات والمخدرات، أنها تفسد العقل والمزاج. وما قيمة المرء إذا فسد عقله ومزاجه؟ يتعاطى المسكرات والمخدرات، فيرتكب من الآثام والخطايا، ما تضج منه الأرجاء، وما يندم عليه حين يصحو، ولات ساعة مندم، ولقد روى القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره [6] ، أن أحد السكارى جعل يبول، ويأخذ بوله بيديه ليغسل به وجهه وهو يقول: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين.
قال الضحاك بن مزاحم ـ رحمه الله ـ لرجل: ما تصنع بالخمر؟ قال: يهضم طعامي. قال: أما إنه يهضم من دينك وعقلك أكثر.
وقال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: لو كان العقل يشترى، لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده!
أيها الناس، في بلاد المسلمين، كثرت حوادث المخدرات، من مروجين ومدمنين، وكثرت الجرائم بتعاطيها، وأصبحت مكافحة المخدرات قضية تشغل الحكومات المختلفة. وكل هذا يتم في غياب وازع الإيمان.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا المسكرات المخدرات، واتقوا الخمر فإنها أم الخبائث.
أخرج النسائي وابن حبان في صحيحه، أن عثمان قام خطيبا فقال: (أيها الناس، اتقوا الخمر؛ فإنها أم الخبائث، وإن رجلا ممن كان قبلكم من العباد، كان يختلف إلى المسجد، فلقيته امرأة سوء، فأمرت جاريتها فأدخلته المنزل. فأغلقت الباب، وعندها باطية من خمر، وعندها صبي، فقالت له: لا تفارقني حتى تشرب كأسا من هذا الخمر، أو تواقعني، أو تقتل الصبي، وإلا صحت، تعني: صرخت، وقلت: دخل علي في بيتي، فمن الذي يصدقك؟ فضعف الرجل عند ذلك وقال: أما الفاحشة فلا آتيها، وأما النفس فلا أقتلها، فشرب كأسا من الخمر. فقال: زيديني. فزادته، فوالله ما برح، حتى واقع المرأة وقتل الصبي).
قال عثمان : (فاجتنبوها، فإنها أم الخبائث، وإنه ـ والله ـ لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجل، إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر) [7].
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ وَ?لاْنصَابُ وَ?لاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَ?جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء فِى ?لْخَمْرِ وَ?لْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَعَنِ ?لصَّلَو?ةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:90، 91].
[1] صحيح مسلم ح (1218).
[2] صحيح البخاري ح (3394) ، صحيح مسلم ح (168).
[3] تفسير الطبري (9/6-11) وفي إسناده : أبو جعفر الرازي عيسى بن أبي عيسى التميمي ، قال فيه ابن حجر: صدوق سيئ الحفظ خصوصاً عن مغيرة. التقريب (8077). وفيه أيضاً الربيع بن أنس البكري. قال ابن حجر: صدوق له أوهام ورمي بالتشيع. التقريب (1892).
[4] صحيح البخاري ح (2475) ، صحيح مسلم ح (57).
[5] إنما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك في عبد الله بن رواحه ـ رضي الله عنه ـ حين دخل ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: يا ابن رواحه بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي حرم الله تقول الشعر. فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل)). سنن الترمذي ح (2847). وقال : حسن صحيح غريب ، وسنن النسائي ح (2893) وهو صحيح.
أما ما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حسان فما رواه الترمذي ح (2846) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أو قال: ينافح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما يفاخر أو ينافح عن رسول الله)) صلى الله عليه وسلم. وهو حديث حسن.
[6] في تفسير سورة البقرة آية (219) يسألونك عن الخمر والميسر... الآية.
[7] صحيح موقوف ، سنن النسائي ح (5666) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان ح 5348) مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال الأرناؤوط محقق الكتاب : إسناده ضعيف ، والصواب وقفه كما قال الدارقطني.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الإسلام تدرج في الخمر، حتى ختمها الله بالتحريم، ثم قال ـ عز وجل ـ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:91]؛ فقال الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ: (انتهينا انتهينا).
ويشمل تحريم الخمر، جميعَ أنواعِ المسكرات؛ لقوله : ((كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)) [رواه مسلم] [1].
وشارب الخمر مستحق للعقوبة الدنيوية وهو أن يجلد ثمانين جلدة، ويحد شاربها وإن لم يسكر سواء أشرب الكثير أم القليل، بإجماع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ.
وإذا تكرر من الشارب الشرب، وهو يعاقب ولا يرتدع، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يقتل في الرابعة عند الحاجة إليه، إذا لم ينته الناس بدون القتل".
وهذا عين الفقه؛ لأن الصائل على الأموال، إذا لم يندفع إلا بالقتل قتل، فما بالكم بالصائل على أخلاق المجتمع وصلاحه وفلاحه.
وشارب الخمر فاسق، لا يسلَّم عليه، ولا يعاد إذا مرض، ولا تجاب دعوته، قال البخاري ـ رحمه الله ـ في الأدب المفرد: ((باب لا يسلم على فاسق)) وساق بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: ((لا تسلموا على شرّاب الخمر)) [2].
وقال أيضا: ((لا تعودوا شُرّاب الخمر إذا مرضوا)) [3].
وأما العقوبة الأخروية، فقد روى أبو داود وابن ماجه والترمذي، عن ابن عمر قال: قال رسول الله : ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، ومبتاعها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)) [4] [وهو حديث حسن].
وقال : ((من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها، حرمها في الآخرة)) [رواه مسلم] [5].
وقال : ((مدمن الخمر إن مات، لقي الله كعابد وثن)) [رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح] [6].
وقال : ((كل مسكر حرام، إن على الله ـ عز وجل ـ عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار، أو: عصارة أهل النار)) [رواه مسلم] [7].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية.
[1] صحيح مسلم ح (2003).
[2] الأدب المفرد ح (1017) وإسناده ضعيف ، فيه : عبيد الله بن زحر الضمري. قال فيه علي بن المديني: منكر الحديث ، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. ميزان الاعتدال للذهبي (3/6-7).
[3] الأدب المفرد ح (529) وإسناده كالذي قبله.
[4] سنن أبي داود ح (3674) ، سنن الترمذي ح (1295) ولفظه : ((لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ..)) وقال: حديث غريب. سنن ابن ماجه ح (3380) وهو صحيح.
[5] صحيح مسلم ح (2003).
[6] مسند أحمد (1/272). وإسناده ضعيف لجهالة الراوي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[7] صحيح مسلم ح (2002).
(1/465)