المحبة الإيمانية وآثارها
الإيمان, التوحيد
الألوهية, خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
من أنواع المحبة : طبيعية مشتركة – رأفة وإشفاق – إلف وأنس , وطبيعة هذه الأنواع
وهذه لا تتعارض مع التوحيد – محبة العبودية والتذلل والخضوع , ولا تكون إلا لله – آثار
محبة العبودية الصادقة إيثار محبة الله على غيرها , وعلامة هذا الإيثار : فعل ما يحبه الله
وترك ما يكرهه – الأسباب المعينة على إيثار محبة الله – تفاوت الناس في مقام المحبة
أثر مقام الحب الإيماني , والفوائد في قصة أيوب عليه السلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن المحبة ثلاثة أنواع:
1- محبة طبيعية مشتركة: كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء.
2- ومحبة رأفة وإشفاق: كمحبة الوالد لولده الطفل والوالدة لولدها الرضيع ونحو ذلك.
3- ومحبة إلف وأنس: كمحبة المشتركين في شيء واحد، كمحبة المشتركين في صناعةٍ أو في علمٍ أو تجارة أو مرافقة أو نحو ذلك.
فهذه الأنواع لا تعظيم فيها للمحبوب بل لا يصلح حال الخلق إلا بها فوجودها فيهم لا يكون شركاً في محبة الله تعالى.
فهذا خليل الرحمن وحبيب رحمن العالمين سيدنا محمد هو أشد الخلق وأعظمهم محبة لله تعالى ومع ذلك كان يحب الحلواء [1] والعسل من الأطعمة ويحب [2] الحلو البارد من الأشربة ويحب الطيب [3] والنساء وأحب نسائه [4] إليه عائشة رضي الله عنها حتى سماها الصحابة حبيبة رسول الله وكانوا يتحرون يومها [5] فيهدون فيه للرسول ، وكان يحب أصحابه الكرام وأحبهم إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
فهذه محبة طبيعية لا تنقص المحبة الواجبة لله تعالى لأن المحبة التي لا يجوز فيها الشرك هي محبة العبودية والتذلل والخضوع والتعظيم، وهذه المحبة لا تكون إلا لله الواحد القهار سبحانه وتعالى ولا يجوز فيها الشرك أبدًا، وهذه هي المحبة التي أشرك فيها أهل الخسران المبين حتى إذا جاء الحق واجتمعوا مع آلهتهم التي أحبوها مع الله، اجتمعوا في جهنم قال المشركون: تا الله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [الشعراء:97-98].
فالمؤمن الموحد المحسن محبته لله تعالى، محبة عبودية وتذلل وخضوع وتعظيم، وهذه المحبة الصادقة تنتج وتوجب الإيثار والموافقة التامة فإن المحب لا يؤثر على محبوبه شيئًا أبدًا بل يؤثر محبوبه على كل شيء، وكذلك المؤمن الموحد المحسن لا يؤثر على رضا الله شيئاً أبدًا بل يؤثر رضا الله تعالى على رضا غيره، وحبه على حب غيره، ويؤثر رجاءه على رجاء غيره، ويؤثر خوفه على خوف غيره، ويؤثر التذلل له والخضوع والاستكانة على بذل ذلك لغيره، ويؤثر الطلب منه والسؤال وإنزال الفاقات به يؤثر ذلك على تعلقه بغيره مهما كان ذلك الغير.
وعلامة هذا الإيثار أمران:
أولهما: فعل ما يحبه الله تعالى وإن كان هذا الفعل مما تكرهه النفس وتهرب منه.
وثانيهما: ترك ما يكرهه الله تعالى وإن كان هذا المكروه مما تحبه النفس وتهواه هاتان علامة هذا الإيثار الذي توجبه المحبة الصادقة.
ومما يعين المؤمن الموحد على هذا الإيثار، فإن في هذا الإيثار امتحانًا عظيمًا للمؤمن مما يعين المؤمن الموحد على ذلك ثلاثة أمور:
أولها: أن تكون طبيعته لينة سلسة ليست بجافية ولا قاسية.
وثانيها: أن يكون إيمانه قويًا ويقينه راسخًا.
وثالثها: قوة صبره وثباته.
فهذه الأمور الثلاثة مما تعين المؤمن على الإيثار.
فالمحبة الصادقة تعني هذا الإيثار وتعني الموافقة التامة فكل ما يحبه المحبوب محبوب وكل ما يكرهه المحبوب مكروه، وهذا مقام عظيم يتفاوت فيه الخلق ،وأعلاه في هذا المقام هم الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وأعلى الأنبياء مقامًا في ذلك إمامهم وخاتمهم سيدنا محمد ثم يأتي بعد الأنبياء في ذلك أصحاب محمد فقد كملّهم الله بنور الإسلام وآتاهم إيمانًا راسخًا ويقينًا قويًا فأقام في قلوبهم من الإيمان الراسخ وحب الله تعالى وإيثار رضاه على رضا غيره شيئاً عظيماً، لم يكن في قلب أحد من الأمة مثله من بعدهم أبدًا.
فالصحابة رضي الله عنهم هم بعد الأنبياء في هذا المقام العظيم.
والمؤمن الموحد إذا بلغ هذا المقام إذا كان بهذه المكانة فليحمد الله عز وجل فقد بلغ مقام الحب الإيماني وحينئذ فليرتق في سماوات الإحسان كما يشاء فإنه قد بلغ الدرجة التي يحبه فيها الله، وإذا أحبه الله كان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ولئن استعاذه ليعيذنه ولئن سأله ليعطينه، وحينئذ فلتطبق الدنيا ولتجتمع الشياطين ولتفعل المحن ما تفعل لن يضر كل ذلك لن يضر شيئًا ذلك المؤمن الموحد المحب فإنه مشغول بحب الله تعالى لن يلتفت إلى الدنيا ولن يعبأ بما فيها غير ذكر الله تعالى.
والناس كما ذكرنا يتفاوتون في هذا المقام فأعلاهم الأنبياء وأعلى الأنبياء مقامًا إمامهم محمد ثم يأتي من بعد ذلك أصحاب رسول الله هذه هي المحبة الصادقة التي تنتج الإيثار والموافقة التامة ومن أعظم الأمثلة لذلك عبد الله الصالح ونبيه الكريم أيوب عليه السلام.
فقد كان أيوب أكمل أهل الأرض إيمانًا في زمنه وأفضلهم وأحسنهم أنعم الله عز وجل عليه فآتاه من الأموال والأولاد والأهل الشيء العظيم وأغدق عليه من جوده وكرمه سبحانه وتعالى، ومع ذلك كان أيوب عليه السلام شاكرًا لربه قائمًا بواجبات العبودية لله تعالى، لم تفتنه نعمة المال عن عبادة ربه ولم تشغل قلبه عن حب ربه ولم يفتر لسانه عن ذكر ربه سبحانه وتعالى.
ثم امتحنه الله وابتلاه وسلب كل ذلك منه وسلط على جسده الأمراض فانتشرت في جسده القروح حتى أكلته، ومع ذلك ظل عليه السلام صابرًا محتسبًا، لم يفتر حبه لله ولم يضعف إيمانه بالله، ولم يفتر لسانه عن ذكر الله وشكره.
بل شغله ذلك كله حتى من الطلب والسؤال والدعاء إلى الله أن يكشف عما به من ضُر شغله شكر الله وذكره عن ذلك. كان لسان حاله عليه السلام ولسان مقاله: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار.
وكما صح في بعض الروايات [6] بلغ به الحال عليه السلام بعد ما أكلت القروح جسده أن تفرق عنه الناس وعافوه وكرهوه إلا رجلين من إخوانه.
فتغمده الله سبحانه وتعالى برحمته وكشف ما به من ضر وبلاء بعد ما استمر فيه ثلاث عشرة سنة صابرًا محتسبًا ما اشتكى أبدًا إلا الأنين. فكان عدو الله إبليس يقول :ما أشد ما غاظني أيوب عليه السلام، أصابه كل هذا البلاء ومع ذلك شاكر صابر وإني لأفرح حتى لأنينه لما أسمعه أعلم أنه يعاني من البلاء.
جاءت في الروايات الصحيحة أنه لما كشف الله ما به من ضر خرج يومًا لحاجته تقوده امرأته ممسكة إياه من يده، فلما فرغ أبطأت امرأته في العودة إليه فأوحى الله تعالى إليه أن اركض برجلك فضرب عليه السلام الأرض فنبعت عين فاغتسل منها فرجع صحيحًا معافى. ثم كساه الله حلة من حلل الجنة وكان له أندران أحدهما للقمح والآخر للشعير فملأهما الله تعالى له ذهبًا وفضة وعادت امرأته فلم تعرفه، فقالت: يا صاحب الحلة أما رأيت الرجل المبتلى فإني أخاف أن يكون قد ضاع أو أكلته الذئاب، قال :عمن تسألين؛عن أيوب؟. قال: أنا هو أيوب.
وفي صحيح البخاري [7] أنه عليه السلام بينما كان يغتسل عريانًا إذ خرّ عليه رجل جراد من ذهب فجعل يحثي في ثوبه يجمع الذهب في ثوبه فناداه ربه عز وجل: يا أيوب ألم أغنك عما ترى قال عليه السلام: بلى أي رب ولكن لا غنى لي عن بركتك.
فهذا أيوب عليه السلام العبد الصالح النبي الكريم كان وهو في أشد حالات محنته قد أكلت القروح جسده وعافه الناس وتفرقوا عنه وأنزل به هذا البلاء الشديد ثلاث عشرة سنة ومع ذلك ما فتر حبه لله تعالى ولا ضعف إيمانه لله تعالى بل ولم ينشغل لسانه عن ذكر الله تعالى وشكره أبدًا.
فهذه هي المحبة الصادقة، هذا من أروع الأمثلة على المحبة الصادقة التي تنتج الإيثار والموافقة التامة للمحبوب سبحانه وتعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حُبًّا لله [البقرة:165].
فهنا بين الله تعالى أن هؤلاء الذين يشركون في محبة الله تعالى فيتخذون أندادًا يحبونهم محبة عبودية وانقياد وخضوع وتعظيم، المؤمنون الموحدون أشد حبًا لله وعبودية وتعظيمًا وخضوعًا له، من خضوع هؤلاء المشركين لآلهتهم وأندادهم الذين أحبوها من دون الله عز وجل.
هذا الحب الإيماني العظيم هذا اليقين الذي يكون في النفس هو من أعظم الأمور المعتبرة في هذا المقام الإيماني الرفيع، فشتان بين رجلين، رجل امتلأ قلبه بحب الله فلو وُزن إيمانه بالجبال رجح عليها، وبين رجل آتاه الله ماله فهو وإن كان ينفق منه ويتصدق إلا أن قلبه مشغول عن حب الله تعالى.
فالأول وإن كان إنفاقه قليلاً وأعماله قليلة بقلة ذات يده، فإنه لما قام في قلبه أعظم مقامًا من الآخر.
حكى ابن القيم رحمه الله تعالى أن أحد الصالحين مر بمسجد فرأى الشيطان واقفًا على بابه فنظر داخل المسجد، رأى رجلين رجلاً قائم يصلي ورجل نائم.
فقال للشيطان: أمنعك ذلك المصلي من دخول المسجد، قال: كلا، إنما منعني ذلك الأسد الرابض ولولا مكانه لدخلت.
فذلك النائم كان أعظم مقامًا من ذلك القائم، لأن ذلك النائم كان قلبه أعظم حبًا لله تعالى، وكان الإيمان القائم في قلبه أقوى وأرسخ من إيمان ذلك القائم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في الأطعمة باب الحلواء والعسل(5/2071).
[2] أخرجه الترمذي برقم (1896) وأحمد (1/338).
[3] أخرجه أحمد (3/128و199و285) والنسائي (7/61) والحاكم (2/160).
[4] أخرجه البخاري في صحيحه في فضائل الصحابة (3/1339).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه في فضائل الصحابة باب فضل عائشة رضي الله عنها (3/1376).
[6] أخرجه ابن حبان في صحيحه (7/157-159) والطبري في تفسيره (23/167) وابو نعيم في الحلية (3/374-375) وغيرهم.
[7] أخرجه البخاري في صحيحه في الغسل (1/107-108) (279).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102]
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : (( من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي في التشهد (1/306) (408).
(1/246)
التوسط والتطرف
أديان وفرق ومذاهب, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الفرقة الناجية
عبد الله بن حسن القعود
الرياض
جامع المربع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمة الإسلام هي أمة الوسط 2- وسطية أهل السنة والجماعة بين إفراط وتفريط أهل البدع
3- وسطية في إثبات الصفات بلا تشبيه ولا تعطيل 4- وسطية أهل السّنة بين الخوارج
والمرجئة في مسألة الوعد والوعيد 5- وسطية في مسألة القدر بين القدرية والجبرية
6- وسطية في حب آل البيت بين الشيعة والناصبة 7- وسطية في الإنفاق بين الإسراف والتقتير
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً... الآية.
أيها الاخوة المؤمنون: إن الله – جلت قدرته وتعالت أسماؤه – أكرمنا أمة محمد بأن جعلنا خير أمة أخرجت للناس شهداء على الناس أكرمنا بأن جعلنا وسطا أي عدلاً خياراً لا إفراط فيها ولا تفريط ولا جفاء ولا جحود ولا جمود ولا جهل ولا انحراف ولا ضلال.
أكرمنا سبحانه بأن جعلنا وسطا بين الأمم السابقة وأنبيائها، وسطاً بين نِحَل هذه الأمة، أعني أمة الدعوة، التي أخبر عنها رسول الله – - بقوله: ((ستفترق أمتي على اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة وهي الجماعة)) وفي رواية قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)).
فالأمة الوسط الممدوحة الناجية هي الأمة المستقيمة على شرع الله السالكة الصراط المستقيم الذي أمرنا أن نسأله أن يهدينا له في كل ركعة من ركعات صلواتنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
وهذا الصراط المستقيم هو دين الإسلام المحض، وهو ما عليه الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة الفرقة الوسط الخيار الملتزمة لدين الله المتوسطة في جميع أمورها في باب الإيمان بالأنبياء، فلم تَغْلُ كما غلت النصارى في نبيها وعلمائها باتخاذهم أرباباً من دون الله، ولم تَجْفُ كما جفت اليهود الذين يقتلون النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس، وإنما آمنوا بهم وعزروهم واتبعوهم فيما أمروا أن يتبعوهم فيه، المتوسطة في باب صفات الله وأسمائه بين أهل التعطيل الذين يلحدون في صفات الله وأسمائه ويعطلون حقائق ما وصف الله سبحانه به نفسه وما وصفه به رسوله حتى شبهوه بالعدم والأموات وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فهم – أي الفرقة الناجية – أهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء يصفون الله سبحانه ويسمونه بما وصف وسمى به نفسه وبما وصفه وسماه به رسوله – - من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله سبحانه: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وقوله: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وقوله: فلا تضربوا لله الأمثال.
المتوسطة في باب الوعد والوعيد بين الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ويخرجونهم بها من الإسلام كالخوارج والمعتزلة وبين المرجئة ومنهم كثير من متمسلمة اليوم الذين يقولون: إن الإيمان مجرد التصديق فيجعلون إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء ومثل إيمان أبي بكر وعمر وغيرهما من السابقين من المهاجرين والأنصار، فهم – أي الفرقة الناجية – يعتقدون أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويرجون للمحسنين من أمة محمد ويخافون على المسيئين.
المتوسطة في باب القدر فهم يعتقدون أن الله علم كل شيء وكتب كل شيء وقدره. وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن للعبد قدرة وإرادة ومشيئة لكنها تابعة لقدرة الله وإرادته ومشيئته يقول الله سبحانه: وما تشاؤون إلا إن يشاء الله ، ويقول الرسول: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)).
وفي أصحاب رسول الله – - بين الغلاة فيهم والجفاة في حقهم، فلا يغلون فيهم كما غلت الروافض في أهل البيت، ولا يجفون كما جفت الروافض كذلك في حق أصحاب رسول الله، بل يحبون الكل ويوالونهم ويترضون عليهم ويكفون عما شجر بينهم ويصلون على الآل في صلواتهم وغيرها: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)). وفي باب التحليل والتحريم والتحاكم فيحرمون بطواعية ما حرمه الله ورسوله ويحلون ما أحله الله ورسوله، ولا يجوزون لكبارهم وحكامهم أن يحلوا ما حرم الله أو يحرموا ما أحله الله أو أن يحكموا بغير ما أنزل الله كما تفعله النصارى ومن شابههم في ذلك قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله... الآية. عن عدي بن حاتم – - ((أنه سمع رسول الله – - يقرأ هذه الآية قال: فقلت: يارسول الله: لسنا نعبدهم. قال أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه قال: قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم)).
ويشهد لهذا الحديث الآية السابقة، وقوله سبحانه في سورة الأنعام في سياق تحريم وتحليل: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون وفي باب العبادات فلا يتجاوزون بذلك الحد الذي شرعه رسول الله – - ولا يجفون فيما شرعه فيعلمون جانباً، فأمرهم أمر اتباع لا ابتداع، أمر اقتداء لا غلو فيه ولا جفاء.
في مجال الاقتصاد جبيا وانفاقا فلا إسراف ولا تقتير: والذين إذا نفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً.
فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
يروى أن عبد الملك بن مروان – رحمه الله – لما زوج عمر بن عبد العزيز – - ابنته فاطمة قال له: ما نفقتك قال : الحسنة بين السيئتين.
ومما سلف ونحوه أيها الإخوة – يعلم أن الخير كل الخير في إلتزام طريقة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة الطريقة الوسط المحفوظة المصونة من الأخطار فكلما كان الأمر أو الإنسان وسطا كان محميا محصنا من الأخطار، وكلما كان متطرفا خارجا عن التوسط غير ملتزم لما يجعله وسطا حقا كان مهددا معرضا لتتخطفه شياطين الإنس والجن دعاة الزيغ والضلال وصدق رسول الله – - في قوله: ((وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) رواه ابو داود.
فاتقوا الله – عباد الله – وحصنوا نفوسكم بلزوم هذه الطريقة المثلى الوسط والمتمثلة صفاتهم فيما سلف من قوله عليه الصلاة والسلام: ((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) ، وقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) وفي رواية: ((لا تزال هذه الأمة)). قال الإمام أحمد – رحمه الله -: إذا لم يكونوا أهل الحديث فمن هم؟.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/247)
الترغيب في الحج وفضل عشر ذي الحجة
فقه
الحج والعمرة
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحج ركن من أركان الإسلام. 2- فضل عبادة الحج. 3- حكم الحج ووقت وجوبه على
المكلف. 4- فضيلة الأيام العشر من ذي الحجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
عباد الله: إخوانكم في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام، وقصدوا البيت الحرام، وملأوا الفضاء بالتلبية والتكبير والتهليل والتحميد والإعظام.
تلبية لنداء إبراهيم عليه السلام: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم لقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [الحج:27].
ولقوله عز وجل: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [آل عمران:97].
ولقوله عز وجل: وأتموا الحج والعمرة لله [البقرة:19].
وقال : ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا)) ( [1] ).
وقد ورد في فضيلة هذه العبادة أحاديث كثيرة منها ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة قال: ((سئل رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) وعنه قال : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ( [2] ). وعنه قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) ( [3] ). وعن عائشة قالت: ((قلت يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال لكن أفضل الجهاد، حج مبرور)) ( [4] ).
والحج المبرور عباد الله يشتمل على أمور:
منها: الإحسان إلى الناس بجميع وجوه الإحسان، ففي صحيح مسلم أن النبي سئل عن البر فقال: ((حسن الخلق)) ( [5] ).
وكان ابن عمر ينشد:
بُنَيّ إن أبر شيء هين وجه طليق ولسان لين
والإحسان إلى الناس في الحج بالقول والفعل يحتاج إليه كثيرا في السفر، وفي المسند عن جابر عن النبي قال: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة قالوا: وما بر الحج يا رسول الله؟ قال: إطعام الطعام وإفشاء السلام)) ( [6] ).
وقالوا: البر هو فعل الطاعات كلها وضده الإثم.
قال الله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب [البقرة :177].
وكلها يحتاج إليها الحاج، فلا يصح الحج بدون الإيمان، ولا يكون مبرورا بدون إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأركان الإسلام مرتبط بعضها ببعض.
ومن أعظم أنواع البر عباد الله كثرة ذكر الله تعالى فيه، قال : ((أفضل الحج العج والثج)) ( [7] ).
والعج هو رفع الصوت بالتلبية والذكر، والثج إراقة دماء الهدايا والنسك ومن أنواع البر في الحج كذلك عباد الله استحسان الهدي واستسمانها واستعظامها. قال الله عز وجل: والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير [الحج:36]. وقال: ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج:32]. وقد أهدى النبي في حجة الوداع مائة بدنة.
ومن بر الحج كذلك عباد الله اجتناب أفعال الإثم كلها، من الرفث والفسوق والمعاصي، قال الله عز وجل: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [البقرة:197].
وقال : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ( [8] ).
ومن بر الحج كذلك عباد الله أن يطيب العبد نفقته، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل طيبة ما كل من حج بيت الله مبرور
ومن بر الحج كذلك عباد الله أن لا يقصد العبد بحجه رياء ولا سمعة، ولا مباهاة ولا فخرا، ولا خيلاء، ولا يقصد به إلا وجه ربه ورضوانه، ويتواضع في حجه، ويستكين ويخشع لربه.
قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: ما أكثر الحاج! قال: ما أقلهم. وقيل: الركب كثير والحاج قليل.
والحج فريضة العمر - عباد الله – روى مسلم عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله فقال: ((أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله : لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منها ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) ( [9] ).
والحج واجب عباد الله مع الاستطاعة لقول الله عز وجل: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [آل عمران:97]. وحد الاستطاعة أن يملك المسلم ما يوصله إلى البيت الحرام، مع نفقته ونفقة أهله حتى يرجع.
واختلف العلماء هل هذا الوجوب على سبيل الفور أو التراخي؟ فقال الشافعي وأصحابه: إنه على التراخي، وقال الإمام أحمد وأصحاب أبي حنيفة: إنه على الفور، وللإمام مالك قولان مشهوران.
والراجح من حيث الدليل أنه على الفور، أي إن العبد إذا ملك حد الاستطاعة، ينبغي عليه أن يحج بيت الله الحرام.
والأدلة على ذلك من كتاب الله عز وجل قوله تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [آل عمران:133]. وقوله عز وجل: سابقوا إلى مغفرة من ربكم [الحديد:21].
ولا شك أن المسارعة والمسابقة كلتاهما على الفور.
كذلك حذرنا الله عز وجل من اقتراب الأجل ونحن لا نشعر، فقال عز وجل: أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم [الأعراف:185].
ففي هذه الآية أنه يجب على الإنسان أن يبادر إلى امتثال الأمر خشية أن يعاجل العبد الموت وهو لا يدري.
وقد دلت السنة كذلك، بمجموعة أحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الاحتجاج، فمن ذلك ما رواه ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال: قال رسول الله : ((من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة)) ( [10] ).
وعن عمر بن الخطاب قال: ((لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار، فتنظر كل من كانت له جدة، ولم يحج فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين)).
وكما دلت أدلة الشرع على وجوب الحج على الفور، دلت كذلك أدلة اللغة والعقل.
أما اللغة فإن أهل اللسان العربي، مطبقون على أن السيد لو قال لعبده اسقني ماء، فلم يفعل فأدبه، فليس للعبد أن يقول: هذا الأمر على التراخي.
وأما العقل فلو قلنا إن وجوب الحج على التراخي، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون ذلك التراخي له غاية معينة ينتهي إليها وإما لا.
والقول بأن له غاية ينتهي إليها ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وإن قلنا إن تراخيه إلى غير غاية، فما جاز تركه إلى غير غاية، دل على عدم وجوبه، والمفروض وجوبه.
فإن قيل: غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه. فالجواب أن البقاء إلى زمن متأخر ليس لأحد أن يظنه لأن الموت يأتي بغتة، فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين طويلة، ويخترمه الموت فجأة.
كما قال الله عز وجل: وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم [الأعراف:185].
سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمنا، يترددون إليه ولا يرون أنهم قضوا منه وطرا، لما أضاف الله تعالى ذلك البيت إلى نفسه، ونسبه إليه بقوله عز وجل لخليله إبراهيم: وطهر بيتي للطائفين [الحج:26]، تعلقت قلوب المحبين ببيت محبوبهم، فكلما ذكر لهم ذلك البيت حنوا، وكلما تذكروا بعدهم عنه أنوا.
يحق لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق، ولمن شاهد السائرين إلى دار الأحبة وهو قاعد أن يحزن.
ألا قل لزوار دار الحبيب هنيئا لكم في الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضا فنحن عطاش وأنتم ورود
لئن ساروا وقعدنا، وقربوا وبعدنا، فما يؤمننا أن نكون ممن كره الله انبعاثهم فثبطهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين.
لله در ركائب سارت بهم تطوي القفار الشاسعات على الدجى
رحلوا إلى البيت الحرام وقد شجا قلب المتيم منهم ما قد شجا
نزلوا بباب لا يخيب نزيله وقلوبهم بين المخافة والرجا
على أن المتخلف لعذر، شريك للسائر في الأجر، كما قال النبي للصحابة وهو راجع من غزوة تبوك: ((إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم خلفهم العذر)).
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وقد راحوا ومن أقام على عذر كمن راحا
لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادر على مشاهدته في كل عام، فرض الله عز وجل على المستطيع الحج مرة واحدة في العمر، وجعل موسم العشر مشتركا بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج، روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيام العشر. ((فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) ( [11] ).
وهذا الحديث يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالفاضل في غيره ويزيد عليه.
فيستحب الإكثار من العبادات كلها في أيام العشر، كذكر الله عز وجل، والصلاة، والصيام، والصدقة، والجمهور على أن عشر ذي الحجة هي المقصودة بقول الله عز وجل: والفجر وليال عشر [الفجر:1].
وكان السلف يعظمون ثلاثة أعشار، عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان، والعشر الأول من شهر الله المحرم.
ودل على استحباب كثرة الذكر في أيام العشر قوله عز وجل: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات [ الحج:28].
فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء، ومن أيام العشر يوم عرفة، وهو عيد أهل الموقف، وفيه أكمل الله عز وجل للمسلمين دينهم، فنزلت: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:3].
وهو يوم مغفرة الذنوب، والتجاوز عنها، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول ما أراد هؤلاء)) ( [12] ).
ويستحب صيام يوم عرفة لأهل الأمصار، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة عن النبي قال: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله، أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده)) ( [13] ).
ويستحب لأهل الموقف الإفطار لأنهم ضيوف الرحمن والكريم لا يجوّع أضيافه.
اللهم وفق إخواننا زوار بيتك الحرام لحج مبرور.
اللهم ارزقنا في عامنا المقبل حجا مبرورا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
( [1] ) رواه البخاري (1/49) في الإيمان ، ومسلم (1/177) في الإيمان.
( [2] ) رواه البخاري والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة – صحيح الجامع (5/281) رقم 6073.
( [3] ) رواه البخاري ومسلم والأربعة ومالك وأحمد – صحيح الجامع (4/63) رقم 4015.
( [4] ) أخرجه البخاري (1/465) والبيهقي (4/326) وأحمد (6/79) من طريق عبد الواحد بن زياد ثنا حبيب بن أبي عمرة بلفظ قلت : ((يا رسول الله ألا نغزو ونجاهد معكم ؟ فقال لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج حج مبرور)) قالت عائشة : فلا أدع الحج بعد إذ سمعته من رسول الله.
( [5] ) رواه مسلم (16/111) البر والصلة : باب تفسير البر والإثم.
( [6] ) رواه الطبراني في الأوسط بلفظ: ((وطيب الكلام)) بدلا من إفشاء السلام وقال الهيثمي : وإسناده حسن مجمع الزوائد (3/207) وروى الجزء الأول من الحديث الطبراني عن ابن عباس وأحمد عن جابر ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم 3765.
( [7] ) رواه الدارمي (2/31) والترمذي (3/84- تحفة) وابن ماجة (2/217) وقال الألباني : وهذا الإسناد رجاله ثقات رجال مسلم إلا أنه منقطع ثم وجدت له شاهدا فالحديث به حسنه – بتصرف من الصحيحة رقم 1500.
( [8] ) رواه البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة – صحيح الجامع (5/281) رقم 6073.
( [9] ) رواه مسلم (9/100-101) في الحج : باب فرض الحج مرة في العمر عن أبي هريرة وروى الشطر الأول أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس.
( [10] ) خرجه أحمد (1/214،323،355) وابن ماجة (2883) والبيهقي وأبو نعيم (1/114) والخطيب وقل الألباني : هذا إسناد ضعيف لكن لعله يتقوى بالطريقة الأولى فيرتقي إلى درجة الحسن وقد صححه عبد الحق في الأحكام – إرواء الغليل رقم 990.
( [11] ) رواه البخاري وأحمد وأبو داود وابن ماجة عن أنس ورواه مسلم وابن ماجة عن جابر – صحيح الجامع (2/189).
( [12] ) مسلم (9/116-117) الحج : فضل يوم عرفة.
( [13] ) مسلم (8/50) الصيام: استحباب صيام ثلاثة أيام من شهر ويوم عرفة ويم عاشوراء.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/248)
خطبة عيد الأضحى
العلم والدعوة والجهاد, فقه
أحاديث مشروحة, الذبائح والأطعمة
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطبة رسول الله في حجة الوداع. 2- حرمة المسلم في دمه وعرضه وماله. 3- الإسلام
يهدم شرائع الجاهلية. 4- الوصية بالنساء. 5- قصة الذبيح. 6- موعظة. 7- أحكام الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله قد أظلنا أشرف أيام العام عند الله عز وجل، ألا وهو يوم الأضحية، يوم العج والثج، يوم النحر، يوم يصبح فيه الحجيج مغفورا له، يوم الحج الأكبر.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
الله أكبر ما حج المسلمون بيت الله الحرام، تلبية لنداء إبراهيم: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [الحج:27].
يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
الله أكبر ما طافوا وسعوا وشربوا من ماء زمزم المطهر.
الله أكبر ما هامت بهم مطايا الأشواق إلى عرفات.
الله أكبر ما ابتهلوا فيه إلى الله وغفرت لهم جميع السيئات.
الله أكبر ما وقفوا بالمشعر الحرام شاكرين الله على ما هداهم إلى معالم السعادات.
الله أكبر ما وصلوا إلى منى ونحروا هداياهم وحلق كل أو قصّر.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
لما نزل قول الله عز وجل: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97].
خرج النبي في السنة العاشرة من الهجرة، وخرج معه خلق كثيرون، فكانوا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مد البصر، وقال : ((خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) [1].
فلما كانوا بعرفة خطبهم رسول الله خطبة جامعة، أرسى فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الجاهلية، وعظّم فيها حرمات المسلمين، فقال : ((إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال: بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس اللهم اشهد. اللهم اشهد. اللهم أشهد)) [2].
فقوله : ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) تعظيم لحرمة المسلم وكان ابن عباس رضي الله عنهما ينظر إلى الكعبة ويقول: ((إن الله حرمك وعظمك وشرفك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك)) [3].
وروى مسلم عنه قال: ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) [4].
ثم قال : ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)) أعز الله بهذا النبي الدين وأهله وأذل به الكفر وأهله.
وجعل به كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
وأول شيء هدمه رسول الله شرك الجاهلية، فأتاهم بلا إله إلا الله، شعار الإسلام وعلم التوحيد، كلمة نخلع بها جميع الآلهة الباطلة، ونثبت بها استحقاق الله عز وجل وحده للعبادة، فهو الخالق عز وجل وما سواه مخلوق، وهو القاهر عز وجل وما سواه مقهور، قال الله عز وجل: ?للَّهُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَـ?لَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40].
واعلموا عباد الله أن الأموات قد أفضوا إلى ما قدموا لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا: إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
فلا تدعوا غير الله، ولا تذبحوا لغير الله، ولا تنذروا لغير الله، ولا تستغيثوا بغير الله، ولا تحلفوا بغير الله، ولا تحلفوا بالله إلا صادقين.
ومما هدمه رسول الله ووضعه تحت قدمه حكم الجاهلية قال تعالى: أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
والتحاكم إلى شرع الله عز وجل من صلب العقيدة، من صلب التوحيد، من صلب لا إله إلا الله قال عز وجل: إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [يوسف:40].
ثم قال : ((ودماء الجاهلية موضوعة)) أهدر النبي دماء الجاهلية، وقال : ((وأول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث)) ، ثم قال : ((وربا الجاهلية موضوعة وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله)) فأبطل النبي ربا الجاهلية قال عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279].
وقال عز وجل: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276].
فاحذروا عباد الله من التعامل مع الهيئات الربوية والبنوك الربوية ومن العمل فيها.
ثم وصى النبي بالنساء فقال : ((فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) ، ومن تقوى الله في النساء أن نعلمهن دين الله عز وجل، وأن نلزمهن بالحجاب الشرعي قال الله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59].
وقال : ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) [5].
ثم استشهد أمته أنه قد بلغ رسالة ربه فقال : ((وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت)) ونحن نشهد بأبي أنت وأمي يا رسول الله أنك قد بلغت وأديت ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وجاهدت في الله حق جهاده، فجزاك الله عنا خير ما نبياً عن أمته.
ومن شرف يوم النحر عباد الله أن الله عز وجل ابتلي فيه الخليل إبراهيم بذبح ولده فقال الله عز وجل: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ?لسَّعْىَ قَالَ ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? قَالَ ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:102-107].
بلاء مبين عباد الله، ولكنه الخليل إبراهيم الذي أسكن ولده الرضيع وأمه بواد غير ذي زرع، لا حسيس ولا أنيس، ولا زرع ولا ضرع، امتثالا لأمر الله عز وجل، ثم توجه إلى بيت الله فقال: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ [إبراهيم:37].
بلاء مبين عباد الله، ولكنه الخليل إبراهيم الذي مدحه عز وجل بقوله: وَإِبْر?هِيمَ ?لَّذِى وَفَّى? [النجم:37].
بلاء مبين عباد الله، ولكنه الخليل إبراهيم الذي قال الله عز وجل فيه: وَإِذِ ?بْتَلَى? إِبْر?هِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـ?تٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَـ?عِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ?لظَّـ?لِمِينَ [البقرة:124].
بلاء مبين عباد الله، أبٌ قد رزق ولدا على كبر، هو بكره ووحيده، ولما صار الولد يسعى مع أبيه، يرى الأب في المنام أنه يؤمر بذبح ولده، ورؤيا الأنبياء وحي، واستجاب الأب لأمر الله وآثر رضاه على هوى نفسه، وأخبر الولد تطييبا لخاطره، وحتى لا يأخذه قسرا ويذبحه قهرا، فما كان جواب الولد عباد الله؟ ما قال: ما ذنبي؟ ما قال: وهل تطاوعك نفسك أن تقتلني؟ فيحرك في أبيه عاطفة الأبوة، بل قال الولد الحليم: ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ جواب سديد عباد الله من الغلام الحليم.
الوالد هو إبراهيم الخليل والولد إسماعيل عليه السلام جد نبينا فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ استسلم الابن للقتل وهمّ الوالد أن ينفذ أمر الله عز وجل، ووجه الغلام إلى الأرض، حتى لا يرى وجهه وهو يذبحه، الله عز وجل لا يستفيد منا شيئا: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37].
ما الحكمة التي أرادها الله عز وجل من ذبح أب لابنه؟ إنه الاختبار والابتلاء.
وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:104-107].
عباد الله، تدبروا القرآن المجيد، فقد دلكم على الأمر الرشيد، وأحضروا قلوبكم عند سماع الوعد والوعيد، ولازموا طاعة ربكم ولا سيما أيام العيد، فهذا شأن العبيد، واحذروا غضبه فكم قصم من جبار عنيد: إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لْوَدُودُ ذُو ?لْعَرْشِ ?لْمَجِيدُ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ [البروج:12-14].
أين من بنى وشاد وطوّل، وتأمر على الناس وساد في الأول، وظن جهلا منه أنه لا يتحول، هيهات عاد الزمان عليه سالبا ما خوّل، فسقوا كأسا من الموت على إهلاكهم عوّل: أَفَعَيِينَا بِ?لْخَلْقِ ?لأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15].
فيا من أنذره يومه وأمسه، وحادثه بالعبر قمره وشمسه، واستلب منه ولده وأخوه وعرسه، وهو يسعى إلى الخطأ مشمرا وقد دنا حبسه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ [ق:16].
أما علمت أنك مسؤول عن الزمان، مشهود عليك يوم تنطق الأركان، معلوم ما قدمت في زمان الإمكان، محاسب على خطوات القدم وكلمات اللسان: إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17].
يا من يرى العبر بعينيه، ويسمع المواعظ بأذنيه، والنذير قد وصل إليه، وكلماته تلقى عليه: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
كأنك بالموت قد اختطفك اختطاف البرق، ولم تقدر على دفعه عنك بملك الغرب والشرق، وندمت على تفريطك بعد اتساع الخرق، وتأسفت على ترك الأولى والأخرى أحق: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
ثم ترحّلت من القصور إلى القبور، على رحائل العيدان والظهور، وبقيت وحيدا على مر العصور، كالأسير المأسور: وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ?لْوَعِيدِ [ق:20].
عباد الله: بادروا إلى ذبح الأضاحي بعد صلاة العيد، فالأضحية علم على الملّة الإبراهيمية، والشريعة المحمدية قال الله عز وجل: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [الكوثر:2].
واعلموا عباد الله أن رسول الله لم يكن يدع الأضحية، وكان يضحي بكبشين أملحين [6] وكان ينحرهما بعد صلاة العيد، وأخبر أن من ذبح قبل الصلاة فليس من النسك في شيء، وإنما هو لحم قدمه لأهله [7].
وكان من هديه اختيار الأضحية، واستحسانها، وسلامتها من العيوب، ولا يضحي بالعمياء والعوراء، والعرجاء، والعجفاء، ومقطوعة الأذن، ومكسورة القرن، ومقطوعة الذنب، ويجوز من الضأن من استكمل سنة، ومن غير سنتان.
ويستحب للمضحي أن يذبح بيده، إن كان يحسن الذبح، ويستحب له أن يأكل من أضحيته، ويتصدق منها على الفقراء ويهدي منها لجيرانه وإخوانه.
وفقنا الله وإياكم لمراضيه، وجعل مستقبل حالنا وحالكم خيرا من ماضيه.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم وتسليما.
[1] أخرجه مسلم في: الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً (1297) من حديثي جابر رضي الله عنهما، بنحوه، وهذا اللفظ عند النسائي في السنن الكبرى (2/1425).
[2] أخرجه مسلم في: الحج، باب: حجة النبي (1218)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[3] لم أقف عليه من كلام ابن عباس رضي الله عنهما، وهو مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في تعظيم المؤمن (2032) قال الألباني في صحيح الترمذي (1655): "حسن صحيح".
[4] صحيح مسلم في: البر والصلة، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره وذمه (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في: اللباس والزينة، باب: النساء الكاسيات العاريات (2128) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في: الأضاحي، باب: من ذبح الأضاحي بيده (5558)، ومسلم في: الأضاحي، باب: استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل (1966) من حديث أنس رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في: الجمعة، باب: الأكل يوم النحر (1955)، ومسلم في: الأضاحي، باب: وقتها (1961)، من حديث البراء رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/249)
متى يكون العمل عبادة مقبولة
التوحيد
شروط التوحيد
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله 2- متابعة الشرع شرط آخر 3- الذين يصدرون
في أعمالهم عن غير هذين الشرطين يتعبون بلا ثمرة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله خلقنا لعبادته، وأمرنا بطاعته، وبعث إلينا خير خلقه وأشرف رسله محمد ؛ لنتبعه على شريعته، ونقيد أعمالنا وأقوالنا وأحوالنا بهديه وسنته، فالعبادة أيًٍّا كانت قولية أو فعلية لا تكون عبادة حقيقية ولا تتم ولا تنفع صاحبها فيُثاب عليها - في الدارين – إلا إذا تحقق فيها أمران لا يكفي أحدهما الآخر.
أحدهما: الإخلاص لله وهو إفراد الله تعالى بالقصد في الطاعة دون من سواه، بأن يقصد بها وجه الله تعالى متقربًا بها إليه رغبة ورهبة وخوفًا وطمعًا، فينقيها ويصفيها من قصد ثناء الناس ومحمدتهم، أو المنزلة في قلوبهم، أو تحصيل شيء مما في أيديهم من الحطام، أو اتقاء ما قد يوجهونه للشخص من المذمة والملام، قال تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء [البينة:5]. وقال سبحانه: قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ?للَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ?لدّينَ وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ أَوَّلَ ?لْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ ?للَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى فَ?عْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ [الزمر:11-15].
فالإخلاص لله هو القاعدة التي تبنى عليها العبادة وتكون حَرية بالقبول والنفع والمثوبة، فهو معيار باطن الأعمال الدقيق، ومقياسها الصادق الذي يميز طيبها من خبيثها، وصحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ونافعها من ضارها.
صح في الحديث عن النبي أنه قال: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى من هاجر إليه)) [1]. وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) [2]. ولقد قال سبحانه في تنزيله المبين: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الزمر:65].
أيها المسلمون: وأما الشرط الثاني الذي يكون به العمل عبادة حقيقية حرية بالقبول والنفع والثواب في الدارين – فهو أن يكون العمل على وفق سنة النبي وهو معيار ظاهر الأعمال، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
وفي الصحيح عن النبي قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [3]. وقال : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)) [4]. وقال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) [5]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [6].
فالإخلاص – أيها المسلمون – هو ميزان أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب، ويقابله الشرك الأصغر أو الأكبر، والمتابعة هي ميزان أقوال اللسان وأعمال الجوارح الظاهرة، ويقابلها المعصية أو البدعة، والناس شهداء لله في أرضه، وإنما يشهدون للإنسان أو عليه، بما يرون من أعماله ويسمعون من أقواله، والغالب أنهم لا تتفق شهادتهم وثناؤهم للإنسان أو عليه خاصة بعد موته إلا وهو كذلك، وفي الحديث: ((أنتم شهداء الله في أرضه؛ من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًا وجبت له النار)) [7].
فاتقوا الله عباد الله، ولازموا الإخلاص لربكم، والمتابعة لنبيكم محمد في أقوالكم وأعمالكم ونياتكم؛ فكل عمل أو قول مما شرع الله لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثواب عليه في الآخرة، وإن أدرك شيئًا من حطام الدنيا، يقول سبحانه: مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ ?لنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15،16].
ويقول تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ ?لْعَـ?جِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَـ?هَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ ?لاْخِرَةَ وَسَعَى? لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [الإسراء:18،19]. يقول تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ?لآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ?لدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [الشورى:20].
ولقد ذم الله تعالى الذين يعملون على غير هدي الأنبياء، وتوعدهم وعيد الأشقياء فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـ?شِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى? نَاراً حَامِيَةً تُسْقَى? مِنْ عَيْنٍ ءانِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ [الغاشية:2-7]. فأولئك عملوا وتعبوا لكنهم خابوا وخسروا، فلم يستريحوا من عناء العمل، ولم يفوزوا برضوان الله عز وجل.
وهذا الوعيد يشمل فيما يشمل صنفين من الناس:
أحدهما: المنافقون؛ فإنهم استقاموا في الظاهر على الدين ولكنهم لم يخلصوا في الباطن لرب العالمين، وإنما قصدوا حقن دمائهم وصيانة أموالهم وحرماتهم يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَ?لَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]. ولهذا توعدهم الله بالدرك الأسفل من النار؛ لأنهم شر من المشركين والكفار، وأخطر منهم على الدين والمسلمين، إذ يفشون الأسرار، ويكيدون آناء الليل والنهار.
والصنف الثاني: المبتدعة الذين قد يخلصون لله في العمل ولكنهم لا يعبدونه بما جاءت به الرسل. وكذلك المشركون الذين قد يخلصون لله في بعض الأعمال ولكن يبطلونها بالشرك فلا تنفعهم في المآل.
فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا كل أعمالكم لله، وأوقعوها على وفق سنة عبده ورسوله ومصطفاه؛ فإن ذلك هو سر النجاح والفلاح بغاية الأرباح، واعلموا أن الله مطلع على سرائركم، وعالم بما أكنته ضمائركم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود (1882)، وابن ماجه (4217)، وهو في بقية الكتب الستة بلفظ ((إنما الأعمال بالنيات.. )).
[2] صحيح مسلم (5300).
[3] صحيح مسلم (3243).
[4] مسند أحمد (4/126)، سنن أبي داود (3991)، سنن ابن ماجه (42).
[5] السنة لابن أبي عاصم (15).
[6] صحيح البخاري (6737).
[7] صحيح مسلم (1578).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/250)
في لزوم السنة والتحذير من مخالفتها
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكتاب والسنة هما إرث المسلم من نبيّه 2- السنّة شارحة ومُبيّنة للقرآن 3- مِنّة الله على
هذه الأمة بإرسال الرسل 4- طاعة الرسول طاعة للرب وعصيانه عصيانه
5- الأمر بلزوم السنة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله ربكم، واتبعوا كتابه المبارك الذي أنزله موعظة لكم وذكرى، فاتبعوه واتقوه لعلكم ترحمون قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ?للَّهِ نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ?للَّهُ مَنِ ?تَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ?لسَّلَـ?مِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15،16].
لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت :42]. من اتبعه وتمسك به كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلال؛ ففي صحيح مسلم أن النبي قال في خطبته في حجة الوداع: ((إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله)) [1]. وفيه أيضًا عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي قال: ((إني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله؛ فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به)) [2]. وفي هذا بيان منه أن اتباع الكتاب والتمسك به عصمة من الضلال، ونجاة من الفتن، ونور في الظلمات، وفرقان بين الحق والباطل عند اشتباه الأمور.
أيها المسلمون: ولقد وكل الله تبارك وتعالى مهمة تفسير القرآن وبيانه للناس إلى رسوله ، فقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]. وقال سبحانه: وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ ?لَّذِى ?خْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل :64]. وبيان النبي لكتاب الله والذكر الذي جعله الله هدى ورحمة للمؤمنين هو بوحي من الله تعالى كما قال سبحانه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? لإ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3،4].
ولهذا امتن الله تعالى – وله الفضل والمنة – بذلك على هذه الأمة السابقين منهم واللاحقين ببعثته ، فقال تعالى: هُوَ ?لَّذِى بَعَثَ فِى ?لأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الجمعة:2-4].
فمن فضل الله ورحمته علينا أن بعث إلينا عبده ورسوله محمدًا ، وأنزل عليه الكتاب ليتلو علينا آياته، ويعلمنا الكتاب والحكمة التي هي السنة ؛ يبين بها معاني القرآن، ويفصل أحكامه، ويبشر وينذر ويهدي بها إلى صراط مستقيم، كل ذلك فضل من الله على هذه الأمة ورحمة بها، والله ذو الفضل العظيم.
أيها المسلمون: فالنبي أفعاله وتقريره وحاله، ذلك كله من سنته، فولا السنة لم يعرف الناس عدد ركعات الصلاة وصفاتها وما يجب فيها، ولولا السنة لم يعرفوا تفصيل أحكام الصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات والمحرمات وما أوجب الله فيها من الحدود والعقوبات؛ ولهذا أوجب الله طاعة رسوله وقرنها بطاعته، وجعلها من أسباب رحمته وهدايته، وحذر من معصيته ومخالفته فقال تعالى: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132].
وقال تعالى: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ?لرَّسُولِ إِلاَّ ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ [النور:54].
وقال سبحانه: مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ [النساء:80].
وقال جل ذكره: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7]. وقال تبارك اسمه: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
قال الإمام أحمد رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعل إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم ففيهما الهدى والنور والخير الكثير، واحذروا ما يخالفهما من محدثات الأمور، فإنها ضلال وغرور، ولقد وعد الله تعالى من اتبع هداه بأن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة فقال: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123]. وفي الصحيحين عن النبي قال: ((كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبي قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [3]. وفيهما أيضًا أن النبي قال: ((من رغب عن سنتي فليس مني)) [4]. وأخرج البيهقي عن النبي قال: ((لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعًا لم جئت به)) [5].
فعليكم عباد الله بلزوم سنة نبيكم في جميع أحوالكم؛ فإنها سعادة لمن تمسك بها ونجاة له من هلكة، واعلموا أنه لا يقبل قول وعلم ونية، ولا يصلح إلا بموافقة السنة، وأن الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريق رسول الله ؛ فمن اقتفى أثره فإن الله يجعل له نورًا في قلبه، ونورًا يسعى به على الصراط يوم القيامة. وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: سن رسول الله وولاة الأمر بعده – يعني خلفاءه وأصحابه – سننًا؛ الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكثار من طاعة الله، وقوة على دين الله، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، والله تعالى يقول: نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى? وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً [النساء:115].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (2137).
[2] صحيح مسلم (4425).
[3] صحيح البخاري (6737).
[4] صحيح البخاري (4675)، صحيح مسلم (2487).
[5] سنن البيهقي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/251)
صفات عباد الرحمن
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفات عباد الرحمن كما ذكرها القرآن. 2- السكينة والوقار من غير تضعف.
3- الاعراض عن الجهلة. 4- عبادة عباد الرحمن. 5- القصد في الإنفاق. 6- حرمة قتل
المعصوم الدم. 7- كيفية تبديل السيئات إلى حسنات. 8- دزاء عباد الرحمن في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قوله عز وجل في وصف عباد الرحمن:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً إنها ساءت مستقراً ومقاماً والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً [الفرقان:63-77].
في هذه الآيات الكريمات من خواتيم سورة الفرقان، يصف الله عز وجل عباده الذين شرفهم بنسبتهم إليه، فأول أوصافهم أنهم: يمشون على الأرض هوناً أي بسكينة ووقار وبغير تجبر ولا استكبار، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تضعفا ورياء، فقد كان سيد ولد آدم إذا مشى فكأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره السلف رضي الله عنهم المشي بتضعيف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا فقال: ما بالك أأنت مريض؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة.
قال الحسن البصري: إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى، وإنهم والله الأصحاء، ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة، ولكن أبكاهم الخوف من النار، إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه.
وقوله عز وجل: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً أي إذا سفه عليهم الجاهل بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرا، كما كان سيدهم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
وبعد أن وصف الله عز وجل نهارهم، أخبرنا أن ليلهم خير ليل، فقال عز وجل: والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً كما قال تعالى: كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وقال تعالى: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً [السجدة:16]. وأشار عز وجل بقوله: لربهم ، إلى إخلاصهم فيه ابتغاء وجهه الكريم.
إذا ما الليل أقبل كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
ومع اجتهاد عباد الرحمن في طاعة الله عز وجل، ومواظبتهم ليل نهار، على طاعته، فهم كذلك وجلون مشفقون من عذاب الله عز وجل، خائفون من عقابه، قال تعالى: والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً [الفرقان:65].
قال الحسن: كل شيء يصيب ابن آدم يزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام الملازم ما دامت السماوات والأرض.
إنها ساءت مستقراً ومقاماً أي بئس المنزل منظرا وبئس المقيل مقاما.
ثم وصف الله عز وجل عباده في النفقة والاقتصاد، فقال عز وجل: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً [الفرقان:67].
أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم، بل عدلا خيارا، وخير الأمور أوسطها، كما قال الله عز وجل: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [الإسراء:29].
وقال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف.
وقال غيره: السرف النفقة في معصية الله.
ثم بين الله عز وجل أن عباد الرحمن ليسوا معصومين من الذنوب، ولكنهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإن تلبس أحد المسلمين بشيء من أنجاس هذه الكبائر ثم تاب وأناب وحسنت توبته، فإنه يدخل كذلك في عباد الرحمن فقال: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً [الفرقان :68-71].
حدث الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: ((سئل رسول الله أي الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال: ثم أي ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال: ثم أي ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)) ( [1] ).
قال عبد الله وأنزل الله تصديق ذلك والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية إلى قوله: يلق أثاماً أي يجد في الآخرة جزاء إثمه وقال عكرمة: أودية في جهنم يعذب فيها الزناة، وقوله: يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً أي ذليلا محتقرا فيجمع له بين عذاب الجسد، والعذاب المعنوي، قوله: إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً أي تاب من جميع ذلك واستمر في الدنيا على طاعة الله عز وجل. قال الحافظ ابن كثير: وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل، ولا تعارض بين هذه وآية النساء: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤهم جهنم خالداً فيها [النساء:93].
فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب، لأن هذه مقيدة بالتوبة، وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله بصحة توبة القاتل، ثم قال عز وجل: فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات.
وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات، قال عطاء بن أبي رباح: هذا في الدنيا يكون الرجل على صفة قبيحة ثم يبدله الله بها خيرا، وقال سعيد بن جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات، والقول الثاني: أن تلك السيئات تنقلب بالتوبة النصوح حسنات، كما ثبتت السنة بذلك، وصحت به الآثار المروية عن السلف رضي الله عنهم فعن أبي ذر قال: قال رسول الله : ((إني لأعرف آخر أهل الجنة خروجا من النار، وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول: نحّوا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا، فيقال: فإن لك لكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا؟ قال: فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه )) ( [2] ).
ثم قال عز وجل في وصف عباد الرحمن: والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً والزور هو الكذب والفسق واللغو والباطل، وفي الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا. قلنا :بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور )) فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت، ويروى عن ابن عباس في هذه الآية: والذين لا يشهدون الزور قال: أعياد المشركين، وقال ابن مسعود: الزور الغناء.
وقوله عز وجل: وإذا مروا باللغو مروا كراماً أي إذا اتفق مرورهم بأهل اللغو، وهو كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح، مروا معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم، كقوله تعالى: وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [القصص:55].
ومن صفاتهم كذلك -عباد الله- أنهم إذا وعظوا بآيات الله وخوفوا بها: لم يخروا عليها صماً وعمياناً بل أكبو عليها سامعين بآذان واعية كما قال الله عز وحل في وصفهم: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً [الأنفال :2].
ولذا قال قتادة فيهم: هم قوم عقلوا عن الله وانتفعوا بما سمعوا من كتابهم.
ومن صفات عباد الرحمن كذلك عباد الله: حرصهم على صلاح زوجاتهم وذرياتهم، فهم يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً قال الحسن البصري: أن يُريَ الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله، ولا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا صالحا، أو ولد ولد، أو أخا، أو حميما مطيعا لله عز وجل.
روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما، فمر بنا رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأيا رسول الله ، لوددنا أننا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت، فاستغضب المقداد، فجعلت أعجب ؛ لأنه ما قال إلا خيراً، ثم أقبل إليه، فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرا غيّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف يكون فيه، والله لقد حضر رسول الله أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم ، لم يجيبوه ولم يصدقوه ، أو لا تحمدون الله إذا أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم ، مصدقين بما جاء به نبيكم ، قد كفيتم البلاء بغيركم؟ لقد بعث الله النبي على أشر حال بعث عليها نبيا من الأنبياء، في فترة جاهلية ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، وإن كان الرجل ليرى والده وولده وأخاه كافرا وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها التي قال الله تعالى: والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ( [3] ) [الفرقان:74].
وقوله عز وجل: واجعلنا للمتقين إماماً قال ابن عباس والحسن: أئمة يقتدى بنا في الخير، وقال غيرهما: هداة مهتدين دعاة إلى الخير فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع، فذلك أكثر ثوابا وأحسن مآبا، وقال بعض السلف: بأن في الآية دليل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها.
ثم قال عز وجل بعد وصف عباده وأحبابه: أولئك أي المتصفون بما ذكر، وهو خبر لقوله عز وجل: عباد الرحمن ، يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً والغرفة هي الدرجة العالية في الجنة، أي يجزون بها على صبرهم على مشاق المجاهدات في الدعوة إلى الخيرات، والدأب على الطاعات واجتناب المحظورات: ] خالدين فيها أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون: لا يبغون عنها حولاً [الكهف:108]، وقوله: حسنت مستقراً ومقاماً [الفرقان :76]. أي حسنت منظرا، وطابت مقيلا ومنزلا.
ثم قال عز وجل بعد أن ذكر أوصاف عباده المتقين ومآلهم: قل ما يعبؤا بكم ربي [الفرقان:77]. أي لا يبالي بكم ولا يقيكم ] لولا دعاؤكم [ قال ابن عباس : لولا إيمانكم، وقيل: لولا عبادتكم: فقد كذبتم أي بما جاءكم من الحق، إشارة إلى المشركين: فسوف يكون لزاماً أي سوف يكون هذا النبأ والذكر الحكيم أو الأمر الجليل أمر الرسالة لازما وثابتا، وقيل: لزاماً أي سوف يكون تكذيبهم مفضيا لعذابكم ودماركم في الدنيا والآخرة، ولقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.
نسأله تعالى خير ما عنده.
ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الصالحين.
( [1] ) رواه البخاري (8/163) التفسير باب قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا ورواه في الأدب والتوحيد ، ورواه مسلم (2/80) الإيمان : باب الشرك أعظم الذنوب ورواه الترمذي والنسائي وأبو داود.
( [2] ) رواه مسلم (3/47) الإيمان : باب آخر أهل النار خروجا ، والترمذي (7/62) صفة جهنم.
( [3] ) قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/252)
تحريم الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث تحريم الظلم. 2- العدل صفة الإله ويحبها من عباده. 3- دعوة المظلوم. 4- التحلل
من حقوق العباد المظلومين. 5- التعريف ببعض نعم الله عل الإنسان. 6- كمال صفات الله
وغناه عن خلقه. 7- كل يؤاخذ يوم القيامة بعمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
عن أبي ذر عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي : إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما نقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) ( [1] ).
كان السلف رضي الله عنهم يعظمون شأن هذا الحديث، كان أبو إدريس الخولاني إذا حدّث بهذا الحديث جثى على ركبتيه.
الله عز وجل ذو الكرم الفياض يمنّ على عباده بنعمه، وله الحمد والمنة على كل نعمة، فقوله عز وجل: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً والظلم هو وضع الأشياء في غير موضعها، ولذلك كان الشرك بالله عز وجل هو أعظم الظلم، لأنه وضع المخلوق العاجز المقهور في منزلة الإله القاهر، والله عز وجل قد حرم الظلم على نفسه فضلا منه عز وجل، كما قال تعالى: إن الله لا يظلم مثقال ذرة [النساء:40]، وقال تعالى: وما ربك بظلام للعبيد [فصلت:6]. وقال عز وجل: وما الله يريد ظلماً للعالمين [آل عمران:108]، وحرم الله عز وجل الظلم بين العباد، فحرام على كل عبد أن يظلم غيره، وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي قال: (( إن الظلم ظلمات يوم القيامة)) وفيهما عن أبي موسى عن النبي قال: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد )) [ هود:102].
فالظلم حرام في ذاته حتى ظلم الكافر كما قال الله عز وجل: ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة:8].
ومن عظم الظلم عند الله عز وجل، حرم الله عز وجل ذكر عيوب الناس وذنوبهم، وأباح للمظلوم أن ينشر مظلمته حتى إذا نزل بالظالم عذاب الله عز وجل، علم الناس أن ذلك من شؤم الظلم، فقال عز وجل: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُِلم [النساء:148].
ومن عظم الظلم كذلك جعل الله عز وجل دعوة المظلوم مستجابة، ولو كان كافرا، فقال : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل، والصائم حين يفطر)) - وفي رواية ((حتى يفطر)) - ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويقول : ((وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)) ( [2] ).
أرسل الأمير نوح إلى أهل سمرقند كتابا يأمر فيه بأخذ الخراج منهم، فجمع أميرها الفقهاء وقرأ عليهم رسالة الأمير، فقال له أبو منصور الفقيه قد بلغت رسالة الأمير فأردد عليه الجواب: زدنا ظلما حتى نزيد في دعاء السحر، فلم تمض أيام حتى وجدوه مقتولا، وفي بطنه زج رمح مكتوب عليه.
بغى والبغي سهام تنتظر رمته بأيدي المنايا والقدر
سهام أيدي القانتات في السحر يرمين عن قوس له الليل وتر
وفي صحيح البخاري عن النبي قال: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه)) ( [3] ).
ثم قال: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)).
فالعباد كلهم مفتقرون إلى الله عز وجل، والهداية نوعان: هداية بمعنى تبيين الهدى من الضلال، وهذه الهداية يقدر عليها الرسل وأتباعهم، كما قال الله عز وجل لنبيه : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى:52].
وقال عز وجل: وهديناه النجدين [البلد:10]. أي أوضحنا له الطريقين طريق الهدى، وطريق الضلال، والنوع الثاني من الهداية : الهداية بمعنى شرح الصدر للإسلام، وهذا النوع لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل، كما قال تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [القصص:56].
ثم قال عز وجل: ((يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم )).
والله عز وجل قادر على أن يهدي العباد بغير سؤال منهم، وأن يطعمهم بغير سؤال منهم، وأن يكسيهم بغير سؤال منهم ولكنه عز وجل يحب من العباد أن يسألوه عز وجل، وأن ينزلوا حوائجهم به عز وجل، وأن يعترفوا بأنهم كلهم في ضلال، حتى يهديهم الله عز وجل، كلهم جائعون حتى يطعمهم الله عز وجل، كلهم عراة حتى يكسيهم الله عز وجل، كلهم هلكى بذنوبهم حتى يغفر الله عز وجل لهم، لذا أحب الله عز وجل سؤال العباد له عز وجل، وتضرعهم إليه عز وجل، بل يبتلي الله عز وجل الناس بالبلايا والرزايا حتى يتضرعوا إليه عز وجل، كما قال تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون [الأنعام:42].
وعاتب الله عز وجل العباد بقوله: ((إنك تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا)) فبدأ بالليل، والله عز وجل جعل في الليل فرصة للتوبة والإنابة والاستغفار، فملأ الناس الليل قبل النهار بالمعاصي.
ثم قال عز وجل: ((يا عبادي لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) فشأن الله عز وجل أعلى وأغلى من أن يتضرر بمعاصي العباد، أو، ينتفع بطاعاتهم، بل العباد أنفسهم هم الذين ينتفعون بطاعاتهم وهم أنفسهم يتضررون بمعاصيهم، والله غني حميد.
قال تعالى: ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً [آل عمران:176].
وقال تعالى: ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً [آل عمران:144].
وقال عز وجل حاكيا عن موسى عليه السلام: إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد [إبراهيم:8].
وقال تعالى: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز [فاطر:15-16].
فالله عز وجل يحب من العباد أن يعرفوه ويحبوه ويخافوه ويتقوه ويطيعوه، ويحب منهم أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوب غيره عز وجل، مع أنه عز وجل غني عنهم وعن طاعتهم، ثم بين الله عز وجل ذلك بقوله: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا )). يمن الله عز وجل بكمال ملكه، فملكه عز وجل لا يزيد بطاعة الخلق، ولو كانوا كلهم بررة أتقياء قلوبهم على قلب اتقى رجل منهم، ولا ينقص ملكه بمعصية العاصين، ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه، وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله.
ثم قال عز وجل: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما نقص المخيط إذا أدخل البحر )) يمنّ الله عز وجل بتمام قدرته، وكمال أسمائه وصفاته، وكمال غناه، فلو أن الأولين، والآخرين الإنس والجن اجتمعوا في مكان واحد، وقاموا واجتهدوا في إنزال الحوائج والرغائب بالله عز وجل، فمن كمال قدرته وكمال سمعه وبصره أنه يسمع الجميع في وقت واحد، على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم وحوائجهم، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ومن كمال قدرته عز وجل يحقق مطالب الجميع في وقت واحد، لا يشغله إجابة داع عن داع آخر، ومن كمال غناه عز وجل لا ينقص مع ذلك ما عند الله عز وجل إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، فيا بؤسا للقانطين من رحمته، ويا بؤسا للزاهدين في عطائه، والمخيط إذا أدخل البحر لا ينقص منه شيئا، كذلك ما عند الله عز وجل كما قال تعالى: ما عندكم ينفد وما عند الله باق [النحل:96].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((يد الله ملأى لا تغيضها نفقة – أي لا تنقصها نفقة – سحاء الليل والنهار، أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض – أي لم ينقص – ما في يمينه )).
ثم قال عز وجل: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) ، يمن الله عز جل له الحمد والمنة على كل نعمة على عباده بكمال عدله فيقول: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم كما قال تعالى: يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما علموا أحصاه الله ونسوه [المجادلة:6].
وقال عز وجل: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً [آل عمران:30].
وقال عز وجل: ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:49].
فالله عز وجل لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فيحصي الله عز وجل على العباد أعمالهم ثم يوفيهم إياها بالجزاء عليها، وتوفية الأعمال يوم القيامة، فإن المؤمن قد ينال ببركة طاعته في الدنيا، وينال الكافر بشؤم معصيته كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في الرزق، ومودة في قلوب الخلق، وإن للسيئة ظلمة في الوجه، وسوادا في القلب، وضيقا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.
(أما توفية الأعمال ) فيوم القيامة ينال المحسن جزاء إحسانه كاملا، والمسيء جزاء إساءته أو يعفو الله عز وجل، قال تعالى: وإنما توفون أجوركم يوم القيامة] [آل عمران:185].
ثم قال عز وجل: ((فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) فلو وجد العبد في نفسه طاعة الله عز وجل فليحمد الله عز وجل، فما أطيع إلا بفضله ورحمته، وما عصي إلا بعدله، وحكمته، كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، فلا يستطيع أحد أن يطيع الله عز وجل إلا بمعونة الله عز وجل وتوفيقه
إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
كان السلف رضي الله عنه يجتهدون في الطاعات.ويخافون من المعاصي حتى لا يلوموا أنفسهم يوم القيامة.
كان عامر بن عبد قيس يقول: (والله لأجتهدن، ثم والله لأجتهدن، فإن نجوت فبرحمة الله، وإلا لم أَلُمْ نفسي).
وكان زياد بن عياش يقول لابن المنكدر ولصفوان بن سليم : (الجد الجد والحذر الحذر، فإن يكن الأمر على ما نرجو كان ما عملتما فضلا، وإلا لم تلوما أنفسكما) وكان مطرف بن عبد الله يقول : (اجتهدوا في العمل، فإن يكن الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات، وإن يكن الأمر شديدا كما نخاف ونحذر لم نقل ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، نقول : قد عملمنا فلم ينفعنا ذلك ).
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
( [1] ) رواه مسلم (16/132،133) البر والصلة : تحريم الظلم ، ورواه الترمذي (9/304،305) أبواب صفة القيامة وقال الترمذي : هذا حديث حسن واللفظ لمسلم.
( [2] ) رواه الترمذي (10/5) أبواب صفة الجنة وقال : هذا الحديث ليس إسناده بذاك القوي وليس هو عندي بمعتل ، ورواه أحمد (305أ445) ، وابن ماجة في الصيام ، وقال عبد القادر الأرناؤوط : هو حسن بشواهده (11/13) جامع الأصول.
( [3] ) رواه البخاري (5/101) المظالم : باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحلها له هل يبين مظلمته والترمذي (9/254) صفة القيامة : باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص بفظ : ((رحم الله عبدا كان لأخيه عنده مظلمة)) الحديث.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/253)
خطر البدع والتحذير منها ومن أهلها
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
الاقتصاد في الدين على ما شرعه رسول الله 2- النصوص الشرعية تُحذّر من الميل إلى
أصحاب البدعة 3- هجر أهل البدعة وعدم مخالطتهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم اذ كنتم اعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون [سورة ال عمران:102-107].
اللهم ثبتنا على دينك، وزدنا من هداك وارزقنا الاستقامة على طاعتك والتمسك بسنة نبيك محمد حتى نلقاك مسلمين مؤمنين محسنين غير مبتدعين ولا مبدلين ولا مرتدين، اللهم بيض وجوهنا، وثقل موازيننا، وزحزحنا عن النار، وأدخلنا الجنة، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم جنبنا البدع في دينك؛ فإنها تغير القلوب، وتبدل الدين، وتفرق الكلمة، وتشتت شمل المسلمين، ويتسلط بسببها الظلمة على المسلمين، وتزيل النعماء، وتجلب الشقاء، وتسود الوجوه، وتخفف الموازين، وتخرج المرء من ولاية الرحمن حتى تجعله ولياً للشيطان، والشيطان إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [سورة فاطر:6].
أيها الناس: ارضوا ما رضيه الله لكم من الدين، فكونوا لربكم سبحانه طائعين، ولنعمه شاكرين، ولنبيكم محمد في جميع الامور متبعين صادقين؛ حتى يحفظ الله عليكم نعمه، ويصرف عنكم نقمه، ويزيدكم من فضله، ويعاملكم بإحسانه ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً [سورة النساء:69-70].
اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، واسلكوا طريق الحق الذي له هديتم، وعليكم بالسنة التي بها فضلتم، تمسكوا بها ولا تستوحشوا من قلة السالكين، واهجروا الضلالات، ولا تغتروا بكثرة الهالكين إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين [سورة الأنعام:116-117]. ألا لا يتطاولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، ولا يلينكم الأمل فإن كل ماهو آت قريب.
أيها الناس: إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن شر الأمور محدثاتها، وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: احذروا البدع، فإنها تشوه الدين، وتطمس معالم السنن، وتحدث الفتنة، وتضل الناس عن طريق الجنة، وتجعلهم يسيرون في طريق منتهاه الجحيم، وتفرق الناس، وتجعل أهلها يصرون على الحنث العظيم، ويتفرقون شيعاً ويتآمرون أحزاباً وذلك شأن المشركين، كما جاء بيان ذلك في القران المبين، وتجعلهم يفرقون دينهم، كل حزب بما لديهم فرحون، وقد نهاكم ربكم عن ذلك بقوله: ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون [سورة الروم:31-32].
أيها المسلمون: ما من بدعة تحدث إلا ويميت الناس من السنن مثلها، ولا يحدث رجل بدعة إلا وقد ترك من السنة ما هو خير منها، وما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً، وعمل قليل في السنة خير من عمل كثير في بدعة ؛فإن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين، والمبتدع ليس من أهل التقى بل هو من أهل العمى، لا يقبل الله من صاحب بدعة صياماً ولا صلاة ولا حجاً ولا جهاداً ولا صرفاً ولا عدلاً ؛ قال : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
أيها الناس: الحذر الحذر، والفرار الفرار، فإنكم اليوم في زمن نفقت فيه سوق البدع، وراجت تجارتها، وكثر الذين يحترفونها ويدعون إليها ويزينونها، ويفتنون الناس بما يضلونهم بها عن دينهم، فيصدونهم عن سبيل ربهم، ويأكلون أموالهم بالباطل، ويستعبدونهم، اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، وصدوا الناس عن الهدى، وما ربك بغافل عما يعملون،فهم كما أخبر عنهم النبي : ((دعاة على أبواب جهنم؛ من أجابهم قذفوه فيها)) قيل: يا رسول الله! صفهم لنا، قال : ((هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)).
فإذا عرفتم ذلك معاشر المسلمين فاحذروا أن تجالسوهم أو تصغوا إليهم أو تعظموهم، فإن النبي قد لعنهم ولعن من أعانهم، يقول في الحديث الصحيح: ((لعن الله من آوى مُحْدثا)). فاحذروا أن تقع عليكم اللعنة، واعلموا أنه قد جاء في الأثر أن من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة ليوقره فقد مشى في هدم الإسلام.
أيها المسلمون: إن أهل البدع يعبدون الله بغير ما شرع فيفترون على الله الكذب، ويجلبون على أنفسهم التعب، ويقطعون السبيل، يشغلون الناس بالأضاليل، لسان حالهم إن الله تعالى لم يكمل دينه فيكملوه، ولم يتم نعمته فيكفروه، أو إن النبي لم يبلغ الناس كل ما أوحاه لله إليه، أو بلغه ولكن الصحابة لم يفهموه أو لم يهدوا الناس إليه، فما أظلمهم لربهم، وما أقل توقيرهم لنبيهم، وما أعظم جنايتهم على الصحابة، وما أضرهم على أنفسهم، وما أشأمهم على مجتمعهم، وما أجرأهم على دين ربهم، فيا ويلهم ما أعظم ما جنوه، وما أسوأ ما افتروه، فما حجتهم عند الله يوم يلاقوه، وصدق الله العظيم إذ يقول: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً [الكهف:103-104].
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واهجروا أهل البدع فلا تأتوا إليهم، واحذروهم فلا تصغوا إليهم، ونفروا الناس منهم، وأبعدوهم عنهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير [سورة البقرة:120].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من أوليائه وأحبابه.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/254)
الأمر بحفظ حدود الله
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرح حديث: احفظ الله يحفظك. 2- كيف يحفظ الله عباده. 3- منزلة الاستعانة بالله. 4- كل ما هو كائن مكتوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : ((كنت خلف النبي يوما فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)) ( [1] ).
هذا الحديث عباد الله شريف القدر، عظيم الموقع، يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني حتى كدت أطيش، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه. قوله : ((احفظ الله)) يعني احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه فقال عز وجل: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ [ق:31]. وفسر الحفيظ هنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها، وقوله : ((يحفظك)) يعني أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله، فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم [البقرة:40].
وقال: إن تنصروا الله ينصركم [محمد:7]، وحفظ الله لعبده نوعان: أحدهما حفظه في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وأهله وماله قال الله عز وجل: له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [الرعد:11]. قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلوا عنه.
ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وقوته وعقله. وكان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو متمتع بقوته وعقله فوثب يوما وثبة شديدة فعوتب في ذلك فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته، كما قيل في قوله تعالى: وكان أبوهما صالحاً [ الكهف:82]. الآية أنهما حفظا بصلاح أبيهما، قال سعيد بن المسيب لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلا هذه الآية: وكان أبوهما صالحاً.
قال بعض السلف: من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه والله غني عنه.
والنوع الثاني: من الحفظ هو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان، وقد لا يشعر العبد بذلك الحفظ، وقد يكون كارها له قال تعالى في حق يوسف عليه السلام: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [يوسف :24]. وقال ابن عباس في قوله تعالى: أ ن الله يحول بين المرء وقلبه [الأنفال:24]. قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار.
وقال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول: للملائكة اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير بقوله: سبني فلان وأهانني فلان. وما هو إلا فضل الله عز وجل.
وقوله : ((احفظ الله تجده تجاهك)) وفي رواية: ((أمامك)) معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه، وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده، قال تعالى: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [النحل:128]. قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام والهادي الذي لا يضل.
وكتب بعض السلف إلى أخ له: أما بعد فإن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو.
والمعية نوعان: معية خاصة، ومعية عامة، فأما المعية الخاصة ففي مثل قول الله عز وجل لهارون وموسى: لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [الشعراء:62].
وفي قوله عز وجل حاكيا عن رسولنا الكريم : لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].
وهي معية النصر والتأييد والحفظ والإعانة، والمعية العامة كما في قوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا [المجادلة:7].
وقوله: ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول [النساء:108]، وهي معية الإطلاع والمراقبة، فالمعية الأولى معية الأنس بالله عز وجل والرضا به والتسليم لأمره ونهيه وقضائه وقدره، والمعية الثانية معية الخوف والحذر.
قوله : ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) وهذا كقوله: إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة:5]، فالسؤال هو الدعاء والدعاء كما قال النبي هو العبادة.
وقال الله عز وجل: واسألوا الله من فضله [النساء:32].
وسؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل، والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الإعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر، ونيل المطلوب وجلب المنافع ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده، لأنه حقيقة العبادة، وكان الإمام أحمد يدعو ويقول: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك.
ولا يقدر على كشف الضر وجلب النفع سواه، كما قال: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله [يونس:107] وقال: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده [فاطر:2].
والله سبحانه يحب أن يسأل، ويرغب إليه في الحوائج، ويلحّ في سؤاله ودعائه، ويغضب على من لا يسأله، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك كله، يكره أن يسأل، ويحب أن لا يسأل لعجزه وفقره وحاجته لذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك: ويحك تأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول: ادعوني استجب لكم [غافر:60].
ويقول بعضهم:
لا تسألنّ بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وإذا سألت بني آدم يغضب
وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره، فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول.
إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به، فصار مخذولا، كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: لا تستعن بغير الله فيكلك إليه.
قوله : ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) والمراد أن ما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه فكله مقدور عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب له، وقد دل القرآن على ذلك في قوله تعالى: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا [التوبة:51]. وقوله: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها [الحديد:22]. وقوله: قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم [آل عمران:154]. واعلموا عباد الله أن هذا مدار الوصية كلها، وما ذكر قبل ذلك وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه، فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة، علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل وإفراده بالطاعة وحفظ حدوده، فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد ما لا ينفع ولا يضر ولا يغني عابده شيئا، فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب له إفراد الله عز وجل بالعبادة، والسؤال والتضرع والخوف والرجاء وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعا، وأن يتقي سخطه وإن كان فيه سخط الخلق كلهم، فيعلم العبد عند ذلك أن الأمر لله عز وجل والخلق لله عز وجل كما قال تعالى: ألا له الخلق والأمر [الأعراف:54].
ويعلم أن الله عز وجل بيده خزائن كل شيء، وأنه عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وأن نواصي الخلق كلهم بيد الله عز وجل، كما قال تعالى: ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم [هود:56].
ويعلم كذلك أن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فمدار الوصية على التوحيد وبيان أن الله عز وجل وحده هو المستحق للعبادة، قال تعالى: قل أفرأتيم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هنّ كاشفات ضره أو أرادني برحمةٍ هل هنّ ممسكات رحمته [الزمر:38].
وقوله: ((رفعت الأقلام وجفت الصحف)) هو كناية عن تقدم المقادير كلها، والفراغ منها من أمد بعيد، فإن الكتاب إذا فرغ من كتابته ورفعت الأقلام عنه وطال عهده، فقد رفعت الأقلام وجفت الأقلام التي كتب بها من مدادها، وجفت الصحف التي كتب فيها بالمداد المكتوب بها فيها، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها، وقد دل الكتاب والسنن الكثيرة على مثل هذا المعنى، قال الله تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير [الحديد:22].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: ((إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) ( [2] ).
وفيه أيضا عن جابر أن رجلا قال يا رسول الله: ((فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما نستقبل؟ قال: لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر)) ( [3] ).
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبادة بن الصامت عن النبي قال : ((إن أول ما خلق الله القلم ثم قال : اكتب فكتب في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة)) ( [4] ).
( [1] ) رواه أحمد (4/286،288) ورواه الترمذي (9 /319،320) في أبواب صفة القيامة وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وقال ابن رجب رحمه الله : أصح طرق الحديث طريق حنش الصنعاني التي أخرجها الترمذي وهو إسناد حسن لا بأس به – بتصرف من نور الاقتباس في شرح حديث ابن عباس لابن رجب.
( [2] ) رواه مسلم (16/203) القدر : باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام والترمذي (9/321) أبواب القدر.
( [3] ) رواه مسلم (16/197) القدر : باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه.
( [4] ) رواه أبو داود (12/468) السنة : باب القدر ، والترمذي (9/320) القدر ، ورواه أحمد في المسند (5/317) وصححه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في جامع الأصول.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/255)
معايير الحق والتحذير ممن دعا إلى ضدها
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قيام الإسلام على قاعدة الشهادتين 2- لا يُعبَد الله إلا بما شرع 3- وصاة النبي بالتمسّك
بالكتاب والسنة 4- نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الابتداع 5- المبتدع يحمل وزر من
تابعه 6- صاحب البدعة يزداد ببدعته من الله بُعداً
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واذكروه واشكروه، إذ خصكم من بين الأنام اصطفى لكم دين الإسلام، وأكمله لكم وأتم عليكم به الإنعام، وجعله الدين الخالد المحفوظ بحفظ الله له على مر الدهور والأعوام: لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
أيها المسلمون: إن مبنى دين الإسلام يقوم على قاعدتين أساسيتين هما مقتضى الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله؛ اللتين لا يحكم لأحد بالإسلام إلا بالتلفظ بهما، والاعتقاد لمعناهما، والالتزام بالعمل بمقتضاهما، ونبذ كل ما خالفهما وضادهما.
القاعدة الأولى: أن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فلا معبود بحق سواه، فكل معبود معه أو من دونه فعبادته باطلة، وعابده من المشركين الجاحدين، وإن عد نفسه من المسلمين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25]. وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36].
وصرح سبحانه أن كل رسول خاطب قومه أول ما خاطبهم فقال: يَـ?قَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]. ونعى سبحانه على المشركين الذين جعلوا أهواءهم، وأصنامهم وأوثانهم أندادًا لرب العالمين، فساووهم به في المحبة والخضوع والطاعة في المشروع والممنوع، وأنهم يندمون على تلك التسوية يوم الدين حين لا ينفع الندم، إذا دخلوا النار مأوى شر الأمم قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَ?للَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الشعراء:96-98].
أيها المسلمون: إن الله تعالى لا يعبد إلا بما شرع على لسان نبيه ورسوله محمد ، فلا يعبد بالأهواء ولا البدع، قال تعالى: ?تَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3]. وقال سبحانه: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. وقال سبحانه: شَرَعَ لَكُم مّنَ ?لِدِينِ مَا وَصَّى? بِهِ نُوحاً وَ?لَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى? وَعِيسَى? أَنْ أَقِيمُواْ ?لدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ?لْمُشْرِكِينَ [الشورى:13]. إلى قوله: فَلِذَلِكَ فَ?دْعُ وَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [الشورى:15].
فجعل تعالى الهوى مقابلاً للدين، فكل من تدين بدين لم يشرعه الله فحقيقة أمره أنه متبع لهواه، قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23]. وقال تعالى: مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ وَمَن تَوَلَّى? فَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء:80]، وقال سبحانه: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].
وقال سبحانه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36]، وقال جل وعلا: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7]. وقال سبحانه: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
أيها المسلمون: ولقد تواتر عن النبي الوصاة للأمة بالتمسك بالكتاب والسنة، وأن فيهما لمن تمسك بهما العصمة من كل ضلالة، والسلامة من كل فتنة، والنجاة من كل هلكة.
أيها المسلمون: وما أشكل فهمه من نصوص الكتاب والسنة، أو لم يعرف وجه تطبيقه وتحقيقه، فإنه يرجع إلى صحابة النبي ، فإنهم هم خلفاؤه الراشدون، وهم من بعده أئمة أمته المهديون، قال : ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ)) [1]. وقال حذيفة : (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد فلا تتعبدوها فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً).
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (سن رسول الله وولاة الأمر من بعده – يعني الخلفاء الراشدين وأئمة الصحابة المهديين – سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحدٍ تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء مما خالفها، من عمل بها مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا).
أيها المسلمون: فالكتاب وما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة، هي براهين الحق، ومعالم الهداية وموازين الأمور، وهي التي تزكي النفوس وتطمئن القلوب، وتشرح الصدور وتنور البصائر، وترجح العقول وتسدد الأقوال، وتصلح الأعمال وتجمل الأحوال، وتحسن المآل، وما سوى هذه الثلاثة فهي شر المحدثات، وأنواع الضلالات المهلكات، التي تصد عن الهدى، وتنافي التقوى وتجلب العمى، وتورث الشقاء، ولهذا كان النبي ينهى عنها في كل خطبة جمعة فيقول: ((أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) [2].
وجاء التحذير من البدع في أحاديث كثيرة ومناسبات متعددة وصيغ بليغة؛ كقوله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه [3]. وفي رواية لمسلم: ((من علم عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [4]. وقال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) رواه الترمذي وغيره [5]. وفي الصحيح: ((إن أقوامًا يطردون عن حوضه يوم القيامة كما تطرد الإبل العطاش، فيقول : أمتي)) [6] – في رواية: ((أصحابي [7] – فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)).
وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله، عن النبي قال: ((من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) [8]. وفيه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)) [9]. وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي قال: ((ليس من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل)) [10].
وروي عن النبي في المراد بقوله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]. ((أنهم أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة)).
أيها المسلمون: وإنما جاء هذا الوعيد الشديد لأهل البدع؛ لأن البدع تفسد القلوب، وتفتح للشيطان الباب، فيزين للمبتدع سوء علمه، ويغريه ببدعته، حتى يرى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، فيعرض عن الحق حين يدعى إليه، ويشتغل بشر ما هو فيه، ويسعى في تغيير الدين، وإضلال المسلمين، وتشتيت الكلمة، وتفريق الأمة، حتى يفرق الناس دينهم شيعًا، كل حزب بما لديهم فرحون.
أيها المسلمون: إن البدع في الدين أصل كل بلاء وفتنة، فإنها حدث في الدين وتغيير للملة، ومن شؤمها أنها لا تزيد أصحابها من الله إلا بعدًا، وحظهم من اجتهادهم وتعبهم في بدعهم أن تصدهم عن الحق صدًا، وصدق الله العظيم إذ يقول: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لاْخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَـ?تِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَزْناً [الكهف:103-105].
فاحذروا البدع عباد الله وأهلها، فإنهم أعداء السنة النبوية، ودعاة الجاهلية، وهم عباد الهوى، الصادون عن الهدى، فما أشأمهم على أنفسهم! وما أشقى المجتمعات بهم! إنهم دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها، فاحذروهم وحذروا منهم، وعادوهم وتقربوا إلى الله بعداوتهم ومقتهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَن يُشَاقِقِ ?لرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ?لْهُدَى? وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ?لْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى? وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً [النساء:105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح ، أخرجه أحمد (4/126-127) ، وأبو داود ح (4607) ، والترمذي ح (2676) ، وابن ماجه (44).
[2] أخرجه مسلم ح (867) وغيره دون قوله : ((وكل ضلالة في النار)) ، وقد أخرج هذه الزيادة النسائي في سننه ح (1578) وهي صحيحة.
[3] صحيح البخاري ح (2697) ، صحيح مسلم ح (1718).
[4] صحيح مسلم ح (1718).
[5] لم أجده عند الترمذي ، والحديث أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (15) والبغوي في شرح السنة (1/213) ، وفي إسناده نعيم بن حماد ، قال فيه الحافظ : صدوق يخطئ كثيراً. التقريب (2715) ، وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (الحديث 41) وكلام الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم.
[6] أخرجه البخاري ح (6593) ، ومسلم ح (2293).
[7] أخرجه البخاري ح (4625) ، ومسلم ح (2297).
[8] صحيح مسلم ح (1017).
[9] صحيح مسلم ح (2674).
[10] صحيح البخاري ح (3336) ، صحيح مسلم ح (1677).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/256)
التوحيد
التوحيد
الألوهية, الربوبية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
لا يجتمع الإيمان بالله والتعلق بالطاغوت , وتعريف الطاغوت – سر التوحيد أن تكون متعلقات
القلب كلها بالله وحده – أول حدوث الشرك في بني آدم وسببه , ووقوع الشرك في أمة محمد
صلى الله عليه وسلم وسببه وصفته – حال المشركين الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم
وطبيعة شركهم – توحيد الربوبية لا يكفي لإدخال الإنسان في الإيمان – مدار العبادة على الحب
والخوف والرجاء , وهي سر التوحيد – الاستعانة والتوكل من متعلقات الربوبية – ( إياك نعبد
وإياك نستعين ) جمَع التوحيد بنوعيه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الله تعالى لما ذكر الإيمان في كتابه في سورة البقرة قدم عليه الكفر بالطاغوت قال تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم [البقرة:255].
ولذلك قال العلماء التخلية قبل التحلية فتخلية القلب وتنقيته من سائر التعلقات بغير الله قبل تحليته بالإيمان بالله إذ لا يجتمع الإيمان بالله والتعلق بالطاغوت في قلب واحد أبدا فكما انه يجب على كل إنسان الإيمان بالله تعالى يجب عليه الكفر بالطاغوت والطاغوت هو كل راس في الضلالة سمي ذلك لطغيانه أي مجاوزته حده في العصيان وذلك مثل الكاهن والساحر والشيطان ومثل من حكم بغير ما أنزل الله قال تعالى : يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [النساء:60].لا يتحقق الإيمان إلا بالتوحيد والتوحيد سره أن تكون متعلقات القلب كلها بالله وحده فحبه لله وحده ورجاؤه في الله وحده وخوفه من الله وحده وهذه كما بينا سابقا هي محركات القلوب الحب والرجاء والخوف وإنما يقع الإنسان في الشرك إذا تعلق شئ من هذه المحركات بغير الله تعالى وقع الإنسان في الشرك والله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يقبل عليه بلا واسطة وأن يكون تعلق القلب به وحده سبحانه وتعالى بلا شفيع فإذا انصرف العبد عن ربه إلى غيره وتعلق قلبه بالشفعاء والوسطاء فقد وقع في الشرك لأنه علق الرجاء الذي كان يجب أن يعلقه بالله وحده سبحانه وتعالى إلى الوسطاء والشفعاء وأول ما وقع الشرك في بني آدم كان بسبب تعلق الرجاء بغير الله تعالى فوقع بني آدم في الشرك فأجيال البشر من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام كانوا على التوحيد الخالص وكان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر رجالاً صالحين من قوم نوح فلما ماتوا قال بعضهم: لو اتخذنا لهم صورا تذكرنا بهم لنتأسى بهم فصوروا لهم صورا تذكرهم بهم ليتأسوا بهم ثم جاء جيل منهم بعد ذلك اندرس فيه العلم فعبدوا تلك الصور هكذا ورد الخبر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري [1] وفي غير الصحيح رواية أخرى أنهم عبدوا تلك الصور وعكفوا على قبور أولئك الصالحين ففي هذا الخبر ليسوا هؤلاء المشركين من قوم نوح ما عبدوا تلك الصور صور الصالحين ما عبدوها لاعتقادهم أنها أرباب من دون الله تعالى ولكن مقصدهم كان في البداية التذكر ثم تحول الرجاء في صور أولئك الصالحين إلى عبادة فوقعوا في الشرك لما صرفوا الرجاء الذي كان ينبغي أن يعلقوه بالله وحده صرفوه إلى أولئك المعبودين صرفوه إلى أولئك الصالحين الذين اتخذوا لهم تماثيل اتخذوها في البداية بقصد التذكر والأسوة ثم تحولت للجيل الذي بعدهم إلى تعلق الرجاء بغير الله حتى غلب ذلك الرجاء بغير الله إلى حد العبادة فوقع قوم نوح في الشرك لأول مرة من ذرية آدم عليه السلام وذرية نوح عليه السلام وهكذا مشركو هذه الأمة أمة محمد الذين بعث فيهم ليدعوهم إلى التوحيد ما اتخذوا الآلهة التي اتخذوها لاعتقادهم أنها أرباب من دون الله أو أنها آلهة مساوية لله في الألوهية إنما اتخذوها شفعاء ووسطاء يتقربون بها يتقربون بجاهها عند الله تعالى فمشركو قوم نوح ومشركو قريش ومشركو العرب الذي بعث فيهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن منهم أحد يعتقد أن تلك الآلهة تخلق مع الله أو ترزق مع الله أو تحيي وتميت قال الله تعالى: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [الزخرف:87]. وقال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله [العنكبوت:61]. وقال سبحانه: ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولن الله [العنكبوت:63]. إنهم لم يشركوا بالربوبية وإنما أشركوا بالألوهية وتلك الآلهة التي اتخذوها لم يتخذوها لاعتقادهم أنها مساوية لله تعالى في الألوهية ولكنهم اتخذوها كما أشرنا وسطاء وشفعاء ليتقربوا بها إلى الله تعالى اتخذوها زلفى وقربى: ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر:3]. لما سأل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حصينا فقال له: ((كم إلها تعبد؟)) سأله وهو مشرك كم إلهاً تعبد فقال: ستة واحدا في السماء وخمسة في الأرض فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن الذي تعز منهم برهبتك ورغبتك ؟)) فقال حصين : الذي في السماء [2]
فحصين وهو مشرك ومثله باقي المشركين من العرب لم يتخذوا تلك الآلهة لاعتقادهم أنها أرباب من دون الله تخلق أو ترزق أو تحيي وتميت أو تنفع أو تضر في وقت الشدة أو تقضي الحاجة في وقت الرهبة والحاجة كلا وإنما اتخذوها يتوسطون بها ويستشفعون بها ويتزلفون بها ويتقربون بها إلى الله تعالى ولذلك كان التوحيد الذي عليه المدار هو توحيد العبادة أما توحيد الربوبية فيجب أن ننتبه ونلتفت إلى أنه لا يكفي لأن يدخل الإنسان في حظيرة الإيمان فهؤلاء المشركون مشركو العرب ومشركو قريش ومن قبلهم مشركو قوم نوح كانوا موحدين له تعالى بالربوبية ومع ذلك فهم مشركون لأنهم أشركوا بالألوهية أشركوا بالعبادة فالمدار على العبادة، العبادة التي جوامعها الحب والرجاء والخوف فالحب والرجاء والخوف عليها مدار العبادة وعليها مدار الإيمان فإذا تحققت هذه الثلاثة تم بها الإيمان لا يتم الإيمان إلا بها ولا يصح الإسلام إلا بها وهي سر التوحيد، وإذا ضم العبد إليها توحيد الله تعالى بالاستعانة والتوكل الذين هما متعلقات الربوبية فقد كمل إيمانه وكمل إسلامه وهذا هو السر المدفون في قوله تعالى في أول سورة في المصحف إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة:5]. العبادة والاستعانة عليها مدار الأمر كله وقدم بالذكر العبادة على الاستعانة لأن على العبادة المدار في إرسال الرسل وإنزال الكتب ولأن الشرك الذي وقع في بني آدم إنما وقع لأول وهلة وآخر وهلة في العبادة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا [نوح:21-24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري (4636)بنحوه.
[2] أخرجه الترمذي رقم (3483).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [سورة آل عمران:102].
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [سورة النساء:1].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [سورة الأحزاب :70].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [سورة الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريره ري لله عنه.
(1/257)
أحوال المؤمنين والمنافقين يوم القيامة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نور المؤمنين وظلمة المنافقين يوم القيامة. 2- وصف الجنة وبعض أحوال أهلها. 3- حال
المنافقين يوم القيامة. 4- بعض أفعال المنافقين. 5- التحذير من ظهور النفاق والوقوع فيه. 6- حذر السلف من النفاق وأمن الخلف منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قوله عز وجل: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون اعلموا أن الله يحيي الأرض بعض موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون [الحديد:12-17].
يقول الله تعالى مخبرا عن عباده المؤمنين يوم القيامة، أنهم يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة، وبأيمانهم كتبهم، قال ابن مسعود: (على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه، ويتقد مرة ويطفأ مرة).
وعن قتادة بن أبي أمية قال: إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم وسيماكم وحلاكم ونجواكم ومجالسكم، فإذا كان يوم القيامة قيل : يا فلان هذا نورك، يا فلان لا نور لك. وقيل: ليس أحد لا يعطى نورا يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين أحوج ما يكونون إليه، عند ذلك يقول المؤمنون: ربنا أتمم لنا نورنا [التحريم:8].
وقوله عز وجل: وبأيمانهم [الحديد:12] أي وبأيمانهم كتبهم، كما قال: فمن أوتي كتابه بيمينه [الانشقاق:7]. أي يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة: بشراكم أي المبشر به جنات، أو بشراكم دخول الجنات، قال ابن القيم رحمه الله: وكيف يقدر قدر دار خلقها الله بيده، وجعلها مقرا لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها الخير بحذافيره وطهرها من كل عيب وآفة ونقص، فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها فهو عرض الرحمن، وإن سألت عن بلاطها فهو المسك الأذفر، وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجوهر، وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أشجارها فما فيه شجرة إلا وساقها من ذهب أو فضة لا من الحطب والخشب، وإن سألت عن ثمارها فأمثال القلال ألين من الزبد وأحلى من العسل، وإن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحلل، وإن سأل عن أنهارها فأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (( لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب)) ( [1] ).
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله قال الله عز وجل: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) مصداق ذلك في كتاب الله: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة:17].
فيا عجبا ممن يؤمن بدار هذه صفتها، ويوقن بأنها لا يموت أهلها، ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها، ولا تنظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها، كيف يأنس بدار قد أذن الله في خرابها، ويهنأ بعيش دونها، والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان، مع الأمن من الموت والجوع والعطش وسائر أصناف الحدثان، لكان جديرا بأن يهجر الدنيا بسببها وأن لا يؤثر عليها ما التصرم والتنغص من ضرورته.
كيف وأهلها ملوك آمنون، وفي أنواع السرور متمتعون، لهم فيها ما يشتهون، وهم في كل يوم بفناء العرش يحضرون، وإلى وجه الله الكريم ينظرون، وينالون بالنظر إلى وجه الله ما لا ينظرون معه إلى سائر نعيم الجنان ولا يلتفتون، وهم على الدوام بين أصناف هذه النعم يترددون وهم من زوالها آمنون.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ينادي مناد : يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا فذلك قول الله عز وجل: ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ( [2] ) [الأعراف:43].
وبعد أن بين الله عز وجل حال المؤمنين، وكيف أنهم يعطون النور في الآخرة بقدر أعمالهم، ويحملون كتابهم بأيمانهم، وتبشرهم الملائكة بجنة الله عز وجل خالدين فيها، وأن ذلك هو الفوز العظيم، بين الله عز وجل أحوال المنافقين إذا حرموا النور يوم القيامة، أو أطفأ عنهم أحوج ما يكونون إليه.
فقال عز وجل: يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب [الحديد:13].
قوله: انظرونا أي انظروا إلينا، وقيل بمعنى انتظرونا وهو الذي عول عليه ابن جرير، وكأنهم يقولون للمؤمنين ذلك حينما يساقون إلى الجنة زمرا، والمنافقون ما يزالون في عرصات الآخرة وأهوالها وعذابها، والمراد حينئذ من الانتظار الاقتباس من نورهم، ورجاء شفاعتهم، أو دخول الجنة معهم، طمعا في غير مطمع، يقولون لهم ذلك حين يسرع بهم إلى الجنة.
قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً قال الزمخشري: طرد لهم وتهكم بهم، أي ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هناك فمن ثم يقتبس، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل سببه، وهو الإيمان والعمل الصالح، أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا فالتمسوا نورا آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أنه لا نور وراءهم وإنما هو تخييب وإقناط لهم.
قال الحسن وقتادة: هو حائط بين الجنة والنار، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو الذي قال الله تعالى: وبينهما حجاب [الأعراف:46]. وقال ابن كثير وهو الصحيح: باطنه في الرحمة أي الجنة وما فيها وظاهره من قبله العذاب.
والنفاق عباد الله هو الداء العضال، وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به.
وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين، وكشف أسرارهم، وجلّى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر.
هم أحسن الناس أجساما وألطفهم بيانا، وأخبثهم قلوبا وأضعفهم جنانا، فهم كالخشب المسنّدة التي لا ثمر لها، قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حافظ يقيمها لئلا يطأها السالكون: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون [المنافقون:3].
يؤخرون الصلاة عن وقتها، فالصبح عند طلوع الشمس، والعصر عند الغروب، وينقرونها نقر الغراب، إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتقين أنه مطرود وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان، ما أكثرهم وهم الأقلون، وما أجهلهم وهم المتعالمون: ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون [التوبة:56].
كره الله طاعاتهم لخبث قلوبهم وفساد نياتهم فثبطهم عنها وأقعدهم، وأبغض قربهم منه وجوارهم لميلهم إلى أعدائه فطردهم عنه وأبعدهم، وحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين فقال تعالى: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين [التوبة:46].
ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم وطردهم عن بابه وإبعادهم، وأن ذلك من لطفه بأوليائه، وإسعادهم فقال وهو أحكم الحاكمين: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين [التوبة:47].
إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً [النساء:61].
كثروا والله على ظهر الأرض وفي أجواف القبور، لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، سمع حذيفة رجلا يقول اللهم أهلك المنافقين فقال: (يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم قلة السالك).
تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين، ساء ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين، قال عمر بن الخطاب لحذيفة: (نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله منهم؟ قال لا ولا أزكي بعدك أحدا ).
وقال ابن أبي مليكة: (أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل). وذكر عن الحسن البصري (ما أمنه إلا منافق، وما خافه إلا مؤمن) قوله: ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور [الحديد:14].
أي ينادي المنافقون المؤمنين، أما كنا في الدار الدنيا، نشهد معكم الجمعات، ونقف معكم بعرفات، ونؤدي معكم سائر الواجبات؟ (قالوا بلى) قد كنتم معنا: ولكنكم فتنتم أنفسكم وارتبتم وغرتكم الأماني.
أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات، وتربصتم أي أخرتم التوبة، وقال قتادة تربصتم بالحق وأهله: وارتبتم أي برسالة محمد ، وبالبعث بعد الموت، وغرتكم الأماني أي قلتم سيغفر لنا: حتى جاء أمر الله أي ما زلتم في هذه الحالة بغير توبة حتى جاءكم الموت وغركم بالله الغرور أي الشيطان، قال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
قال بعض العلماء: إن للباقي بالماضي معتبرا، وللآخر بالأول مزدجرا، والسعيد من لا يغتر بالطمع، ولا يركن إلى الخدع، ومن ذكر المنية نسي الأمنية، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل.
فمعنى قول المؤمنين للمنافقين إنكم كنتم معنا، أي بالأبدان لا بالقلوب، كنتم معنا بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها، وإنما كنتم في حيرة وشك وتربص وغرور. ثم بالغ المؤمنون في توبيخهم وتقريعهم وتقنيطهم، فقالوا: فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير أي لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهبا ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ما قبل منه كما لا تقبل الفدية كذلك ممن أظهر كفره وعناده.
وقوله تعالى: مأواكم النار هي مصيركم وإليها منقلبكم، وقوله تعالى: هي مولاكم أي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم وبئس المصير، ثم قال عز وجل: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [الحديد:16].
يقول تعالى أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه، عن ابن عباس قال: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ثم قال عز وجل: ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى؛ لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيدهم، واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة. وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد، وكثير منهم فاسقون أي في الأعمال، فقلوبهم فاسدة وأعمالهم قاسية، كما قال تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به [المائدة:13]. ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية، ثم قال عز وجل: اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون [الحديد:17].
فيه إشارة إلى أن الله عز وجل يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتال الوابل، كذلك يحيي القلوب ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكيم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال.
( [1] ) رواه البخاري (6/13) الجهاد : باب الغدوة والروحة في سبيل الله ، ومسلم (13/26) الإمارة : باب فضل الغدوة والروحة.
( [2] ) روه مسلم (16/175) صفة الجنة : باب في دوام نعيم أهل الجنة ، والترمذي (12/125) التفسير : باب ومن سورة الزمر.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/258)
نصر الله قادم
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الله في نصر أوليائه. 2- وعد الله أنبياءه وجنده بالنصر. 3- نصر الإسلام في
معركتي بدر والأحزاب. 4- نصر الله يتنزل على العاملين المجاهدين. 5- مراحل الدعوة
الإسلامية وتغيرها بحسب ظروف الزمان والمكان. 6- بذل خبيب بن عدي في سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
فمن سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتحول أن ينصر أولياءه ويخذل أعداءه، فإذا تواجه الإيمان الصادق، والكفر الماحق فلابد أن ينتصر الإيمان الصادق كما قال تعالى: ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً [الفتح:22-23].
فالله عز وجل قد وعد أولياءه بالنصر والتمكين رغم أنف الجاحدين والمعاندين قال تعالى: وإن جندنا لهم الغالبون [الصافات:173].
وقال تعالى: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [المجادلة:21].
وقال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر :51].
وقال تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار [آل عمران:12-13].
قل للذين كفروا في كل زمان وفي كل مكان، قل للعلمانيين والمنافقين ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد: قد كان لكم آية أي معجزة ظاهرة ودلالة واضحة: في فئتين التقتا فئة مؤمنة بقيادة رسول الله ، وأخرى كافرة بقيادة أبى جهل لعنه الله يرونهم مثليهم رأي العين مع أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر يوم بدر، وعدد الكفار ينوف على الألف.
ولا ينافى هذا قوله عز وجل: وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً [الأنفال:44]، فقد قلل الله عز وجل عدد المسلمين في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعين المسلمين أولا حتى يتم اللقاء، وليقضى الله أمرا كان مفعولا.
فلما التحم الجيشان، كثّر الله عز وجل المسلمين في أعين المشركين، وقذف في قلوب المشركين الرعب، آية أخرى ومعجزة من الله عز وجل: والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار [آل عمران:13].
فالله عز وجل ينصر أولياءه ويعز جنده بأسباب لا تخطر على قلب بشر، أنزل الله عز وجل على المسلمين ليلة بدر طلا ومطرا خفيفا طهرهم به، وثبت الأرض من تحتهم، وأنزل على المشركين مطرا شديدا جعلهم لا يستطيعون أن يتحركوا من أماكنهم، وأرسل الله عز وجل على المشركين يوم الأحزاب ريحا شديدة تخلع خيامهم، وتكفأ قدورهم، وأنزل ملائكة تزلزل قلوبهم كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً [الأحزاب:9].
فالله عز وجل ينصر أولياءه بجنود لا يعلمها إلا الله كما قال تعالى: وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر [المدثر:31].
ونصر الله عز وجل لا يتنزل على أناس متعاطفين مع الإسلام، يرشحون الإسلام وينتخبونه يفضلونه على العلمانية والشيوعية والرأسمالية والمذاهب الكافرة.
نصر الله عز وجل يتنزل على أناس وصفهم الله عز وجل بقوله: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم [المائدة:54].
يتنزل نصر الله عز وجل على أناس أخبر الله عز وجل عنهم فقال: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون [التوبة:111].
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدى بك حادى الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادى حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
لقد حرك الداعي إلى الله عز وجل وإلى دار السلام النفوس الأبية، وأسمع منادى الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حيا، فهزه السماع إلى دار الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطّت به رحاله إلا بدار القرار، أين المسلمون عباد الله من المنازل الشريفة؟ أين المسلمون من روح الجهاد، والتشوق إلى البذل والشهادة في سبيل الله عز وجل؟
قال النبي : ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه)) ( [1] ).
وقال : ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض )) ( [2] ).
لماذا لا يتربى أطفال المسلمين وشبابهم على التطلع إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل، والتشوق إلى الشهادة في سبيله؟ والله لا تحيا هذه الأمة، ولا تعود إلى سالف عزها وكرامتها حتى يبذل شبابها في دين الله عز وجل.
شجرة الإسلام عباد الله لا تروى بالماء ولكنها تروى بالدماء، فحتى تترعرع شجرة الإسلام، وتعلو راية الملك العلام، لابد من البذل في سبيل الله عز وجل.
وليس البذل في سبيل الله إلقاء للنفس إلى التهلكة، وإنما الإلقاء بالنفس إلى التهلكة أن نبخل بالبذل في سبيل الله عز وجل.
عن أبي عمران التجيبي رضي الله عنه قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقى بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: ياأيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه ما يرد علينا ما قلناه: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [البقرة:195]. فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو. فمازال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم ( [3] ).
فليس البذل في سبيل الله إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وإنما الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، أن نبخل بالبذل في سبيل الله عز وجل، وليس الأمر عباد الله بالعواطف الهوجاء التي لا يضبطها شرع الله عز وجل، بل لابد أن يتحرك المسلمون لدين الله عز وجل، وأن يتحركوا كذلك بدين الله عز وجل، ولابد أن يكون المسلم بصيرا بزمانه، فيعرف العبودية المطلوبة منه، ولابد أن يكون واضحا للمسلمين أن الدعوة الإسلامية تمرّ بمراحل مختلفة بحسب ظروفها وأحوالها، فحيث كان المسلمون مستضعفين بمكة، لا شوكة لهم ولا دولة، كانت العبودية في كف الأيدي وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والجهر بالدعوة إلى الله عز وجل.
قال تعالى: قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله [الجاثية:14]. وقال تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [النساء:77].
ولما بايع الأنصار الكرام رسول الله بيعة العقبة الثانية وأمر النبي الصحابة رضي الله عنهم بالهجرة، صارت العبودية المطلوبة في هذا الزمان الهجرة إلى الله عز وجل، وترك الأهل والوطن والعشيرة، لتقوية شوكة المسلمين وتأسيس دولتهم، ولما هاجر النبي إلى المدينة النبوية، وصار للمسلمين دولة وشوكة، صارت العبودية في الجهاد والجلاد وإراقة دماء الكفار وإزهاق أرواحهم.
ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم أوفياء لدينهم، مخلصين لربهم، كفوا أيديهم حين أمروا بكف الأيدي، وهاجروا حين أمروا بالهجرة، وجاهدوا وجالدوا حين أمروا بالجهاد والجلاد وبذلوا نفوسهم لله عز وجل يعزّون دين الله، ويرفعون راية لا إله إلا الله، المسلمون اليوم عباد الله يشترون سلام أبدانهم وأموالهم بأديانهم، فلا يبالي الواحد منهم إذا سلم ماله ودمه، صارت الدولة للإسلام أو لأعداء الملك العلام، ولا يبالون تحاكم الناس إلى شرع الرحمن، أو تحاكموا إلى الطواغيت اللئام.
ولم يكن كذلك السلف الصالح رضي الله عنهم، بل كان الواحد منهم يرحب بأن يندق عنقه ولا يُثْلَمْ دينه، فهذا خبيب بن عدي لما أسره المشركون وعذبوه عذابا شديدا وقالوا له: أتحب أن محمدا مكانك وأنك معافا في أهلك ومالك فقال: والله ما أحب أنني معافا في أهلي ومالي ويشاك محمد بشوكة أي وهو كذلك معافا في أهله وماله، وفي ذلك قيل:
أَسَرت قريش مسلما فمضى بلا وجلٍ إلى السيّاف
سألوه هل يرضيك أنك سالم ولك النبي فدا من الإتلاف
فأجاب كلا لا سلمت من الردى ويصاب أنف محمد برعاف
ولما أرادوا قتله أنشأ يقول :
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
مادام في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شلو ممزّع
فبهذا البذل عباد الله، وبهذه التضحية وبهذه الروح الجهادية يمكّن للإسلام وأهله، فنصر الله عز وجل ليس بالهتافات ولا بالشعارات، نصر دين الله عز وجل بتطبيق الإسلام على أنفسنا وزوجاتنا وأولادنا نصر الله عز وجل هو البذل في سبيل إعزاز دينه ورفع رايته قال الله عز وجل: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [الحج:40].
وقال تعالى ] إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [ [محمد:7].
نصر الله قادم، ووعد الله قائم، رغم أنف المعاندين ورغم أنف العلمانيين والمنافقين.
سوف تعلو راية الله عز وجل كما أخبر الله عز وجل، وكما بشّر رسوله.
( [1] ) رواه الترمذي (7/161) فضائل الجهاد وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب وابن ماجة (2799) واللفظ له ، وأحمد (4/131) وصححه الألباني.
( [2] ) رواه البخاري (6/14) الجهاد والسير ، درجات المجاهدين في الله.
( [3] ) رواه الترمذي (11/96،97عارضه) التفسير وقال : هذا حديث حسن غريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد..
(1/259)
ضرورة الثبات على الحق
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذبذب من صفات المنافقين 2- الإمعة يتذبذب مع الناس 3- من داوم على شيء مات
عليه وبعث عليه 4- نكبات المسلمين سببها ذنوبهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه ولا تعصوه، وراقبوه تعالى واحذروه، واعلموا أن من أعظم خصال المسلم الحق وأجلّ مميزاته – الثبات على دينه، والمحافظة على أخلاق نبيه محمد دون أي تذبذب فيه أو انحراف عنه لشبهة عارضة أو شهوة جامحة أو فتنة بين الناس شائعة، فإن التذبذب بين الحق والباطل وترك السنة الثابتة بعد التخلق بها ليس من شأن أهل الإيمان، بل هو من شأن ذوي النفاق والكفران، الموصوفين في محكم القرآن، بالتناقص يبن الأقوال والأعمال، والتقلب في المسلك في سائر الأحوال، قال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ?للَّهَ عَلَى? حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ?طْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ?نْقَلَبَ عَلَى? وَجْهِهِ خَسِرَ ?لدُّنْيَا وَ?لاْخِرَةَ ذ?لِكَ هُوَ ?لْخُسْر?نُ ?لْمُبِينُ [الحج:11]. وقال سبحانه: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِ?للَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى ?للَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ?لنَّاسِ كَعَذَابِ ?للَّهِ وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ ?للَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ ?لْعَـ?لَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ [العنكبوت:10،11].
أما المؤمن الحق فإنه يكون مغتبطًا بإيمانه بالله، محققًا لعبوديته لله، متشرفًا بالانتساب لدينه، والاتباع لنبيه ، فيظل على الدوام معتدًا بإيمانه وعقيدته، معتزًا بشخصيته ورأيه، لا ينقاد لهوى باطل من قبل نفسه، ولا يتابع غيره على خطأ، ولا يرضى بأية خطوة لا تستمد من كتاب الله تعالى وهدي نبيه ؛ لعلمه أن للناس أهواء وغايات، وللبشر أخطاء ونزوات، وليس لذي لب سليم أن يتابع الناس على أخطائهم، أو يجاريهم على أهوائهم، بل لابد من طلب البينة على الدعوى، والحجة على المذهب، يقول تعالى: قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـ?نَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [البقرة:111]. أي على صدق دعواكم أنه لن يدخل الجنة سواكم، ويقول سبحانه فيمن حرموا ما أحل الله: نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [الأنعام:143]. أي فيما ذهبتم إليه وشرعتموه لأتباعكم من ضلال البشر أشباه الأنعام.
أيها المسلمون:روي عن النبي أنه قال: ((ومن أعطى الذلة من نفسه طائعًا غير مكره فليس منا)) [1]. وفي ذلك الوعيد الشديد التهديد الأكيد لمن ألقى قيادته لغيره ممن لم تكتب له العصمة، ورضي بتقليده وتبعيته له في كل ما يتجه إليه، فإن ذلكم هو الأمعة الذي يرضى بالتبعية والذلة والهوان، ويسلم قيادته لشرار بني الإنسان، وفي الأثر: ((لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم)) [2].
فالمؤمن ينبغي أن يكون صلبًا في دينه معتزًا بنفسه، مستقلاً برأيه، ويكون في ذلك كله على هدى من كتاب الله تعالى وسنة نبيه ؛ حتى لا يقع في شطط أو جور، أو يتردى برداء العظمة والكبر، فيصبح من الهالكين الخاسرين، بل يكون في سائر أحواله مؤمنًا قويًا؛ فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. وإنما تتحقق القوة في اتباع الحق والشجاعة في لزوم الثبات عليه، ولو جانبه سائر الخلق، فلا يقبل الذلة في دينه، ولا المداهنة في عقيدته، ولا المساومة على أخلاقه وقيمه، بل يلازم الحق في كل حال، ويحارب الباطل وأهل الضلال، ويرد الباطل على ما جاء به من الناس كائنًا من كان.
أيها المسلمون: المؤمن الحق هو الذي يدعو الناس إلى الخير ويسبقهم إليه، ويأمرهم بالمعروف ويكون أشد التزامًا به، وينهاهم عن المنكر ويكون أعظمهم بعدًا عنه، ويحب للناس من الخير ما يحبه لنفسه؛ فيتفق قوله وفعله على الخير، ويشهد ظاهره لباطنه على الاستقامة؛ فيجمع بين صلاح السريرة وجمال السيرة، والناس شهداء الله في أرضه، من أثنوا عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنوا عليه بشر وجبت له النار، وإنما يتحقق النبأ ويصدق الثناء يوم الموت، فيوم الجنائز هو يوم أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الصادقة في الدنيا للشخص أو عليه، ويوم القيامة هو يوم الجوائز، ففريق جائزته تسره وترضيه، وآخر جائزته تسوءه وتخزيه، فرقت بينهم الأقوال، وتباينوا في الفعال والأحوال، وعلى قدر نياتهم وسعيهم النوال، ولهذا أمر الله سبحانه بملازمة الإيمان والتقوى، واستمرار الاستمساك بالعروة الوثقى، وأخبر أن: ((من مات على عمل بعث عليه)) [3] فليلازم السعيد الإيمان، وليتصف بصفات عباد الرحمن، وليحذر الكفر والفسوق والعصيان، وليجانب أهل النفاق والكذب والبهتان.
فاتقوا الله عباد الله وأنبيوا إليه، واثبتوا على الإيمان، وكونوا أقوياء فيه، وتخلقوا بأوصاف أهل التقوى والإحسان، وما أكثرها في القرآن، وحافظوا على سنة نبيكم ، فإنها نجاة لكم من الضلالة والهلكة وفتنة كل فتان، وليكن لكم من انقضاء الأيام وتصرم العمر حافزًا لملازمة الحق والعض عليه بالنواجذ، ونذيرًا لتدارك الخطأ واستصلاح الفاسد وإقامة العوج، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل وَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى? عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:94].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من خاصة أوليائه وأحبابه. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] ضعيف جداً ، قال في مجمع الزوائد (10/248) : رواه الطبراني ، وفيه يزيد بن ربيعة الرجي ، وهو متروك.
وأشار المنذري في الترغيب إلى تضعيفه حيث قال : روي.. ح (4638 ، 4755). وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (310).
[2] أخرجه الترمذي ح (2007) بسند فيه ضعف ، وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً. أخرجه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) رقم (145 ، 1874). وانظر تعليق الألباني على مشكاة المصابيح ح (5129).
[3] أخرجه مسلم ح (2878) ولفظه : ((يُبعث كل عبد على ما مات عليه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، والناصح المبين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن من الدين والنهج الذي ينبغي أن يكون عليك مسلك أولي النهي البعد عن المعاصي، والتعاون على محاربة الفساد وقمع المفسدين، والقضاء على كل داعية إلى ضلال أو متزعم لفتنة أو مبتغ في الإسلام سنة جاهلية؛ ليحقق الله تعالى للمسلمين وعده الكريم بالنصر والتمكين بقوله المبين: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51]. وقوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى? قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِ?لْبَيّنَاتِ فَ?نتَقَمْنَا مِنَ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]. وقوله: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
وإن الفرص يا عباد الله ما برحت مواتية، فإن النكبات التي جرعت المسلمين الغصص وألبستهم ثوب العار إنما كانت نتيجة لإعراضهم عن شرع الله، وجرأتهم على معصيته وارتكاب محارمه، وهذا مما يضاعف المسؤولية ويحتم الواجب، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، فعلى الجميع التعاون على البر والتقوى، ونبذ الهوى، واتباع الهدى، والعاقبة للمتقين.
واعلموا عباد الله أننا في زمن جرت فيه أمور، وحدثت فيه حوادث أقضت المضاجع، ينبغي أن يأخذ منه المسلمون العبرة، وأن يعوا الدرس قبل أن يصابوا بأنفسهم بشديد النوازل وعظيم المصائب، فعلى اللبيب الفطن أن يحاسب نفسه على ما سلف من عمله، ويستزيد من الخير، ويجدد التوبة، ويلازم الاستغفار، ويسعى في استصلاح الحال والمآل؛ فإن ذلك من أسباب دفع البلاء وصرف العذاب، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، والمجتمع الرشيد هو الذي تتضافر جهود أفراده على استصلاح ما فسد من أمره، والأخذ على أيدي الخارجين فيه على شريعة العدل، وكم في المجتمع اليوم من مظاهر التفريط وبراهين التقصير.
فخلطه الرجل بالمرأة الأجنبية في بيته، أو دخوله دار غيره من قريب ونحوه حال غيابه – من المنكرات التي تورث فظيع العقوبات. والسماح للنساء بمصاحبة الأجنبي، والخلوة به في السيارة عند الذهاب إلى المدرسة أو السوق ونحوهما – من مظاهر ضعف الغيرة، والله تعالى غيور يغار على حرماته حين تنتهك، وقبل ذلك وأعظم منه التخلف عن الصلوات في الجماعات في سائر أو بعض الأوقات، فذلكم زيغ عن الحق يصبح أهله عرضة لأن يزيغ الله قلوبهم، ويسلبهم ما أعطاهم من النعم، ونحو ذلك من الأخطاء الشائعة والمنكرات والواقعة التي ينبغي للجميع أن يبتعدوا عنها.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله! إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/260)
فضل العلماء وصفات العلماء
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الناس ثلاثة: عالم ومتعلم ورعاع. 2- منزلة العلماء. 3- منزلة طلب العلم وكيفية نجاة
طالب العلم. 4- شرح أثر موقوف على علي بن أبي طالب في أقسام الناس بحسب العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
روى أبو نعيم في الحلية عن كميل بن زياد قال: أخذ علي بن أبي طالب بيدي، فأخرجني إلى ناحية الجبّانة، فلما أصحرنا جلس ثم تنفس ثم قال: يا كميل بن زياد القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك:
الناس ثلاثة: فعالمٌ رباني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو بالإنفاق والمال تنقصه النفقة، ومحبة العلم دين يدان به، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة؛ هاه هاه إن ههنا – وأشار بيده إلى صدره – علما لو أصبت له حملة، بل أصبته لَقِنَا غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقادا لأهل الحق لا بصيرة له في أحِنّائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا ذا ولا ذاك، أو منهوما باللذات، سلس القياد للشهوات، أو مغرى بجمع الأموال والإدخار، فهؤلاء ليسوا من دعاة الدين، أقرب شبها بهم الأنعام السائبة، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى، لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمنظر الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده، ودعاته إلى دينه، هاه هاه شوقا إلى رؤيتهم، وأستغفر الله لي ولك، إذا شئت فقم ( [1] ). هذا الحديث الموقوف على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من أشرف الأحاديث معنى، وعلي بن أبي طالب هو الذي تربى في بيت النبوة، وأسلم، وله ثمان سنوات أو عشر سنوات، وهو ابن عم رسول الله وختنه على ابنته فاطمة الزهراء سيدة نساء الأمة، وهو رابع الخلفاء الراشدين المهديين، وفارس الإسلام، وحامل راية الرسول عليه الصلاة والسلام، كان العلم يتفجر من جوانبه، وكان عمر على جلالته وعلمه يسأل علي بن أبي طالب ويقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن. وكان الحبر البحر ابن عباس يقول : إذا وجدنا الفتيا عن علي لم نسأل غيره، قال أبو بكر الخطيب: هذا حديث حسن من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظا.
قوله – رحمه الله -: ((فلما أصحرنا)) أي صرنا بالصحراء.
وقوله: ((القلوب أوعية فخيرها أوعاها)) أي أنصحها وأحفظها للحق.
وقوله : ((احفظ عني ما أقول لك )) يدل على أن رأس مال طالب العلم هو الحفظ، فينبغي على طالب العلم أن يهتم بحفظ كتاب الله عز وجل، وما استطاع من سنة رسول الله ، والمستحسن من الأقوال والأشعار.
ثم قال : ((الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق)).
قال ابن القيم رحمه الله: وتقسيم أمير المؤمنين للناس في أوله تقسيم في غاية الصحة ونهاية السداد، لأن الإنسان لا يخلو من أحد الأقسام التي ذكرها مع كمال العقل وإزاحة العلل، إما أن يكون عالما أو متعلما أو مغفلا للعلم وطلبه، ليس بعالم ولا طالب له، ومعني الرباني في اللغة الرفيع الدرجة في العلم، الذي لا زيادة على فضله لفاضل، ولا منزلة فوق منزلته لمجتهد، وقد دخل في الوصف له بأنه رباني وصفه بالصفات التي يقتضيها العلم لأهله، ويمنع وصفه بما خالفها، ومعنى الرباني في اللغة الرفيع الدرجة في العلم، العالي المنزلة فيه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: لولا ينهاهم الربانيون [المائدة:63]. وقوله: كونوا ربانيين [آل عمران:79].
وقيل: الرباني نسبة إلى الرب عز وجل، زيدت الألف والنون للمبالغة، كما تقول: لحيانى وجبهانى، لعظيم اللحية وعظيم الجبهة.
وقيل: رباني نسبة إلى التربية، فالربانيون هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، وقيل: هم الذين بلغوا الذروة في العلم والعمل والتعليم.
وقوله : ((ومتعلم على سبيل نجاة)) وحتى يكون المتعلم على سبيل نجاة ينبغي عليه أربعة أمور:
الأمر الأول: أن يتعلم العلم النافع، والعلم النافع هو علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه
وقال بعضهم:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدّثنا وما سوى ذاك فوسواس الشياطين
فينبغي عليه أن يتعلم العلم النافع، فلا يتعلم علم الكلام والفلسفة والمنطق والعلوم التجريبية التي لا توصله إلى خشية الله عز وجل ويظن أنه على سبيل نجاة.
والأمر الثاني: أن يبتغي بتعلمه وجه الله عز وجل، لا يطلب أعراض الدنيا لقوله : ((من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لن يجد عرف الجنة يوم القيامة)) ( [2] ).
والأمر الثالث: أن يعمل بعلمه، قال بعضهم : يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه حلّ وإلا ارتحل، وقال بعضهم: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به.
والأمر الرابع: أن يعلّم هذا العلم، فإن زكاة العلم في العمل به وتعليمه.
وقوله : ((وهمج رعاع أتباع كل ناعق)) والهمج من الناس حمقاؤهم وجهلتهم، والرعاع من الناس الحمقى الذين لا يعتد بهم.
وقوله: ((أتباع كل ناعق)) أي من صاح بهم ودعاهم تبعوه، سواء دعاهم إلى هدى أو إلى ضلال، فإنهم لا علم لهم بالذي يدعون إليه أحق هو أم باطل، فهم مستجيبون لدعوته، وهؤلاء من أضر الناس على الأديان، فإنهم الأكثرون عددا، الأقلون عند الله قدرا، وهم حطب كل فتنة، وسمى داعيهم ناعقا تشبيها لهم بالأنعام التي ينعق بها الراعي.
وقوله : ((يميلون مع كل ريح)) شبه عقولهم الضعيفة بالغصن الضعيف، وشبه الأهواء والآراء بالرياح والغصن يميل مع الريح حيث مالت، وعقول هؤلاء تميل مع كل هوى، ولو كانت عقولا كاملة كانت كالشجرة الكبيرة التي لا تتلاعب بها الرياح.
وقوله : ((لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق))، بين السبب الذي جعلهم بهذه المثابة، وهو أنهم لم يحصل لهم من العلم نور يفرقون به بين الحق والباطل، فهم ليس عندهم نور العلم، ولم يتبعوا عالما من علماء السنة يدلهم على الحق.
ثم قال : ((العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال )) فالعلم يحرس العبد من الشبهات والشهوات التي تضيع عليه دنياه وآخرته، والمال يحتاج إلى حارس.
((العلم يزكو بالإنفاق والمال تنقصه النفقة)) فالعالم كلما بذل علمه للناس وأنفق منه تفجرت ينابيعه، فازداد كثرة وقوة وظهورا، والجزاء من جنس العمل، فكما علم الناس من جهالتهم جزاه الله عز وجل بأن علمه من جهالته فزكاة العلم بتعليمه والعمل به.
((ومحبة العلم دين يدان به)) فمحبة العلم تحمل على تعلمه وأتباعه، وهذا دين يدان الله عز وجل به.
((العلم يكسب العالم الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته)) فالعلم يكسب العالم الطاعة في حياته، لأن الحاجة إلى العلم عامة لكل أحدٍ، للملوك فمن دونهم.
دخل رجل البصرة فقال: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري، فقال: بم سادهم؟ فقالوا: احتاجوا لعلمه، واستغنى عن دنياهم.
وصف بعضهم الإمام مالك فقال:
يدع الجواب ولا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان
نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان
وقال بعضهم :
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيا به أبدا الناس موتى وأهل العلم أحياء
((وصنيعة المال تزول بزواله)) أي من يتصنّع لك من أجل مالك، ومن يحترمك من أجل مالك، ومن يخدمك من أجل مالك، إذا ذهب المال تزول الصنائع، ويزول الاحترام وتذهب الخدمة، كما قال بعضهم:
وكان بنوا عمّي يقولون مرحبا فلما رأوني معسرا مات مرحبُ
((مات خزّان الأموال وهم أحياء)) فكم من الناس من يملك المليارات ولا يعرفه أحد، ولا يحبه أحد، وهم غارقون في الشهوات واللذات، فهم أموات مع أنهم يمشون على وجه الأرض ،
(( والعلماء باقون ما بقي الدهر )) فكم مضى على أئمة الحديث، والفقه ومحبتهم، والثناء عليهم، وذكرهم باق فكأنهم أحياء بين ظهرانينا فما فقدنا إلا صورهم.
قال علي : (( هاه إن ها هنا علما – وأشار بيده إلى صدره )) فيجوز للعالم أن يخبر عما عنده من العلم، وذلك ليس على سبيل التكبر والتعاظم، بل من أجل أن ينتفع به، وأن يسأله من يحتاج أن يسأل العلماء.
وقد قال يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم [يوسف:55].
ثم ذكر أصناف حملة العلم الذين لا يصلحون لحمله، ولا يقومون بحقه وهم أربعة أصناف:
الصنف الأول: وهو الذي أوتي ذكاء وحفظا ومع ذلك لم يؤت زكاء، ، فهو يتخذ العلم الذي هو آلة الدين للدنيا، يستجلبها به، ويتوسل بالعلم إليها، فهو غير مأمون على العلم، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، والعالم الرباني كلما ازداد علما يزداد تواضعا لله عز وجل، كما قال أبو أيوب السختياني: ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعا لله عز وجل.
والصنف الثاني: هم المقلدون لأهل الحق الذين ليس عندهم علم بالأدلة الشرعية، وليس عندهم إلا أقوال الرجال، وأجمعوا على أن المقلد ليس من أهل العلم، وقالوا: لا فرق بين مقلد وبين بهيمة تقاد، فمثل هذا المقلد الفاقد للبصيرة ينقدح الشك في قلبه بمجرد ظهور بدعة من البدع، أو شبهة من الشبهات (( لا ذا ولا ذاك )) أي لا هذا يصلح لحمل العلم ولا ذاك.
والصنف الثالث: المنهوم باللذات سلس القياد للشهوات، فما لهذا ودرجة وراثة النبوة، وحمل العلم النافع، والعلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، ولا ينال العلم براحة الجسم، فمثل هذا المنهوم باللذات يقال له:
فدع عنك الكتابة لست منها ولو سوّدت وجهك بالمداد
والصنف الرابع: وهو الذي حرصه وهمّته في جمع الأموال وتثميرها وادخارها، فقد صارت لذته في ذلك وفنى به عما سواه، فلا يرى شيئا أطيب له مما هو فيه، فهؤلاء الأصناف الأربعة ليسوا من دعاة الدين، ولا من أئمة العلم، ولا من طلبته الصادقين ((أقرب شبها بهم الأنعام السائمة)) وهذا التشبيه مأخوذ من قول الله عز وجل: أولئك كالأنعام بل هم أضل [الأعراف:179].
((كذلك يموت العلم بموت حامليه)) وهو مأخوذ من قول النبي : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) ( [3] ).
ثم بين صفات العلماء الربانيين والدعاة المخلصين فقال : ((اللهم بلى لن تخلوا الأرض من قائم لله بحججه، لئلا تبطل حجج الله وبيناته)) كما دل عليه كذلك قوله : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك )) ( [4] ).
فأخبر النبي أن طائفة من هذه الأمة لا تزال ظاهرة، وهذا الظهور إما ظهور سيف وسنان وسلطان أو ظهور حجة وبيان، فلا بد أن يبقى في الأرض من يحمل لواء السنة ويذبّ عنها.
وفي الأثر: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) ( [5] ).
وقال : ((لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة )) ( [6] ).
قوله ((بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم )) فمن حفظ الله عز وجل لحججه وبيناته أن يوفق الله عز وجل لحملة السنة من هو مثلهم في القيام بحق العلم والدعوة، فلا يترك من يحملون الراية الساحة حتى يبثوا العلم إلى أشباههم وأمثالهم.
((هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون)) والهجوم هو الدخول بغير استئذان، ولما كانت طريق الآخرة وعرة على أكثر الخلق لمخالفتها لشهواتهم، ومباينتها لإرادتهم ومألوفاتهم، قلّ سالكوها وزهدهم فيها قلة علمهم، فاستلانوا مركب الشهوة والهوى على مركب الإخلاص والتقوى.
وأما القائمون لله بحجته، خلفاء نبيه في أمته فإنهم لكمال علمهم وقوته نفذ بهم العلم إلى حقيقة الأمر، وهجم بهم عليه فعاينوا ببصائرهم، ما غشيت عنه بصائر الجاهلين وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى فهم مع الناس بأبدانهم، وأرواحهم مع ربهم عز وجل، تسبح حول العرش مع الأرواح العلوية، كما قال سيدهم وإمامهم رسول الله : ((إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساقٍ يسقيني)) ( [7] ).
( [1] ) الحلية لأبي نعيم الأصفهاني (1/79-80).
( [2] ) رواه أبو داود (10/97،98) العلم ، وابن ماجة (1/93) المقدمة وفي سنده فليح بن أبي المغيرة وهو صدوق كثير الخطأ ومع ذلك فقد صححه الحاكم والذهبي، وجوّد إسناده العراقي ولكنه توبع كما في جامع البيان (1/190) فهو حسن كما قاله في تحقيق جامع الأصول وصححه الألباني (202) صحيح ابن ماجة.
( [3] ) رواه البخاري (1/234) العلم : باب كيف يقبض العلم ، قال ابن المنير : محو العلم من الصدور جائز في القدرة إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه.
( [4] ) رواه البخاري (13/306) الاعتصام بالكتاب والسنة ، ومسلم (13/97) الزكاة.
( [5] ) رواه الخطيب في ((شرف أصحاب الحديث)) من حديث أبي هريرة وأسامة بن زيد وإبراهيم بن عبد الرحمن العذري (29) وحكى تصحيح الإمام أحمد له ، وقال الألباني : ثم إن الحديث مرسل لكن قد روى موصولا من طريق جماعة من الصحابة وصحح بعض طرقه الحافظ العلائي – مشكاة المصابيح (248).
( [6] ) رواه أحمد في المسند (4/200) من حديث أبي عنبه الخولاني ، ورواه ابن ماجة (8) المقدمة ، ابن حبان (326 الإحسان ) ، وحسنه الألباني في الصحيحة رقم (2442).
( [7] ) رواه البخاري (4/238) الصوم : باب الوصال ، وأبو داود (2344) الصوم من حديث أبي سعيد الخدري ، وفي الباب عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/261)
الجمعة: فضلها وآدابها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موعظة في تقديم العمل الصالح قبل الممات 2- اختصاص أمّتنا بيوم الجمعة
3- خصائص يوم الجمعة 4- سنن يوم الجمعة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: توبوا إلى الله تعالى قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له والصدقة، ابتغاء وجهه في السر والعلانية؛ ترزقوا وتنصروا وتجبروا، واغتنموا لحظات الزمن وفرص الحياة بالأعمال الصالحات قبل مضيها وانصرامها؛ فإن الليالي والأيام خزائن تستودع فيها الأعمال، ومطايا الأحياء إلى الآجال، وستمضي إلى ربها شاهدة لكم أو عليكم بما استودعتموها، حافظة لما ائتمنتموها، معاتبة لكم إن ضيعتموها يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ [الواقعة:10،11].
ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة، والآخرة قد ارتحلت مقبلة فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، فاستبقوا الخيرات، وأقبلوا على جليل الطاعات وعظيم القربات، وسابقوا إلى المغفرة والجنات وتنافسوا في الفوز بأعلى الدرجات قبل الممات، فعن النبي قال: ((إذا مات ابن آدم فقد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [1]. وعنه قال: ((ويتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله)) [2].
فالعمل أيها المسلمون هو الصاحب في السفر إلى الآخرة، والجليس في القبر دار الغربة، والشافع يوم الهول والكربة، فاعملوا صالحًا تجدوه، وأحسنوه تحمدوه، واتقوا ربكم واحذوره، فإنكم كادحون إليه كدحًا فملاقوه، فلا تغرنكم المهلة فما أسرع النقلة فكأنكم بملائكة الموت وقد حضرت، وبصحف الملائكة وقد طويت، وبالروح وقد غرغرت، فيالهول المفاجأة ويالعظم المصيبة، فكم من محسن يود الزيادة من الإحسان، وكم من مسيء يود لو أمهل ليصلح عمله يتوب إلى ربه من الفسوق والعصيان.
أيها المسلمون: اشكروا نعم الله تصبحوا من المحبوبين لديه، واغتنموا فرص الحياة فيما يقربكم إليه، وتذكروا حالكم حين الوقوف بين يديه، واعلموا أن يوم الجمعة من نعم الله العظيمة ومنحه الكريمة، التي اختص الله بها هذه الأمة المحمدية من بين الأمم، ومنحها مزاياه وفضائله؛ لما له سبحانه من جليل الحكم، فجعله تعالى عيدًا لهذه الأمة المرحومة في كل أسبوع، يتنافس فيها العباد بأنواع العمل المشروع، ويفرحون بما ادخر الله لهم فيه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم، فكم فيه من نفيس القربات، وكم فيه من أسباب تكفير السيئات وزيادة الحسنات، وكم فيه من موجبات رفعة الدرجات وإجابة الدعوات وَ?لسَّـ?بِقُونَ ?لسَّـ?بِقُونَ أُوْلَئِكَ ?لْمُقَرَّبُونَ [الجمعة:4].
أيها المسلمون: صح في الحديث عن نبيكم محمد أنه قال: ((أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا؛ فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد؛ وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة؛ نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقتضي لهم قبل الخلائق وأول من يدخل الجنة)) [3].
ولقد نبه على شيء مما جرى في هذا اليوم العظيم من الحوادث المهمة وما اختصه الله به من الفضائل لهذه الأمة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها)) [4]. وفي رواية أخرى: ((لا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة)) [5].
وفيه أيضًا عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من اغتسل يوم الجمعة واستاك ومس من طيب – إن كان عنده – ولبس من حسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فلم يتخط رقاب الناس حتى ركع ما شاء الله أن يركع، ثم أنصت إذا خرج الإمام فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته؛ كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها)) [6]. وفي رواية: ((من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا)) [7].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال: ((فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه)) وأشار بيده يقللها [8]. وروي عنه أنه قال: ((سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها عند الله تعالى، وأعظم عند الله عز وجل من يوم الفطر ويوم الأضحى)) [9].
أيها المسلمون: ولئن كان التبكير إلى المساجد يوم الجمعة سنة مهجورة من قبل الكثيرين من الناس هذه الأزمان، فلقد كان نبيكم يحث عليها ويرغب فيها ويعدها من جليل الصدقات ونفيس القربات، وأسباب السبق إلى المنازل العالية في الجنات، ففي الصحيح عنه قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح - يعني في الساعة الأولى – فكأنما قرب بدنه – أي تصدق بها لله – ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون)) [10].
وفي حديث آخر قال : ((إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومثل الهجر – أي المبكر إلى الجمعة – كمثل الذي يهدي بدنه ثم كالذي يهدي بقرة ثم كبشًا ثم دجاجة ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم وجاءوا يستمعون الذكر)) [11].
أيها المسلمون: حق لمن قرأ هذين الحديثين أن ينكس الرأس خجلاً من الله وحياء من الملائكة الكرام، وشفقة على عباد الله وخوفًا عليهم، إذ يفرط الكثير منهم بهذا الخير الكثير، فكم من الفرق الكبير بين من يهدي البدنة لتبكيره والذي لا يهدي شيئا؛ لأنه جاء بعد ما طوت الملائكة صحفها.
وكم من جمعة تطوي الملائكة فيه صحفها ولم تسجل فيه من السابقين إلا القليل ومعظمهم ممن هو كمهدي البيضة. فلا حول ولا قوة إلا بالله، ما هذا الزهد في الأجر ؟ وما هذه الغفلة عن عظيم الذخر؟ ألم يبلغهم قوله : ((من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)) [12] ؟ ألم يعلموا قوله : ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) [13] ؟ ألم يعلموا أن الناس في المنازل في الجنة على قدر تبكيرهم إلى الجمعة؛ فزيادة الفضل وعظيم الأجر ومزيد القرب من الله تعالى بحسب نصيبهم من الصفوف.
أيها المسلمون: تنافسوا- رحمني الله وإياكم – في هذا الخير العظيم الذي جعله الله في يوم الجمعة لمن استن بسنة النبي في ذلك، فنظفوا أبدانكم، والبسوا من أحسن ثيابكم، واستاكوا وتطيبوا من طيبكم، وبكروا إلى الجمعة بسكينة ووقار، وتنافسوا في الصف الأول ثم الذي يليه دون أن تؤذوا أحدًا من إخوانكم، وصلوا من النوافل ما كتب الله لكم، وأكثروا ذكر الله وتلاوة كلامه وأنواع ذكره، واسألوه سبحانه المزيد من فضله، والتزموا الأدب النبوي والنهج المحمدي تكونوا من السابقين إلى الخيرات الفائزين بأعلى الدرجات ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الجمعة:4]. وإياكم والتخلف عن هذا الخير والتهاون بتلك السنن، ففي الصحيح: ((لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) [14].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?لسَّـ?بِقُونَ ?لسَّـ?بِقُونَ أُوْلَئِكَ ?لْمُقَرَّبُونَ فِى جَنَّـ?تِ ?لنَّعِيمِ ثُلَّةٌ مّنَ ?لأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مّنَ ?لأَخِرِينَ [الواقعة:10-14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم ح (1631).
[2] أخرجه البخاري ح (6514) ، ومسلم ح (2960).
[3] أخرجه البخاري ح (898) بنحوه ، ومسلم ح (856) واللفظ له.
[4] صحيح مسلم ح (854).
[5] صحيح مسلم ح (854).
[6] لم أجده بهذا اللفظ عند مسلم وإنما أخرج بعضه ح (1400) ، وهو بهذا اللفظ عند أحمد (5/420) وأبو داود ح (334).
[7] صحيح مسلم ح (857).
[8] صحيح البخاري ح (935) ، صحيح مسلم ح (852).
[9] أخرجه أحمد (3/430) ، وابن ماجه (1084) ، وقال البوصيري في الزوائد : إسناده حسن.
[10] أخرجه البخاري (881) ، ومسلم ح (850).
[11] صحيح البخاري ح (929) ، ومسلم ح (850).
[12] صحيح ، أخرجه أحمد (4/10) وأبو داود ح (345) ، والترمذي ح (496) ، والنسائي (1381) وابن ماجه (1087).
[13] أخرجه البخاري ح (615) ، ومسلم ح (437).
[14] أخرجه مسلم ح (438).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/262)
الكفر وأسبابه
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
لا يجتمع في قلب كفر أكبر وإيمان – تفاوت درجات الإيمان والكفر – كفر من يبغض الرسول
صلى الله عليه وسلم والصحابة – الكفر الأكبر وأسبابه – من لوازم صحة الإيمان بغض
الكافرين , وأسباب تذوق حلاوة الإيمان – اتفاق العلماء على كفر من ترك الأركان كلها -
أمثلة للكفر الأصغر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الإيمان والكفر نقيضان لا يجتمعان في قلب واحد أبدا كما أن التوحيد والشرك نقيضان لا يجتمعان في قلب واحد أبدا والكفر المراد هنا الذي لا يجتمع مع الإيمان هو الكفر الأكبر المخرج من الملة فإن الكفر أصله في لغة العرب معناه الستر والتغطية يقولون كفر الشيء إذا ستره وكفر عليه إذا غطاه ومنه سمت العرب الليل كافرا لأنه يستر بظلامه وسموا الزراع كفاراً لأن الزارع يغطي البذر ويخفيه في الأرض قال تعالى: أعجب الكفار نباته [الحديد:20]. أي الزراع ومنه سمي نقيض الإيمان كفرا لأنه يغطي العقل ويستره ويحجبه فلا يرى أنوار التنزيل فلا يؤمن.
وكما أن الإيمان درجات فإن الكفر درجات فمنه الكفر الأكبر يخرج من الملة ومنه كفر دون ذلك كالتكذيب، والجحود كفر أكبر يخرج من الملة ومنه أن يبغض العبد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كفر أكبر وإن صدقه وأقر بنبوته كما فعلت اليهود فإنهم صدقوه صلى الله عليه وسلم وأقروا بنبوته ولكنهم حسدوه وأبغضوه ومثل ذلك أن يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عد ذلك العلماء كفراً واستدل الإمام مالك إمام دار الهجرة على كفر من يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار [سورة الفتح:29]. ففي هذه الآية الكريمة شبه الرب سبحانه وتعالى كثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزرع إذا استغلظ فاستوى على سوقه وأخبر بأن كثرتهم تغيظ الكفار وتسر المؤمنين.
فاستدل إمام دار الهجرة بذلك على كفر من يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يكفر من أبغض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر ما يقع الكفر الأكبر المخرج من الملة في الأمور الاعتقادية وفي الأعمال القلبية فلا يتصور بقاء شيء من إيمان في قلب خال من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لا يتصور بقاء شيء من إيمان يضمر الحب والود لمن حارب الله ورسوله قال تعالى لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [سورة المجادلة:22]. فكما أن من لوازم صحة الإيمان حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يصح إيمان العبد إلا بذلك فإن من لوازم صحة الإيمان بغض الكفر والكافرين وبغض من حارب الله ورسوله فإن هذا من لوازم صحة الإيمان بغض الكفر والكافرين وكلما اشتد حب العبد لله ورسوله وكلما اشتد مقته وبغضه للكفر والكافرين قوي إيمانه وكمل إيمانه حتى يذوق حلاوة الإيمان كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) [1].
وقد أخذ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة والعهد على جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أخذ عليه العهد أن ينصح لكل مسلم وأن يبرأ من كل كافر فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن جرير رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : أبايعك على الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم: ((أشترط النصح لكل مسلم أشترط النصح لكل مسلم)) [2]. وفي رواية في المسند أيضا أن جريرا رضي الله عنه قال فقلت: يا رسول الله اشترط علي أي أنا الآن أبايعك وأعاهدك فاشترط علي فقال صلى الله عليه وسلم (( تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتصلي الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتنصح للمسلم وتبرأ من الكافر )) [3].
فإن كان هناك تردد في كفر من ترك شرطا من هذه الشروط فليس هناك أي تردد من العلماء في كفر من ترك هذه الشروط جميعا ليس هناك اختلاف بين العلماء في أن من ترك هذه الأمور كلها يكفر كفرا أكبر ويخرج من الملة إذ لا يتصور أن يكون مؤمنا من لا يقيم الصلاة ولا يؤدي الزكاة ويضمر البغض والغش والخيانة لكل مسلم ولا يبرأ من الكافر بل يضمر للكفار الود والميل إليهم ثم هو فوق ذلك يشرك بالله الواحد القهار.
من اجتمعت فيه هذه الأمور وتكالبت عليه هذه النواقض كلها لم يبق لديه من الإيمان أبدا وإن جهر ورفع صوته بلا إله إلا الله فهو كافر خارج من الملة من لا يصلي الصلاة ولا يؤدي الزكاة ويبغض المسلمين ويحب الكافرين ويشرك بالله الواحد القهار كيف يكون مؤمنا مسلما حاشا وكلا أن يكون كذلك.
ثم اعلموا أيها المسلمون أن للكفر درجات فمنه كفر أكبر كما بينا يخرج من الملة ومنه كفر دون ذلك سماه العلماء كفراً دون كفر.
بوب الإمام البخاري محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله بوب في صحيحه بابا فقال : باب كفران العشير وكفر دون كفر ثم ذكر حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال عبد الله بن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أريت النار فرأيت أكثر أهلها النساء يكفرن (أي بسبب أنهن يكفرن) قال الصحابة رضوان الله عليهم: يكفرن بالله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان إذا أحسنت إلى أحداهن دهرا (أي زمنا طويلا وأنت تحسن إليها) فإذا رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط)) [4] فسمى الرسول صلى الله عليه وسلم فعل النساء هذا سماه كفراً مع أنه معصية لا تنقض الإيمان ولا تهدم الإيمان ومعصية من المعاصي لكنه كفر للعشير وهو الزوج وكفر للإحسان فالمرأة وأكثر النساء إذا رأت من زوجها ما يغضبها وقد أحسن إليها زمنا طويلا قالت له ما رأيت منك خيرا قط فسمى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك كفرا وهو ليس بذلك الكفر الذي ينقض الإيمان كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم قتال المسلم بالكفر فقال صلى الله عليه وسلم:
((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) [5] وقال في حجة الوداع: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً قال ذلك لأصحابه- لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) أخرج هذين الحديثين الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه.
وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين قتال المسلم بالكفر هذا مع أن الله سبحانه وتعالى في كتابه سمى المسلمين المتقاتلين سماهم مؤمنين وأطلق عليهم وصف الإيمان وأثبت بينهم أخوة الإيمان قال تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوابينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة [سورة الحجرات:9]. أي وإن تقاتلوا فأصلحوا بين أخويكم.
قال سبحانه وتعالى في وصف الواحد من المسلمين إذا قتل مسلما في وصف الواحد القاتل من الأفراد قال سبحانه وتعالى : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان [سورة البقرة:178]. فسمى سبحانه وتعالى سمى ولي المقتول أخا للقاتل فدل هذا كله على أن الكفر في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم قد يطلق أحيانا على المعصية التي لا تنقض الإيمان ولا تهدم الإيمان وإن كانت تؤثر فيها بالنقصان ولذلك سماها الشارع الحكيم كفرا حينئذ لأن المعصية أيضا تغطي العقل وتحجب عن القلب نور الإيمان عند ارتكابها على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) [6].
أي إن الزاني وقت ارتكابه لهذه الفاحشة المنكرة يرتفع عنه نور الإيمان إذ إن ظلمة المعصية تغشت قلبه وحالت بينه وبين الإيمان ولكن نور الإيمان يرتفع فوق رأسه فوق رأس المؤمن الزاني يغادر قلبه ويرتفع فوق رأسه كالظلة لا يفارقه بتلك المعصية أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف واداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم [سورة البقرة:178].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري :كا الايمان رقم (16).
[2] أخرجه البخاري :ك:الإيمان رقم (58). أحمد (4-357).
[3] أخرجه البخاري :ك:الإيمان رقم (57).
[4] أخرجه البخاري ك:الإيمان رقم (29).
[5] اخرجه البخاري :ك:الإيمان رقم (48).
[6] أخرجه البخاري :ك: المظالم رقم (2343).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [سورة آل عمران:102].
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [سورة النساء:1].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [سورة الأحزاب:70].
و صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [سورة الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [1]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريره رضي لله عنه
(1/263)
سددوا وقاربوا
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العمل وحده لا يكفي لدخول الجنة. 2- دور العمل في رفع الدرجات لا النجاة من النار ولا
دخول الجنة. 3- الجنة والعمل الصالح الموصل لها ، كل ذلك من نعم الله. 4- السلف الصالح
يطلبون الجنة برحمة الله لا بأعمالهم. 5- يسر الإسلام وسهولة شرائعه. 6- أوقات يندب فيها
لعبادة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لن ينجي أحدا منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا، وشيء من الدُّلجة، والقصد القصد تبلغوا )) ( [1] ).
وفي رواية في الصحيح كذلك قال : ((إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة )) ( [2] ).
في هذا الحديث أصول عظيمة: فمن ذلك أن العمل وحده لن يكفي للنجاة من عذاب الله عز وجل والفوز بجنة الله، بل لابد من الاضطرار إلى رحمة الله عز وجل وعفوه، فقد قال بعض السلف: ينجون من النار بالعفو، ويدخلون الجنة برحمة الله، ويتقاسمون الدرجات بالأعمال.
فإن قال قائل قال الله تعالى: وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [الزخرف:72].
وقال تعالى: كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية [الحاقة :24].
فالجواب أن الباء المنفية في قوله : ((لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)) هي باء العوض والمقابلة، فالعمل مهما كان عظيما لا يكفي للنجاة من عذاب الله والفوز بجنة الله عز وجل، ولو كان أفضل العمل وهو عمل نبينا محمد وكيف يكون العمل مقابلا لجنة الله عز وجل، والجنة خلود في أعظم النعيم، وكم يعيش المؤمن في الدنيا حتى يكون عمله مقابلا لجنة الله، فالباء المنفية في الحديث هي باء العوض والمقابلة، كما تقول: أعطني كذا بكذا، فليس هناك عمل يساوي الجنة.
أما الباء في قوله عز وجل: بما كنتم تعملون [الزخرف: 72]. وفي قوله عز وجل: بما أسلفتم في الأيام الخالية [الحاقة:24]. فهي باء السبب، فالعمل الصالح سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، والسبب لا يستقل بنفسه، بل لابد من رحمة الله عز وجل وعفوه.
قال النووي رحمه الله : في هذه الأحاديث دلالة أهل الحق أنه لا يستحق أحدٌ الثواب والجنة بطاعته، وأما قوله تعالى: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [النحل:32]. وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [الزخرف:72].
ونحوها من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة، فلا تعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث، ويصح أنه دخل بالأعمال – أي بسببها وهي من الرحمة والله أعلم.
فإن قيل: قال الله عز وجل: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [التوبة:111]. فالجواب أن الله سبحانه وتعالى خاطب العباد بما يتعارفونه بينهم، فقد جعلهم الله عز وجل بائعين في هذه الآية، كما جعلهم مقرضين في قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون [البقرة:245]. مع أن الذي يقترض يكون محتاجا، والله عز وجل هو الغني، وما سواه فقير إليه كما قال تعالى: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [فاطر:15]. فلما كان القرض يرد مرة ثانية إلى صاحبه والصدقة تعود على صاحبها أوفر ما كانت في الآخرة سمى الله عز وجل ذلك قرضا مع أنه لا يشبه القرض في كل شيء، فكذلك هنا ندب الله عز وجل العباد إلى بذل نفوسهم لله عز وجل بما يتعارفونه بينهم بجعلهم بائعين لنفوسهم مع أنه لا يشبه البيع من كل وجه.
وكيف تكون الجنة ثمنا للعمل الصالح، والعمل الصالح والتوفيق له نعمة من الله.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وعند تحقيق النظر، فالجنة والعمل كلاهما من فضل الله ورحمته على عباده المؤمنين، ولهذا يقول أهل الجنة عند دخولها: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق [الأعراف:43]. فلما اعترفوا لله بنعمته عليهم بالجنة وبأسبابها من الهداية، وحمدوا الله على ذلك كله، جوزوا بأن نودوا:
أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [الأعراف:43].
فالله عز وجل يحب من العباد أن ينسبوا الفضل لله، والحمد كله لله عز وجل، وأن ينسبوا العيب والذنب إلى أنفسهم، فلما قال أهل الجنة هذه المقالة التي يحبها الله عز وجل: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
كان الجواب: ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون فأثنى الله عز وجل عليهم بأعمالهم.
وقد قال بعض السلف: إن العبد إذا أذنب ثم قال: يا رب أنت قضيت عليّ قال له ربه: أنت أذنبت وأنت عصيت، فإن قال العبد: يا رب أنا أخطأت وأنا أسأت، وأنا أذنبت قال الله: أنا قضيت عليك وقدرت وأنا أغفر لك. ( [3] )
ومما يؤكد معنى الحديث كذلك أن تضعيف الحسنات إنما يكون بفضل الله عز وجل ورحمته، ومغفرة الذنوب والخطيئات، إنما يكون بعفو الله عز وجل ومغفرته، فإذا فأراد الله عز وجل أن يرحم عبدا وهب له النعم، وغفر له السيئات، وضاعف له الحسنات، ولو بقيت له حسنة واحدة ضاعفها الله عز وجل له حتى يدخله الجنة، وإذا أراد شقاء عبد حاسبه على نعمه عليه هل وفّّى شكرها، فلا تفي جميع أعمال العبد الصالحة في وفاء شكر بضع نعم الله عز وجل على العبد فتبقى بقية النعم بلا وفاء، بالإضافة إلى الذنوب والمظالم، فلابد أن يهلك العبد.
كما قال النبي : ((من نوقش الحساب عُذّب)) وفي رواية: ((من نوقش الحساب هلك )). ( [4] )
فإذا أراد الله عز وجل نجاة عبد عامله بفضله وإذا أراد هلاك عبد عامله بعدله، نسأل الله عز وجل أن يحملنا على فضله، وأن لا يحملنا على عدله.
قال بعض السلف: إذا بسط فضله لم يبق لأحد سيئة، وإذا جاء عدله لم يبق لأحد حسنة، فالعمل وحده لا يكفي للنجاة من عذاب الله، والفوز بجنة الله عز وجل، كان داود الطائي يجتهد في العبادة والعمل الصالح، حتى قال محارب بن دثار: لو كان داود في الأمم السابقة لقصّ الله عز وجل علينا من خبره.
فلما مات رحمه الله قام ابن السماك بعد دفنه يثنى عليه بصالح عمله ويبكى، والناس يبكونه ويصدقونه على مقالته، ويشهدون بما يثنى به عليه.
فقام أبو بكر النهشلي فقال : اللهم اغفر له وارحمه ولا تكله إلى عمله.
فمهما كان عمل العبد لو وكِل إليه هلك.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فإذا تقرر هذا الأصل الشريف العظيم، وعلم أن العمل بنفسه لا يوجب النجاة من النار ولا دخول الجنة، فضلا عن أن يوجب f نفسه الوصول إلى أعلى ما في الجنة من منازل المقربين والنظر إلى وجه رب العالمين، وإنما ذلك كله برحمة الله وفضله ومغفرته، فذلك يوجب على المؤمن أن يقطع نظره عن عمله بالكلية، وأن لا ينظر إلا إلى فضل الله ومنته عليه ( [5] ).
فلا يغتر العبد بعمله بل ييأس من نفسه وعمله، ويعلق قلبه بالله عز وجل، قال الله تعالى: فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار [آل عمران:195]. فالإيمان والهجرة والجهاد والشهادة لا يكفي بمجرده حتى يكفر الله عز وجل سيئات العباد، ويدخلهم الجنة فلا بد لهم من عفو الله عز وجل ورحمته.
قال بعض السلف: الآخرة إما عفو الله أو النار، والدنيا إما عصمة الله أو الهلكة.
وكان محمد بن واسع يودع أصحابه عند موته ويقول: عليكم السلام إلى النار أو يعفو الله، ولما كان العمل هو السبب الموصل إلى رحمة الله عز وجل قال النبي : ((سددوا وقاربوا)) والمراد بالسداد التوسط، في العبادة وإصابة هدى النبي ، ولا شك في أن هدى النبي هو خير الهدى وأحسنه، كما في خطبة الحاجة : (( أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد )) ( [6] ).
فالسداد أن تهتدي بهدي النبي ، فإن لم نتمكن من إصابة هديه وسنته فينبغي علينا أن نقترب من الهدى المبارك.
وفي الرواية الأخرى: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا)) ( [7] ).
فمعنى يسر الدين أن العبد إذا التزم شرع الله عز وجل فإن شرع الله عز وجل لا يكلفه مالا يطيق، وإنما يرى سماحة الإسلام وتيسير شريعته، فمن يسر الإسلام أن من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله، ومن صام ثلاثة أيام من كل شهر فكأنما صام الشهر كله، ومن صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر كله، ومن صلى الفجر في جماعة وجلس في مصلاه إلى ارتفاع الشمس ثم صلى ركعتين كان له أجر حجة وعمرة تامة تامة، ومن أضطر إلى أكل الميتة أجاز له الشارع أن يأكل منها ما يدفع عنه الهلاك إلى غير ذلك من شواهد سماحة الإسلام، وبعده عن الآصار والأغلال.
ثم أخبر النبي بالأوقات التي يستحب فيها كثرة العبادة والطاعة فقال : ((واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)) وفي الرواية الأخرى: ((واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) فبين النبي أن أوقات السير إلى الله عز وجل أول النهار وآخره وآخر الليل، وهي الأوقات التي يطيب فيها الهواء، وينشط فيها من أراد السفر في الدنيا، فالغدوة هي البكور، والروحة هي العشي من صلاة العصر إلى غروب الشمس، وقد دلت الآيات الكريمات على ما دل عليه هذا الحديث الشريف فقال تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه [الأنعام:52].
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً [الأحزاب:41-42].
وقال تعالى: وسبح بالعشي والإبكار [آل عمران:41]. وفي هذين الوقتين عبادة واجبة وعبادة مستحبة، فأما العمل الواجب فصلاة الصبح وصلاة العصر، وهما أفضل الصلوات الخمس، وهما البردان.
وقد قال النبي : ((من صلى البردين دخل الجنة )) ( [8] ).
وقال : ((يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر)) ( [9] ).
وقال عز وجل في صلاة العصر: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين [البقرة:238] والصلاة الوسطى هي صلاة العصر كما قال جمهور العلماء.
أما صلاة الصبح، فقد قال الله عز وجل: إن قرآن الفجر كان مشهوداً [الإسراء:78]. وقرآن الفجر المقصود به صلاة الفجر، فالصلاة يرمز لها بالركوع والسجود والقرآن، لأنها تشتمل على ذلك كله.
أما التطوع ففي هذين الوقتين أذكار طرفي النهار وأذكار الصباح والمساء، ولكل ذكر فضله وشرفه.
أما آخر الليل وهو الدلجة كما قال النبي : ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)) فالإدلاج هو الخروج آخر الليل، وهذا الوقت هو وقت الاستغفار، كما قال تعالى: والمستغفرين بالأسحار [آل عمران:17] وقال تعالى في وصف المحسنين وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات : 18]، وهذا الوقت هو وقت النزول الإلهي كما قال : ((ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له )) ( [10] ).
فهذه الأوقات الثلاثة هي أوقات السير في الدنيا، وهي كذلك أوقات السير إلى الله عز وجل، والسير إلى الله عز وجل ليس سيرا بالأقدام، ولكنه سير بالقلوب، فقد يسبق العبد بقلبه ونيته من هو أكثر منه صلاة وصياما واجتهادا بالجوارح.
من لي بمثل سيرك المدلل تسير رويدا وتجئ في الأول
قال بكر بن عبد الله المزني: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة وصيام، ولكن بشيء وقر في قلبه.
وقال رجل للتابعين: لأنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب رسول الله ، ولكنهم كانوا خيرا منكم، كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة.
فكان في التابعين من هو أكثر عبادة من الصحابة رضي الله عنهم كان في التابعين ثلاثون تابعيا لو قيل لأحدهم: القيامة غدا. ما استطاع أن يزيد شيئا، ولكن الصحابة كانوا خيرا منهم، فقد سبقوا من بعدهم بقوة يقينهم في الآخرة، وتقواهم وإخلاصهم وزهدهم، والأعمال تتفاضل بحسب ما في قلوب أصحابها من تقوى لله عز وجل.
قال أبو الدرداء : يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين.
وقال بعضهم : كم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم، هذا قام وقلبه كان فاجرا، وهذا نام وقلبه كان عامرا.
وقوله : ((والقصد القصد تبلغوا)) حث على الاقتصاد في العبادة والتوسط فيها بين الغلو والتقصير، فالغلو في العبادة سيئة والتقصير سيئة، والاقتصاد بينهما حسنة، فالاقتصاد هو هدى النبي والغلو مظنّة السآمة والانقطاع، والقصد هو هدى النبي وسنته، وقد قال النبي : ((ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منّي)) ( [11] ).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : فالمؤمن في الدنيا يسير إلى ربه حتى يبلغ إليه كما قال تعالى يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه [الانشقاق:6]. قال تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [الحجر:99].
قال الحسن: يا قوم المداومة المداومة، فإن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت، ثم تلا هذه الآية: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وقال أيضا: نفوسكم مطاياكم، فأصلحوا مطاياكم تبلغكم إلى ربكم عز وجل.
والمراد بإصلاح المطايا الرفق بها، وتعاهدها بما يصلحها من قوتها، والرفق بها في سيرها، فإذا أحس بها بتوقف في السير تعاهدها تارة بالتشويق، وتارة بالتخويف، حتى تسير.
قال بعض السلف: الرجاء قائد، والخوف سائق، والنفس بينهما كالدابة الحرون ( [12] ) ، فمتى فتر قائدها، وقصر سائقها، وقفت فتحتاج إلى الرفق بها والحدو لها، حتى يطيب لها السير.
ولما كان الخوف كالسّوط، فمتى ألح بالضرب بالسوط على الدابة تلفت، فلابد لها مع الضرب من حادي الرجاء، حتى يطيب لها السير بحدائه، حتى تقطع.
قال بعضهم: مازلت أقود نفسي إلى الله وهي تبكي، حتى سقتها وهي تضحك كما قيل:
إذا شكت من كلال السير أوعدها روح القدوم فتحيا عند ميعاد
( [1] ) رواه البخاري (11/300) الرقاق : باب القصد والمداومة على العمل.
( [2] ) وفي رواية (1/116) الإيمان : باب الدين يسر ، والنسائي (8/121-122) الإيمان وشرائعه : الجهاد.
( [3] ) المحجة في سير الدلجة (32،33).
( [4] ) رواه البخاري (1/237) العلم : باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه ، ومسلم (رقم 2876) الجنة : باب إثبات الحساب.
وقال النووي : معنى ( نوقش ) استقضى عليه ، وقوله (عذب) له معنيان أحدهما نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف عليها وهو التعذيب لما فيه من التوبيخ والثاني : أنه مفض إلى العذاب بالنار ويؤيده في الرواية الأخرى (هلك) مكان (عذب) وهذا الثاني هو الصحيح ومعناه أن التقصير بغالب في العباد فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك ودخل النار ولكن الله تعالى يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء – شرح النووي على صحيح مسلم هامش(17-302).
( [5] ) المحجة في سير الدلجة (43،44).
( [6] ) رواه مسلم رقم (867) ( 6/219-220) الجمعة : باب تخفيف الصلاة والخطبة والنسائي (3/188-189) العيدين : باب كيف الخطبة.
( [7] ) تقدم تخريجه (ص 27).
( [8] ) رواه البخاري (2/63) مواقيت الصلاة ، باب فضل صلاة الفجر ، ومسلم (5/189) المساجد ومواضع الصلاة.
( [9] ) رواه البخاري (2/33) مواقيت الصلاة ، ومسلم (2/123) المساجد ، ومالك في الموطأ (1/170) قصر الصلاة في السفر.
( [10] ) رواه البخاري (13/464) التوحيد ، ومسلم (6/38،39) صلاة المسافرين، والترمذي (13/30 عارضه ) الدعوات ، وأبو داود (1301) الصلاة.
( [11] ) رواه البخاري (9/89-90) النكاح ، ومسلم (9/176) النكاح.
( [12] ) الدابة الحرون التي تقف وتأبى السير.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/264)
الصيام والتذكير بما ينبغي فيه من الآداب والأحكام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص السلف على حفظ صيامهم بترك المعاصي 2- مزية رمضان عن بقية الشهور
3- ضرورة الصيام عن المعاصي 4- آداب الصيام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا ربكم تعالى وأطيعوه، وعظموا نعمه واشكروه، واجتهدوا في طاعته واعلموا أنكم لن تحصوه وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ?للَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَائِزُون [النور:52].
أيها المؤمنون: لا يخفى أنكم تستقبلون عما قريب ضيفًا كريمًا، وموسمًا عظيمًا، وهو شهر رمضان المبارك بلغنا الله جميعًا إياه، ووفقنا للتقرب إليه فيه بما يحبه ويرضاه، وحشرنا في زمرة السابقين أئمة المتقين فإنه كريم رؤوف رحيم.
عباد الله: روي عن النبي أنه قال: ((أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه؛ فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه ويباهي بكم ملائكته؛ فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله)) [1].
وحدث سلمان الفارسي فقال: خطبنا رسول الله في آخر يوم من شعبان فقال: ((يا أيها الناس! قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه الرزق، من فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء)). قالوا: يا رسول الله! ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم. قال رسول الله : ((يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائمًا على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء، ومن سقى صائمًا سقاه الله عز وجل من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة. وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما: أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار)) [2].
أيها المؤمنون: وثبت عن النبي أنه قال: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [3]. و((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من تقدم من ذنبه)) [4] ، وقال: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [5] ، وقال : ((إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) [6]. كما ثبت عنه أنه قال: ((الصيام جنة، فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم)) [7]. وشدد في ضرورة حفظ الصيام مما يخدشه أو يفسده حتى قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [8].
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ((إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأثم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء)).
معاشر المؤمنين: هكذا تحدد هذه الآثار ما ينبغي أن يكون عليه سلوك المؤمن الصائم في رمضان وهي:
أولاً: أن الواجب على المؤمن صيام نهار رمضان، مستعينًا على ذلك بوجبة السحور قبيل طلوع الفجر، فإن السحور بركة، ولا يسمي الطعام سحورًا إلا إذا كان وقت السحر، مع الحرص على تعجيل الفطر إذا تحقق الغروب، فإنه لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور [9].
ثانيًا: البعد عن كل ما من شأنه أن يجرح الصيام أو يفسده، من فاحش الأقوال، ومحرم الأعمال، وأنواع المفطرات والوسائل الموصلة إلى ذلك.
ثالثًا: قيام ما تيسر من الليل، ولاسيما صلاة التراويح مع الإمام حتى ينصرف، وكذلك يقوم ما تيسر له من آخر الليل، وليستعن على ذلك بنوم القيلولة أو ما يتيسر من النهار.
رابعًا: الحذر من سهر الليل على غير طاعة، فإنه ينزع بركة الوقت، ويفوت الخير، ويجر إلى الوقوع في الإثم.
خامسًا: عمارة الوقت بجليل الطاعات وعظيم القربات؛ من تلاوة القرآن والاستغفار والذكر والدعاء، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإعانة بالقول والفعل والحال على ذلك، ليكون المرء صاحب سنة حسنة، وإمامًا في الخير، يقتدى بسبقه وحرصه وليكون له أجره ومثل أجر من اقتدى به وانتفع به.
سادسًا: الحرص على تفطير الصوام، وسحورهم ومواساتهم وإعانتهم على كل خير، وتحمل أذاهم، وكف الأذى، وبذل المستطاع عنه، من وجوه الإحسان إليهم، ابتغاء وجه الله تعالى، وطمعًا في واسع مغفرته، وعظيم إحسانه، وجليل إنعامه وإكرامه.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا موجبات الشقاء والحرمان، وكل ما يوصل إلى النار، وتعرضوا لأسباب رحمة الله في هذا الشهر، والتي لا يحصرها بيان، فإن الله يعطي فيه الكثير من الأجر على القليل من العمل، ويتجاوز فيه سبحانه عن عظيم التقصير وكثير الزلل، لمن صدق في التوبة وسارع في الأوبة، وناهيكم بشهر تضاعف فيه الأعمال الصالحة، وتضاعف فيه الأجور، فهنيئاً للصائمين المتقين، بالتجارة الرابحة، وعظيم العفو والصفح والمسامحة. فاعدوا العدة لصيامه، وقيام لياليه، والتنافس في عمل البر وأنواع الخير فيه، وتعرضوا لنفحات الرب الكريم في سائر أوقاته، فرب ساعة وفق لها العبد فاغتنمها في رضوان رب العالمين، فارتفع بها إلى منازل المقربين: ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الجمعة:4].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] قال الهيثمي : أخرجه الطبراني في الكبير ، وفيه محمد بن أبي قيس ، ولم أجد من ترجمه ، مجمع الزوائد (3/142). ولم أجده في المطبوع حيث أنه ناقص.
[2] أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ح (1887) وقال قبله: إن صح الخبر. وفيه علي بن زيد بن جدعان. قال ابن حجر: ضعيف ، التقريب (4768). وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (871).
[3] أخرجه البخاري ح (38) ، ومسلم ح (760).
[4] أخرجه البخاري ح (37) ، ومسلم ح (759).
[5] أخرجه البخاري ح (1802) ، ومسلم ح (760).
[6] صحيح ، أخرجه أحمد (5/159 ، 163) ، وأبو داود ح (1375) ، والترمذي ح (806) وقال : حسن ، والنسائي ح (1364) ، وابن ماجه ح (1327).
[7] أخرجه البخاري ح (1795) ، ومسلم ح (1151).
[8] أخرجه البخاري ح (1804).
[9] أخرج البخاري ح (1856) ، ومسلم ح (1098) عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)).
وأخرج الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: ((أنت يا بلال مؤذن إذا كان الصبح ساطعاً في السماء ، فليس ذلك بالصبح إنما الصبح هكذا معترضاً)) ، ثم دعا بسحوره فتسحر وكان يقول: ((لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطور)). وفي إسناده عبد الله بن لهيعة ضعيف ، وسليمان بن أبي عثمان مجهول ، وبه أعلّه الهيثمي حيث قال في مجمع الزوائد (3/154) : ((وفيه سليمان بن أبي عثمان ، قال أبو حاتم : مجهول)).
فالحديث منكر. وانظر إرواء الغليل للألباني (917).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/265)
أسباب هلاك الأمم
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طاعة الله وتقواه سبب كل خير. 2- المعاصي سبب نقمة الله. 3- كثرة الخبث سبب لهلاك
الأمم. 4- الكفران بنعم الله سبب للنقمة. 5- التطفيف في الكيل والميزان. 6- التنافس في
الدنيا. 7-التعامل في الربا وانتشار الزنا. 8- التقصير في واجب الأمر بالمعروف. 9- مخالفة
أمر النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
فقد جرت سنة الله عز وجل في عباده أن يعاملهم بحسب أعمالهم فإذا اتقى الناس ربهم عز وجل خالقهم ورازقهم، أنزل الله عز وجل عليهم البركات من السماء، وأخرج لهم الخيرات من الأرض، قال تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [الأعراف:9].
وقال تعالى: وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً [الجن:16]، وإذا تمرد العباد على شرع الله، وفسقوا عن أمره أتاهم العذاب والنكال من الكبير المتعال، فمهما كان العباد مطيعين لله عز وجل، معظمين لشرعه، أغدق الله عز وجل عليهم النعم، وأزاح عنهم النقم، فإذا تبدل حال العباد من الطاعة إلى المعصية، ومن الشكر إلى الكفر، حلت بهم النقم، وزالت عنهم النعم.
قال تعالى: وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [النحل:112].
فكل ما يحصل للعباد من إحن ومحن فبما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير كما قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوعن كثير [الشورى:30].
وقال تعالى: وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون [الروم:36].
فالله عز وجل لا يبدل حال العباد من النقمة إلى النعمة، ومن الرخاء إلى الضنك والشقاء، حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى الفسق قال تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الأنفال:53].
فما هي الأسباب التي يتنزل بها عذاب الله، وما هي سنة الله عز وجل في القوم المجرمين، وبتعبير آخر ما هي أسباب هلاك الأمم.
فأول هذه الأسباب الكفر بالملك الوهاب، وتكذيب الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فقد أهلك الله عز وجل الأمم السابقة قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وقرونا بين ذلك كثيرا بسبب كفرهم بالله عز وجل، وتكذبيهم لرسله.
قال تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميراً وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذاباً أليماً وعادا وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً وكلاًّ ضربنا له الأمثال وكلاً تبرنا تتبيراً ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشوراً [الفرقان:35-40].
وقال تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل [ق:12-14].
ومن أسباب هلاك الأمم كثرة الفساد وكثرة الخبث.
قال تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القوم فدمرناها تدميراً [الإسراء:16].
قال الشنقيطي رحمه الله: الصواب الذي يشهد له القرآن، وعليه جمهور العلماء أن الأمر في قوله: أمرنا هو الأمر الذي هو ضد النهي، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره، والمعنى: أمرنا مترفيها بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله واتباعهم فيما جاءوا به: ففسقوا أي خرجوا عن طاعة أمر ربهم وعصوه، وكذبوا رسله: فحق عليها القول أي وجب عليها الوعيد: فدمرناها تدميراً أي أهلكناها إهلاكا مستأصلا، وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم.
ثم قال رحمه الله: فإن قال قائل: إن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم في قوله: أمرنا مترفيها ففسقوا فيها مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع المترفين وغيرهم في قوله: فحق عليها القول فدمرناها تدميراً يعني القرية، ولم يستثن منها غير المترفين.
والجواب من وجهين:
الأول: أن غير المترفين تبع لهم، وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم، لأن غيرهم تبع لهم كما قال تعالى: وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا [الأحزاب:67]. وقال تعالى: وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء [إبراهيم:21]. إلى غير ذلك من الآيات.
الثاني: أن بعضهم إن عصى الله وبغى وطغى، ولم ينههم الآخرون فإن الهلاك يعم الجميع كما قال تعالى: واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [الأنفال:25].
وكما في الصحيح من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها لما سمعت النبي يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت له: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)) ( [1] ).
ومن أسباب هلاك الأمم الكفر بنعم الله عز وجل وعدم القيام بواجب شكرها.
قال تعالى: لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور [سبأ:15-19].
وقال تعالى: وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [النحل:112].
ومن أسباب هلاك الأمم ظهور النقص والتطفيف في الكيل والميزان ومنع حق الله وحق عباده ونقض العهود والمواثيق، والإعراض عن أحكام الله تعالى.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن - وأعوذ بالله أن تدركوهن – : لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم )) ( [2] ).
ومن أسباب هلاك الأمم التنافس في الدنيا والرغبة فيها والمغالبة عليها عن عمرو بن عوف الأنصاري أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله فلما صلى رسول الله انصرف فتعرضوا له تبسم رسول الله حيث رآهم ثم قال: (( أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين ؟ قالوا: أجل يا رسول الله قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)) ( [3] ).
قال النبي : ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) ( [4] ).
وقال : ((إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا )) ( [5] ).
ومن أسباب هلاك الأمم كثرة التعامل بالربا، وانتشار الزنا – والعياذ بالله – فإن هذا مما يخرب البلاد، ويهلك العباد، ويوجب سخط الرب عز وجل.
عن ابن مسعود عن النبي قال: ((ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل )) ( [6] ).
والربا نوعان:
ربا الفضل: وهو الزيادة في الجنس الواحد الربوي.
والأجناس الربوية: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء.
والنوع الثاني: هو ربا النسيئة، وهو الزيادة التي يأخذها صاحب الدين في مقابلة دينه.
قال تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم [البقرة :275-276].
وانتشار الزنا سبب لظهور الأوجاع والطواعين التي لم تكن في السالفين كما قال النبي : ((لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) ( [7] ).
وانتشار الزنا يرفع العفة، ويخلط الأنساب ويجلب الفوضى، نسأل الله عز وجل أن يرفع عن بلاد المسلمين الربا والزنا.
ومن أسباب هلاك الأمم تقصير الدعاة في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن أبي بكر عن النبي أنه قال: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، هم أعز وأكثر ممن لايعملها، ثم لم يغيروه إلا عمّهم الله تعالى منه بعقاب)) ( [8] ).
وعنه قال: ((مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا في سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا مالك ؟ قال تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)) ( [9] ).
قال الإمام الغزالي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه، وأهمل علمه وعمله، لتعطلت النبوة، وأضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن أسباب هلاك الأمم ترك الجهاد والإخلاد إلى الأرض.
قال النبي : ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) ( [10] ).
واتباع أذناب البقر، والرضا بالزرع علامة على الإخلاد إلى الأرض، والإخلاد إلى الأرض وترك الجهاد سبب الذل والهوان.
ومن أسباب هلاك الأمم مخالفة أمر النبي.
قال الله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
وقال النبي : ((بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم )) ( [11] ).
ومن أسباب هلاك الأمم الغلو في الدين، والغلو هو التنطع ومجاوزة الحد، وقد قال النبي : (( هلك المتنطعون )) ( [12] ). وقال : ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين )) ( [13] ).
( [1] ) رواه البخاري (13/13/14) الفتن : باب قول النبي ويل للعرب من شر قد اقترب ، ومسلم (18/3) الفتن وأشراط الساعة : باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأدوج ومأجوج.
( [2] ) رواه ابن ماجة (4018) الفتن : باب العقوبات وأبو نعيم في الحلية (8/333-334) وحسنه الألباني بشواهده وانظ الصحيحة رقم (106) وصحيح ابن ماجة.
( [3] ) روه البخاري (11/247-248) الرقاق : باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها ، ومسلم (18/127-128) الزهد والرقائق.
( [4] ) رواه مسلم (16/134) البر والصلة: باب تحريم الظلم ، وأحمد (3/323).
( [5] ) بواه أبو داود (1682) الزكاة : باب في الشح أو الحاكم (1/11) الإيمان.
( [6] ) رواه أحمد في المسند (1/402) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد(4/118) ورواه أبو يعلى وإسناده جيد ، وقال الألباني في صحيح الجامع (5510) حسن.
( [7] ) تقدم تخريجه ص 40.
( [8] ) رواه أبو داود (4316) الملاحم ، وابن ماجة (4005) ، وأحمد رقم (1/16،29،53،شاكر).
( [9] ) رواه البخاري (5/132) الشركة ، والترمذي (9/19) الفتن.
( [10] ) رواه أبو داود (3445) البيوع ، وقال الألباني : صحيح لمجموع طرقه وانظر الصحيحة رقم (11) ، وقال الرافعي : وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن نقدا أقل من ذلك القدر (عون المعبود7/336-337).
( [11] ) رواه أحمد (2/50،92) وصححه الألباني في الإرواء رقم (1269) وصحيح الجامع رقم (2828).
( [12] ) رواه مسلم (2670) العلم : باب هلك المتنطعون ، وأبو داود (4584) السنة : باب في لزوم السنة وقال النووي: المتنطعون أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
( [13] ) رواه النسائي (5/268) الحج ، والحاكم (1/466) ، وأحمد (1/215) وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (1283).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/266)
حرمة من قال لا إله إلا الله
التوحيد
أهمية التوحيد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
عصمة من شهد الشهادتين , وتأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك – زوال عصمة من
أتى بناقض للشهادتين ودليل ذلك – حال المجتمعات الإسلامية اليوم مقارنة بمانعي الزكاة
على عهد الصديق رضي الله عنه , والواجب تجاه ذلك – حقيقة الإيمان ولوازمه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد...فإن عنوان الإسلام هو لا إله إلا الله محمد رسول الله فمن نطق بكلمة التوحيد هذه صار مسلماً وثبتت له العصمة في دمه وماله، وأما أمر قلبه فموكول إلى علام الغيوب قال سيدنا رسول الله :- ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) [1].
وفي رواية: ((حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) [2].
وقد عظم النبي حرمة أهل لا إله إلا الله وشدد النفير على من أخل بهذه الحرمة وإن كان مجتهداً يقصد الخير ومصلحة المسلمين.
فقد غضب النبي على حبّه وابن ِحبّه أسامة بن زيد رضى الله تعالى عنهما غضب عليه لما بلغه أنه قتل رجلاً من مقاتلي المشركين بعد أن نطق بكلمة التوحيد.
ففي الصحيحين [3] عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما قال:- بعثنا رسول الله في سرية - في غزوة في جهاد - يقول أسامة:- فصبحنا الحرقات من جهينة - قبيلة من القبائل - قال:- فأدركت رجلاً فقال لا إله إلا الله فطعنته ثم وقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي فقال : ((أقال لا إله إلا الله وقتلته))؟ قال أسامة: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح. فقال النبي : ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا)).
قال أسامة رضى الله عنه:- فما زال النبي يكررها علىّ حتى تمنيت أني أسلمتُ يومئذ.
وفي رواية في صحيح [4] مسلم عن جندب بن عبد الله رضى الله عنه أنه وصف ذلك الرجل الذي قتله أسامة فقال:- كان إذا شاء أن يقتل رجلاً من المسلمين تصدى له فقتله، فتبعه رجل من المسلمين قصد غفلته كنا نُحدّث أنه أسامة بن زيد يقول جندب:- كنا نُحدَّث أنه أسامة بن زيد فلما رفع عليه السيف قال الرجل: لا إله إلا الله فقتله أسامة. فجاء البشير بعد ذلك إلى النبي فأخبره بخبر تلك الغزوة حتى أخبره بخبر الرجل وما صنع معه أسامة وما صنع هو من قوله: لا إله إلا الله فدعا سيدنا رسول الله حبه أسامة بن زيد وسأله: ((لم قتلته))؟ فقال أسامة:- يا رسول الله أوجع في المسلمين، أي أثخن فيهم القتل وقتل فلاناً وفلاناً وسمى فيه نفراً من أصحاب رسول الله ، فلما رفعت عليه السيف قال: لا إله إلا الله خوفاً من السلاح - كما جاء في الرواية الأولى - فقال له النبي :- ((أقتلته؟)) قال أسامة بن زيد:- نعم. قال النبي :- ((فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)). فقال أسامة بن زيد:- يا رسول الله استغفر لي. فقال النبي :- ((فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)). قال جندب:- فجعل النبي لا يزيد على أن يقول لحبه أسامة: ((فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة))؟
فدلت الأحاديث على عظم حرمة من قال: لا إله إلا الله ودخل منها في زمرة أهل التوحيد، فإننا ملزمون بالأخذ بظاهره وإثبات العصمة له عصمة الدم والمال وأما أمر القلوب فموكول إلى علام الغيوب فما دام قد أعلن بعنوان الإسلام فقد ثبتت له العصمة في دمه وماله حتى يظهر خلاف ذلك.
لكن من قال: لا إله إلا الله وأظهر ما يضادها ويناقضها من قول أو فعل فإن العصمة والحرمة الثابتتين له تسقطان بذلك، وكذلك من انتهك حقًا من حقوق لا إله إلا الله سقط من حرمته وعصمته بحسب ما انتهك من حقوقها لذلك قال النبي : ((إلا بحقها)) ، فإن قالوا عصموا مني دمائهم وأموالهم، إلا بحقها، ومن حقوق لا إله إلا الله أن لا يأتي صاحبها بما يسقط عصمة ماله أو عصمة دمه، ومما يسقط عصمة الدم واحد من ثلاث كما قال النبي : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق دينه تارك الجماعة)) [5] ، فمن اقترف واحدًا من هذه الثلاث فقد سقطت عصمت دمه بحسب ما اقترف سواءً كفر أم بقي مسلمًا، فأما القاتل والثيب الزاني فتسقط حرمة دمهما ويبقيان مسلمين على أصل الإيمان وأما المفارق لدينه فتسقط حرمة دمه كفرًا وهو مرتد خارج من الملة، وقد قرع النبي على هذا القسم الثالث التارك للجماعة والمراد بالجماعة ما أجمع عليه المسلمون وعرف من الدين بالضرورة فإن انتهك شيئًا مما أجمع عليه المسلمون وعُرف من الدين بالضرورة وخرج على ذلك سقطت حرمة دمه سواءً رجع عن كفره أو بقي مسلمًا لذلك قاتل الصديق أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله قاتل تاركي الزكاة ومانعيها لأنهم تركوا الجماعة وسقطوا في أمر معلوم من الدين بالضرورة وهو الزكاة، وقد أشار الصديق إلى هذا الاعتبار بقوله: (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) [6] "لأن أمر الزكاة كأمر الصلاة معلوم من الدين بالضرورة ،فأيما قوم من المسلمين عطلوا الزكاة وتمالئوا على ذلك يقاتلون كما يقاتلون لو أنهم عطلوا الصلاة وتمالئوا على ذلك".
وأكاد أقول إن الصديق رضي الله عنه لو تُرك اليوم ورأى كثيرًا من مجتمعات المسلمين لقاتلهم كما قاتل مانعي الزكاة وذلك أن المسلمين أن أي طائفة من المسلمين كما أنهم لو عطلوا الزكاة أو عطلوا الصلاة يُقاتلون على ذلك فإنهم لو استباحوا أمرًا من الأمور المعلوم تحريمها من الدين بالضرورة فإنهم يُقاتلون على ذلك.
والصديق رضي الله عنه لو أنه رأى كثيرًا من مجتمعات المسلمين اليوم لقاتلهم كما قاتل مانعي الزكاة لأن كثيرًا من مجتمعات المسلمين اليوم استباحوا الربا وتمالئوا على ذلك على ممارسة الربا وأعلنوا ذلك جهارًا وعيانًا ،وتحريم الربا أمر مجمع عليه ومن الدين بالضرورة وهاهي مؤسساته وبنوكه قائمة في مجتمعات المسلمين.
تمالئوا على الاعتراف بها والرضا بها بل قننوا لها من القوانين ما يحميها وينظم شئونها وهذا الأمر لو اتصف به المسلمون بهذه الصفة فإنهم يُقاتلون عليه كما قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة.
فعلينا أيها المسلمون، علينا معاشر المسلمين اليوم يا أهل الإيمان والتوحيد علينا في عصرنا هذا أن نتنبه إلى خطورة هذه الفتن المحدقة بنا فإن من أشد عواقبها أن يقع المسلم في حبائل الكفر ويُستدرج إلى شقاق الكفر، هذا من أشد عواقب هذه الفتن المحيطة بنا اليوم في عصرنا هذا، فعلى كل مسلم أن يحذر من هذه الفتن المهلكة المضلة أشد الحذر، يحذر منها على نفسه وأهله وأولاده ومجتمعه.
على كل مسلم في هذا العصر أن يحتاط لدينه وإيمانه كما يحتاط لنفسه ودمه وماله فإن أمر الدين أعظم من أمر الدماء والأموال.
وأخبر سيدنا رسول الله عن وقوع هذه الفتن وحذرنا منها، حذر أمته منها ووصفها وصفًا دقيقًا وعرفنا بها، وأخبر أنه ستكون فتن [7] كقطع الليل المظلم كموج البحر، وأن من أشد عواقب هذه الفتن أن يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا أو يمسي الرجل مؤمنًا ويصبح كافرًا نعوذ بالله من ذلك ليس من خلال المؤمن ولا من أحواله وصفاته أن يعرض نفسه للفتن المهلكة المضلة آمنًا من مكر الله تعالى مغترًا بنفسه متكلاً على تلفظه بكلمة التوحيد، فإن الإيمان ليس كلامًا فقط، الكلام بالإيمان مجرد الكلام ومجرد الدعوى لا تنجي صاحبها قال تعالى: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجزيه [النساء:123] أي ليس كلامًا تقولونه ولا كلامًا تقرأونه كما يقولون أهل الكتاب ويقرأون لكنه كلام وعمل، فالتلفظ بكلمة التوحيد وقول كلمة التوحيد وإن كانت تثبت الأحكام أخذًا بالظاهر لكنها لا تثبت النجاة لقائلها عند الله تعالى.
إنما تثبت النجاة ويثبت الإيمان إذا صاحب قول اللسان اعتقاد الجنان والعمل بالأركان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض الدنيا)) [8] صدق رسول الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تُحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب [الأنفال:24-25].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في الإيمان (1/52) (21).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في الزكاة (1/507) (1399).
[3] أخرجه البخاري في المغازي (4/1555) (4021).
[4] أخرجه مسلم في صحيحه في الإيمان باب تحريم قتل الكافر بعد ما قال: لا إله الا الله (1/97- 98)
[5] أخرجه البخاري في صحيحه في الديّات (6/2521) (6878).
[6] أخرجه البخاري في صحيحه في الزكاة باب وجوب الزكاة (2/507) (1400).
[7] أخرجه أحمد (4/408و416) وأبو داود (4259و4262) وابن حبان (5962)وغيرهم.
[8] أخرجه مسلم في صحيحه في الإيمان باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن (1/110) رقم (118).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد (1/306) رقم (408).
(1/267)
مثل المؤمن كمثل خامة الزرع
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, مكارم الأخلاق
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مثل المؤمن وآخر للمنافق. 2- وجه تشبيه المؤمن بخامة الزرع. 3- البلاء نعمة يصبها
الله على المؤمنين. 4- يعرف قدر البلاء يوم القيامة. 5- وجه الشبه بين المنافق وشجرة الأرز. 6- الولاء بين المؤمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
قوله : ((مثل المؤمن كالخامة من الزرع، تفيّؤها الريح مرة، وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة، لا تزال حتى يكون إنجعافها مرة واحدة)) ( [1] ).
قوله : ((كالخامة)) هي الطاقة الطرية اللينة أو الغضة من الزرع.
وقوله: ((تفيؤها الريح مرة وتعدلها مرة)) قال الحافظ: وكأن ذلك باختلاف حال الريح فإن كانت شديدة حركتها فمالت يمينا وشمالا حتى تقارب السقوط، وإن كانت ساكنة أو إلى السكون أقرب أقامتها ( [2] ).
وقوله: ((ومثل المنافق)) ، وفي حديث أبي هريرة: ((الفاجر)) ، وفي رواية عند مسلم ((الكافر)).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : ففي هذه الأحاديث أن النبي ضرب مثل المؤمن في إصابة البلاء بخامة الزرع التي تقلبها الريح يمنة ويسرة، والخامة الرطبة من النبات.
ومثّل المنافق والفاجر بالأرزة، وهي الشجرة العظيمة التي لا تحركها ولا تزعرعها حتى يرسل الله عليها ريحا عاصفا، فتقلعها من الأرض دفعة واحدة، وقد قيل: إنها شجرة الصنوبر، قاله أبو عبيد وغيره.
ففي هذا فضيلة عظيمة للمؤمن بابتلائه في الدنيا في جسده بأنواع البلاء، وتمييز له عن الفاجر والمنافق بأنه لا يصيبه البلاء حتى يموت بحاله، فيلقى الله بذنوبه كلها فيستحق العقوبة عليها ( [3] ).
قال النووي: قال العلماء: معنى الحديث أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفر لسيئاته، ورافع لدرجاته، وأما الكافر فقليلها، وإن وقع به شيء لم يكفر شيئا من سيئاته، بل يأتي بها يوم القيامة كاملة ( [4] ).
وقال الحافظ: قال المهلب: معنى الحديث أن المؤمن حيث جاءه أمر الله انطاع له، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع له مكروه صبر ورجا فيه الخير والأجر، فإذا اندفع عنه اعتدل شاكرا، والكافر لا يتفقده الله باختباره، بل يحصل له التيسير في الدنيا ليتعسر عليه الحال في المعاد، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه، فيكون موته أشد عذابا عليه وأكثر ألما في خروج نفسه.
وقال غيره: المعنى أن المؤمن يتلقى الأعراض الواقعة عليه لضعف حظه من الدنيا، فهو كأوائل الزرع، شديد الميلان لضعف ساقه، والكافر بخلاف ذلك، وهذا في الغالب من حال الاثنين ( [5] ).
وقال الحافظ ابن رجب: ففي هذا فضيلة عظيمة للمؤمن بابتلائه في الدنيا في جسده بأنواع البلاء، وتمييز له عن الفاجر والمنافق بأنه لا يصيبه البلاء حتى يموت بحاله، فيلقى الله بذنوبه كلها فيستحق العقوبة عليها، والنصوص في تكفير ذنوب المؤمن بالبلاء والمصائب كثيرة جدا ( [6] ).
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((ما من مصيبة تصيب المسلم، إلا كفّر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها)) ( [7] ).
وعن ابن مسعود عن النبي قال: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرضٍ فما سواه، إلا حتّ عنه خطاياه، كما يحتّ ورق الشجر)).
وعنه قال: ((ما يزل البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة )) ( [8] ).
وعنه قال: ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها)) ( [9] ).
وإنما يعرف قدر البلاء إذا كشف الغطاء يوم القيامة، عن جابر عن النبي قال: ((يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم قرضت بالمقاريض في الدنيا)) ( [10] ).
فمن الفروق بين أهل الجنة وأهل النار، أن أهل الجنة غالبا يصابون بالبلاء واللألواء، فيكون ذلك كفارة لذنوبهم، ودرجات عند ربهم، وأهل النار لا تكفر ذنوبهم بذلك، والله تعالى إذا أراد أن يقبضهم أصابهم ببلاء شديد يستأصل به شأفتهم، ويزيل عينهم وأثرهم.
عن حارثة بن وهب عن النبي قال: ((ألا أخبركم بأهل الجنة وأهل النار؟ أهل الجنة كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ فقالوا: بلى، قال: كل شديد جعظري، هم الذين لا يألمون رؤوسهم)) ( [11] ).
وعن أبي هريرة عن النبي ٌٌٌ قال: ((تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار: مالي لا يدخلني إلا الجبارون المتكبرون؟)) ( [12] ).
وفي تشبيه المؤمن بخامة الزرع والمنافق بشجرة الأرز فوائد:
الفائدة الأولى: أن الزرع ضعيف مستضعف، والشجر قوي مستكبر متعاظم، فالمؤمن يشتغل بمعالجة قلبه وتقوية إيمانه، فهو في الغالب ضعيف البدن قوي القلب، والمنافق بعكس ذلك، ضعيف القلب قوي البدن قال الله عز وجل: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم [المنافقون:4].
فالمنافقون تعجبك هيأتهم ومنظرهم، ولكن قلوبهم في غاية الضعف والهلع، فهم يحسبون كل صيحة عليهم، أما المؤمنون فوصف الله عز وجل قوة قلوبهم ورباطة جأشهم فقال عز وجل: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً [الأحزاب:22].
وقال عز وجل: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [آل عمران:173].
قال الحافظ ابن رجب: وكذلك المؤمن يستضعف فيعاديه عموم الناس، لأن الإسلام بدأ غريبا ويعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء.
فعموم الخلق يستضعفه، ويستغربه، ويؤذيه لغربته بينهم، وأما الكافر والمنافق أو الفاجر الذي كالصنوبر فإنه لا يطمع فيه، فلا الرياح تزعزع بدنه، ولا يطمع في تناول ثمرته لامتناعها.
الفائدة الثانية: أن المؤمن يميل مع البلاء، ويمشي معه كيفما مشى به، فهو كخامة الزرع التي تلين مع الرياح، أما الفاجر والمنافق فهو يتعاظم على البلاء، ولا ينكسر لرب الأرض والسماء، حتى يرسل الله عز وجل عليه من البلاء والمصائب ما يستأصل شأفتة، ويزيل أثره.
كما قال تعالى: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون [فصلت:15-16].
فالمؤمن ينكسر بالبلاء، ويعرف ضعفه وفقره وحاجته إلى الله عز وجل، فتحسن خاتمته في الدنيا، وعاقبته في الآخرة.
والمنافق والفاجر يستعصي على البلاء، ولا يتواضع لرب الأرض والسماء فتسوء خاتمته في الدنيا، وعاقبته في الآحرة.
إن الرياح إذا اشتدت عواصفها فليس ترمى سوى العالي من الشجر
الفائدة الثالثة: أن الزرع وإن كان ضعيفا فإنه يتقوى بعضه ببعض، فهو يعتضد بما يخرج حوله، وكذلك المؤمنون بعضهم أولياء بعض، فبينهم الموالاة، والمحبة، والنصرة، وقد وصف الله عز وجل النبي وأصحابه بالزرع الذي يتقوى بعضه ببعض فقال تعالى: ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه [الفتح:29].
فقوله: أخرج شطأه أي فراخه: فآزره أي ساواه، وصار مثل الأم وقوي به، فاستغلظ أي غلظ.
وقال عز وجل: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [التوبة:71]، فالمؤمنون بينهم ولاية، وهي مودة ومحبة باطنة، وقلوبهم على قلب رجل واحد.
وقال تعالى: إنما المؤمنون إخوة [الحجرات:10].
والمنافقون قلوبهم مختلفة، وأهواؤهم غير مؤتلفة، فهم بعضهم من بعض في جنس الكفر والنفاق، كما قال تعالى: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض [التوبة:67]. ولكنهم ليس بينهم من المحبة والائتلاف كما بين المؤمنين قال تعالى: تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى [الحشر:14].
قال النبي : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه)) ( [13] ).
وقال : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالحمى والسهر)) ( [14] ).
الفائدة الرابعة: أن الزرع ينتفع به بعد حصاده، فقد يستخلف غيره أو يبقى منه ما يلتقطه المساكين وترعاه البهائم.
وهكذا المؤمن يموت ويخلف ما ينتفع به ،من علم نافع أو صدقة جارية، أو ولد صالح ينتفع به.
وأما الفاجر فإذا اقتلع من الأرض لم يبق فيه نفع، وربما أثر ضررا، فهو كالشجرة المنجعفة لا تصلح إلا لوقود النار.
الفائدة الخامسة: أن الزرع مبارك في حمله، كما ضرب الله مثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء.
وليس كذلك الشجر، لأن كل حبة مما تغرس منه لا تزيد على نبات شجرة واحدة منها.
الفائدة السادسة: أن الحب الذي ينبت من الزرع هو مؤنة الآدميين وغذاء أبدانهم، وسبب حياة أجسادهم، فكذلك الإيمان هو قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وسبب حياتها، ومتى فقدته القلوب ماتت، وموت القلوب لا يرجى معه حياة أبدا، بل هو هلاك الدنيا والآخرة كما قيل:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
فلذلك شبه المؤمن بالزرع، حيث كان الزرع حياة الأجساد، والإيمان حياة الأرواح.
وأما ثمر بعض الأشجار العظام كالصنوبر ونحوه فليس فيه نفع، وربما لا يتضرر بفقده، فلذلك مثل الفاجر والمنافق به، لقلة نفع ثمره، والله أعلم.
( [1] ) رواه البخاري (10/107) المرضى ومسلم (17/222) رقم (2810) صفات المنافقين وأحكامهم.
( [2] ) فتح الباري (10/111).
( [3] ) غاية النفع في شرح حديث : ((تمثيل المؤمن بخامة الزرع)).
( [4] ) شرح النووي على صحيح مسلم هامش (17/223).
( [5] ) فتح الباري (10/111).
( [6] ) غاية النفع (13).
( [7] ) رواه البخاري (10/103) المرضى ، ومسلم (16/129) البر والصلة.
( [8] ) رواه أحمد (1/174)، والترمذي (2522شاكر ) الزهد، وابن ماجة (4023) الفتن، والدارمي ( 2/320)، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (2280) من حديث سعد بن أبي وقاص وفي الباب عن أبي هريرة.
( [9] ) رواه ابن حبان (2908الإحسان ) كتاب الجنائز :باب ما جاء في الصبر وثواب الأمراض ، والحاكم (1/344) الجنائز وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي : يحيى وأحمد ضعيفان، وليس يونس بحجة، والحديث له شواهد وقد حسنه الألباني في الجامع.
( [10] ) رواه الترمذي (2526) شاكر وحسنه الألباني في الصحيحة رقم (2206).
( [11] ) رواه البخاري (8/530) التفسير : باب عتل بعد ذلك زنيم دون قوله (( هم الذين لا يألمون رؤوسهم)) بنحوه، ومسلم (7/272) الجنة وصفة نعيمها وأهلها كرواية البخاري ، ورواه أحمد (2/508) من حديث أبي هريرة بالزيادة المذكورة.
( [12] ) رواه البخاري (8/460) التفسير : سورة ق باب قوله ] وتقول هل من مزيد [ ومسلم (7/264) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها : باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء.
( [13] ) رواه البخاري (10/464) الأدب: باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضا ، ومسلم (16/210) البر والصلة : باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم.
( [14] ) رواه البخاري (10/452)الأدب : باب رحمة الناس والبهائم ، ومسلم (16/210) البر والصلة : باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/268)
في فضل الصدقة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأعمال
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للمبادرة إلى العمل الصالح 2- فضيلة اليد المنفقة في سبيل الله 3- الله يُخلف للمنفق
في ماله 4- الصدقة تدفع السوء في الدنيا والآخرة 5- الحث على الصدقة ولو بالقليل
6- الصدقة على الأرحام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة في السر والعلانية، ترزقوا وتنصروا وتجبروا، فهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ فابتغوا بأموالكم الضعفاء والمساكين والمحتاجين، فارزقوهم ترزقوا، وارحموهم ترحموا، وتاجروا مع ربكم ببرهم والإحسان إليهم؛ فإنها تجارة لن تبور، فقد ذهب أهل الدثور – أي الأموال – من المؤمنين بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم، يصلون ويصومون ويتصدقون بفضول أموالهم، وفي الصحيحين عن النبي قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) [1] ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الجمعة:4]. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى والرضوان والفردوس الأعلى.
أيها المسلمون: صح عن النبي أنه قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) [2]. العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة، وقال : ((الأيدي ثلاثة : فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى، فأعط الفضل ولا تعجز عن نفسك)) [3]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب – ولا يقبل الله إلا طيب – فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه – أي مهره- حتى تكون مثل الجبل)) [4].
وعند الإمام الشافعي بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم يقول: ((والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبًا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب – إلا كأنما يضعها في يد الرحمن فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى إن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها لمثل الجبل العظيم)). ثم قرأ: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ?لصَّدَقَـ?تِ وَأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [5] [التوبة:104].
أيها المؤمنون: أنفقوا من مال الله الذي آتاكم وجعلكم مستخلفين فيه، لينظر كيف تعملون، فأنفقوا من طيبات ما كسبتم فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون، وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ بِ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]. وقال: قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39].
وفي صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما نقص مال من صدقة)) [6]. وفيه أيضًا عن أبي أمامة قال: قال رسول الله : ((يا ابن آدم! إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف)) [7]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم أنفق عليك)) [8].
عباد الله: ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم أن النبي ذكر النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه ثلاث مرات، ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة)) [9]. ففي هذا الحديث أن الصدقة تقي من النار ولو كانت تمرة واحدة أو بعض تمرة، أو كلمة طيبة إذا لم يجد الرجل أكثر منها.
وقد رويت آثار عن النبي في فضل الصدقة منها: إنها ((تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار)) [10] ، ((وتسد سبعين بابًا من السوء)) [11] ، ((وإن البلاء لا يتخطى الصدقة)) [12] ، ((وإنها تزيد في العمر))، ((تمنع ميتة السوء)) [13] ((وإنها لتطفئ عن أهلها حر القبور)) [14].
وصح عنه قوله: ((كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس)) [15]. فكان أبو الخير رواي الحديث لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة، وروي عنه أنه قال: ((إن الصدقة لتطفئ غضب الرب)) [16]. وقال: ((إنها حجاب من النار لمن احتسبها يبتغي وجه الله عز وجل)) [17] وقال: ((تصدقوا فإن الصدقة فكاك من النار)) [18].
فتصدقوا أيها المؤمنون بما تجدون؛ فإن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى نفس من المتصدق، ولو كان جهد مقل؛ قال : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) [19]. وقال لامرأة من الأنصار سألته عن المسكين يقف ببابها لا تجد ما تعطيه: ((إن لم تجدي إلا ظلفًا محرقًا فادفعيه إليه في يده)) [20]. وفي الصحيحين قال : (( يا نساء المسلمين! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) [21]. وفيهما أيضًا قال : ((ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحدًا يأخذها منه)) [22].
فبادروا بالصدقة قبل أن يحال بينكم وبينها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ (1/269)
التذكرة فيما بعد رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موعظة في الإقبال على العمل الصالح 2-علامات قبول العمل 3- أعمال صالحة بعد
رمضان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله ربكم، فإنه عفو غفور جواد شكور، وهو وحده مصرف الشهور، ومقدر المقدور، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وهو عليم بذات الصدور. وقد جعل لكل شيء أسبابًا، ولكل أجل كتابًا، ولكل عمل حسابًا، وما ربك بغافل عما تعملون، وجعل الدنيا سوقًا يغدو إليها الناس ويروحون منها، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، وإنما يظهر الفرقان ويتجلى الربح من الخسران يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ?لْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ?لتَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِ?للَّهِ وَيَعْمَلْ صَـ?لِحاً يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [التغابن:9،10].
أيها المسلمون:تذكروا أن الأيام أجزاء من العمر، ومراحل في الطريق إلى المستقر، تفنونها يومًا بعد آخر، ومرحلة تلو الأخرى، ومضيها في الحقيقة استنفاذ للأعمار، واستكمال للآثار، وقرب من الآجال، وغلق لخزائن الأعمال، إلى حين الوقوف بين يدي الكبير المتعال: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَ?للَّهُ رَءوفُ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران:30].
فاتقوا الله عباد الله في سائر أيامكم، وراقبوه في جميع لحظاتكم، وتقربوا إليه بصالح أعمالكم، والتوبة إليه من معاصيكم وسيئاتكم.
أيها المسلمون: في الأيام القليلة الماضية كنتم في شهر رمضان شهر البركات والخيرات، شهر مضاعفة الأعمال والحسنات، تصومون نهاره، وتقومون ما تيسر من ليله، وتتقربون إلى ربكم سبحانه بفعل الطاعات، وهجر المباح من الشهوات، وترك السيئات الموبقات، ثم مضت تلك الأيام وقطعتم بها مرحلة من مراحل العمر، والعمل بالختام، فمن أحسن فليحمد الله وليواصل الإحسان، ومن أساء فليتب إلى الله وليصلح العمل ما دام في وقت الإمكان.
واعلموا أن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، وإن الله تعالى إذا أراد بعبده الخير فتح له بين يدي موته باب عمل صالح يهديه إليه، وييسره عليه، ويحببه إليه، ثم يتوفاه عليه، وكل امرئ يبعث على ما مات عليه، فالزموا ما هداكم الله له من العمل الصالح، واحذروا الرجوع إلى المنكرات والقبائح، فليس للمؤمن منتهى من العباد دون الموت، قال تعالى: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
فنهج الهدى لا يتحدد بزمان، وعبادة الرب وطاعته ليست مقصورة على رمضان، بل لا ينقطع مؤمن من صالح العمل إلا بحلول الأجل؛ فإن في استدامة الطاعة وامتداد زمانها نعيمًا للصالحين، وقرة أعين المؤمنين، وتحقيقًا لأمل المحسنين، يعمرون بها الزمان ويملأون لحظاته بما تيسر لهم من خصال الإيمان التي يثقل بها الميزان، ويتجمل بها الديوان، وفي الحديث: ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله)) [1]. وفي الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا يتمنَّين أحدكم الموت؛ إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يستعتب)) [2]. وفي رواية لمسلم عنه عن رسول الله قال: ((لا يتمن أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا)) [3].
أيها المسلمون: ألا وإن لقبول العمل علامات، وللكذب في التوبة والإنابة أمارات، فمن علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة عمل السيئة بعدها، فأتبعوا الحسنات بالحسنات تكن علامة على قبولها، وتكميلاً لها، وتوطينًا للنفس عليها، حتى تصبح من سجاياهم وكرم خصالها، وأتبعوا السيئات بالحسنات تكن كفارة لها، ووقاية من خطرها وضررها: إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114]. وفي الحديث الصحيح عن النبي قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) [4]. وفي لفظ: ((وإذا اسأت فأحسن)) [5]. وقال : ((من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)) [6]. أي لتكن كفارة لحلفه بغير الله.
وإن الله تعالى قد شرع لكم بعد رمضان أعمالاً صالحة تكن تتميمًا لأعمالكم، وقربًا لكم عند مليككم، وعلامة على قبول أعمالكم، ففي صحيح مسلم عن أبي أيوب أن رسول الله قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)) [7]. وكان يصوم الاثنين والخميس ويقول: ((تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)) [8]. وفي الصحيحين عن النبي قال: ((صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله)) [9]. وقال : ((أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)) [10].
فاغتنموا هذه الأعمال العظيمة وداوموا عليها ؛ فإن عمل نبيكم كان ديمة، واسألوا الله من فضله فإنه ذو الفضل العظيم، وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وسلك بنا سبيل أولي التقى، وثبتنا على الحق في الحياة الدنيا وفي الآخرة: سُبْحَـ?نَ رَبّكَ رَبّ ?لْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَـ?مٌ عَلَى? ?لْمُرْسَلِينَ وَ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الصافات:180-182].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/188، 190)، والترمذي ح (2329، 2330) وقال: حسن غريب من هذا الوجه.
[2] صحيح البخاري ح (5349)، صحيح مسلم ح (2680) بمعناه.
[3] صحيح مسلم ح (2682).
[4] حسن، أخرجه أحمد (5/153، 157)، والترمذي ح (1987) وقال: حسن صحيح.
[5] أخرجه الإمام أحمد (5/181) عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ستة أيام ثم اعقل يا أبا ذر ما أقول لك بعد)) فلما كان اليوم السابع قال: ((أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألن أحدًا شيئًا وإن سقط سوطك، ولا تقبض أمانة، ولا تقضي بين اثنين)). قال البنا في "بلوغ الأماني" (19/194): والحديث ضعيف لأن في إسناده دراج عن أبي الهيثم" ودراج هو: دراج بن سمعان السهمي قال ابن حجر: صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعْف. التقريب (1833).
[6] أخرجه البخاري ح (4579)، ومسلم ح (1647).
[7] صحيح مسلم ح (1164).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (5/201)، والترمذي ح (747) وقال: حسن غريب، والنسائي ح (2358).
[9] أخرجه البخاري ح (1878) واللفظ له، ومسلم ح (1159).
[10] صحيح، أخرجه الترمذي (2485) وقال: حديث صحيح، وابن ماجه ح (1334).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/270)
قيمة الزمن
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إقسام الله بالزمان لشرفه. 2- الزمن فرصة للتزود بعمل الآخرة. 3- الأعمار مسؤول عنها
يوم القيامة. 4- ندم المفرطين يوم القيامة وتمنيهم العود للدنيا. 5- الوقت نعمة شكرها طاعة
الله وكفرانها معصية الله. 6- صور من حرص السلف على أوقاتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
الوقت والعمر والأيام والليل والنهار والدقائق واللحظات رأس مال العبد، وهو نعمة من أعظم نعم الله عز وجل على العباد.
تمنن الله عز وجل على العباد بنعمه فقال عز وجل: الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [إبراهيم:32-34].
وأقسم الله عز وجل بالزمان فقد أقسم بالعصر، وبالليل والنهار، وبالفجر وبالضحى لبيان أهمية الزمان فقال عز وجل: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [العصر].
وقال تعالى: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى [الليل:1-2].
وقال تعالى: والضحى والليل إذا سجى [الضحى:1-2].
وقال تعالى: والفجر وليال عشر [الفجر:1-2].
وقيمة الزمن تكمن في أن الله عز وجل جعله فرصة للإيمان، والعمل الصالح، وهما سبب السعادة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا [الفرقان:62].
قال بعض السلف: من فاته طاعة الله بالليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن فاته طاعة الله بالنهار كان له من أول الليل مستعتب.
ودلت السنة كذلك على أهمية الزمن وخطره قال النبي : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه)) ( [1] ).
فيسأل العبد يوم القيامة سؤالين عن الزمن، عن عمره فيما أفناه عامة، وعن شبابه فيما أبلاه خاصة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)) ( [2] ).
والمغبون هو الذي باع شيئا بأقل من ثمنه، أو اشترى شيئا بأكثر من ثمنه، فالصحة والوقت نعمتان عظيمتان، أكثر الناس لا يستفيد منهما ويضيعهما ثم يندم عليهما في وقت لا ينفع فيه الندم، والموفق إلى بذلهما في طاعة الله عز وجل قليل، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة ثمينة، تستطيع أن تشتري بها كنزا لا يفنى أبد الآباد، فتضييعه وخسارته، أو اشتراء صاحب به يجلب هلاكه لا يسمح به إلا أقل الناس عقلا، وأكثرهم حمقا.
قال النبي : ((من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة )) ( [3] ).
قال بعض السلف: بلغنا أن نخل الجنة ساقها من ذهب، وسعفها من حلل، وثمارها أبيض من اللبن، وألين من الزبد، وأحلى من العسل والشهد.
وقال : ((اقرأوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف )) ( [4] ).
وقال : ((من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى له قصر في الجنة)) ( [5] ).
فخطر الأوقات والأنفاس أن العبد إذا تاجر فيها مع الله عز وجل ربح على الله عز وجل أعظم الأرباح.
قال الحسن البصري: نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن وذلك لأنه عمل فيها قليلا وأخذ منها زاده إلى الجنة، وبئست الدار الدنيا كانت للكافر والمنافق، وذلك لأنه أضاع فيها لياليه، وأخذ منها زاده إلى النار.
وخطر الأوقات والأنفاس كذلك مع كونها رأس مال العبد وفرصة الأعمال الصالحة، أن عدد الأنفاس التي قدرها الله عز وجل لنا غيب فلا يدري متى تذهب أنفاسه حياته.
يا من بدنياه انشغل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
قال الحسن: المبادرة المبادرة إنما هي الأنفاس، لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل، لو حبست انقطعت عنكم ثم بكى على عدد ذنوبه، ثم قرأ: إنما نعدّ لهم عدا آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك.
فالله عز وجل قدر لنا عددا محددا من الأنفاس فكلما تنفس العبد نفسا سجل عليه، حتى يصل العبد إلى آخر العدد المقدر له، عند ذلك يكون خروج النفس، وفراق الأهل، ودخول القبر، وينتقل العبد من دار العمل ولا حساب إلى دار الحساب ولا عمل، فمن كان يمشي على ظاهر الأرض بالطاعة والمعصية، يصير محبوسا في باطنها مرتهنا بعمله.
وإنما يدرك العبد خطر الوقت والعمر إذا فقد هذه النعمة فعند ذلك يتمنى أن يرجع إلى الدنيا لا من أجل أن يجمع حطامها وشهواتها، بل من أجل أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، وتتجدد له هذه الأمنية وهذا الطلب كلما عاين أمرا من أمور الآخرة.
قال تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [المؤمنون:99].
وقال تعالى: وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون [المنافقون:10-11].
وقال تعالى: ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [السجدة:12].
وقال تعالى: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين [الأنعام:27].
وقال تعالى: وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير [فاطر:37].
وقال تعالى: قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل [غافر:11].
فالعمر والوقت نعمة من الله عز وجل، فمن شكرها بطاعة الله عز وجل وأنفقها في سبيل الله تقول له الملائكة يوم القيامة: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [النحل:32]، وتقول له في الجنة: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية [الحاقة:24].
ومن كفر هذه النعمة وبذلها في معصية الله عز وجل تقول له الزبانية: ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين [غافر:75-76].
فينبغي على العبد أن يعرف خطر الأوقات واللحظات فأهل الجنة لا يتحسرون على شيء، إلا على ساعة مرت عليهم لم يذكروا الله عز وجل فيها.
وقال بعضهم ك هب أن المسيء قد عُفِي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين كم من المسلمين عباد الله من يضيع الساعات في غير الطاعات، بل في معصية رب الأرض والسماوات، كم من أناس يضيعون أعمارهم في الجلوس على المقاهي ومجالس اللغو واللهو يفرحون برؤية الذاهبات والغاديات، كم من أناس يضيعون أوقاتهم أمام لوحة النرد أو الشطرنج وإن سألتهم قالوا : نقتل الوقت، نقول لهم : أنتم تقتلون أنفسكم أو تنتحرون انتحارا بطيئا، لأن الوقت هو عمر الإنسان، ولأنه من أعظم نعم الله عز وجل على العباد، هل الوقت عدوا أو نقمة يتخلصون منه بقتله، إنهم يضيعون فرصة عمرهم، وفرصة العمل بطاعة ربهم، وكل يوم يمضي من أعمارهم لا يعود إليهم أبدا، وإنما يمضي بما فيه من خير أو شر.
كان السلف رضي الله عنهم أحرص الناس على أوقاتهم.
قال رجل لعامر بن عبد قيس: قف أكلمك فقال : أوقف الشمس.
وكان بعضهم إذا جلس الناس عنده فأطالوا الجلوس يقول: أما تريدون أن تقوموا، إن ملك الشمس يجرها لا يفتر.
كانوا يبخلون بأوقاتهم وأنفاسهم أن تنفق في غير طاعة الله عز وجل، وكانوا أحرص على أوقاتهم من حرصكم على دنانيركم ودراهمكم.
مات ابن لأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة فوكل أحد جيرانه في غسله ودفنه لئلا يفوته درس من دروس شيخه أبي حنيفة.
كان ثابت البناني يستوحش لفقد التعبد بعد موته فيقول: يا رب إن أذنت لأحد أن يصلى في قبره فأذن لي.
وكان يزيد الرقاشي يبكي ويقول: يا يزيد من يبكي بعدك لك، من يترضى ربك عنك.
ودخلوا على الجنيد عند الموت وهو يصلي قال: الآن تطوى صحيفتي.
وقيل لأبي بكر النهشلي وهو في الموت: إشرب قليلا من الماء قال: حتى تغرب الشمس.
أين وصفك من هذه الأوصاف، أين شجرة الزيتون من شجر الصفصاف.
لقد قام القوم وقعدت، وجدوا في الجدّ وهزلت، ما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم.
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس السليم إذا مشى كالمقعد
يا ديار الأحباب أين السكان، يا منازل العارفين أين القطان، يا أطلال الوجد أين البنيان، أماكن تعبدهم باكية، ومواطن خلواتهم لفقدهم شاكية، زال التعب وبقي الأجر، ذهب ليل النصب وطلع الفجر، وإنما ينطبق علينا عباد الله قول القائل:
يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد، إلى متى تدفع التقوى عن قلبك وهل ينفع الطرق في حديد بارد.
( [1] ) رواه الترمذي (9/253) عارضة ) صفة القيامة وقال : حسن صحيح ، وحسنه الألباني بشواهده في الصحيحة.
( [2] ) رواه البخاري (11/233)الرقاق : باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة والترمذي ، (2304 شاكر) الزهد : باب الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس.
( [3] ) رواه ابن حبان (2335موارد) ، والترمذي (3531شاكر) الدعوات والحاكم (1/501، 502) وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني.
( [4] ) رواه الخطيب في التاريخ (1/285) ، والديلمي (1/1/13) وقال الألباني : وهذا إسناد جيد رجاله رجال الصحيح غير ابن الجنيد ترجمه الخطيب وقال : وهو شيخ صدوق ، ووثقه غيره وروى الترمذي نحوه – الصحيحة 660.
( [5] ) رواه أحمد (5/437) ، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (589).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/271)
خطبة عيد الفطر - وكان حقا علينا نصر المؤمنين -
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أنواع النصر نصر العز والتمكين ، وذكر بعض صوره. 2- من أنواع النصر قهر
الأعداء ، وذكر بعض صوره. 3- من أنواع النصر انتصار العقيدة والإيمان. 4- وقفة مع
ثبات الغلام المؤمن. 5- وقفة مع ثبات سيد قطب. 6- من أنواع النصر الثبات على الدين.
7- قصة عاصم بن ثابت. 8- من أنواع النصر نصر الحجة والبيان. 9- الملاحم من أشراط
الساعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
قال الله عز وجل: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
فالله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
الله أكبر ما صام المسلمون شهر رمضان.
الله أكبر ما أحيوا ليله بالقيام.
الله أكبر ما أخرجوا زكاة فطرهم طيبة بها نفوسهم.
الله أكبر ما اجتمعوا في عيد الفطر يشكرون الله على ما هداهم للإسلام.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
ويا شهر رمضان غير مودع ودّعناك، وغير مقليّ فارقناك، كان نهارك صدقة وصياماً، وليلك قراءة وقياماً، فعليك منا تحية وسلاماً.
سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان
لئن فنيت أيامك الغر بغتة فما الحزن من قلبي عليك بفان
عباد الله: وعد الله عز وجل المؤمنين بالنصر فقال عز وجل: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
وهذا النصر عباد الله: ليس مقصوراً على نصر التمكين، ولكن النصر له صور مختلفة، فلا بد للمؤمنين من نوع من أنواع هذا النصر.
فمن أنواع النصر الذي وعد الله به المؤمنين: نصر العزة، والتمكين في الأرض، وجعل الدولة للإسلام، والجولة للإسلام، كما نصر الله عز وجل داود وسليمان عليهما السلام.
قال تعالى: وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَـ?هُ ?للَّهُ ?لْمُلْكَ وَ?لْحِكْمَةَ [البقرة:251].
وقال عز وجل: فَفَهَّمْنَـ?هَا سُلَيْمَـ?نَ وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79].
فجمع الله عز وجل لهذين النبيين الكريمين بين النبوة والحكم والملك العظيم، وكما نصر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فما فارق النبي الدنيا حتى أقرّ الله عز وجل عينه بالنصر المبين، والعز والتمكين، بل جعل الله عز وجل النصر ودخول الناس في دين الله أفواجاً علامة قرب أجل النبي فقال تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ ?للَّهِ وَ?لْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ?لنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ?للَّهِ أَفْو?جاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [سورة النصر].
فما فارق النبي الدنيا حتى حكم الإسلام جزيرة العرب، ثم فتح تلامذته من بعده البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، حتى استنار أكثر المعروف من الأرض بدعوة الإسلام، وسالت دماء الصحابة في الأقطار والأمصار، يرفعون راية الإسلام، وينشرون دين النبي عليه الصلاة والسلام، حتى وقف عقبة بن عامر على شاطئ الأطلنطي وقال: والله يا بحر لو أعلم أن وراءك أرض تفتح في سبيل الله لخضتك بفرسي هذا، وما كان يعلم أن وراءه الأمريكتان.
وهذا الخليفة المسلم هارون الرشيد نظر إلى السحابة في السماء وقال لها: أمطري حيث تشائين فسوف يأتيني خراجك.
انتصر الإسلام عباد الله لما وجد الرجال الذين يقومون به ويضحون من أجله، والله عز وجل يقول: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:173]، فإذا كنا جنداً لله عز وجل فلا بد أن ينصرنا الله عز وجل.
ومن أنواع النصر كذلك عباد الله: أن يهلك الله عز وجل الكافرين والمكذبين، وينجي رسله وعباده المؤمنين.
قال عز وجل حاكياً عن نوح عليه السلام: فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَ?نتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْو?بَ ?لسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ?لأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ?لمَاء عَلَى? أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى? ذَاتِ أَلْو?حٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ [القمر:10-14]، وكما نصر الله عز وجل هوداً وصالحاً ولوطاً وشعيباً عليهم الصلاة والسلام، أهلك الله عز وجل الكافرين والمكذبين، وأنجى رسله وعباده المؤمنين.
النوع الثالث عباد الله من النصر: وهو نصر العقيدة والإيمان، وهو أن يثبت المؤمنون على إيمانهم، وأن يضحوا بأبدانهم حماية لأديانهم، وأن يؤثروا أن تخرج أرواحهم ولا يخرج الإيمان من قلوبهم، فهذا نصر للعقيدة ونصر للإيمان، ألم تعلموا عباد الله خبر الغلام في قصة أصحاب الأخدود [1] حين عجز الملك عن قتله فقال له: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به – وانظر إلى عزة الإسلام وهو يقول للملك: ((ما آمرك به)) - قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات.
فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك، قد آمن الناس.
فانظروا عباد الله كيف ضحى بحياته من أجل الدعوة، فعلى الدعاة إلى الله عز وجل أن لا يبخلوا بشيء في سبيل نشر دعوتهم، ولو أنفقوا حياتهم ثمناً لإيمان الناس، فقد مضى الغلام إلى ربه، إلى رحمته وجنته، وآمن الناس بدعوته، عند ذلك أمر الملك بحفر الأخاديد في أفواه السكك وأضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم.
ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق.
وسجل الله عز وجل لنا في كتابه الخالد خاتمة القصة، وعاقبة الفريقين في الآخرة فقال عز وجل: قُتِلَ أَصْحَـ?بُ ?لأُخْدُودِ ?لنَّارِ ذَاتِ ?لْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى? مَا يَفْعَلُونَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَ?للَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ إِنَّ ?لَّذِينَ فَتَنُواْ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ?لْحَرِيقِ إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْكَبِيرُ [البروج:4-11].
قافلة الإيمان تسير يتقدمها الأنبياء الكرام والصديقون والشهداء.
مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
ما جفت الأرض من دماء الشهداء في عصر من العصور.
وهذا كاتب إسلامي بذل حياته كلها من أجل أن يبين أن الحكم من أمور العقيدة، والتحاكم إلى غير شرع الله، والحكم بغير حكمه كفر بالله عز وجل: إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [يوسف:40].
وقال تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [المائدة:44].
وبعد أن حكم عليه بالإعدام، وقبل أن ينفذ فيه الحكم الظالم، كتب هذه الأبيات، وكتب الله عز وجل لها الحياة، وخرجت من خلف القضبان.
أخي أنت حر وراء السدود أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما فماذا يضيرك كيد العبيد
أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد
أخي إن نمت نلق أحبابنا فروضات ربي أعدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود
أخي إن ذرفت علي الدموع وبللت قبري بها في خشوع
فأوقد لهم من رفاتي الشموع وسيروا بها نحو مجد تليد
فرحمة الله على صاحب الظلال
نوع رابع: عباد الله من أنواع انتصار المؤمنين وهو أن يحمي الله عز وجل عباده المؤمنين من كيد الكافرين، كما قال تعالى: وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
وكما قال عز وجل لنبيه : وَ?للَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ?لنَّاسِ [المائدة:67]. وجاء في السيرة المباركة كيف عصمه الله عز وجل من الرجل الذي رفع عليه السيف وقال: من يعصمك مني؟ فقال: ((الله)) فارتجف الرجل وسقط السيف من يده [2] ، وقصة الشاة المسمومة التي أنطقها الله عز وجل وأخبرت النبي بأنها مسمومة [3] ، وقصة إجلاء بني النضير [4] ، ونزول جبريل وميكائيل يوم أحد يدافعان عن شخص النبي [5].
هل سمعتم عباد الله عن يوم الرجيع، هل تعرفون عباد الله عاصم بن ثابت ؟، بعث النبي سرية وأمر عليهم عاصم بن ثابت – وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب - فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا لحى من هذيل يقال لهم: بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهي إلى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد – أي مكان مرتفع – وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق، إن نزلتم إلينا لا نقتل منكم رجلاً.
فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء [6].
وكان عاصم بن ثابت قد عاهد الله أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً، فكان عمر يقول: لما بلغه خبره، يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته.
فكان عاصم مدافعاً أول النهار عن دين الله، ودافع الله عز وجل عن جسده آخر النهار، فلم يمسه مشرك، فإن قال قائل: لماذا لم يمنعهم الله عز وجل من قتله كما منعهم من الوصول إلى جسده بعد مقتله؟ فالجواب: إن الله عز وجل يحب أن يرى صدق الصادقين، يحب أن يرى عباده المؤمنين وهم يبذلون أنفسهم لله عز وجل فينزلهم الله عز وجل منازل الكرامة، ويزيدهم من فضله، فالله عز وجل أراد أن يشرفه بدرجة الشهادة فلم يمنعهم من قتله ثم حمى الله عز وجل جسده من أن يمسه مشرك.
نوع خامس: من النصر الذي ينصر الله عز وجل به عباده المؤمنين وهو نصر الحجة كما قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـ?هَا إِبْر?هِيمَ عَلَى? قَوْمِهِ [الأنعام:83]. وكما قال النبي : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) [7].
فهذا الظهور أدناه أنه ظهور حجة وبيان، وقد يكون معه ظهور السلطان فهذه أنواع من النصر تدخل في وعد الله عز وجل: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، ولكن النصر الذي بشرنا الله عز وجل به، وبشرنا به رسوله هو النصر الأول، وهو نصر التمكين والظهور قال تعالى: هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
وقال النبي : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)) [8].
وقال : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها)) [9]. وأتت الأحاديث الصحيحة بأن المسلمين لهم لقاء حتمي مع الروم وهم النصارى.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق – والأعماق ودابق موضعان بالشام قرب حلب – فيخرج إليهم جيش بالمدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله، لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلوهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً،ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً، فيفتحون قسطنطينية)) [10].
وعن يسير بن جابر قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هجيري إلا: يا عبد الله بن مسعود: جاءت الساعة، قال: فقعد وكان متكئا فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم قال بيده هكذا (ونحاها نحو الشام) فقال: عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام. قلت: الروم تعني؟ قال: نعم، وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة، فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفئ هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يمسوا، فيفئ هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، وتفنى الشرطة، فإذا كان يوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام فيجعل الله الدبرة عليهم، فيقتتلون مقتلة – إما قال: لا يرى مثلها وإما قال: لم ير مثلها – حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخرّ ميتاً، فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلا يجدونه بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح، أو أي ميراث يقاسم [11]. كما أتت الأحاديث الصحيحة كذلك بأن المسلمين سوف يقاتلون اليهود.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود [فيقتلهم المسلمون] حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أوالشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) [12]. وقوله: ((يا مسلم)) يدل على أن المسلمين في هذا الوقت يعملون بدين الله، لا ينتسبون إلى الإسلام ظلماً وزوراً.
فنصر الله عز وجل قادم، ودولة الإسلام قادمة، وجولة الإسلام آتية، رغم أنف المنافقين والعلمانيين والكافرين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين وأعلى راية الحق والدين.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فرد كيده إلى نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
وصلى اللهم وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
[1] صحيح ، وانظر القصة كاملة في صحيح مسلم : كتاب الزهد والرقائق – باب قصة أصحاب الأخدود ، حديث (3005).
[2] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الجهاد والسير – باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة ، حديث (2910) ، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب صلاة الخوف ، حديث (843).
[3] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الجزية – باب إذا غدر المشركون بالمسلمين (3169) ، دون ذكر إخبار الشاة وأخرجه تاماً ، وأبو داود : كتاب الديات ، باب فيمن سقى رجلاً أو أطعمه.. (4510).
[4] صحيح ، انظر قصة إجلاء بني النضير في صحيح البخاري : كتاب المغازي – باب حديث بني النضير ، وصحيح مسلم : كتاب الجهاد والسير – باب حكم الفيء ، وباب إجلاء اليهود من الحجاز.
[5] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الفضائل – باب في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم... حديث (4264).
[6] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب المغازي – باب غزوة الرجيع... حديث (4093).
[7] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الإمارة – باب قول النبي : ((لا تزال طائفة... حديث)) (1920).
[8] صحيح ، أخرجه أحمد (4/103) ، والطبراني في الكبير بنحوه (20/254) ، وصححه ابن حبان (6699) وقال في المجمع (6/14) : رجال أحمد رجال الصحيح ، وصححه الألباني ، السلسلة الصحيحة (3).
[9] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (2889).
[10] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب في فتح القسطنطينية... (2897).
[11] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب إقبال الروم في كثرة القتل... (2899).
[12] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الجهاد والسير – باب قتال اليهود (2926) ، ومسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب ((لا تقوم الساعة حتى يمر...)) (2921).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/272)
الحث على الاستعداد للجهاد في سبيل الله
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المسلمون أمام فتنة محكمة الحبك والسبك 2- قوى الشر تعاونت على الإسلام وأهله
3- دعوة للجهاد ورص الصفوف 4- فضل الجهاد في سبيل الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله فيما تأتون وما تذرون، وراقبوه فإنه بصير بما تعملون، وتوبوا إليه فإنه سبحانه يحب التوابين، وأحسنوا إلى عباده فإنه لا يضيع أجر المحسنين، عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرًا.
أيها الناس: إن المسلمين اليوم في هذا الجزء من العالم أمام فتن عمياء وشدائد مظلمة، ليس لها من دون الله دافع أو مجير، فنسأله بعزته وقدرته وجبروته وقهره أن يصرف شررها، وأن يدفع خطرها، وأن يهلك بها من آثارها، فإنه سبحانه على كل شيء قدير، يقول للشيء كن فيكون، وهو سبحانه لطيف بعباده، يرزق من يشاء وهو القوي العزيز.
أيها المسلمون: إن تلك الفتن قد نسجت حلقاتها، وأحكمت خططها من قبل أعداء الله ورسله، أتباع الشيطان في الإفساد، وإشاعة الفساد، والجد وبذل الوسع في إضلال العباد: إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ ?للَّهُ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ وَيَجْعَلَ ?لْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى? بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأنفال:36،37]. فهي من مكرهم، مكر الله بهم. فإنه سبحانه توعدهم بقوله: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال:30]. وقوله: فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـ?هُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:51].
أيها المسلمون: ولقد أشعل نار تلك الفتن وأطار شررها في الآفاق؛ فئة طاغية وشرذمة باغية، اشتهرت بأشنع المآثم، وارتكاب أفظع الجرائم، زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون؛ فارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى فسوف يعلمون، حيث اشتروا الضلالة بالهدى فبئس ما يشترون، قد ظلموا أنفسهم ومن تحت أيديهم وجيرانهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، رضوا لأنفسهم الهوان، إذ صاروا كلابًا لليهود وجندًا للشيطان: أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَـ?نِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـ?نِ هُمُ الخَـ?سِرُونَ [المجادلة:19].
زينت لهم أهواؤهم البغي والفساد، وقرروا أن ينشره بين العباد، فنقضوا العهود، وغدروا بالوعود، وسعوا في الأرض مفسدين، إذ روَّعوا الآمنين، وشرَّدوا المطمئنين، واستباحوا الحرمات، وانتهكوا المحرمات، ونشروا الجاهليات، وبرروا لأنفسهم بالشبهات والحجج الداحضات، وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِى ?لأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ?لْحَرْثَ وَ?لنَّسْلَ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ?تَّقِ ?للَّهَ أَخَذَتْهُ ?لْعِزَّةُ بِ?لإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [البقرة:205،206].
أيها المسلمون: وإذا كنا في زمن تعاقدت فيه قوى الباطل وتكالبت فيه عناصر الشر، واتفقت على إزهاق الحق، وشن الغارة على أهله بغزو ديار الإسلام، وهدم حصونه الواحد تلو الآخر؛ ليعطلوا عبادة الله، ويصدوا الناس عن سبيل الله، ويقيموا فيها للكفر منارًا، ويرفعوا للباطل فيها شعارًا، لو تم لهم ما يتمنون، فكان من نتائج هذا المكر المبيَّت والكيد المنظم هذا العدوان الغاشم، وما ارتكب فيه من فظيع الجرائم في أناس لنا مجاورين، وإخوان لنا في الدين، كما تبين أننا بعدهم مقصودين مستهدفين.
فواجب علينا الاستعداد للجهاد في سبيل الله لصيانة الإسلام من عبث العابثين، والدفاع عن حرمات المسلمين، وصد كيد أعداء الدين، وقد أذن الله للمظلوم أن ينتصر، وللحق أن يظهر وينتشر ويشتهر، فشرع فريضة الجهاد في سبيله للانتصار من الظالم، ورد عدوان الإثم، وبتر يد المجرم، وحفظ حرمات وحقوق كل مسلم، قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، وقال سبحانه: وَقَاتِلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـ?تِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [التوبة:36].
وقال جل ذكره: وَقَـ?تِلُوهُمْ حَتَّى? لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:39]. قال تعالى: نْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَـ?هِدُواْ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ذ?لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41].
واستنكر سبحانه على المتثاقلين وتوعدهم بالعقوبة في الدارين كما في قوله المبين: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ?نفِرُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ?ثَّاقَلْتُمْ إِلَى ?لأرْضِ أَرَضِيتُم بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا مِنَ ?لآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ?لْحَيَاةِ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (1/273)
غزوة بدر الكبرى
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
غزوة بدر مكانتها وفض أهلها – مقدمات الغزوة وأهدافها – نتائج غزوة بدر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نعيش اليوم مع غزوة بدر وأهل بدر. أتدرون من هم أهل بدر؟ إنهم أولئك القلة المؤمنة التي بسواعدها الثابتة نشب أول صدام رئيسي بين قوى الإيمان وقوى الكفر.
ومن عظم هذه الغزوة وعلو شأنها كان شأن هؤلاء القلة. فها هو أحدهم حاطب بن أبى بلتعة رضي الله عنه وقد تورط بعد ذلك في عمل خطير، لو اقترفه غيره لقتل فورا وهو تسريب بعض المعلومات العسكرية عن تحركات النبي نحو مكة، فأرسل رضي الله عنه كتابا إلى أهل مكة ينبئهم بتحركات الرسول ، ولكن وقع الكتاب قبل أن يصل إلى هدفه في يدي الرسول، فاستدعى حاطبا ليسأله، فقال عمر بن الخطاب: دعني اضرب عنقه يا رسول الله. فقال الرسول: ((إنه من أهل بدر وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) [1] وفي رواية في الصحيح: ((اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة)) [2].
هذه هي غزوة بدر أول معارك الإسلام الكبرى، إن هذه الغزوة توجت بالنصر المبين. فما هي أسباب هذا النصر ومقدمات هذه الغزوة وأهدافها ونتائجها.
فقد وقعت هذه الغزوة في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة النبوية، أي بعد خروج المصطفى صلى الله عليه وسلم من بلده مكة مهاجرا مطاردا من قبل مشركي مكة وقد تبعه أصحابه تاركين أموالهم وبلادهم واستولى عليها المشركون.
ثم بعد ذلك بسنتين يرحل الرسول ومعه ثلة ليست كثيرة العدد من أصحابه، أهل الإيمان، يرحل الرسول ليوجه أول ضربة لأهل الشرك، وقبل ذلك لم يمكث الرسول سنتين كاملتين ساكنا، ولكنه بدأ منذ وصوله إلى المدينة حركته، بدأ في تكوين هذه القوى الإسلامية.
وبدأ مقدمات هذه الغزوة الكبرى بإرسال السرايا من أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين يوجهون ضربات متعددة لقوى الكفر. فقد أرسل ثماني سرايا قاد بعضها بنفسه، وكان آخرها سرية عبد الله بن جحش في رجب في السنة الثانية من الهجرة أي قبل غزوة بدر بشهرين فقط. ثم جاءت بعد ذلك بادرته التي أدت إلى نشوب هذه المعركة الكبرى.
هؤلاء أصحابه المهاجرون وقد لحقهم من مشركي مكة ما لحقهم من أذى واضطهاد نكاية وخسائر مادية، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يشفي صدورهم من عدوهم وأن يقوي معنوياتهم ويثبت قلوبهم باغتنام تلك الفرصة - فقد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن عيرا لقريش محملة بالأموال قادمة يقودها أبو سفيان حرب. فأمر النبي أصحابه بالخروج للاستيلاء على هذه القافلة، وقال لهم: ((هذه عير قريش فيها أموالكم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها)). [3]
وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينفذ هدفا من الدعوة هو تحطيم عنفوان المشركين. إن هذه الدعوة هي حركة دائبة مستمرة. إن أهل هذه الدعوة لا يجلسون في بيوتهم يجولون ويسترجعون مثل الدروايش وهم يشاهدون قوى الكفر الطاغوتية توجه ضرباتها إلى أهل هذا الدين، إن العادة في أهل هذه الدعوة الإيمانية الإسلامية أنهم دائما يأخذون بالحركة لإنهاء الصراع بين قوى الإيمان وقوى الكفر، ولولا حركتهم هذه لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا.
تأمل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن كذبه قومه وأخرجوه من بلده، لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد وجد في المدينة الاستقرار، لو أنه ركن إلى ذلك وأخلد إلى الهدوء والسكون والراحة والصمت، لو أن الرسول ما تحرك خطوة الجهاد، هل كان الإسلام يصل إلى ما وصل إليه اليوم؟ هل كان يصل إلينا لنحظى بنعمة الهداية الكبرى؟
فهناك قريش المشركة في مكة وهي تمثل الرأس الطاغوتي في الجزيرة العربية، وهناك قبائل الأعراب المشركة التي كانت تحيط بالمدينة النبوية وكان الشغل الشاغل لهذه القبائل هي الهجوم على المسلمين بغرض السلب والنهب، وكان هناك داخل المدينة اليهود الحاقدون المتربصون وكان هناك المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، فكان هناك المنافقون ومعهم اليهود وقد أظهروا الكراهية للرسول وأظهروا عزمهم على مناوئة الدعوة. وبعد غزوة بدر انقلب كل أولئك مغلوبين وأظهروا إسلامهم خوفا.
أما قبائل الأعراب المشركة المحيطين بالمدينة، فقد وقع في قلوبهم الرعب والهيبة بعد غزوة بدر، فقد علموا أن هذا الدين الذي أظهر هذه القوة المفاجئة في غزوة بدر، لن يستطيعوا مقاومته ، فتفرقوا بعيدا عن المدينة النبوية.
هذه النتائج العسكرية السياسية أو بعبارة أصح هذه النتائج الجهادية الحركية النبوية التي تحققت في غزوة بدر هي أهم نتائج هذه الغزوة. وتأمل وصف القرآن الكريم وما جعله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين [آل عمران:126].
[1] أخرجه البخاري :ك:التفسير رقم (4608).
[2] أخرجه البخاري :ك:المغازي رقم (3762).
[3] أخرجه ابن اسحاق في السيره في غزوة بدر والطبري في تفسير (13/298).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/274)
الفتن في الأموال والأزواج والأولاد والأسماع
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خلق الله الموت والحياة ليبلونا أيّنا أفضل عملاً 2- فتنة المال 3- أناس يأخذون المال من
غير حِلّه 4- فتنة الأولاد تسبب الخصومة والبخل والجبن 5 - فتنة النساء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظموا أمره ولا تعصوه، وعاملوه معاملة من يخافه ويرجوه، واحذروا أسباب سخطه وغضبه؛ فإنها توجب حلول العقوبات والمثلات، وزوال النعم ومحق البركات، كما أصاب من قبلكم من الأمم الخاليات، ومن حولكم من ظهرت فيه المعاصي وكثر فيه الخبث من المجتمعات، واعلموا أنكم بالخير والشر تختبرون، وبالمحاب والشهوات تفتنون، ليتبين المحسن من المسيء، والمصلح من المفسد، والشاكر من الكافر: تَبَارَكَ ?لَّذِى بِيَدِهِ ?لْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْغَفُورُ [الملك:1،2].
فما عملتم من خير وشر فإنكم ملاقوه، وسيجازيكم الله به يوم تلاقوه، وذلك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، ولا يرحمه إلا خالقه وباريه، فلا تغرنكم الدنيا بما فيها من اللذات، فإن شهواتها تبعات، وراحاتها حسرات، فالله الله فيما يخلصكم وينجيكم بعد الممات كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
أيها المسلمون: إننا اليوم في معترك فتن عظيمة، كقطع الليل المظلم، يرقق بعضها بعضًا، وينسي بعضها بعضًا، فالمال فتنة هلك به كثير من الناس في هذه العصور، والأولاد فتنة وكم استعصى أمرهم على معظم أولياء الأمور، ومخالطة الأشرار من المنافقين والكفار فتنة وكم امتلأت منهم الديار وعظمت بسببهم الأخطار، والنساء فتنة وكم جلبن من المصائب على العالمين، وكم يكيد بهن الأعداء لإفساد مجتمع المسلمين، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله الهدى والسداد والصلاح في الحال والمآل.
أيها المسلمون: فأما المال فإنه فتنة لهذه الأمة، وكم هلكت به قبلها من أمة، يقول : ((لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)) [1] ، وقال : ((أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) [2].
فالمال فتنة من جهة جلبه وتنميته، وفتنة في المكاثرة فيه والمباهاة به، وفتنة من جهة إنفاقه وأداء الحقوق الواجبة منه، فقد قل من الناس الحذر من أسباب كسبه المحرمة، والمتورع عن صور جلبه المشتبهة، بل أكثر الناس أصبح المال أكبر همه، وملء قلبه وشغل فكره وسمع أذنه وبصر عينه، يخاطر في تحصيله أيما مخاطرة، ويسعى في تنميته مكاثرة ومفاخرة، ولا يبالي بعواقب ذلك في الدنيا والآخرة، يكسبه من وجوه محرمة، وحيل ملتوية آثمة، وطرائق خبيثة باطلة، فهو النهم الذي لا يشبع، والمفتون الذي لا يقلع، وصدق النبي إذ يقول : ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما اكتسب المال من حرام أم من حلال)) [3].
ولهذا تجد هذا الصنف يأخذ المال بالربا، ويستحلون الرشا ويأخذونه ثمنًا لبضائع محرمة، قيمًا للمصورات وأنواع المخدرات، وأفلام المجون والغناء، وبخس المقاس والكيل والعد والوزن علنًا، وناهيك بما فيه من إعانة على المنكر، وفتح أبواب الفساد والشر، وفي الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) [4].
فالحلال عند هذا الصنف ما حل في يده بأي سبب، والحرام ما عجز عن تحصيله مع الجد في الطلب، ولكن إن ربك لبالمرصاد، فهذا ماله وبالٌ عليه، وشؤمٌ يعود عليه، فإن أكل منه لم يؤجر عليه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن أمسكه لم يبارك له فيه، وإن دعا وهو في جوفه لم يستجب له، وإن تركه لورثته كان زاده إلى النار، لغيره غنمه، وعليه إثم تحصيله وغرمه، وكم تسلط عليه في حياته من أسباب الهلاك والإتلاف، حتى ينفق رياء وبين التبذير والإسراف.
أما الذي يكسب ماله من طرق الحلال، ويتقي في طلبه ذا الكرم والجلال، ويفقه فيما يعود عليه بالنفع في الحال والمآل، يتوصل به إلى فعل الخيرات، ونفع ذوي القربات، وإعانة أهل الحاجات؛ فذاك يبارك له في ماله، ويكون من أسباب صلاح قلبه وأعماله وأحواله، إن أنفق منه أُجر عليه، وإن تمتع به بورك له فيه، وإن تصدق به قبل منه وضوعف له، وإن دعا ربه استجاب له، وإن ترك لوارثه كان خيرًا له، فنعم المال الصالح للرجل الصالح: ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الجمعة:4]. فقد ذهب أهل الأموال الصالحون بالدرجات العلى والنعيم المقيم.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأجملوا في الطلب، واكسبوا المال من وجوه حله، وأنفقوه في محله، واعلموا أن رزق الله لا يجلبه حرص حريص، ولا يدفعه كراهية كاره، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وإن الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله.
أيها المسلمون: أما فتنة الأولاد فإنها والله أخطر من فتنة الأموال على كثير من العباد؛ فإنهم مبخلة مجبنة، وصدق الله العظيم إذ يقول: إِنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]. وذلك فن بهم بعض الناس في هذا الزمان، حتى خشي عليه من التفريط في الإيمان، يوفرهم حتى عن المشي إلى الصلاة، ويسليهم حتى بالمحرم من الشهوات والأصوات، ويغضب لهم حتى يعادي الناصح، ويقرهم على ما هم عليه من القبائح، ويرضيهم حتى بتوفير أسباب هلاكهم، ويحميهم حتى عما يصلح قلوبهم وأعمالهم، وكم من أخوين صالحين متهاجرين بسبب الأولاد، وكم من جارين متعاديين بسببهم؛ كل واحد منهما للآخر بالمرصاد، وحبك الشيء يعمي ويصم، ولكن الويل الويل من هول يوم المعاد.
فاتقوا الله معاشر المسلمين في أولادكم، ولا تلهوا بهم عن هول يوم معادكم، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]، وقال سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. ووقايتهم من النار إنما تكون بأمرهم بالصلاة، وتربيتهم على أنواع الطاعات، وتأديبهم إذا لم يجد فيهم النصح والإرشاد على ما قد يرتكبونه من المخالفات، والأخذ على أيديهم، وأطرهم على الحق أطرًا؛ لصيانتهم من اقتحام المحرمات.
أيها المسلمون: ومن الفتنة المخيفة في هذا الزمان ما عليه بعض النساء من أنواع الطغيان من التبرج والسفور، وما يرتكبنه من عظائم الأمور، من مخالطة الرجال، والخلوة بغير المحارم في كثير من الأحوال، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تخفى، وشؤم عواقبها في كل لحظة يخشى، وقد حذركم من فتنة النساء إذ يقول: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) [5]. ويقول: ((فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) [6]. وكم بين المسلمين اليوم من النساء اللآتي تنطبق عليهن أوصاف أحد أصناف النار، كما جاء وصفهن عن النبي المصطفى المختار، بقوله: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) [7].
فصونوا نساءكم من أسباب الردى، وقوموهن على البر والتقوى، واحذروا أن يغلبنكم على أموركم فـ ((لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)) [8] ، و((إنما هلكت الرجال حين أطاعت النساء)) [9] في الحديث: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن)) [10]. ومن عرف أنهن فتنة حذر أن يهلكنه، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ به غيره، فاتقوهن واحذروهن وأطعموهن واكسوهن وعاشروهن بالمعروف، وأحسنوا إليهن واستوصوا بهن خيرًا؛ فإن: ((خياركم خياركم لنسائهم)) [11] ، ولكن لا تسلموا لهن القياد، ولا تجعلوهن هدفًا لأنظار ومطامع مرضى القلوب الساعين في الإفساد؛ فأنتم لهن راعون، وعليهن قوامون، وعنهن مسئولون؛ فإنهن عوان عندكم، فحققوا القوامة، وأحسنوا الولاية: ?لرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ?لنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ?للَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/140)، والترمذي (2336) وقال: صحيح غريب، والحاكم (4/318) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
[2] أخرجه البخاري ح (6425)، ومسلم ح (2961).
[3] أخرجه البخاري ح (2059).
[4] أخرجه البخاري ح (3118).
[5] أخرجه البخاري ح (5096)، ومسلم ح (2740).
[6] أخرجه مسلم ح (2742).
[7] أخرجه مسلم ح (2128).
[8] أخرجه البخاري ح (4425).
[9] أخرجه أحمد (5/45)، وفي إسناده: بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، قال عنه الذهبي: قال ابن معين: ليس بشيء... قال ابن عدي: هو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم. وذكره العقيلي في الضعفاء. اهـ. ويكفي عنه الحديث الذي قبله في الصحيح.
[10] أخرجه البخاري ح (1462)، ومسلم ح (79).
[11] صحيح، أخرجه أحمد (2/250، 472)، والترمذي ح (1162).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/275)
خطبة عيد الأضحى
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحج والعمرة, المسلمون في العالم
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أدلة فرض الحج. 2- التوحيد دعوة الأنبياء والمرسلين. 3- لا عز للمسلمين ولا سعادة إلا
بالرجوع إلا الكتاب والسنة. 4- صورة من عز المسلمين وأخرى في ذلتهم. 5- قصة عبد الله
بن حذافة السهمي.
_________
الخطبة الأولى
_________
قد أظلكم عباد الله يوم هو من أشرف أيام الدنيا، إنه يوم النحر، ويوم العج والثج، ويوم الأضحية، ويوم الحج الأكبر.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
إخوانكم بالأراضي المقدسة يرحلون الآن من المشعر الحرام إلى منى، لرمى جمرة العقبة الكبرى، ملبين بهذا النداء الحبيب إلى قلوبنا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
تلبية لنداء إبراهيم عليه السلام.
وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27].
واستجابة لأمر الله عز وجل: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97].
ولقول الله عز وجل: وَأَتِمُّواْ ?لْحَجَّ وَ?لْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
ولقول النبي : ((أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)) [1].
لله در ركائب سارت بهم تطوى القفار الشاسعات على الدجى
رحلوا إلى البيت الحرام وقد شجا قلب المتيم منهم ما قد شجا
نزلوا بباب لا يخيب نزيله وقلوبهم بين المخافة والرجا
اعلموا عباد الله أن أصل الأصول هو التوحيد قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25].
وقال تعالى: وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ?لرَّحْمَـ?نِ ءالِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:27].
فما أمرت الرسل بشيء قبل توحيد الله عز وجل ، ولا نهت عن شيء قبل الشرك بالله عز وجل ، فكان كل رسول يقول لقومه: ((اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)) ، وأول أمر في كتاب الله عز وجل أمر بالتوحيد.
يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] فأول واجب على المكلف هو التوحيد.
قال تعالى: فَ?صْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [محمد:19].
ولما أرسل النبي معاذا إلى اليمن قال: ((إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا هم عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)) [2] فطهروا عباد الله قلوبكم وجوارحكم من الشرك بالله عز وجل ، فالشرك هو القبيحة التي لا يغفرها الله عز وجل قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48].
وقال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
وقال: وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:116].
فالشرك نجاسة لا تزيلها الحسنات الماحية والمصائب المكفرة، قال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28].
لا تزول هذه النجاسة عباد الله إلا بالتوبة من الشرك، وتطييب القلب والجوارح بالتوحيد.
قال تعالى: وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ [فصلت:6، 7].
قال ابن عباس: الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله.
وأرسل الله عز وجل موسى إلى فرعون ليقول له: هَل لَّكَ إِلَى? أَن تَزَكَّى? [النازعات:18]. أي تتزكى بالتوحيد، ونبذ الشرك.
واعلموا عباد الله أنه لا سعادة لكم، ولا عزة ولا رفعة، ولا شرف، إلا في العمل بدين الله عز وجل ، والخضوع لشرعه.
قال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَـ?باً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ فشرفكم وعرتكم في العمل بآيات الله، والخضوع لشرعه، فشرع الله عز وجل هو الروح، فلا حياة بدونه، وهو النور فلا هداية في غير سبيله.
قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ?لْكِتَـ?بُ وَلاَ ?لإِيمَـ?نُ وَلَـ?كِن جَعَلْنَـ?هُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
وقال تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام:122].
ومهما اكتمل إيمان العبد بالله عز وجل، وتمّ انقياده لشرع الله عز وجل، تكتمل سعادته، ومهما نقص إيمانه نقصت سعادته.
قال بعضهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف.
وقال بعضهم: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة كما نحن فيه إنهم لفي عيش طيب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة.
كثير من الناس عباد الله يظنون أنهم لا يمكن أن يسعدوا حتى ينسلخوا من شرع الله عز وجل، وهذا الظن ظن فاسد، فالله عز وجل ما شرع لنا الشرع المتين ليستفيد شيئا من طاعات العباد.
قال تعالى: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37].
وقال تعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) [3].
فالله عز وجل لا يستفيد شيئا من طاعات العباد، ولا يتضرر بشيء من معاصيهم، بل العباد أنفسهم ينتفعون بطاعاتهم، وهم أنفسهم يتضررون بمعاصيهم، فالعبد إذا أطاع الله عز وجل وجد حلاوة الطاعة والعبادة، وانشرح صدره.
كما قال تعالى: فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء [الأنعام:125]، فحاجة العباد إلى الإسلام أكثر من حاجتهم إلى الهواء الذي به حياتهم، وانشراح الصدر بالإسلام أكثر من انشراحه بالهواء، والذي لم ينشرح صدره بالإسلام كأنه يختنق فالذي يصعد في السماء يختنق لقلة الهواء في طبقات الجو العليا وكذا من حرم من نعمة الهداية للإسلام.
فلا يمكن أن يسعد العبد حتى يطيع أمر الله عز وجل، ومهما تمرد العبد على شرع الله فالتعاسة والشقاء، وفي أنفسنا شاهد على ذلك فكلنا جرّب الطاعة والمعصية، فكم أطعنا الله عز وجل فوجدنا حلاوة في قلوبنا، وانشراحا في صدورنا ، وأنسا بالله عز وجل وجمعية على الله عز وجل، وكم عصينا الله عز وجل فوجدنا الضنك والشقاء والهم والغم والحزن، إذا نظر العبد نظرة محرمة وجد غبّها فكيف بمن يقارف الزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، قال تعالى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:123، 124]، لا يضل في الدنيا ولا في الآخرة ولا يشقى في الدنيا ولا في الآخرة.
فلا سعادة للعباد ولا عز ولا رفعة في الدنيا والآخرة إلا في تعظيم شرع الله عز وجل واتباع أمره.
انظروا عباد الله إلى أمة الإسلام عندما كانت مطيعة لربها، محكومة بشرع نبيها ، كيف عاشت حميدة سعيدة مجيدة في الدنيا مع ما ينتظرها من شرف الآخرة وسعادتها، وكيف كان الصحابة رضي الله عنهم هم ملوك الدنيا كما أنهم ملوك الآخرة، وقد قال الله عز وجل: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، كان خالد بن الوليد يقول للروم: أيها الروم انزلوا إلينا ، فوالله لو كنتم معلقين بالسحاب لرفعنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا.
وانظروا عباد الله إلى أمة الإسلام اليوم كيف خذلوا دين الله فخذلهم الله، واستهانوا بدين الله فأهانهم الله، ولو أن حكام المسلمين عظّموا دين الله وتحاكموا إلى شرعه، لصاروا حكام الدنيا وسادات العالم، الإسلام اليوم عباد الله يحارب بأيدي من ينتسب إليه، وحكام المسلمين صاروا اليوم أيدي وأرجل الغرب الكافر في محاربة دين الله عز وجل والتضييق على الدعاة، وصار حال المسلمين.
كما أخبر النبي : ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) قالوا: من قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال: ((بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)) قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) [4].
الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يعرفون الوهن، كانوا يعرفون العزة والكرامة، كانوا يعرفون طريق الجنة والشهادة في سبيل الله عز وجل فسألوا: وما الوهن؟ من أجل أن نستفيد نحن، هل تعرفون عباد الله عبد الله بن حذافة السهمي؟
وجه عمر بن الخطاب جيشا إلى الروم، وفيهم رجل يقال له عبد الله بن حذافة من أصحاب النبي ، فأسره الروم، فذهبوا به إلى ملكهم فقالوا له: إن هذا من أصحاب محمد فقال له الطاغية: هل لك أن تنصر وأشركك في ملكي وسلطاني؟
فقال له عبد الله: لو أعطيتني ما تملك، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت، قال: إذا أقتلك قال: أنت وذاك، فأمر به فصلب وقال للرماة: ارموه قريبا من يديه، قريبا من رجليه، وهو يعرض عليه وهو يأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم دعا بقدر فصبّ فيه ماء حتى احترقت، ثم دعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، ثم أمر به أن يلقى فيها، فلما ذهب به بكى، فقيل له: إنه قد بكى فظن أنه جزع، فقال: ردوه فعرض عليه النصرانية فأبى.
فقال: ما أبكاك إذا ؟ قال: أبكاني أني قلت في نفسي تلقى في هذه القدر فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نفس تلقى في الله، قال له الطاغية: هل لك أن تقبّل رأسي وأخلي عنك؟ قال له عبد الله: وعن جميع أسرى المسلمين، قال: وعن جميع أسرى المسلمين، قال عبد الله: فقلت في نفسي: عدو من أعداء الله أقبل رأسه يخلي عني وعن أسارى المسلمين، لا أبالي، فدنا منه فقبل رأسه، فدفع له الأسارى: فقدم بهم على عمر فأخبره بخبره فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه.
إنهم تلامذة رسول الله الذين رباهم على البذل والتضحية والفداء حتى صاروا قمما شامخة في سماء المجد والرفعة، فتحوا البلاد وقلوب العباد بالإسلام، ولا يمكن أن تعود الأمة إلى سالف عزها ومجدها إلا بالبذل والتضحية، وقد قال إمام دار الهجرة رحمه الله: لا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أمر أولِها. وصلح أمر أولها بالعقيدة الصحيحة، والفهم الصحيح للكتاب والسنة، وصلح أمر أولها بقيام الليل وصيام النهار، وصلح أمر أولها بالدعوة إلى الله عز وجل ، وصلح أمر أولها بالبذل والجهاد والتضحية.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، ورد كيده إلى نحره، واجعل تدبيره تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه.
اللهم أعزنا بالإسلام قائمين، وأعزنا بالإسلام قاعدين ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين.
اللهم تقبل من إخواننا حجاج البيت الحرام، وشفعهم فينا وارزقنا في عامنا المقبل حجا مبرورا.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الحج – باب فرض الحج، حديث (1337).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الزكاة – باب أخذ الصدقة من الأغنياء... (1496).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظلم (2577).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (5/278)، وأبو داود: كتاب الملاحم – باب في تداعي الأمم... حديث (4297)، وأبو داود والطيالسي في مسنده (992). وذكره الحافظ في الفتح (13/107) وصححه الألباني في الصحيحة (958).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/276)
دروس غزوة بدر الكبرى
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
عاقبة الصدق النصر – سر الجمع بين غزوتي بدر وأحد في سورة واحدة – أثر المعصية
في غزوة أحد في هزيمة المسلمين – أسباب الانتصار في غزوة بدر
_________
الخطبة الأولى
_________
فهذا هو الدرس الثاني من دروس غزوة بدر الكبرى، إنه إذا صدق المؤمنون فإن العاقبة هي النصر المبين، إذا كانت المقدمات صحيحة. هذه هي سنة الله تعالى في كونه. فإذا كانت حركة المؤمنين الجهادية صحيحة فإن النتيجة هي النصر المبين، هذا هو وعد الله الذي لا يخلف الميعاد. فإذا لم يتحقق النصر، فإن سبب ذلك أنه حدث خلل في حركة المؤمنين.
ومن أجل ذلك جمع الله تعالى بين غزوتين في درس قرآني واحد – هما غزوة بدر وغزوة أحد.
ففي غزوة بدر كان النصر حليف المؤمنين بالرغم من أن موازين القوة المادية كانت للمشركين وفي ذلك قال القرآن في كلمة قصيرة: وأنتم أذلة.
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة [سورة آل عمران:123]. أي لا تملكون من القوى المادية شيئا، كان عدد المسلمين في غزوة بدر ثلاثة مائة وخمسة عشر رجلا ومعهم سبعون بعير فقط يتناوبون عليها في الركوب ولم يكن معهم من السلاح إلا الشيء القليل يناسب عددا قليلا لا يتجاوز سبعين رجلا. فإذا بهذه الفئة القليلة في مواجهة أكبر قوى طاغوتية في ذلك الوقت. وكانت قوة قريش يوم بدر ألف مقاتل إلا قليلا خرجوا بكامل عددهم وعدتهم وعلى رأسهم أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام والحارث بن عمرو والنضر بن الحارث وغيرهم من سادات قريش المشركة وزعمائها حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع بذلك قال لأصحابه: ((هذه مكة ألقت إليكم بأفلاذ كبدها)) ، [1] وبالرغم من اختلاف ميزان القوة المادية إلا أن الله نصر المؤمنين يوم بدر، فقد أنزل ملائكته وكان ذلك مددا من الله سبحانه وتعالى لتعويض ذلك النقص في صفوف أوليائه.
أما في غزوة أحد، فإنه وإن كانت القوة المادية لدى المسلمين فيها أحسن وأفضل وبدأت بوادر النصر في أول المعركة إلا أن معركة أحد انتهت بانتكاس عسكري مؤلم للمسلمين. فلماذا كان الانتصار يوم بدر والانتكاس يوم أحد والأولياء هم الأولياء لم يتغيروا وعلى رأسهم خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فلننظر ماذا يقول الدرس القرآني في ذلك: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين [آل عمران:152]. نعم لقد عفا الله عنهم إنهم أولياؤه يحبهم ويحبونه ، فقد كانوا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أصح هذه الأمة إيمانا وأقواهم عقيدة ولكنه كان درسا ربانيا موجعا للرعيل الأول حتى يكونوا في حركاتهم المقبلة فيما بعد أكثر وعيا وحرصا على ألا يشوب حركتهم الجهادية أي خلل كذلك الخلل الذي أصاب صفوفهم يوم أحد من مخالفة الرماة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ومبارحتهم أماكنهم انسياقا وراء الغنائم رغم أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصريح لهم.
أما في غزوة بدر فقد كانت حركة المؤمنين سليمة صحيحة، فلما اختبر الرسول صلى الله عليه وسلم عزائم أصحابه قبل خوض المعركة، وجدها على أحسن حال من الصبر والتقوى، 315 رجلا فقط خرجوا للاستيلاء على القافلة التجارية، لم يأتِ على خلد واحد منهم أنهم سيصادمون قوى كفرية تعادل قوتهم ثلاثة مرات. فلما استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشيروا علي أيها الناس)) ، أجابه المهاجرون أولا فأحسنوا الجواب وكان منهم المقداد بن الأسود رضي الله عنه فقال: يا رسول الله والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك العماد لسرنا معك نجاهد من دونه حتى تبلغه.
فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم وقال مرة أخرى: ((أشيروا علي أيها الناس)) ، [2] فقال سيد من أسياد الأنصار هو سعد بن معاذ: والله كأنك تريدنا يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أجل)) ، فقال سعد رضي الله عنه: لقد آمنا بك وصدقنا وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا على السمع والطاعة لك، فامض على ما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد. والله إنا لا نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا صدق عند اللقاء لعلك ترى منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (( سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين والله إني لأنظر إلى مصارع القوم )) ، الله أكبر، فلقد نجحت هذه الثلة القليلة بقوة الإيمان والعقيدة.
تأمل كلام هذا السيد الأنصاري، تجد في كلامه وعيا صحيحا وفهما سليما لهذا الدين وكلهم على وعي سعد، فكيف لا ينصرهم الله عز وجل؟ فإذا لم ينصرهم لا يعبد الله على الأرض كما أشار إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه قبيل المعركة: ((اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض)) [3] ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم الله بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين [ آل عمران:123].
[1] إبن إسحاق في السيره غزوة بدر.
[2] أخرجه مسلم بنحوه :ك:الجهاد والسير (1779).
[3] أخرجه مسلم :ك:الجهاد والسير (1763).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/277)
الناس مسافرون
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلم والإرادة زاد المسلم في سيره إلى الآخرة. 2- النوم صورة متكررة للموت.
3- اختلاف الناس في رحلتهم إلى الآخرة بين متزود بالطاعات وغارق بالمعاصي.
4- الناجون في هذه الرحلة على أصناف ثلاثة: السابق – والمقتصد – والظالم.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
السائر إلى الله عز وجل والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد لا يتم سيره، ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين:
قوة علمية، وقوة عملية
فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، وموضع السلوك، ومواضع العطب فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشي في ليلة عظيمة مظلمة، فيكشف بهذا النور أعلام الطريق ومعاطبها، وبالقوة العملية يسير حقيقة.
فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها ويكون ضعيفا في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المخاوف ولا يتوقاها فهو فقيه ما لم يحضر عمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم.
ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية التي تقتضي السلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل، وهو أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأقوال.
فمن تمت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله، وإذا كان السير ضعيفا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفا، والقواطع الخارجية والداخلية كثيرة شديدة، فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، والله ولي التوفيق والعبد من حين استقرت قدماه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه عز وجل، ومدة سفره عمره الذي قدره الله عز وجل له، ومراحل السفر الأيام والليالي، ومن رحمة الله عز وجل بالعباد ذكرنا الله عز وجل بالموت والبعث والنشور كل يوم وليلة.
فكل مرحلة من مراحل العمر تنتهي بانتهاء يوم فالعبد تقبض روحه كل يوم ثم ترد إليه مرة ثانية كما قال تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى [الزمر:42]. وكان النبي إذا أراد النوم وضع كفه تحت خده الأيمن ثم قال: باسمك اللهم ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ( [1] ).
فنحن نتذكر الموت والبعث كل يوم، لعل العبد يحدث في كل مرحلة توبة نصوحا، فيتذكر ما جنت يداه في يومه، ويحدث لذلك توبة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن مد الله في أجله، ورزق مهلة جديدة ينوي أن يتزود فيها من طاعة الله عز وجل، فكل يوم يعيشه المؤمن فهو غنيمة، فإن المؤمن لا يزداد من الدنيا إلا خيرا، ثم هو ينوي كذلك الإقلاع عن الذنوب في الدنيا والتوبة إلى علام الغيوب وغفار الذنوب فالعاقل يجتهد في قطع كل مرحلة من مراحل العمر سالما من المعاصي والذنوب، رابحا غانما من طاعة علام الغيوب، فهو يزداد في كل مرحلة علما وخيرا، ويدقق على نفسه، ويضيق عليها الحساب، فيداوي ما في نفسه من العيوب وأدران الذنوب.
ثم الناس في قطع هذه المراحل قسمان: قسم قطعوها مسافرين إلى دار الشقاء، وقسم قطعوها مسافرين إلى الله وإلى داره دار السلام، فأما القسم الأول فهم الذين يقطعون مراحل السفر بمساخط الرب عز وجل، فهم يقتربون من دارهم كل يوم، ويقطعون في كل مرحلة مسافة، وإذا تكاسلوا عن المعاصي أرسل الله عز وجل إليهم الشياطين تدفعهم إليها دفعها، وتزعجهم إليها إزعاجا.
كما قال تعالى: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [مريم:83]، أي تزعجهم إلى المعاصي يتبعون المعصية المعصية، فلا يحدثون توبة إلى الله عز وجل، بل يستمرون على الذنوب والمعاصي حتى الموت، نعوذ بالله من حالهم.
القسم الثاني: هم الذين قطعوا مراحل السفر مسافرين إلى الله عز وجل والدار الآخرة، وهم ثلاثة أقسام:
فمنهم ظالم لنفسه.
ومنهم مقتصد.
ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.
فالظالم لنفسه: مقتصر في الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل، ومع ذلك فهو متزود بما يتأذى به في طريقه، فهو إذا استقبل مرحلة من مراحل عمره استقبلها وقد سبقت حظوظه وشهواته إلى قلبه ثم يتذكر حق الله عز وجل عليه، فيؤدي شيئا من حق الله عز وجل، ثم يعود إلى حظوظه وشهواته مع حفظ التوحيد.
وأما المقتصد: فقد اقتصر من الزاد على ما يبلغه المنزل، فما زاد ولا نقص، ولم يتزود ما يضره، فهو سالم غانم ولكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع المكاسب الفاخرة.
فالمقتصد يؤدي وظائف مراحل عمره، فهو يستقبل يومه بالطهارة الكاملة وصلاة الصبح ثم ينصرف إلى مباحاته، فإذا جاء وقت الفريضة الأخرى أداها، فإذا دخل شهر رمضان صامه كما أمره الله عز وجل، وكذلك الزكاة الواجبة، والحج الواجب، وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط لا يظلمهم ولا يترك حقه لهم.
وأما السابق بالخيرات: فهو كرجل علم أن أمامه بلد الدرهم يكسب فيها عشرة إلى سبعمائة أو أكثر، وعنده حاصل، وله خبرة بطريق ذلك البلد، وخبرة بالتجارة، فهو لو أمكنه بيع ثيابه وكل ما يملك حتى يهئ به تجارة إلى ذلك البلد لفعل، فهكذا حال السابق بالخيرات بإذن الله، يرى خسرانا بينا أن يمر عليه وقت في غير متجر، وأما أحوال السابقين بالخيرات فقد قال ابن القيم رحمه الله: وأما السابقون المقربون فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو من وصف حالهم وعدم الاتصاف به، بل ما شممنا له رائحة، ولكن محبة القوم تحمل على ما تعرف به منزلتهم، والعلم بها، وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم، ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة:
منها: أن لا يزال المتخلف المسكين مزريا على نفسه، ذاما لها.
ومنها: أن لا يزال منكسر القلب بين يدي ربه تعالى، ذليلا له حقيرا، يشهد منازل السابقين وهو في زمرة المنقطعين، ويشهد بضائع التجار وهو في رفقة المحرومين، ومنها أنه عساه أن تنهض همته إلى التشبث والتعلق بساقة القوم ولو من بعيد.
ومنها: أنه لعله أن يصدق في الرغبة واللجأ إلى من بيده الخير كله أن يلحقه بالقوم، ويهيئه لأعمالهم، فيصادف ساعة إجابة، لا يسأل الله فيه شيئا إلا أعطاه، ومنها: أن هذا العلم من أشرف علوم العباد، وليس بعد علم التوحيد أشرف منه، وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة ولا يناسب النفوس الدنيئة المهينة، فإذا رأى نفسه تناسب هذا العلم وتشتاق إليه وتحبه وتأنس بأقله، فليبشر بالخير فقد أهل له، ومنها: أن العلم بكل حال خير من الجهل، ومنها: أنه إذا كان العلم بهذا الشأن همه ومطلوبه فلا بد أن ينال منه بحسب استعداده ولو لحظة، ولو بارقة، ولو أنه يحدث نفسه بالنهضة إليه.
ومنها: أنه لما يجري منه على لسانه ما ينتفع به غيره بقصد أو بغير قصد، والله لا يضيع مثقال ذرة، فعسى أن يرحم بذلك العلم، وإياك أن تظن أنه بمجرد علم هذا الشأن قد صرت من أهله، هيهات ما أظهر الفرق بين العلم بوجوه الغنى وهو فقير، وبين الغنى بالفعل، وبين العلم بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم، وبين الصحيح بالفعل، فاسمع الآن وصف القوم وأحضر ذهنك لشأنهم العجيب، وخطرهم الجليل، فإن وجدت من نفسك حركة وهمة إلى التشبه بهم فاحمد الله، وادخل، فالطريق واضح، والباب مفتوح:
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه تكن مثل ما أعجبك
فليس على الوجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
فنبأ القوم عجيب، وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم، فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القدر المشترك، وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، قد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به عن سواه، قد شغلوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره.
ثم فصل حالهم رحمه الله إلى أن قال تواضعا وهضما لنفسه: فوا أسفاه وواحسرتاه ، كيف ينقضي الزمان وينفد العمر، والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها، وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزا، وموته كمدا، ومعاده حسرة وأسفا، اللهم فلك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك ( [2] ).
قل النبي : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) ( [3] ).
والمعنى أن من حسن إسلامه ترك مالا يعنيه من قول أو فعل واقتصر على ما يعنيه ما الأقوال والأفعال أي ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام، ولهذا جعله من حسن الإسلام.
والعبد إذا بلغ درجة الإحسان فإنه يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فيعلم أن الله يراه.
عن الحسن قال: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه.
وقال سهل بن عبد الله التستري: من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق.
وقال معروف: كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل.
ومن حسن إسلامه ضاعف الله عز وجل له الحسنات، وكفر عنه السيئات، ويكون مقدار المضاعفة بحسب حسن الإسلام.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل)) ( [4] ).
فالمضاعفة عشرة أضعاف لابد منها وكما قال تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [الأنعام:160]، والزيادة على ذلك بحسب حسن الإسلام.
ومن حسن إسلامه كذلك كفرت عنه سيئاته، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلنا يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: ((أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام)) ( [5] ).
وفي صحيح مسلم عن حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله: أرأيت أمورا كنت أصنعها في الجاهلية من صدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم، أفيها أجر؟ قال رسول الله : ((أسلمت على ما أسلفت من خير)) ( [6] ).
فالأعمال التي يعملها العبد في زمان كفره ومنعه من الانتفاع بها في الآخرة كفره، إذا أسلم عاد إليه ثواب عمله الصالح، وانتفع به، فالذي ينبغي على العبد أن يكون مشغولا دائما بما يعود عليه بالخير، وبما ينتفع به في الآخرة، وكما يقولون: إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر أين أقامك، فإذا كنت مشغولا بالدنيا، وتحصيل شهواتها وزينتها فالدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وإن كنت مشغولا بالدعوة إلى الله عز وجل فاعلم أنك في أشرف الوظائف، فإن هذه وظيفة الأنبياء والمرسلين، الذين اختصهم الله عز وجل بهذا الفضل المبين، قال تعالى: قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني [يوسف:108].
وقال سفيان: أشرف الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده: وهم الأنبياء والعلماء، فنسأل الله عز وجل أن ينفعنا ويرفعنا بالعلم النافع والعمل الصالح.
( [1] ) رواه البخاري (11/130) الدعوات : باب التعوذ والقراءة في المنام ومسلم (7/57،58) الذكر والدعاء : باب ما يقول عند النوم.
( [2] ) طريق الهجرتين (205-211) ط. السلفية باختصار.
( [3] ) رواه الترمذي (9/196 عارضه) وقال هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي إلا من هذا الوجه ، ورواه ابن ماجة (رقم 3976) وحسنه النووي وابن عبد البر وقال ابن رجب : الصحيح فيه المرسل وصححه الألباني.
( [4] ) رواه البخاري (1/122) الإيمان : باب حسن إسلام المرء ، ومسلم (129) الإيمان : باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب.
( [5] ) رواه البخاري (12/277) استتابة المرتدين : إثم من أشرك ، ومسلم (120) الإيمان : باب وهل يؤاخذ بأعمال الجاهلية.
( [6] ) رواه البخاري (3/354) الزكاة : باب من تصدق في الشرك ثم أسلم ، ومسلم (123) الإيمان : باب حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/278)
الحث على الخلق الحسن
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التلازم بين التقوى وحسن الخلق في النصوص الشرعية 2- نصوص تدعو للمبادرة
والمسابقة في فضائل الأخلاق 3- معنى وحقيقة حسن الخلق 4- أخلاق النبي صلى الله عليه
وسلم 5- نماذج من الأخلاق الفاضلة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله الذي لابد لكم من تقواه، فإن من اتقى الله وقاه، وهي التي لا يقبل الله غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، وإنها خير الزاد في الدنيا والآخرة، وهي خَلفٌ من كل شيء وليس منها خلف، وقد تكفل الله لأهلها بالنجاة مما يحذرون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وشرح الصدور بتيسير الأمور، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وإنها من أكرم ما أسررتم، وأزين ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم، فاجعلوه إلى كل خير سبيلا، ومن كل شر مهرباً، جعلني الله وإياكم من المتقين المحسنين، فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل.
أيها المسلمون: كثيرا ما يرد في الكتاب والسنة الجمع بين تقوى الله وحسن الخلق، وذلك - والله اعلم – للتنبيه على أنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فتقوى الله شجرة وحسن الخلق ثمرة، وهي أساس وهو بناء، وهي سر وهو علانية، وحيث انتفى حسن الخلق انتفت التقوى، وضعفه دليل على ضعفها؛ فهو برهانها والدليل عليها، والشاهد الصادق لها، يذكر الله تعالى المتقين في مواضع من كتابه فيصفهم بأحسن الأخلاق، ويبرئ ساحتهم من النفاق وسيء الأخلاق، ويذكر سبحانه أهل البر والإحسان، فيصفهم بالتقوى وعظيم الخشية من الملك الأعلى، ويبين ما لهم عنده من الخير في الآخرة والأولى.
وكان كثيراً ما يجمع بينهما في وصاياه، وذلك من سنته الثابتة وهداه، أوصى معاذاً رضي الله عنه فقال: ((اعبد الله ولا تشرك به شيئا)) قال: يا رسول الله! زدني، قال: ((استقم ولتحسن خلقك)). وقال لأبي ذر: ((أوصيك بتقوى الله في سرك وعلانيتك، وإذا أسأت فأحسن))، الحديث. وسئل : ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)). وقال لأبي ذر : ((اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
ذلك يا عباد الله لأن الخلق الحسن من خصال التقوى ولا تتم إلا به، فإذا رزق الله العبد التقوى وحسن الخلق فقد منحه القيام بحقوقه وحقوق عباده، وبذلك يفوز العبد بمحبته ومعيته ونصره، والأمن من عذابه، والفلاح برضاه وكريم ثوابه، فإنه سبحانه يحب المحسنين: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [سورة النحل:128]. وقال في ثواب المتقين المحسنين: أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين [سورة آل عمران:136].
أيها المسلمون: ولقد جاء عن النبي من الحث على الخلق الحسن والوصية به – ما يدفع كل ذي دين قويم وعقل سليم إلى التخلق به والمنافسة فيه؛ طمعا في فوائده، وانتظاراً لكريم عوائده، في الدنيا والآخرة: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون [س ورة المطففين:26]. وفي ميدانه فليستبق المتسابقون: أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [سورة المؤمنين:61].
وفي الصحيحين عن النبي قال: ((إن من خياركم أحسنكم خلقا)). وفي صحيح مسلم عنه قال: ((البر حسن الخلق)). وفي الترمذي قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن؛ وإن الله يبغض الفاحش البذيء)). وفي رواية: ((وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة)). وقال : ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لأهله)). وفي رواية: ((لنسائهم)). وروي عنه قال: ((أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقا)). وروي عنه أنه قال: ((إن هذه الأخلاق من الله تعالى؛ فمن أراد الله به خيراً منحه خلقا حسنا)). وروي عنه : ((إن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد)).
أيها المسلمون: ويكفي المسلم في الرغبة في الخلق الحسن، وجهاد نفسه على التخلق به، والبعد عن ضده – أن الله تعالى أثنى على نبيه بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم [سورة القلم:4] مع قوله سبحانه: لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً [سورة الأحزاب:21]. فأكمل المؤمنين إيماناً بالنبي ، وأعظمهم اتباعا، له وأسعدهم بالاجتماع – معه: المتخلقون بأخلاقه المتمسكون بسنته وهديه، قال : ((أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)). وقال : ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)).
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتخلقوا بالأخلاق الحسنة لعلكم تفلحون: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [سورة البقرة:281].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً [سورة النساء:69-70].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد ورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله عن النبي أنه قال: ((إن الله سبحانه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه)). فأخبر أن الناس متفاوتون في الأخلاق كما أنهم متفاوتون في الأرزاق، وتضمن ذلك حث كل مؤمن أن يجتهد في التخلق بالخلق الحسن، كما يجتهد في طلب الرزق بالمباح من المهن، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأفضل من خلق حسن يدله على الصلاح والتقى، ويردعه عن السفاه والفساد والردى. والمتحلون بمحاسن الأخلاق هم أفضل الناس على الإطلاق.
أيها المسلمون: حسن الخلق يُمنٌ، وسوء الخلق شؤم، والخلق الحسن ينحصر في فعل المرء ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه. وقال بعض السلف: هو فعل الفرائض والفضائل، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل. وبعض الناس حينما يسمع بحسن الخلق يظنه مقصورا أو مقصودا ببشاشة الوجه وطيب الكلام، وهذا نوع ولا شك من مكارم الأخلاق بالإتفاق، ولكنه لا يحصرها على الإطلاق، بل حسن الخلق أعم وأشمل من هذا كله، وهو ما وصف الله به عبده ورسوله ومصطفاه، ونبيه وخليله ومجتباه، محمدا بقوله : وإنك لعلى خلق عظيم [سورة القلم:4].
ولقد بينت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خلقه العظيم، وفسرته حينما سئلت عن خلق النبي قالت: ((كان خلقه القرآن)). أي يتأدب بآدابه، ويأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ثم قرأت: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [سورة الأعراف:199]. فأمره ربه بأن يعطي من حرمه وأن يصل من قطعه، وأن يعفو عمن ظلمه. ومن حسن خلقه أنه يصل الرحم، ويحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الدهر، ويغيث ذا الحاجة الملهوف.
أيها المسلمون: من حسن الخلق بر الوالدين وصلة الأرحام، والتودد إليهم بوسائل الإكرام، والإحترام، حتى يودع في قلوبهم محبته، والثناء عليه والدعاء له، ورضى الله من رضى الوالدين، والوالد أوسط ابواب الجنة، سئل النبي عن أكرم الناس فقال: (( أتقاهم للرب، وأوصلهم للرحم، وآمرُهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر)). فبر الوالدين وصلة الأرحام مع أنها من محاسن الأخلاق فإنها سعة في الأرزاق، وبركة في الأعمار، ومحبة في الأهل، وسبب لدخول الجنة والنجاة من النار، فالواصل موصول بكل خير، والقاطع مقطوع من كل بر، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها.
ومن حسن الخلق الإحسان إلى الجيران، وإيصال النفع إليهم، والعطف عليهم، والإحسان إليهم، ومعاشرتهم بطيب الوفاق وكرم الأخلاق، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره.
ومن حسن الخلق إفشاء السلام على الخاص والعام، وطيب الكلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام، فقد بشر النبي من كان كذلك بدخول الجنة بسلام.
ومن حسن الخلق أن تسلم على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، وهذه سنة مشهورة، وقد أصبحت عند الكثير من الناس اليوم مهجورة، مع أنها بركة على الداخل المسلم وأهل بيته كما بين ذلك النبي.
ومن حسن الخلق معاشرة الزوجة بالإكرام والإحترام،وبشاشة الوجه وطيب الكلام، قال : ((خيركم خيركم لأهله؛ وأنا خيركم لأهلي)).
ومن حسن الخلق معاشرة الناس بالحفاوة والوفاء، وترك التنكر لهم والجفاء، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والنصيحة لهم، فذلك من أهم أخلاق الإيمان والديانة.
ومن حسن الخلق استعمال النظافة في الجسم والثبات، وفي المنزل، فإن الله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، وإن الله إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى أثرها عليه.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [سورة النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/279)
حلول النقم بكفران النعم
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
سنن الله الكونية والقواعد الإلهية ثابتة ولا تتغير – كثرة الفتن والحروب وظهور الهرج
وارتباط ذلك بالساعة – قبض العلم والمراد به – واقع العالم وجهله بأمر الله وتمرده عليه -
من سنن الله أن الأمة التي تتخلى عن منهجها ورسالتها يبتليها الله عز وجل ويستدرجها بالنعم
وخطورة ما نحن عليه من المعاصي والانحرافات والواجب علينا
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ونحن مازلنا في بداية عام هجري جديد نسأل الله تعالى أن يجعله عام يمن وبركة على المسلمين وعام خذلان ودمار على أعداء الدين، علينا أن نتوقف وقفة ونلقي نظرة على العام المنصرم من أجل العظة والاعتبار والاستفادة من الدروس نتزود من تجاربه لما بقي من أعمارنا، فالعاقل من وعظته الأيام وعلمته الدهور والأعوام واستفاد من أمسه ليومه ومن يومه لغده.
اعلموا أن لله تعالى سننًا في خلقه، لله تعالى في خلقه سنن كونية وقواعد إلهية لا تتبدل ولا تتحول، علينا أن نفهم تلك السنن ونعرف تلك القواعد كي نفقه سر ما يجري في حياتنا من حوادث وما يقع في حياتنا من وقائع.
ومن أهم ما يلفت النظر من وقائع وحوادث ما انصرم من الأيام كثرة الفتن والحروب وظهور الهرج الذي أنذر به النبي أمته. كما جاء في الحديث الصحيح [1] أن سيدنا رسول الله قال: ((إن بين يدي الساعة أيامًا يُرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل ويكثر فيها الهرج)).
وفي رواية [2] : ((يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قالوا: ما الهرج يا رسول الله؟ قال: الهرج القتل)).
وفي رواية: ((إن من أشراط الساعة أن يقبض العلم ويظهر الجهل ويفشو الزنا ويُشرب الخمر ويذهب الرجال ويبقى النساء)) [3].
والعلم المراد به في هذه الأحاديث هو العلم الشرعي الذي هو معرفة الله عز وجل ومعرفة ما أنزل على رسوله.
والجهل هو الجهل بذلك، فإذا ذهبنا نبحث في هذه الأوصاف التي بينها سيدنا محمد نجدها تكاد تنطبق على زماننا، خاصة إذا ألقينا نظرة أوسع على العالم من حولنا، فإنك إذا خرجت بنظرك من نطاق الحرمين الشريفين وما حولهما فإنك تجد العالم يعيش في واقع مرير مضطرب أبرز سماته الجهل بأمر الله والتمرد على منهج الله والبعد عن دين الله وفشو الفساد الخلقي وكثرة الفتن والقتل والحروب الطاحنة، هذه أبرز سمات الواقع المرير الذي يعيشه العالم من حولنا ونحن جزء من هذا العالم، فلا يتصور العاقل أنه سيبقى بمنأى ومنجى مما يدور حوله فلا تصل إليه النيران ولا تطرق أبوابه الفتن إلا إذا اتخذ من الأسباب ما يقيه شر تلك الفتن.
لقد اصطفى الله تبارك وتعالى واجتبى هذه الأمة أمة لا إله إلا الله التي سماها في كتابه: المسلمين، وحملها الرسالة فحملتها وأورثها هذا الكتاب القرآن الكريم فتلقته والتزمت ما فيه، ومن سنة الله وقواعده الإلهية التي لا تتحول ولا تتبدل أن عباده الذين تحملوا الرسالة والتزموا بمنهج الله إذا تخلوا عن رسالتهم وانحرفوا عن منهج ربهم واستسلموا لشهواتهم وأعرضوا عن الآيات المنزلة فإن الله سبحانه وتعالى ينبههم بالآيات الكونية ينبههم بالهزات المروعة، والحوادث المفجعة وبأيام الشدة والبأساء والضراء لعلهم يرجعون، ويخوفهم أحيانًا بالكسوف والخسوف لعلهم يخافون فإذا ما تمادوا مع هذا في غيهم وغفلتهم وإعراضهم فإن الله سبحانه وتعالى يغضب عليهم ويعاقبهم حينئذ والعياذ بالله.
وأول ما يكون العقاب أن يبدأ العقاب بالاستدراج، هذا من سنة الله تعالى.
أول ما يكون العقاب بالاستدراج فتفتح عليهم أبواب الرخاء وتنهمر عليهم الدنيا بزينتها وزخرفها وبهارجها وتتكاثر عليهم الأرزاق وتزيد في أيديهم الأموال حتى إذا ابتهجوا بهذا النعيم وهذا الرخاء أخذوا بغتة والعياذ بالله.
قال الله تعالى: ولقد أرسلنا في أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [الأنعام:44].
عن عقبة بن عامر الجهني أن النبي قال: ((إذا رأيت الله تعالى ذِكْرُه يعطي عباده ما يسألون على معاصيهم فإنه استدراج منه لهم)) ثم تلا قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكِّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء [الأنعام:44].
هذا يجب أن يخوفنا من أنفسنا علينا وقد أحاطت الفتن بنا من كل جانب، علينا ونحن نرى الفتن أحاطت بنا من كل جانب والأعداء قد تكالبوا علينا كما تتكالب الأكلة على قصعتها علينا أن نخاف من أنفسنا أكثر ما نخاف من عدونا وأن نحذر من بأس معاصينا وعاقبة معاصينا وانحرافنا عن أمر الله تعالى، أشد من حذرنا من بأس عدونا فإننا نحن أمة الإسلام والإيمان دائمًا نُؤتى من قبل أنفسنا، ونؤتى من قبل معاصينا ومن قبل انحرافنا عن أمر الله ومنهج الله ودين الله، فهذه الفتن الخارجية التي تهجم علينا بين الحين والحين لا تضرنا أبدًا إذا سلمنا من فتن القلوب وفتن النفوس، وإذا سلمنا من فساد الإيمان وخراب العقائد، إذا بقي الإيمان سليمًا في القلوب وبقيت العقيدة صحيحة في النفوس فوالله لو اجتمعت الإنس والجن على حربنا ما يضرنا بأسهم شيئًا أبدًا.
اسمعوا إلى المولى جل وعلا يصف أهل الإيمان السليم والعقيدة الصحيحة، بماذا وصفهم؟ قال تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم [آل عمران:173-174].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في الفتن باب ظهور الفتن (6/2590) رقم (7063-7065).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في الفتن باب ظهور الفتن (6/2590) رقم (706) من حديث أبي هريرة.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه في العلم باب رفع العلم وقبضه ، وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (4/2056) رقم (2671).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا أما بعد..
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة من شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد (1/306) رقم (408).
(1/280)
في الإصلاح بين الناس
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب وقوع الخلاف بين الناس 2- الخلاف بين المسلمين يحلق الدين بما يصدر عن
المتخاصمين من هتك للحرمات 3- حرمة المسلم في دمه وماله وعرضه 4- هجر المسلم
5- فضيلة الإصلاح بين المسلمين 6- جواز الكذب للإصلاح
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا ربكم واصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، إنما المؤمنون إخوة فاصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون، والصلح خير، وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا، قوموا بما أمركم به ربكم من الإصلاح ينجز لكم ما وعدكم من الفلاح؛ من الخير العميم، والأجر العظيم، قال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس من يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً [سورة النساء:114].
أيها الناس: إن الاختلاف بين الناس، والخصومة فيما بينهم، أمر واقع وله أسباب كثيرة، منها الشيطان الذي يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى المضل عن سبيل الله، والشح المهلك، والنميمة المفسدة، وإشتباه الأمور، وغير ذلك من الأسباب متفرقة أو مجتمعة، التي تنتج الخلاف وتورث الفتنة، حتى تفرق بين المحب وحبيبه، والقريب وقريبه، والصاحب وصاحبه، والنظير ونظيره؛ حتى تهجر الولد أباه، والزوج زوجه، والأخ أخاه، والجار جاره، والشريك شريكه، والجماعة من مجتمعهم، وذلك أنه إذا دب الخلاف واشتدت الخصومة، فسدت النيات، وتغيرت القلوب، وتدابرت الأجساد، وأظلمت الوجوه؛ فوقعت الحالقة التي لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، حيث يسوء ظن المسلم بأخيه، وهو كما في الصحيح: ((الظن أكذب الحديث)) ، وتتفوه الأفواه بفاحش القول وألوان البهت، وقد تمتد الجوارح إلى الضرب أو القتل، وغير ذلك من القبائح، وفي الصحيح عنه قال: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه)). وحتى يحتقر المرء اخاه، وفي الصحيح عنه قال: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر اخاه المسلم)). ويقطع ما أمر الله به أن يوصل من حق الرحم وكل مسلم؛ فيقع المرء تحت طائلة قوله تعالى: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار [سورة الرعد:25]. وحتى يتهاجر المسلمان، وقد قال : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، ويعرض هذا فيعرض هذا فيعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)). واخبر أن من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه. وحتى يقع الحسد والتحريش بين المسلمين، وفي الحديث عنه قال: ((إياكم والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) أو قال: ((العشب)). وقال : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)). وذلك لما ينتج عنه من المفاسد قال : ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشترك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا)).
معاشر المسلمون: فإذا كان الاختلاف بين المسلمين وما ينتج من الهجر والقطيعة بينهم تنتج هذه المفاسد العظيمة، والعواقب الوخيمة من الاثم وسوء الظن، والكذب والبهت، واستحلال الحرمات، وتأجيل المغفرة او حرمانها، فمن ذا الذي يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر وهو يعلم ان بين اثنين من إخوانه – وخاصة الاقارب والارحام – شحناء وقطيعة، ثم لا يبذل وسعه وغاية جهده في الاصلاح بينهما؛ رحمة بهما وشفقة عليهما، وطمعا في فضل الله ورحمته، اللذين وعدهما الله من اصلح بين الناس.
أيها المسلمون: إن الصلح بين المسلمين من الصدقات التي ينبغي أن يتقرب بها المؤمن كل يوم إلى ربه؛ شكراً له على أن عافاه في بدنه، كما في المتفق عليه أن النبي قال: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة)) أي تصلح بينهما، وروى الإمام أحمد وغيره أن النبي قال: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البين)). ولما بلغ النبي أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر، خرج رسول الله يصلح بينهم في أناس معه حتى كادت تفوته الصلاة بسبب ذلك، وفي رواية قال : ((اذهبوا بنا نصلح بينهم)).
أيها المسلمون: ومن أجل عظيم منافع الإصلاح بين الناس رخص النبي في الكذب الذي يثمر الصلح، فقال: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا ويقول خيرا)). ولم يرخص في شيء مما يقوله الناس- أي من الكذب- إلا في ثلاث: لحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها.
فاتقوا الله أيها المؤمنون وأصلحوا بين إخوانكم عند الإختلاف، وتوسطوا بينهم عند النزاع والبغي، ولا سيما قراباتكم، ولا تتركوهم للشيطان وقرناء السوء يضلونهم عن سواء السبيل، ويهدونهم طريق الجحيم، أصلحوا بينهم تحفظوا لهم دينهم، وتحافظوا على نعمتهم قبل زوالها، وتفوزوا من الله بالأجر العظيم والثواب الكريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين [سورة الحجرات:9].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر والحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/281)
سورة الحشر وإجلاء بني النضير
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, القرآن والتفسير
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إخلاف اليهود المتكرر للوعود. 2- انتظار اليهود لبعثة نبي آخر الزمان ثم كفرهم به.
3- المعاهدة مع قبائل يهود 4- إجلاء بني الضير بعد محاولتهم قتل النبي. 5- الموالاة بين
الكفار واليهود والمنافقين. 6- طبيعة اليهود وجبنهم عند القتال. 7- المعركة الموعودة بين
المسلمين واليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
قوله عز وجل: سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار [الحشر:1-2].
هذه السورة المباركة سورة الحشر، تحكي كيف أجلى الله عز وجل يهود بن النضير عن مدينة رسول الله ، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر قال: قل سورة بني النضير ( [1] ).
وقصة اليهود مع رسول الله هي قصة الغدر والخيانة قال الله عز وجل: أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون [البقرة:100].
وقال تعالى: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون [الأنفال :55-56]، ولو تركت الأفاعي لدغها لتركت اليهود غدرها.
وكان بالمدينة ثلاث قبائل من اليهود: بنو قينقاع ، وبنوالنضير ، وبنو قريظة، وكانوا يوقعون العداوة والبغضاء بين الأوس والخزرج، وكانوا يقولون لهم إن هذا أوان نبي، فإذا بعث فسوف نؤمن به ونقاتلكم معه، فلما بعث النبي آمنت الأوس والخزرج وصاروا أنصار رسول الله وكفرت يهود.
قال تعالى: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين [البقرة:89].
ولما هجر النبي إلى المدينة عقد المعاهدات مع قبائل اليهود الثلاثة، ثم غدرت هذه القبائل ونقضت عهدها مع رسول الله واحدة تلو الأخرى، فأجلى بني قينقاع بعد غزوة بدر، وبني النضير بعد غزوة أحد وقتل قريظة بعد الأحزاب ثم كانت غزوة خيبر بعد صلح الحديبية.
وكان سبب هذه الغزوة - غزوة بني النضير - التي تحكي لنا سورة الحشر قصتها أن النبي ذهب إلى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول الله عقد لهما.
وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم رسول الله ص يستعينهم في دية ذلك القتيلين، قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيرحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحّاش بن كعب -أحدهم-، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ورسول الله في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة وأمر رسول الله بالتهيؤ لحربهم، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة، فحاصرهم ست ليالٍ ، فتحصنوا بالحصون فأمر النبي بقطع النخيل والتحريق فيها.
فقالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها فأقره الله عز وجل في نفس السورة: ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين [الحشر:5].
ثم سألوا رسول الله أن يكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة ( [2] ) ، فأجابهم رسول الله إلى طلبهم، وصاروا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فكان الواحد منهم يهدم بيته بيده من أجل أن يأخذ الخشبة التي على بابه فصاروا عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين، وكانت أموال بني النضير فيئا أفاءه الله عز وجل على رسول الله ، والفيء يعود إلى الإمام لينفقه في مصالح المسلمين، ولا يجب تقسيم أربعة أخماسه على الغانمين كالغنائم فخص النبي بها المهاجرين لفقرهم وحاجتهم، وفي ذلك توسعة أيضا على الأنصار لأنهم استغنوا بما أفاء الله عز وجل على رسوله عن مواساة إخوانهم المهاجرين.
وكما بين الله عز وجل طبيعة اليهود ، وكيف أجلى الله عز وجل يهود بني النضير، فضح الله عز وجل المنافقين الذين واعدوهم بالنصرة، ونصحوهم بالصمود والثبات ولم يفوا بوعده كما أخبر الله عز وجل.
فقال تعالى: ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجوا معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولنّ الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون [الحشر:11-13].
وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي بن سلول، ووديعة، ومالك بني أبي قوقل، وسويد، وداعس، قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فبين الله عز وجل طبيعة المنافقين، فهم يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، فهم لا يؤمنون بالله العظيم، ولا يخافون بطشه وعذابه وإنما يراؤون الناس ويخافون الناس، فقال عز وجل: لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون [الحشر:13].
فالمنافقون يوالون الكافرين ويحبونهم وينصرونهم وينفذون مخططات الغرب الكافر في بلاد المسلمين إنهم أيدي وأرجل الكافرين في بلاد المسلمين والله من ورائهم محيط.
ثم بين عز وجل صفات اليهود وكيف أنهم في غاية الجبن والخور فقال تعالى: لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محسنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون [الحشر:14].
والذي يدرس تاريخ اليهود ومعاركهم مع المسلمين يتبين له طبيعتهم، وكيف أنهم دائما يتحصنون بالحصون، ويقاتلون إن قاتلوا المسلمين من وراء جدر ولا يخرجون إلى ساحة النزال حيث يتقابل الأبطال.
ونحن نشاهد في الجرائد كيف أن شباب الانتفاضة وأطفالها يحملون الحجارة ويقذفون بها الجنود والإسرائيليين وهم يحملون السلاح ويهرولون أمامهم، وكيف أن اليهود في حرب أكتوبر كانوا يقاتلون خلف ما أسموه بخط بارليف.
فكل من واجه جنود الله لا بد أن يجبن، واليهود وغيرهم من أعداء الله عز وجل لا يظهرون على المسلمين، ولا يتم لهم العلو في الأرض إلا إذا تخلى المسلمون عن إسلامهم، وزهدوا في سبب عزهم ومجدهم، والتاريخ شاهد على أن المسلمين إذا عملوا بدين ربهم، وتحاكموا إلى شريعة دينهم، لا يقوم أمامهم أحد كما حدث في صدر الإسلام، وكذا في عهد صلاح الدين الأيوبي، وسيف الدين قطز.
ثم بين عز وجل كذلك أن من طبيعة اليهود أنهم في الظاهر جميع وقلوبهم متفرقة وأنهم إذا تقاتلوا فبأسهم بينهم شديد.
فقال عز وجل: بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون [الحشر:14].
فمهما سرت روح الجهاد في جسد الأمة، وأشربت القلوب حب الشهادة في سبيل الله عز وجل، فلا بد أن تكن الجولة للمسلمين، والدولة لحزب الله الموحدين، ولذا يحاول العلمانيون والمنافقون، أن يطفئوا جذوة حب الجهاد وحب الشهادة من قلوب المسلمين، حتى تظل الدولة للكافرين والمنافقين.
واللقاء حتمي بين المسلمين الصادقين ، واليهود الملعونين.
كما أخبر النبي : (( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فهو من شجر اليهود )) ( [3] ).
( [1] ) رواه البخاري (7/383) المغازي.
( [2] ) الحلقة : السلاح وآلات الحرب.
( [3] ) تقدم تخريجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.(1/282)
قصة تحويل القبلة
الإيمان, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, حقيقة الإيمان
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من سفه الكافرين بالإسلام. 2- ليس في القبلة – أياً كانت – شرف سوى ما شرفها
الله به. 3- شهادة هذه الأمة على الأمم. 4- شهادة هذه الأمة على بعضها البعض.
5- استسلام المؤمنين لأمر الله ومشيئته. 6- دخول العمل في مسمى الإيمان. 7- الاحتجاج
بخبر الآحاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
قال عز وجل: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينّك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون [البقرة:142-144] ، في هذه الآيات الكريمات عباد الله شرف النبي ، وشرف أمته، وفيها بيان فضل الله عز وجل على أمة محمد ، حيث أرسل إليهم أشرف رسول، وأنزل عليهم أفضل كتاب، وهداهم إلى أحسن قبلة، وجعلهم شهداء على الناس أي على الأمم كلها، وجعل الرسول عليهم شهيدا وفيها بيان أن كل أمر من الله عز وجل فهو نعمة منه عز وجل، فالله عز وجل أنعم علينا بالشرع المتين، وتمت نعمة الله عز وجل على المسلمين بكمال الدين، فنزل على النبي بعرفة يوم عرفة:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:3]. في هذه الآيات الكريمات كذلك عباد الله بيان أن الذي يعترض على أمر الله عز وجل سفيه، والسفيه هو ضعيف العقل، قال تعالى: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي الله من يشاء إلى صراط مستقيم [البقرة:142].
أخبر الله عز وجل نبيه بمقالة السفهاء قبل أن يقولوها آية ومعجزة، قيل: السفهاء هم اليهود، وقيل: مشركو مكة ، وقيل: المنافقون، وكلهم سفهاء ، وكذا العلمانيون الذين يعترضون على شرع الله عز وجل ويتهمونه بالقصور عن مسايرة ركب الحضارة والمدنية، ويقولون: تريدون أن تردونا إلى عصور الظلام، وكأن العصور التي حكم فيها الإسلام البشرية وأشرقت فيها شمس الحضارة الإسلامية هي عصور ظلام، فهؤلاء ولا شك من أسفه السفهاء، إنهم يبغضون الإسلام لأنهم إذا أشرقت شمسه فهم أول من تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، لأنهم يعيثون في الأرض فسادا، ويصدون عن سبيل الله، لما نزل تحويل القبلة اعترض السفهاء اليهود والمشركون والمنافقون، قالت اليهود: ترك قبلة الأنبياء قبله.
وقال مشركو العرب: توجه إلى قبلتنا ويوشك أن ينقلب بكليته إلى ديننا.
وقال المنافقون: إن كانت القبلة التي توجه إليها أولا هي الحق فقد ترك الحق، وإن كانت القبلة التي توجه إليها ثانيا هي الحق فقد كان على الباطل قبل ذلك.
وأجاب الله عز وجل عن شبهة السفهاء بقوله عز وجل: قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [البقرة:142]. وتقريره أن الجهات كلها ملك لله عز وجل فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى وما أمر به فهو الحق: يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ثم بين تعالى شيئا من فضله على الأمة وعلى رسولها - كما قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [البقرة :143]. والمعنى كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وأفضلها: وجعلناكم أمة وسطا أي عدولا خيارا: لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم ، فيقال: لأمته هل بلغكم؟ فيقولون : ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك، فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليهم شهيدا ، فذلك قوله جل ذكره: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ( [1] ).
وعن أنس بن مالك قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي : ((وجبت)) ، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال: ((وجبت)) فقال عمر : ما وجبت ؟ قال: ((هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار )) ( [2] ).
ثم بين عز وجل شيئا من حكمته في جعل القبلة أولا بيت المقدس ثم نسخ ذلك وجعل القبلة الكعبة المشرفة فقال عز وجل: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه [البقرة:143].
أي جعل الأمر كذلك لحكمة الابتلاء والاختبار، حتى يظهر من يسلم لأمر الله عز وجل ونهيه، ومن يظهر شكه واضطرابه.
قال ابن جرير رحمه الله: قد ارتد في محنة الله أصحاب رسوله في القبلة رجال ممن كان قد أسلم، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم، وقالوا ما بال محمد يحولنا مرة إلى ههنا ومرة إلى ههنا، وقال المسلمون فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت.
فالمسلم يجب عليه أن يسلم لأمر الله ونهيه، فلا يقدم أحد منهم رأيا ولا هوى على أمر الله عز وجل أو أمر رسوله ، قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [النساء:65]. فمن الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم ثم قال تعالى: وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم [البقرة :143].
أي وإن كان هذا التحويل للقبلة أمرا شاقا على النفوس: إلا على الذين هدى الله وذلك بتسليم الأمر لله عز وجل.
فإن الله عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وله الحكمة التامة والحجة البالغة، ثم بين عز وجل أنه من رحمته بعباده المؤمنين لا يضيع أعمالهم، فكيف يظن الناس إن صلاتهم إلى بيت المقدس بطلت فقال تعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم [البقرة:143].
عن البراء قال: وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا، لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: وما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم.
وفيه دليل لأهل السنة والجماعة على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان، لأن الله عز وجل سمى الصلاة إيمانا، وفي الآية بشرى للمؤمنين بأن الله عز وجل من رحمته ورأفته بعباده المؤمنين يحفظ عليهم إيمانهم، ويوفقهم للأعمال التي تكون سببا في حفظ إيمانهم نسأل الله تعالى عز وجل أن يمتعنا بالإيمان حتى نلقاه به.
ثم قال تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام [البقرة:144].
قالوا: فيه أدب حسن من النبي حيث أنه انتظر ولم يسأل، عن البراء أن رسول الله صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل قباء، وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع النبي قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت.
واستدل به الشافعي على أن خبرا الواحد يؤخذ به في الأحكام والعقائد فالصحابة رضي الله عنهم تركوا القبلة التي كانوا عليها لخبر واحد، ما قالوا ننتظر حتى يتواتر الخبر، أو حتى نسأل رسول الله.
قال العلامة السعدي: وكان صرف المسلمين إلى الكعبة مما حصلت فيه فتنة كبيرة أشاعها أهل الكتاب، والمنافقون، والمشركون وأكثروا فيها من الكلام والشبه، فلهذا بسطها الله تعالى وبينها أكمل بيان، وأكدها بأنواع من التأكيدات التي تضمنتها هذه الآيات، منها: الأمر بها ثلاث مرات مع كفاية المرة الواحدة، ومنها أن المعهود أن الأمر إما أن يكون للرسول فتدخل فيه الأمة، أو للأمة عموما وهذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله: فول وجهك والأمة عموما في قوله: فولوا وجوهكم.
ومنها: أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة التي أوردها أهل العناد، وأبطلها شبهة شبهة.
ومنها أنه قطع الأطماع من اتباع رسوله قبلة أهل الكتاب.
ومنها قوله: وإنه للحق من ربك فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف، ولكن مع هذا قال: وإنه.
ومنها أنه أخبر وهو العالم بالخفيات أن أهل الكتاب متقرر عندهم صحة هذا الأمر، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم.
وقد قرر الله عز وجل الأمر باستقبال المسجد الحرام.
فقال تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون [البقرة:144].
ومن حيث خرجت قول وجهك شطر والمسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون [البقرة:150].
عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي قال: اشتد وجع سعيد بن المسيب فدخل عليه نافع بن جبير يعوده، فأغمى عليه، فقال نافع: وجهوه ففعلوا فأفاق فقال: من أمركم أن تحولى فراشي إلى القبلة أنافع؟ قال: نعم، قال له سعيد: لإن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهكم فراشي، فإذا لم تكن وجهة المسلم إلى الملة الحنيفية لا ينفعه أن يوجه بعد موته إلى القبلة.
فنسأل الله عز وجل أن يتم علينا النعمة وأن يميتنا على ملة نبينا محمد.
( [1] ) رواه البخاري (8/22) التفسير : باب ((وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)) وأحمد (3/32).
( [2] ) رواه البخاري (3/270) الجنائز : باب ثناء الناس على الميت.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/283)
العدل وأثره على المجتمع
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
آثار الذنوب والمعاصي, معارك وأحداث
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
واقعتان عظيمتان في تاريخ البيت الحرام ومدلولها : الأولى : غزو أبرهة للكعبة وكيف رده الله
وجيشه النصراني – الثانية : استباحة قرامطة هجر من الروافض المسجد الحرام وقتل الحجيج-
من دروس هاتين الواقعتين سنة كونية وقاعدة إلهية أن الله يسلط على من يعصيه ويتمرد على
أمره من يهلكهم , وهذا يدل على وجوب الحذر من المعاصي , ومن أعظمها الظلم – العدل
الأخذ على يد الظالم من أعظم أسباب قوة المجتمع وتماسكه , وخطورة عدم الأخذ على يد
الظالمين وعاقبة ذلك – حلف الفضول , وكيف كان من أسباب حماية الله كفار قريش من أبرهة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ففي تاريخ هذا البيت المعظم واقعتان عظيمتان لنا عندهما وقفة لدراسة بعض مدلولاتها ففي عام الفيل وهو العام الذي وُلد فيه سيدنا رسول الله غزا أبرهة الأشرم الحبشي النصراني غزا البيت الحرام وكان سبب ذلك أنه بنى في عاصمة ملكه باليمن بيتًا بالغ في بنائه وفي تفخيم أركانه وتزيين جدرانه فلمّا أتم بناءه قال: لأصرفن إليه حاج العرب، فلما سمعت العرب بذلك غضبوا فتسلل واحد منهم إلى بيت أبرهة ليلاً فأحدث فيه ثم انصرف، فلما بلغه ذلك استشاط غضبًا وعزم على هدم الكعبة فسار على رأس جيش كبير نحو مكة يتقدمهم فيل عظيم كان قد أُهدى إليه من الحبشة وفي طريقه إلى مكة اعترضته بعض قبائل العرب يقاتلونه دون البيت فهزمهم لأمر يريده الله عز وجل، ومضى حتى بلغ مكة بجيشه وفيله فلما رأت قريشًا ذلك هالها هذا الأمر واستعظمته وأنكرته ولكنها رأت أنها لا قبل لها بأبرهة وجيشه فخرجت قريش أجمعها وعلى رأسها عبد المطلب جد النبي خرجوا من مكة ولجأوا إلى رؤوس الجبال التي حول مكة وأخلوا بين أبرهة والبيت وتقدم أبرهة بادئًا هجومه على البيت الحرام فأظهر الله عز وجل أولى آياته: إذا بفيل أبرهة الضخم العظيم يبرك في مكانه ويأبى أن يتحرك فإذا وجهوه إلى الجهات الأخرى جهة اليمن أو جهة المشرق أو جهة المغرب هرول إلى تلك الجهة فإن عادوا ووجهوه إلى البيت برك مكانه وأبى أن يتحرك لما ألقى الله عز وجل في نفس هذا الحيوان الأعجم من مهابة بيته المعظم.
أشار إلى ذلك سيدنا رسول الله في الحديث الصحيح [1] فقد بركت ناقته القصواء وهو قرب مكة فقال الصحابة رضوان الله عليهم: خلأت القصواء، فقال : ((ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل)).
ثم أظهر الله عز وجل قدرته العظيمة، أظهر قدرته في أضعف خلقه بأضعف خلقه أرسل على جيش أبرهة طيرًا أبابيل أي طيرًا جماعات ،جماعات تحمل في أرجلها وفي مناقيرها حجارة من سجيل أي حجارة من طين. حتى إذا طارت فوق جيش أبرهة رمت بتلك الحجارة عليهم فهلكوا وأصبحوا كعصف مأكول أي كزرع أُكل حبه وبقى تبنه فحمى الله عز وجل بيته الحرام وصد عنه عدوان ذلك الجيش النصراني.
فعل ذلك سبحانه وتعالى بينما العرب الذين حول البيت والذين كانوا يعظمون البيت إذ ذاك كانوا مشركين كفرة، ومع ذلك حمى الله بيته ورد عنه وعن سكانه عدوان ذلك الجيش النصراني وشاءت حكمة الله عز وجل أنه بعد الهجرة النبوية بسبعة عشر وثلاثمائة عام هجم قرامطة هجر وهم قوم من أخبث الروافض هجموا على البيت الحرام سنة سبع عشرة وثلاثمائة بعد الهجرة النبوية فقتلوا الحجاج والسكان في وسط المسجد الحرام ودفنوا جثثهم في بئر زمزم ثم اقتلعوا الحجر الأسود وعادوا إلى هجرهم ومعهم الحجر الأسود الذي مكث لديهم سنين ثم أُعيد إلى مكانه.
نعم حدث هذا في الإسلام وحدث ذلك قبل الإسلام رد الله عز وجل غزو أبرهة النصراني قبل الإسلام، رد غزوه عن بيته الحرام والعرب إذ ذاك كفرة مشركون وسلط قرامطة هجر الروافض على سكان البيت الحرام وعماره بعد الإسلام.
وفي هذا درس بليغ لكل مسلم يعلمه سنة من سنن الله الكونية وقاعدة من قواعده الإلهية التي لا تتحول ولا تتبدل وهى أن عباده الذين يعرفونه إذا أعرضوا عنه وعصوه سبحانه وتمردوا على أمره فإنه يسلط عليهم أعداءهم مما لا يعرفون ربهم ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.
إذا أعرض عنه سبحانه بعض عباده الذين يعرفونه وانصرفوا عن طاعته سلط عليهم من عدوهم من يهلكهم ويدمرهم ثم يستبدل سبحانه وتعالى قومًا غيرهم: وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [محمد:38].
أيها المسلم من أعظم الأسباب التي نتقي بها جميعًا شر الفتن ونتقي بها العقوبات الإلهية. من أعظم هذه الأسباب أن نحرص على طاعة الله عز وجل وأن نحذر المعاصي أشد الحذر وأن نحرص على العدل وعلى أن نتواصى فيما بيننا بالعدل وأن نأخذ على يد الظالم وأن ننصر المظلوم فإن هذا من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى قوة بنيان المجتمع وتماسكه وحينئذ لا تزعزعه المحن ولا تضره عوادي الزمن.
العدل والتواصي بالعدل والتواصي بنصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم إذا فعلنا ذلك وتواصينا بذلك حكامًا ومحكومين ورعاة ورعية فإن هذا من أعظم الأسباب لاتقاء شر الفتن واتقاء غضب الجبار عز وجل فإن الظلم مجلبة لغضب الجبار عز وجل.
وإن عصيان العارف بربه مجلبة لغضب الجبار عز وجل ولعقوبته والعياذ بالله إذا وقع ظلم ثم رفع المظلوم يده يشكو إلى ربه ارتفعت دعوته إلى السماء فتفتح لها أبواب السماء حتى ترفع إلى الجبار عز وجل ليس بينها وبينه حجاب.
فإن شاء حينئذ عز وجل أمهل الظالم حتى يزيده من العذاب، أمهله إلى أجل حتى يزيده من العذاب، وإن شاء أخذه أخذ عزيز مقتدر فهو سبحانه عزيز ذو انتقام، يمهل الظالم ولا يهمله.
وإذا كثر المظلومون في مجتمع ما ولم يجدوا في ذلك المجتمع من ينصرهم ويؤازرهم ولم يجد الظالمون من يردعهم ويضرب على أيديهم إذ كان أفراد ذلك المجتمع لا يتواصون بالعدل ونصرة المظلوم فالخوف كل الخوف حينئذ أن ترتفع دعوات عشرات المظلومين أو مئات المظلومين إلى السماوات فيغضب الجبار عز وجل على ذلك المجتمع كله فيهلكه ويدمره ويسلط عليه عدوه فيمحقه.
لا يكفي أيها المسلم أن تسلم أنت من الظلم فلا تظلم ولا تُظلم بل يجب أن تتواصى مع إخوانك أفراد المجتمع المسلم، تتواصوا جميعًا بالعدل ورفع الظلم ونصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم، ما مدح سيدنا رسول الله شيئًا من أمور الجاهلية كما مدح حلف الفضول وأثنى عليه. فقال في الحديث الصحيح [2] : ((لقد شهدت في دار ابن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت)) هكذا قال يثني على حلف الفضول، وحلف الفضول هذا هو أكرم حلف سُمع في العرب وأشرفه، وكان في الجاهلية قبل مبعث النبي كان سببه أن رجلاً من زبيد جاء إلى مكة ببضاعة له فاشتراها منه العاص بن وائل وكان ذا شرف وذا قدر كبير في قومه قريش فمنعه حقه، فاستعدى الزبيدي عليه الأحلاف من قريش فأبوا أن ينجدوه وينصروه فذهب إلى جبل أبي قبيس وعلا فوقه ثم نادى بأعلى صوته بشعر له يصف فيه ظلامته وقريش في أنديتها حول الكعبة تسمعه، فسعوا في ذلك سعى منهم الزبير بن عبد المطلب في هذا الأمر واجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة اجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدًا واحدة مع المظلوم على ظالمه حتى يأخذوا له بحقه منه.
فسمعت قريش بهذا الحلف فأثنت عليه وآزرته ثم مضى هؤلاء إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق هذا الزبيدى.
نعم فلا عجب حينئذ إذا حمى الله تعالى بيته من أبرهة الأشرم الحبشي النصراني إذا حمى بيته وهؤلاء العرب إذ ذاك جيران البيت وفيهم هذه الخصال الكريمة. فيهم هذه الأخلاق الشريفة على الرغم من كفرهم وشركهم، هذه سنة إلهية من سنن الله عز وجل أن الكافر المشرك إذا عدل وأخذ بأسباب العدل كوفئ على عدله في الدنيا إذ لا ثواب له في الآخرة، وأما المسلم إذا ظلم وإذا عصى الله عز وجل فلا يشفع له عند الله شيء فإن الله عز وجل ليس بينه وبين أحد نسب.
اللهم إنا نعوذ برضاك من غضبك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناءً عليك، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ونعوذ بك من سخطك والنار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في الشروط باب الشروط في الجهاد (2/974). رقم (2734).
[2] أخرجه أحمد في المسند (1/191) والبخاري في الأدب المفرد ، وروى عن مسلم في صحيحه برقم (2530).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) [1]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين عليّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد (1/306) (408).
(1/284)
من أسباب كثرة الذنوب والمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- للذنوب أسباب كثيرة منها ضعف الإيمان. 2- المعاصي والكبائر إنما تحل بالقلب إذا
ضعف الإيمان. 3- الكبائر لا تخرج من الملة. 4- وسائل تقويه الإيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
قال ابن الجوزي: مجلس الذكر مأتم الأحزان، هذا يبكي لذنوبه، وهذا يبكى على عيوبه، وهذا يبكي على فوات مطلوبه، وهذا يبكي على إعراض محبوبه.
إذا كان أهل الدنيا أكبر همهم كيف يحصلون شهوات الدنيا، وكيف يصلون إلى أعلى المناصب فيها، فأهل الإيمان أكبر همهم كيف يستقيمون على طاعة الله عز وجل، وكيف يتوبون من الذنوب وكيف يصلون إلى رضا علام الغيوب. وغفار الذنوب، فليس في الدنيا والآخرة عباد الله شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي، فما هي عباد الله أسباب كثرة الذنوب والمعاصي؟ وكيف نفطم النفس عنها؟ ونتوب إلى الله عز وجل منها؟
وأنا أذكر من ذلك بحسب الاجتهاد لا الحصر والقطع خمسة أسباب، أظن أنها من أكثر الأسباب الدافعة إلى معصية الله عز وجل.
السبب الأول: ضعف الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر.
السبب الثاني: الجهل بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وأمره ونهيه.
السبب الثالث: الغرور والأماني.
السبب الرابع: كثرة الفتن، وكثرة الشبهات والشهوات.
السبب الخامس: كثرة مخالطة الفاسقين وعدم الفرار بالدين.
وسوف نتكلم إن شاء الله تعالى في هذه الخطبة عن السبب الأول لكثرة الذنوب والمعاصي وهو ضعف الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر، فلا شك في أن الإيمان إذا ضعف لا يقوى على دفع العباد عن معصية الله عز وجل، ولا يقوى على دفعهم إلى طاعة الله عز وجل.
قال النبي : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )) ( [1] ).
فمن أهمل شجرة الإيمان في قلبه إذا أقبلت رياح الشبهات أو الشهوات تكاد تقلعها من جذورها، والزاني والسارق وشارب الخمر إذا علم حرمة هذه الكبائر، واعترف بأنه عاص بفعلها لا يكون كافرا عند أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج، ولكنه وقت المعصية ضعف الإيمان جدا في قلبه، فتجرأ على هذه الكبائر.
لما أتى النبي بالرجل الذي كان يشرب الخمر فلعنه أحد الصحابة قال النبي : ((لا تلعنه إنه يحب الله ورسوله )) ( [2] ). فأثبت النبي له محبة الله ورسوله مع أنه يشرب الخمر ولا شك في أن الذي لا يفعل هذه المعاصي أكثر حبا لله عز وجل ولرسوله ممن يفعلها.
فمهما تكامل إيمان العبد أحب أسباب الإيمان، وكره الكفر والفسوق والعصيان.
قال بعض السلف: إني لا أحب أن أعصي الله.
أي لا تأتي معه جوارحه إلى معصية الله عز وجل.
فمقتضى كمال الإيمان أن يحب العبد طاعة الله عز وجل، وأن يبغض معصية الله عز وجل، قال رسول الله : (( ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا ، وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا )) ( [3] ).
وقال : ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) ( [4] ).
فما هي الأسباب عباد الله التي يتقوى بها الإيمان؟
السبب الأول: عباد الله هو معرفة الواحد الديان فمهما ازداد علم العبد بالله عز وجل يزداد حبا لله عز وجل، وخشية من الله عز وجل، وتوكلا على الله.
قال النبي : ((أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) ( [5] ).
قال الله عز وجل: إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر:28].
قال عبد الله بن مسعود: كفى بخشية الله علما، وكفى باغترار بالله عز وجل جهلا.
قيل للإمام الشعبي: يا عالم فقال: إنما العالم من يخشى الله.
فكلما ازداد علم العبد بربوبية الله عز وجل وأسمائه وصفاته وإلهيته يزداد إيمانا بالله عز وجل، ولذا كان أول واجب على المكلف معرفة الله عز وجل.
قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56].
وقال تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك [محمد:19].
السبب الثاني: معرفة النبي : قال تعالى: قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة [سبأ:46].
وقال تعالى: أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون [المؤمنون:69].
فمعرفة النبي ، وما جبله الله عز وجل عليه من المحاسن والفضائل، وما نزهه الله عنه من القصور والرذائل، وكذا معرفة سيرته ، وكيف أنه لم يغدر مرة واحدة، ولم يكذب ولم يخن، ولم يخلف وعده.
وكان النبي أحسن الناس، وأشجع الناس، وأصدق الناس، وأكرم الناس، وكان أشد حياء من العذراء في خدرها، كل ذلك مما يزيد إيماننا بصدقة، وكذا معرفة معجزاته ، كحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه، وانقياد الشجر له ، وتسليم الحجر عليه، وانشقاق القمر لإشارته، وأكبر معجزاته القرآن المبين، فهو المعجزة الباقية إلى يوم الدين.
السبب الثالث: هو الإكثار من النوافل بعد استكمال الفرائض كما في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )) ( [6] ).
السبب الرابع: أن يعيش العبد في أجواء إيمانية وأن يتنفس هواء الإيمان فحضور دروس العلم، ومجالسة الصالحين، وتشييع الجنائز، وعيادة المرضى، والتردد على الأماكن المقدسة للحج والعمرة وزيارة المسجد النبوي، لا شك في أنه يزيد الإيمان ويقرب إلى الواحد الديان.
السبب: التفكر في مخلوقات الله عز وجل قال تعالى: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [آل عمران:190]. وقال تعالى: وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون [الذاريات:20-21].
وكان السلف رضي الله عنهم يفضلون تفكر ساعة على قيام ليلة لأن التفكر ساعة قد يثمر في القلب إيمانا أكثر من قيام ليلة.
وسئلت أم الدرداء عن أكثر عبادة أبي الدرداء فقالت: كان أكثر عبادته التفكر.
السبب السادس: معرفة محاسن الإسلام فمهما تدبر المسلم دين الإسلام وجده يأمر بكل خير وبر وصلاح، وينهى عن كل فاحش وقبيح من الأقوال الأفعال.
يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات [المائدة:4].
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف:33].
السبب السابع : وهو تدبر القرآن قال تعالى: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [النساء:82]. فمهما تدبر العبد القرآن علم أنه كلام الله عز وجل ، وقصصه ، وتنزيله ، فمن علامات الإيمان الصادق أن يزداد العبد إيمانا بسماع كلام الله عز وجل قال تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون [الأنفال :2].
وقال تعالى: وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [التوبة:124-125].
السبب الثامن: المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل ، فدين الله عز وجل هو الروح الذي لا حياة بدونه، وهو النور الذي من التمس الهدي في غيره أضله الله عز وجل، قال عز وجل:
أو من كان ميتا فأحييناه وجعنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [الأنعام:122] ، وقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى :52].
فمن أحيا قلوب الناس بدين الله عز وجل وبالدعوة إلى الله عز وجل أحيا الله شجرة الإيمان في قلبه، ونضر قلبه وجوارحه، قال النبي : ((نضر الله امرءا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) ( [7] ).
قال سفيان بن عيينة: لا نجد أحدا من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة، لدعوة رسول الله.
السبب التاسع: من أسباب زيادة الإيمان أن يطهر العبد قلبه من الحسد والغش والبغضاء للمؤمنين، فإن الشجرة الطيبة شجرة الإيمان قد يخالطها نبت رديء، فلا بد من تنقية الشجرة حتى تثمر الثمرات الطيبة اليانعة، ومهما أهملت الشجرة لا تبلغ الثمرة نضجها وكمالها، فنسأل الله عز وجل أن يبارك في شجرة الإيمان في قلوبنا، وأن يمتعنا بالإيمان حتى نلقاه به.
( [1] ) رواه البخاري (10/30) الأشربة ، ومسلم (2/41،42) الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
( [2] ) رواه البخاري (14/75) الحدود بمعناه.
( [3] ) رواه مسلم (2/12) الإيمان وأحمد (1/208).
( [4] ) رواه البخاري (1/60) الإيمان ، ومسلم (2/13) الإيمان والترمذي (10/91) الإيمان.
( [5] ) رواه البخاري (10/513) الأدب ، ومسلم (15/106) الفضائل ، وأحمد (6/45،181).
( [6] ) رواه البخاري (4/231) ، (11/248،249) الرقاق وأبو نعيم الحلية (1/4) وهو في الصحيحة رقم (1640).
( [7] ) رواه أحمد (5/183) ، والدارمي (1/75) وقال البوصيري : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ، وأورده السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة ص (25) وهو في الصحيحة رقم (404).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/285)
بم تطيب الحياة وتنال السعادة؟
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, فضائل الإيمان
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تصور خاطئ لسبيل السعادة 2- البسطة في الدنيا ابتلاء من الله 3- الكفاف في الدنيا
أفضل من السعَة فيها 4- السعادة إنما تُنال بالإيمان والعمل الصالح
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله في جميع أموركم، وراقبوه واخشوه في سائر أحوالكم، واعملوا له أعمالاً صالحة، تطيب بها حياتكم، ويحسن بها مآلكم، فإن الله تعالى قد وعد بذلك من كان كذلك، فوعد ووعده الحق، وقال وقوله الصدق: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [سورة النحل:97]. وقال تعالى: الذين ءامنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب [سورة الرعد:29].
أيها المسلمون: يخطئ كثير من الناس ممن قل علمه وقصر فهمه، إذ يظنون أن طيب الحياة وسعادة الأبد يتحققان لمن كثر ماله، وتيسرت له متع الدنيا الفانية، من شهي المآكل، وبهي الملابس، وعامر القصور، وفاره المراكب، وكثرة الأموال المخزونة، والإتباع الذين يحفون بالشخص يعظمونه ويخدمونه، ولو خلا قلبه من الإيمان أو ارتكب ما ارتكب من أنواع الكفر والفسوق والعصيان.
والحقيقة – أيها المسلمون- إن هذا الظن لا يصدر إلا عن معرض عن تدبر القرآن، ولم يكن على علم بما جاء عن النبي في هذا الشأن من بيان، وإلا فإن من تدبر آيات القرآن وأطلع على السنة، وفهمها على نحو فهم السلف الصالح من هذه الأمة؛ يتبين له أن التمتع بطيب المشتهيات، والتوسع في أمور الحياة؛ أمر مشترك بين المسلمين والكفار والأبرار والفجار: كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً [الإسراء:20].
وقد ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أنه يعطي الدنيا من يشاء من أوليائه المؤمنين، ومن أعدائه المكذبين، وإن من حكمة ذلك ابتلاء الطرفين، وإكرام المؤمنين الشاكرين، واستدراج المكذبين الجاحدين، وإن ذلك كله واقع بمشيئته، وبمقتضى حكمته الدائرة بين الفضل على الشاكرين والعدل في الجاحدين: قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون [سورة سبأ:36].
وقال تعالى: إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً [سورة الإسراء:30].
أيها المسلمون: ومن بيان النبي أن بسط الرزق وسعته ليس دليلا قطعياً على حظ من بسط له فيه، ولا على سعادته ومحبة الله له، قوله عليه الصلاة والسلام: ((الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر)). وقوله : ((إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه)). بل قد سمى الله تعالى المال الخالي عن صالح الأعمال فتنة لصاحبه وعذابا، ونهى سبحانه نبيه وأتباعه المؤمنين عن مد النظر إليه إعجابا، فقال سبحانه: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [سورة التوبة:55]. وقال تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم [سورة التغابن:15].
وفي الصحيح عن النبي قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)).
وهذا يقتضي من العاقل الحذر، وأن يعلم أنه مع سعة الدنيا وبسطتها عليه محفوف بالخطر، فضلا عن أن يكون ذلك مقياساً لطيب الحياة والسعادة في الدارين، أو مغرياً على الإقامة على المعاصي مع الأمن من عقوبة رب العالمين.
أيها المسلمون: وقد جاء في صحيح السنة أن المكثرين من المال هم الأقلون يوم القيامة، إلا من بذله في عباد الله من عن يمينه وشماله ومن خلفه وابتغاء وجه الله، ففي البخاري عن أبي ذر أن النبي قال: ((إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا، وقليل ما هم)). وجاء في صحيح السنة إن من خطر الغنى أنه يعوق أهله من دخول الجنة، أو السبق إليها إن كان من أهلها، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي : ((أطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء)). وفيهما عن أسامة بن زيد عن النبي قال: ((وقفت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجَدِّ- يعني الغنى – محبوسون، غير أن أهل النار قد أمر بهم إلى النار)). وفي حديث عند الترمذي بسند حسن عنه قال: ((يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام)) ، وهذا يفسر الذي قبله، وسببه – والله أعلم – ما يتعلق بالأموال من حقوق، ويلحق أهلها بسببها من تبعات.
أيها المسلمون: ومن المعلوم أيضا أن الدنيا وإن انبسطت وأتسعت، وأتت صاحبها على ما يريد، وأنواع المخاوف ومختلف الأضرار، وكلها منغصات للعيش، ومكدرات لصفوا الحياة، فلا يهذبها وينقيها ويصرف عن العبد شر ما فيها، إلا الإستقامة على الدين، وأن يعيش المرء فيها مع سعتها عيشة الزاهدين، الموقنين بالرحيل، والعرض على الرب الجليل، وفي الصحيح عن النبي قال: ((قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافاً وقنعه الله بما آتاه)). وفي الصحيحين عن النبي قال: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)). وهو ما يسد الرمق.
أيها المسلمون: وبذلك يتبين أن طيب الحياة، والسعادة بعد الممات، لا تكون بكثرة الأموال وتنوع الممتلكات، ولا بالتمكن من الشهوات، مع الغفلة عن حق رب الأرض والسماوات، والمطلع على الضمائر والنيات، وإنما تكون بطاعة رب العالمين، المبنية على الفقه في الدين، والإخلاص لله ومتابعة الرسول من العاملين، وذلك بأداء فرائض الطاعات، وتكميلها بالنوافل المستحبات، واجتناب الكبائر الموبقات، والحذر من الصغائر المحقرات، وترك ما لا يعني، واتقاء الشبهات، وسؤال الله الثبات على الحق حتى الممات.
أيها المسلمون: طيب الحياة وسعادة الأبد، لا تنال بكثرة العرض، ولا بالأخلاد إلى الأرض، وإنما تنال بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، والقدر خيره شره، وحلوه ومره، وإخلاص الدين لله رب العالمين، وإقام الصلاة والمحافظة عليها في المساجد مع جماعة المسلمين، وأداء الزكاة والحج والصيام، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وعشرة الزوجة بالمعروف، وحسن تربية الأولاد، وبسط اليد بالنفقات الواجبات والمستحبات على القرابات وذوي الحاجات، والأحسان إلى الأيتام والضعفاء والمساكين، وإغاثة الملهوفين والمكروبين والمنكوبين، فإن هذه الأعمال من خصال أهل الإيمان والتقوى، الذين وعدهم الله بكل خير في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه [سورة الطلاق:2-3]. وقال سبحانه: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً [سورة الطلاق:4] وقال تعالى: ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً [سورة الطلاق:5]. وقال تعالى عند ذكر النار: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى [سورة الليل:17-18]. وقال سبحانه: تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً [سورة مريم:63]. وقال جل ذكره: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين ءامنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم [سورة يونس:62-64].
أيها المسلمون: لقد سبق المتقون إلى كل بر، فحازوا كل خير؛ من شرح الصدر ويسر الأمر، وذهاب الهم وانكشاف الغم، والزيادة من صالح العمل، والسداد في القول، وبركة العمر، وسعة الرزق، والطهارة من سيء الخلق، مع ما لهم عند الله من عظيم الأجر، ورفيع الذكر، ورفعة الدرجات، وحط الخطيئات، وبذلك تطيب الحياة وتتحق السعادة من بين المخلوقات، وتنال الغرف العالية من الجنات، والفوز برضوان رب الأرض والسماوات.
فمن اتقى الله وأدى واجب ما عليه من حق الله، وتزود بنوافل العبادات، وأكثر من فعل المعروف وبذل الصدقات – فتح الله له أبواب الرزق، ويسر له أسباب الكسب، وجعل في قلبه القناعة والرضى، اللذين هم أغنى الغنى، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، فالعمل الصالح هو همة التقي، والمال الصالح لا يستغني عنه ولي، والله تعالى يحب المؤمن القوي، والغني التقي، ويحب المؤمن المحترف، ويبغض الفارغ البطال، فمن أخذ المال من حله، وأدى واجب حقه، فنعم المعونة هو إذا لم يشغل عن طاعة الله، أو يبذل في معصية الله، فإن المؤمن التقي الذي يعيش به في نفسه وأهله عيشة راضية مرضية، وحياة سعيدة زكية، قد قنعه الله بما آتاه، ومتعه به متاعاً حسناً في دنياه، ووفقه للاستعانة به على طاعته، وبذله في مرضاته، فقدم بين يديه عملاً صالحاً طيباً يرجوا عليه ثواب الله، فاتقوا الله أيها المؤمنون: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [سورة البقرة:281].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/286)
الشبهات والشهوات
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشبهات والشهوات من أسباب كثرة الذنوب. 2- كثرة الشبهات والشهوات في آخر الزمان.
3- ما هي الشبهات؟ وما هي الشهوات؟ 4- أعداء الإسلام ينشرون الشبهات والشهوات.
5- التسلح بالعلم والإيمان والإرادة يبطل سلاح الأعداء. 6- العزلة وقلة الخلطة تمنع من كثير
الشهوات. 7- فضيلة مجالسة الصالحين.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
ذكرنا عباد الله أن من أسباب كثرة الذنوب والمعاصي ضعف الإيمان بالله عز وجل وباليوم الآخر، ومن أسبابها الجهل بالله عز وجل، وبرسوله ، وبدين الله عز وجل، ومن أسبابها الغرور والأماني، وليست هذه وحدها أسباب كثرة الذنوب، ولكن اجتمعت على الناس عباد الله: ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور [النور:40].
فمن أسباب كثرة الذنوب والمعاصي أيضا كثرة الشبهات والشهوات، ومخالطة الفاسقين وعدم الفرار بالدين.
فهناك تلازم ولا شك بين كثرة الشبهات والشهوات وكثرة المعاصي، ومع أن شواهد الحال تغني عن الاستدلال، ولكن حتى تزداد بركة الكلام نورد ما يدل على ذلك من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
عن أبي هريرة عن النبي قال: (( يتقارب الزمان، وينقص العلم، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج ،
قالوا: يا رسول الله أيما هو، قال: القتل القتل )) ( [1] ).
ومن كثرة الشبهات والشهوات في آخر الزمان يمر المؤمن بقبر أخيه فيتمنى أن يكون مكانه خشية من فقد الإيمان، أو الموت على معصية الواحد الديان.
عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول : ياليتني مكانه)) ( [2] ).
وفي مثل هذه الأزمنة الغابرة المتأخرة التي تصير فيها الفتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من أعراض الدنيا، فنسأل الله عز وجل الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.
والشهوات: هي اتباع هوى النفس فيما يخالف شرع الله عز وجل.
والشبهات: هي فساد المعتقد من شكوك وبدع.
ولا شك في أن الأمة الإسلامية مستهدفة بالمخططات اليهودية والصليبية لإفساد عقائد المسلمين، وبث الأفكار الإلحادية والوجودية، وإفساد الشباب والنساء، بنشر الخلاعة والإباحية والتبرج والسفور والفجور، وساعدهم على ذلك الحكومات العميلة، التي تسبح بحمد الغرب الكافر، والأقلام الفاجرة المأزورة التي تنفذ مخططات أعداء الإسلام، بإفساد عقائد الناس، وإشاعة الفواحش والمنكرات، والله تعالى يقول: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [النور:19].
فإذا كان هذا جزاء من يحب أن تشيع الفواحش في بلاد المسلمين، فيكف بالذين يتولون كِبر ذلك، ويسعون فيه ليل نهار، بإخلاص للشيطان، ومتابعة لأعداء الإسلام: والله من ورائهم محيط [البروج :20].
يقول أحد أقطاب المستعمرين: كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات.
واليهود - عبادَ الله - وراء كل شر وباطل، وتحطيم للقيم والأخلاق، لقد تبنوا شخصيات إبليسية ماكرة خبيثة، لها قدم في إفساد العقائد والأخلاق، إنهم يعلنون أنهم تبنوا آراء اليهودي (فرويد) الذي يفسر كل شيء في سلوك الإنسان عن طريق الغريزة الجنسية.
وتبنوا آراء اليهودي (كارل ماركس) الذي أفسد على الكثيرين قلوبهم وضمائرهم وعقولهم، وألغى الأديان وهاجم عقيدة الألوهية ولما قيل لكارل ماركس ما هو البديل عن عقيدة الألوهية، قال: البديل هو المسرح، أشغلوهم عن عقيدة الألوهية بالمسرح.
وما أدراك ما المسرح في دعوته الساخرة إلى محاربة الأخلاق والأديان.
وتبنوا آراء (نيتشه) الذي أعلن عن نظرية التطور التي نقضها العلم، وألقاها في سلة المهملات، ومما زاد الطين بلة خروج أجيال من المسلمين منسلخة من العقيدة الإسلامية التي مضى عليها سلف الأمة، قد أنهك قواها داء الشرك والوثنية، وتعلقت بالأوهام والخرافات، أجيال فقدت تعززها بدين الإسلام وسارت تلهث خلف الغرب الكافر، تتلقف منه كل رذيلة وتهدم ما هدموه من حياء وفضيلة، وتحقق بذلك خبر النبي : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى، قال: فمن؟)) ( [3] ).
يقول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود: وإن العرب المسلمين في تقليدهم لغيرهم فيهم شبه بالطفل الصغير مع الرجل الأحمق الفاجر، يحسب الطفل أن كل ما يفعله هذا الأحمق مفيد له، فإذا رآه يشرب الدخان شربه، أو رآه يشرب الخمر شربه، وهكذا الأمة الجاهلة بمصالحها، الضعيفة في دينها ومداركها، تحسب أن كل ما يفعله النصارى مفيد لها، فتقلدها على غير بصيرة من أمرها لاعتقادها أنه محض التمدن والتجدد ( [4] ).
والذي يظهر والله أعلم أن الحكومات العلمانية التي ابتليت بها الشعوب المسلمة تحاول أن تقاوم تيار التدين والصحوة الإسلامية بتيار من التحلل والإباحية والسفور والفجور، حتى ينجرف فيه أكثر الشباب المسلم، فلا ينفعهم نصح الناصحين، ووعظ الواعظين، وتحق الكلمة عليهم أنهم من أصحاب الجحيم.
والسؤال الذي يطرح نفسه ما هو الواجب على المسلم لمواجهة هذه الأمواج العاتية والتيارات القوية من الشبهات والشهوات؟
أما تيارات الشبهات فبالتسلح بالعلم النافع الذي يجعل المسلم على بصيرة في دينه ويوضح له ما يجب اعتقاده بالدليل، فهذا ما ينبغي التسلح به في مواجهة الشبهات التي تفسد المعتقد والتصور.
أما الشهوات فمما يعين على قهر النفس عنها أن يشغل العبد قوته وأنفاسه وجوارحه بطاعة الله عز وجل، فمهما كان العبد مشغولا بالطاعات والعبادات فإنه لا يكون عند ذلك محلا للخطرات والوساوس.
قال ابن القيم رحمه الله: إذا غفل القلب ساعة عن ذكر الله جثم عليه الشيطان وأخذ يعده ويمنيه.
ويقول ابن القيم أيضا: دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة فإن لم تفعل صارت شهوة فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلا، فإن لم تتداركه بضده صارت عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها ( [5] ).
السبب الخامس : - عباد الله - من أسباب كثرة الذنوب والمعاصي هو مخالطة الفاسقين قرناء السوء.
قال بعض السلف: ليس شيء أنفع للقلب من مخالطة الصالحين والنظر إلى أفعالهم وليس شيء أضر على القلب من مخالطة الفاسقين والنظر إلى أفعالهم.
وقال بعضهم: الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس.
وقال بعضهم: اعتزال العامة مروءة تامة.
وتتأكد العزلة للمجتمعات الكافرة التي تدين بالإباحية والكفر برب البرية قال عز وجل حاكيا عن إبراهيم عليه السلام: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا [مريم :48].
قال الله تعالى: فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا [مريم :49].
وقال تعالى حاكيا عن فتية أهل الكهف: وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا [الكهف:16]. فلما اعتزلوا قومهم الكافرين جعل الله عز وجل لهم مخرجا، ونقلهم من زمان إلى زمان، وجعلهم قصة من قصص الإيمان، وإنما يخاطب بهذه الآيات الكريمات من يسكن بين ظهراني الكفار في أوروبا وأمريكا وغير ذلك من البلاد الكافرة التي شاعت فيها الفواحش وأهدرت الحرمات، فإن مخالطة أهل هذه البلاد يقلل في القلب تعظيم الحرمات ويجرئ على المعاصي والمخالفات أما مخالطة المسلمين فالضابط النافع فيها أن يخالطهم في الطاعات، ويخالفهم في المعاصي وفضول المباحات، فليس للمسلم أن يعتزل فيترك الجمعة والجماعة ودروس العلم وعيادة المرضى وتشييع الجنائز، ولكنه يعتزل الناس إذا جلسوا للهو والعبث، والتمضمض بالأعراض، وتضييع الساعات في غير الطاعات، وقد يكون الانتقال من مكان إلى مكان وتغيير القرناء والأصدقاء أكبر عون على التوبة، والعمل الصالح، كما في قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، وعندما سأل عالما قال له: (من يحول بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء)) ( [6] ). فقد يكون في الأرض على معصية الله عز وجل من قرناء السوء، وكذا استخفاف الناس بالحرمات.
وكما قيل في الحكمة في تغريب الزاني غير المحصن عاما: وذلك لمفارقة أرض المعصية التي تذكره بالذنب، وحتى يفارق قرناء السوء، رجاء أن تصح توبته، ويستقبل حياة التوبة استقبالا جديدا.
وكما ندب العلماء إلى الفرار بالدين واعتزال أهل الشر والمبتدعين ندبوا كذلك إلى مجالسة الصالحين.
قال بعضهم: مجالسة أهل الصلاح تورث في القلب الصلاح.
وقالوا: الصاحب ساحب.
فإن كان الصاحب من أهل الزهد والورع فإن مجالسته تعين على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، ومجالسة أهل الدنيا والرغبة في أعراضها تسكب في القلب الحرص على الدنيا والرغبة فيها.
قال الإمام النووي في شرح حديث جبريل في الكلام على الإحسان: وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين، ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص، احتراما لهم، واستحياء منهم ، فكيف بمن لا يزال الله مطلعا عليه في سره وعلانيته ( [7] ).
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد [الكهف:18]، إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء، حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه، بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال، المحبين للنبي وآله خير آل ( [8] ).
( [1] ) رواه البخاري (13/13) الفتن.
( [2] ) رواه البخاري (13/74،75) الفتن.
( [3] ) رواه البخاري (11/300) الاعتصام بالكتاب والسنة.
( [4] ) الاختلاط وما ينجم عنه من مساوئ الأخلاق.
( [5] ) الفوائد :46.
( [6] ) رواه البخاري (6/512) أحاديث الأنبياء ، ومسلم (7/235) التوبة.
( [7] ) شرح النووي على صحيح مسلم هامش (1/158).
( [8] ) الجامع لأحكام القرآن (3989) ط. الشعب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/287)
في اللباس فيما يحل منه ما يحرم
الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اللباس نوعان لباس ظاهر ولباس باطن 2- التقوى هي لباس المؤمن باطناً 3- الأصل في
اللباس الحل 4- المحرّم من اللباس للرجال والنساء 5- أدلة التحريم 6- المسنون من اللباس
7- الإسبال 8- الصور على الملابس 9- لبس الذهب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أولاكم من النعم، ودفع عنكم من النقم، فكم رزقكم من الطيبات، وعافاكم من المصائب والبليات، ومن ذلك ما أنزل لكم ربكم من أنواع اللباس؛ لكي تستتروا به وتتجملوا به بين الناس، كما قال سبحانه مذكراً لكم لعلكم تشكرون: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون [سورة الأعراف:26].
فقد امتن سبحانه على عباده بأن أوجد لهم لباساً يسترون به عوراتهم، ويجملون به ظاهرهم لباساً أحسن منه وهو لباس التقوى، الذي يجمل ظاهرهم وباطنهم في الدنيا والأخرى، ولباس التقوى هو الإيمان، الذي يجعل المرء يتقي ربه فيلازم طاعته، ويبتعد عن معصيته، ويستعين بنعمه على تحقيق مرضاته، ويحذر أن تكون ذريعة إلى تعدي حدوده، وانتهاك حرماته، وتقوى الله سبب لسعة الرزق، ويسر الأمر، وتكفير السيئة، وعظم الأجر: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراًً [سورة الطلاق:2-3]. وقال تعالى: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظِم له أجراًً [سورة الطلاق:4-5]. فاتقوا الله في جميع أموركم، واعملوا له شكرا، واتقوه في ملابسكم، لا تكسبوا بها وزرا.
أيها المسلمون: إن هذا اللباس بجميع أصنافه وأشكاله من الزينة التي أخرجها الله وأباحها لعباده، ولقد أنكر سبحانه على من حرم شيئا منها دون برهان، أو تجاوز منها ما جاء به الشرع في شأنها من بيان، كما قال سبحانه في ذكره المصون: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون [سورة الأعراف:32].
فأضاف سبحانه الزينة إليه امتناناً علينا بنعمته، وتنبيهاً لنا أن نتقيد فيها بأحكام شريعته، فلا نتحكم فيها بتحليل أو تحريم، أو نستعملها فيما يخالف الشرع الحكيم: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون [سورة البقرة:229].
أيها المسلمون: إن الأصل في اللباس الإباحة؛ فإنه داخل في عموم قوله: هو الذي خلق لكم ما في الأرض [سورة البقرة:29]. فكله حل لنا إلا ما قام الدليل من الشرع على تحريمه، ولهذا كان المحرم من اللباس قليلا بالنسبة للحلال، عطاء من ذي الفضل والجلال، وعطاؤه سبحانه أوسع من منعه، وهو تعالى لا يمنع عباده من شيء إلا لحكمة بالغة، ومصلحة جامعة، فإنه ذو الرحمة الواسعة، وهناك ضوابط توضح المحرم من اللباس، ينبغي أن يعلمها جميع الناس، وأن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم أمره حتى يزول الإلتباس.
أحدها: ما فيه تشبه بالكفار، كالزي الخاص بهم، أو ما فيه لهم إشارة أو شعار، فإن تحريم التشبه بالكفار في اللباس من الأصول المهمة، التي توافرت بشأنها الأدلة، واشتهر عند سائر الأمة، فكل لباس يختص بالكفار لا يلبسه غيرهم، فلا يجوز للمسلم رجلا كان أو امرأة لبسه، سواء كان لباساً شاملاً للجسم كله أو لعضو منه، لقوله : ((من تشبه بقوم فهو منهم)). فإن التشبه بهم يقتضي شعور المتشبه بأنهم أعلى منه، فيعجب بصنعيهم ويفتن بمشاكلتهم، حتى يجره ذلك إلى اتباعهم في العقائد والأعمال والعوائد والأحوال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله : ((من تشبه بقوم فهو منهم)). أقل أحوال هذا الحديث التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر التشبه بهم.
الثاني: ما يظهر العورة لضيقه أو شفافيته أو قصره؛ فإن الله سبحانه امتن علينا باللباس الذي من فوائده ستر العورة وأخذ الزينة، إذ يقول: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم أي ليستر عوراتكم: وريشاً [سورة الأعراف:26]. أي زينة. فإذا كان اللباس لا يستر العورة فإنه لا يتحقق به التمتع بالمنة ولا التجمل بالزينة، فيجب على الرجال والنساء كل بحسبه ستر عوراتهم، والستر لا يقصد به تغطية البشرة فقط، بل يتعداه إلى تغطية الأعضاء المحكوم شرعاً بأنها عورة لا بد من سترها عن أنظار الناس، سواء منها ما يختص بالصلاة بحيث يكون اللباس واسعاً – نسبياً – سميكاً سابغاً، فلا ينحسر عن العورة، ولا يصفها لضيقه أو صفاقته أو شفافيته، قال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [سورة الأعراف:31]. فالزينة هي اللباس، والمراد بالمسجد الصلاة، فأمر سبحانه العباد أن يلبسوا أحسن ثيابهم وأجملها في الصلاة؛ للوقوف بين يديه، ومناجاته والتذلل له. والتجمل في اللباس مطلوب من المسلم بما أباح الله له من غير إسراف ولا تبذير ولا تكبر ولا مخيلة.
الثالث: التشبه من الرجال بالنساء أو العكس؛ فكل لباس يختص بأحد الجنسين سوءاً كان شاملاً لجميع الجسم كالقميص ونحوه، أو مختصاً بعضوا منه كالسراويل وغطاء الرأس، أو الأطراف كالحذاء والجوارب، في لونه أو هيئته؛ فإنه لا يجوز للجنس الآخر لبسه؛ لما ورد من النصوص الصحيحة الصريحة في وعيد المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، ففي البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله الرجل يلبس لبس المراة، والمراة تلبس لبس الرجل)). فما جرى العرف- الذي لا يخالف الشرع -عليه بأنه من لباس النساء في نوعه أو لونه أو هيئة تفصيله وخياطته، فلا يجوز للرجال لبسه، وهكذا ما تعورف عليه بأنه من لباس الرجال الخاص بهم فلا يجوز للنساء لبسه، ولو على سبيل الهزل أو التمثيل في المناسبات؛ حتى لا يتعرض المسلم للعن، وهو الطرد والابعاد عن رحمة الله، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (لقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض).
فمن راعى الضوابط السابقة، فكان لباسه شرعياً لا مخالفة فيه بوجه من الوجوه، فلا حرج عليه أن يختار ثوبه ونحوه مما يحلو له رجلاً كان أو امرأة بشرط تجنب الشهرة، وليس ثم مانع أن يكون من الأمة من هم أكثر ورعاً يتحرون الأفضل والأكثر ستراً؛ فإن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعملها كثير من الناس، من وقع فيه وقع في الحرام على الدوام.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستعينوا بنعم الله على طاعته، ولا تجعلوها سلماً لمعصيته في ارتكاب مخالفته؛ بل اشكروا نعمه، واحذروا نقمته، واخلصوا عبادته، وأقيموا فرائضه، واحفظوا حدوده: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [سورة البقرة:281].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [سورة الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/288)
في المسارعة إلى الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحات
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالمسابقة والمسارعة إلى الخيرات 2- المسابقة إلى الخيرات هي التجارة الرابحة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وسارعوا إلى مرضاته بجليل الطاعات، وعظيم القربات، واغتنام الفرص والأوقات، اغتنموا حياتكم قبل فنائها، وأعماركم قبل انقضائها، ونعمكم قبل زوالها، وعافيتكم قبل تحولها، ويسر أموركم قبل عسرها، بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا و((بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر؟)).
أيها الناس: إن الله تعالى قد حثنا على المسارعة إلى مغفرته وجنته، فقال سبحانه: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين [سورة آل عمران:133]. وأوضح ربنا سبحانه أن المسارعة إلى مغفرته وجنته ليست بالدعوى ولا بالتمني، وإنما تتحقق بفعل جليل الأعمال الصالحات، التي يحبها ويرضاها رب الأرض والسماوات، من الإحسان إلى الخلق ابتغاء وجهه، وكف الأذى عنهم، وتحمل أذاهم طمعاً في عفوه وإحسانه، ومنها البعد عن اقتراف المعاصي والسيئات، واجتناب الفواحش، وظلم النفس في سائر الأوقات، والمبادرة إلى ذكر الله وطلب مغفرته عند الوقوع في شيء من ذلك جهلاً؛ لعدم علم أو غلبة هوى، والحذر من الإصرار على ما يعلم من الزلات، فقال جل شأنه: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون [سورة آل عمران:135].
فحين ذكروا ربهم علموا خطيئتهم فبادروا إلى الاستغفار، وتجنبوا الإصرار، ولهذا تكرم الله عليهم فوعدهم بالمغفرة والجنة بقوله: أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين [سورة آل عمران:136].
أيها المسلمون: إن المسارعة في الخيرات صفة جامعة لفنون المحاسن المتعلقة بالنفس وبالغير، وهي من فرط الرغبة في الخير، فإن من رغب في أمر سارع في توليه والقيام به، وآثر الفور على التراخي فيه، ولذلك يسابق إليه إحرازاً لقصب السبق، وحذاراُ من الفوات، ولهذا أمر الله تعالى به حيث يقول: فاستبقوا الخيرات [سورة المائدة:48].
واستباق الخيرات يتضمن المبادرة إليها وفعلها على أحسن الوجوه، وتكميلها بإيقاعها على أكمل الأحوال، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل من صلاة وصيام، وزكاة وحج وعمرة، وجهاد، وبر الوالدين وصلة الارحام، ونفع خاص أو عام. والمسارع والمستبق في الدنيا إلى الخيرات هو السابق في الآخرة إلى الجنات، قال تعالى: إ ن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون اولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [سورة المؤمنون:57-61]. فهذه شهادة من الله للمسارعين في الخيرات أنهم سابقون إلى الجنات، كما قال تبارك اسمه: والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً [سورة الواقعة:10-26].
فالسابقون إلى الخيرات هم أعلى أهل الجنة درجات، وهم أقربهم إلى الله تعالى وأعظمهم منهم كرامات: إن المتقين في جنات ونَهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر [سورة القمر:54-55].
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن أهل الجنة صفوف، وأنهم مائة وعشرون صفاً، وأن أقربهم من الله تعالى أعظمهم في الدنيا مسارعة إلى الخيرات، وأسبقهم إلى صفوف الصلاة، وفي الحديث الصحيح يقول : ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول – أي من الخير – ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه – أي يقترعوا – لاستهموا)). وفي الحديث الذي رواه مسلم أيضاً يقول : ((خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها)).
فسارعوا رحمني الله وإياكم إلى المغفرة والجنات في استباق الخيرات، واغتنام الأوقات، فإن في ذلكم التجارة الرابحة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور [سورة فاطر:29-30]. وقال ربكم في وصف هؤلاء: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب [سورة النور:37-38].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/289)
معايير الحق والتحذير من البدع
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة للتمسك بالكتاب والسنة 2- بيان الأصل الأول الذي يتمسّك به المسلم ( الكتاب )
3- بيان الأصل الثاني الذي يتمسّك به المسلم ( السّنة ) 4- التمسّك بالسنة دِلالة محبة النبي
5- ظهور الفِرَق , ومزية الفرقة الناجية
6- الابتداع استدراك على الله في شرعه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واتبعوا ما جاءكم من ربكم من النور والهدى، واستمسكوا بسنة نبيكم محمد تنجوا من فتن عظيمة في زمانكم تترى، وإياكم والمحدثات في الدين، فإنها هي البدع التي تضل عن الهدى، وتورث العمى، وتسلب النعمى، وتجلب الردى، وتهوي بصاحبها إلى جرف من النار تلظّى.
أيها المسلمون: كان نبيكم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم. ويقول: ((بعثت وأنا والساعة كهاتين)) [1] ، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: ((أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)). وفي رواية للنسائي رحمه الله زيادة: ((وكل ضلالة في النار)) [2].
ولقد حدث الصحابي الجليل العرباض بن سارية فقال: وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)) [3].
أيها المسلمون: هذا بيان نبيكم محمد ووصيته إياكم وتبليغه لكم؛ فهل بعد هذا البيان بيان؟ وهل وراء هذه الوصية وصية؟ وهل فوق هذا التبليغ تبليغ؟ لقد تضمن هذان الحديثان الجليلان فيما تضمناه من الوصايا الكريمة والنصائح المهمة: التأكيد على أصول اعتقادية عظيمة، وقواعد منهجية راسخة، وموازين سلوكية مستقيمة يقوم عليها الإيمان، ويحفظ بها للعقيدة الأساس والبنيان، وتوزن بها المقاصد والأعمال والأقوال، وتعرف بها أحوال الرجال، وتعرض عليها الحوادث المستجدة، ويُقوَّم بموجبها سلوك الفرد والأمة، ويضمن المستمسك بها ممن خلف السير في كل الأمور على هدي خير السلف.
أيها المسلمون: فأصل تلك الأصول التي أمر الرسول بالتمسك بها كتاب الله خير الحديث، وأصدق القول، وأشرف الذكر، وأعظم الذخر، فإنه حبل الله المتين، ونوره المبين، وصراطه المستقيم، الهادي لكل أمر قويم، وهدى مستقيم، من تمسك به رفعه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، ومن تركه من جبار قصمه الله، نعته الله بأجمل نعت، ووصفه بأكرم، وصف بأنه ذكر للعالمين، ورحمة للمؤمنين، وهدى للمتقين، وبشرى للمحسنين، ما فرط الله فيه من شيء؛ بل جعله تبياناً لكل شيء، يهدي للتي هي أقوم، ويرشد إلى الخلق الأعظم، فهو ذكر وذكرى، ونور وهدى، وموعظة وبشرى، قال فيه المتكلم به سبحانه: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى [سورة طه :123-124].
وجاء في الصحيح السنة المطهرة: أن القرآن يأتي شفيعا لأهله يوم القيامة، وأن من كان القرآن خصمه فإنه يحرم الشفاعة، ويخلد في النار وبئس القرار.
فاتلوا القران – عباد الله – وتدبروه، واعملوا به ولا تهجروه، وتحاكموا إليه وارضوه، وما أشكل عليكم منه فالتمسوا بيانه في السنة الصحيحة تجدوه، فإنكم عنه مسؤولون: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون [سورة الزخرف:44].
أيها المسلمون: وأما ثاني تلك الأصول التي نص عليها الرسول فهي السنة الغراء المبينة للهدى، فإنها تفسر القران وتبينه أبلغ البيان، تفسر مجمله، وتوضح مشكله، وتفتح مغلقه، وتقيد مطلقه، وتخصص منه العام، وتستقل عنه ببعض الأحكام، فقد وكل الله إلى نبيه تبيين ما نزل إليه، كما جاء في القران النص عليه: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [سورة النحل:44]. فالرسول هو الداعي إلى الله والمبين لدينه وهداه، والدال لجميع الناس على كل ما يحبه ويرضاه، والمنذر للعصاة من هول يوم لقاه، فأسلم الناس من الفتن من تمسك بمأثور السنن، وأسعد الناس بشفاعته من أخلص لله في عبادته، وتمسك في سائر أحواله بهديه وسنته، وأولياء الله حقا هم السائرون على منهاجه صدقا، فإنه أسوة المؤمنين، قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً [سورة الأحزاب:21].
فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتأسَّ بنبيه في الباطن والظاهر، ومن ادّعى محبة الله فليأت ببينة على ما ادعاه باتباع حبيبه محمد ومصطفاه، ومن تولى عن دينه وهداه ولاه الله ما تولاه، وما ظلمه قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [سورة آل عمران:31-32].
ولهذا شهد الله بالإيمان والفلاح لمتبعيه، وتوعد بالفتنة والعذاب مخالفيه، قال تعالى: فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [سورة الأعراف:157]. وقال تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [سورة النور:63].
ومن خالف أمره فقد رغب عن سنته، ومن رغب عن سنته خشي عليه أن لا يكون من أهل ملته، وأن يحال بينه وبين رحمة الله وجنته، قال : ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)) [4]. وقال: ((كل أمتي يدخل إلا من أبي)) قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [5]. فمن تمسك بالكتاب والسنة فقد أخذ بأسباب الرحمة، وفاز بالعصمة، وأمن من الضلالة والفتنة، فالمتمسك بهما محفوظ، وليبشر من الله تعالى في الدنيا والآخرة بالخير وأعظم الحظوظ.
أيها المسلمون: وأما سنة الخلفاء الراشدين والصحابة المهديين، فإنها طريق الاستقامة، ومنهاج الكرامة، وهي على توفيق متبعهم فيها علامة، فإنهم رضي الله عنهم هم خيار أصحاب النبيين، وأشرف الحواريين، كيف لا وهم قوم أختارهم الله لصحبه نبيه، وائتمنهم بعده على دينه ووحيه، فهم خلفاء الرسول في أمته، السائرون على هداه وطريقته، والقائمون بعده بتبليغ رسالته، أبرُّ هذه الأمة قلوبا، وأصدقها ألسنا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فهم أئمة الأئمة، وهداة جميع الأمة، أثنى الله عليهم بالمسارعة إلى الخيرات، وشهد لهم بالسبق إلى أعلى الدرجات، وأخبر أنهم خير أمة أخرجت للناس، وجعلهم في الدنيا ويوم القيامة الشهداء على الناس، من سلك سبيلهم فهو على الهدى، ومن ترك طريقهم فقد اتبع الهوى فهوى، وسيولِّيه الله يوم القيامة ما تولى، قال تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً [سورة النساء:115].
فعليكم عباد الله بما كان عليه الصحابة؛ فإنهم أهل الجنة والفلاح والإصابة، أخبر النبي أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فسئل عنها فقال: ((هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)). فاتباعهم هم الفرقة المبرورة المشكورة، والطائفة الظاهرة بالحق والمنصورة، التي لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، حتى يأتي الله بأمره، جعلنا الله وإياكم بهم مقتدين، ولهم في كل شيء متبعين، وبهديهم ظاهرين، وجمعنا بهم في دار كرامته يوم الدين.
أيها المسلمون: فالكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة وأتباعهم من سلف الأمة، هي براهين الحق، وموازين الاستقامة، ومعالم التوفيق، وهي القسطاس المستقيم التي ينبغي أن يوزن بها كل جديد، وأن تحكم في القريب والبعيد، وأن يخضع لها الدقيق والجليل، والكثير والقليل، فهي والله قاصمة لظهور المنافقين، وقاضية على بدع المبتدعين، وكاشفة لشبهات المشتهين، ومبينة لزيغ الضالين المبطلين في الحق والصدق: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق [سورة الأنبياء:18]. فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [سورة العنكبوت:3].
أيها المسلمون: وأما الأمور التي حذر منها النبي في خطبته، وزجر عنها في بليغ موعظته، فهي محدثات الأمور التي يخترعها ويرتكبها متبعو الأهواء في سائر العصور، وكم فيها من أنواع الفتن في الأرض والفساد والكبير، فإن المبتدع يتقرب إلى الله بعمل يخترعه من عند نفسه أو يتبع فيه غيره، ويعده من دين الله، ويدعو إليه من استطاع من عباد الله، مع أنه ليس له اصل في القرآن، ولم يقوم عليه من سنة النبي برهان، ولم يكن من هدي الصحابة الكرام، ولا التابعين وأتباعهم من أئمة الإسلام.
فالبدع كلها شر وضلال، وشقاء عظيم في الحال والمآل، فإنها تبديل للدين، وتضليل للمسلمين، واتباع لسنن الجاهلين والمغضوب عليهم والضالين، وهي استدراك على الله في شرعه، أو اتهام للنبي في تبليغه وبيانه، أو وصف للصحابة رضي الله عنهم – وحاشاهم – بالسذاجة وعدم الفقه، أو سوء القصد، أو قلة الرغبة في الخير، وهي تفريق للدين وتشتيت للمسلمين، وفتح لباب يدخل منه الكافرون والمشركون في حربهم للدين وأهله المؤمنين، قال تعالى: ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون [سورة الروم:31-32].
وأي ضلال أعظم من الاستدراك على الله في شرعه أو القول عليه بلا علم؟! وأي نفاق أخطر من اتهام النبي في تبليغه ما أنزل إليه من ربه؟! وأي غرور أشد من ازدراء الصحابة بنسبتهم إلى التقصير فيما يكمل الإيمان، أو نقص شكرهم لنعم الله مولى الفضل والإحسان، فقبح الله المبتدعة ما أنقص عقولهم وسفه أحلامهم، وتبّا لهم ما أقبح بضاعتهم وأخسر صفقتهم: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين [سورة البقرة:16]. كيف يتقربون إلى الله بما اخترعوا من البدع ويعدونها أفضل وأحسن مما شرع؟! قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً [سورة الكهف:103-104].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الهدى والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم أنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (1435).
[2] سنن النسائي (1560).
[3] مسند أحمد (4/126)، سنن أبي داود (3991)، سنن الترمذي (2600)، سنن ابن ماجة (42).
[4] صحيح البخاري (4675)، صحيح مسلم (2487).
[5] صحيح البخاري (6737).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي مرنا بالاتباع ونهانا عن الابتداع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والابداع، فحقه أن يعبد وحده ويطاع، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فرض الله على المؤمنين به الطاعة له والاتباع.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واحذروا البدع في الدين، وتجنبوا سبل المبتدعين، فإن الله تعالى قد أكمل لكم الدين، وأتم به النعم على جميع المسلمين، وإن البدع تسود الوجوه، وتطمس القلوب، وتعمي البصائر، وتصد عن الهدى، وتجلب على أهلها التعاسة والشقاء، فالمبتدعة مشغولون ببدعهم عن حقيقة طاعة الله، معرضون عن سنة نبيهم محمد وهداه، قد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم فصدهم عن سبيل الجنة وسبب السعادة والنجاة، وعدهم الشيطان ومنّاهم غروراً حتى أدخلوا في دينهم آصارا، وحملوا من سوء أعمالهم وقبيح فعالهم أوزارا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [سورة النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/290)
الصلاة وصلتها بأصل الدين
الإيمان, فقه
الصلاة, حقيقة الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أصل الإيمان أركانه الستة , وفروعه وشعبه أعمال الإسلام الظاهرة – حقائق هامة تتعلق
بموضوع الإيمان : 1- فساد الأصل يؤدي إلى فساد الفرع , كالشجرة إذا فسد جذعها وأصلها
2- أن سلامة الأصل يظهر أثرها على الفرع 3- زوال بعض الفروع لا يعني زوال الشجرة
بالكلية , وإذا زال الجذع زالت الشجرة بالكلية – الصلاة كالجذع للشجرة وكالعمود للخيمة إذا
زالت زال الإيمان 4- الإيمان والإسلام أمران متداخلان بينهما صلة وثيقة , والنصوص الدالة
على ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن هذا الدين مثله كمثل الشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وكما أن الشجرة لها أصلاً وفروعاً وشعباً وأغصاناً فإن لهذا الدين أصلاً وفروعاً وشعباً وأغصانا.
أما أصله فثابت في قلب كل مؤمن وهو الإيمان بالأركان الستة التي أولها توحيد الله عز وجل، وأما فروعه وشعبه وأغصانه فهي أعمال الإسلام الظاهرة وشرائعه الظاهرة.
والشجرة لا تموت بموت بعض أعضائها وشعبها وفروعها ولكنها لا تبقى إذا مات أصلها، وكذلك لا تبقى الشجرة إذا عُدمت فروعها وأعضاؤها وشعبها بالكلية، ولا تبقى الشجرة كذلك إذا فني أصلها.
وقد سمى النبي ما يتعلق بأمور الاعتقاد سمى ذلك إيمانًا.
وأما ما يتعلق بالأعمال الظاهرة والشرائع الظاهرة سماه إسلامًا وذلك في حديث جبريل المشهور بعد أن بين النبي معنى الإيمان، قال له جبريل: أخبرني عن الإسلام. فقال النبي : ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)) [1].
قال جبريل: صدقت.
فبين النبي في هذا الحديث أن ما يتعلق بأمور الاعتقاد القلبي فهو إيمان وهو الإيمان بالأركان الستة، ونحن بعون الله وتوفيقه منذ بدأنا حتى اليوم في هذا المنبر نشرح الركن الأول من تلك الأركان الستة من أركان الإيمان الستة وهو الإيمان بالله عز وجل.
وهاهنا حقائق يجب أن ننتبه لها في هذا الموضوع فإنها تجلي لنا كثيرًا من مشكلاته وتوضح لنا كثيرًا من مبهماته.
أول هذه الحقائق: أنه لا يُتصور بقاء جرم الشجرة بجذعها الذي هو لها كالعمود للخيمة وبفروعها وأغصانها لا يُتصور بقاء جرم الشجرة إذا فنى أصلها وفسد أصلها، فإن فناء الأصل وفساد الأصل يؤدي دائمًا وعادة إلى فساد الشجرة كلها، وهكذا أمر هذا الدين للإنسان إذا فسدت عقيدته وفسد إيمانه فسد دينه كله فإنه إسلام بلا إيمان ودين بلا إيمان.
وثانيها: ثاني هذه الحقائق أنه لا يُتصور أبدًا أن تبقى الجذور سليمة ويبقى الأصل سليمًا يجري فيه ماء الحياة ثم لا يمتد فيه ماء الحياة هذا لا يمتد ماء حياته هذا إلى جرم الشجرة إلى جذعها وفروعها وشعبها وأغصانها لا يُتصور ذلك أبدًا، فإن الأصل إذا بقى سليمًا والجذور إذا بقيت حية لابد أن تنبت وتظهر أثرها للعيان ثم تؤتي أكلها بإذن ربها.
فإذا بقي الأصل سليمًا فإنه لابد أن يظهر أثره ويمتد ماء حياته إلى جرم الشجرة إلى فروعها وشعبها وأغصانها وثمارها وأزهارها اليانعة.
وهكذا أمر هذا الدين للإنسان فإن الإنسان المكلف إذا لم يأت بشيء أبدًا من شرائع الإسلام وفرائضه وأعماله الظاهرة، لم يأت بشيء من ذلك أبدًا فإن هذا دليل على أنه ليس بمؤمن، هذا دليل على أنه ليس بمؤمن فإن الإعراض الكلي والترك الكلي لفرائض الإسلام وأركانه ينفي ويلغي عن صاحبه اسم الإسلام وإذا انتفى اسم الإسلام عن الإنسان دل ذلك على انتفاء الإيمان من قلبه أيضًا.
وثالث هذه الحقائق: أنه إذا زال بعض جرم هذه الشجرة دون بعض لا يعني ذلك بالضرورة زوال الشجرة بالكلية.
ولكن يختلف هذا بحسب موقع ذلك البعض الزائل فإن فروع الشجرة وأغصانها وثمارها وأزهارها إذا زالت لا يستلزم ذلك زوال الشجرة، كلا فإن الشجرة تبقى بجذعها وأصولها وإن كانت تبقى حينئذ شجرة ناقصة إما نقصًا شديدًا أو نقصًا خفيفًا بحسب تلك الفروع والشعب والأغصان الزائلة.
ولكن إذا زال جذع الشجرة الذي هو لها كالعمود للخيمة زالت الشجرة كلها عُدمت الشجرة كلها والصلاة في هذا الدين، الصلاة عمود هذا الدين فهي في هذا الدين كالجذع للشجرة وكالعمود للخيمة، فإذا ترك العبد الصلاة تركًا كليًا وأعرض عن الصلاة إعراضًا كاملاً زال إسلامه وبطل إيمانه وفسد عليه أمر دينه لأن الصلاة عمود هذا الدين، هي بالنسبة لشجرة الإيمان كالعمود بالنسبة للخيمة، وإذا انهار عمود الخيمة انهارت الخيمة أجمعها، هذا هو شأن بعض جرم تلك الشجرة إذا زال، زالت الشجرة بالكلية، وبعض آخر مهما زال لا يزول جرم شجرة الإيمان بالكلية ولكن يبقى ناقصًا نقصانًا شديدًا أو نقصانًا خفيفًا.
ورابع هذه الحقائق: يتعلق بفهم نصوص الشرع الواردة في هذا الموضوع فقد جاء بعض الآيات القرآنية تصف بعض أمور القرآن، تصف بعض أمور الاعتقاد القلبية، تصف بعض أمور الإسلام وتصف بعض الأعمال الظاهرة تصفها بالإيمان، تسميها إيمانًا.
وتصف الإيمان بأنه يزيد وينقص.
قال تعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم [البقرة:143]. قال المفسرون أي صلاتكم فسمى الله الصلاة إيمانًا والصلاة من أعمال الإسلام الظاهرة، وقال عز وجل: فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [آل عمران:173].
وقال في مواضع أخر: ليزدادوا إيمانًا [الفتح:4]. فوصف الإيمان بأنه يزيد وينقص.
وقال سبحانه وتعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون [الأنفال:2-3].
ففسر سبحانه وتعالى الإيمان ببعض الأعمال القلبية الاعتقادية وهى وجل الله والخشية من الله عز وجل وزيادة الإيمان والتوكل على الله عز وجل. وفسره في نفس الوقت، فسر الإيمان ببعض الأعمال الظاهرة ببعض شرائع الإسلام الظاهرة وهي الصلاة والزكاة.
والنبي في حديث وفد عبد القيس فسر الإيمان بأعمال الإسلام الظاهرة وشرائعه وفرائضه الظاهرة فقال : ((أتدرون ما الإيمان؟ الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتصوموا رمضان وتعطوا الخمس من المغنم)). هكذا فسر النبي الإيمان في وفد عبد القيس بأعمال الإسلام الظاهرة.
وفي حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه الذي رواه أحمد [2] في مسنده فسر النبي الإسلام ببعض الأعمال القلبية وبعض الأعمال الظاهرة معًا. فقال لعمرو بن عبسة: ((الإسلام أن تسلم قلبك لله)) وهذا من الأمور القلبية الاعتقادية. هذا من أعمال القلب وهذا من أمور الإيمان فسر به النبي الإسلام.
قال: ((الإسلام أن تسلم قلبك لله وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك)) وهذا من الأعمال الظاهرة، هذا من أعمال الإسلام وشرائعه الظاهرة ففسر النبي الإسلام بالأمرين وبالناحيتين بالأمر الاعتقادي القلبي الإيماني وبالأمر الإسلامي الشرعي، بالأعمال الظاهرة بشرائع الإسلام الظاهرة، فسر الإسلام بهما معًا.
ثم قال له عمرو بن عبسة رضي الله عنه: فأي الإسلام أفضل قال : ((الإيمان)) فأدخل الإيمان ضمن الإسلام.
قال عمرو: ما الإيمان؟
قال النبي : ((الإيمان أن تؤمن بالله وكتبه ورسله والبعث بعد الموت)) هكذا فسر النبي الإسلام في هذا الحديث بالأعمال الاعتقادية القلبية وبأعمال الإسلام الظاهرة وشرائعه الظاهرة وأدخل الإيمان ضمن الإسلام.
دل هذا كله على أن الإيمان والإسلام أمران متداخلان متصلان بينهما صلة وثيقة وتلازم شديد ويطلق أحدهما على الآخر ويدخل أحدهما ضمن الآخر عند الإطلاق، فإذا قيل إسلام دخل فيه الإيمان، وإذا قيل إيمان دخل فيه الإسلام، فإذا جُمع بينهما في كلام واحد وفي سياق واحد اختلف معناهما كما جاء في حديث جبريل الذي ذكرناه آنفًا يصير الإيمان حينئذ بمعنى الاعتقاد اعتناق الأركان الستة، ويصير الإسلام حينئذ بمعنى الأعمال الظاهرة، شرائع الإسلام وفرائضه الظاهرة وأعماله الظاهرة فرائض كانت أم نوافل يكون هو ذلك معنى الإسلام.
وقد فسر النبي الشجرة [3] في المثل القرآني الذي ضربه الله عز وجل لهذا الدين في قوله تعالى: كشجرة طيبة فسر الشجرة بالنخلة، فالنخلة أصلها ثابت في أعماق الأرض راسخ في طبقات الأرض وفرعها مرتفع في عنان السماء شامخ وبارز للعيان، وهكذا هذا الدين أصله الذي هو الإيمان والعقيدة راسخ وثابت في قلب المؤمن وفرعه الذي هو أعمال الإسلام الظاهرة وفرائضه وشرائعه ونوافله بارزة ظاهرة مرتفعة بصاحبها إلى السماء تسمو به إلى الطبقات العلوية ولا يزال المؤمن كلما استكمل شرائع الإسلام وفرائضه وأعماله واجبات كانت أم نوافل مازال يسمو به ذلك إلى أعلى عليين حتى يصل به إلى ذروة السنام بالجهاد.
وقد وصف النبي أمر هذا الدين بأن له رأساً وله عموداً وله ذروة سنام. فكما أن الشيء لا يعيش بغير رأس فهو لا يبقى بغير عموده. فرأس هذا الدين هو الإسلام كما قال النبي : ((رأس هذا الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد)) [4].
فكما أن الشيء لا يبقى بغير رأسه وهذا الدين لا يبقى ولا يسلم لصاحبه بغير التوحيد وبغير أصل الإسلام فكذلك الشيء لا يبقى بغير عموده ينهار إذا انهار عموده، فكذلك هذا الدين لا يبقى لصاحبه بغير الصلاة التي هي عمود الإسلام، لكنه قد يبقى لصاحبه بغير ذروة السنام الذي هو الجهاد فإن الجهاد في أكثر الأحيان فرض على الكفاية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون [إبراهيم:24-25].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه (1/36) رقم (1).
[2] أخرجه أحمد في مسنده (4/114) وعبد بن حميد (301).
[3] أخرجه البخاري في صحيحه في العلم (1/34) رقم (62).
[4] أخرجه أحمد (5/231) والترمذي (2616) وابن ماجه (3973) وغيرهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فق رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين عليّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة (1/306) رقم (408).
(1/291)
اجتهاد السلف في العبادة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
8/9/1417
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلقِنا عبادة الله 2- الله يُحب من تَقرّب إليه بالفرائض والنوافل 3- صور من
محافظة السلف على الصلاة 4- ترك المعاصي 5- عبادة التفكّر 6- السلف يجتهدون في
العبادة 7- دعاء وموعظة
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الله تعالى لم يخلق العباد لكي يتمتعوا بالدنيا وزينتها، إنما خلقهم ليعبدوه كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، ولقد امتن الله تعالى علينا إذ شرفنا بأن نادانا بقوله: يا عبادي ، ومما هو معلوم أن العبادات أنواع كثيرة، فمن أفضلها الفرائض، لقوله تعالى في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه)) ، وأعظم الفرائض الصلاة، من أداها في وقتها في بيت من بيوت الله فقد تقرب إلى الله بأحب الأعمال إليه، ولقد قال ابن مسعود عن مجتمع الصحابة:" ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف"،وهذا أحد التابعين عامر ابن عبد الله ابن الزبير يسمع أذان المغرب وهو يجود بنفسه، فيطلب من أهله أن يحملوه إلى المسجد، وهم يحاولن أن يثنوه عن مطلبه وهو يقول: أسمع داعي الله ولا أجيبه؟ فيحملوه إلى المسجد فيصلي ركعة مع الإمام ثم يموت رحمه الله وقد ختم له بخير، يقول عمر ابن عبد العزيز: أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم، لذا كان لزاما علينا عباد الله إن أردنا أن نتقرب إلى ربنا في هذا الشهر أن نحافظ على الصلاة مع الجماعة، ومن العبادات المهمة ترك المحرمات، لأن المحرمات تمنع صاحبها من التلذذ بالطاعات والعبادات، كما قال بعضهم: لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سدا، وقال الحسن البصري لمن شكى له عدم قدرته على قيام الليل فقال: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم قد كبلتك خطيئتك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( وما نهيتكم عنه فانتهوا )) ، فيجب على المسلم أن يترك المحرمات لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا علمنا أن الدنيا والآخرة ضرتان، إذا أرضيت واحدة أسخطت الأخرى، واعلموا عباد الله أن من العبادات التي يغفل عنها كثير من الناس التفكر في مخلوقات الله وبديع صنعه، فإن ذلك يورث تعظيما لله ومحبة وإجلالا، يقول سعيد ابن المسيب: العبادة التفكر في أمر الله والكف عن محارم الله، وسُألت أم الدرداء أي عبادة كان أبو الدرداء أكثر فقالت: التفكر والاعتبار، وكان أبو الدرداء يقول: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، ونبينا صلى الله عليه وسلم وهو القدوة في العبادة وفي كل شيء، كان طويل الصمت كثير التفكر، يقوم حتى تتفطر قدماه، يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم، وكان إذا صلى سُمع لصدره أزيز كأزيز المرجل يغلي، وكان مع عبادته يجاهد في سبيل الله ويخالط الناس ويعلمهم، لأن ذلك أيضا من العبادة، فحياته عليه الصلاة والسلام كلها عبادة، وهذه حال من اقتدى به من سلفنا الصالح، فهذا أبو موسى الأشعري اجتهد في العبادة في آخر حياته وقد كبر سنه، فقيل له أرفق بنفسك، فقال: إن الخيل إذا أُرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك، وهذا حسان ابن أبي سنان يرحمه الله كان يقوم الليل ويبكي، فقالت له امرأته: كم تعذب نفسك، فقال لها: ويحك، إني أوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمنا، ويقول إبراهيم ابن شماس: كنت أرى أحمد ابن حنبل يحيي الليل وهو غلام، وانظروا أيها الكرام من صار ذلك الغلام الذي كان يحيي الليل، ومن فضل الله علينا أن نوع لنا أنواع العبادة، ولم يحصرها في صيام التطوع أو قيام الليل، بل جعل لنا أنواعا مختلفة ليختار العبد منها ما يناسبه ويرتاح إليه وكان فضل الله علينا عظيما، أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، إن من العبادات القلبية ما لا يقل أهمية عن الصلاة والصوم والتفكر، كالخشية والتوكل والإنابة والاستغاثة بالحي الذي لا يموت، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية، كان إذا جن الليل انفرد بربه ضارعا إليه، يقول الذهبي: لم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وتوجهه إلى ربه، وكان مع ذلك صائما قائما عابدا مجاهدا، ختم القرآن في سجنه أكثر من ثمانين ختمة، وكان سفيان الثوري العالم المحدث الفقيه، الذي طاردته السلطات لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، كان يبكي ويقول لمن يسأله: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيا، وهذا الخليفة الزاهد عمر ابن عبد العزيز كان إذا فرغ من قضاءه بين الناس وصلى العشاء، دخل مصلاه يدعو ويصلي ويبكي حتى تغلبه عينه، حتى إذا انتبه دعا وبكى حتى تغلبه عينه، فهو كذلك حتى يصبح، عباد الله إن الأمثلة كثيرة جدا لعبادة سلفنا الصالح، وهم ما وصلوا إليه من العز والمجد إلا بإصلاحهم ما بينهم وبين ربهم، وبكفهم عن المحرمات وبالعبادة الصالحة الخالصة، لذا ينبغي علينا عباد الله أن نُري الله منا في هذا الشهر ما يرضيه عنا من إقلاع عن الذنوب ومسارعة في الخيرات، فإنما هي أيام قلائل، ولو أنا نظرنا إلى العباد والعلماء الذين تقدم شيء من أخبارهم، لوجدنا أنهم قد ماتوا وتوارت أجسادهم عن الأنظار، وذهب عنهم تعب القيام وعطش الصيام، وما بقي إلا لذة العبادة وأجرها، وكأن لسان حال أحدهم: ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله، فلنبادر الموت بالأعمال الصالحة والتوبة إلى الله، وليكن حالنا كحال ذلك الشاب الذي سُمع مرة يبكي في جوف الليل وهو يدعو ربه: اللهم وجلالِك ما أردتُ بمعصيتي مخالفتَك، ولكني عصيتك إذ عصيتك بجهلي، وما أنا بعذابك بجاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولا بنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي وأعانني عليها شقوتي، وغرني سترك المرخي علي، فمن يستنقذني من عذابك ومن يخلصني من زبانيتك، وبحبل من أتصل إن أنت قطعت عني حبلك، واسوأتاه، إن قيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا، ويحي كلما طال عمري كثرت ذنوبي ، فيا ويلي كم أتوب وكم أعود، ولا أستحي من ربي، فقرأ قارئ في جوف الليل: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون"، فاضطرب ذلك الشاب وارتعد ثم سقط مغشيا عليه، وما لبث أن مات خوفا وفرقا من العزيز الجبار.
(1/292)
صفة المنافقين والتحذير منهم
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
5/5/1408
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أصناف الناس كما جاء في أول سورة البقرة , وبسط الحديث عن المنافقين , لِعِظَم خطرهم
وللتحذير منهم – أهم صفة لهذا العدو خفاؤه ومكره في السر , والحذر من اتخاذهم بطانة
والركون إليهم , وعاقبة ذلك – يقظة السلف وحذرهم من المنافقين والمشركين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : إن الله تبارك وتعالى صنف عباده في أول سورة البقرة إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين، وأنزل في ذلك عشرين آية في أول هذه السورة.
منها ثلاث آيات في وصف المؤمنين وآيتان في وصف الكافرين، وثلاث عشرة آية في وصف المنافقين، بين فيها أحوالهم وكشف أسرارهم وصور طبائعهم ونفسياتهم وطريقة تفكيرهم ومنطقهم.
وقد تحدث القرآن عن المنافقين في مواضع كثيرة. وفي سور عديدة وأكثر ما تحدث عنهم في سورة التوبة حتى سميت الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وكشفت أحوالهم وبينت أسرارهم ودواخلهم وخططهم ثم فرغت سورة بأكملها للمنافقين كشفت أيضًا أسرارهم وأساليبهم وبينت شيئًا من خططهم سميت سورة المنافقين كل هذا لتحذير المجتمع المسلم من خطر هذا العدو الهدام الذي يحاربهم من داخلهم، ويسعى إلى تدميرهم خلسة وخفية حتى لا تراه الأعين ولكن يجب أن تكتشفه البصائر، إن أهم سمة وأخطر صفة لهذا العدو الهدام المدمر هي صفة الخفاء فهو خلال المجتمع المسلم، داخل خلال المجتمع المسلم، يظهر التعاطف معهم ويخفي كفره وعداوته معه في باطنه، فالمكر والخداع والكذب هي أساليبه وأدواته لكن إذا سنحت الفرصة ووجد ثغرة ينفذ منها لضرب المسلمين فإنه يكون حينئذ أشد قسوة ووحشية ونكاية للمؤمنين من أي عدو مجاهر، كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون [التوبة:8].
إن قدرة المنافقين على التحرك في الخفاء وسعيهم لتدمير المجتمع المسلم من داخله جعل خطرهم أشد وأعظم وأنكى من خطر العدو المجاهر الكافر المعلن لكفره ولعداوته لأن أمر العدو الكافر المجاهر واضح للعيان فيأخذ المسلمون حيطته منه واستعدادهم له بخلاف هذا العدو الهدام الخفي المتسلل بين صفوفنا بخلاف المنافقين، وقد تسللوا إلى داخل المجتمع المسلم وتشكلوا بشكله وتصوروا بصورته، فإنهم كإبليس وجنوده يروننا من حيث ما نراهم، وقد نغتر بظواهرهم ونركن إليهم ونسند إليهم بعض شئوننا يديرونها ونسلم إليهم بعض أمورنا يدبرونها، وربما فعلنا أكثر من ذلك.
إذا كانت الغفلة فينا نحن المسلمين مستحكمة ربما اتخذناهم بطانة نأتمنهم على أسرارنا ونسلطهم على دواخلنا وفي ذلك الخطر كل الخطر وأعظم من هذا خطرًا إذا تمكن هؤلاء المنافقون من التقرب من ولاة المسلمين وأمرائهم وحكمائهم ونالوا الحظوة لديهم وأصبحوا من أعوانهم المقربين، وقد يُسندون إليهم أشد الأعمال خطرًا وشأنًا وأعظمها وأهمها شأنًا فيضطلع هذا العدو الخفي الهدام على أسرار المسلمين ويكتشف مكامنهم ومداخلهم ونقاط الضعف فيهم، حتى إذا جاءت الفرصة وفار التنور أنشبوا أظافرهم ومخالبهم وكشروا عن نابهم.
والله تبارك وتعالى من رحمته بعباده المؤمنين ولطفه بهم ورعايته لهم حذرهم من هذا العدو الخفي المدمر، حذرهم من المنافقين ومن اتخاذهم بطانة والركون إليهم والانخداع بظواهرهم، حذرنا نحن المؤمنون من ذلك أيما تحذير، إنه تحذير مفصل واضح كالشمس.
قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم أي من أهل ملتكم ممن يخالفونكم في الدين ويناصبونكم العداوة ولو في بواطنهم لا يألونكم خبالاً أي لا يترددون في تدميركم وإلحاق الأذى والضرر بكم بكل وسيلة ممكنة لهم ودوا ما عنتم ما يشقيكم ويتعبكم ويربيكم ويرهقكم يسرهم يودون ذلك ويحبونه ويسعون إليه قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون [آل عمران:118].
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا إن الله بما يعملون محيط [آل عمران:120].
إن اتخاذ البطانة من هؤلاء الكافرين ممن هو دوننا من أهل ملتنا ممن يفارقوننا في الدين وإن أخفوا ذلك في بواطنهم وهم يظهرون لنا حلاوة اللسان ولين الجانب والتفاني في إرضائنا وخدمتنا والسعي لإجابة أهواءنا وخدمة شهواتنا، إن اتخاذ البطانة من هؤلاء المنافقين كان من أكبر الأسباب والعوامل لتدمير الدول الإسلامية في الماضي بل ولحلول الكوارث والنكبات العظيمة على المجتمع المسلم كله.
عندما غفل المسلمون حكامًا ومحكومين عندما تحكمت فيهم شهواتهم فحجبت عقولهم وبصائرهم من هذا الجانب الخطير، فركنوا إلى من هو دونهم من غير أهل ملتهم واستخدموهم واستعانوا بهم واتخذوا البطانات منهم فحلت الكوارث وانهارت الدول بينما الصدر الأول أصحاب رسول الله كانوا متيقظين أشد التيقظ لهذا الجانب، فلم يكونوا يسمحون أبدًا بأي ثغرة ينفذ منها أحد ممن هو دونهم من غير أهل ملتهم من المنافقين من هذا العدو الخفي الهدام، ما كانوا يسمحون أبدًا لهذا العدو الخفي الهدام أن ينفذ في مجتمعهم ويتسلل خلال صفوفه.
روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وكان قد ولاه الفاروق عمر بن الخطاب ولاه على البصرة أميرًا، يروي أبو موسى الأشعري فيقول قلتُ لعمر يا أمير المؤمنين: إن لي كاتبًا نصراني فرفع عمر يده وضرب بها على فخد أبي موسى حتى كاد يكسرها وقال له: مالك قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، قال أبو موسى يا أمير المؤمنين: لي كتابته ولهم دينهم، فقال عمر: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم وأقربهم إذ أبعدهم وأقصاهم الله.
وكتب عمر بعد ذلك إلى سائر ولاته وأمراءه وعماله يقول: أما بعد فإن كان لكم قبله له كاتب من المشركين فلا يعاشره ولا يؤازره - أي لا يتخذه وزيرًا أو مستشارًا - ولا يجالسه ولا يعتضد برأيه.
وكان لعمر الفاروق رضي الله عنه عبد نصراني فقال له عمر: أسلم فإنا نريد أن نستعين بك على بعض أمور المسلمين وما ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم فأبى العبد النصراني أن يسلم فأعتقه عمر وقال: له اذهب حيث شئت.
ولمّا ولى الفاروق عمر رضي الله عنه أبا هريرة أميرًا على البحرين كتب له كتابًا ضمن فيه تعليمات عظيمة ما أعظمها وما أهمها لكل والٍ وأمير من المسلمين وكان مما جاء في تلك التعليمات أن قال فيها كتابه: عُد مرضى المسلمين وأشهد جنائزهم وافتح بابك وباشرهم وابعد أهل الشر عنهم وأنكر أفعالهم ولا تستعن على أمر من أمور المسلمين بمن ليس منهم وباشر مصالحهم بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك حاملاً لأثقالهم.
والأصل في هذه التعليمات العمرية الإسلامية المشددة في منع المسلمين وخاصة منع ولاتهم وأمراءهم من الركون لغير أهل ملتهم من استخدام الكافرين واستعمال المشركين، الأصل في ذلك الآية التي ذكرها عمر بنفسه رضي الله عنه لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء [المائدة:51]. وقوله تعالى : لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً [آل عمران:118].
وكذلك قول سيدنا رسول الله : ((إنا لا نستعين بمشرك)) [1] ولكن عندما غفل المسلمون حكامًا ومحكومين في بعض العصور السابقة عن هذا المبدأ الهام وركنوا إلى أعدائهم بل واستخدموهم واستعملوهم واتخذوهم بطانة حلت الكوارث العظيمة على مجتمع المسلمين وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله في الجمعة القادمة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون [التوبة: 67].
بارك الله لي ولكم في القرآن ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في الجهاد والسير (3/1449-1450) رقم (1817).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة (1/306) رقم (408).
(1/293)
في فريضة الزكاة
فقه
الزكاة والصدقة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فوائد أداء الزكاة للمُزكّي 2- أداء الزكاة يُنمي المال ويباركه 3- منع الزكاة سبب لمَحق
المال 4- منع الزكاة سبب للعذاب في الآخرة 5- شروط وجوب الزكاة 6- فضيلة صناعة المعروف للمسلمين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله في سائر أوقاتكم، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، وتنافسوا في كثرة صدقاتكم؛ فإن الزكاة برهان الإيمان، وهي من الإسلام من الأركان، حتى روي عن النبي أنه قال: ((من لم يزك فلا صلاة له)).
أيها المسلمون: كم للحكيم العليم من الحكم العظيمة في تشريع الزكاة، فقد شرعها تعالى لما يترتب على إعطائها وبذلها من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة، والآثار المباركة على المتصدقين والآخذين، إذا كانوا لله تعالى مخلصين، ولنبيهم متبعين، فإن بذل المال لله مع حبه آية الإيمان، وعلامة التصديق بأحكام ووعد الملك الديان، والطمع في ثقل الموازين بالحسنات، وسبب للفوز بالثواب العظيم والأجر الكريم من الغني الرؤوف الرحيم: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [سورة البقرة:274].
والزكاة تنقي باذلها من الآثام، وتطهره من البخل والشح وغيرهما من أخلاق اللئام، وتجعله من الأخيار الكرام، المؤهلين لمجاورة ذي الجلال والإكرام في الجنة دار السلام، فإن الله تعالى قضى أن لا يجاوره فيها بخيل، وكم في بذل الزكاة من وقاية المرء من عقوبات الذنوب، وصرف عظيم المصائب والكروب، قال تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم [سورة التوبة:103].
وفي إخراج الزكاة تطهير المال من موجبات تلفه وآفات زواله، وذلك من أسباب حلول البركة فيه، وسرعة كثرته ونمائه، ففي الصحيح عن النبي قال: ((ما نقصت صدقة من مال)). وفي غيره ((بل تزده)) ، وقال تعالى: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين [سورة سبأ:39]؛ يعني يأتي ببدله وخير منه.
وفي الصحيح عن النبي قال: ((قال الله تعالى: أنفق يا بن آدم ينفق عليك)). وهو سبحانه الغني الذي لا ينفذ ما عنده، الكريم الذي لا يمن بفضله، الشكور الذي يضاعف ثواب النفقة في الدنيا والآخرة. وروي عن النبي قال: ((من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره)). وروي عنه قال: ((حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة)).
أيها المسلمون: وكم في إخراج الزكاة من تزكية الفقراء والمساكين بصيانة وجوههم من ذل السؤال، وإعفائهم وحفظ كرامتهم في جميع الأحوال، وإعانتهم على طاعة الكبير المتعال، مع نشر المودة والمحبة والوئام بين المسلمين، وإغائة الملهوفين، وإسعاف المنكوبين والمنقطعين، ونشر الإسلام بين العالمين، وكف عدوان أعداء الدين من المشركين والغضوب عليهم والضالين.
فكم في إخراجها من الخير العظيم العائد على المتصدِق والمتصدَق عليه، والأجر الكبير عند الله تعالى يوم القدوم عليه، وكم لها من الآثار المباركة في عموم مجتمعات المسلمين والتسبب في دفع عدوان المعتدين، وهداية الجم الغفير من الخلق لهذا الدين، فما أعظمها من فريضة! وما أجلها من شعيرة! وما أعظم ما يترتب على منعها من عظيم البليات وشديد العقوبات في الحياة وبعد الممات! فقد روى الطبراني عن عمر عن النبي قال: ((ما خالطت الزكاة مالا قط إلا أفسدته)) وروي عنه قال: ((ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة)).
وروي أنه لعن مانع الزكاة؛ ويكفيه ذماً أنه متشبه بالمشركين الذين توعدهم الله بقوله: وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [سورة فصلت:6-7]. ومتشبه بالمنافقين المذمومين في قول الله المبين: ولا ينفقون إلا وهم كارهون [سورة التوبة:54]، والمتوعدين بقوله سبحانه: ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم [سورة التوبة:67-68].
أيها المسلمون: المال الذي لا يزكى شؤم على صاحبه، يشقيه في الدنيا ،ويعذب به في الأخرى، ففي الصحيح عن النبي قال: ((من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع يأخذ بِلَهْزَمَتيْهِ – يعني شدقية – ثم يقول: أنا مالك)) ثم تلا قول الله تعالى: ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة [سورة آل عمران:180].
وفي الصحيح عن النبي قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة صُفّحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوي بها جنبه وجبهته وظهره؛ كلما بردت أعيدت عليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)) ، وفي حديث آخر: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا بأخفافها وأظلالها؛ كلما نفدت أخرى عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس)). فاتقوا الله عباد الله، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تفوزوا بخيرها وبركتها وثوابها في الدنيا والآخرة، ويكفيكم قول الله تعالى: والذين هم للزكاة فاعلون إلى قوله: أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [سورة المؤمنون:4-11]. واحذروا شؤم منع الزكاة؛ فإنه عار وشر في الدنيا، وعذاب ونار في الآخرة.
أيها المؤمنون! إن الله تعالى أعطاكم الكثير من المال، وطلب منكم شيئاً يسيراً منه، رحمة بكم، وإحساناً إليكم، فلا تبخلوا؛ فإنه ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الققراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [سورة محمد:38].
( فآمنوا بالله ورسوله، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا له أجر كبير )، أنفقوا على من أمركم الله بالإنفاق عليه من مال الله الذي آتاكم، فإنه عارية عندكم، استخلفكم الله فيه لينظر كيف تعملون. فاتقوا الشحّ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، واتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون: إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم [سورة التغابن:17].
أيها المؤمنون:إن الله تعالى يسر لكم أمر هذه الفريضة من عدة وجوه:-
أحدها: أن الله تعالى لم يوجبها إلا في الأموال النامية كبهيمة الأنعام السائمة، وعروض التجارة، والأثمان، والخارج من الأرض.
ثانيا: أن من شروطها المُلك، فالمال الذي لا مالك له لا زكاة فيه، كأموال الوقوف، وجمعيات البر، ونحو ذلك، والتركات قبل أن تقسم على أصحابها.
ثالثا: لابد فيه غالباً من مضي الحول، فأي مال لم يمض عليه الحول فلا يجب فيه الزكاة إلا الخارج من الأرض، فحوله وقت نضجه وحصاده، وربح التجارة فحوله حول أصله، وهكذا نتاج غالباً.
فأنفقوا وثقوا بالخَلَف الجزيل من الله، واتقوا الله الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، وهو من تزيين الشيطان لكم: يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب [سورة البقرة:267-269].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من أئمة أوليائه وخاصة أحبابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه. إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على جزيل نعماه، وجليل عطاياه، أحمده سبحانه وأساله التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فلا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا محمداً عبده ورسوله ومصطفاه. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه خلفائه في أمته في بيان دينه وهداه.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله، وتوبوا إليه، وأحسنوا إلى عباده ابتغاء وجهه تكونوا من أحب الخلق إليه، وتفوزوا بالرحمة والفلاح يوم القدوم عليه.
أيها المسلمون: إذا أراد الله بعبده خيراً جعل قضاء حوائج العباد على يديه، لما في الصحيح عن النبي قال: ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) متفق عليه. ومن حديث أبي هريرة عند مسلم رحمه الله عنه قال: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).
وروي عن النبي قال: ((من مشى في حاجة أخيه المسلم كتب الله له بكل خطوة سبعين حسنة، ومحا عنه سبعين سيئة، إلى أن يرجع من حيث فارق، فإن قضيت حاجته على يديه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وإن هلك فيما بين ذلك دخل الجنة بغير حساب)).
فكم في عباد الله من رجال موفقين مباركين، ولا يدخلون في شيء إلا أصلحوه، ولا خير إلا ثمَّروه، ولا عمل إلا أتقنوه وأصلحوه، وإن سعوا في حاجة قضوها، أولئك هم الميسرون لما خلقوا له؛ فتيسر على أيديهم الأمور، ويفوزون من الله بعظيم الأجور.
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله في كتاب الأربعين: فعلم عظيم فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو جاه أو إشارة أو دلالة إلى خير أو إيمانه بنفسه أو سفارته ووساطته أو شفاعته بظهر الغيب، ومما يعلمك بعظيم الفضل في هذا وما بعده أن الخلق عيال الله، وتنفيس الكرب إحسان إليهم؛ ففي الأثر: ((الخلق عيال الله؛ وأحبهم إلى الله أرفقهم بعياله)). وليس شيء أسهل من كشف الكروب ودفع الخطوب إذا ألمت على المؤمن الذي لا يرى نفسه إلا وقفاً على إخوانه يعينهم فيما استطاع، ويصبرهم على ما كان، ويؤمن خائفهم، ويساعد ضعيفهم، ويحملهم ثقلهم، ويجدوه عنده المعدوم، ولا يضجر منهم ولا يسأمهم، ولا يملهم.. الخ.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الأخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [سورة النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/294)
الحث على طلب المال الحلال وترك الحرام
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة لتطييب الكسب 2- الاقتصاد في طلب الدنيا والزهد فيها 3- آفات التوسع في جمع
المال 4- التحذير في منع الحقوق عن أصحابها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله ربكم، واعبدوه، وابتغوا عنده الرزق، واشكروا له، إليه ترجعون، واعلموا أن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وأنه سبحانه أمر المؤمنين بالابتغاء من فضله، والأكل من طيب رزقه، وهو ما جاء من حله، فقال تعالى: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [سورة الجمعة:1]. وقال: يا أيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله [سورة البقرة:172].
أيها المسلمون: الطيب من الرزق هو الحلال الذي أحله الله، وهو ما كان مستطاباً في نفسه، غير ضار للأبدان أو العقول، وغير مكتسب بمعاملة محرمة أو على وجه محرم من وسائل الدخول، فإن الأكل من الحلال من أسباب صلاح القلب، وزيادة الإيمان والنشاط في الأعمال الصالحة، والرغبة في الإحسان، وهو مما تحفظ به النعم الموجودة وتزاد، وتستجلب به النعم المفقودة وتقاد، فمن لطف الله بعباده أن يسر الحلال، وأرشد إليه، ورغب فيه، وجعل طلبه من صالح الأعمال، ووعد أهله بفضله، وكفايته، وحفظه، ووقايته، ومغفرته، وجزيل مثوبته، ويسر الأمر في الحال والمآل، ونهاهم عن الحرام، وزجرهم عن الأخذ بما يأتي به من الوسائل والأسباب، وتوعدهم على طلبه وأكله بشديد العقوبة وأليم العذاب، وكفى بذلك موعظة لأولي الألباب، ولهذا قال تعالى: كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وءامن وعمل صالحاً ثم اهتدى [سورة طه :81-82].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وتحروا طيب المكاسب، وابتغوا الحلال من الرزق، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، وقد ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى والنعيم المقيم، و((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق)) ، أي أنفقه في وجوه الخير مبتغياً بذلك فضل الله عز وجل، فباكروا في طلب الرزق ففي الغدو بركة ونجاح. واتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم، واعلموا أن خير الرزق ما يكفي، ويسلم صاحبه من الإثم، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، فليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه.
ومن دعاء النبي قال: ((اللهم اجعل رزق آل محمداً قوتاً)) ، والقوت ما يسد الرمق. وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ((ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض)) متفق عليه. ((وكان فراش رسول الله من أدم – أي جلد – حشوه ليف)) رواه البخاري، وقال : ((من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) ، وقال لابن عمر رضي الله عنهما : ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).
أيها المسلمون: أعظم الزهد في الدنيا ترك الحرام، ويليه الرغبة عن فضول المال خشية الوقوع في الآثام. فاتقوا الحرام؛ فإنه شر الرزق، وخبيث الكسب، وسيء العمل، وزاد صاحبه إلى النار، إن تموله لم يبارك له فيه، وإن – أنفقه لم يؤجر عليه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن دعا وهو في جوفه لم يستجب له. فما أشأمه على صاحبه! وما أشقى صاحبه به! عليه غرمه ولغيره غنمه.
روي أن الشيطان – أعاذنا الله منه – قال: ((لن يسلم مني صاحب المال من إحدى ثلاث أعدو عليه بهن وأروح: أخذه من غير حله، وإنفاقه في غير حقه، وأحببه إليه فيمنعه من حقه)). رواه الطبراني بإسناد حسن.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيها درهم حرام لم يقبل الله له صلاته ما دام عليه)) رواه أحمد وغيره. وروي أن النبي قال لكعب بن عجرة رضي الله عنه: ((إنه لن يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به)) ، وروي عنه قال: ((لا يدخل جسد غذي بحرام)) ، وروي أنه قال: ((لا تغبطن جامع المال من غير حله – أو قال: من غير حقه – فإنه إن تصدق به لم يقبل منه، وما بقي كان زاده إلى النار)).
فاتقوا الله عباد الله في – أموالكم، وابتغوا بها مرضاة ربكم، فإنها عارية منه عندكم، فأحسنوا استعمال العارية، ولا تشغلنكم الفانية عن الباقية، ولا يفتننكم من أصبح عبداً للدرهم والدينار فانتهك محارم الجبار، فإن الله لا تخفى عليه خافية ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [سورة إبراهيم:42]. وفي صحيح البخاري رحمه الله عن النبي قال: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتولوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون [سورة البقرة:188].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا به، وجعله قائداً لنا إلى جنات النعيم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وقال: المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً [سورة الكهف:46]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رازق سواه للعبيد، وإليه المرجع، وعليه الحساب، وما ربك بظلام للعبيد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الهمم العالية والعزائم الصادقة والتشمير.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا سخط الجبار، واحذروا المال الحرام، فإنه من أعظم أسباب الشقاء والدمار، ومن أخطر ما يوصل صاحبه إلى النار، واعلموا أن الدنيا خضرة، وأن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون. فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، واتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم.
أيها المسلمون: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والافتتان بها سبب لكل مصيبة، وموجب للإفلاس والخسارة في الدنيا والآخرة.
كم من الناس من جرهم حب الدنيا والافتتان بها إلى ظلم الناس بالشتم، والقذف، وشهادة الزور، والضرب، والقتل؛ ليحصلوا على شيء من حطام الدنيا، ويعدون تحصيل ذلك شرفاً وربحاً، وهو في الحقيقة خسة وإفلاس وخزي وندامة يوم القيامة ؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته حتى إن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرح عليه ثم طرح في النار)).
ومن الناس من دفعه الشح بالدنيا إلى منع الحقوق عن أهلها، فلا يعطي الناس حقوقهم مع غناه وقدرته على الوفاء، وفي الصحيح أن النبي قال: ((مطل الغني ظلم)). والمطل: هو التسويف والتأخير في أداء ما في الذمة للناس مع الغنى والقدرة. فالمماطلة في أداء الحق الواجب من أعظم أنواع الظلم، ومن موجبات شديد الغرم يوم القيامة، وهو من موجبات الفسق، ومعدود من الكبائر عند كثير من أهل العلم.
وفي الصحيح عن النبي قال: ((لتؤدُن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)). ولذا قال : ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله منها اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عمل صالح أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)). فيا ويح من لم يوفِّ غريمه في الدنيا، وما أعظم جرمه إذا تسبب في خسارة غريمه بالشكوى والمحاماة لاستخراج حقه! فإن الظلم يزداد؛ فما أخسره يوم المعاد.
فاقنعوا بالحلال عن الحرام، وتوبوا إلى الله من المظالم والآثام، وأحسنوا كما أحسن الله إليكم، ويسروا على عباده كما يسر الله عليكم، واجعلوا أموالكم لكم ستراً من النار بكثرة الصدقات ومشروع النفقات، وامتطوها إلى ما يرضي الله توصلكم إلى الدرجات العالية من الجنات.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [سورة النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/295)
الألفاظ المخالفة للشريعة
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الشرك ووسائله
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
4/5/1418
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما يَلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد 2- الحلف بالأمانة شرك 3- الشرك الخفي
4- سب الزمان والدهر 5- تعظيم المنافقين والكافرين 6- الشهادة للبعض بالجنة
7- موت ديانا
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ، عباد الله، إن الإنسان محاسب بما يقول، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولقد سُئل نبينا صلى الله عليه وسلم عن أفضل الناس فقال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) ، ولقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من شر المني فقال: ((اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ومن شر بصري ومن شر لساني)) ، بل كان يخاف من شر اللسان على أصحابه، ((فعن سفيان بن عبد الله قال قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ عليه الصلاة والسلام بلسان نفسه وقال: هذا))، وإن الكلمة عباد الله لترفع قائلها إلى أعلى عليين أو تهبط به إلى أسفل سافلين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة)) ، لذا ينبغي على المسلم أن يحترس مما ينطق به لسانه، فإنه محاسب عليه لا محالة، وهنالك ألفاظ انتشرت بين المسلمين مما يخالف شرع رب العالمين، أشير إلى بعضها لكي نكون على حذر منها، ولننبه من نسمعه يقولها من إخواننا المسلمين، فمن ذلك القسم بغير الله تعالى، وهو شرك بالله عز وجل، كأن يقول وحياتك أو بشرفي أو والنبي، كذلك قسم بعضهم بالأمانة، فيقول لمن يريد أن يستوثق من كلامه أسألك بالأمانة، ولقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بالأمانة فقد أشرك)) ، فالمسألة فيها خطر الشرك الذي لا يغفره الله، فينبغي علينا أن نتجنب ذلك وأن ننكر على من فعل ذلك، ولو لم يكن قاصدا، أيضا هنالك من عبارات الشرك التي تصدر من البعض بدون وعي أو قصد، مثل قولهم أنا بالله وبك، أو أنا في وجه الله ووجهك، أو أنا أعتمد على الله وعليك، وهذا كله لا يجوز، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان)) ، وذلك الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((ما شاء الله وشئت، فغضب منه وقال له أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده)) ، أيضا من الأمور الشائعة عند العوام سب الزمان الذي في ظنهم هو سبب المصائب التي تصيبهم، فيقول أحدهم لعنة الله على الساعة التي أتيت فيها، أو يقول كان يوما أسودا ذلك الذي رأيتك فيه، أو نحو ذلك وهذا لا يجوز وهو محرم، لأن الذي يصرف الأمور ويقدرها هو الله تعالى، فسب الزمان سب له تعالى الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر)) ، وجاء في الحديث القدسي المتفق على صحته أن الله تعالى يقول: ((يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)) ، ومن الألفاظ المخالفة عباد الله ، لفظة السيد أو سيدنا أو سيدي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم)) ، والنهي يكون أشد وأعظم عند إطلاق هذه اللفظة على المنافقين والفسقة والكفار، وهذه اللفظة مستخدمة بكثرة في المراسلات والمعاملات التجارية، فلفظة سيد، ما ينبغي إطلاقها على المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يناديه أحد أصحابه بها، وكان يقول لهم السيد الله، والنهي صريح في المنافقين والفسقة والكفار قياسا عليهم، أقول قولي واستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، جاء في صحيح البخاري عن أم العلاء الأنصارية أنهم عندما هاجر المهاجرون إلى المدينة اقترع الأنصار ليقتسموا المهاجرين، فوقع عثمان ابن مظعون في نصيبهم، فاشتكى رضي الله عنه حتى مات، تقول أم العلاء: ((فدخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت:يرحمك الله يا أبا السائب، شهادتي عليك أن الله أكرمك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:وما يدريك أن الله أكرمه؟فقالت بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال أما هو فوالله لقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، وما أدري والله وأنا رسول الله ما يُفعل بي، قالت: فوالله لا أزكي أحدا بعده أبداً)) ، عباد الله من هذا الحديث يظهر لنا جليا الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون عند حديثهم عن الموتى، كقول بعضهم إن فلانا قد انتقل إلى رحمة الله، أو انتقل إلى الرفيق الأعلى، وما يدريك يا عبد الله أن يكون قد انتقل إلى سخط الله ولعنته؟ وبعضهم ينشر نعيا في الجرائد ويصدر نعيه بقوله تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ، وهذا لا يجوز لأننا ممنوعون من الحكم على أحد بعينه أنه من أهل الجنة إلا من أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه من أهلها، كالعشرة المبشرين، والعجيب أن بعض الجرائد اللندنية تنشر يوميا نعيا للنصارى الكفار وتصدره بقولها انتقل إلى رحمة الله جورج صليبا، بل إن وسائل الإعلام قد شغلت المسلمين بموت امرأة نصرانية كافرة، كما شغلتهم من قبل بفسقها وفجرها وعلاقاتها وأخبارها المشينة، والتي كانت وما تزال وللأسف قدوة الكثيرات من المنتسبات إلى الإسلام، ثم إن صحيفة من تلك الصحف قالت بالخط العريض: إن الأرواح الطيبة لا تتأخر عن دخول الجنة، فجعلت تلك النصرانية في الجنة، بل قد سمعت من بعض المسلمين استنكارا وشجبا وتنديدا على من يقول إنها كافرة، وأن مصير الكفار النار، ومن يشك في كفر النصارى وأنهم من أهل النار فقد أتى ناقضا من نواقض الإسلام، لأنه يأبى أن يكفر من كفره الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)) ، فاتقوا الله عباد الله واشغلوا أوقاتكم ومجالسك بالذي ينفعكم عند ربكم، ولا تعجبكم أموالهم ولا أولادهم، فما هي إلا عذاب من الله تعالى في الدنيا والآخرة، نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم.
(1/296)
خصال من جلائل الأعمال
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الطُهور شطر الإيمان 2- فضائل الوضوء 3- فوائد ذكر الله عز وجل 4- فضيلة
الإنفاق في سبيل الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله، واسعوا إلى ما فيه رضاه، واحذروا من أسباب عقوبته وموجبات سخطه في الدنيا والأخرى، واعتنوا بسنة نبيكم محمد ، معرفة وفهماً وحفظاً وعملاً وتبليغاً للأمة، فإن السنة بيان للقرآن كما قال تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [سورة النحل:44]. فكان يبين القران بأقواله وأفعاله وتقريراته وأحواله. فأسعد الناس في الدنيا والآخرة أعلمهم بها، وألزمهم لها، وأقومهم ببيانها وتبليغها ونشرها والذب عنها. جعلنا الله وإياكم من أنصار سنة نبيه قولاً وفعلاً وحالاً، وجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه مقبولة لديه.
أيها المسلمون: روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه أن النبي قال: ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن – أو تملأ – ما بين السماء والأرض. والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو بائع نفسه فمعتقها أو موبقها)). فهذا الحديث واحد من نصوص سنة النبي الذي أوتي جوامع الكلم، وهو حديث عظيم الشأن جليل القدر؛ لما اشتمل عليه من مهمات من الحكم وبيان بعض فضائل الفرائض والنوافل والحث على العناية بالقران العظيم، وبيان حصيلة عمل الناس في هذه الحياة، فمنهم من يسعى في اعتقاداته ونياته وأقواله وأحواله في إعتاق نفسه من شقوة الدنيا وخزي الأخرى، ومنهم من يوبقها في دركات الشقاء، ويوردها ناراً تلظى: سبحانك فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار [سورة آل عمران:191-192].
أيها المسلمون: بدأ هذا الحديث بقوله : ((الطهور شطر الإيمان)) يعني أن التطهر بالماء أو التيمم بالتراب عند عدم وجود الماء أو العجز عن استعماله من حدث أصغر أو أكبر هو شطر الإيمان، يعني نصفه، والمراد بالإيمان هنا: الصلاة. كقوله تعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم [سورة البقرة:143]. يعني صلاتكم إلى غير جهة القبلة حين اجتهدتم في معرفتها فلم تصيبوها.
فالتطهر مفتاح الصلاة، فلا يقبل الله صلاة بغير طهارة. قال : ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) ، وفي الحديث الآخر: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) ، وقال : ((لا يحافظ على وضوء إلا مؤمن)).
وبين أن من فضائل الوضوء أن أمته يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، وعدَّ إسباغ الوضوء على المكاره يمحوا الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، وأخبر قطر الماء، ومن توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وجبت له الجنة.
ويدخل في الطهور من حيث المعنى التطهر من النجاسات المعنوية: من الشرك الأكبر والأصغر، والبدع، والمعاصي، بالحذر منها، والبعد عن مواطنها وأسبابها وذرائعها، والتوبة إلى الله تعالى – عن قريب – مما قد يكون اقترفه الإنسان منها، فإنّ في البعد عنها صيانة للإيمان من النقص والخلل أو البطلان، وفي التوبة مما قد حصل منها تكميلاً للإيمان وجبراناً لنقصه في كل آن.
أيها المسلمون: وأما قوله : ((والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن – أو تملأ – ما بين السماوات والأرض)) ففيه بيان فضل هذه الكلمات من الذكر، وأنها من أفضل وأثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي قال: ((إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده)) وقال أيضا: ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحانه الله العظيم)) متفق عليه. وروي عنه قال: ((الحمد لله ملء الميزان، وسبحان الله نصف الميزان، ولا إله إلا الله والله أكبر ملء السماوات والأرض وما بينهما)).
فقد تضمنت هذه الأحاديث وما جاء في معناها بيان فضل هذه الكلمات الأربع وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فينبغي للعبد الإكثار منها مطلقاً، والمحافظة على ما جاء منها مقيداً بعدد أو وقت أو حال كما ورد، فإنها أحب الكلام إلى الله، وهي من القرآن.
وفي الصحيحين عن النبي قال: ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدْل عتق عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه)).
وقال: ((من قال سبحانه الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)). وفي صحيح مسلم عنه قال: ((من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)). وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النبي يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي)).
وأما قوله : ((والصلاة نور)) ففيه بيان عظم شأن الصلاة وشدة حاجة العبد إليها، فإنها إذا كانت نوراً فذلك دليل على شدة الحاجة إليها، ولا يخفى أن الصلاة عمود الديانة، ورأس الأمانة، وهي ذكر الله الأكبر، والناهية عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الفضائل، وتكف عن الرذائل ،وهي من خير ما يستعان به على مطالب الدنيا والآخرة، وهي نور في القلب وفي الوجه، وفي القبر وعلى الصراط، ونصيب العبد من النور في هذه الأمور بحسب حظه من صلاته؛ وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي أن النبي قال: ((بشروا المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)). وفي حديث آخر قال : ((خمس صلوات كتبهن الله؛ من حافظ عليهن كن له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة)).
مر صلى الله عليه وسلم بقبر حديث عهد بدفن فقال: ((ما هذا؟ قالوا: هذا قبر فلان التاجر، فقال: ((والله لصلاة ركعتين أحب إلى صاحب هذا القبر من الدنيا وما فيها)).
أيها المسلمون: وأما قوله : ((والصدقة برهان)) فمعنى ذلك ظاهر؛ فإن البرهان هو الضياء الشارق، سميت به الصدقة لأنها برهان على إيمان مخرجها عن طيب نفس، فإنه آثر طاعة ربه على محبة ماله: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [سورة الحشر:9]. فهي تصدق إيمان صاحبها وتحققه، ولهذا سميت صدقة، وتسمى زكاة لما فيه من تزكية المتصدق بتطهيره من العيوب والذنوب، وتزكي المال بإذهاب أسباب نقصه وتلفه، وإحلال البركة فيه، وتزكي الآخذ بإعفافه وإغنائه عن الحاجة والسؤال؛ وفي الصحيح عن النبي قال: ((ما نقصت صدقة من مال)). وقد أقرّ النبي فقراء المهاجرين على قولهم في حق إخوانهم الأغنياء الذين يتصدقون بفضول أموالهم: ((ذهب أهل الدثور الأجور والدرجات العلى والنعيم المقيم)). فلو لم يوجد نص في فضل الصدقة إلا هذا لكفى.
ويدخل في الصدقة فريضة الزكاة، وواجب النفقات، وأنواع التبرعات والمواساة، مع النية الصالحة، وموافقة الشرع، فكل ذلك من أسباب نماء المال، ومحبة الناس، وصرف البلايا، وتكفير الخطايا، وجزيل العطايا، وتأجيل المنايا، ورفعة الدرجات، والفوز بأعالي الجنات، ورضوان رب الأرض والسماوات، فهنيئاً للمتصدقين.
فاتقوا الله عباد الله، وتطهروا كما أمركم الله، وأكثروا ذكر الله، وأقيموا الصلاة ،وآتوا الزكاة؛ تكونوا من أئمة أولي التقى، وتسعدوا بأن تحشروا مع نبي الهدى، وتفلحوا في الدنيا والأخرى: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً وإذًا لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً [سورة النساء:66-70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/297)
الاعتذار والأعذار
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
24/1/1418
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصية الرسول بترك لك فعل تضطر إلى الاعتذار منه
2- دعوة للمبادرة إلى التوبة والاستغفار إذ لا مجال للاعتذار يوم القيامة
3- اعتذار الكافرين يوم القيامة بالقدر
4- القدر يستدل به على المصائب لا المعايب
5- من الأعذار السخيفة: المراهقة
6- حال مراهقي السلف في عبادة الله تعالى
_________
الخطبة الأولى
_________
عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إياك وكل ما يُعتذر منه)) ، في هذا الحديث الكريم عباد الله، يبين لنا فيه نبينا صلى الله عليه وسلم أن على المسلم أن يتجنب فعل الأمور التي يحتاج إلى الاعتذار بعد فعلها، وهي الأمور السيئة التي تجلب على صاحبها الذم، لأن الأمور الحسنة والأفعال الطيبة، لا يحتاج فاعلها إلى الاعتذار منها، وهذا فيه صيانة لدين الإنسان وحفظا لماء وجهه، فالذي يقترض مالا على سبيل المثال، ثم يعتذر لتأخره عن سداد ذلك المال، أولى في حقه أن لا يقترض، لكي لا يحتاج إلى الاعتذار، ولا يفهم عباد الله من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الاعتذار مطلقا، فإن الاعتذار عن الخطأ مشروع، وأمر محمود، ولكن المذموم هو أن ترتكب ما تحتاج معه إلى الاعتذار عنه، وكل من يُخطأ فله عذر، ولكن من الأعذار ما يكون مقبولا ومنها ما لا يُقبل، فالأعذار التي يأتي بها الظالمون يوم القيامة لا تنفعهم، قال تعالى: يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ، ولقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن كل بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون، وهذا يستلزم أن من أخطأ أو أذنب، فعليه أن يبادر إلى التوبة والاستغفار، فإن كان لآدمي عنده حق أو مظلمة، وجب عليه أن يتحلل منه في الدنيا قبل الآخرة، إذ لا درهم ولا دينار يومئذ، إنما هي الحسنات والسيئات، ونحن اليوم نرى أن إبليس قد زين للناس أعمالهم، فأصبح أكثرهم يعصون الله، والأخطر من ذلك أنهم أصبحوا يلتمسوا المبررات والأعذار لأفعالهم، لكي تكتسب نوعا من الشرعية، وليكفوا بذلك عنهم انتقادات الناقدين، فمن المبررات والأعذار، احتجاجهم بالقدر، فإذا نصحت أحدهم وزجرته عن معصيته قال لك: إن الله قدر علي ذلك، وهذا نظير قول الله تعالى: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤُنا ولا حرمنا من شيء ، وهذه هي حجة إبليس وفرعون وأبي جهل، وهي حجة واهية ساقطة، إذ أن الاحتجاج بالقدر لا يجوز إلا على المصائب، كأن يتعزى المسلم بعد المصيبة بالقدر، فيقول من أصابته مصيبة، كسرقة مال أو موت حبيب: قدر الله وما شاء فعل، فيسلي نفسه ويعزيها، فهذا أمر جائز ومطلوب، لأنه إيمان بالقدر، أما الأمر المحرم فهو الاحتجاج بالقدر على المعايب، فلا يجوز ولا يُقبل من إنسان أن يسرق أو يزني ثم يقول مبررا فعله: إن الله قدر علي ذلك، لأنك أنت الذي فعلت واخترت، وأنت لا تعلم أصلا ما قدره الله عليك قبل فعلك، فالاعتذار بالقدر غير مقبول، كما لو أن رجلا سرق مالك أو آذى أهلك فأمسكت به، فاعتذر لك بأن الله قدر عليه ذلك، لم تكن أنت لتقبل عذره، ومن الأعذار الغير مقبولة ما قاله المشركون أيضا من قبل: وكذلك ما أرسلنا من قبلك من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمقتدون ، فكثير من المسلمين اليوم يبررون واقعهم المخالف بأن ذلك هو تراث الآباء والأجداد، وتلك هي العادات والتقاليد، ولا يأبهون لمخالفة تلك الموروثات دين الله تعالى، ولا يبالون إن كانت تُسخطه أو تُغضبه، كما يقول تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا ، وقلما تجد من يعرض أمور حياته على شرع الله، فيقر ما أقره الشرع، وينتهي عما نهى عنه الشرع، وما ذلك إلا لأن إسلام أكثرِنا إسلام وراثي، عن تقليد وإتباع، لا عن إيمان وتصديق، وأحوالنا للأسف أكبر دليل على ذلك، أقول قولي واستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، من المبررات والأعذار التي يكثر تداولها بين المسلمين اليوم، العذر بالمراهقة، فكثير ما يُعتذر لتقصير في الواجبات والفروض، كالصلاة والصوم، أو يُعتذر عن المخالفات الشرعية بحجة أن فاعلها مراهق، وأن السن التي يمر بها حرجة، فإن أنت نصحت أباً في ابنه، أجابك بأنه لا يزال مراهقا، والله تعالى سوف يهديه كما هدى غيره، فتجد الأب يغض الطرف عن عدم حضور ابنه الصلاة مع الجماعة، وعن نزواته المحرمة، وأذيته للبلاد والعباد، بل ربما سهل الأب لابنه السفر إلى الخارج، وسهل له سبل المعصية، لأن الكبت بزعمه في هذه السن له أثر سلبي، والمشكلة أن سن المراهقة قد يمتد إلى العشرين والثلاثين وربما الأربعين، كأن القلم لا يزال عنه مرفوعا، بل إن من الآباء من لا يزال مراهقا في تصرفاته، ينتظر هداية الله أن تحل عليه قبل الموت، والاعتذار بالمراهقة دليل على خلل في العقل وضعف في الدين، لأننا نقرأ تاريخ السابقين من صحابة وتابعين، فما نجد أثرا في دين الله لتلك الكلمة، إذ أن الطفل إذا بلغ أصبح مكلفا، يعاقب ويثاب على أفعاله، بل إن من الصحابة من كان في الخامسة عشر ومع ذلك يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن رد النبي أحداً أو استصغره انخرط في البكاء كالأطفال، فأي مراهقة مر بها هؤلاء؟ أضف إلى ذلك أننا نرى أن الغالبية، وليس الكل، الغالبية من طلاب حلق تحفيظ القرآن، قد هذب القرآن أخلاقهم، فما ترى منهم ما تراه من غيرهم من الأطفال أو الشباب، فالخلل ليس في سن المراهقة، بل هو في الترف والبذخ وسوء التربية، لأنك أنت الذي وفرت لابنك وسائل البعد عن الله تعالى، في البيت وخارجه، وأنت الذي لم تعوده على الصلاة في المسجد، وأنت الذي غضضت الطرف عن معاصيه وذنوبه، فلا تعتذر بعذر المراهقة، فإنه لا ينفعك عند الله، كما أن الاعتذار بالقدر أو بما كان عليه الآباء والأجداد لا ينفع عند الله، يقول الله عز وجل: بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ، فاتقوا الله عباد الله، وإياكم وكل أمر يُعتذر منه، فإن فعلت أمرا يُعتذر منه، فبادر بالتوبة والاستغفار، والاعتراف والإقرار، كما جاء في حديث سيد الاستغفار قول العبد، وأبوء بذنبي، أي أعترف به كما أعترف بنعمتك علي، وإياكم والتكبر على الناصحين، أو أن تأخذكم العزة بالإثم، فإن الجنة لا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
(1/298)
الإسراء والمعراج
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, السيرة النبوية
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
4/7/1417
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف سريع لرحلة الإسراء والمعراج
2- بدعية اتخاذ ذكرى الإسراء والمعراج عيداً
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من الحوادث العظيمة التي وقعت في الإسلام، حادثة الإسراء والمعراج، التي وقعت قبل الهجرة النبوية بعام واحد، وذلك بعد اشتداد أذية قريش وتكذيبها للنبي صلى الله عليه وسلم وموت أم المؤمنين خديجة، فكانت تطميناً للنبي صلى الله عليه وسلم وربطا لقلبه، ولإعلامه أنه خاتم النبيين، وإمام المرسلين، ولقد وقع الإسراء والمعراج في ليلة واحدة، بالجسد والروح معا، حيث جاء جبريل عليه السلام، فشق صدر النبي صلى الله عليه وسلم واستخرج قلبه وغسله في إناء من ذهب وملأه إيمانا وحكمة ثم لأم صدره مرة أخرى، ثم ركب نبينا صلى الله عليه وسلم البراق، وهو دابة دون البغل وفوق الحمار الأبيض، فأُسري به إلى بيت المقدس، حيث التقى بالأنبياء ووصفهم لنا، وصلى بهم هنالك ركعتين، ثم عُرج به إلى السماء السابعة، مرورا بالسماوات الست، حيث التقى مرة أخرى بالأنبياء آدم ويوسف وإدريس وعيسى ويحيى ابن زكريا وهارون وموسى وإبراهيم عليهم السلام، ووصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه من آيات الله الكبرى، فقد رأى البيت المعمور، وهو بيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى قيام الساعة، وما يعلم جنود ربك إلا هو، ورأى سدرة المنتهى، التي ثمرها مثل الجرار، وورقها مثل آذان الفيلة، ووصف لنا أنهار الجنة وبخاصة الكوثر، الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، وطينه المسك، وأُتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء فيه خمر، وآخر من لبن وآخر من عسل، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: هي الفطرة، ولو أخذت الخمر لغوت أمتك، ورأى نبينا صلى الله عليه وسلم أصنافا من الناس يعذبون، فمن ذلك رؤيته لأناس لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم لأنهم كانوا يغتابون الناس في الدنيا ويقعون في أعراضهم، وكم منا عباد الله يقع في تلك الكبيرة ؟ ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أقواما تُقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، فسأل عنهم فقيل له هم خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، وهم عباد الله لم يُعذبوا لأنهم كانوا يعظون الناس، حاشا وكلا، إنما عذابهم لتركهم المعروف وإتيانهم المنكر، ثم إن نبينا صلى الله عليه وسلم كلمه الله تعالى، بدون واسطة، ففرض عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة، وشُرعت في السماء لتكون الصلاة معراجا ترقى بالناس كلما تدنت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا، وأكثر الناس اليوم لا يصلون الصلوات التي شرعها الله، فصلاتهم لا حياة فيها ولا روح، إنما هي مجرد حركات جوفاء، لأن علامة صدق الصلاة أن تعصم صاحبها من الوقوع في الخطايا، وأن تخجله من الاستمرار والبقاء عليها إن هو ألم بشيء منها، وإن لم ترفع الصلاة صاحبها إلى هذه الدرجة، فهي صلاة كاذبة، ولقد نصح نبي الله موسى عليه السلام نبينا صلى الله عليه وسلم أن يراجع ربه في أمر الخمسين صلاة، لأنه قد خبر الناس قبله وعالج بني إسرائيل أشد المعالجة، ولأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أضعف أجسادا وقلوبا وأبصارا وأسماعا، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة موسى عليه السلام فخفف الله عنه عشر صلوات، ثم أشار عليه نبي الله موسى أن يراجع ربه تارة أخرى، فخفف الله تعالى عشر صلوات أخرى، ثم أخرى حتى بلغت خمس صلوات في اليوم والليلة، بخمسين صلاة في الأجر، فالحمد لله تعالى أن خفف عنا، وأثبت لنا أجر الخمسين، وويل لمن خففت عنهم الصلوات إلى خمس ولم يأتوا بها كاملة في أوقاتها وكما أمر الله بها في المساجد، أقول قولي واستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، إن واقعة الإسراء والمعراج حادثة عظيمة جاء ذكرها في كتاب الله في سورة الإسراء وسورة النجم، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيها من العبر والآيات الكبرى، ما يزيد في إيمان العبد، ويعظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، ولكن من الناس من يستغل هذه المناسبة العظيمة لأغراض دنيئة، فأهل البدع والخرافيون يحتفلون بليلة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين من شهر رجب، والاحتفال بالمولد أو بليلة الإسراء والمعراج بدعة منكرة، وضلالة، لأن النبي المجتبى والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بها هو ولا أصحابه من بعده ولا التابعون، فلم يبق للمحتفل إلا أن يدعي أنه أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو يقر بأن ما جاء به بدعة، والعجيب أن بعض الدول تحتفل رسميا بهذه البدع كبديل فعال لإسلام أهل السنة والجماعة، حيث يخدرون مشاعر العامة بالأعياد الصوفية، ويصرفونهم بها عن تطبيق الشريعة وتحكيمها، ولم يثبت تحديد شهر الإسراء والمعراج فضلا عن تحديد يومها بأنه السابع والعشرون، فاتقوا الله عباد الله وذروا البدع كلها، وحاربوها وحاربوا أهلها، وعظموا أمر الصلاة التي عظمها الله تعالى، حيث فرضها الله تعالى في السماء السابعة لمكانتها وأهميتها، وألقاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بدون واسطة، حافظوا على الصلاة وتعاهدوا أبنائكم في أدائها، فكثير منهم لا يصلون، ولا خير في دين لا صلاة فيه، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
(1/299)
الأسوة
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
17/8/1417
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التأسي بالغير جبلة بشرية
2- نعى الله على الكفار تقليدهم الآباء والأجداد
3- الأمر بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
4- النبي القدوة صلى الله عليه وسلم
5- دور الأب القدوة في تربية ابنائه
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من أجلِّ وأعظم نعم الله علينا نعمة الإسلام، والله تعالى أنزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بالإقتداء به والانصياع لأوامره، ولو شاء الله تعالى لاكتفى بإنزال القرآن وحده، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت أن ينزل كتابه على خير خلقه ليكون مثالا يُحتذى وأسوة يُقتدى، قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ، والأسوة عباد الله هي القدوة، والأسوة ما يُتأسى به أي يُتعزى به، فيُقتدى به في جميع أفعاله، ويُتعزى به في جميع أحواله، والأسوة قد تكون حسنة وقد تكون سيئة، لذلك قال تعالى أسوة حسنة.
واعلموا عباد الله أن اتخاذ القدوة وتقليده، أمر فطري، جُبل عليه الناس، مسلمهم وكافرهم، لأن الإنسان ضعيف، يحتاج إلى ما يقوي به نقصه وضعفه، فيلجأ إلى تقليد من هو فوقه وأعلى منه، وذلك كان حال الكفار عندما دعتهم أنبيائهم فقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، أو كما في الآية الأخرى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، فالذي أردى المشركين وأهلكهم أنهم رفضوا ترك ما توارثوه عن آبائهم من الشرك، وأبوا اتباع الأنبياء واتخاذهم قدوة.
أما نحن معشر المسلمين، فنقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، ونحمد الله تعالى أن أرسل لنا خير خلقه لنقتفي أثره ونتبع سنته ونتخذه إماما، وكما أمرنا الله تعالى أن نتأسى ونقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) ، وقال: ((خذوا عني مناسككم)).
ولقد ضرب لنا نبينا صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في كل خلق فضيل، وحري بالمسلم أن يقتدي به، فهو أشجع الناس في الحرب، وأثبتهم عند اللقاء، كان الصحابة - كما يقول علي - إذا حمي الوطيس واشتد الأمر يحتمون خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وفي غزوة حنين عندما فاجأ المشركون المسلمين في كمين مباغت، فر المسلون وانجفلوا، لم يبق إلا النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته وعمه العباس وابن عمه أبو سفيان ابن الحارث، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقبل على المشركين وهو يصيح فيهم ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)) ؟
وهو القدوة في الزهد والصبر على الجوع وشظف العيش، فقد كان يربط على بطنه حجرا من الجوع، وكان ثوبه عليه الصلاة والسلام إلى نصف ساقه، وقال لأحد أصحابه بعد أن أمره برفع ثوبه الذي جاوز الكعبين (( أليس لك فيّ أسوة؟)).
ولقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي خُلوف يخالفون سنته وهديه، وحث المسلمين على جهادهم، فاحذر يا عبد الله أن تكون منهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلُف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُأمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) ، أقول قولي واستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، إن المسلم لا يكتفي بأن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين، بل هو يطمع في أن يكون قدوة لغيره في الخير لكي ينال أجر من يتبعه، ولذلك فسر الإمام البخاري في صحيحه قول الله تعالى: واجعلنا للمتقين إماماً ، قال أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا.
وأول من يقتدي الطفل حين تتفتح عيناه بأبويه، فيجب على الأب أن يكون قدوة لأبنائه، والابن في الغالب مرآة لبيته، فيجب على الآباء أن يحسنوا تربية أبنائهم وذلك بأن يكونوا هم القدوة الحسنة لهم، وأن لا يقولوا ما لا يفعلون، يقول تعالى حاكيا عن شعيب: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، وهذا لا يعني أن الأب الذي يشرب الدخان لا ينهى أبناءه عن ذلك، بل ينهاهم ويمتنع هو عن التدخين.
والناظر في أحوال الطلاب - ونحن على أبواب الاختبارات-، يرى أن كثيراً من الطلاب لم يربهم أهلوهم التربية الإسلامية الصحيحة، ولم يكونوا قدوات في الخير لهم، بل إن منهم من كان قدوة سيئة لولده، فالوالد الذي يختلس من شركته أو عمله بحجة أنه يأخذ من بيت المال، وذلك الذي يكذب وأبناؤه يعرفون أنه يكذب، والآخر الذي لا يصلي مع الجماعة في المسجد، وربما لا يصلي مطلقا إلا الجمعة، وذلك الذي يكثر السباب والشتم أمام أبنائه، ويرمي القاذورات من نافذة سيارته ويقطع الإشارة مهددا أرواح الناس ومخالفا الأوامر والقوانين، فهذا العينة من الناس وغيرها كثير، يكونون قدوات سيئة لأبنائهم، فينتج عن ذلك ما نراه من غش في الاختبارات، وأخلاق سيئة، وتصرفات لا تنم عن إسلام ولا عن تربية سليمة.
و هنا يبدأ الولد في البحث عن بديل للقدوة الفاسدة التي عنده، فإن هداه الله تعالى، اتخذ من أحد الصالحين المتبعين للنبي صلى الله عليه وسلم قدوة، وإلا قلد الكفار والفساق، وكل منا مسئول في بيته ورعيته، ونحن إن لم نعمل على تغير الوضع لن نفلح أبدا، ولن تقوم لمجتمعنا قائمة بين الأمم ولو أنفقنا كنوز الأرض.
فاتقوا الله عباد الله واتبعوا نبيكم صلى الله عليه وسلم، وكونوا القدوات الحسنة لأبنائكم، وقديما قيل:
فتشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح.
(1/300)
الاستعاذة
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
19/4/1418
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن والأذكار حصنان يلتجئ إليهما المسلم
2- صور من شرك الاستعاذة بغير الله
3- من ضعف الإيمان قسوة القلب عند ذكر الله ولينه عند سماع بعض الأغاني أو رؤية بعض
الأفلام
4- أسباب عدم استجابة الدعاء
5- دعاء السفر
_________
الخطبة الأولى
_________
إن القارئ لكتاب الله يجد فيه الأمر بالاستعاذة بالله تعالى عند قراءة القرآن، كقوله عز وجل : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولقد أنزل الله تعالى سورتين بدأهما بالأمر بالتعوذ به عز وجل من شر ما خلق ومن شر الليل والسحرة والحسدة ومن شر الشيطان الرجيم.
ومن السنة عباد الله أن يقرأ المسلم سورة الإخلاص : قل هو الله أحد وسورة الفلق والناس في اليوم والليلة اثنتا عشرة مرة، يقرأها مرة بعد كل صلاة، إلا أنه يقرأها ثلاثا بعد صلاة الفجر والمغرب أو العصر لقوله صلى الله عليه وسلم-مخاطباً إياك أيها المسلم- بأنك إن قرأت: ((قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء)) ، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السور الثلاث قبل نومه وينفث في يديه ويمسح بهما ما استطاع من جسده الطاهر، ويفعل نحو ذلك إذا مرض فيمسح موضع مرضه، ولم يكن يمسح جسده بيديه بعد الصلاة كما يفعله البعض، مخالفين سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والاستعاذة عباد الله هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه تعالى من شر كل ذي شر، ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكثر الاستعاذة بالله تعالى، لأنها مظهر من مظاهر العبودية، فصرف الاستعاذة لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر- كأن يستعيذ الرجل عند سكنه بيتا جديدا- بأن يذبح شاة ويلطخ عتبة منزله بدمها أو أن يلطخ أساس بيته أثناء البناء بالدم، استرضاء للجن وتعوذا بهم من شرورهم.
ولقد كان نبينا يتعوذ من أربع: من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ودعاء لا يسمع ونفس لا تشبع، فالعلم الذي لا ينفع كالعلوم المحرمة مثل السحر وعلم النجوم وغيرها.
أو كالذي يتعلم العلم الشرعي لا لينتفع به، بل ليماري به السفهاء وليباهي به العلماء وليقال عنه عالم.
والقلب الذي لا يخشع هو القلب القاسي لكثرة الذنوب التي غلفت ذلك القلب، فهو لا ينصاع إلى أوامر الله ولا يلين لذكره، فترى صاحبه تدمع عيناه لأغنية فاجرة أو لمشهد حزين في فيلم مؤثر، ولكنه لا يتحرك له ساكن إذا سمع آيات الله تتلى أو تذكر وذُكِّر بذنوبه، قال تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
وأما الدعاء الذي لا يسمع، فهو الدعاء الذي لا يُستجاب لصاحبه، وهذا كقولنا في الصلاة سمع الله لمن حمده أي استجاب الله دعاء من حمده، وعدم استجابة الدعاء لها أسباب عديدة، فمنها:-
غفلة قلب الداعي، فأكثر الناس اليوم يدعون وقلوبهم غافلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه)) ، وقد يكون المانع من الاستجابة المال الحرام كما جاء في صحيح الإمام مسلم: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب. يا رب. ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)) ، فكل من ماله حرام- كالذي يعمل أو يتعامل مع البنوك، والذي يبيع الحرام كالأفلام والدشوش والدخان والأغاني ونحوها، أو يأخذ الرشوة، ويأكل أموال الناس بالباطل، أو الذي لا يُتقن عمله الذي يأخذ مرتبه مقابلا له- فكل أولئك لا يُستجاب لهم والعياذ بالله.
وأما النفس التي لا تشبع فهي نفس الحريص على الدنيا، فهو يبتغي منها المزيد، ولا ينفق منها شيئا، وهي التي تُسخطه وتُرضيه، فهو يقدمها على الصلاة ومجالس الذكر وقراءة القرآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم)).
أقول قولي واستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، روى الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد)).
هذا عباد الله دعاءٌ كان يداوم عليه نبينا صلى الله عليه وسلم، فينبغي لأهل الأسفار أن يقتدوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ويداوموا عليه، فأما وعثاء السفر فهي شدته ومشقته، اللتان تمنعان القلب من ذكر الله والتفكر في آياته، وكآبة المنقلب هو ما يصيب النفس من الكآبة والحزن عند الرجوع، لما يلقاه من أمور حصلت في غيابه، أو طرأت بسبب سفره، وأما الحور بعد الكور، فهو النقصان بعد الزيادة، والتفرق بعد الاجتماع، وهو الرجوع من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية.
ومما هو معلوم عباد الله أن السفر من أعظم أسباب انتكاس الصالحين، وزيادة فسق الفاسقين، فكم نرى من الناس من كان يحافظ على الصلاة في المسجد ثم إذا هو ينقطع عن المسجد ويهجره، فهذا حور بعد كور، وكم من فتاة هداها الله فغطت وجهها وسترت جسدها عن أعين الناظرين، واستمسكت بدين رب العالمين، فكانت جوهرة بيتها، وفخرا لعائلتها، لفترة من الزمان، ثم عاد الكتان كما كان، إما بسبب رحلة إلى الخارج في الإجازة، أو بسبب رفاق السوء، فهذا حور بعد كور.
فاكثروا عباد الله من التعوذ بالله من الحور بعد الكور، وقولوا يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
(1/301)
تكريم الإسلام للمرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
16/3/1419
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استخدام الغزو الفكري في الحرب ضد الإسلام
2- دعوى ظلم الإسلام للمرأة
3- حال المرأة قبل الإسلام
4- أنواع النكاح في الجاهلية
5- رفع الإسلام مكانة المرأة
6- مساواة المرأة للرجل في بعض المسائل بل في أهمها7- مظاهر تكريم المرأة في الإسلام
_________
الخطبة الأولى
_________
تحدثنا في الخطبة السابقة عن ما يدبره أعداء هذا الدين من كيد للإسلام والمسلمين وأنهم لما عجزوا عن مواجهة هذا الدين بالسلاح واجهوه بالغزو الفكري الثقافي يشوهون بذلك صورة الإسلام عند غير المسلمين ويشككون المسلمين في دينهم.
وذكرنا أن من أكبر وسائلهم التي حاولوا ضرب المسلمين من خلالها هي المرأة.
فأشاعوا ونشروا حول مكانة المرأة في الإسلام الأباطيل والشبهات.
ومن أكبر أباطيلهم التي حاولوا نشرها والترويج لها بين المسلمين مقولتهم الباطلة بأن الإسلام قد ظلم المرأة وأهانها.
فنقف مع هذه التهمة الباطلة والمقولة الآثمة لنتبين بطلانها، ونرد على قائليها ومروجيها من أعداء الله ومن أعداء رسوله ردا إجماليا أولا، ثم ردا تفصيليا بعد ذلك بعون الله :
أولا: يقولون قد ظلم الإسلام المرأة وأهانها.
فنقول محذرين ومنبهين أن هذه المقولة كفر ويجب الحذر منها. وذلك لأن الإسلام هو دين الله عز وجل وهو الذي أنزله وشرعه لنا قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.
ومن هنا نقول بأن من قال بأن الإسلام قد ظلم المرأة أو أهانها فانه إنما يقول أن الله عز وجل قد ظلم المرأة وأهانها، تعالى عما يقول الجاهلون الظالمون علوا كبيرا. يقول الله تعالى ولا يظلم ربك أحداً ، وقال تعالى: إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وقال تعالى: إن الله لا يظلم الناس شيئاً ، فالقول بأن الله قد ظلم المرأة بعد ذلك هو تكذيب للقرآن، وتكذيب القرآن كفر.
هذا هو الرد الإجمالي الذي يجب علي كل مسلم أن يفهمه ويعيه ويفهمه للعالم كله. وهو أننا مؤمنون بأن الله عز وجل لا يظلم أحدا.
ثم تعال أخي المؤمن الموحد ننظر في حال المرأة قبل الإسلام ثم في حالها بعد الإسلام لنرى هل ظلم الإسلام المرأة أو أهانها؟ وهذا هو الرد التفصيلي :
1 – كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام ينظرون إلى المرأة على أنها متاع من الأمتعة التي يمتلكونها مثل الأموال والبهائم، ويتصرفون فيها كيف شاءوا.
2 – وكان العرب لا يورثون المرأة، ويرون أن ليس لها حق في الإرث، وكانوا يقولون: لا يرثنا إلا من يحمل السيف ويحمي البيضة.
3 – وكذلك لم يكن للمرأة على زوجها أي حق، وليس للطلاق عدد محدود، وليس لتعدد الزوجات عدد معين.
وكان العرب إذا مات الرجل وله زوجة وأولاد من غيرها كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثا كبقية أموال أبيه. فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: (كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه، فهو أحق بامرأته إن شاء أمسكها، أو يحبسها حتى تفتدي بصداقها أو تموت فيذهب بمالها).
وقد كانت العدة للمرأة إذا مات زوجها سنة كاملة. وكانت المرأة تحد علي زوجها شر حداد وأقبحه، فتلبس شر ملابسها وتسكن شر الغرف، وتترك الزينة والتطيب والطهارة، فلا تمس ماء، ولا تقلم ظفرا، ولا تزيل شعرا ولا تبدو للناس في مجتمعهم، فإذا انتهى العام خرجت بأقبح منظر وأنتن رائحة.
4 – وكان عند العرب أنواع من الزيجات الفاسدة.
منها اشتراك مجموعة من الرجال بالدخول على امرأة واحدة ثم إعطائها حق الولد تلحقه بمن شاءت منهم. فتقول إذا ولدت: هو ولدك يا فلان. فيلحق به ويكون ولده.
ومنها نكاح الاستبضاع وهو أن يرسل الرجل زوجته لرجل آخر من كبار القوم لكي تأتي بولد منه يتصف بصفات ذلك الكبير في قومه.
ومنها نكاح المتعة وهو المؤقت.
ومنها نكاح الشغار: وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته أو موليته لرجل آخر على أن يزوجه هو موليته بدون مهر، وذلك لأنهم يتعاملون على أساس أن المرأة يمتلكونها كما يمتلكون السلعة.
5 – وكذلك كان العرب يكرهون البنات ويدفنونهن في التراب أحياء خشية العار كما يزعمون. وقد ذمهم الله بذلك وأنكر عليهم فقال تعالى: وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت.
وهذا كان حال المرأة في الجاهلية قبل الإسلام عند العرب وكان حالها مثله عند غير العرب وكان حالها مثله عند غير العرب كذلك فكان اليهود مثلا إذا حاضت المرأة لا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يجالسونها وينصبون لها خيمة في وسط البيت وكأنها نجاسة أو قذارة.
وكذلك كان حالها عند الشعوب الأخرى.
ولما جاء الإسلام ونزل القرآن رفع الله مكانة المرأة وأعزها وأكرمها، يقول أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضى الله عنه: (كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا فلما جاء الإسلام، وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقا).
وتأمل يا عبد الله: (لما جاء الإسلام).
لم يعتبر الإسلام المرأة مكروهة أو مهانة، كما كانت في الجاهلية، ولكنه قرر حقيقة تزيل عنها هذا الهوان، وهى أن المرأة قسيمة الرجل، لها ما له من الحقوق قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما النساء شقائق الرجال)) رواه أبو داود والترمذي.
وعليها أيضا من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها، وعلى الرجل أن يكون وليها يحوطها ويذود عنها بدمه، وينفق عليها من كسبه.
ومن مظاهر تكريم المرأة في الاسلام أن ساواها بالرجل في أهلية الوجوب والآداء ،وأثبت لها حقها في التصرف ومباشرة جميع الحقوق كحق البيع والشراء والتملك وغير ذلك.
ولقد كرم الله المرأة حينما أخبر أنه خلقنا من ذكر وأنثى وجعل ميزان التفاضل بيننا هو تقوى الله.
قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير.
وكذلك ذكرها الله مع الرجل فقال تعالى: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً.
ومن مظاهر تكريم الإسلام للمرأة أن اعتنى بشؤونها، ونبه على أمرها في القرآن والأحاديث، وقد أنزل الله سورة كاملة من السور الطوال باسم النساء (وهي سورة النساء)، وقد تحدثت السورة عن أمور هامة تتعلق بالمرأة والأسرة والدولة والمجتمع.
وكذلك من مظاهر التكريم للمرأة تكريم الأم فقد عظم الإسلام من شأن الأم قال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ، وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ، وقال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)) متفق عليه.
ومن مظاهر تكريم الإسلام للمرأة عنايته بحقوق الزوجات فلقد كان مما قاله في خطبته في حجة الوداع: (( فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) مسلم.
وكذلكم من مظاهر تكريم الإسلام للمرأة إعطاءها الحرية في اختيار الزوج بالقيود الشرعية. فعن عائشة رضى الله عنها: ((قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها - يعني يزوجونها – أتستأمر أم لا؟ (يعني هل تستأذن) فقال: نعم تستأمر، قالت: فقلت له: إنها تستحي فقال صلى الله عليه وسلم: فذلك إذنها، إذا هي سكتت)) متفق عليه.
ومن مظاهر تكريم المرأة في الإسلام أن الإسلام حث على تربية البنات ورتب عليها أجرا عظيما، عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه. رواه مسلم.
ولم يرد مثل هذا الحديث في تربية الذكور من الأولاد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/302)
التعدد في الإسلام
فقه
النكاح
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعدد الزوجات موجود في الأمم السابقة
2- خطأ الواقع والتطبيق لا يرفع حكمة التشريع
3- بعض حكم الشريعة في إقرار تعدد الزوجات
4- بعض من تشويه أعداء الإسلام لحقائق الدين المتعلقة بالمرأة
5- شريعة الله شريعة اللطيف الخبير
_________
الخطبة الأولى
_________
إن أعداء الإسلام قد شككوا في دين الله عز وجل من خلال بعض قضايا المرأة وقد أشرنا إلى بعضها فيما سبق ونشير اليوم إلى بقيتها.
اعلم وفقك الله أن مما أثاره أعداء ديننا من كفار ومنافقين قضية تعدد الزوجات.
ولقد وجد التعدد في الشرائع السابقة وفي المجتمعات البشرية القديمة، فوجد عند اليهود والنصارى كما وجد عند الصينيين والبابليين والآشوريين والهنود وغيرهم.
كما كانالتعدد عند العرب قبل الإسلام إلا أنه تبرز فيه ناحيتان :
1 – أنه لا حد له 2 – المرأة تتعرض فيه للظلم
ولما جاء الإسلام وأباح التعدد حدده بأربع ورفع الظلم عن المرأة.
ويجب أن نعلم عباد الله أن الله عز وجل عندما أباح التعدد حرم الظلم ، أما اليوم فقد اقترن التعدد بالظلم.
وهل هذا عيب في ديننا أم هو عيب في المسلمين الذين أخطأوا في تطبيق شرع الله ؟. إن الذين يتزوجون الثانية والثالثة والرابعة ثم يظلمون لا يطبقون أمر الله.
إننا يجب أن نعلم ونوقن أن الله عز وجل حكيم خبير، وقد ذكر الله ذلك في مواضع كثيرة من القرآن.
إن المؤمن منا لا يقبل أن يناقش في قضية التعدد من حيث ثبوتها لأنها قد ثبتت في القرآن ولا من حيث صلاحيتها للمجتمع ونفعها لأن الذي شرعها هو الحكيم الخبير. فهل يشك مسلم مؤمن في حكمة الله ؟ كلا انه كفر.
إذا فكيف يرضى مسلم أن يناقش هذه القضية وأن توضع كما يقولون على مائدة البحث للنظر في صلاحيتها ؟ كيف يكون ذلك والله عز وجل قد قرر ذلك منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا فقال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع.
إنها والله قضية من أخطر القضايا، أن نجر من حيث نشعر أو لا نشعر إلى نقاش لا يحق لنا الخوض فيه.
هناك ضرورات من جانب الرجال قد تدعوهم إلى التعدد كأن يجد الرجل زوجته عقيما فهل إذا تزوج طلبا للولد يكون خائنا؟ لاشك أن هذا لا يقوله عاقل، أو قد تكون المرأة مريضة أو ناشزا، أو أن تكون غير كافية لقضاء وطره، فهل الأفضل لمثل هؤلاء الزوجات أن يتزوج أزواجهن بزوجات ثانية أم يطلقونهن ثم يتزوجون غيرهن ؟
كما أن هناك حاجة وضرورة من جانب النساء، فالملاحظ أن عدد النساء يفوق بصورة مطردة عدد الرجال في أكثر المجتمعات، ولكي تحفظ للمرأة كرامتها وعفتها فلابد من التعدد.
إن المجتمع اليوم يمتلئ بالشابات العوانس اللاتي تجاوزن سن الزواج، وكثير منهن يعتصرها الألم ويلفها الحزن وهي ترى عقارب الزمن تمضي دون أن يتقدم إليها من يطلبها.
وإذا كانت هناك بعض الفتيات يرددن ببلاهة ما تنعق به غربان السوء في مضار التعدد وهن في أعماقهن يتقن إلى الزواج لأنه حاجة فطرية فإن هناك الكثير من الفتيات يتمنين نصف الزوج وربع الزوج إن صح التعبير.
ولو فكرنا قليلا لرأينا كيف يمثل تكدس البنات في البيوت بلا زواج من خطر.. انه خطر لا يعلمه إلا الله.
وأما قضية الظلم التي يحدث من المعددين للزوجات فليس ذلك ذنب الإسلام، لأن الإسلام قد حرم الظلم، بل وتهدد من ظلم في هذه القضية أن يأتي يوم القيامة وشقه مائل فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)) رواه أبو داود.
ومن القضايا التي يطرحها أعداء الإسلام قضية الحجاب.
وهذه القضية قد أقلقت راحتهم وأقضت مضاجعهم فتراهم لا يهدأ لهم بال ولا يفترون عن الكلام عنها ذما وقدحا.
يصفون الحجاب بأنه :حبس للمرأة، وأنه تخلف ورجعية، وأنه دلالة على عدم صفاء قلوب الذين يطالبون به.
ويقولون بأن المرأة العفيفة لا تحتاج إلى الحجاب وأن حجابها هو حياؤها.
وهذا من أعجب العجب !!
وهل يبقى للمرأة حياء إذا خرجت متكشفة متبرجة أمام الرجال ؟ هذا ما لا يقبله العقل ، لكن أعداء الله يكذبون ويخادعون لكي يصلوا إلى ما يريدون وهو إفساد المرأة.
ولو أنهم آمنوا بالله وبرسوله لعلموا أنه أمر الله الذي أمر به المرأة المسلمة فقال تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً الآية.
انه أمر الله وليس أمر أحد من البشر فهل يصدقهم بعد ذلك مؤمن ؟!
ثم بعد ذلك ينادون بالاختلاط ـ وأعداء الإسلام أذكياء يخططون شيئا فشيئاـ فيطلبون من المرأة أولا نزع الحجاب ثم يطلبون منها الخروج مع الرجال ومخالطتهم وتلك هي خطوات الشيطان، وقد حذرنا الله منها في غير موضع من كتابه فقال: ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين.
وبعد عباد الله فهذه بعض القضايا التي أثارها أعداء الإسلام من كفار ومنافقين، وهناك غيرها من القضايا لا نريد الإطالة بذكرها كمثل قضية الطلاق وقضية الميراث وديّة المرأة وغيرها من القضايا
لكننا نقول :
إننا مؤمنون بأن الله عز وجل الذي شرع هذه الأمور لنا هو الحكيم الخبير العليم اللطيف قال تعالى: وخلق كل شيء فقدره تقديراً يعلم سبحانه وتعالى ما يصلح لعباده وما يفسدهم قال تعالى: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير وهو الحكيم سبحانه فيختار لهم بحكمته ما فيه خيرهم وصلاحهم ولا يمكن أن يشرع لهم أمرا فيه ضرر.
أيها المؤمنون: إن إيماننا بذلك يقطع الطريق على أولئك المشككين من أعداء هذا الدين ولا يمكن أن يصلوا إلى ما يريدون في تشكيكنا في كتاب ربنا ما دمنا مؤمنين موقنين بحكمته سبحانه وتعالى.
والحكيم هو الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب.
وقال ابن كثير رحمه الله : الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله.
عباد الله إن الذين يرضون بأن يناقش كتاب الله وما فيه من أوامر وأحكام صادرة عن الله عز وجل لم يفقهوا ذلك، وقد وقعوا في خلل كبير من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
إن المؤمن يرفض ذلك.
نعم ، فمن ذا الذي يتجرأ على البحث في قضية تعدد الزوجات مثلا من حيث صلاحيتها أو عدم صلاحيتها، وهى قضية قد حكم فيها ربنا من فوق سبع سماوات وأباحها لخلقه فقال: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع.
وعلى ذلك فقس كل من يريد مناقشة قضايا قد قررها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فماذا يقول لربه تبارك وتعالى يوم القيامة إذا أوقف بين يديه ؟
هل شك في عدل الله أو شك في رحمة الله بعباده ؟
عباد الله يجب أن نفهم جيدا وأن نعي جيدا أن القضية ليست قضية حجاب ولا ميراث ولا تعدد وإنما هي حرب بين الإيمان والكفر، وأنهم لا يريدون منا أن نقف عند هذا الحد، بل يطمعون في إخراجنا من ديننا بالكلية ، نعم هذا ما يريده أعداء الإسلام.
إنها حرب على الإسلام وأهله ، وإننا والله لو وافقناهم في كثير مما يقولون فلن يرضوا بذلك ولن يكفيهم إلا أن نكون مثلهم عياذا بالله.
قال تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.
إذا فلو تركنا التعدد، ولو جعلنا النساء يخرجن بغير حجاب، ولو فعلنا ما فعلنا فلن يهدأ لهم بال، ولن يطمئنوا حتى نصبح مثلهم ، قال تعالى: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء
وهكذا يجلي لنا ربنا القضية بكل وضوح ليتبين ما يريده منا أعداؤنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/303)
الربا.. حكمه وخطره
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصوص تُحذر من الربا 2- عقوبة أكل الربا في الآخرة 3- صور معاصرة للربا
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بطاعتكم له وكثرة ذكره تسعدوا، وأكثروا الصدقة في السر والعلانية ترزقوا، وأمروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تنصروا، ولا يتطاولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم، ولا يلهينكم الأمل فكل ما هو آت قريب، وإنما البعيد ما ليس بآت، فلا تكونوا ممن خدعته العاجلة، وغرته الأمنية، واستهوته الخدعة، فركن إلى دار سريعة الزوال وشيكة الانتقال، بل خذوا الأهبة للنقلة، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة، فإن كل امرئ على ما قدم قادم، وعلى ما خلّف نادم.
أيها الناس: كان نبيكم محمد كثيراً ما يذكر الربا في خطبه ومواعظه، محذرا منه، مبيناً خطره، منبهاً على عظم شأنه وسوء عاقبة أهله في العاجلة والآجلة؛ إقامة للحجة، وقطعاً للمعذرة، ونصحاً للعباد، وتذكيراً بسوء حال أَكلتِهِ يوم المعاد؛ فقد صح عنه أنه عدّ أكل الربا من السبع الموبقات – التي توبق أهلها في الإثم، ثم تغمسهم في النار – وقرنه بالشرك بالله والسحر. وصح عنه أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: ((هم في الإثم سواء)). واللعن من الرسول هو الدعاء بالطرد والإبعاد عن مظان الرحمة. فأي عاقل ناصح لنفسه يرضى لنفسه أن تحقق فيه دعوة النبي عليه باللعن؟! وصح عنه أنه رأى آكل الربا يسبح في نهر من دم كلما أراد الخروج منه رُمِيَ في فيه بحجر فأبعد.
وروي عنه أنه وقف يوما على الصيارفة فقال: ((أبشروا بالنار)). وروي أنه قال: ((أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمهاً: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم، والعاق لوالديه)) ، وروي عنه أنه قال: ((إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل)). وروي أنه قال: ((الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل ان ينكح الرجل أمه)). وكفى بذلكم – يا عباد الله – زجراً عن الربا، وتنبيهاً على فظاعة التعامل به، وتحذيراً من سوء منقلب آكله، فما أشنعه من معاملة! وما أشأمه من كسب! ولذا روي عنه أنه قال: ((شر المكاسب كسب الربا)).
أيها المسلمون: ولقد جاءت نصوص القرآن المجيد بوعيد أكلة الربا بضروب العقوبات وألوان الوعيد، وفي ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. قال تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم [سورة البقرة:275-276].
وقال تعالى: يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون [سورة البقرة:278-279].
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين [سورة آل عمران:130-131].
فأخبر سبحانه أن أكلة الربا يقومون يوم القيامة من قبورهم مجانين – أو في هيئة المجانين – يصرعون ويخنقون، وكفى بذلك تنبيها على سوء حالهم يوم المعاد، وفضيحة لهم بين العباد على رؤوس الأشهاد. ولما كان أكلة الربا يحاربون الله ورسوله بهذه المعاملة الظالمة الآثمة آذنهم الله بحرب منه ومن رسوله، ومن حاربه الله ورسوله فهو مهزوم مغلوب، فأين المدَّكر؟؟ سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر [القمر:45-46].
ولذا توعدهم الله يوم القيامة – إن لم يتوبوا عن الربا وينتهوا – بالنار التي أعدت للكافرين؛ هم أصحابها، وهي صاحبتهم، يلازمونها وتلازمهم ملازمة الغريم لغريمه، فلا فكاك لأحدهما من الآخر في ذلك اليوم الآخر، فهذا جزاؤهم إن جازاهم الله يوم تبلى السرائر.
وأي لحم نبت من سحت فالنار أولى به. فيا ويل آكل الربا يوم حسابه مما بين النبي ذلك في فصيح خطابه: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) فما أعظم الحسرة والندامة!!.
أيها المسلمون: لقد تواطأت السنة مع القران في وعيد أكلة الربا لما ارتكبوه من شنيع الإثم وعظيم العدوان، فاحذروا أن تكونوا ممن يشمله هذا الوعيد، فإن عذاب الله شديد. فقد صح في الحديث عن النبي أنه قال: ((إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل توضع في أخص قدميه جمرة من النار يغلي منها دماغه)).
أيها المسلمون: اعلموا أنكم اليوم في زمان ومكان قد فشا فيهما الربا، وأكله كثير من الناس إيثاراً للحياة الدنيا على الآخرة، فتعامل به، وأكله كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وهم يعلمون أنه كسب حرام، فتحقق قول النبي : ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ من المال، أمن الحلال أم الحرام)).
فيا ويحهم – إن لم يتوبوا – يوم يعرضون لا تخفى منهم خافية، فيسألون عما ارتكبوه في هذه الدنيا الفانية، فلزم الجواب، وزال الارتياب فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون [سورة الحجر:92-93].
أيها المسلمون: إن كثيرين من الناس اليوم استحلوا الربا بالبيع باسمه وصورته وتحت ستاره، يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، وما منهم أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فليعدوا للسؤال جواباً، وليكن الجواب صواباً، وإلا فليحذروا النار فإنها موعودة بكل آثم كفار.
أيها المسلمون: إن مما تجري به معاملات الناس اليوم أخذ الزيادة التي يسمونها زوراً وبهتاناً: الفائدة؛ يأخذها الدائن من المدين نظير تأجيل الدين من قرض أو ثمن مبيع أو نتيجة تفضيل أحد المبيعين على الآخر مما يجري فيه ربا الفضل: كالذهب بالذهب، وغيره مما فيه علة الربا، وقد تكون هذه الزيادة مشروطة، وقد تكون متعارفاً عليها كما هو واقع كثير من المعاملات البنكية وغيرها من المعاملات الربوية الشائعة في هذا الزمان والتي اكتوى بنارها كثير من بني الإنسان. من ذلك:
- الإقراض النقدي من شخص أو مؤسسة مالية لطرف آخر إلى أجل، حيث يفرضون على هذا القرض زيادة تقدر بنسبة مئوية.
- الفوائد التي تؤخذ مقابل تأجيل الديون الحالة على الأشخاص أو المؤسسات إلى فترة أخرى يرجى أن تتمكن من تسليم ما عليها من التزامات، وتتضاعف هذه الفائدة كلما تأخر التسديد.
فهاتان الصورتان من ربا النسيئة الذي كانت تتعامل به الجاهلية حين نزل القران، وجاء بشأنها الوعيد الشديد والتهديد الأكيد، حيث كان أهل الجاهلية يقرضون أو يقترضون الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة تزداد كلما تأخر الوفاء، وكانوا يأخذونها أيضا مقابل تأجيل الدين الحالِّ إلى أجل آخر، حيث يقول الدائن لمدينه: إما أن تقضي أو تربي.
ومن صور الربا المعاصر ما يقوم به بعض الأشخاص أو المؤسسات المالية من تمويل بعض المشروعات العمرانية أو الزراعية أو الصناعية ونحوها بما يلزم لإنشائها من المواد ونحوها بسعر السوق – وقت العقد أو الطلب – على أن يرد صاحب المشروع للممول هذا المبلغ مع زيادة تقدر بنسبة مئوية قد تكون قابلة للزيادة مقابل ذلك.
ومن صور الربا – أيضا – بيع عملات الدول المختلفة عملة بأخرى دون تسليم وقبض المبيعين أو أحدهما في مجلس البيع. وكذلك بيع الذهب بالأوراق النقدية دون قبض.
أيها المسلمون: فهذه صور من الربا وغيرها كثير مما لا يمكن حصره في هذه الذكرى مما يتعامل بها بعض الناس، وهي ربا صريح، ومنكر قبيح، وكثيرين يجهلون ذلك، وآخرون يعرفون ولكن قتلهم الشح والتهالك، اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فبئس ما يشترون، قد عرضوا أنفسهم لأليم العذاب وشديد العقاب: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم [سورة التوبة:63].
أيها المسلمون: اجتنبوا الربا وكل كسب حرام؛ فإنه يمنع إجابة الدعاء، ويورث الشقاء، ويجلب أنواع البلاء، ويقسي القلوب، ويغريها بالإثم والفحشاء، لا تسمع من صاحبه الدعوات، ولا تقبل منه الصدقات، ولا يبارك الله في التجارات، ولا يثاب على النفقات، عليه غرمه ولغيره غُنمه.
فاتقوا الله يا أهل الإسلام، واجتنبوا الحرام، واحذروا الآثام ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن استغنى عن شيء أغناه الله عنه، ومن يستعفف يعفه الله ن ومن يتق الله يرزقه الله: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً [سورة الطلاق:2-3]. ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً [سورة الطلاق:4-5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/304)
في التحذير من فتنتي الدنيا والنساء
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, المرأة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فُشُو المنكرات سبب لنزول العذاب 2- رسول الله يحذر من فتنة النساء 3- تبرج النساء
وخروجهنّ إلى الأسواق 4- دور الصلاة في قمع الفتن
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أوصيكم ونفسي بالتقوى، فإنها هي الوصية العظمى، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم، فإن التمسك بهما هو العروة الوثقى، واحذروا الذنوب ولا تجترئوا على علام الغيوب، وقد خاب من حمل ظلماً، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، ما دمتم في زمن الإمهال سلماً، وإلا فإقرار المنكرات سبب لخراب الديار العامرات، وقد تحققتم ذلك علماً، ولقد ورد عن نبيكم أنه قال: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)).
وفي صحيح البخاري – رحمه الله – قيل: يا رسول الله! – أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) ، وفيه أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((استيقظ رسول الله ليلة فزعاً مذعوراً يقول: سبحانه، ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ ومن يوقظ صواحب الحجرات – يريد أزواجه – لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)).
أيها المسلمون: تضمن هذا الحديث الصحيح تحذيركم من فتنتين عظمتين أشار النبي إلى أولاهما بقوله: ((ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟)). يعني: فتن الدنيا، وأشار إلى الأخرى بقوله: ((رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)). يعني: فتنة النساء. ولقد جاء التصريح بهما والتحذير منهما في الحديث الذي رواه مسلم رحمه الله عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)).
وفي الصحيحين عنه أيضا عن النبي قال: ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) ، وفيهما أيضا عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) وأخبر أن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.
أيها المسلمون: إن المتأمل لأوضاع العالم الإسلامي في القرون المتأخرة يجد أن فساد أكثر مجتمعاته كان بهاتين الفتنتين، فتحت الدنيا عليهم أو على مترفيهم فطغت نساؤهم، وضعف أمامها المترفون منهم فخرجت للشوارع سافرة، ونزعت الحجاب متبرجة، وزاحمت الرجال في المكاتب والأسواق والمنتزهات جريئة غير مستحية ولا خجلة، فانفردت بغير محرمها مخاطرة بشرفها وعفتها، متجاهلة سوء عاقبة جريمتها؛ فعمّت الفتن، ووقعت المصائب، وعاجلتهم العقوبة، حيث اختل أمنهم، واشتهرت فضائحهم، وولى الله عليهم شرارهم وسفهاءهم، وسطلهم على خيارهم لقاء تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعديهم حدود الله وانتهاكهم حرماته: وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون [سورة الأنعام:129]. فزال سلطان ذوي الدين والرأي منهم، وذهبت نعمتهم من بين أيديهم، وجعل الله بأسهم بينهم، وسلط عليهم عدوهم ،فاستباح حرماتهم، وأذل عزتهم، وأذهب كرامتهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فاتعظوا – رحمكم الله – بمن مضى من القرون، واعتبروا بمن حولكم أيها السامعون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون. أحلنا الله وإياكم دار الأمن والسلامة، وجنبنا وإياكم ما يوجب غضبه وانتقامه.
أيها المسلمون: إن ما حدث في الأمصار من فتنة النساء التي أزال الله عنهم بها النعماء، وأحل بهم أصناف الشقاء والبلاء، والتي كان مبتدؤها خروجهن من المنازل، ووقوعهن بأنواع المهازل، كانت قد سبقتها دعوات مغرضة أغرتهن بالخروج إلى الأسواق ومواطن الفساق، وزينت لهن السفور، وشككتهن في الحجاب من حيث الشرعية والجدوى ،وحثتهن على مزاحمة الرجال في الميادين، والأعمال، بواسطة الفكرة المصورة والقصة المزورة عبر الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، والمنهج، والأستاذ ،ثم تبع ذلك تهيئة الأسباب وتوفير الوسائل وإتاحة الفرص، والتشكيك في صدق وسعة أفق من يعارض ذلك من الناصحين الذين يحثون على الاستفادة من تجارب السابقين، حتى نفذ المقدور، وتعسرت الأمور، وذاق أولئك ما في خروج النساء من بيوتهن، وخروجهن على أولياء أمورهن، وتعديهن لحدود خالقهن، من الشرور وذهاب السرور.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وخذوا حذركم، واعتبروا بغيركم، واتعظوا بمن سبقكم؛ فإن السعيد من وعظ بغيره، والتقي من وعظ بنفسه، فإنكم تعيشون الفتنة، وتجري لكم نفس المكيدة، وستواجهون – إن لم تحذروا وتتقوا وتستدركوا فتصلحوا – أخطر النتيجة وأعظم المصيبة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون [سورة الأنفال:24-26].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من لكل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الرحيم الرحمن، الملك الديان، أحمده سبحانه، يسأله من في السماوات والأرض، كل يوم هو في شأن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون فيما أنتم عليه من الدين والنعمة والهدى، واتقوا الله في النساء ؛ فإن الله جعلكم عليها قوامين وعليها مؤتمنين: لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [سورة الأنفال:27]؛ فإن الرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته ،وأول مسؤوليته أن يقيمهم على طاعة الله، وأن يقيهم ناراً وقودها الناس والحجارة. ولقد نبهكم على ما به تتقون فتنة النساء وكيد الأعداء بقوله: ((ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟)) فإن في ذلك توجيهاً للرجل أن يحذر أهله مما يعلم من الفتن، وأن يقطع عنه أسباب المحن، ولابد من العزم على ذلك، والحزم مع أولئك.
وفي قوله : ((من يوقظ صواحب الحجرات؟)) تنبيه منه على أثر الصلاة في الاستقامة، وأنها من أسباب السلامة من موجبات الندامة.
وقد قال تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [سورة طه:132]. وقال سبحانه: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [سورة العنكبوت:45]. فإذا نشأ أهل البيت على الصلاة، فرضها ونفلها، وأخص النفل صلاة الليل؛ كان ذلك من أسباب النجاة من الفتن، واتقاء الشرور والمحن.
وفي قوله : ((رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)) تنبيه على أثر اللباس في السلوك، وأنه إن كان فاتناً كان من أسباب المهالك، وإن كان شرعياً عصم الله مرتديته من شر ما هنالك. وفيه أيضاً تذكير بأن اللباس إذا كان فيه فتنة فهو من أسباب الفضيحة في الآخرة، كيف لا وقد ذكر النبي من أصناف أهل النار: ((نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة)).
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتائ ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [سورة النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/305)
الحث على الاستعداد للموت وما بعده من الأهوال
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عاقبة المتقين وعاقبة الفجّار في الآخرة 2- الدنيا فرصة لعمارة الآخرة 3- حال الناس في
يوم القيامة وأهواله 4- موعظة في تذكر الموت
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [سورة آل عمران:161]. واعلموا أن الله تعالى قد خلقنا لعبادته، وأمرنا بطاعته، ووعدنا على تحقيق ذلك بفسيح الجنان وعظيم الرضوان، كما قال في محكم القرآن: آلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين ءامنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم [سورة يونس:62-64]. وقال سبحانه: يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم [سورة التوبة:21-22]. وأما من عصى ولم يقبل الهدى، بل طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [سورة النازعات:39]. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين [سورة النساء:14].
أيها الناس: ما أقرب الحياة من الممات؛ فليس بينكم وبين ذلك إلا أن يقال: فلان مات ،فإن الدنيا موصولة بالآخرة، فمن حضره أجله رحل وقدم على ما قدَّم من العمل، وأنتم في هذه الدنيا ممهلون إلى أجل مسمى، ومستخلفون لتبلون أيكم أحسن عملاً، فإذا استنفدتم الأنفاس، واستكملتم الأرزاق، وبلغتم الآجال، وأوشكتم على انقطاع الأعمال، نزل بكم الموت، وانقطع منكم النفس والصوت ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون [سورة المنافقون:11]! فحينئذ تنقلون من القصور إلى القبور، وتبقون في الدار البرزخ إلى يوم النشور، إما في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار، بحسب الجواب على السؤال، حيث يتولى عنكم المشيعون حتى أنكم لتسمعون منهم قرع النعال، فأعادوا للسؤال جواباً، وليكن الجواب صواباً.
عباد الله: تذكروا هول المطلع، وتفكروا في أمر المنقلب، فتزودوا لذلك بصالح العمل، والتوبة إلى الله من التفريط والزلل، ما دمتم في فسحة من الأجل، ولا تكتموا الله صغيرا ولا كبيرا أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحُصِّل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير [سورة العاديات:9-11]. وستشهد الأرض بقدرة باريها بما عمل كل امرئ في الدنيا عليها؛ تقول: عمل عليَّ كذا وكذا يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها [الزلزلة:4-5]. وستشهد أعداء الله الجلود والأسماع والأبصار يوم يحشرون إلى النار حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون [فصلت:20-21].
فتذكر أيها الظالم يوما تنطق فيه الشهود منك عليك، وتفر من أقرب الناس إليك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [سورة عبس:34-37]، ولا يكفي الظالم أن يبتعد عن ذويه بالفرار بل يود لو يفتدي بهم في النار يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تئويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه [سورة المعارج:11-14].
فما أعظم الهول! وما أشد الكرب! ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً [سورة الكهف:49]. يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينهم أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد [سورة آل عمران:30]. والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون [سورة الأعراف:8-9].
وكل يومئذ آخذ كتابه، فآخذ كتباه بيمينه وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية [سورة الحاقة:19-24].
وقال تعالى: وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً ويصلى سعيراً [سورة الانشقاق:10-12].
ويقول حين يأخذ كتابه بشماله: وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه إنه كان لا يؤمن الله العظيم [سورة الحاقة:25-27].
أيها المسلمون: والهول العظيم والكرب الشديد حين يضرب الصراط بين ظهراني جهنم، ويؤمر الناس أخيارهم وأشرارهم بالمرور عليه؛ فناج مخدوش، وناج مسلم، ومكردس في نار جهنم، ودعوة الرسل: اللهم سلِّم سلِّم، وذلك تحقيقاً لقوله تعالى: وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً [مريم:71-72]. فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [سورة آل عمران:185].
كان أبو ميسرة رحمه الله إذا آوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فيقول: أخبرنا الله أنا واردوها – يعني النار – ولم نخبر أننا صادرون عنها. وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري رحمهما الله: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم. قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا، قال: ففيمَ الضحك؟.
فاتقوا الله معشر المسلمين فإن تقوى الله منجاة من النار، وسبب للفوز بالجنة دار الأبرار، ومن لم يتق فهو الشقي الذي يصلى النار وبئس القرار؛ قال تعالى: فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى [سورة الليل:14-18]. فما أعظم الأهوال! وما أشد النكال! يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [سورة الحج:1-2].
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تزحزحنا عن النار، وتدخلنا الجنة مع الأبرار، يا رحيم يا كريم يا غفار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين والناصح المبين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله فإنه من اتقاه وقاه، ومن سارع إلى طاعته فاز بمغفرته وجنته ورضاه، وأمن من الخزي والندامة يوم ينظر المرء ما قدمت يداه.
أيها الناس: إنه والله الجد لا اللعب، والصدق لا الكذب، وما هو إلا الموت أسمع داعيه، فأعجل حاديه، فأكثروا ذكر الموت هادم اللذات، وخذوا من مصارع ذويكم ومن حولكم أبلغ العظات، فقد رأيتم من جمع المال وحذر الإقلال، وأمن العواقب لطول الأمل واستبعاد الأجل، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه، وأخذه من مأمنه؟ وكم رأيتم ممن يؤملون بعيدا ويبنون مشيداً، ويجمعون كثيراً، فأخذوا على غرة، وأزعجوا بعد الطمأنينة، فأصبحت بيوتهم قبوراً، وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين، وهم لا في حسنة يزيدون، ولا من سيئة ينقصون.
عباد الله: أكثروا ذكر الموت، فإن ذكره يرقق القلوب، ويبعث على خشية علام الغيوب، ويزهد في الدنيا، وينشط على العمل الصالح للأخرى، وإذا ذكرتموه في ضيق عيش وسعة عليكم فرضيتم به فأجرتم، وإن ذكرتموه في غنى زهدكم فيه فجدتم به فأثبتم.
معشر المسلمين: خذوا من ذلك عبرة، فإن العاقل من انتفع بالموعظة وأخذ حذره، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ومهدوا لها قبل أن تعذبوا، فإن الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله والأماني.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [سورة النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يردكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/306)
حرب كوسوفا
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
14/1/1420
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصراع بين الحق والباطل تتعدد صوره ولا نهاية له 2- صور للصراع في بعض البلاد
الإسلامية 3- صور من جرائم الصرب في كوسوفا 4- التحذير من موالاة الكافرين
5- بعض صور الإساءة لديننا وصلت إلى صدور أبنائنا
_________
الخطبة الأولى
_________
منذ أن بزغت شمس الإسلام وأعداء هذا الدين لم يهدأ لهم بال ولم يقر لهم قرار.
حاربوه بكل ما استطاعوا، فحاولوا تشويه الدين وتشويه صورة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يقبل منه الناس.
ثم لما فشلوا لجئوا لاستخدام السلاح فقاتلوا رسول الله ومن آمن معه ليردوهم عن دينهم، ونصر الله دينه وأعلى كلمته على كره من الكافرين.
لكن العداء والحرب بين الإسلام والكفر لم ينقطع ولن ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها، يقول تعالى مبينا حال الكفار معنا ولماذا يحاربوننا: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: ودوا لو تدهن فيدهنون ، هكذا العداء وسبب هذه الحرب ذلك لأننا مسلمون !!
وكذلك يبين الله أن هذه الحرب لن تنقطع، وأن هؤلاء الكافرين لن يتركونا حتى نكون مثلهم عياذا بالله، يقول عز وجل: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.
وها نحن اليوم عباد الله نرى هذه الحرب مستمرة ونعلم بأنها ستستمر إلى قيام الساعة.
إنها... سنة كونية
انه صراع الخير والشر.
صراع الحق والباطل.
حزب الله وحزب الشيطان.
والبشرى من عند الله في كتابه: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.
ويتكرر الصراع وتكون الحرب بين الفريقين، فريق الجنة وفريق السعير والجهاد ماض إلى قيام الساعة.
وهاهي اليوم تدور رحاها على اخوة لنا مسلمين في بقاع كثيرة من الأرض فيعذب المسلمون ويطردون من ديارهم ويقتلون بغير حساب.
ومن نظر وجد ذلك كثير في مناطق عديدة من العالم الإسلامي ففي فلسطين وفي الفلبين وكشمير واريتريا.
وفي كوسوفا، وما أدراك كوسوفا؟ ديار تدمر وتهدم ودماء تراق وأعراض تنتهك: وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.
إنه حدث الساعة. البلاء الذي حل بإخواننا هناك مالا تصدقه الأسماع ولا تتصوره العقول. قصص تروى مثل الخيال. وحشية ليس مثلها وحشية حيوانات الغابة.
وإجرام لا يماثله اجرام.
حقد دفين أتيحت له الفرصة، فخرج من قلوبهم ليترجم إلى أعمال تتنافى مع أبسط قواعد الرحمة والإنسانية.
وما مثلهم حين تمكنوا من المسلمين وفعلوا بهم ما فعلوا إلا كما أخبر الله عنهم: كيف وان يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً ولا ذمة.
هكذا يفعل أعداء الإسلام بالمسلمين الأفاعيل حين يتمكنون منهم، ووالله لو تمكنوا من أي بلد من بلاد المسلمين لفعلوا بهم ذلك كما فعلوا بإخوانهم. فنسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم وأن يقينا من شرورهم.
وتروي لنا اللجنة الإعلامية في مكتب ألبانيا من مؤسسة الحرمين الخيرية، تروي بعض القصص التي تدمي القلب.
يقول راوي القصة: تقول المرأة: بينما كنت وأطفالي في منزلنا في إحدى قرى كوسوفا دخل الجيش الصربي علينا فجأة فرأوني أطبخ الطعام، فسألوني بسخرية: ماذا تصنعين؟ قلت: أطبخ الطعام لأطفالي، فقالوا: ماذا تطبخين؟ قلت أطبخ فاصوليا فقالوا: هل معه لحم؟ قلت: لا فقالوا: سوف نوفر لك اللحم بالمجان. فأخذوا أحد أطفالي وذبحوه كما تذبح الشاه، وقطعوا من لحمه قطعة وألقوها في قدر الفاصوليا. ثم قالوا وهو يضحكون اطبخي هذا اللحم الجيد، ثم انصرفوا، وتركوني في حالة لا يعلم بها الا الله.
وذكرت إحدى النساء وهي تبكي: تزوجت قبل شهرين، وكنت حاملا، وأسكن مع زوجي في حالة طيبة، وفي أحد الأيام دخل الصرب في منزلنا بكل وقاحة فجعلوني في غرفة وزوجي في غرفة أخرى ثم...... ثم قالوا لي: ابحثي عن زوجك في المنزل ففتحت باب دورة المياه فرأيت زوجي وقد قطعت أذناه، وسملت عيناه، ويخرج من فمه وأنفه الدماء، وهو يئن من شدة الألم، ولم يمت بعد، فدخلوا عليه وأجهزوا عليه أمام عيني. وقالوا لي: ابحثي عن زوج آخر كي نعمل فيه مثلما رأيت.
ويحكي كذلك شاهد عيان فيقول: رأيت عند الحدود ألوفا من المهجرين الكوسوف، ولا أستطيع أن أصف بدقة الوضع الحالي لهم، وذلك أن الخبر ليس كالمعاينة، رأيت ما يدمي القلب ويدمع العين وتقشعر منه الأبدان، بعضهم على سياراتهم الخاصة منزوعة اللوحات والأوراق الرسمية، وبعضهم على الشاحنات، وأكثرهم مشاه علي الأقدام، يحمل بعضهم بعضا من شدة الإرهاق، ويمشون ساعة ويجلسون ساعة، أطفالهم مرة فوق أكتاف آبائهم وأمهاتهم، ومرة يجبرون على المشي مع قافلة المهاجرين، هذا يبكي لفقدان أمه، وهذا يبكي لفقدان ابنه، وهذا يبكي لتدمير منزله، وهذا يبكي لشدة الفزع والهلع، وبعضهم ما إن رآنا الا وصوته يرتفع بالبكاء ويعانقنا بحرارة يريد أن يبث لنا أحزانه وهمومه، رؤوسهم شعث غبر، أجسامهم هزيلة من شدة الإعياء والإرهاق، أعينهم محدقة ومنكرة، انتهى.
ومن المشاهد المتكررة أن المتجول بين اللاجئين الكوسوف يلاحظ على كل لاجيء البؤس والذهول... وكل لاجيء يحكي قصة مروعة مع الصرب المعتدين، وكثير من اللاجئين فقدوا الكثير من أقربائهم وأبنائهم وإخوانهم، والكثير منهم لا يعلم عن مصير الكثير من أقربائهم، فهذا يبحث عن أمه، وهذا يبحث عن أبيه، وهذا يبحث عن أمه، وهذا يبحث عن ابنه، ولا نقول إلا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: هذا ما يفعله أعداء الإسلام بإخواننا في تلك البلاد، وما حالهم وحالنا الا كما قال الشاعر :
أهل الكفر بالإسلام فيما
يطول به علي الدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح
وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أضحى سليبا
ومسلمة لها حرم سليب
وكم من مسجد جعلوه ديرا
على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوف
وتحريق المصاحف فيه طيب
فقل لذوي الكرامة حيث كانوا
أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
أما لله والإسلام حق
يدافع عنه شبان وشيب
أيها المسلمون...
وإن لنا مع هذا البلاء وقفات ودروس وعبر :
أولها: أن نعرف مدى الحقد والكره الذي يكنه لنا أعداؤنا ولو أظهروا جميل القول وحسن المعاملة في الرخاء إلا أن ذلك الحقد لا يظهر إلا عندما يتمكنون من المسلمين.
يقول تعالى مبينا ذلك: كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون.
أيها المؤمنون: لا تظنوا أن الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم يمكن أن يرضوا عنا يوما من الأيام، والله يقول في كتابه: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ويقول تعالى واصفا لحالهم معنا وناهيا لنا أن نحبهم: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون.
ومع ذلك كله عباد الله لا تزال طائفة من شباب هذه الأمة يعجبون بهم ويعظمونهم بل ويعلقون صورهم في غرفهم أو في سياراتهم أو في ملابسهم.
بل ويتشبهون بهم في مشيتهم ولباسهم وقصات شعورهم. فأين الولاء والبراء ؟
انه لا عجب عباد الله من حال الكافرين وتعاملهم مع المسلمين بهذه الوحشية، فهم حاقدون، وقد أخبرنا الله عنهم وعرفنا حالهم.
لكن العجب كل العجب من مسلم يعجب بكافر، ويكن له حبا ومودة في قلبه.
إن مما يؤسف له اليوم أن نجد في المسلمين من يفعل ذلك في حين أن الكافرين يقتلون إخواننا وينتهكون أعراضهم.
يا أمة الجسد الواحد أين التألم لما يصيب إخواننا هناك، أم أن هناك صنف من الناس لا يحس إلا إذا أصابه الأذى في نفسه أو أهله أو ماله؟ عافانا الله وإياكم.
عباد الله: هانحن نرى الكافرين يستهزئون بنا وبديننا وبنبينا، بل ويستهزئون بربنا تبارك وتعالى ثم بعد ذلك نحتاج الناصحين أن يقنعوا المسلمين بحرمة التشبه بالكافرين وتقليدهم.
حتى وصل الحال بهم أن يضعوا اسم الله جل جلاله على الأحذية ويصدرونها إلينا ويسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستهزئون به في منشورات علنية يوزعونها فيما بينهم.
بل ووصل الحال بهم أن يسموا كلابهم باسم نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فقاتل الله من فعل ذلك وأصلاه جهنم وزاده سعيرا.
فماذا نقول بعد هذا لبني قومنا ممن أعجبوا بأولئك الكافرين؟ !
وثاني دروس هذه الأحداث أننا يجب أن نحقق معنى أمة الجسد الواحد يقول صلى الله عليه وسلم: (( مثل المؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) البخاري ومسلم. فأين هذا المعنى ونحن نرى إخواننا قد حل بهم ما حل ثم لا نمد لهم يد العون بأموالنا فنواسيهم في محنتهم.
إن لم نملك المال فالدعاء.
(1/307)
الأصول الثلاثة الواجب معرفتها بالأدلة
التوحيد
أهمية التوحيد, الألوهية, الربوبية
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معرفة الرب تبارك وتعالى 2- أهمية توحيد الله 3- معرفة الدين ومراتبه ومقتضياته
4- معرفة النبي صلى الله عليه وسلم 5- حلاوة الإيمان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله ربكم في سركم وجهركم وخلوتكم واجتماعكم،وفي جميع أموركم وسائر أحوالكم، وارضوا بما رضيه الله لكم تفوزوا بمثوبته وجنته ورضاه، وتجنبوا ما توعد به من أعرض عن ذكره ولم يتبع هداه، فإنه سبحانه قد رضي لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ورضي لكم الإسلام دينا، واختصكم بأن بعث لكم عبده محمداً نبياً رسولاً، فأمركم بتحقيق توحيده وترك ما ضده، واختصكم بأكمل شرائع دينه، وبعث لكم أفضل رسله.
أيها المسلمون: تلكم أصول ثلاثة يجب عليكم أن تعرفوها بالأدلة، وأن تعملوا بها لله عن بينة، وأن تجتهدوا في تحقيقها وتكميلها، وأن تحذروا مما ينقصها ويقدح فيها، وأن تجتنبوا كل ما يبطلها ويفسدها وينافيها.
فأصل تلك الأصول معرفة ربكم تبارك وتعالى خالقكم ورازقكم ومتوفيكم ومجازيكم، فإنه الله ربكم الذي رباكم وربى جميع العالمين بنعمه، وعم الجميع بألوان جوده وكرمه، وهو معبودكم فليس لكم معبود بحق سواه: أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [سورة يوسف:40].
فالواجب عليكم أن توحدوه بأفعاله من الخلق والرزق والملك والتدبير، وأن تثبتوا له ما ثبت في الكتاب والسنة من أسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله، فإنه: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [سورة الشورى:11]. فلا شريك له في ربوبيته، ولا ند له في إلاهيته، ولا سمي له ولا كفو في أسمائه وصفاته، ولا يكون في هذا والملك العظيم في علويه وسفليه حركة ولا سكنة إلا وقد أحاط بها علمه ونفذ فيها حكمه، فوجدت بعلمه ومشيئته، وحدثت بإحداثه لكمال قوته وحكمته، ومن هذا شأنه فهو المستحق لأن يوحد بأفعال عباده بأن يعبدوه بما شرع وكم شرع؛ فينقادوا له مختارين مستسلمين خاضعين محيين معظمين مجلين، يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً [سورة الإسراء:57].
فيا معشر المسلمين: وحدوا الله بأقوالكم، وأخلصوا له نياتكم، وانقادوا له بجوارحكم؛ فإن المتفرد بالخلق والإبداع وبتمام الملك وتدبيره على ما هو عليه من العظمة والاتساع هو المستحق لأن يعبد وحده ويطاع، ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا، فيا ويح الملحدين من الكافرين والمشركين وأهل الابتداع: فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون [سورة غافر:14]. ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير [سورة الحج:62].
أيها المسلمون: وأما الأصل الثاني من تلك الأصول العظام فهو معرفة دين الإسلام الذي شرعه الله وكمله وأتم به النعمة ورضيه وقال في حق من أعرض عنه: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [سورة آل عمران:85].
فإن الواجب معرفة هذا الدين بالحجة والبرهان والاستقامة عليه طلباً لرضا الديان وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وهو ثلاث مراتب:
فالأولى: الإسلام، وهو الاستسلام لله وتوحيده، والانقياد له ظاهراً بالأقوال والأعمال وترك الشرك وخصاله بكل حال وذلك بتحقيق الأركان الخمسة؛ وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، على الوجه الذي شرعها الله عليه وترك كل ما يضاد ذلك وينافيه.
أما المرتبة الثانية: فهي الاستسلام لله والانقياد له، والإخلاص له باطناً بالإيمان به، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره حلوه ومره، إيماناً يقتضي تصديق الأخبار، والإذعان للأحكام بامتثال المأمور وترك المحظور، والتسليم للمقدور، والتعلق بالله، وترك الالتفات إلى ما سواه في جميع الأمور، إنابة لله ومحبة له، ورجاء له وخوفاً منه، وتعظيماً له وإجلالاً وخشوعاً، وخشية ورغبة ورهبة.
وأما المرتبة الثالثة :فهي الإحسان، وذلك بالاجتهاد في إيقاع العبادة على أكمل الوجوه وأحسن الأحوال، فتعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه، يراك، بأن تعبد الله كأنك تشاهده، فإن قصرت عن ذلك فاعلم أنه يراقبك: يسمع أقوالك، ويرى أعمالك، ويعلم حالك، فكن من المحسنين إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [سورة النحل:128].
أيها المؤمنون: وأما الأصل الثالث، وهو معرفة النبي ، وهو الإيمان بأنه نبي الله حقاً ورسوله صدقاً، وخاتم النبيين، ورسول الله إلى الثقلين إلى يوم الدين، وتحقيق ذلك بأن يطاع فيما أمر، ويصدق فيما أخبر، ويجتنب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فمن نقص من ذلك أو زاد عليه فقد جفا وابتدع.
فيا أيها المغتبطون ببعثة نبيكم محمد ، الراجون أن تحشروا تحت لوائه، وأن تسعدوا بشفاعته، وأن تدخلوا الجنة في زمرته، اثبتوا في هذه الدنيا على ملته، واستمسكوا بسنته، واهتدوا بهداه، واحذروا من تلبيس من أعرض عن السنة واتبع هواه.
أيها المؤمنون: فهده الأصول هي تحقيق مدلول الشهادتين والاستقامة على دين رب العالمين، فمن حققها علماً وعملاً واعتقاداً فقد ذاق حلاوة الإيمان، وثبته الله في قبره حين يسأله الملكان، وغفر له ذنبه، ووجبت له الجنة دار التكريم الرضوان. ففي الصحيح عن النبي قال: (( ذاق طعم الإيمان من رضي الله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً)). وفيه أيضا عنه : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)). وفي الصحيح أيضا: ((من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل ما يشاء [سورة إبراهيم:24-27].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه يحب التوابين وهو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/308)
الحَلِف وكفارته
فقه
الأيمان والنذور
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
21/1/1420
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الحلف والأيْمان 2- اليمين على شيء قد مضى لا كفارة فيها 3- التحذير من
الحلِف الكاذب 4- الحلف على شيء مستقبل يلزمه الكفارة إن حنَث 5- ما حكم الحنث في
اليمين 6- كفارة اليمين 7- الحلف بغير الله شرك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإنه كما هو معلوم. إن هذا الدين دين عظيم قد جاء ليحكم الإنسان في حياته كلها وفي جميع شئونه الخاصة والعامة. في منزله وفي عمله وفي مسجده وفي شارعه.
وهذا ما يجب علينا أن نفهمه جميعا ونعيه تماما حتى نسير على هدى الله ومنهجه القويم. قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.
ومن القضايا التي هي بحاجة إلى بحث وتعلم وتطبيق في أيامنا هذه خاصة، قضية الحلف – أعني اليمين – وما يتعلق بها من أحكام كثيرة قد حصل فيها أخطاء كثيرة من بعض المسلمين هداهم الله سواء كان الخطأ عن قصد كمن يحلف بالله وهو كاذب، أو عن غير قصد كمن يحلف بغير الله وهو جاهل لا يعلم بحكم ذلك الفعل فعلى كل حال، فنحن بحاجة إلى الحديث عن هذه القضية وبيان ما يكتنفها ويحيط بها من أحكام وتبعات حتى يكون المؤمن على بصيرة من دينه في هذه القضية فيعمل على علم، ويعلم أهله وجيرانه وكل من رأى عنده خطأ في شيء من ذلك.
فنقول مستعينين بالله مستمدين منه التوفيق والسداد سائلينه جل وعلا أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه وأن يتقبلها منا إنه سميع مجيب.
أولا: قال ابن حجر: الأيمان بفتح الهمزة جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة اليد، وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا اذا تحالفوا أخذ كل واحد بيمين صاحبه، وقيل لأن اليد اليمنى من شأنها حفظ الشيء، فسمي الحلف بذلك لحفظ المحلوف عليه، وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه بها.
ثانيا: اعلم رحمني الله وإياك أن اليمين إما أن تكون على شيء ماض، قد حدث وانتهى.
أو أن تكون على شيء مستقبل لم يحصل بعد.
أما اليمين التي تكون على شيء قد حدث مثل أن يقول: والله لقد رأيت فلانا، فهذه اليمين ليس فيها كفارة إطلاقا سواء كان صادقا أو كاذبا.
لكن إن كان صادقا أو ظانا صدق نفسه فلا إثم عليه، وإن كان كاذبا أو ظانا كذب نفسه كان آثما.
وهذا عباد الله – أعني الحلف الكاذب – يحدث كثيرا في هذه الأيام من بعض الناس هداهم الله، يحلفون بالله كذبا وهم يعلمون، لأجل مصلحة دنيوية يحصلونها أو دفع ضرر محتمل عن أنفسهم إن هم صدقوا.
وتأمل مثلا في شريحة من شرائح المجتمع وهم الباعة أهل التجارة والأسواق، فكم من مرة تدخل متجرا لتشتري منه سلعة، فيحلف لك بالله أيمانا مغلظة أنها عليه بألف ريال مثلا، ثم بعد خمس دقائق من المساومة إذا هو يبيعها لك بتسعمائة أو بثمانمائة!!
فكيف يكون ذلك؟ أيكون قد باعها بخسارة.
وهو يفعل ذلك مع معظم الناس. فلا يبقى عندك شك أنه كاذب. إنما يريد أن يبيع ويروج سلعته ولو بالحلف الكاذب.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث أبي ذر محذرا من ذلك: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فقلت: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ قال: المسبل إزاره، والمنان عطاءه، والمنفق سلعته بالحلف ] الكاذب [ )) النسائي وابن ماجه.
فتأملوا رعاكم الله في هذا التهديد الشديد لذلك الذي يحلف بالله عز وجل كذبا وزورا.
وكم من حالف اليوم كذبا على الله وعلى الناس من أجل أمور دنيوية تافهة.
فأين تعظيم الله يا من تحلف بالله كاذبا؟ قال تعالى: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه.
ويزداد الأمر سوءا عندما يكون الحلف الكاذب لأجل أكل أموال الناس بالباطل وأكل حقوقهم، فيحلف بالله كذبا أن ليس لفلان عنده دين، وهو قد استدان منه، ويحلف بالله أن هذا ماله وليس ماله، لماذا؟!
لكي يأخذ متاعا من الدنيا يموت ويتركه ثم يعذب عليه.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من حلف على يمين يستحق بها مالا وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) البخاري ومسلم، فأنزل الله تصديق ذلك: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
قال ابن كثير في تفسير الآية: "يقول تعالى إن الذين يعتاضون عما عهد الله إليهم من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته للناس وبيان أمره وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة والآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة وهي عروض هذه الدنيا الزائلة الفانية أولئك لا خلاق لهم أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها: ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة أي برحمة منه لهم بمعنى لا يكلمهم كلام لطف بهم، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة: ولا يزكيهم أي من الذنوب والأدناس بل يأمر بهم إلى النار: ولهم عذاب أليم ، انتهى كلامه.
فليحذر إذاً أولئك الذين يحلفون بالله من أجل أكل أموال الناس بالباطل فالأمر عظيم.
أما النوع الثاني من الأيمان وهو اليمين على المستقبل، فهذه هي اليمين المنعقدة التي فيها كفارة إن لم يوف بما حلف به.
كأن يقول مثلا: والله لا أفعل كذا.
فإن لم يفعل فقد وفى بيمينه ولا شيء عليه، وإن فعل فقد حنث وعليه الكفارة، أي كفارة اليمين.
والحنث إخوتي هو أن يفعل ما حلف على تركه أو يترك ما حلف على فعله.
ويشترط في اليمين التي يؤاخذ بها صاحبها أن يكون قاصدا لها. قال تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان.
فيمين اللغو إذاً هي التي لم يقصد قائلها عقدها.
وينبغي هنا أن نطرح سؤالا مهما وهو:
أن الإنسان إذا حلف على شيء في المستقبل، فهل الأفضل أن يلتزم بما حلف عليه ولا يحنث أو يحنث ويكفر عن يمينه؟؟
والجواب: هو أن هذا يختلف من شأن لآخر، فقد يكون الالتزام باليمين:
1) واجبا. 2) وقد يكون مستحبا.
3) وقد يكون محرما. 4) وقد يكون مكروها.
5) وقد يكون مباحا.
والالتزام الواجب باليمين كمثل من حلف على فعل واجب، فعليه أن يلتزم باليمين وجوبا ويحرم عليه الحنث.
كما لو قال: والله لأصلين الفجر في جماعة، فلا يجوز له أن يكفر ويحنث، بل يجب عليه الوفاء.
والالتزام المستحب كمن حلف على فعل مستحب، فيستحب له الالتزام باليمين، كما لو قال: والله لأزورن فلانا اليوم فيستحب له الفعل.
والمكروه كمن حلف على فعل أي مكروه أو ترك أمر مستحب، كما لو قال والله: لا أتصدق على فلان، وذلك فقير مستحق فهنا نقول: يكره لك الالتزام باليمن، والحنث أفضل.
والمحرم كمن حلف على فعل أمر محرم، فهذا لا يجوز له الالتزام باليمين، ويحرم عليه ذلك، كما لو قال والله: لا أزور أهلي.
فهنا يقال له يجب عليك أن تكفر عن يمينك فتزور أهلك.
تنبيه: علما بأنه على كل من حنث في يمين من هذه الأيمان كلها وجبت عليه الكفارة.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله يقول قدوتنا وأسوتنا ومعلمنا عليه أفضل الصلاة والسلام: ((إني والله – إن شاء الله – لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير)) البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن سمره: ((إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير)) البخاري.
عباد الله:
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتردد في أن يحنث في يمينه ويكفر إن رأى الخير في غيرها، فما بال أقوام يحلفون بالله على فعل أمور محرمة أو ترك أمور واجبة ثم يلتزمون بأيمانهم محتجين بأنهم قد حلفوا ولا يريدون أن يحنثوا، فهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: اعلموا عباد الله أن الكفارة تكون على الترتيب التالي:
أولا: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.
والمكفر مخير بين هذه الثلاثة الأمور أولا فإذا لم يستطع أي واحدة منها يجوز له عند ذلك الانتقال إلى الصيام.
وهو ثانيا: صيام ثلاثة أيام.
ويكون الصيام متفرقا أو متتابعا والتتابع أفضل خروجا من خلاف العلماء.
يقول تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون.
صفة الإطعام: هناك صفتان:
1 - أن تصنع طعاما وتدعو إليه عشرة مساكين.
2 - أن تعطي عشرة مساكين تمليكا مد من البر أو الأرز وتعطيهم معه ما يؤدمه.
ولا بد في الحنث ووجوب الكفارة على صاحب اليمين من ثلاثة شروط:
1 – أن يكون عالما.
2 – أن يكون ذاكرا.
3 – أن يكون مختارا.
فلو فعل ما حلف على تركه ناسيا أو جاهلا أو مكرها فلا كفارة عليه.
ثالثا: ينبغي علينا أن نقف مع قوله تعالى: واحفظوا أيمانكم.
قيل في معناها: أي لا تحنثوا فيها والتزموا بها.
وقيل: أي لا تكثروا الأيمان.
ومن هنا ينبغي على الإنسان أن لا يكثر من الحلف، لأن اسم الله عظيم فينبغي أن لا يلاك على الألسن بهذه الصورة التي يفعلها بعض الناس هداهم الله.
وأخيرا: نذكر عباد الله بأن الحلف إنما يكون بالله وحده ولا يجوز بغير الله، ولا برسول الله، ولا بولي ولا بالآباء ولا بالأبناء ولا بالأمانة ولا بالذمة.
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)) البخاري.
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، قال عمر فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكرا أو ناسيا)) البخاري.
(1/309)
شكر نعم الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله كثيرة لا تحصى 2- من نعم الله نعمة البيوت 3- بيوت يذكر الله فيها وبيوت
يغفل أصحابها عن الذكر 4- الحث على قراءة القرآن وذكر الله في البيوت 5- فعل النوافل
في البيوت والندب إليه 6- الحث على اقتناء الشريط الإسلامي 7- صرف البيوت عن التماثيل
والصور والكلاب
_________
الخطبة الأولى
_________
إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى كما قال تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ولذلك يجب علينا أن نشكر الله تعالى على هذه النعم صباح مساء، وأن لا نغفل عن ذلك أبدا حفاظا على هذه النعم وحتى تدوم لنا كما وعد الله من شكر بالزيادة والتعظيم، ومن كفر بالعذاب الأليم، قال تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.
ومن أعظم نعم الله علينا أن جعل لنا بيوتا نسكنها ونستقر فيها ونستريح ونستظل من الحر ونستدفيء من البرد ونستتر فيها عن أنظار الناس ونحرز فيها أموالنا ونتحصن بها من عدونا.
يقول سبحانه ممتنا علينا بهذه البيوت: والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم.
فهذه النعمة عباد الله من النعم الجليلة التي امتن الله بها علينا، وتأملوا رعاكم الله فيمن لا يجد سكنا يؤويه كيف تكون حاله، ونحن نسكن في هذه البيوت الحديثة المزودة بكل وسائل الراحة كالإنارة والتكييف الصيفي والشتوي والمياه المتدفقة العذبة، فما أعظمها من نعمة !
أيها المؤمنون: إن بيت المسلم يجب أن يكون بيتا متميزا عن غيره من البيوت، وذلك بأن يفعل ما شرعه الله للمسلمين في بيوتهم.
إنه من الواجب على كل مسلم أن يجعل بيته واحة غناء ترتاح فيه النفوس وتطمئن القلوب.
وليس ذلك بوضع الزهور والتحف والأثاث الفخم.
بل لا يكون ذلك والله إلا بإحياء ذكر الله تبارك وتعالى في البيت، فبه تحيا البيوت.
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل: الحي والميت)) مسلم.
فتأمل وفقني الله وإياك بم شبه الرسول البيت الذي يذكر الله فيه، وبم شبه الرسول البيت الذي لا يذكر الله فيه، شبههما بالحي والميت.
وما هو الفرق بين الحي والميت.
إنه الروح، فالحي فيه روح والميت بلا روح، فروح البيت ذكر الله، وبيت لا يذكر الله فيه لا روح في.ه نسأل الله العافية.
وينبغي التنبه هنا إلى أن ذكر الله ليس محصورا في التسبيح وقراءة القرآن، بل هذان نوعان من أنواع ذكر الله الكثيرة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)) مسلم.
فكم من بيت اليوم لا يسمع فيه القرآن ولا يتلى فيه إلا ما ندر من الأحايين القليلة.
إن قراءة القرآن في البيوت نور لها وحياة لها ولأهلها.
قراءة القرآن في البيوت طرد للشياطين، وحصن من السحر وأهله، والعين وأهلها.
عن أبي أمامة رضي الله عن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرأوا سورة البقرة فأن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)) ، بلغني أن البطلة: السحرة.
وهكذا عباد الله يكون البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة في حصن حصين من الشياطين والسحر.
ومما تحيا به البيوت كذلك صلاة النوافل فيها.
قال صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا)) مسلم، أي صلوا فيها من النوافل ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرأة في بيته إلا المكتوبة)) مسلم.
إن الصلاة في البيت إقامة عملية لذكر الله عز وجل تتربى به الأسرة علي الطاعة والالتزام وحب الصلاة، ويتعود الصغار على الصلاة بسبب رؤية والدهم أو أخوهم وهو يصلي أمامهم.
ومما تحيا به البيوت توفر مكتبة صغيرة في البيت تحتوي علي بعض الكتب والكتيبات التي تعلم المسلم أمور دينه وتحذره مما يجلب غضب الله جل وعلا، وتعلمه سنة المصطفي صلى الله عليه وسلم.
ومثلها من الأشرطة السمعية التي تناقش كل ما يهم المسلمين من أمور دينهم وتعلمهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ومن الأمور التي تحيا بها البيوت كذلك أن يكون لرب الأسرة مجلس أسبوعي أو أكثر أو أقل بحسب استطاعة كل شخص يجلس فيه مع أبناءه وزوجته يكون له فيها نقاش لأمور شرعية أو قراءة للقرآن جماعية وحفظ وتسميع له أو قراءة من كتاب نافع يقرأه الأب ويشرح منه لأبنائه، ويمكن أن يستعين الأب في ذلك بالمشايخ وطلاب العلم وأئمة المساجد في اختيار الكتاب المناسب وتوضيح ما يصعب فهمه، وبذلك يحيا البيت بذكر الله عز وجل.
أيها الموحدون إن توفير هذه الأمور في البيوت من قراءة القرآن وذكر الله وصلوات النوافل ومدارسة العلم الشرعي وتوفير الكتب والأشرطة النافعة يجعل البيت مدرسة للخير يتربي فيه من يسكنه من الأولاد والنساء على الطاعة والفضيلة، وتدخله الملائكة وتبتعد عنه الشياطين، وإذا خلت من هذه الأمور صارت قبورا موحشة وأطلالا خربة سكانها موتى القلوب وان كانوا أحياء الأبدان يخالطهم الشيطان وتبتعد عنهم ملائكة الرحمن.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله ومن أراد لبيته أن يكون موطنا لملائكة الرحمن وأن يطرد منه أتباع الشيطان فعليه الحذر من أمور كثيرة قد انتشرت عند كثير من الناس هداهم الله.
من هذه الأمور التي لا تجعل البيت واحة إسلامية وجود بعض الوسائل الخبيثة التي تنشر الفساد تعلم الرذيلة، فيرى المسلم فيها الرجال والنساء مختلطين يفعلون المنكرات لا تربط بينهم أى علاقة شرعية ومناظر غير لائقة تغتال الحياء عند الرجال والنساء، وأمور كثيرة يندى لذكرها الجبين، ونترفع عن ذكرها في هذا المنبر، يراها الكبار والصغار والرجال والنساء كل ذلك بحجة الترفيه عن النفس.
أمور تجلب غضب الله تشترى بالأموال وإن غلت أسعارها، فهذا والله من أسباب دمار البيوت وطرد الملائكة ودخول الشياطين.
وكذلك مما يجب صيانة البيوت عنه أشرطة الغناء الماجنة التي تغري بالعشق والغرام ويستعمل فيها مزمار الشيطان، أشرطة لرجال ونساء يصدحون بالغناء بألفاظ قبيحة ومخالفة للشريعة.
ومما يجب أن يصان عنه البيت المسلم الصور والكلاب، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) البخاري ومسلم.
وفي رواية: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل عليه السلام فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت قرام فيه تماثيل وكان في البيت كلب، فمُر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فيقطع، فيجعل وسادتين منبوذتين توطآن، وأمُر بالكلب فليخرج)). وفي هذه الأحاديث دليل على تحريم تعليق الصور في البيوت والاحتفاظ بها للذكرى ونحوها، وفيها دليل على عقوبة من فعل ذلك بحرمان من دخول ملائكة الرحمة في بيته.
وتعليقاً علي اقتناء الكلاب نقول: قال صلى الله عليه وسلم: ((من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان)) البخاري ومسلم.
(1/310)
الأدب
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
30/3/1419
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة الأخلاق في الإسلام
2- الأدب مع الله والحياء منه
3- أنواع من إساءة الأدب مع الله تعالى
4- الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم
5- الأدب مع الوالدين
_________
الخطبة الأولى
_________
إن للأخلاق في الإسلام مكانة عالية، فقد مدح الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : وإنك لعلى خلق عظيم ، وأمرنا الله تعالى أن نتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أموره، وهو الذي قال: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) ، ولقد حث الإسلام على حسن الخلق، فجعل جزاء من حَسُنَ خُلُقُه الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم خلقا)) ، وحسن الخلق كلمة تجمع كل خلق حميد، كالأدب والإيثار والكرم والشجاعة والصدق والوفاء وغير ذلك، والمسلمون اليوم في أمس حاجة إلى هذه الأخلاق عامة وإلى الأدب خاصة، لأن ذلك من الإيمان، فأي نقص في الأخلاق دليل على نقص في الإيمان، وإن أولى من يجب على العبد أن يتحلى بالأدب معه هو الله تعالى، ومن ثم نبيه صلى الله عليه وسلم والوالدين وبعد ذلك المؤمنين والناس عامة.
فيجب على المسلم أن يستحيي من الله تعالى حق الحياء، فإن من الأدب أن لا تعصي الله وهو يراك، وأن لا تعصه على أرضه، وإن من الأدب مع الله تعالى، والذي لا يستقيم إيمان عبد بدونه، أن تؤمن بالقدر، وأن تسلم لأمر الله، فإن من تذمر من قضاء الله أو تشكى، أو قال: لماذا أنا من دون الناس؟ فقد أساء الأدب مع الله وكفر بالقدر، وإن من سوء الأدب مع الله تعالى أيضا ما يفعله البعض من تعجل إجابة الدعاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي)) ، وإن من إساءة الأدب أن يرفع المرء صوته بالدعاء كما يفعل البعض في صلاة القيام والتراويح من صياح وصراخ بالتأمين وغيره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم)) ، واعلموا عباد الله أن من أعظم أنواع إساءة الأدب مع الله تعالى أن يقدم العبد عقله ورأيه على أوامر الله تعالى وشرعه، فإن ذلك من جنس الكفر الذي وقع فيه إبليس، الذي أمره الله عز وجل بالسجود لآدم فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، وكم من أشباه المسلمين اليوم من يقدم عقله السقيم ورأيه الوخيم على كلام رب العالمين وشرع سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ، عباد الله: إن من أفتى بغير علم، أو رفض ورد أمرا من أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لأنها تُخالف هواه وما تعود عليه، أو قدم أقوال أحد من البشر على قول الله تعالى أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم فقد وقع في المحظور الذي نهى عنه ربنا تعالى في قوله: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، ولقد جعل الله تعالى رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم محبطا للعمل، فكيف بمن يرفع رأيه وذوقه وعقله فوق كلامه صلى الله عليه وسلم؟؟
وإن من إساءة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادى باسمه مجردا، كما يفعل ذلك بعض الكتاب، فيقول مثلا: ذهب محمد ابن عبد الله. إذ المشروع أن يقول المسلم: رسول الله أو نبي الله صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى أدب العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلم؟فقال: هو أكبر مني، وأنا ولدت قبله؟
وإن من إساءة الأدب معه أن تسمع من يستهزأ أو يطعن في سنته وأنت لا تدافع عنها ولا تذب عن دينك، كذلك من إساءة الأدب أن تعلم أن نبيك صلى الله عليه وسلم من سنته كذا وكذا، ثم أنت ترغب عن فعلها واتباعها، وتعرض عنها والعياذ بالله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
عباد الله: لقد أمر ربنا عز وجل بالإحسان إلى الوالدين، وقرن حقهما مع حقه فقال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ،إلا أن الواقع الذي نراه يخالف ما أمر الله تعالى به، فأنت ترى من يرفع صوته على والديه ويشد نظره إليهما، ويدخل الحزن والأسى على قلوبهما، ويسيء معاملتهما ويمتن عليهما ولا يحسن إليهما، أو يعاملهما معاملة الند والصنو، بل إن من المسلمين من قد ينادي أباه أو أمه باسمه المجرد، وربما أشار إليهما بلفظ الشايب والعجوز، وهذا والله كله من العقوق.
عباد الله: إن الآداب كثيرة، ولكن أثرَها ونفعَها كبير وعظيم في الدنيا والآخرة، فيجب على المسلم أن يتحلى بها كلها أو بمعظمها، ويجب على الصالحين الملتزمين بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذين يطبقون كل صغيرة وكبيرة في مظهرهم ولبسهم أن يُضيفوا إلى ذلك تطبيق السنة في تعاملاتهم، وأن يتحلوا بهذه الأخلاق والآداب، إذ هي أولى بلا شك من سنن اللباس والمظهر الخارجي، ولا يعني ذلك أبدا أن يستخف أو يستقل الإنسان بإعفاء اللحى أو بتقصير الثياب، فإن ذلك من الواجبات، ولكن من الواجبات أيضا أن يُحسن المرء أخلاقه وتعامله مع المسلمين وغير المسلمين، على ما كان عليه تعامل النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ليس من الطبيعي أن ترى مسلما يكذب أو يشتم أو يخون العهد، وليس من الطبيعي أن ترى أحد الصالحين وهو يتشاجر في السوق أو الشارع ويتعارك بيده أو يشتم أخاه أو يغضب لأمر تافه دنيوي، فالواجب أولا أن يتبع المسلم أوامر الله ورسوله بحذافيرها، والواجب ثانيا أن يكون قدوة للعوام والجهلة الذين يتحججون ويتذرعون بأفعاله، عصمنا الله وإياكم من الزلل في الفعل والقول والعمل، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
(1/311)
تفسير سورة الفاتحة
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصائص للقرآن الكريم 2- الثناء على الله رب العالمين 3- أسماء الفاتحة 4- الدعوة إلى
قَصْر العبودية والاستعانة بالله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا بكتابه فإنه يهدي للتي هي أقوم وأبقى، وتدبروا آياته تصيبوا من بركاته، وتذكروا به تنتفعوا بعظاته وتفوزوا بهداياته، فأتلوه حق تلاوته، واعملوا به تكونوا من أهل شفاعته؛ فإنه يأتي شفيعاً لأهله يوم القيامة وقائداً لهم إلى دار الكرامة.
عباد الله: إن القرآن هو حبل الله المتين ونوره المبين وصراطه المستقيم، فيه نبأ ما قبلكم ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل،من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله. فالسعيد في الدارين من اتبع هداه وأخلص دينه لله، والشقي من أعرض عن ذكره فكفر بمولاه، واتخذ إلهه هواه.
عباد الله: فـ ((الحمد)) معناه الثناء على الله تعالى بصفات الكمال ونعوت الجلال. والله هو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين؛ فالألوهية صفته وهي التفرد المطلق بكل كمال، والتنزه عن صفات النقص والعيب والمثال. والعبودية حقة على عباده في جميع الأحوال.
والـ ((رب)) هو الخالق الرازق المتصرف المربي لجميع العالمين بأصناف النعم، ولعباده خاصة بالإيمان والتوفيق لخصال الإحسان.
و((العالمين)) جمع عالم، وهو أصناف مخلوقات الله في السماوات والأرض والبر والبحر، المتقدم منه والمتأخر، فهي أصناف كل منها قد عمه ربه أنواع من الإحسان والألطاف، وهدى كل نوع منها لما خلقه له بلا اختلاف.
وقد جمع الله تبارك وتعالى معاني القرآن كلها في سورة الفاتحة التي سميت بذلك لأنه افتتح بها؛ فهي بابه والمدخل إليه، وتسمى بأم الكتاب لاشتمالها على مقاصده ومعانيه، وهي ((السبع المثاني)) لأنها سبع آيات تثنى، أي تكرر،فتقرأ وجوباً في كل ركعة من ركعات الصلاة، وهي ((الرقية)) لما فيها من شفاء أمراض القلوب والأبدان، و((الحمد)) لأنها مفتتحة به، وهو الثناء على الله بالألوهية والربوبية والرحمة وأنه الملك الديان، فهذه الأسماء دالة على صفات الكمال ونعوت الجلال، ومن هذا شأنه فإنه هو الإله الحق الذي ينبغي أن يخلص له العباد في جميع عباداتهم في سائر الأحوال، وأن ينزهوه عن الند والشرك والسمي والمثال، فإنه تعالى لا إله غيره كما أنه خالق ولا رب سواه.
معشر المسلمين: لقد اشتمل القرآن على الدعوة إلى التوحيد، وذكر حقيقته وفضائله، والنهي عن الشرك وبيان شعبه وغوائله، والترغيب في التوبة إلى الله من الشرك وما دونه، ووعد التائبين بحسن المثوبة وعظيم الكرامة، وتوعد المصرين والمعاندين بأليم العقوبة والحسرة والندامة يوم القيامة. وفيه الحث على إخلاص العبادة لله؛ التي تزكوا بها النفوس، وتحيا بها القلوب، وتقوى معها الرهبة والخشية من علام الغيوب، وفيه بيان سبيل السعادة، الموصل إلى النعيم المقيم ورضوان الرب العظيم في الدارين، وذكر الأخبار والقصص عن المهتدين الذين أطاعوا مولاهم؛ فزادهم هدى، وآتاهم تقواهم، ونصرهم في الحياة الدنيا والآخرة، وأكرم مثواهم، وسوء عاقبة الذين أساؤوا واتبعوا أهواءهم وكيف وثقوا في الدنيا وكانت النار مثواهم.
فـ ((إياك نعبد))، أي تفرد يا ربنا بالقصد في عباداتنا كلها.
((وإياك نستعين)) أي نطلب إعانتك على طاعتك وعلى أمورنا كلها، والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، وحسن العاقبة في جميع الأمور، والنجاة في الدارين من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما، ولا وصول إلى الجنة وما فيها من النعيم المقيم ورضوان الرب العظيم إلا بالجمع بينهما، والعبد مضطر إلى توفيق الله له أن يعبده بما شرع، وأن يجنبه الشرك والبدع، وهذا يحتاج إلى هداية إلى العلم النافع والعمل الصالح، وهو طريق الهدى الذي سلكه لمن أنعم الله عليهم واصطفى، ولهذا اختتمت هذه السورة بصدق الضراعة إلى الله بسؤال الهدى.
و اهدنا الصراط المستقيم أي طريق من أنعمت عليهم بالعلم والعمل، وعصمتهم من الضلال والزلل؛ كاليهود الذين ضلوا قصدا عن سواء السبيل، والنصارى الذين يتعبدون على غير هدى ودليل، ولذا قال: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
أيها المؤمنون: وأما والرحمن الرحيم اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة والنعمة السابغة؛ فرحمته وسعت كل شيء، ونعمته عمت كل حي، فهو رحمان بخلقه في الدنيا عامة، ورحيم في الدنيا والآخرة بالمؤمنين خاصة.
وأما مالك يوم الدين فالمراد به يوم القيامة، يوم الحساب، هو يوم الثواب والعقاب، يجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ومن هذا شأنه فهو المستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة؛ وهي غاية الحب مع غاية الذل والخضوع، وبالاستعانة به وحده وهي الاعتماد على الله وحده؛ اعتماداً عليه في جلب المنافع ودفع المضار، وثقة به فإنه الواحد القهار، مع غاية الرغبة والاضطرار إليه وكمال الانكسار. فلا تحصيل للمقصود إلا بإخلاص للمعبود.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/312)
احفظ الله يحفظك
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
5/6/1419
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصُ حديث " احفظ الله يحفظك " 2- حفظ الله بحفظ حدوده واجتناب محارمه
3- حفظ اللسان والجوارح 4- الجزاء من جنس العمل 5- نماذج من حفظ السلف لله وحفظه
لهم
_________
الخطبة الأولى
_________
عن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا غلام إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف)).
عباد الله، إن هذا الحديث من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وصيته إلى ابن عمه الصغير خاصة وللمسلمين عامة، وكم صغارنا اليوم في حاجة إلى من يتعاهدهم بالنصيحة والموعظة والتربية، عوضا عن ترك تلك المهمة العظيمة لوسائل الإعلام الفاسدة والرفقة السيئة والخادمة والسائق، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((احفظ الله يحفظك)) ، احفظ الله، وذلك يكون بحفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، فالحافظون لحدود الله هم الذين يمتثلون أوامره ويجتنبون نواهيه، وهم يفعلون ذلك علانية أمام الناس أوإذا استتروا عن أعينهم في بيوتهم، ولذلك مدحهم الله تعالى بقوله: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ، ومن أعظم ما يحافظ عليه العبد من أوامر الله تعالى: الصلاة، لأمره عز وجل: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، ومن الأمور التي يكثر الناس في هذه الأيام من إضاعتها وعدم حفظها، الرأس والبطن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى)) ، فحفظ الرأس يكون بحفظ حواسه، فلا يسمع الحرام ولا ينظر إلى حرام ولا يقول الحرام، وحفظ البطن يدخل فيه حفظ القلب من الآفات المهلكة كالحقد والحسد والكبر والعجب والغضب، وأيضا حفظ البطن يدخل فيه أن لا يأكل من الحرام، كالربا والرشوة والسرقة والاختلاس.
واعلموا عباد الله أن مِنْ حِفْظِ الله تعالى أن يحفظ العبد لسانه وفرجه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من حَفِظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة)) ، فهذه بعض أنواع حفظ العبد ربَّه، أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((احفظ الله يحفظك)) ، فهي بمعنى أن من حفِظ حدود الله وراعى حقوقه تعالى حفظه الله، لأن الجزاء من جنس العمل، وحفظ الله تعالى نوعان: أحدهما: حفظ الله عبده في مصالحه الدنيوية، كحفظه في بدنه وولده وماله، ولذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو كلما أصبح وأمسى بدعاء طويل جاء في آخره: ((اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)) ، جاء في سيرة القاضي أبي الطاهر الطبري – وكان قد جاوز المائة وما يزال محتفظا بعقله وصحته – أنه وثب يوما من المركب إلى الساحل وثبة شديدة، فعاتبه من كان معه في ذلك فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر.
بل إن الله تعالى قد يحفظ على العبد ذريته ولو بعد موته لأنه كان في حياته حافظا لله تعالى، كما قال الله عز وجل في سورة الكهف: وكان أبوهما صالحاً ، وهذا سعيد بن المسيِّب كان يزيد في عبادته وصلاته وقيامه بالليل، ويقول لولده: لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفظ فيك، وقال ابن المنكدر:إن الله تعالى ليحفظ بالرجل الصالح ولده، وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظٍ من الله وستر، فهذا هو النوع الأول من حفظ الله تعالى لنا، فمن حفظ اللهَ حفظه اللهُ من كل أذى.
أما النوع الثاني وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه وقلبه، فيحفظه الله في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيختم له بخير، ويتوفاه على الإيمان، ولذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو عند النوم بقوله: ((اللهم إن قبضت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) ، وكان إذا ودع مسافرا قال له:"أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك"، وكان يقول: ((إن الله إذا استودع شيئا حفظه)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
إننا عباد الله اليوم، في أمس الحاجة إلى حفظ الله تعالى لنا من فتن الدنيا وعذاب الآخرة، لأن من حفظه الله تعالى نجا، ومن وكله إلى نفسه ولو طرفة عين، خسر وهلك، ونحن في زمن نرى فيه تقلب قلوب العباد من الإيمان إلى الكفر، ومن العبادة والطاعة إلى الغفلة والمعصية، وذلك لأنهم لم يحفظوا الله تعالى، فنحن في زمن الكل فيه يحاربك، إما حربا عسكرية جسدية، وإما حربا معنوية نفسية، فالأغنية الفاجرة والتمثيلية الخبيثة والمجلة المغرضة تدعو إلى الفاحشة.
وأبغض بقاع الأرض إلى الله وهي الأسواق غدت أحب البقاع إلى الفساق وعبدة الشهوات، وذلك التفلت الديني الواضح في كل مكان تقريبا، مع ترك المسلمين واجب إنكار المنكر.
ثم هنالك الاختلاط في الفنادق والمطاعم وعلى شواطئ البحر والمستشفيات، حيث أصبحنا نرى كثرة النساء العاملات في الاستقبال وتزينهن وتبرجهن واختلاطهن مع العاملين والمراجعين، وكأن الشاب السعودي ليس في حاجة إلى تلك الوظائف، أو كأنه لا يوجد رجال لذا اضطرت تلك المستشفيات لتوظيف هذه النوعية من النساء، وكل ذلك عباد الله نذير سوء يوجب على المسلمين التيقظ والحذر، لأن الله تعالى يقول: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ، وإن نحن حَفِظْنا الله بإنكارنا للمنكر ودعوتنا إلى الله وإلى السنة المطهرة حَفِظَنا الله، وإن نحن نسيناه أنسانا أنفسنا، فراجع نفسك يا عبد الله أأنت ممن حفظوا الله، أم أنت ممن أنساهم الله أنفسهم؟
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
(1/313)
إن الإسلام قادم
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- واقع المسلمين الأليم 2- مبشرات انتصار الإسلام 3- الطريق إلى عز الأمة المسلمة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :-
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.
أحبتى فى الله.. (إن الإسلام قادم!)
هذا ما أُعَنون به موضوع لقاءنا اليوم مع حضراتكم فى هذا اليوم الكريم الأعز، وفى هذه الظروف العصيبة الرهيبة التى تمر بها أمتنا الحبيبة.
وكما تعودنا أحبتى حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً
سوف أركز الحديث مع إخواني تحت هذا العنوان فى العناصر التالية.
أولاً: واقع مُر أليم.
ثانياً: ولكن الإسلام قادم.
ثالثا: منهج عملى واجب التنفيذ.
فأعرونى القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يقر أعيننا بنصر الإسلام وعز الموحدين، وأن يشفى صدور قوم مؤمنين، إنه ولى ذلك ومولاه وهو على كل شىء قدير.
أولاً: واقع مر أليم.
أحبتى الكرام.
لقد ابتليت الأمة الميمونة بنكسات وأزمات كثيرة على طول تاريخها، مروراً بأزمة الردة الطاحنة، والهجمات التترية الغاشمة، والحروب الصليبية الطاحنة، لكن الأمة مع كل هذه الأزمات والمآزق كانت تمتلك مقومات النصر من إيمان صادق، وثقة مطلقة فى الله واعتزاز بهذا الدين، فكتب الله لها جل وعلا النصرة والعزة والتمكين، ولكن واقع الأمة المعاصر واقع مر أليم، فقدت فيه الأمة جل مقومات النصر بعد أن انحرفت الأمة انحرافاً مروعاً عن منهج رب العالمين وعن سبيل سيد المرسلين ، انحرفت الأمة ووقعت فى انفصام نكد بين منهجنا المضىء المنير وواقعها المؤلم المر المرير، انحرفت الأمة فى الجانب العقدى، والجانب التعبدى، والجانب التشريعى والجانب الأخلاقى، والجانب الفكرى، بل وحتى فى الجانب الروحى، وما تحياه الأمة الآن من واقع أليم وقع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات تستدعي المحاباه، بل ولن تعود الأمة إلى عزها ومجدها إلا وفق هذه السنن التى لا يجدى معها تعجل الأذكياء ولا هم الأصفياء، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ الرعد: 11 ].
والله لقد غيرت الأمة وبدلت فى جميع جوانب الحياة، فتأمل ستجد الأمة استبدلت بالعبير بعرى، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريق محرق مهلك مدمر، وظنت الأمة المسكينة أنها يوم أن نَحَّت شريعة الله وشريعة رسول الله وراحت تلهث وراء الشرق الملحد تارة ووراء الغرب الكافر تارة آخرى أنها قد ركبت قارب النجاة، فغرقت الأمة وأغرقت وهلكت الأمة وأهلكت، ولن تعود الأمة إلى سيادتها وريادتها إلا إذا عادت من جديد إلى أصل عزها ونبع شرفها ومعين كرمها ومعين بقاءها ووجودها إلى كتاب ربها وسنة حبيبها ورسولها.
أيها الشباب لقد انحرفت الأمة فزلَّت وأصبحت قصعة مستباحة لكل أمم الأرض، وصدق فى الأمة قول الصادق الذى لا ينطق عن الهوى كما فى كما فى حديثه الصحيح الذى رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان أنه قال: (( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) فقال قائل: من قلة نحن يومئذ. قال: (( بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن)) قيل وما الوهن يا رسول الله ؟! قال: (( حب الدنيا وكراهية الموت )) ( [1] ).
نعم والله صدقت يا حبيبى يا رسول الله لقد أصبحت الأمة الآن غثاء، ذلت بعد عزة، جهلت بعد علم، ضعفت بعد قوة، وأصبحت الأمة الإسلامية فى ذيل القافلة الإنسانية كلها، بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب، الدليل الحاذق الأرب، بعد أن كانت تقود القافلة الإنسانية كلها بقدارة واقتدار، أصبحت الأمة الآن تتسول على مائدة الفكر الإنسانى.
بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب منارة تهدى الحيارى التائهين ممن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل وأرهقهم طول المشي فى التيه والظلام، لقد أصبحت الأمة المسكينة تتأرجح فى سيرها بل لا تعرف طريقها الذى ينبغى أن تسلكه ويجب أن تسير فيه، بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب جداً الدليل الحاذق الأرب فى الضروب المتشابكة فى الصحراء المهلكة التى لا يهتدى لليسر فيها إلا الأدلاء المجربون.
أهذه هى الأمة التى زكاها الله فى القرآن،ووصفها بالخيرية فى قوله تعالى :
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ آل عمران: 110 ]
أهذه هى الأمة التى زكاها الله فى القرآن بالوسطية فى قوله تعالى :
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [ البقرة: 143 ]
أهذه هى الأمة التى أمرها الله بوحدة الصف والاعتصام بحبل الله المتين فى قوله سبحانه تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا [ آل عمران: 103 ].
وفى قوله سبحانه وتعالى: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ آل عمران: 105 ].
إن الناظر إلى واقع الأمة المر المرير الأليم الذى لا يكاد يخفى على أحد ومما تتعرض له اليوم -لا أقول دولة بعينها بل ما تتعرض له الأمة جلها- من إذلال مهين، وما تتعرض له الآن من ذل وهوان وضرب ليأكد تأكيداً جازماً هذا الواقع المر الأليم الذى لا يحتاج لمزيد بيان أو مزيد تشخيص أو تدليل.
أيها الأحبة الكرام..
لا ريب على الاطلاق أن الأمة فى سبات منذ أمد طويل، ولا ريب أنها مرضت وغاب مرضها وجهلت وعظم جهلها، وضلت وضل قائدها، وتراجعت للوراء بعيداً بعيداً، ولكن مع كل هذا وذاك بحول الله وقوته لم تمت ولن تموت هذه الأمة الميمونة بموعود الصادق الذى لا ينطق عن الهوى ، لإن أبناء الطائفة المنصورة فى هذه الأمة لا يخلو منها زمان ولا مكان بشهادة سيد الخلق أجمعين كما فى الصحيحين من حديث معاوية أن النبى قال: (( لا تزال طائفة من أمتى قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم ظاهرون على الناس )) ( [2] ).
أسال الله العلى القدير أن يجعلنا وإياكم من أبناء هذه الطائفة المنصورة التى تعيش لدين الله وتتمنى أن تنصر بكل سبيل دين الله.
ولئن عرف التاريخ أوساً خزرجا فلله أوس قادمون وخزرج
وإن كنوز الغيب تخفى طلائع حرة رغم المكائد تخرج
صبح تنفس بالضياء وأشرقا وهذه الصحوة الكبرى تهز البيرقا
وشبيبة الإسلام هذا فيلق فى ساحة الأمجاد يتبع فيلقا
و قوافل الإيمان تتخذى المدى ضرباً وتصنع للمحيط الزورقا
وما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا
هى نخلة طاب الثرى فنمى لها جذع طويل فى التراب وأعذقا
هى فى رياض قلوبنا زيتونة فى جزعها غصن الكرامة أورقا
فجر تدفق من سيحبس نوره ؟! أرنى يداً سدت علينا المشرقا
ثانيا: ولكن الإسلام قادم !!
ولكن الإسلام قادم.. هذا وعد ربنا رغم أنوف المشركين والمنافقين والمجرمين إن الإسلام قادم.. نعم قادم، أنا أعى ما أقول، وأعى واقع الأمة المر الأليم الذى ذكرت باختصار سالفاً، ومع ذلك أؤكد لكم جميعاً بيقين جازم أن الإسلام قادم، فلقد سطر علام الغيوب فى كتابه العزيز:
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ آل عمران: 139]. بالإيمان لا تهنوا، بالإيمان ولا تحزنوا، بالإيمان أنتم الأعلون، والله إنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا يوجد على وجه الأرض شر محض، بالرغم ما نراه الآن من تهديدات لا لبلد ما، بل للأمة جلها، فأقول: إن هذا الشر سيجعل الله جل وعلا فيه خيراً كثيراً، فما من أزمة مرت بالأمة إلا وجعلها الله تبارك وتعالى سبب لقوة الإسلام، وما من ابتلاء إلا وجعله الله سبباً لتمحيص الصدور، وسبب لتمايز الخبيث من الطيب، فلقد قال الله فى كتابه العزيز أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. [ العنكبوت: 2 - 3]
ولقد ذكر سلطان العلماء الإمام العز بن عبد السلام فى البلاء سبعة عشر فائدة، ذكر هذه الفوائد كلها فى البلاء، فلا تظن أنه مع هذه الأزمة سيزول الإسلام، وسينتهى المسلمون لا وألف لا، لا والله.
لقد هجم القرامطة على المسلمين فى بيت الله، وذبحوا الطائفين حول بيت الله، واقتلع أبو طاهر القرمطى الخبيث الملعون المجرم الحجر الأسود من الكعبة، وظل يصرخ بأعلى صوته – عليه لعنة الله – فى صحن الكعبة وهو يقول: أين الطير الأبابيل ؟! أين الحجارة من سجيل ؟!
انظروا إلى هذه الفتنة العاصفة الطاحنة على كل مسلم، وظل الحجر الأسود بعيداً عن بيت الله ما يزيد عن عشرين عاماً، ومع ذلك كله رد الله الحجر، ورد الله المسلمين إلى دينه، وانتصر الإسلام على القرامطة كما تعلمون.
وها هو بلاء آخر لقد هجم التتار الكافر على بغداد وظلوا يذبحون ويقتلون أربعين يوماً حتى جرت الدماء فى شوارع بغداد، ومع ذلك كله رد الله المسلمين إلى الإسلام، وأخذ الله الصليبيين والتتار وهزمهم شر هزيمة على أيد الصادقين المخلصين الأبرار، أليس هو القائل:
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ آل عمران: 139 ]
ولكننا يا أمة الإسلام نريد تحقيق الإيمان فتدبروا معنى الآية الآنفة الذكر تقول لا تهنوا بالإيمان ولا تحزنوا بالإيمان أنتم الأعلون بالإيمان، إذاً لا مفر البته من تحقيق الإيمان الصادق المخلص بالله رب العالمين.
وتدبروا معى قوله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ الصف: 8-9 ].
وتدبروا معى واسمعوا وعوا جيداً قول رب العالمين: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ التوبة: 32-33 ].
إن المجرمين الكفرة الفجرة يريدون أن يطفئوا دين ال،له وأبداً أبداً يأبى الله إلا أن يتم نوره، أعتقد اعتقاداً جازماً أنها معركة غير متكافئة، لأنها بين القادر القاهر وبين الكفرة الفجرة، إى والله إنها معركة غير متكافئة، فمن له اليد العليا ؟!!
اسمع لقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [ الأنفال: 36].
نعم سينفقون آلاف الملايين ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، فها هو الإسلام مازال قوياً شامخاً وسيبقى قوياً شامخاً، أين القرامطة ؟! أين التتار ؟! أين الصليبيون ؟! أين المجرمون ؟! بل أين فرعون وهامان ؟! بل أين أصحاب الأخدود ؟! أين كل من عاد وحارب الإسلام أين ؟! هلك الجميع وبقى الإسلام، وسيبقى بموعود الرحمن قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [ الأنفال: 36 ]
استحلفكم بالله الذى لا إله إلا هو أن تنتبهوا جيداً، وتعوا ما أقوله وما سأقصه عليكم الآن لقد كنت فى زيارة لأمريكا فى العشرة الأواخر من رمضان الماضي ووقفت على وثيقة التنصير الكنسي، ورأيت بابا الفاتيكان جون بول الثانى يصرخ فى هذه الوثيقة على كل المبشرين - أى على كل المنصرين فى أنحاء الأرض – قائلاً: هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامى الهائل فى أنحاء أوربا، ما تحرك أحد للإسلام، والله لو بُذل للإسلام ما يبذل لأي دين على وجه الأرض، ما بقى إلا الإسلام.
فى الثالث والعشرين من رمضان الماضى التقيت برئيس جمعية شرطة المسلمين فى أمريكا، وهو ضابط أمريكى الأصل، دار بينى وبينه حوار طويل، بدأت حوارى بسؤال فقلت له: كيف أسلمت ؟! وتعجبت كثيراً حينما قال لى بأنه كان قسيساً متعصباً للنصرانية، يقول: لقد قرأت القرآن – أى الترجمة – وقرأت عدد لا بأس به من أحاديث صحيح البخاري وقد ذهبت يوماً إلى زميل لى وهو أمريكى مسلم فقالوا: إنه بالمسجد، فدخلت المسجد لأنادى عليه، فسمعت الآذان وأنا بباب المسجد، يقول: لقد هزت كلمات الآذان أعماقي وشعرت بتغيير كبير فى داخلي، لا أستطيع أن أعبر لك عنه، لأننى ما تذوقت طعمه قبل أن أستمع إلى هذه الكلمات الآذان، ثم نظرت إلى المسلمين وهم يصلون يقومون معاً ويسجدون معاً، وأنا أنادى على زميلى وهو فلا يرد علىَّ، فلما فرغ من الصلاة قلت له: أنا رئيسك فى العمل وأنادى عليك، فلم لا تجيبنى ؟! قال: أنا فى صلاة بين يدى ربى جل وعلا لا أجيب إلا هو، فأحسست بسلام عميق فى صدرى لهذا الدين. فقلت لزميلى: ماذا تصنعون إن أردتم أن تدخلوا الإسلام ؟! فأمرنى بالإغتسال، فاغتسلت وخرجت إلى صحن المسجد، فشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وكان إسمى مايكل، فأصبح اسمى عبد الصبور، فقلت له سائلاً: ما نظرتك لمستقبل الإسلام فى أمريكا ؟! قال: الإسلام قوى جداً جداً فى أمريكا، وأرجو أن تدققوا الألفاظ فأنا أقول: الإسلام لا أقول المسلمون، ثم قال لى أبشرك بأن كثيراً من الأمريكان بدأوا يفهمون أن رسالة عيسى هى رسالة محمد، هى الإسلام، فقلت له: فهل لك أن تقص علىَّ قصة مؤثرة لعضو من أعضاء جمعيتكم ؟! قال يا أخى القصة الوحيدة التى أستطيع أن أؤكدها لك هى أن الإسلام ينتشر بقوة فى الشرطة الأمريكية، ولقد ذهبت مع بعض إخواني من الدعاة والمشايخ إلى إخواننا الأمريكان من السود بمسجد التقوى، فورب الكعبة لقد احتقرنا أنفسنا بينهم، ترى الواحد منهم فى صلاته خاشعاً يذكرك بسلف هذه الأمة، والتقيت بضابط يقول لى: أصبح من بين هذا العدد ولله الحمد ما يزيد على ألفين وخمسين ضابط يوحدون الله جل وعلا، وهذا عدد كبير ليس بالعدد القليل الهين، ثم قص علىَّ قصة طريفة، فقال لقد أسلمت ضابطة أمريكية ،وجاءت فى اليوم التالى تلبس الحجاب، فقال لها رئيسها: ما هذا ؟! قالت: لقد أسلمت قال: لا حرج، لكن اخلعى هذا الثوب.
قالت: لا، وردت المرأة بقول عجيب أتمنى أن تستمع إليه كل متبرجة فى بلدنا،وتنتسب إلى الإسلام، قالت: إن الله هو الذى أمرنى بالحجاب، ولا توجد سلطة على وجه الأرض تملك أن تنزع عنى هذا الحجاب إلا بأمر الله، الله أكبر !!
إنه اليقين، نعم اليقين، كلمات عجيبة ورب الكعبة، قلت له: أخى أود منك أن توجه ثلاثة رسائل: الرسالة الأولى للأمريكان، والرسالة الثانية للمسلمين فى أمريكا، والرسالة الثالثة للمسلمين فى مصر، فقال: أما رسالتى الأولى للأمريكان هى إننا نؤمن بعيسى كما نؤمن بمحمد، سبحان الله !! إنه فهم دقيق عميق للدين، ولا عجب فقد كان الرجل قسيساً، ونود أن يعلم هؤلاء أننا نجل عيسى ونجل مريم عليهما السلام.
قلت: وجه رسالة للمسلمين فى أمريكا، قال: أقول لهم اصبروا ولا تتعجلوا فإنه لا يتحقق شىء أبداً بدون الصبر (ترجمة حرفية لكلام الرجل)، ثم أقول لهم إن أخطأ واحد منكم فلا ينبغى أن تفزعوا وتحزنوا، فلو لم نخطأ ما احتجنا الرب سبحانه وتعالى، فإننا نخطأ لنتوب إلى الله عز وجل. إنه ورب الكعبة أفق رجل عميق الفكر دقيق النظر.
قلت: فوجه رسالة أخيرة للمسلمين فى مصر سأنقلها على لسانك إلى الآلاف من المسلمين، فقال: قل لهم: إن بعدت بيننا وبينكم آلاف الأميال فإن رحمة الله قد وسعت كل شىء، وإننا نحبكم فى الله.
أيها الشباب: اعلموا أنه قد بلغ عدد المساجد فى قلب قلعة الكفر ما يقرب من ألفي مسجد، وفى ولاية نيويورك فقط مائة وخمسة وسبعون مركزاً ومسجداً إسلامياً.
ألم يقل ربنا: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
وإن آخر الإحصائيات تقول بأن عدد المسلمين فى فرنسا يزيد على خمسة ملايين مسلم، وفى بريطانيا عدد المسلمين يزيد على مليوني مسلم، وفى كل سنة يدخل الإسلام من البريطانيين ما يزيد على ألفي مسلم من أصل بريطاني، أرقام تبشر بالخير !! فالإسلام دين الفطرة، وإنه لقادم لا محال مهما وُضِعت فى طريقه العقبات والسدود والعراقيل قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [ الفتح: 28 ].
إن هؤلاء الكفرة لو سمعوا عن الإسلام وعرفوا صورته الحقيقية جاءوا إليه مسرعين، فإنهم يعيشون حالة قلق رهيبة، ومن سافر إلى بلاد الشرق والغرب وقف على حجم عيادات الطب النفسي، وعرف حجم هذا الخطر، فإنهم قد أعطوا البدن كل ما يشتهيه، وبقيت الروح فى أعماق أبدانهم تصرخ وتبحث عن دواءها وغذاءها، ولا يعلم دواءها وغذائها إلا الله، قال جل فى علاه:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [ الإسراء: 85 ].
وها هم العلمانيون يريدون أن يخلعوا عباءة الإسلام عن تركيا بكل قوة.
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [ التوبة 32 ].
ففى زيارتى الأخيرة يقول لى أخ تركى: إن عدد المساجد فى تركيا يزيد عن خمسة وستين ألف مسجد، ويقسم لى بالله أنهم فى رمضان الماضي كانوا يصلون الفجر خارج المسجد كأنهم فى صلاة الجمعة، ومع ذلك انظر إلى الضربات التى تكال على تركيا كيلاً، فإن أتباع أتاتورك الخبيث الهالك يريدون أن يجعلوها علمانية، بعيداً عن الإسلام، لكنهم عاجزون، إنهم يرقصون رقصة الموت لما يرون كل يوم من شباب فى ريعان الصبا، وفتيان فى عمر الورود يغذون هذا المد الإسلامى الهائل، لا أقول فى مصر ولا فى بلاد المسلمين بل فى العالم كله.
إننا والله نرى العجب العجاب، ونرى الخير الكثير هذا من باب قول الله سبحانه: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ آل عمران: 139 ].
وفى الحديث الذى رواه الإمام أحمد من حديث حذيفة بن اليمان وهو حديث صحيح أن النبى قال: (( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة )) ( [3] )
أسأل الله أن يعجل بالخلافة التى على منهاج النبوة، وأن يمتعنا بالعيش فى ظلالها، وإن لم يقدر لنا فأسأله أن لا يحرم أبنائنا وأولادنا إنه ولى ذلك والقادر عليه.
وفى الحديث الذى رواه مسلم من حديث ثوبان أن الصادق المصدوق قال: (( أن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتى سيبلغ ما زوى لى منها..... )) ( [4] )
يا أمة التوحيد: لم اليأس ؟!! إن اليأس سيزيد النشيط خذلاناً، وسيزيد اليائس والقانط يأسأً وقنوطاً.
الرسول وهو فى أحلك الأزمات والأوقات وهو يُطارد، وأصحابه مهاجرون يقول لخباب بن الأرت ((والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه )) ( [5] )
أليس الله هو القائل: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ آل عمران: 139 ].
يا أهل التوحيد: اعلموا علم اليقين بأن كل ابتلاء يزيد الإسلام صلابة، ويزيد المسلمون قوة، ويخرج من الصف من اندس فى صفوف المؤمنين وقلبه مملوء بالنفاق، يقول النبى كما فى صحيح مسلم من حديث صهيب عنه: (( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن إصابته سَّراء شكر، فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )) ( [6] ).
وفى الحديث الذى رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه على شرط الشيخين وأقر الحاكمَ الذهبيُ، وقال الألبانى: بل هو صحيح على شرط مسلم من حديث تميم الدّارىّ أن الحبيب النبى قال: (( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترُكُ الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بعزٍ عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر )) ( [7] )
ومن جميل ما قاله المفكر الشهير اشبنكنز: إن للحضارات دورات فلكية فهى تغرب هنا لتشرق هناك، وإن حضارة أوشكت على الشروق فى أروع صورة، ألا وهى حضارة الإسلام الذى يملك وحده أقوى قوة روحانية عالمية نقية.
أيها الموحدون: والله والله ما بقى إلا أن ترتقى هذه الأمة إلى مستوى هذا الدين وأن تعرف الأمة قدر هذه النعمة التى امتن بها علينا رب العالمين.
لقد ذكرت آنفاً أن ما وقع للأمة وقع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير، ولن تعود الأمة إلى عِزَّتها وسيادتها إلا وِفْقَ هذه السنن التى لا يجدى معها تعجل الأذكياء ولا وهم الأصفياء، إذاً محال محال أن ينصر الله عز وجل هذه الأمة وهى خاذلة مضيعة لدينه، بل لا بد أن تنصر الأمة دين الله لينصرها، أليس الله هو القائل:
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ الحج: 40 ]
أليس الله هو القائل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [ غافر: 51 ].
أليس الله هو القائل: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47]
أليس الله هو القائل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ النور: 55 ].
إذاً لا بد أن نقف جميعاً على بنود هذا المنهج العملى الواجب التنفيذ، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء، وأرجىء الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة وأقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.
( [1] ) رواه أبو داود رقم ( 4297 ) فى الملاحم ، باب فى تداعى الأمم على الإسلام ورواه أحمد فى
المسند ( 5/ 278 ) وصححه الألبانى فى الصحيحة رقم ( 958 ).
( [2] ) رواه البخارى رقم ( 3641 ) فى المناقب ، باب رقم ( 28 ) ، ومسلم رقم ( 1037 ) فى
الإمارة ، باب قوله : ((لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق)) وأبو داود ( 4252 )
فى الفتن ، والترمذى رقم ( 2177، 2230 ) فى الفتن.
( [3] ) رواه أحمد فى المسند ( 4/ 273 ) وصححه الألبانى فى الصحيحة رقم ( 5 ).
( [4] ) رواه مسلم رقم ( 2889 ) فى الفتن واشراط الساعة ، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض
( [5] ) رواه البخارى رقم ( 3612 ) فى المناقب ، باب علامات النبوة فى الإسلام ، رواه أيضاً أحمد
فى المسند : ( 2/ 271 ) ، ( 5/ 109- 110 - 111 ) ، ( 6/ 295 ) وأبو داود رقم
( 2649 ) فى الجهاد ، والنسائى رقم ( 8/ 204 ) فى الزينة.
( [6] ) رواه مسلم رقم ( 2999 ) فى الزهد ، باب المؤمن أمره كله خير.
( [7] ) رواه أحمد فى المسند ( 4/ 103 ) رقم ( 16894 ) ورواه ابن حبان فى صحيحه رقم
( 1631 ، 1632 موارد ) وصححه الألبانى فى الصحيحة رقم ( 3)
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله اللهم صلى وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وأحبابه، وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة الكرام.
ثالثاً: منهج عملى واجب التنفيذ.
أول خطوة عملية على طريق عودة الأمة إلى عزتها وسيادتها وعلى طريق نصرة الله لها هى أن تعود عوداً حميداً إلى كتاب الله وسنة رسول الله
والعودة إلى القرآن والسنة ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً من الأمة، بل إنها عودة واجبة بل إنها حدّ الإسلام وشرط الإيمان، فلقد سجل الله فى كتابه العزيز: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ النساء: 65 ]
فالخطوة العملية الأولى أن أبدأ بنفسى وتبدأ بنفسك، ولا ينبغى أن نعلق كل ما نسمع على غيرنا، فلنبدأ من الآن قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [ آل عمران: 165 ].
فلو بدأ كل واحد منا وحوّل هذا الكلام فى بيته وفى عمله وفى شتى أمور حياته كلها إلى واقع عملى ومنهج حياة، والله لغير الله حالنا، فليرجع كل مسلم إلى الله وإلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله وليعلم كل مسلم على وجه الأرض أن شعار المنافقين واليهود هو: سمعنا وعصينا، وأن شعار المؤمنين سمعنا وأطعنا.
قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [ النور: 51 ]
هذا قول الله، ومن أصدق من الله قولاً ؟!
أما شعار أهل النفاق فقد سطر الله فى كتابه عنهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاَّ بَعِيدًا (1/314)
تفسير سورة الأعلى
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضيلة التسبيح وبعض أذكاره 2- حفظ الله للقرآن في صدر نبيّه 3- تعليق الأمور
المستقبلة بمشيئة الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله تعالى حق تقاته، وتدبروا ما أنزل إليكم من حكمه وآياته؛ فإن الله تعالى لم يخلقكم عبثاً، ولم يضرب عنكم الذكر صفحاً، بل خلقكم لمعرفته وعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته ،أوجب ذلك عليكم في خاصة أنفسكم ،وأمركم أن تأمروا به تجاهدوا عليه أهلكم وأولادكم، وقال سبحانه: من عمل صالحاً ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحييه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [سورة النحل:97]، ووعد سبحانه المؤمنين الصالحين من الآباء والأبناء بأن يجمعهم في الجنة دار النعيم والتكريم، فقال: والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين [سورة الطور:21]، وقال جل ذكره: جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار [سورة الرعد:23-24]. فأطيعوا الله فيما أمركم من التوحيد والاستقامة ينجز لكم ما وعدكم من النزل والكرامة.
عباد الله: كان من هدي نبيكم محمد أنه يستحب قراءة سور المسبحات، وخاصة سورة سبح اسم ربك الأعلى ، في المجامع العظام كالجمعة والعيد؛ وهما من شعائر الإسلام وذلك لما اشتملت عليه من جلي الحكم والأحكام؛ والمواعظ، والتذكرة لأهل الإسلام بجليل الإنعام، وحقوق الملك القدوس السلام.
وسورة الأعلى افتتحت بقول الله جل وعلا: سبح اسم ربك الأعلى [ سورة الأعلى:1]. وفي الصحيحين أن رسول الله قال: ((من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)). وفي صحيح مسلم عن النبي أن: ((من سبح الله في يوم مائة تسبيحة كتبت عنه ألف حسنة وحط عنه ألف خطيئة)). وأخبر أن التسبيح يقوم مقام الصدقة بالمال، وخاصة الفقراء الذين لا مال لهم فقال: ((إن بكل تسبيحة صدقة)). وأخبر أن التسبيح والتكبير والتحميد دبر الصلوات مما يلحق به الفقراء من قصَّر فيه أو جهله من أهل الصدقات، وأن التسبيح عند النوم يخفف الآلام ويلطف المشاق العظام، كما أرشد فاطمة وعلياً رضي الله عنهما أن يقولا ذلك عند النوم، وقال: ((هو خير لكما من خادم)). فهن كلمات يسيرة وأجورهن كثيرة، ولكن لا يقولهن إلا القليل من القوم؛ لأن الشيطان يأتي أحدهم فيلقي عليه النوم.
أيها المسلمون: ولما نزلت: سبح اسم ربك الأعلى ، قال النبي : ((اجعلوها في سجودكم)) ، وكان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي)) ، يتأول القرآن؛ أي يفعل ما أمر به من الرحمن.
أيها المسلمون: وأما قوله سبحانه: الذي خلق فسوى [سورة الأعلى:2]. أي الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم واختصه بما فضل به على غيره من التكريم، وأعظم ذلك أن هداه إلى الدين القويم، وأرشده إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى رضوانه وجنات النعيم، وهو سبحانه أيضا خلق المخلوقات كلها في غاية من الإتقان والإحسان، صنع الله الذي أتقن كل شيء.
وقوله: والذي قدر فهدى [سورة الأعلى:3]. أي خلق كل شيء بمقادير مضبوطة ولحكم محكمة، فقدر سبحانه تقديراً تتبعه جميع المقدرات، وهدى إلى ذلك جميع المخلوقات، وتلك هداية عامة مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته، وتذكر العباد بجلائل نعمه، وعموم فضله، وواسع رحمته.
ومن ذلك أنه: والذي أخرج المرعى [سورة الأعلى:4]. أي بما أنزل من السماء ماءً رزقاً لسائر الأحياء، فأنبت به أصناف النباتات، وأخرج به من كل الثمرات، فرتع فيه الناس والبهائم وجميع الحيوانات، فكان ذلك من سابغ أن استكمل ما قدر له من الشباب النمو والاستواء يسر له من الأسباب ما ألوى نباته ووضح عشبه: فجعله غثاءً أحوى [سورة الأعلى :5].أي قد اسود فأصبح هشيماً تذروه الرياح؛ وكان الله على كل شيء مقتدراً، وهكذا دنيا الناس عمرها معهم وعمرهم فيها عمر هذا النبات ،فما تكاد تجتمع وتحلو فيها المتعة إلا وقد صارت إلى شتات، وكم في ذلك من بليغ العبر والعظات.
أيها المسلمون: ومن نعم الله الدينية على رسوله ونبيه والمؤمنين به من هذه الأمة المحمدية ما أشار إليه بقوله: سنقرئك فلا تنسى [سورة الأعلى:6]. أي سنحفظ ما أوحينا إليك من هذا الكتاب ونوعيه قلبك على أميتك فلا تنسى منه شيئاً؛ فبشره الله بأنه سيعلمه علماً لا ينساه، وكان في أول الوحي إذا قرأ عليه جبريل عليه السلام الوحي يحرك شفتيه فيقرأ مع جبريل خشية النسيان، فقال تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه [سورة القيامة :16-19]. فأوحى له تعالى أن يستمع وينصت لجبريل حين يتلو عليه الوحي، ووعده أن يجمعه له في صدره ثم يقرأه فلا ينسى منه شيئاً، وقد صدق سبحانه عبده وأنجز وعده.
وأما قوله سبحانه: إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى [سورة الأعلى:7]. فالمعنى أنك لا تنسى إلا ما اقتضت حكمة الله أن ينسيك إياه لمصلحة وحكمة بالغة؛ لكون هذا الشيء منسوخاً أو مبدلاً بخير منه، كما قال سبحانه: ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [سورة البقرة:106].
وفي ضمن ذلك تعليم لكل مسلم أن لا يعد بشيء مستقبلاً إلا معلقا بالمشيئة كما قال تعالى: ولا تقولن لشىء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله [سورة الكهف:23-24]. وهو سبحانه يعلم ما يصلح عباده، وقد هداهم لما فيه صلاحهم وفلاحهم في معاشهم ومعادهم، ويعلم لذلك سرائرهم وعلانيتهم، وما انطوت عليه ضمائرهم، وفي ذلك حث على سلامة الصدور، وإخلاص النية والنصح للعباد في جميع الأمور.
وأما قوله سبحانه: ونيسرك لليسرى [سورة الأعلى:8]. فهذه بشارة أخرى أن الله تعالى ييسر رسوله لليسرى في جميع أموره، ويجعل دينه وشرعه سمحاً ميسراً، وقد وفَّى تبارك وتعالى بذلك فشرع للمسلم الصلاة قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، فإن لم يستطع فيومئ برأسه إيماءً، وشرع الصيام للصحيح المقيم القادر، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر، ومن لم يستطع الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فيطعم عن كل يوم مسكيناً، وشرع الله التيمم لمن لم يجد ما يتطهر به أو عجز عن استعماله، فإن لم يستطع صلى على حسب حاله، وهكذا كل دين الله ميسر ليس فيه عسر وما جعل عليكم في الدين من حرج [سورة الحج:78]. يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [البقرة:185]. يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً [سورة النساء:26-28].
فاشكروا الله على أن خلقكم في أحسن تقويم، وأرسل لكم خير خلقه محمداً النبي الكريم، وهداكم إلى الصراط المستقيم والدين القويم، ووعدكم على ذلك جنات النعيم ورضوانه، وهو الرب الكريم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/315)
أولادنا بين البر والعقوق
الأسرة والمجتمع
الوالدان
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قتل بعض الأبناء لآبائهم 2- خطر عقوق الوالدين 3- فضل بر الوالدين
4- حقوق الوالدين وواجباتهم 5- مسئولية التربية على عاتق الجميع
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:-
فإن أصدق الحديث كتاب الله ،وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله
أبناؤنا بين البر والعقوق، هذا هو عنوان لقاءنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكما تعودنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان المهم في العناصر الآتية:
أولاً: حقاً إنها مأساة.
ثانياً: خطر العقوق.
ثالثاً: فضل البر.
رابعاً: حقوق تقابلها واجبات.
خامساً: إنها مسئولية المجتمع.
فأعيرونى القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
أولاً: حقاً إنها مأساة.
لا شك أن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى حب ورعاية الأولاد، بل وإلى التضحية للأولاد بكل غالي ونفيس، فكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء فى الحبة فإذا هى فتات، وكما يمتص الفرخ كل غذاء فى البيضة فإذا هى قشرة هشة، فكذلك يمتص الأولاد كل رحيق وعافية واهتمام، فإذا بالوالدين في شيخوخة فانية، ومع ذلك فهما سعيدان.
ولكن من الأولاد من ينسى سريعاً هذا الحب والعطاء والحنان والرعاية، ويندفع فى جحود وعصيان ونكران ليسيء إلى الوالدين بلا أدنى شفقة أو رحمة أو إحسان، وتتوارى كل كلمات اللغة على خجل واستحياء بل وبكاء وعويل حينما تكتمل فصول المأساة، ويبلغ العقوق الأسود ذروته حينما يقتل الولد أمه، وحينما يقتل الولد أباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإليك قصة غاية فى البشاعة والإجرام والجحود.
لقد وقعت فى إحدى قرى دكرنس جريمة مروعة شنعاء هى التى دفعتني إلى الحديث اليوم عن هذا الموضوع.
فى أسرة فقيرة تتكون من عشرة أبناء، يقضى الوالد المسكين ليله ونهاره ليوفر لأبنائه العيشة الطيبة الكريمة ويلحقهم بأرقى الكليات بالجامعة، ومن بين هؤلاء الأبناء ولد عاق، بدلاً من أن يساعد أباه فى نفقات هذه الأسرة الكبيرة راح يلهب ظهر والده بالمصروفات ليضيعها على المخدرات والفتيات، فقال له والده المسكين: أى بني أنا لا أقدر على نفقاتك ومصروفاتك، دعنى لأواصل المسيرة مع إخوانك وأخواتك، وأنت قد وصلت إلى كلية العلوم فاعمل وشق طريقك فى الحياة، ولكن الولد تمرد على التقاليد والقيم وعلى سلطان البيت والأسرة، بل وعلى سلطان الدين، راح هذا الولد العاق يفكر كيف يقتل أباه؟! إى والله حدث ما تسمعون!! إنه طالب فى كلية العلوم راح يستغل دراسته استغلالاً شيطانياً خبيثاً حيث أعد مادة كيمائية بطريقة علمية معينة، وأخذ كمية كبيرة، وعاد إلى البيت، وانتظر حتى نام أبوه المسكين، فسكب المادة الكيميائية على أبيه وهو نائم، فأذابت المادة لحم أبيه وبدت العظام، الله أكبر !! لا إله إلا الله !! لا إله إلا الله !!
والله إن الحلق ليجف، وإن القلب لينخلع، وإن العقل ليشط، وإن الكلمات لتتوارى فى خجل وحياء، بل وبكاء وعويل، أمام هذه المأساة المروعة الشنعاء بكل المقاييس.
قد يرد الآن عليَّ أب كريم من آبائنا أو أخ عزيز يجلس معنا ويقول إنه الفقر، قاتل الله الفقر!!
والجواب: مع تقديرى لكل آبائي وأحبائي، ما كان الفقر سبباً ليقتل الولد أباه، وإذا أردت الدليل فخذ الحادثة الثانية المروعة التى طالعتنا بها جريدة الأهرام منذ أسبوعين اثنين فقط.
أسرة ثرية وصل الوالدان فيها إلى مرتبة اجتماعية مرموقة، فالأم تحمل شهادة الدكتوراه فى الهندسة جلست هذه الأم المثقفة لتناقش ابنها فلذة كبدها الذى أنهى دراسته الجامعية فى أمر خطيبته التى أراد أن يتزوجها، فالأم تعارض هذا الزواج لاعتبارات وأسباب ترى أنها وجيهة من واقع خبرتها ومسؤليتها تجاه ولدها، فاحتج الولد على أمه وما كان من هذا المجرم العاق إلا أن أسرع بسكين، ثم انقض بالسكين على أمه بطعنات قاتلة حتى فارقت الحياة، ما هذا؟!
والله إن الحلق ليجف، وإن القلب لينخلع، من هول هذه الصورة البشعة من صور العقوق للآباء والأمهات الذى حذر الله جل وعلا منه فى أدنى صوره، وأقل أشكاله وألوانه، فقال جل وعلا: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [ الإسراء: 23-24 ].
أيها المسلمون: أيها الأبناء: اعلموا علم اليقين أن العقوق كبيرةٌ تلى كبيرة الشرك بالله وهذا هو عنصرنا الثانى.
ثانيا: خطر العقوق.
العقوق من أكبر الكبائر ففى الصحيحين من حديث أبى بكرة t أن النبى قال: ((ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر ( ثلاثاً ) )) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، أو قول الزور)) – وكان متكئاً فجلس – فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت ( [1] )
وفى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أن النبى قال: ((إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه)) فقال الصحابة: وهل يشتم الرجل والديه؟ فقال المصطفى: ((نعم يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه )) ( [2] ).
انظر إلى هذا السؤال الإنكارى من الصحابة رضوان الله عليهم ،وهل يشتم الرجل والديه لا أن يقتل والديه؟ لا يتصور الصحابة فى مجتمع الطهر مجرد أن يشتم الرجل والديه، فقال الحبيب المحبوب: أن يشتم رجل بأبيه فيرد هذا الرجل على الشاتم بأن يشتم أباه، وبهذا يكون الرجل سب أباه بطريق غير مباشر، وهذا الفعل من أكبر الكبائر والعياذ بالله.
أيها الأبناء: العقوق سبب من أسباب الحرمان من الجنة والطرد من رحمة الله التى وسعت كل شىء، ففى الحديث الذى رواه النسائى والبزار بسند جيد وحسنه الألبانى، ورواه الحاكم فى المستدرك، وصححه على شرط الشيخين البخارى ومسلم من حديث عمر أن النبى قال: (( ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة)) قيل: من هم يا رسول الله ؟! قال: ((العاق لوالديه، والمرأة المترجلة ( [3] ) ، والديوث ( [4] ) )) ( [5] ).
أيها الأبناء: أيها الآباء: تدبروا قول الرسول : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة)) خابوا وخسروا ورب الكعبة هؤلاء هم الذين طردوا من رحمة الرحمن، التى وسعت كل شىء، وأول المطرودين: العاق لوالديه.
أيها الأبناء: أخاطبكم بكل قلبى وكيانى، يا من منَّ الله عليكم الآن بنعمة الآباء والأمهات، وأنتم لا تدركون قدر هذه النعمة، ولن تشعروا بها إلا إذا فقدتم الوالدين، أسأل الله أن يبارك فى أعمار أبائنا وأمهاتنا ،وأن يختم لنا ولهم بصالح الأعمال إنه على كل شىء قدير.
أيها الأبناء: العقوق لا ينفع معه أى عمل، سواء صلاة أو زكاة أو حجاً أو صياماً، ففي الحديث الذى رواه الإمام الطبرانى وابن أبى عاصم فى كتاب السنة بسند حسن، وحَسَّنَ الحديث الشيخ الألبانى فى السلسلة الصحيحة من حديث أبى أمامة أن النبى قال: ((ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً ( [6] ) ولا عدلاً: العاق لوالديه والمنان والمكذب بالقدر )) ( [7] ).
ولكى أختم هذا العنصر لأعرج على بقية عناصر الموضوع أقول: إن العقوق دين لا بد من قضائه فى الدنيا قبل الآخرة، فكما تدين تدان، فإن بذلت البر لوالديك سَخَّرَ الله أبناءك لبرك، وإن عققت والديك سَلَّط الله أبناءك لعقوقك، ستجنى ثمرة العقوق في الدنيا قبل الآخرة، ففى الحديث الذى رواه الطبرانى والبخارى فى التاريخ وصححه الألباني من حديث أبي بكرة أن النبى قال: ((اثنان يعجلهما الله فى الدنيا: البغى وعقوق الوالدين )) ( [8] ).
تدبر معى والدى الكريم وأخى الحبيب: هذا ابن عاق يعيش معه والده فى بيته فكبر الوالد، وانحنى ظهره، وسال لعابه، واختلت أعصابه، فاشمأزت منه زوجة الابن، - وكم من الأبناء يرضون الزوجات على حساب طاعة الأمهات والآباء - فطرد الولد أباه من البيت، فَرَقَّ طفلٌ صغير من أبنائه لجده فقال له: لماذا تطرد جدنا من بيتنا يا أبى، فقال: حتى لا تتأففون منه، فبكى الطفل لجده وقال: حسناً يا أبتي ،وسوف نصنع بك هذا غداً إن شاء الله!! العقوق دَين لابد من قضائه.
وهذا ابن آخر يصفع والده على وجهه، فيبكى الوالد ويرتفع بكاءه، فيتألم الناس لبكاء هذا الشيخ الكبير، وينقض مجموعة من الناس على هذا الابن العاق ليضربوه، فيشير إليهم الوالد ويقول لهم: دعوه. ثم بكى وقال: والله منذ عشرين سنة، وفى نفس هذا المكان صفعت أبى على وجهه !! العقوق دَين لابد من قضائه.
وهذا ابن ثالث عاق يجر أباه من رجليه ليطرده خارج بيته، وما إن وصل الولد بأبيه وهو يجره حتى الباب ،وإذا بالوالد يبكى ويقول لولده: كفى يا بنى، كفى يا بنى إلى الباب فقط، فقال: لا بل إلى الشارع، قال: والله ما جررت أبى من رجليه إلا إلى الباب فقط !! كما تدين تدان.
أيها الأخ الحبيب اذهب اليوم إلى أبيك فقبل يديه وقدميه، وارجع اليوم إلى أمك فقبل يديها وقدميها فثم الجنة، ما أشقاها والله من حياة: حياة العقوق، وما أطيبها وأروحها وأسعدها وألذها من حياة ،آلا وهى حياة البر وهذا عنصرنا الثالث.
ثالثا: فضل البر.
أيها الحبيب الكريم.. يكفى أن تعلم أن الله جل وعلا قد قرن بر الوالدين والإحسان إليهما بتوحيده قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ الإسراء: 23 ]
وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ البقرة: 83 ].
قال ابن عباس ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاثة، لا يقبل الله واحدة بدون قرينتها.
أما الأولى فهى قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ محمد: 33 ].
فمن أطاع الله ولم يطع الرسول فلن يقبل منه.
وأما الثانية فهى قول الله: وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ [ البقرة: 43 ].
فمن أقام الصلاة وضيع الزكاة لن يقبل منه.
وأما الثالثة فهى قول الله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [ لقمان: 14 ]. فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لن يقبل منه.
حياة البر ما أروعها من حياة، إنها حياة السعادة والطمأنينة، إنها حياة الأمن والأمان، يالها من لذة !! فيها ستشعر بانشراح الصدر، ستشعر بالسعادة فى كل الخطا، بل سيوسع الله عليك رزقك، بل سيبارك الله لك فى عمرك، فى حياة بر الوالدين.
البِرُّ سبب دخول الجنة:
تدبر معى كلام النبى كما فى الحديث الذى رواه مسلم من حديث أبى هريرة، قال الحبيب : ((رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه)) قيل من يا رسول الله؟ قال المصطفى: ((من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة )) ( [9] ).
الرسول يقول: رغم أنفه ثلاثاً: أى ذل وهان وتعرض للخيبة والخذلان من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما،ثم لم يكونا سبباً فى دخوله الجنة.
إياك أن تضيع هذا الخير، يا من منَّ الله عليك به الآن.
بر الوالدين من أعظم القربات إلى رب الأرض والسماوات.
اسمع كلام سيد المرسلين، ففى الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت النبى فقلت يا رسول الله: أى العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) قال: ثم أى؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) قال: ثم أى؟ قال: ((الجهاد فى سبيل الله)) ( [10] ).
وفى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر قال رجل للنبى :
أُجاهد؟ قال: ((لك أبوان؟)) قال: نعم. قال: ((ففيهما فجاهد)) ( [11] ).
وفى رواية مسلم أن رجلاً جاء للنبى فقال: يا رسول الله جئت أبيايعك على الهجرة والجهاد فقال له المصطفى: ((هل من والديك أحدٌ حى؟)) قال: نعم، بل كلاهما. قال: ((فتبتغى الأجر من الله؟)) قال: نعم. قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) ( [12] ).
بر الوالدين سبب تفريج الكربات:
ففى الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبى قال: ((بينما ثلاثة نفر يمشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غارٍ فى الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها: فقال أحدهم: اللهم إنه كان لى والدان شيخان كبيران، ولى صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رُحتُ عليهم فحلبت، بدأت بوالداي أسقيهما قبل ولدي ،وإنه نأى بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمى، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء ،ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء.....)) ( [13] )
إلى آخر الحديث.
انظر جيداً فى معنى هذا الحديث لما تقرب الرجل إلى الله عز وجل ببر والديه استجاب الله دعاءه، فعليك ببر الوالدين بإخلاص تكن مستجاب الدعوة.
أيها الأحبة الكرام: معلوم أن بر الأم مقدم على بر الأب ففى الصحيحين من حديث أبى هريرة جاء رجل إلى رسول الله فقال: (( مَنْ أحق الناس بحسن صحابتى؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أبوك )) ( [14] ).
بل وتدبر معى هذا الحديث الرقيق الرقراق الذى رواه البيهقي ورواه ابن ماجة وحسنه شيخنا الألبانى فى السلسلة الصحيحة من حديث معاوية بن جاهمة، أن جاهمة عندما جاء إلى النبى فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو – أى فى سبيل الله وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟)) قال: نعم. قال: ((فالزمها، فإن الجنة عند رجلها)) ( [15] )
وقد يتحسر الآن أباؤنا وأحبابنا ممن حرموا من نعمة الوالدين لذا أسوق إليهم حديثاً ربما وجدوا فيه العزاء: وللأمانة العلمية التى عاهدنا الله عليها ففى سنده على بن عبيد الساعدى، لم يوثقه إلا ابن حبان وبقية رجال السند ثقات عن أبى أسيد مالك بن ربيعة الساعدى قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقى علىَّ من بر أبوي شىء أبرهما بعد موتهما؟ فقال: ((نعم الصلاة عليهما - أى الدعاء لهما والترحم عليهما، والاستغفار لهما- وانفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)) ( [16] )
فيجب علينا أن ندعو لأبائنا ونستغفر لهما ونحج عنهما ونتضرع إلى الله بالدعاء لهما فنقول: ربى ارحمهما كما ربيانى صغيرا.
فلقد كان السلف رضوان الله عليهم إذا ماتت أم أحدهم بكى وقال: ولم لا أبكي وقد أغلق اليوم علىَّ باب من أبواب الجنة.
رابعاً: حقوق تقابلها واجبات..
كما أن للوالدين حقوقاً على الأبناء فإن للأبناء حقوقاً على الآباء، كم من آباء، وكم من أمهات قد ضيعوا الأبناء ؟! إن التربية منذ أول اللحظات مسئولية كاملة للوالدين بل وقبل أن يأتى الولد للحياة، فالوالد مسئول عن هذا الابن الذى لم يأتى بعد، كيف ذلك ؟! أن يحسن اختيار أمه التى يجب أن تربيه بعد ذلك على الصلاح والفضائل.
أحبتى فى الله:
أسألكم بالله أن تتدبروا معى هذه الكلمات التى سأطرحها على حضراتكم، ماذا تقولون لو قلت لحضراتكم الآن: بأن أباً قد عاد اليوم إلى بيته فأخرج ورقة وكتب عليها استقالة لزوجته من تربية أبنائه ؟!! حتماً سيتهم هذا الوالد بالجنون.
أقول وماذا تقولون لو أن أمّاً قد عادت اليوم من عملها إلى بيتها فسحبت ورقة وكتبت عليها استقالة لزوجها من تربية الأبناء ؟!! حتماً ستتهم هذه المرأة بالجنون، بل وقد يفكر هذا الوالد المسكين فى طلاقها.
فماذا تقولون لو قلت لحضراتكم بأن نظرة صادقة إلى الواقع الذى نحياه تقول بأن استقالة جماعية قد حدثت فى بيوت المسلمين؟ نعم لقد استقال كثير من الآباء تربوياً، واستقالت كثير من الأمهات تربوياً، الوالد المسكين يظن أن دوره يتمثل فى أن يكون وزيراً للمالية والنفقات، طوال النهار فى التجارات والسفريات والأعمال أو على المقاهى والمنتديات فإذا ما حَلَّ الليل رجع لينام أو ليسهر أمام التلفاز، ما فَكَّر مرة أن يخلوا بأولاده يطمئن على أحوالهم.
أنا لا أقول فَرِّغ كل وقتك لولدك لأننى أعلم ظروف الحياة وأعلم الحالة الاقتصادية الطاحنة التى ترهق ظهور الآباء.
لكن أقول: والله إن جلوس الأب بين أبنائه وهو صامت لا يتكلم فيه من عمق التربية ما فيه، فما بالكم إذا تكلم فَذَكَّر بجنةٍ، وحَذَّرَ من نارٍ، وحل مشكلة، ووجه نصيحة، وأشعر أولاده أنه يشعر بهم وبأحاسيسهم، وسأل عن صديق الولد، وسأل عن صاحبة البنت، بكل حنان ورحمة وأُبوَّة حانية.
والله يا أخوة لقد جاءنى فى الأسبوع الماضى شاب تزين اللحية وجهه وهو يكاد يبكى، قلت له: لماذا؟ قال: إن أبى يقسم علىَّ بالله إن ذهبت إلى المسجد فسوف يطردنى من البيت!! أيها الوالد أنت مسئول أن تربى ابنك من أول لحظة. مشى الطاووس يوماً باختيالٍ فقلد مشيته بنوه فقال: علام تختالون؟ قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه
يشب ناشىء الفتيان منا على ما كان عَوَّده أبوه
أيها الوالد الكريم: إذا ربيت ولدك على الفضائل، والأخلاق الكريمة والصلاح منذ نعومة أظفاره، شب حتماً على هذه الفضائل والأخلاق، نعم قد يقول لى والد: إننى أربى ولدي في البيت وسيخرج إلى الشارع ليعود وقد طُمِس بناؤه الجميل الذى اجتهدت في تزينه وتجميله، سأقول لك أبشر واطمئن فما دام الأصل سليماً وما دام الجوهر نقياً، فسرعان ما يزول هذا الغبش الذى تأثر به ظاهره، وسرعان ما يعود إلى أخلاقه وجوهره النقي، الذى اجتهدت فى تأصله فى بيتك على كتاب الله وسنة رسول الله.
أيها الوالد الكريم: ابنك أمانة، اجتهد لا تضيع ولدك فسوف تسأل عنه. قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ التحريم: 6 ]
وفى الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبى قال: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل فى أهل بيته راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية فى بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع فى مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته )) ( [17] )
وتزداد المأساه يا مسلمون إذا انضم إلى استقالة الآباء استقالة الأمهات، فالأم هى الحضن التربوى الطاهر، الأم هى المدرسة الأولى للتربية، ماذا تقولون لو أغلقت المدرسة الأولى للتربية ؟! ألا وهى مدرسة الأم.
ليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه فى هم الحياة ذليلاً
إن اليتيم هو الذى ترى له أماً تخلت أو أبا مشغولاً
ماذا تقولون لو علمتم كما ذكرت لحضراتكم أن من الآباء من يمنع ولده من الذهاب إلى المسجد أو يمنع ولده من الذهاب إلى مجالس العلم؟ نعم أسأل الله أن يجعلنى من المنصفين، أنا لا أريد أن أقلل الآن – بعد ما أصلّت ما لوالدين من حقوق – من شأنهما عند أبنائنا وإخواننا، وإنما أود أن أقول لإخواني وأبنائي قد يأمرك الوالد بذلك من منطلق الخوف عليك، وهذا هو الواقع، فالولد قرة عين أبيه، وثمرة فؤاده، فإن أمر الوالد ولده بذلك فليعلم الوالد الكريم أن المعصية أكبر، وبأنه سيزداد خوفه بصورة أكبر إذا منع الولد من معرفة طريق المساجد، وإذا حال بين الولد وطريق السنة، وسوف يبكى الوالد دماً بدل الدموع إذا رأى ولده يحقن نفسه بحقنة مخدرات أو يتعاطى المخدرات أو يمشى مع فتاة فى الحرام ولا حول ولا قوة إلا بالله، لذا أذكر آبائي الكرام بأن يفتحوا الباب على مصراعيه لأبنائهم، وليسلكوا طريق سنة النبى.
أيها الأحباب الكرام: إن للوالدين حقوقاً على الأبناء، وإن للأبناء حقوقاً على الوالدين وهناك من الوالدين من يقع فى عقوق ولده قبل أن يقع ولده فى عقوقه.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين أشكو إليك عقوق ولدي، فقال: ائتنى به، فجاء الولد إلى عمر ، فقال عمر: لم تعق أباك؟ فقال الولد: يا أمير المؤمنين ما هو حقي على والدي؟ فقال عمر: حقك عليه أن يحسن اختيار أمك، وأن يحسن اختيار اسمك وأن يعلمك القرآن. فقال الولد: والله ما فعل أبي شىء من ذلك، فالتفت عمر إلى الوالد وقال: انطلق لقد عققت ولدك قبل أن يعقك.
وأخيراً حتى لا أطيل عليكم إنها مسئولية الجميع، أرجىء الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
( [1] ) رواه البخاري رقم ( 2653 ) فى الشهادات ، باب ما قيل فى شهادة الزور ، ومسلم رقم
( 87 ) في الإيمان ، باب بيان الكبائر وأكبرها ، والترمذي رقم ( 2302 ) فى الشهادات ،
باب ما جاء فى شهادة الزور.
( [2] ) رواه البخاري رقم ( 5973 ) فى الأدب ، باب لا يسب الرجل والديه ، ومسلم رقم
( 90 ) في الإيمان ، باب الكبائر وأكبرها ، وأبو داود رقم ( 5141 ) في الأدب ، باب
بر الوالدين.
( [3] ) المرأة المترجلة : التى تتشبه بالرجال فى هيئتهم وأفعالهم.
( [4] ) الديوث من الرجال : هو الذى لا غيرة له ولا حمية.
( [5] ) رواه النسائى ( 5/ 80 ) فى الزكاة ، باب المنان بما أعطى ، ورواه أيضاً أحمد فى المسند
و الحاكم فى المستدرك وهو فى صحيح الجامع ( 3063 )
( [6] ) صرفاً ولا عدلاً : أي فرضاً ولا نفلاً ولا عملاً
( [7] ) رواه الطبراني في الكبير ( 7547 ) وابن أبى عاصم في السنة رقم ( 323 ) وحسنه الألباني في صحيح الجامع ( 3065 ).
( [8] ) رواه أحمد في المسند ( 5/ 36 ) والحاكم في المستدرك ( 4/ 177 ) وصححه ووافقه الذهبي
وهو في صحيح الجامع ( 137 ).
( [9] ) رواه مسلم رقم ( 2551 ) في البر والصلة ، باب رغم من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر
ولم يدخل الجنة ،والترمذي رقم ( 3539 ) في الدعوات ، ورواه أحمد فى المسند ( 2/345 )
رقم ( 8538 ) ، وهو في صحيح الجامع رقم ( 3511).
( [10] ) رواه البخاري رقم ( 5970 ) في الأدب ، باب البر والصلة ، ومسلم رقم ( 85 ) في
الإيمان: باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال.
( [11] ) رواه البخاري رقم ( 5972 ) في الأدب ، باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين.
( [12] ) رواه مسلم رقم ( 2549 ) في البر والصلة ، باب بر الوالدين وأنهما أحق به ، وأبو داود
( 2530 ) في الجهاد ، والترمذي ( 1671 ) في الجهاد ، والنسائى ( 6/ 10 ) في الجهاد
( [13] ) رواه البخاري رقم ( 5974 ) في الأدب ، باب إجابة دعاء من بر والديه ، ومسلم رقم
( 2743 ) في الذكر ، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة ، وأبو داود رقم ( 3387 ) فى
البيوع باب في الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه.
( [14] ) رواه البخاري رقم ( 5971 ) في الأدب ، باب البر والصلة ، ومسلم رقم ( 2548 ) في
البر والصلة ، باب بر الوالدين وأنهما أحق به.
( [15] ) رواه النسائي ( 6/ 11 ) في الجهاد ، باب الرخصة في التخلف لمن له والدة ، وابن ماجة
( 2781 ) في الجهاد ، باب الرجل يغزو وله أبوان، ورواه أيضاً أحمد في المسند ( 3/ 429 )
وصححه الحاكم وذكره الهيثمى في المجمع ( 8/ 138 ) وقال : رواه الطبراني في الأوسط
ورجاله ثقات، وحسنه الألبانى في السلسلة الصحيحة.
( [16] ) رواه أبو داود رقم ( 5142 ) في الأدب ، باب بر الوالدين ، وابن ماجة رقم ( 3664 )
فى الأدب ، باب صل من كان أبوك يصل ، وابن حبان رقم ( 2030 ) وضعفه الأرناؤوط
والألبانى في ضعيف سنن أبي داود.
( [17] ) رواه البخاري رقم ( 893 ) في الجمعة ، باب الجمعة في القرى والمدن ، ورواه مسلم
( 1829 ) في الإمارة ، باب فضيلة الإمام العادل ، والترمذي ( 1705 ) في الجهاد ، باب
ما جاء في الإمام ، وأبو داود ( 2928 ) في الإمارة ، باب ما يلزم الإمام من حق الرعية.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحباب الكرام
خامساً: إنها مسئولية الجميع.
نعم يجب أن نعلم أن المسئولية تقع على كواهلنا جميعاً، فعلى البيت مسئولية، وعلى مناهج التعليم مسئولية، وعلى المدرسة مسئولية، وعلى الإعلام مسئولية، وعلى الشارع مسئولية، فالمسئولية تقع على كواهل الجميع، تبدأ من البيت ومن الأسرة، ولكن قد يتألم الآن بعض الأحبة ويقول إذا كان الوالد من الصالحين فاجتهد فى تربية أبنائه تربية ترضى الرب سبحانه واجتهدت الأم كذلك، لكن خرج من بين هؤلاء الأبناء ابن عاق انحرف عن الطريق.
نقول: إن هذا لا يقدح فى أصل القاعدة فإننى أرى بيتاً من بيوت المسلمين يشرف على التربية فيه نبي كريم من أنبياء الله وهو نبي الله نوح عليه السلام، ومع ذلك لا يخرج الولد من هذا البيت عاقاً وإنما يخرج كافراً والعياذ بالله، وألمح بيتاً آخر يقوم على أمر التربية فيه فرعون مصر طاغوت الدنيا بأسرها، ويكون هو المشرف على تربية طفل، هذا الطفل هو نبي الله موسى عليه السلام كليم الله.
فابذل ما استطعت واجتهد، وضع النتائج بعد ذلك إلى الله الذي يعلم كل شىء، والذي يعلم الحكمة إنه عليم حكيم.
أيها الوالد الكريم، أيتها الأم الفاضلة :تبدأ المسئولية فى التربية للأبناء من البيت فهو المدرسة الأولى لكل نَشْء، وهو المكان التربوى الأكبر الذى يؤثر فى شخصية وتكوين الأبناء، فاجتهدوا واتقوا الله فى التربية ولا تهنوا ولا تحزنوا، فمن زرع حصد، واعلموا يقيناً أن من زرع خيراً سيجد خيراً بإذن الله، ومن زرع شراً فسوف يجنيه بإذن الله.
أولادكم أمانة فى أعناقكم، فهذه مسئولية، ويالها من مسئولية !! عندها تتوارى كل المسئوليات، فالأبوة بمعناها الحقيقى هى العطاء بلا حدود، هى العطف، هى الحنان، هى الرحمة، هى الشفقة، هى البذل والتضحية بكل غالى وثمين، هى النصيحة هى الاهتمام، هى الشعور بمشاعر الأولاد ومعايشة أحزانهم وأفراحهم وحوائجهم، فالأبوة فى خصالها السامية لم ولن تعادلها مسئولية قط، ولم لا ؟! وأنت تبنى جيلا الآن يصبح صرح أمة التوحيد الشامخ غداً، يصبح صاحب الكلمة غداً، يصبح رافع راية لا إله إلا الله غداً، ما أسماها من مسئولية! وما أرفعها من مكانة!!
فكن لابنك كما كان محمد لأولاده، ياله من أب جمع كل حسنات فى التربية، وكوني أيتها الأم كما كانت أمهات المؤمنين.
ولن يقع عاتق المسئولية جمعاء على البيت فقط، فالمدرسة لها دور فى صناعة جيل الأمة حامل الراية غداً ، والإعلام له دور خطير فى توجيه النشىء، فليتق الله كل مسئول فى الإعلام فى فلذات أكبادنا فإن الإعلام سلاح خطير ومهم فى تعليم أبنائنا الأخلاق العالية والمثل السامية إذا أحسن استغلاله. وسلاح مدمر للفرد والأسرة والمجتمع إذا أسىء استغلاله فإن الكثير من وسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمرئية والمقروءة تعزف على وتر الجنس وعلى وتر أخلاق الغرب التى تصطدم بديننا الحنيف وتقاليدنا العريقة وبعض هذه الوسائل تعزف على وتر التحرر.
ولذا أصبح الولد ينظر إلى أبيه المحافظ صاحب الأخلاق والفضائل نظرة احتقار، نظرة ازدراء، نظرة سخرية.
هكذا أُشرب فى قلبه أن كل من يتمسك بالأخلاق الفاضلة فهو رجل رجعى. فلا غرابة أن تجد ولداً يقول لأبيه: أنت رجل رجعى لا تعيش عصرك، أنت لا تعيش زمانك، إنكم مازلتم تعيشون فى مجاهل القرون الماضية.
العزف بصورة واضحة على نغمة التحرر، جعل الأبناء يتمردون على كل شيء، على سلطة الأسرة، على سلطة الوالدين، بل وتمرد الأولاد أخيراً على سلطة الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فعلى القائمين على الإعلام أن يتقوا الله، وأيضاً على المدارس ومناهج التعليم وكل المسئولين عن دفة التعليم مسئولية كبيرة، فهم يبنون عقول نشىء، وانظر إلى من يبنى عقلاً، هذا العقل سوف يكون مستقبلاً قائداً للأمة أو أميراً أو طبيباً أو مهندساً أو معلماً أو.... فانظر كيف يُبنى هذا العقل ؟! إن لم يُبنَ على أُسس وقواعد وأخلاق وغايات وقيم ومبادىء قرآنية محمدية، فكيف يكون هذا العقل مستقبلاً؟ والله إن لم نربى أولادنا على مناهج ربانية محمدية فسوف نجنى أسوأ الثمار، بل سوف نجنى أشواك تجرحنا قبل الآخرين، وتؤذينا قبل الآخرين، فاعلموا أيها المسئولون عن التعليم أن جزءً كبيراً جداً من دفة المسئولية موضوع فى أيديكم فاتقوا الله فيه.
فالمدرسة أب ثانى وأم ثانية لنشىء هو قرة أعيننا وقرة أعينكم قبلنا، فإن ما نسمع الآن من تطاول الطالب على مدرسه ليدمع العين دماً، لذا يجب أن تعود المدرسة من جديد إلى دورها الريادى فى التربية قبل أن تعلم أبناءنا العلم، وإن ما نسمع من أخلاق البنات فى مدارس البنات ليستحى اللسان أن يتلفظ به، فمن أجمل ما قال محمد إقبال رحمه الله: إن العلوم الحديثة تحسن أن تعلم أبناءنا المعاني والمعارف، ولكنها لا تحسن أن تعلم عيونهم الدموع، وقلوبهم الخشوع.
وعلى الشارع أيضاً دور، فلو خرج الأبناء إلى الشوارع بأخلاق البيوت الطيبة لتغير الحال، إذاً المسئولية مشتركة وعلى الجميع، فكل مسئول يجب عليه أن يؤدي ما عليه بأمانة واقتدار حتى نجني قرة عين لا شيطان، لا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك.
أسأل الله أن يقر أعيننا وإياكم بصلاح أبنائنا وستر بناتنا، إنه ولى ذلك والقادر عليه...
(1/316)
الأخوة فى الله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الولاء والبراء
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الأخوة في الله 2- حقوق الأخوة 3- الطريق إلى الأخوة
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتى فى الله...
إننا اليوم على موعد مع موضوع من الأهمية القصوى بمكان وهو بعنوان ((الأخوة فى الله)) وكما تعودنا دائماً سوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان الرقيق فى العناصر التالية:-
أولاً: حقيقة الأخوة فى الله.
ثانياً: حقوق الأخوة.
ثالثاً: الطريق إلى الأخوة.
فاسمحوا لى أن أقول: أعرونى القلوب والأسماع والوجدان، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم ألوا الألباب.
أولاً: حقيقة الأخوة.
أحبتى فى الله: لقد أصبحت الأمة اليوم كما تعلمون غثاء كغثاء السيل، لقد تمزق شملها وتشتت صفها، وطمع فى الأمة الضعيف قبل القوى، والذليل قبل العزيز، والقاصى قبل الدانى، وأصبحت الأمة قصعة مستباحة كما ترون لأحقر وأخزى وأذل أمم الأرض من إخوان القردة والخنازير، والسبب الرئيس أن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء ،والأمة أصبحت ضعيفة، لأن الفرقة قرينة للضعف، والخذلان، والضياع، والقوة ثمرة طيبة من ثمار الألفة والوحدة والمحبة، فما ضعفت الأمة بهذه الصورة المهينة المخزية إلا يوم أن غاب عنها أصل وحدتها وقوتها ألا وهو ((الأخوة فى الله)) بالمعنى الذى جاء به رسول الله فمحال محال أن تتحقق الأخوة بمعناها الحقيقى إلا على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها وكمالها، كما حولت هذه الأخوة الجماعة المسلمة الأولى من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم، يوم أن تحولت هذه الأخوة التى بنيت على العقيدة بشمولها وكمالها إلى واقع عملى ومنهج حياة، تجلى هذا الواقع المشرق المضىء المنير يوم أن آخى النبى ابتداءً بين الموحدين فى مكة، على الرغم من اختلاف ألوانهم وأشكالهم، وألسنتهم وأوطانهم، آخى بين حمزة القرشى وسلمان الفارسى وبلال الحبشى وصهيب الرومى وأبى ذر الغفاري، وراح هؤلاء القوم يهتفون بهذه الأنشودة العذبة الحلوة. أبى الإسلام لا أبَ لى سِوَاهُ إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
راحوا يرددون جميعاً بلسان رجل واحد قول الله عز وجل:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]. هذه هى المرحلة الأولى من مراحل الإخاء.
ثم آخى النبى - ثانيا - بين أهل المدينة من الأوس والخزرج، بعد حروب دامية طويلة، وصراع مر مرير، دمر فيه الأخضر واليابس!!
ثم آخى رسول الله بين أهل مكة من المهاجرين وبين أهل المدينة من الأنصار، فى مهرجان حُبٍّ لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً، تصافحت فيه القلوب، وامتزجت فيه الأرواح، حتى جسد هذا الإخاء هذا المشهد الرائع الذى جاء فى الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى النبى بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أنى من أكثرها مالاً، سأقسم مالى بينى وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فأطلقها حتى إذا حَلَّتْ تزوجْتَها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك فى أهلك. دلونى على السوق، فلم يرجع يومئذٍ حتى أستفضَلَ شيئاً من سَمْنٍ وأقطٍ، فلم يَلْبث إلا يسيراً حتى جاء رسول الله وعليه وَضَرٌ من صُفرةٍ فقال له رسول الله ((مَهْيَمْ؟)) قال: تزوجتُ امرأةً من الأنصار قال: ((ما سقت إليها؟)) قال: وزن نواة من ذهب أو نواةٍ من ذهب فقال: ((أولم ولو بشاة)) ( [1] ) وقد نتحسر الآن على زمن سعد بن الربيع ونقول أين سعد بن الربيع الذي أراد أن يشاطر أخاه ماله وزوجه؟!!
والجواب: ضاع. وذهب يوم أن ذهب عبد الرحمن بن عوف.
فإذا كان السؤال: من الآن الذى يعطى عطاء سعد؟! فإن الجواب: وأين الآن من يتعفف بعفة عبد الرحمن بن عوف؟!!
لقد ذهب رجل إلى أحد السلف فقال: أين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً [ البقرة: 274 ] فقال له: ذهبوا مع من لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [ البقرة: 273 ].
هذا مشهد من مشاهد الإخاء الحقيقى بمعتقد التوحيد الصافى بشموله وكماله، والله لولا أن الحديث فى أعلى درجات الصحة لقلت إن هذا المشهد من مشاهد الرؤيا الحالمة.
هذه هى الأخوة الصادقة، وهذه هى حقيقتها، فإن الأخوة فى الله لا تبنى إلا على أواصر العقيدة وأواصر الإيمان وأواصر الحب فى الله، تلكم الأواصر التى لا تنفك عراها أبداً.
الأخوة فى الله نعمة جمة من الله، وفضل فيض من الله يغدقها على المؤمنين الصادقين ،الأخوة شراب طهور يسقيه الله للمؤمنين الأصفياء والأزكياء.
لذا فإن الأخوة فى الله قرينة الإيمان لا تنفك عنه، ولا ينفك الإيمان عنها فإن وجدت أخوة من غير إيمان، فاعلم يقيناً أنها التقاء مصالح، وتبادل منافع، وإن رأيت إيمان بدون أخوة صادقة فاعلم يقيناً أنه إيمان ناقص يحتاج صاحبه إلى دواء وعلاج لمرض فيه، لذا جمع الله بين الإيمان والأخوة فى آية جامعة فقال سبحانه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [ الحجرات: 10 ].
فالمؤمنون جميعاً كأنهم روح واحدة حل فى أجسام متعددة كأنهم أغصان متشابكة تنبثق كلها من دوحة واحدة، بالله عليكم أين هذه المعانى الآن؟!!
ولذلك لو تحدثت الآن عن مشهد كهذا الذى ذكر آنفا ربما استغرب أهل الإسلام هذه الكلمات، وظنوها كما قلت من الخيالات الجميلة والرؤيا الحالمة لأن حقيقة الأخوة قد ضاعت الآن بين المسلمين، وإن واقع المسلمين اليوم ليؤكد هذا الواقع الأليم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فلم تعد الأخوة إلا مجرد كلمات جوفاء باهتة باردة لا حرارة فيها إلا من رحم الله.
فإن الأخوة الموصلة بحبل الله المتين نعمة امتن بها ربنا جل وعلا على المسلمين الأوائل فقال سبحانه:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 102-103].
فالأخوة نعمة من الله امتن بها الله على المؤمنين وقال تعالى: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وقال تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ الأنفال: 63 ].
ثانيا: حقوق الأخوة فى الله.
الحق الأول: الحب فى الله والبغض فى الله.
ففى الحديث الذى رواه أبو داود والضياء المقدسي وصححه الشيخ الألباني من حديث أبى أمامة الباهلي أنه قال ((من أحبَّ لله، وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)) ( [2] ).
وفى الصحيحين من حديث أنس أنه قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار )) ( [3] ).
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أن النبى قال: ((سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ فى عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا فى الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال، فقال: إنى أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) ( [4] ). هل فكرت فى هذا الحديث النبوى الشريف ؟!! يومٍ تدنو الشمس من الرؤوس، والزحام وحده يكاد يخنق الأنفاس، فالبشرية كلها - من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه الساعة - فى أرض المحشر، وجهنم تزفر وتزمجر، قد أُتِىَ بها ((لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) ( [5] ) فى ظل هذه المشاهد التى تخلع القلب، ينادى الله عز وجل على سبعة ليظلهم فى ظله يوم لا ظل إلا ظله - سبحانه وتعالى - ضمن هؤلاء السبعة السعداء: رجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، يالها ورب الكعبة من كرامة!!
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن النبى قال: ((إن رجلاً زار أخاً له فى قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته، ملكاً فلمَّا أتى عليه قال: أين تريد؟ فقال: أريد أخاً لي فى هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبّها؟ قال: لا. غير أنى أحببته فى الله عز وجل، قال: فإنى رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) ( [6] )
وفى موطأ مالك وأحمد فى مسنده بسند صحيح، والحاكم ،وصححه ووافقه الذهبى أن أبا إدريس الخولانى رحمه الله قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى شابٌ برَّاق الثَّنايا والناس حوله فإذا اختلفوا فى شىء أسندوه إليه، وصدروا عن قوله ورأيه. فسألت عنه؟ فقيل: هذا معاذ بن جبل فلما كان الغد هجَّرت، فوجدته قد سبقنى بالتهجير، ووجدته يصلى، فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قِبَل وجهه، فسلَّمت عليه. ثم قلت: والله إنى لأحبُّك فى الله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله. فقال: آلله؟ فقلت: آلله. فقال: آلله؟ فقلت: آلله. قال: فأخذ بحبوة ردائى، فجبذنى إليه، وقال: أبشر، فإنى سمعت رسول يقول: ((قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتى للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ)) ( [7] )
وفى الحديث الذى رواه مسلم وأبو داود أنه قال: ((والذى نفسى بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) ( [8] ).
فسلم على أخيك بصدق وحرارة، لا تسلم سلاماً باهتاً بارداً لا حرارة فيه.
إننا كثيراً لا نشعر بحرارة السلام واللقاء ولا بإخلاص المصافحة.. لا نشعر أن القلب قد صافح القلب.
ففى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة قال عليه الصلاة والسلام: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم فى الإسلام خيارهم فى الجاهلية إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )) ( [9] ).
قال الخطابى: فالخَيِّر يحنو إلى الأخيار والشرير يحنو إلى الأشرار هذا هو معنى ما تعارف من الأرواح ائتلف، وما تنافر وتناكر من الأرواح اختلف، لذا لا يحب المؤمن إلا من هو على شاكلته من أهل الإيمان والإخلاص، ولا يبغض المؤمن إلا منافق خبيث القلب، قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [ مريم: 96 ].
أى يجعل الله محبتة فى قلوب عباده المؤمنين، وهذه لا ينالها مؤمن على ظهر الأرض إلا إذا أحبه الله ابتداءً. كما فى الصحيحين من حديث أبى هريرة قال رسول الله : ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إنى أحب فلاناً، فأحبه قال: فيحبه جبريل، ثم يُنادى فى السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء. قال ثم يوضع له القبول فى الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إنى أُبغض فلاناً فأبغضه فقال: فيبغضه جبريل ثم يُنَادى فى أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه. قال: فيبغضونه. ثم توضع له البغضاء فى الأرض)) ( [10] )
أيها الأحباب الكرام:
المرء يوم القيامة يحشر مع من يحب، فإن كنت تحب الأخيار الأطهار ابتداءً من نبيك المختار وصحابته الأبرار والتابعين الأخيار، وانتهاء بإخوانك الطيبين فإنك ستحشر معهم إذا شاء رب العالمين، وإن كنت تحب الخبث والخبائث وأهل الفجور واللهو واللعب كنت من الخاسرين فتحشر معهم إذا شاء رب العالمين.
ففى الصحيحين من حديث أنس بن مالك : ((أن رجلاً سأل النبى عن الساعة. فقال: يا رسول الله متى الساعة. قال: ((وما أعددت لها؟)). قال: لا شىء، إلا أنى أحب الله ورسوله. فقال: ((أنت مع من أحببت)) قال أنس: فما فرحنا بشىء فرحنا بقول النبى : ((أنت مع من أحببت)). قال أنس فأنا أحب النبى وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بُحبِّي إياهم وإن لم أعمل بعملهم)) ( [11] ).
ونحن نشهد الله أننا نحب رسول الله وأبا بكر، وعمر، وعثمان وعليّ وجميع أصحاب الحبيب النبي، وكل التابعين لنهجه وضربه المنير، ونتضرع إلى الله بفضله لا بأعمالنا أن يحشرنا معهم جميعاً بمنّه وكرمه، وهو أرحم الراحمين.
ولله در القائل:
أتحب أعداء الحبيب وتدعى حباً له، ما ذاك فى الإمكان
وكذا تعادى جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان
إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصانِ
فلئن ادعيت له المحبة مع خلاف ما يحب فأنت ذو بهتان
لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفرُ
وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصرُ
فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هناك تذكرُ
مباينة الكفار فى كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر
وتخضع بالتوحيد بين ظهورهم تدعوهم لذاك وتجهر
ومن السُّنَّة إذا أحب الرجل أخاه أن يخبره كما فى الحديث الصحيح الذى رواه أبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب أن النبى قال: ((إذا أحب الرجل أخاه فيلخبره أنه يحبه )) ( [12] ).
وفى الحديث الذى رواه أبو داود من حديث أنس: أن رجلاً كان عند النبي فمر به رجل فقال: يا رسول الله! إنى لأحب هذا. فقال له النبى : ((أعلمته؟)) قال: لا. قال: ((أعلمه)) قال: فلحقه، فقال: إنى أحبك فى الله. فقال: أحبك الذى أحببتني له ( [13] ).
وفى الحديث الذى رواه أبو داود وأحمد وغيرهما من حديث معاذ بن جبل أن النبي أخذ بيده وقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك)).
فقال معاذ: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، فوالله إنى لأحبك. فقال : (( أوصيك يا معاذ فى دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك )) ( [14] ).
وامتثالاً لأمر النبى الكريم ،فإنى أشهد الله أنى أحبكم جميعاً فى الله، وأسأل الله أن يجمعنى مع المتحابين بجلاله فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أقول قولى هذا، وأستغر الله لي ولكم.
( [1] ) رواه البخاري رقم ( 3781 ) فى مناقب الأنصار ، باب إخاء النبي بين المهاجرين
والأنصار ، ومسلم رقم ( 1427 ) في النكاح ، باب الصداق ، وجواز كونه تعليم القرآن
وخاتم حديد ، والموطأ ( 2/ 545 ) في النكاح ، وأبو داود رقم ( 2109 ) ، والترمذي
رقم ( 1094 ) ، والنسائي ( 6/ 119 ، 120 ).
( [2] ) رواه أبو داود رقم ( 4681 ) فى السنة ، باب الدليل على زيادة الإيمان ، وأخرجه أيضاً أحمد
فى المسند ( 3/ 438 ) ، وهو في صحيح الجامع ( 5965 ).
( [3] ) رواه البخاري رقم ( 16 ) في الإيمان ، باب حلاوة الإيمان ، ومسلم رقم ( 43 ) في الإيمان ،
باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان.
( [4] ) رواه البخاري ( 1423 ) في الزكاة ، باب الصدقة باليمين ومسلم ( 1031 ) في الزكاة
باب فضل إخفاء الصدقة ، والموطأ ( 2/ 952 ) في الشعر ، باب ما جاء في المتحابين في
الله ، والترمذى رقم ( 2392 ) في الزهد ، والنسائي ( 8/ 222 ، 223 ) في القضاء.
( [5] ) رواه مسلم رقم ( 2842 ) في صفة الجنة ، باب في شدة حر نار جهنم ، والترمذي رقم
( 2576 ) في صفة جهنم ، باب ما جاء في صفة جهنم.
( [6] ) رواه مسلم رقم ( 2567 ) في البر والصلة ، باب فضل الحب في الله ، وأخرجه أحمد في
المسند رقم ( 408 – 463 / 2 )
( [7] ) أخرجه الإمام مالك في الموطأ ( 2/ 953 ، 954 ) في الشعر ، باب ما جاء في المتحابين
فى الله وأحمد في المسند ( 5/ 229 ) وإسناده صحيح وصححه الحاكم ( 4/ 168 ، 169)
على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، وابن حبان فى صحيحه ( 2510 موارد ) وقال ابن
عبد البر : هذا إسناد صحيح.
( [8] ) رواه مسلم رقم ( 54 ) فى الإيمان ، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة
المؤمن من الإيمان ، وأبو داود رقم ( 5193 ) فى الأدب ، باب فى إفشاء السلام
والترمذي رقم ( 3689 ) في الاستئذان.
( [9] ) رواه مسلم رقم ( 2638 ) في البر والصلة ، باب الأرواح جنود مجندة ، وأبو داود رقم
( 4834 ) في الأدب ، باب من يؤمر أن يجالس. وهو في صحيح الجامع ( 6797 ).
( [10] ) رواه البخاري رقم ( 3209 ) في بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم ،
ومسلم ( 2637 ) في البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عبادة ومالك في أو
الموطأ ( 2/ 953 ) في الشعر ، والترمذي رقم ( 3160 ) في التفسير.
( [11] ) رواه البخاري رقم ( 3688 ) في فضائل أصحاب النبى ، باب مناقب عمر بن الخطاب
، ومسلم رقم ( 2639 ) في البر والصلة ، باب المرء مع من أحب ، وأبو داود رقم
( 5127 ) في الأدب ، والترمذي رقم ( 1386 ) في الزهد.
( [12] ) رواه أبو داود ( 5124 ) في الأدب ، باب إخبار الرجل الرجل بمحبته إليه ، والترمذي رقم
( 2393 ) في الزهد ، باب ما جاء في إعلام الحب وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 279 )
( [13] ) رواه أبو داود رقم ( 5125 ) في الأدب ، باب إخبار الرجل بمحبته إليه ، وحسنه الألباني
في صحيح سنن أبى داود ( 4274 ).
(13) رواه أبو داود رقم (1522) في الصلاة ، باب الاستغفار ، والنسائي ( 3/53) في السهو
باب نوع آخر من الدعاء ، والحاكم فى المستدرك ( 3/ 273-274 ) ، وقال صحيح
الإسناد ولم يخرجاه ، ووفقه الذهبي وهو في صحيح الجامع ( 7969 ).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ،وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأشهد أن محمداً عبد ورسوله اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله، وأصحابه، وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد أيها الأحبة الكرام.
الحق الثانى: أن لا يحمل الأخ لأخيه غلاً ولا حسداً ولا حقداً.
أحبتى فى الله:
المؤمن سليم الصدر، طاهر النفس، نقى، تقى القلب، رقيق المشاعر رقراق العواطف، فالمؤمن ينام على فراشه آخر الليل - يشهد الله فى عليائه - أنه لا يحمل ذرة حقد، أوغل، أو حسد لمسلم على وجه الأرض البتة ، والنبى يقول كما فى الصحيحين من حديث أنس بن مالك : (( لا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تنافسوا، وكونوا عباد الله إخوانا )) ( [1] ).
إن الحقد والحسد من أخطر أمراض القلوب والعياذ بالله، فيرى الأخ أخاه فى نعمة، فيحقد عليه ويحسده، ونسي هذا الجاهل ابتداءً أنه لم يرض عن الله الذى قسم الأرزاق، فليتق الله وليعد إلى الله سبحانه وتعالى، وليسأل الله الذى وهب وأعطى أن يهبه ويعطيه من فضله، وعظيم عطائه، ويردد مع هؤلاء الصادقين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ الحشر: 10 ].
وردد مع هؤلاء بصفاء، وصدق، وعمل، فقد قال الله فيهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ الحشر: 9 ].
ففى مسند أحمد بسند جيد من حديث أنس قال كنا جلوساً عند النبى فقال المصطفى: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه فى يده الشمال، فلما كان الغد قال النبى مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبى مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبى ، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إنى لا حَيْتُ أبى فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤينى إليك حتى تمضى فعلت؟ قال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالى الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار- أى انتبه فى الليل - وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله غير أنى لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليالٍ وكدت أن أحتقر عمله، قلت يا عبد الله إنى لم يكن بينى وبين أبى غضب ولا هجر ثَمَّ ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة )) فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك، فأقتدى بك، فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذى بلغ بك ما قال رسول الله ؟! قال: ما هى إلا ما رأيت. قال: فلما وليت دعانى فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد فى نفسى لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التى بلغت بك، وهى التى لا نطيق. ( [2] )
إن سلامة الصدر من الغل والحسد بلغت بهذا الرجل أن يشهد له رسول الله بالجنة، وهو فى الدنيا..يا لها من كرامة.
الحق الثالث: طهارة القلب والنفس.
إن من حقوق الأخوة فى الله أنك إن لم تستطع أن تنفع أخاك بمالك فلتكف عنه لسانك، وهذا أضعف الإيمان، فإن تركنا الألسنة تُلقى التهم جزافاً دون بينة أو دليل، وتركنا المجال فسيحاً لكل إنسان أن يقول ما شاء فى أى وقت شاء، فإنما ينتشر بذلك الفساد والحسد، والبغضاء، فإن اللسان من أخطر جوارح هذا الجسم، قال الله جل وعلا : مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ ق: 18 ].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ [ النور: 19 ].
وقال جل فى علاه: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [ا لنور:23-25 ].
تورع عن إخوانك، أمسك عليك لسانك، واتق الله، فوالله ما من كلمة إلا وهى مسطرة عليك فى كتاب عند الله لا يضل ربي ولا ينسى.
ففى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) ( [3] ).
وفى الصحيحين من حديث أبى موسى قال:قلت: ((يا رسول الله أى المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده)) ( [4] ).
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة واللفظ للبخارى أنه قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقى لها بالا، فيرفعه الله بها فى الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، فيهوى بها فى جهنم)) ( [5] ).
وفى حديث ابن عمر أن النبى قال: ((الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل فى عِرْضِ أخيه)) ( [6] ).
وأختم هذه الطائفة النبوية الكريمة بهذا الحديث الذى يكاد يخلع القلب والحديث رواه الإمام أحمد فى مسنده ،وأبو داود فى سننه من حديث يحيى بن راشد قال : ((من قال فى مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)) ( [7] ). وردغة الخبال: عصارة أهل النار، والرَّدغة – بفتح الدال وسكونها- الماء والطين.
والله لو نحمل فى قلوبنا ذرة إيمان ونسمع حديث من هذه الأحاديث للجم الإنسان لسانه بألف لجام قبل أن يتكلم كلمة، ولكن لا أقول ضعف إيمان، بل إنا لله وإنا إليه راجعون.
الحق الرابع: الإعانة على قضاء حوائج الدنيا على قدر استطاعتك.
واسمع إلى هذا الحديث الذى تتلألأ منه أنوار النبوة: عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: أن رجلاً جاء إلى النبى فقال: يا رسول! أى الناس أحب إلى الله؟ وأى الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله : ((أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل، سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربه، أو يقضى عنه دينا، أو يطرد عنه جوعاً، ولأن أمشى فى حاجة أخى المسلم أحب إلىّ من أن اعتكف فى المسجد شهراً - يعنى: مسجد المدينة - ، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه – ولو شاء أن يمضيه أمضاه – ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله قدمه يوم تَزِلُّ الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل)) ( [8] ).
فمن حق المسلم على المسلم إن استطاع أن يعينه في أمر من أمور الدنيا أن لا يبخل عليه، فأنت يا مسلم لئن مشيت فى حاجة أخيك المسلم أفضل عند الله تعالى من أن تعتكف فى المسجد شهراً وثبت الله قدمك يوم تزل الأقدام.
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة يقول المصطفى : ((من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله فى الدنيا والآخرة، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه...)) ( [9] ).
فيا أخى المسلم، يا منْ منَّ الله عليك بمنصبٍ أو جاه. إن استطعت أن تنفع إخوانك فافعل ولا تبخل، وبالمقابل يجب على المسلمين، أن لا يكلفوا إخوانهم بما لا يطيقون، وإن كلفوهم فعجزوا فليعذروهم قال تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [ البقرة: 286 ].
وما أجمل أن يقول الأخ لأخيه: أسأل الله أن يجعلك مفتاح خير، وهذه حاجتى إليك، فإن قضيتها حمدت الله ،ثم شكرتك، وإن لم تقضها لى حمدت الله ثم عذرتك، هذه هى الأخوة.
الحق الخامس: بذل النصيحة بصدق وأمانة.
ففى صحيح مسلم من حديث تميم الدارى t أن رسول الله قال: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) ( [10] ).
لكن أتمنى من الله أن يعي إخوانى الضوابط الشرعية للنصيحة.
قال الشافعى: من نصح أخاه بين الناس فقد شانه، ومن نصح أخاه فيما بينه وبينه فقد ستره وزانه.
والناصح الصادق: رقيق القلب، نقى السريرة، مخلص النية، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإن رأى أخاه فى عيب دنا منه بحنان، وتمنى أن لو ستره بجوارحه لا بملابسه، ثم قال له حبيبى فى الله. ثم يبين له النصيحة بأدب ورحمة ،وتواضع ،فلتُشْعِر أخاك وأنت تنصحه: بحبك له، وبتواضعك وخفض جناحك له، فقد سطر الله فى كتابه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ... [ الفتح: 29 ].
جلس رجل فى مجلس عبد الله بن المبارك فاغتاب أحد المسلمين، فقال له عبد الله بن المبارك: يا أخى هل غزوت الروم؟! قال: لا. قال: هل غزوت فارس؟! قال: لا. فقال عبدالله بن المبارك: سلم منك الروم وسلم منك فارس، ولم يسلم منك أخوك!!
والذى بُذِلَ له النصيحة عليه أن يحسن الظن بأخيه الناصح ولا تأخذه العزة بالإثم، وأن يتقبلها منه بلطف، وأدب، وتواضع، وحب، ويشكره عليها، ويدعو له بظاهر الغيب.
ورحم الله من قال: رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي.
الحق السادس: التناصر
عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله : ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ فقال : ((تأخذ فوق يديه)) ( [11] ).
انصر أخاك فى كل الأحوال، إن كان ظالماً خذ بيده عن الظلم، وإن كان مظلوماً وأنت تملك أن تنصره انصره، ولو بكلمة، وإن عجزت فبقلبك، وهذا أضعف الإيمان.
الحق السابع: أن تستر عيب أخيك المسلم وتغفر له زلاته:
وهذا من أعظم الحقوق: فالأخ ليس مَلَكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، فإن زل الأخ فى هفوة فهو بشر، فاستر عليه.
قال العلماء: الناس صنفان. صنف اشتهر بين الناس بالصلاح والبعد عن المعاصى، فإن زل ووقع وسقط فى هفوة من الهفوات على المسلمين أن يستروا عليه، ولا يتبعوا عوراته.
ففى الحديث الصحيح الذى رواه أحمد وأبو داود من حديث أبى برزة الأسلمى أنه قال: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولما يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه فى بيته)) ( [12] ).
نسأل الله أن يسترنا وإياكم بستره الجميل.
والصنف الثانى من الناس: يبارز الله بالمعاصى ويجهر بها، ولا يستحى من الخالق، ولا من الخلق، فهذا فاجر، فاسق، لا غيبة له.
وأخيراً: الطريق إلى الأخوة.
وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً أن الطريق قد وضع فى ثنايا المحاضرة، ولكننى أجمل هذا الطريق فى خطوتين اثنتين لا ثالثة لهما.
أما الخطوة الأولى: العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين. إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فلنعد إلى هذه الأخلاق السامية التى ينفرد بها الدين الإسلامى لتعود لنا الأخوة الصادقة فى الله، تعود الأخوة الحقيقة. لتلتئم الصفوف، وتضمد الجراح، وتلتقى الأمة على قلب رجل واحد.
فوالله ثم والله لا ألفة، ولا عزة، ولا نصرة، ولا تمكين، إلا بالعودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين، وإن شئت فقل العودة الصادقة إلى أخلاق سيد المرسلين، فلقد لخصت عائشة رضي الله عنها أخلاق النبى في كلمات قليلة ولكنها عظيمة فقالت: ((كان خلقه القرآن)) ( [13] ) نعم والله إنه كان قرآناً يمشيعلى الأرض في دنيا الناس.
أيها الأحبة: قد يكون من اليسير جداً – كما أقرر دائماً – تقديم منهج نظري في التربية والأخلاق، بل إن المنهج هذا موجود بالفعل وسُطِّر في بطون الكتب والمجلات، ولكن هذا المنهج لا يساوى قيمة الحبر الذى كتب به، إن لم يتحول فى حياة الأمة مرة أخرى إلى واقع عملى وإلى منهج حياة فإن البون شاسع بين منهجنا المنير المضىء ووقعنا المر المرير الأليم.
الخطوة الثانية: نتحرك لدعوة المسلمين إلى هذه الأخلاق بالحكمة والموعظة الحسنة.
بعد أن نحوِّل هذه الأخلاق النظرية إلى واقع عملى منير مضىء فى حياتنا يجب علينا بعد ذلك أن نتحرك لدعوة المسلمين إلى هذه الأخلاق بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة، والكلمة الرقيقة الرقراقة، والرفق والحلم، فهذا هو مقام دعوة الناس إلى الله فى كل زمان ومكان قال الله تعالى : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125].
وقال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [ آل عمران: 159 ].
أسأل الله أن يربط قلوبنا برباط وثيق رباط الحب فى الله، حتى نعود مرة أخرى إلى عزتنا وكرامتنا وسيادتنا وتتحقق السنن الربانية فينا بحوله ومدده إنه ولي ذلك والقادر عليه.
( [1] ) رواه البخارى رقم ( 6065 ) فى الأدب ، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر ، ومسلم
( 2563 ) في البر والصلة ، باب تحريم الظن والتحسس والتنافس ، ومالك فى الموطأ
( 2/ 907 ، 908 ) في حسن الخلق وأبو داود ( 4882 ، 4917 ) في الأدب ، باب
في الغيبة ، والترمذي ( 1928 ) في البر والصلة ، باب ما جاء في شفق المسلم على المسلم.
( [2] ) رواه أحمد في المسند ( 3/ 166 ) رقم ( 12633 ) وقال محققه إسناده صحيح ، ووراه
أيضاً الترمذي رقم ( 694 ) والطبراني فى الكبير ( 10/ 206 ) ، والحاكم في المستدرك
وصححه ووافقه الذهبي.
( [3] ) رواه البخاري رقم ( 6138 ) في الأدب ، باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه ، ومسلم
رقم ( 48 ) في الإيمان ، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير
وكون ذلك كله من الإيمان ، والموطأ ( 2/ 929 ) في صفة النبى.
( [4] ) رواه البخاري رقم ( 11 ) في الإيمان ، باب من سلم المسلمون من لسانه ويده ، ومسلم
رقم ( 42 ) في الإيمان ، باب بيان تفاضل الإسلام ، والترمذي رقم ( 2506 ) في
صفة القيامة ، والنسائي ( 8/ 106، 107 ) في الإيمان.
( [5] ) رواه البخارى رقم ( 6478 ) في الرقاق ، باب حفظ اللسان ، ومسلم رقم ( 2988 )
في الزهد ، باب التكلم بالكلمة يهوى بها فى النار ، والموطأ ( 2/ 985 ) في الكلام
، والترمذي فى الزهد ، باب فيمن تكلم بكلمة ليضحك بها الناس.
( [6] ) رواه الطبراني في الأوسط ( 1/ 143 ) وقال الألباني في الصحيحة ( 1871 ) : والحديث
بمجموع طرقه صحيح ثابت ، وهو في صحيح الجامع ( 3537 ).
( [7] ) أخرجه أحمد في المسند ( 2/ 70 ) وقال الشيخ شاكر : إسناده صحيح ، وأبو داود رقم
( 3597 ) في الأقضية ، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها وصححه
الألباني في الصحيحة ( 437 ).
( [8] ) رواه ابن أبى الدنيا في قضاء الحوائج ص 80 رقم 36 وحسنه الألباني في الصحيحة
( 906 ) وهو في صحيح الجامع ( 176 ).
( [9] ) رواه مسلم رقم ( 2699 ) في الذكر والدعاء ، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن
وعلى الذكر وأبو داود رقم ( 4946 ) في الأدب ، باب من المعونة للمسلم ، والترمذى
( 1425 ) في الحدود ، باب ما جاء في الستر على المسلم ، وهو في صحيح الجامع ( 6577 ).
( [10] ) رواه مسلم رقم ( 55 ) في الإيمان ، باب بيان أن الدين النصيحة ، والترمذي رقم
( 1927 ) في البر والصلة من حديث أبي هريرة.
( [11] ) رواه البخاري رقم ( 2444 ) فى المظالم ، باب أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً ، والترمذي
رقم ( 2256 ) في الفتن.
( [12] ) رواه أبو رقم ( 4880 ) في الأدب ، باب في الغيبة ، ورواه أيضاً أحمد في المسند ( 4/ 421 ) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ( 4083 ).
( [13] ) رواه مسلم رقم ( 746 ) في صلاة المسافرين ، باب جامع صلاة الليل ، ومن نام عنه أو مرض.
(1/317)
التوكل على الله وفعل الأسباب
الإيمان, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية, القضاء والقدر
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر المسلم بالأخذ بأسباب القوة 2- الأمر بالتداوي 3- ضرورة مداواة قسوة القلب وصدأه
4- الأمر الشرعي بالعمل والسعي في الدنيا والكسب 5- التحذير من التواكل والكسل في
العمل وطلب الرزق 6- احتجاج بعض العصاة بقدر الله على معايبهم وذنوبهم 7- الاعتماد
على الأسباب 8- ترك الأسباب والتواكل
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا ربكم، وأخلصوا له دينكم، واشتغلوا فيما ينفعكم في دنياكم وآخرتكم، ولا تعطلوا فرائض الله، ولا تهتكوا محارم الله، ولا تحتالوا على الله بل اعبدوه واشكروه واذكروه، وخذوا حذركم.
عباد الله: ثبت في صحيح مسلم رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عن أن النبي قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
فهذا الحديث يا عباد الله من جوامع الكلم ومهمات الحكم؛ فهو بمثابة الموعظة الفصيحة والنصيحة الصحيحة من أنصح الخلق لأهل الحق محمد عبد الله ورسوله، أرشد فيه خاصة أهل الإيمان وعامة بني الإنسان إلى ما يصلح أمر معاشهم ومعادهم. أخبر فيه أن القوة في سبيل الحق والعدل، كما أنها محبوبة طبعاً فهي مطلوبة شرعاً، وهي شاملة للقوة في أمر الدين وأمور الدنيا، لكون القوي يقوم بأعماله بجد وعزم ويستكمل ما استطاع من أسباب الحزم، ولذا قال : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله... )).
فتلك كلمات من أجمع الكلمات وأبلغ العظات ،فيها إرشاد للعاقل أن يحرص على ما ينفعه في أمر دينه ودنياه وحياته وأخراه، فمتى احتاج إلى علاج لمرض في بدنه يغلب على الظن أنه يزيل ضرره ويدفع خطره، بادر إلى الأخذ به كما جاء عنه قوله: ((ما نزل من داء إلا وله دواء، علمه من علمه وجهله من جهله، فتداووا يا عباد الله، ولا تتداووا بحرام)) ، فيأخذ بالدواء الكريه المرِّ يرجوا الله أن يكشف به الضر.
وكما يحرص العاقل على علاج بدنه، فالمؤمن يحرص على علاج قلبه من سقمه وقطع أسباب درنه؛ فيداري قسوته بتلاوة كلام الله، والإكثار من ذكره، والتفكر في آلائه، ومجالسة من يذكره به، ويعينه على طاعته؛ فإن قسوة القلوب من صدأ وران الذنوب، فإذا لم تعالج صارت بعيدة من الله محجوبة عنه، وما عُذِّب معذَّب بأشد من الحجاب عن الله، مع أن القلوب القاسية التي لم تعالج قساوتها بما يلينها وينير بصيرتها متوعدة بالنار المؤصدة، التي تطلع على الأفئدة، فصدأ القلوب إذا لم يجل بذكر الله عرضة لأن يجلى بلهب نار جهنم التي تذيب الحجارة.
أيها المسلمون: وأعظم ما ينفع وينبغي الحرص عليه والقوة فيه أداء الفرائض؛ فإن سعادة الحياة والممات في الأعمال الصالحات التي تصلح القلوب وتقي الدنوب، وتدفع بها العقوبات عن الأفراد والشعوب وتقي الذنوب، وهي أسباب كثرة الخيرات وحلول البركات، وحفظ النعم وضمان استقرارها وزيادتها في سائر الأوقات، يقول سبحانه: من عمل صالحاً من ذكر أو أثنى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [سورة النحل:97]، ويقول سبحانه: ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون [سورة الأعراف:96]. ومن دعاء النبي قوله: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وآخرتي التي إليها معادي)).
وقد مدح الله الذين يقولون: ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار [سورة البقرة:201]. وأثنى على الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، ويسر الأحكام وعظم الأجور للذين يأخذون بأسباب الرزق الحلال، ويتقون ربهم في سائر الأحوال، ويواسون عباد الله بفضل ما عندهم من النوال.
فينبغي للعبد أن يتحرى القوة في كل عمل يزاوله من أعمال الدنيا والآخرة، ومما يدخل في ذلك تحري أفضل العلم وأداؤه على الوجه الأحسن والأكمل، والإخلاص فيه، وسلامته، من الغش والزلل.
أيها المسلمون: وأضر ما ابتلي به بعض العجز والكسل عن طلب الرزق والتماس الحق. فينبغي للعاقل الحرص على تحصيل ما يعود عليه نفعه، والسعي في صد ما يضره ودفعه، وأن يحذر العجز؛ فإن نتيجته الحرمان، ومن أهان بذلك نفسه فهو حري أن يهان، ولكن بعض الناس يجعلون عجزهم توكلاً، وفجورهم قضاء وقدراً، فتجد من هؤلاء من يطعن في الأسباب أو يعرض عن الأخذ بها، شأن أهل الشك والارتياب، والطعن في الأسباب قدح في الشرع، وتعطيلها مع العلم بنفعها نقص في العقل.
ومن هؤلاء من يترك عبادة ربه ويحتج بالقدر ويجادل، وهو من العقوبة على خطر، فإذا نصحت أحدهم عن التخلف عن الصلوات أو اقتراف بعض المنكرات اعتذر إليك بقوله: هذا مكتوب عليَّ، أو هذا قضاء وقدر، فهو عند الطاعات قدري وعند الشهوات جبري، وهذا نظير ما حكى الله عن المشركين بقوله: وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا ءاباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين [سورة النحل:35].
أما أهل الإيمان فإنهم يأخذون بكل عمل صالح، ويتوبون إلى الله من القبائح، ويؤمنون بالقضاء والقدر، ويعالجون القدر بالقدر، فيدافعون قدر المرض بقدر الدواء، كما يدافعون قدر الظمأ بقدر الشرب، وقدر الجوع بقدر الشبع، وهكذا يدافعون قدر الهوى بقدر التقوى، وقدر الكسل بقدر العمل، وقدر الجهل بقدر العلم، وهكذا.
فأولوا النهى يأخذون أمورهم بالحذر والحزم وفعل أولي العزم، ومتى غلبهم ما لا يطيقون دفعه ولا رفعه قالوا: قدر الله وما شاء فعل؛ ليسلوا بذلك أنفسهم، ويبرأوا من القوة والحول إلا بالله ذي الطول. فإن العمل بالأسباب محله الأعضاء على رب الأرباب، قال تعالى: فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [سورة العنكبوت:17]. وقال سبحانه: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [سورة الملك:15].
فالاعتماد على الأسباب نقص في الإيمان بالله، وتعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله؛ فإن التوكل إنما يكون من الأخذ بالأسباب وهو أقواها وأعظمها أثراً، وإن ترك الأسباب بدعوى التوكل لا يكون إلا عن جهل بالشرع أو فساد في العقل. وقد سئل النبي عما يتقى به المرض من حمية وعلاج هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال: ((هي من قدر الله)). وروي عنه أنه قال: ((بادروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها)) ، وروي عنه قوله: ((حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستعينوا على حمل البلاء بالدعاء والتضرع)) ، وأخبر أن الدعاء والبلاء يعتلجان بين السماء والأرض حتى يدفع الدعاء البلاء.
فاتقوا الله عباد الله، وحققوا التوكل بصالح النية وصادق العمل وكمال الثقة بالله عز وجل وتعاطي الأسباب المشروعة، وهجر الوسائل الممنوعة؛ خذوا ما حل ودعوا ما حرم، واجتهدوا في صالح العمل، وتوبوا من التقصير والزلل، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [سورة النور:52].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين والمسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/318)
الحساب
الإيمان
اليوم الآخر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قواعد العدل الإلهي يوم القيامة 2- أول الأمم حساباً 3- أول من يقضي بينهم الله يوم
القيامة 4- أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتى فى الله:
هذا هو لقاءنا الرابع عشر من لقاءات هذه السلسلة الكريمة المباركة.
وكنا قد توقفنا فى اللقاء الماضى مع مشهد الحساب الرهيب المهيب فلقد تركنا العباد فى أرض المحشر وقفوا صفوفاً، ينتظر كل واحد منهم أن ينادى عليه للعرض على الرب جل فى علاه، ليحاسب الله عباده وفقاً لقواعد العدل التى ذكرناها وهى:
ألا تزر وازرةُُ وِزْرَ أُخرى.
العدل التام الذى لا يشوبه شائبة ظلم.
إعذار الله جلا وعلا لخلقه.
إقامة الشهود.
مضاعفة الحسنات.
تبديل السيئات إلى حسنات.
وبعدها يبدأ الحساب، فيا ترى من هى أول أمة سيحاسبها الله؟.. ومن هم أول من يقضى بينهم يوم القيامة ؟.. وما هو أول ما يحاسب عليه العبد؟.
والجواب على هذه الأسئلة هو ذات الموضوع الذى نحن بصدده، فأعيرونى القلوب والأسماع والله أسأل أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض إنه حليم كريم رحيم.
أولاً: من هى أول أمة سيحاسبها الله جل علاه؟
أيها الأحبة الكرام إن ذل القيام بين يدى الله فى أرض المحشر لعظيم، فالشمس فوق الرؤوس بمقدار ميل... تكاد الرؤوس أن تنصهر من حرارتها... والبشرية كلها من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه الساعة فى صعيد واحد.. يكاد الزحام وحده يخنق الأنفاس، والأعظم من ذلك هول ورهبة جهنم التى قد أُتِىَ بها فى أرض المحشر لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، إذا رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت غضبا منها لغضب الله جل وعلا فعند ذلك تجثوا جميع الأمم على الركب ذعراً وفزعاً منها.
قال تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28 ].
فى هذه اللحظات الرهيبة المهيبة التى تخلع القلوب من الصدور ينادى الله جل جلاله على أمة الحبيب المحبوب محمد من بين سبعين أمة كلها واقفة فى أرض المحشر فى ذل وانكسار للملك الجبار.
ففى الحديث الصحيح الذى رواه ابن ماجة بسند صحيح من حديث ابن عباس أن النبى قال: ((نحن آخِرُ الأمم وأول الأمم حساباً يوم القيامة يقال: أين الأمة الأمية بنبيها؟ فنحن الآخرون الأولون)) ( [1] ).
أمة النبى محمد أُمّةُُ مرحومة ينادى عليها الله أول الأمم ليرحمها من ذل القيام بين يديه من هذا الموقف الرهيب فى أرض المحشر، بل وليكرمها على جميع الأمم.
ففى الحديث الذى رواه أحمد فى مسنده والحاكم فى مستدركه وصححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبى ورواه الإمام الترمذى وقال: حديث حسن أن النبى قال: ((أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعلا)) ( [2] ).
فأمة النبى هى أشرف وأطهر وأكرم أمة على الله سبحانه، ولم لا؟ ولم لا ؟! والرجل وحده فى أمة النبى محمد قد يزن أمة بأسرها.
وفى الحديث عن الحبيب النبى والحديث رواه الإمام أحمد فى مسنده والطبرانى فى الصغير والأوسط وقال الإمام الهيثمى فى مجمع الزوائد ورجال أحمد رجال الصحيح من حديث أبى الدرداء أن النبى قال: إن الله عز وجل يقول: ((ياعيسى إنى باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا الله وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يارب كيف هذا لهم ولا حلم ولا علم. فقال الله جلا وعلا: أعطيتهم من حلمى وعلمى)) ( [3] ).
فأمة النبى تتجلى كرامتها يوم القيامة بين يدى الرب العلى حينما ينادى عليها من بين سبعين أمة فلتتقدم..لماذا ؟!!
لتشهد على جميع الأمم لتشهد للأنبياء والمرسلين.
وفى صحيح البخارى من حديث أبى سعيد الخدرى أن النبى قال: ((يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: يانوح. فيقول لبيك وسعديك، فيقول الله: هل بلغت قومك ؟! فيقول: نعم.. فيدعى قومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقول الله جل وعلا من يشهد لك يانوح، فيقول نوح: يشهد لى محمد وأمته.. يقول المصطفى فتدعون فتشهدون بأنه بلغ قومه وأشهد عليكم فذلك قول الله تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )) ( [4] ).
إن أمة الحبيب أمة مكرمة فمن أثنت عليه خيرا نجى ووجبت له الجنة، ومن أثنت عليه الأمة شراً هلك ووجبت له النار.
ففى صحيح مسلم وسنن أبى داود من حديث أنس أن النبى مَرَّ بجنازة فَأُثنى عليها خيراً فقال النبى : ((وجبت وجبت وجبت)). ومر بجنازة، فَأُثنى عليها شرا فقال النبى : ((وجبت وجبت وجبت))، فقال عمر: فدى لك أبى وأمى. مر بجنازة فأُثنى عليها خيراً فقلت: وجبت وجبت وجبت. ومر بجنازة أخرى فأُثنى عليها شراً فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله : ((من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة , ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، فأنتم شهداء الله فى الأرض، أنتم شهداء الله فى الأرض)) ( [5] ).
فوالله لقد وعد الله النبى أن يعطيه لأمته حتى يرضى، ألا إن وعد الله صدق وحق.
ففى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن النبى ((قرأ يوماً قول الله فى إبراهيم رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ إبراهيم: 36 ] وتلى قول الله فى عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة: 118 ]. ثم رفع النبى يديه إلى السماء وبكى، فقال الله جل وعلا لجبريل عليه السلام : ياجبريل سل محمداً ما الذى يبكيه وهو أعلم؟ فنزل جبريل للمصطفى.. ما الذى يبكيك يارسول الله؟ قال: أمتى يا جبريل. فصعد إلى الله وأخبر الحق تبارك وتعالى وهو أعلم. فقال الله لجبريل: انزل إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك فى أمتك ولا نسوؤك)) ( [6] ).
فأمة النبى أمة ميمونة.. أمة مبروكة.. أمة محمودة
وكدت بأخمصى أطأ الثُّريَّا
ومما زادنى فخراً وتيها
وأَنْ أرسلت أحمدَ لى نبيا
دخولى تحت قولك ياعبادى
قال الله تعالى كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت للِنَّاسِ [ آل عمران :110].
ثانياً: من هم أول من يقضى الله بينهم يوم القيامة ؟!
والجواب من رسول الله كما فى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أنه قال: ((إن أول من يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فَأُتِىَ به، فَعَرَّفَهُ نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، فقال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جرئ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجهه، حتى أُلقِىَ فى النار، ورجلُُ تَعَلَّمَ العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ. فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقى فى النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقى فى النار)) ( [7] ).
أول من يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، رجل سقط شهيداً فى ميدان القتال، فى ساحة البطولة والوغى فى ميدان تصمت فيه الألسنة الطويلة، وتخطب فيه الرماح والسيوف على منابر الرقاب، يقع شهيداً فى ميدان القتال، هو من أمة النبى ولكنه ما أراد وجه الله ولكنه أراد الثناء من العباد !! فكانت النتيجة! بل قاتلت ليقال جرئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار.
ورجل تعلم العلم وقرأ القرآن، عالم ملأ المساجد علما وسوَّد صفحات الجرائد والمجلات!! عالم تعلم العلم وعلّم الأنام ولكن أراد الشهرة، أراد النجومية، أراد المكانة، أراد الكرسى الزائل والمنصب الفانى، أراد الوجاهة!!! ما ابتغى بعلمه وجه الرحمن !! فكانت النتيجة: بل تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار.
الله أكبر !! عالم تُسعَّر به النار! قارئ تسعر به النار. ولم لا ؟! وهو قد فقد شرطاً هاماً مهماً من شروط قبول العمل، وهو الإخلاص.
وأما الثالث ممن تسعر به النار أيضاً: رجل أتاه الله أصناف المال، مَنَّ الله عليه بالأموال فأعطاه وأجزل له العطاء، ولكن تصدق ليقال: جواد. ليقال: المحسن الكبير!! ليقال: المنفق الكبير!! السخى الباذل، وقد قيل. ثم أمر به فكانت النتيجة أن سحب على وجهه حتى ألقي فى النار.
سحبوا جميعاً فكبوا فى جهنم، لأنهم مراؤون بأعمالهم.
اعلم أن الرياء لغة: مشتق من الرؤية، والرياء شرعاً مشتق من معناه اللغوى، فمعنى الرياء اصطلاحا أن يبطن العبد خلاف ما يظهر.
حَدُّ الرياء: هو إرادة العباد بطاعة رب العباد جل وعلا.
يامن تعملون ابتغاء مرضاة الله، اسجدوا لله شكراً على هذه النعمة وسلوه التثبيت، ويامن تعملون العمل لا تبتغوا به مرضاة الله ولا تريدون به إلا السمعة والشهرة والمكانة بين الناس، فاعلموا علم اليقين أن عملكم غير مقبول لأن الله لا يقبل إلا العمل الخالص الصواب.
فقد قال المولى وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [ البينة - 5 ].
وقال تعالى فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [ الكهف: 110 ].
وفى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم من حديث أبى هريرة أن النبى قال: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك)) وفى لفظ ابن ماجة ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عَمِلَ عَمَلاً أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه)) ( [8] ).
وفى لفظ ((فهو للذى أشرك وأنا منه برئ)).
فالرياء هو الشرك الخفى، الرياء هو الشرك الأصغر، الرياء هو الذى يحبط الأعمال ويدمرها ولذلك روى الإمام أحمد فى مسنده بسند حسنه شيخنا الألباني فى صحيح الترغيب والترهيب من حديث أبى سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال: ((ألا أخبركم بما هو أَخْوَف عليكم عندى من المسيح الدجال؟)) فقلنا: بلى يارسول الله! قال: ((الشرك الخفي: أن يقوم الرجل فيصلى فَيُزِيِّنُ صلاته لما يري من نظر رَجُلٍ)) ( [9] ).
وفى الحديث الذى رواه أحمد وصححه شيخنا الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث محمود بن لبيد رضى الله عنه أنه قال: (( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) قالوا: وما الشرك الأصغر يارسول الله؟ قال: ((الرياء. يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون فى الدنيا فهل تجدون عندهم جزاءً؟)) ( [10] ).
فالرياء أيها الأحباب خطر عظيم جسيم يدمر الأعمال ويحبطها. أسال الله العلى العظيم أن يستر علينا وعليكم فى الدنيا والآخرة، ويرزقنا وإياكم الإخلاص فى القول والعمل، والسر والعلن، وأن يجعل سرنا أنقى من علننا وأن يغفر ذنوبنا، ويصحح نوايانا إنه ولى ذلك والقادر عليه.
ولذا أحب أن نعرج سوياً على أهم الأدوية لعلاج هذا الداء العضال ألا وهو الشرك الخفي ( الرياء ) فإن الأمر من الأهمية بمكان.
الدواء الأول: الاستعانة بالله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص فى القول والعمل فى السر والعلن فى الليل والنهار، ولنا فى خليل الله إبراهيم الأسوة الحسنة - إمام الموحدين وقدوة المحققين - يتضرع إلى الله رب العالمين أن يجنبه وبنيه الشرك فيقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [ إبراهيم: 35].
فلا بد أن تسأل الله وتستعين به على إخلاص العمل له وحده، واعلم يقيناً أنه وحده القادر على أن يمنحك الإخلاص لأن الإخلاص لا يضعه الله إلا فى قلب من يحب من عباده. وعليك أن تعرف عاقبة الرياء فى الدنيا والآخرة.
إن المرء المرائي يأتى يوم القيامة فتنشر له صحيفته على مد بصره، ولكن يومها لا يجد له عند الله جزاء..
اللهم سلم سلم !! لقد باء بالخسران الكبير، ولم لا ؟! وهو منافق، والمنافقون فى الدرك الأسفل من النار مع فرعون وهامان وقارون.
لقد أظهر عملاً وقولاً وسمتاً وسلوكاً غير ما يبطنه، والله تعالى يعلم حقيقته، قال تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ البقرة: 284 ].
وقال تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [ الأحزاب: 54 ].
وقال تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [ طه: 7 ]
فإن كان الرياء فى أصل الدين أن يبطن الكفر، ويظهر الإيمان فهذا هو أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد فى النار، فقد قال الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [ البقرة: 204 - 206 ].
وقال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [ المنافقون: 1].
أما إذا كان استقر فى قلبه أصل الدين وأصل الإيمان وهو يرائى الناس بالأعمال فقط، فهذا هو الشرك الأصغر، ويخشى على هذا أن يختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله. فالمرائي لاجزاء له فى الآخرة.
يامن تعملون العمل لإرضاء الناس. اعلموا أنه مامن أحد يرضى عنه كلُ الناس ،ولم يستطيع مخلوق البتة أن يُرضى كلَّ الناس، بل قد لا يستطيع الأب فى مملكته الصغيرة أن يرضي كل أبناءه، وقد لا يستطيع الشيخُ فى مجلس علم أن يُرضي كلَّ طلابه، هذه قاعدة من جهلها فهو جاهل.
أخي الحبيب اجعل قلبك معلقاً بالله، وابتغِ بقولك وعملك وجه الله، فلو اجتمع أهل الأرض بالثناء عليك فلن يقربك ثناؤهم زلفى من الله إن كنت بعيداً عن الله.
ولو اجتمع أهل الأرض بالذم فيك فلن يبعدك ذمهم عن الله إن كنت قريباً من الله، فما الذى ينفعك من مدح الآنام وأنت مذموم عند رب الآنام ؟! وما الذى يضرك من ذم الآنام وثناءهم بالشر وأنت مقرب ممدوح من رب الآنام.
فلا ترض الناس بسخط الله عليك، بل أطع الله فيهم، واتق الله فيهم فإن النبى قال: ((من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله الناس، ومن أسخط الله برضا الناس وكله الله إلى الناس)) ( [11] ).
فقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّاً [ مريم: 96 ].
وداً: أى محبة فى قلوب عباده المؤمنين المخلصين.
فإذا رأيت رجلاً يبغض مؤمناً صالحاً فاعلم بأن قلبه قلب خبيث مريض، والعياذ بالله فإن المنافق لا يحب مؤمناً على ظهر الأرض لأنه لا يحب إلا منْ على شاكلته ومعدنه.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنودُُ مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)) ( [12] ).
قال الخطابي رحمه الله: فالخَيِّر يحن إلى الأخيار، والشرير يحن إلى الأشرار.
وأحب أن أنوه وأحذر من أمر خطير جداً وهو:
أن الله يعاقب المرائي فى الدنيا بضد قصده ونيته، والعقوبة بضد قصد النية ثابت شرعاً وقدراً.
ففى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عباس أن النبى قال: ((من سَمّعَ سمع الله به، ومن يرائى يرائى الله به)) ( [13] ).
قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى: قال الخطابي: " من عمل عملاً من أعمال الخير، والطاعة يبتغى أن يراه الناس وأن يسمعوه، عاقبه الله بضد قصده ونيته ففضحه الله جل وعلا وأظهر باطنه".
اللهم استرنا ولا تفضحنا.. اللهم استرنا ولا تفضحنا.. الله استرنا ولا تفضحنا.
أما إن زلت قدمه بمعصية فبكى وارتعد قلبه وخاف من الله جل وعلا، فهذا هو المؤمن التقي، ونرجو الله أن يختم لنا وله بخاتمة التوحيد والإيمان.
فإن الله قد ذكر المتقين فى قرآنه وذكر من صفاتهم أنهم قد يقعون فى الفاحشة قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 133 - 135 ].
وأحب أن أنوه على أمر آخر: إن عمل العبد عملاً يبتغى به وجه الله وتضرع فيه إلى الله أن يرزقه فيه الإخلاص ثم أثنى الناس عليه خيراً وجعل الله له الثناء الحسن على ألسنة الصادقين من عباده، وجعل الله له المكانة الطيبة فى قلوب المخلصين من عباده وأوليائه فليستبشر خيراً.
ففي صحيح مسلم عن أبي ذر رضى الله عنه قال: قلت يارسول الله: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس؟ فقال : ((تلك عاجل بشرى المسلم)) ( [14] ).
واسمع لهذا الحديث الرقراق الرقيق الذى رواه البزار وصححه شيخنا الألباني فى صحيح الجامع أنه قال: ((مامن عبد إلا وله صيت فى السماء، فإن كان صيته فى السماء حسناً وُضع فى الأرض، وإن كان صيته فى السماء سيئاً وُضع فى الأرض)) ( [15] ).
أى أنه إن كان صيته فى السماء حسناً كان كذلك فى الأرض والعكس ولم لا؟!! وقد قال النبى كما فى الصحيحين من حديث أبى هريرة: ((أن الله إذا أحب عبداً دعا ياجبريل، فقال: إنى أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادى فى السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له القبول فى الأرض. وإذا أبغض عبداً دعا جبريل عليه السلام فيقول: إنى أبغض فلاناً فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل ثم ينادى أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه. ثم توضع له البغضاء فى الأرض)) ( [16] ).
أسأل الله أن يسترنا بستره الجميل ويرحمنا إنه على كل شىء قدير.
أيها الأحبة الكرام: هؤلاء هم أول من يقضى بينهم يوم القيامة، فما هو أول ما يحاسب العبد عليه يوم القيامة ؟!! هذا ما سوف نتعرف عليه بعد جلسة الاستراحة.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
( [1] ) صححه شيخنا الألباني في الصحيحة رقم (2374) وهو في صحيح الجامع حديث رقم (6749).
( [2] ) رواه أحمد في المسند رقم (1900،19908) وقال محققه: إسناده صحيح ، ورواه الترمذي رقم (3001) في تفسير آل عمران وحسنه ، وابن ماجة رقم (4288) في الزهد ، والدرامي (2760) ، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
( [3] ) رواه أحمد في المسند رقم (27416) وقال الهيثمي (10/67): رجاله رجال الصحيح غير الحسن بن سوار وأبى حلبس يزيد بن ميسرة وهما ثقتان.
( [4] ) رواه البخاري (8/130) في التفسير ، باب قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطاً - والترمذي رقم (2965) في التفسير ، باب ومن سورة البقرة - والطبرى رقم (2165).
( [5] ) رواه البخاري (3/181) في الجنائز ، باب ثناء الناس على الميت - ومسلم رقم (949) في الجنائز ، باب فيمن يثنى عليه خيراً وشراً من الموتى واللفظ له - والترمذي رقم (1058) في الجنائز ، باب ماجاء في الثناء على الميت ، والنسائي (4/49، 50) فى الجنائز ، باب الثناء.
( [6] ) رواه مسلم رقم (301) في الإيمان.
( [7] ) رواه مسلم رقم (1905) في الإمارة ، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار - والترمذي رقم (3383) في الزهد ، باب ما جاء في الرياء والسمعة ، والنسائي (6/23-24) في الجهاد ، باب من قاتل ليقال : فلان جرئ.
( [8] ) رواه مسلم رقم (2985) في الزهد ، باب من أشرك في عمله غير الله.
( [9] ) حسنه شيخنا الألباني في صحيح الترغيب رقم (27) وقال رواه ابن ماجة والبيهقي.
( [10] ) رواه أحمد في المسند رقم (23521) وصححه شيخنا الألباني في صحيح الترغيب حديث رقم (29) وقال: رواه أحمد بإسناد جيد وابن أبى الدنيا والبيهقي في(الزهد) وغيره.
( [11] ) قال الشيخ مصطفى العدوي : أخرجه عبد بن حميد فى المنتخب رقم (1522) وإسناده صحيح.
( [12] ) رواه مسلم رقم (2638) في البر والصلة ، باب الأرواح جنود مجندة ، وأبو داود رقم (4834) في الأدب ، باب من يؤمر أن يجالس.
( [13] ) رواه البخاري (6499) في الرقاق ، باب الرياء والسمعة ، ومسلم رقم (2987) في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله.
( [14] ) رواه مسلم رقم (2642) في البر والصلة ، باب إذا أثنى على الصالح فهي بشرى ولا تضره.
( [15] ) صححه شيخنا الألباني في الصحيحة (2275) وهو فى صحيح الجامع رقم (5732).
( [16] ) رواه البخاري رقم (7485) في التوحيد ، باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة ، ومسلم رقم (2637) في البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده ، والموطأ (2/953) في الشعر ، والترمذي رقم (3160) في التفسير ، باب ومن سورة مريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
ثالثاً: ما هو أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة؟
والجواب فى الحديث الصحيح الذى رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وغيرهم وصحح الحديث شيخنا الألباني فى صحيح الجامع من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى قال: ((إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر)) ( [1] ).
والله إن القلب ليبكي وإن العين لتدمع وإنا لما حل بأمة الإسلام لمحزونون، فوالله إن فى هذه الأمة من لا يدخل بيت الله جل وعلا إلا فى كل جمعة فقط !! ومن لا يدخل إلى بيت الله إلا فى العيدين فقط!!
ومن لا يدخل بيت الله إلا مرة واحدة لامن أجل أن يُصلِّي، ولكن من أجل أن يُصلَّىَ عليه!!
الصلاة.. الصلاة.. الصلاة.. آخر وصية لرسول الله.
الصلاة ضيعتها الأمة إلا من رحم الله. معظم المصلين إلا من رحم الله يضيعون الصلاة بعدم الاطمئنان فيها، ولقد روى البخاري من حديث حذيفة بن اليمان أنه رأى رجلاً يصلي لا يُتِمُّ ركوعه ولا سجوده فلما قضى صلاته قال له حذيفة ما صليت ولو مُتَّ مُتَّ على غير سنة محمد ( [2] ).
فهذا صلى ولكن لم يحسن الركوع والسجود والقيام. فما بالك بمن ضيع الصلاة ؟!! فما ظنك بمن ترك الصلاة؟!!
قال جل فى علاه فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّاً [ مريم: 59 ].
فما هو الغي؟ قال ابن عباس وعائشة: الغي نهر فى جهنم بعيد قعره خبيث طعمه.
وقال جل وعلا: كَلا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ إِنَّهَا لاحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِين فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ [المدثر: 32-55].
يا من ضيعت الصلاة !! لماذا أعرضت عن الله ورسوله؟!
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا. إنه ولى ذلك والقادر عليه.
( [1] ) رواه الترمذى رقم (413) فى الصلاة ، باب ماجاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ، والنسائى (1/232) فى الصلاة ، باب المحاسبة على الصلاة ، ورواه أيضاً أحمد فى المسند ، والحاكم فى المستدرك.
( [2] ) رواه البخارى رقم (808) فى الآذان ، باب إذا لم يتم السجود.
(1/319)
الحشر
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفة أرض المحشر 2- كيف يُحشَر الناس 3- هول الموقف 4- في ظلال العرش
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد..
أحبتى فى الله:
كنا قد انتهينا فى اللقاء الماضى عند البعث، وتوقفنا عند هذه المشاهد التى تخلع القلوب، فلقد وقفنا عند هذا المنظر المهيب الرهيب لخروج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا، كل يبعث على الهيئة التى مات عليها فمن مات على طاعة بعث على طاعة ومن مات على معصية بعث على نفس المعصية التى مات عليها.
ذلك لقول النبى كما فى صحيح مسلم: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)) ( [1] ).
ولقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شئ مات عليه ومن مات على شئ بعث عليه..
وأول من يبعث، وتنشق عنه الأرض يوم القيامة حبيب الرحمن محمد r ، ففى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال:
((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر، وأنا أول شافع وأول مُشَفَّع)) ( [2] ).
وإذا كان المصطفى يوم القيامة أول من ينشق عنه القبر، فإن أول من يُكسى يوم القيامة خليل الرحمن أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
كما فى صحيح مسلم من حديث ابن عباس أنه قال: ((ياأيها الناس إنكم تحشرون يوم القيامة حفاةً عراةً غُرْلا وأول الناس يُكْسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام)) ( [3] ).
وفى رواية البيهقى من حديث ابن عباس أنه قال : ((أول الناس يُكسى من الجنة يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ويؤتى بى فأُكسى حُلّة من الجنة لايقوم لها البشر)).
ولقد تكلم علماؤنا عن حكمة تقديم إبراهيم على نبينا محمد فى الكسوة يوم القيامة.
ومن أجمل ماذكره أهل العلم أن المشركين لما هموا بحرق إبراهيم وأشعلوا نار متأججة وظلوا يجمعون لها الحطب شهوراً، وأياماً حتى ارتفع لهيبها فى عنان السماء فكانت الطيور تسقط من ارتفاع لهب هذه النيران فلما هموا بإلقائه جردوه من ثيابه فلما صبر واحتسب وتوكل على الله جزاه الله سبحانه وتعالى عن ذلك فوقاه حر النار فى الدنيا والآخرة وكافأه يوم القيامة فكساه على رؤوس الأشهاد.
فأول الناس يبعث هو حبيب الرحمن، وأول الناس يُكسى هو خليل الرحمن وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ترى ماذا يكون بعد البعث ؟!... إنه الحشر.
وهذا هو موضوع الحديث فى هذا اليوم الكريم المبارك، لذا أستحلفك بالله أخى الحبيب أن تعرنى قلبك وسمعك فإن الموضوع من الخطورة، والرهبة، والهيبة بمكان.
وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً فسوف ينتظم حديثنا عن الموضوع فى العناصر التالية:
أولاً: صفة أرض المحشر.
ثانياً: كيف يحشر الناس؟!
ثالثاً: هول الموقف.
رابعاً: فى ظل عرشه.
أولاً: صفة أرض المحشر
ترى كيف تكون هيئة أرض المحشر؟!!
أتكون مثل أرض الحياة الدنيا ؟!
لاريب أنها ستكون مختلفة تماماً عن أرض الحياة الدنيا التى نعيش عليها
لم لا ؟! فإن الزمان غير الزمان.. فحتماً يكون المكان غير المكان.. حيث قال رحمان الدنيا والآخرة: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: 48].
إذاً تتبدل أرض الدنيا وسماوات الدنيا.
فلقد وصف لنا المصطفى طبيعة الأرض التى سيحشر الناس عليها وصفاً دقيقاً بليغاً.
ففى الحديث الصحيح الذى رواه البخارى ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدى رضى الله عنه أنه قال:
((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كَقُرْصَةِ النَّقِىِّ ليس فيها عَلَمُُ لأحدٍ)).
وفى رواية إلى قوله ((كقرصة النقى)) ثم قال: قال سهل، أو غيره: ((ليس فيها معلم لأحد)) ( [4] ).
أرض عفراء: أى بيضاء، والعفرة: البياض.
وعند ابن فارس: البياض الشديد الناصع البياض. قرصةُ نقى أو كقرصةٍ نقى، أى كالدقيق النقى من الغش والنخال.
قال سهل: ليس فيها معلم لأحد، المعلم: هو العلامات التى يتعارف بها الناس على الشوارع، والطرقات، والمدن.
فهى أرض بيضاء مستوية كالفضة البيضاء لايوجد عليها أشجار، أو أنهار، أو أبنية.
هذه هى صفة أرض المحشر كما أخبرنا الصادق المصدوق.
ولكن كيف يحشر الناس على هذه الأرض؟!
ثانياً: كيف يحشر الناس على هذه الأرض؟!
يخرج الناس من القبور حفاةً عراةً غُرْلاً كما قال رسول الله فى صحيح مسلم من حديث عائشة.
يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غُرلا قالت عائشة: يارسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض قال: ((ياعائشة الأمر أشد من أن يهمهم ذلك)) ( [5] ).
نعم والله يخرجون من القبور بهذا العرى والذل والهوان.
قال تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ ق: 41-42 ].
نعم والله إنه يسير على الله أن يحشرهم جميعاً من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولا يتخلف أحد ولا يمتنع.... كيف ذلك؟
يقول سبحانه وتعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [ الكهف :47-48]
حشر الله الخلق جميعاً ولا يتخلف مَلِك، ولا متكبر، ولا حاكم، ولا زعيم، ولا طاغية، فلم نغادر منهم أحد.
قال سبحانه وتعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [ مريم: 93-95].
هكذا كل يأتى الرحمن فلا يتخلف مخلوق فلقد أحصى الله الخلق من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة، فهم ينطلقون جميعاً وراء هذا الداعى الكريم الذى جاء ليقود الخلق جميعاً إلى المحشر، انطلقوا خلفه لا يتلفتون، ولا يتخلفون صامتين مستسلمين خاشعين.. يعلوهم صمت رهيب يزلزل قلوبهم سكون غامر يغمر المكان كله بالعظمة والهيبة والإجلال.
قال سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:108-111].
الكلام يومئذ همس!! والسؤال يومئذ لصاحب الأمر؟!!
وهل يستطيع مخلوق أن يتفلت أو يتخلف؟!!
وهل يملك طاغية أن يتغيب، أو يتأخر، وقد وكل الله بكل إنسان ملكين يسوقانه سوقاً إلى أرض المحشر.
قال تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ ق: 19 - 22].
ها هو رسول الله يجسد لنا معانى هذه الآيات - عن مشهد الحشر يخلع القلوب ويأخذ بالألباب - فيقول كما فى الحديث الذى رواه الترمذى بسند حسن يقول ((يُحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف، صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم)) ( [6] ).
وفى صحيح البخارى ومسلم من حديث أنس قال رجل: يانبى الله كيف يحشر الكافر على وجهه؟! فقال المصطفى : ((أليس الذى أمشاه فى الدنيا على رجلين قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟)). قال قتادة: بلى وعزة ربنا ( [7] ).
ونحن نقول: بلى وعزة ربنا إنه لقادر أن يحشر الكافرين يوم القيامة على وجوههم.
أيها الحبيب: هل تصورت قبل أن ترى الحية أن دابة تمشى على بطنها؟! إن الذى جعل الحية تمشى بدون أرجل سيحشر الكافر وهو يمشى على وجهه يوم القيامة، إنه على كل شئ قدير.
أناس يمشون على الأقدام وأناس يركبون، من هؤلاء الذين يركبون فى هذا اليوم العصيب ؟!
اسمع لربك جل وعلا... قال سبحانه: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم:85].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [ فصلت: 30 ].
ويقدم الملائكة لأهل التقى ركائب من دواب الآخرة عليها سُرُج من ذهب فيركب المتقون، وينطلقون بها فى أرض المحشر حتى لا يمشون على أقدامهم فى هذا اليوم العصيب.. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!.
والتقوى هى أن يطاع الله فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر.
وسئل أبو هريرة عن التقوى فقال: "هل مشيت على طريق فيه شو ك؟" قال: نعم، قال: "فماذا صنعت إذا رأيت الشوك؟" قال: اتقيته، قال أبو هريرة: "كذاك التقوى".
وقال ابن المعتز:
وكبيرها فهو التقى
خلِّ الذنوب صغيرها
أرض الشوك يحذر مايرى
واصنع كماش فوق
إن الجبال من الحصى
لاتحقرن صغيرة
قال طلق بن حبيب:
التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [ مريم: 85-86 ].
فالتقي يحشر راكباً، والعاصي يحشر وارداً، أما المتكبرون الذين انتشوا وانتفخوا فى الدنيا ولم يذلوا أنفسهم لله، ولم يخفضوا جناح الذل لخلق الله بل تراه مغروراً بكرسيه الذى جلس عليه، وتراه مغروراً بمنصبه وتراه متكبراً بماله، وتراه متكبراً بسلطانه وجاهه.
فهذا والله الذى لا إله غيره سيحشر بمنظر وهيئة لو علمها لوضع أنفه فى التراب ذلاً لمولاه، ولخفض جناح الذل لخلق الله.
غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب
يا ابن التراب ومأكول التراب
علام الكبرياء يا ابن آدم؟ وأنت تحمل البصاق فى فمك!! وتحمل العرق تحت إبطيك!! وتحمل البول فى مثانتك!! وتحمل النجاسة فى أمعائك!! وتمسح عن نفسك بيدك العذرة كل يوم مرة أو مرتين!!!
يا أيها الإنسان ما غرك!!
مر أحد السلف على رجل متبختر مختال فى مشيته فقال له هذا الرجل الصالح: يا ابن أخى هذه مشية يبغضها الله ورسوله.
فقال له المتكبر: ألا تعرف من أنا؟!!. من أنت أيها المغرور؟!
تصور معى مشهد حشر المتكبر يوم القيامة.
أخرج الترمذى عن رسول الله قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّر فى صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان)) ( [8] ).
يحشر المتكبرون يوم القيامة كذر تدوسه الأقدام والأرجل لأنه كان منتفخاً منتشياً متكبراً مغروراً فى الدنيا.. والجزاء من جنس العمل.
فكما انتفخ واستعلى فى الحياة الدنيا يحشر يوم القيامة فى غاية الذلة والمهانة تطأه الأرجل والأقدام.
فإذا ما وصلت الخلائق كلها إلى أرض المحشر تنزلت الملائكة ضعف عدد من فى الأرض.. تحيط الملائكة بأهل الأرض من كل جانب.
إن الموقف فيه من الأهوال والكروب ما يخلع القلوب وهذا هو عنصرنا الثالث
ثالثاً: هول الموقف
إذا ما وصل الناس إلى أرض المحشر ازداد الهم والكرب والغم... ولم لا!! وقد وقفوا قياماً طويلاً..طويلاً!!
و هاهي الشمس تدنوا من الرؤوس. ففى صحيح مسلم من حديث المقداد أنه قال: ((تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم مقدار ميل)) قال الراوى: فوالله ماأدرى مايعنى بالميل: أمسافة الأرض، أو الميل الذى تكحل به العين؟! قال: ((فيكون الناس على قدر أعمالهم فى العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)) وأشار بيده إلى فيه ( [9] ).
وفى الصحيحين من حديث ابن عمر أنه قال فى قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قال المصطفى : ((يقوم أحدهم فى رشحه إلى أنصاف آذانهم)) ( [10] ).
هل تصورت هذا المشهد؟ حرارة تذيب الحديد والحجارة فوق الرؤوس ولك أن تتصور البشرية كلها تحشر فى مكان واحد على أرض واحدة.
زحام يخنق الأنفاس!!
وفى هذا المشهد والموقف الرهيب يزداد الهم والكرب بإتيان جهنم.
إيه والله... يؤتى بجهنم فى أرض المحشر كما قال المصطفى والحديث رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله: ((يؤتى بالنار يومئذ لها سبعون ألف زمام، ومع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) ( [11] ).
فإذا أقبلت جهنم، وأحاطت بالخلائق، ورأت الخلق زفرت، وزمجرت غضباً منها لغضب الله جل وعلا.. عند ذلك تجثوا جميع الأمم على الركب من الخوف والذلة.
قال تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28].
وليس ذلك فقط بل يحدث ما تشيب منه الرؤوس وتنخلع له القلوب!!
اسمع إلى هذا الحديث الذى رواه الترمذى بسند صحيح قال رسول الله : ((يخرج عنق من النار له عينان تبصران وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إنى وكلت بثلاثة، لمن جعل مع الله إله آخر، وبكل جبار عنيد، وبالمصورين)) ( [12] ).
ويسجل القرآن جزاء كل جبار عنيد فيقول عز وجل: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:15-17].
فى هذا المشهد فى الحر الشديد، والزحام الرهيب!!
وفى هذا التدافع فى هذا الموقف الذى ترتعد منه الفرائص وتشيب له الرؤوس، ويهتز له الوجدان فإن الأنبياء حينما يرون هول هذا الموقف لايملكون إلا أن يقولوا: اللهم سلم.. سلم!!
هذه دعوتهم يومها، والكلام مقتصر عليهم دون غيرهم!!
يومها تذهل كل مرضعة عن رضيعها، وتضع كل ذات حمل حملها وينتاب الناس الهلع، والرعب حتى تظنهم سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
يومئذ يفر المرء من أبيه، وأمه، وأخيه، وصاحبته، وينسى الابن أبويه اللذان برهما فى دنياه وألان لهما الجانب وأطاعهما فى غير معصية لله!!
يومها يفر الأخ من أخيه ولا تعد هناك روابط نسبية!!
ويومها تفر الزوجة من زوجها الذى أعطى لها كل عطفٍ وحنانٍ ورعايةٍ وصحبة جميلة حسنة!!
يومها ترمى الأم الحنون بطفلها فى غير وعى فلا أمومة فى هذا الموقف الرهيب المخيف، الكل يقول: نفسى... نفسى...! حتى الأنبياء!
الكل له شأن يلهيه، استمع لقول مولاك عز وجل فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:33-37].
ولله در القائل :
يوم القيامة والسماء تمور
حتى على رأس العباد تسير
وتبدلت بعد الضياء كدور
فرأيتها مثل السحاب تسير
خلت الديار فما بها معمور
وتقول للأفلاك أين نسير
طَىَّ السجل كتابه المنشور
وتهتكت للعالمين ستور
القصاص وقلبه مذعور
كيف المصر على الذنوب دهور
ولها على أهل الذنوب زفير
لفتى على طول البلاء صبور
مثل لنفسك أيها المغرور
إذا كورت شمس النهار وأُدْنِيَت
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت
وإذا الجبال تقلعت بأصولها
وإذا العشار تعطلت وتخربت
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت
وإذا الجليل طوى السماء بيمينه
وإذا الصحائف نشرت وتطايرت
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى
هذا بلا ذنب يخاف جناية
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت
تذكر كل هذه المشاهد.. الزحام شديد يكاد يخنق الأنفاس والشمس يكاد تصهر الرؤوس والكل يتدافع.. السؤال همس.. والكلام تخافت وجلال الحى القيوم عمر المكان بالهيبة.
فى هذه اللحظات ينادى الحق جل جلاله على مجموعة من الخلق فى أرض المحشر أن يتقدموا ليظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله.
من هؤلاء ياترى؟!! والإجابة على هذا السؤال تكون بعد جلسة الاستراحة.
أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم
_________
الخطبة الثانية
_________
أحبتى فى الله:
رابعاً: فى ظل عرشه
إن مجرد الكلام عن أهوال هذا اليوم ترتعد له الفرائص فكيف إذا عايناه وعاصرناه وعايشناه على أرض الواقع لا أرض الخيال؟!!
فى هذا الموقف ينادى الحق جل جلاله على أناس ليظلهم بظله يوم لاظل إلا ظله، ياترى من هؤلاء السعداء؟!
فى صحيح البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة: قال المصطفى : ((سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، وشاب نشأ فى عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال: إنى أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ماتنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) ( [13] ).
((إمام عادل)): أى حاكم عادل عاش ليقيم العدل فى الأرض، سعدت به رعيته، وسعد هو برعيته، وكان يتقى الله فى هذه الأمانة، يعلم يقيناً أن الحكم والمنصب أمانة سيسأل عنها بين يدى الله كما قال المصطفى لأبى ذر : ((إن الولاية أمانة وإنها يوم القيامة حسرة وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها )). ترى ما جزاء هذا الحاكم؟! أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله.
((شاب نشأ فى عبادة الله))
أخى فى الله: إذا نشأت فى عبادة الله، وانصرفت عن معصية الله وإن زلت قدمك فى معصيته تبت إلى الله جل وعلا، أظلك الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
أيها الشاب الفتي.. أيها الشاب الزكى.. أيها الشاب الذى أسرفت على نفسك أرجو من الله عز وجل أن لا تتأخر لحظة عن التوبة وطاعة الله لأن الطاعة عِز، الطاعة شرف.. فلا عز فى الدنيا والآخرة إلا بطاعة الله.
ولماذا خص الشاب؟!!
لأن الشاب تجرى دماء الشهوة فى عروقه، لأنه - لا سيما فى سن المراهقة وسن الفتوة - تعصف الشهوة بكيانه عصفاً، ولكن بخوفه من الله ومراقبته لله يعصم نفسه ويحارب شهواته ويحارب نفسه الأمارة بالسوء.
لذا كافأ الله هذا الشاب الطائع، التقى، النقى، الطاهر الذى نشأ منذ نعومة أظافره يعبد الله، ويطيع الله ويحفظ حقوق الله ويمتثل أوامره ويجتنب نواهيه ويقيم حدوده، فيظله تحت ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله.
((ورجل قلبه معلق بالمساجد)) معنى ذلك أن قلبه فى المسجد، فإذا صَلَّى الفرض، وخرج إلى الدنيا يسعى على رزقه من الحلال، أو عاد إلى بيته وأولاده يخرج من المسجد، وقلبه مشتاق أن يرجع إلى المسجد مرة أخرى فهو متعلق بالمسجد يهوى الجلوس فى بيت الله بل يتمنى أن لو ييسر الله له الوقت ليقضى جُله فى بيت الله جل وعلا وهذا خير من أن تقضى وقتك أمام المسلسلات والمباريات والأفلام!! لماذا لا تحرص على أن تقضى هذا الوقت فى بيت الله جل وعلا؟!
فإذا تعلق قلبك به أظلك الله فى عرشه يوم لا ظل إلاَّ ظله.
((ورجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)).
إنه الحب فى الله إن ((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) ( [14] ) وإن آصرة الحب فى الله هى أغلى آصرة.. وأن رابطة الحب فى الله هى أغلى رابطة.. ألا وإن ((أوثق عرى الإيمان، الحب فى الله والبغض فى الله)) يقول الله سبحانه وتعالى فى الحديث القدسى وهو فى الصحيحين: ((أين المتحابون بجلالى؟ اليوم أظلهم فى ظلى يوم لاظل إلا ظلى)) ( [15] ).
((ورجل دعته امرأة - أي للزنا - ذات منصب وجمال فقال: إنى أخاف الله)): تذكر الله جل وعلا وراقبه وأعرض عن هذه الكبيرة خوفاً من الله جل وعلا.
((ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) : خلى بنفسه، وقام من الليل، وجلس يصلى أو يذكر الله سبحانه وتعالى فلما امتلأ قلبه بهيبة الله وبعظمة الله، فاضت عيناه بالدموع خوفاً منه وهيبة له سبحانه.
قال رسول الله : ((عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس فى سبيل الله)) ( [16] ).
وهناك غير هؤلاء السبعة من الذين يظلهم الله فى ظله يوم القيامة.
ولقد جمع الحافظ ابن حجر فى كتاب مستقل هؤلاء الذين يظلهم الله فى ظله غير هؤلاء السبعة فى كتاب قيم سماه (معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال) وبين أن الله سبحانه يظل غير هؤلاء السبعة فى ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله ففى الحديث الصحيح أنه قال :
((من، أنظر (أمهل) معسراً أظله الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله)) ( [17] ).
أيها الحبيب الكريم: احرص على طاعة الله وعلى هذه الخصال من خصال الخير ليظلك الله فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
وحينئذ يقوم بقية الخلق فى هذا الموقف قياماً طويلاً طويلاً، ويشتد الكرب عليهم حتى يتمنى بعضهم أن يحشر إلى النار ولا يقف فى مثل هذا الموقف المهيب الرهيب ظاناً أن النار لن تكون أشد عذاباً مما هو فيه من هم وكرب.
وهنا يبحث الخلق عمن يشفع لهم إلى الله جل وعلا ليقضى الله تبارك وتعالى بين الخلائق لينتهى هذا الموقف المهيب الرهيب، وهنا يقول كل نبى من الأنبياء: نفسى.. نفسى.
ويتقدم الحبيب المصطفى صاحب المقام المحمود وصاحب الحوض المورود، وصاحب اللواء المعقود، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين يتقدم ليشفع للخلائق فى أرض المحشر ليقضى الله جل وعلا بينهم ونتوقف عند هذا المشهد الكريم عند مشهد شفاعة النبى r لأهل الموقف جميعاً لنعيش مع هذا الموقف. لنتعرف عليه لاحقاً إن قدر الله لنا البقاء واللقاء.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا. إنه ولى ذلك والقادر عليه.
( [1] ) رواه مسلم رقم ( 2878) ، فى الجنة ، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت.
( [2] ) رواه مسلم رقم (1178) ، فى الفضائل ، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق ، أبو داود رقم (4763) ، فى السنة ، باب فى التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والترمذى رقم (3615) ، فى المناقب ، باب ماجاء فى فضل النبى صلى الله عليه وسلم.
( [3] ) رواه البخارى رقم ( 6524) ، فى الرقاق ، باب كيف الحشر؟ ، ومسلم رقم (2860) ، فى الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، الترمذى رقم (2425) ، فى القيامة ، باب ماجاء فى شأن الحشر ، والنسائى (4/114) ، فى الجنائز ، باب البعث.
( [4] ) رواه البخارى فى الرقاق ، باب يقبض الله الأرض ، ومسلم رقم (2790) فى صفات المنافقين ، باب فى البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة.
( [5] ) رواه البخارى رقم (6527) فى الرقاق ، باب الحشر ، ومسلم رقم (2859) فى الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، والنسائى (4/114) فى الجنائز ، باب البعث.
( [6] ) رواه الترمذى رقم (3141) فى التفسير ، باب ومن سورة بنى إسرائيل. وصححه شيخنا الألبانى فى المشكاة (5546).
( [7] ) رواه البخارى رقم (4760) فى التفسير ، سورة الفرقان ، ومسلم رقم (2806) فى صفات المنافقين ، باب يحشر الكافر على وجهه.
( [8] ) رواه الترمذى رقم (2494) فى صفة القيامة ، وصححه شيخنا الألبانى فى المشكاة وهو فى صحيح الجامع برقم (8040).
( [9] ) رواه مسلم رقم (2864) فى صفة الجنة ، باب صفة يوم القيامة ، والترمذى رقم (2423) فى صفة القيامة ، باب رقم (3) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (2933).
( [10] ) رواه البخارى رقم (6531) فى الرقاق ، باب قوله تعالى : ألا يظن أولئك أنهم مبعثون... الآية ، ومسلم رقم (2862) فى الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، باب فى صفة يوم القيامة.
( [11] ) روه مسلم رقم ( 2842) فى صفة الجنة ، باب فى شدة حر نار جهنم ، والترمذى رقم (2576) فى صفة جهنم ، باب ماجاء فى صفة النار.
( [12] ) رواه الترمذى رقم (2577) فى صفة جهنم ، باب ماجاء فى صفة النار ، وصححه شيخنا الألبانى فى الصحيحة رقم (512) ، وهو فى صحيح الجامع برقم (8051).
( [13] ) رواه البخارى (2/119) فى الجماعة ، باب من جلس فى المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد ، ومسلم رقم (1031) فى الزكاة ، باب فضل إخفاء الصدقة.
( [14] ) رواه أبو داود رقم (4681) فى السنة ، باب الدليل على زيادة الإيمان ، وهو فى صحيح الجامع (5965).
( [15] ) رواه مسلم رقم (2566) فى البر والصلة ، باب فى فضل الحب فى الله ، والموطأ (2/952) فى الشعر ، باب ماجاء فى المتحابين فى الله.
( [16] ) رواه الترمذى رقم (1639) فى فضائل الجهاد ، باب ماجاء فى فضل الحرس فى سبيل الله وصححه شيخنا الألبانى فى المشكاة رقم (3829) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (4112).
( [17] ) رواه الترمذى رقم (1306) فى البيوع ، باب فى إنظار المعسر ، وصححه شيخنا الألبانى فى صحيح الترغيب (900) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (6107).(1/320)
في التذكير
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, التوبة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة لفعل الطاعات وترك المنكرات 2- جميع أعمالنا تحصى علينا 3- مجاهدة النفس
تؤدي إلى محبة الطاعة وكره المعصية 4- الوصية بالأعمال المتعدية في نفعها للآخرين
5- منزلة الإمامة في الصلاة لا تكون لكل أحد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله والزموا سنة نبيكم تهتدوا، وأخلصوا لله تعالى نياتكم تربحوا، واستبقوا الخيرات وابتعدوا عن المنكرات ،وتوبوا إلى ربكم من قريب عما أسلفتم من السيئات، تفوزوا بمغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض، وتزحزحوا عن النار يوم العرض.
عباد الله: جاهدوا أنفسكم على أداء الواجبات، وترك المحرمات، والبُعد عن المنكرات، ولزوم التوبة والاستغفار من السيئات، والتقصير في سائر الأوقات، تحشروا إلى الله تعالى في صف المهديين المحسنين، وتأمنوا مما توعد الله به الغافلين الهالكين؛ فإن مجاهدة النفس برهان الاجتباء، وصفة خاصة الأولياء.
يقول تعالى: يا أيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [سورة الحج:77-78]، ويقول سبحانه: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين [سورة العنكبوت :69]، وفي الحديث عن النبي قال: ((المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله)) رواه أحمد.
أيها المسلمون: ثبت في صحيح مسلم رحمه الله، عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) الحديث، وفيه: ((يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم )).
وفيه أيضا: ((يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )). وقال : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)). الحديث رواه مسلم. وقال : ((خيركم من طال عمره وحسن عمله)).
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟)) وقال : ((عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحطّ عنك بها خطيئة)) رواه مسلم.
أيها المسلمون: إن العبد إذا جاهد نفسه على طاعة ربه، وكفَّها عن معصيته، وألزمها التوبة من التقصير في حقه، وصبر على ذلك ابتغاء مرضاته؛ رغبة في الثواب، وخوفا من العقاب، وتعظيماُ لله وإجلالاً، انقادت نفسه لذلك شيئاً فشيئاً حتى تألف الطاعة، وتتلذذ بالعبادة، وتتذوق حلاوة الإيمان، وتصبح المعاصي والمخالفات من أكره الأشياء إليها، فإن الله تعالى إذا علم من عبده حسن النية وصدق القول، والرغبة في الخير، ومحبة القيام بما أوجب الله عليه، وظهر ذلك على جوارحه، أعانه الله وسدده، وهيأ له أسباب الهداية، وفتح له خزائن الخير، وحفظه في سمعه وبصره وسائر أعضائه، فبارك له فيها وأعاذه من شرها.
قال تعالى: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم [الحجرات:7-8]. وبذلك تصبح النفس مطمئنة مبشرة بحسن الخاتمة، وهي على ظهر الأرض، يقال لها عند الموت: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي [سورة الفجر:27-30].
فعليكم عباد الله بالحرص على الطاعات كلها، والإخلاص لله تعالى وحسن أدائها. واحذروا المنهيات جميعها صغيرها وكبيرها، وما تقرب عبد إلى ربه تعالى بأحب مما افترض عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلى ربه بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه، ويقبل عليه، ويحفظه في سمعه وبصره وجوارحه، ويمن عليه باستعمالها فيما يرضيه، ويستجيب دعاءه، ويعيذه مما يؤذيه.
فأدوا عباد الله فرائض الطاعات، وكملوها بما شرع الله وحسنها من النوافل المستحبات، واجتنبوا المخالفات واتقوا الشبهات، ولازموا الاستغفار، واسألوا الثبات على الحق في الحياة وعند الممات وبعد الممات.
وعليكم بما يتعدى نفعه من الخير لعامة إخوانكم في الدين؛ كتعليم القرآن والسنة، وإرشاد الضال، وتذكير الغافل، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، وحسن الجوار، والحث على صحبة، الأخيار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتذكير الناس بواجب السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين بالمعروف في العسر واليسر والمنشط والمكره، ولو على أثره حتى ولو ضرب السلطان الظهر وأخذ المال، فقد كان النبي يبايع أصحابه على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
وقال : ((الدين النصيحة)) – ثلاثاً – قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم. وقال : ((عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك)) رواه مسلم. وقال: ((اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)).
وعليكم بإغاثة الملهوفين، وإعانة المحتاجين، والتيسير على المعسرين، والشفاعة في الخير لعامة المسلمين، ففي الصحيحين عن النبي قال: ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)). وفي صحيح مسلم: ((ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) وفي الصحيحين عنه قال: ((اشفعوا تؤجروا)).
واعلموا أن من أفضل أعمالكم التذكير بعبادة الله والدعوة إلى الله، كالأذان للصلوات الخمس. قال : ((لو يعلم الناس ما في النداء – يعني الأذان – والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) وأخبر : ((أن المؤذن يغفر له بمد صوته، ويستغفر له كل رطب ويابس سمع صوته، وله مثل أجر كل من صلى مستجيباً لدعوته)) وهو داخل في قوله تعالى: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين [فصلت:33].
وكذلك إمامة الناس بالصلاة، هو أهل لها بحسب الحال، من أفضل الأعمال، لما فيها من التأسي برسول الله ، وإعانة عباد الله على أعظم فرائض الله العملية، وأئمة المتقين في الدنيا هم أئمتهم في الآخرة، والصلاة رأس أعمال المتقين وأظهرها. وفي التنزيل: واجعلنا للمتقين إماماً [ سورة الفرقان:74]. وفيه: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ سورة السجدة:24].
وسأل بعض الصحابة النبي أن يجعله إمام قومه فقال: ((أنت إمامهم)). وأمر أن يؤم القوم أقرؤهم للكتاب وأعلمهم بالسنة، فلا ينبغي لمن يعلم أنه أهل للإمامة أن يتأخر عنه إذا لم يوجد من هو أفضل منه أو مثله. وفي الصحيح عن النبي : ((لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله، ولا يحق لأحد من العامة أن يؤم الناس وفيهم من هو أفضل منه)). روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((من أمَّ قوما وفيهم من هو أقرأ منه لم يزل في سفال إلى يوم القيامة)). وفي المسند وغيره عن سلامة بنت الحر رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((إن من أشراط الساعة أن يتدافع أهل المسجد إماماً يصلي بهم)).
أيها المؤمنون: ثبت عن النبي أنه قال: ((من دل على خير فله من مثل أجر فاعله)) ، وقال: ((من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)) ، وقال: ((من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء)).
فكونوا سباقين إلى الخيرات، أئمة لأهل الإسلام في الطاعات وترك السيئات، بادروا بالأعمال، فإنكم في زمن الإمهال؛ فإن الفرصة لا تدوم، وصححوا أعمالكم، وسددوا، وابنوها على الإخلاص للحي القيوم، ومتابعة الإمام المعصوم ، وابتعدوا عن الرياء والسمعة والمقاصد السيئة، ومجاملة الخلق، واعلموا أن الناقد بصير، وأن الله بما تعملون خبير: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبكم بما كنتم تعملون [سورة المؤمنون:105].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب ن فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه يحب التوابين وهو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/321)
خطر الابتداع واتباع الهوى
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى، ولا تتبعوا الهوى؛ فتضلوا عن الهدى، وإياكم وهذه الأهواء فإنها تورث العمى، وتجلب الشقاء، وتفسد الدين والدنيا والأخرى، فإنكم في زمان آثر الناس فيه الهوى، فأولعوا بالأهواء، وقد قال تعالى في محكم الكتاب: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب [سورة ص:26]، فإذا كان من الأنبياء من يحتاجون إلى موعظة بهذا الشأن، فكيف بمن دونهم ومن لا يذكر معهم؟! ولا سيما في هذا الزمان؛ ذلك لأن الهوى يعمي عن الحق ويصم ، ويهلك من انتشر بينهم من الأمم.
عباد الله: لقد تواترت النصوص من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح من هذه الأمة في الحث على لزوم طريق الهدى، والتحذير من البدع والأهواء، قال الله تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما ًفاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [سورة الأنعام:153]، وقال سبحانه: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ذلك خير وأحسن تأويلاً [سورة النساء:59].
وثبت من غير وجه في الصحيحين والمسانيد والسنن وغيرها من دواوين السنة أن النبي قال: ((خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)). وفي لفظ: ((أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وكل ضلالة في النار)).
وثبت عن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله يوما خطا ثم قال: ((هذا سبيل الله)) ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: ((هذه سبلٌ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ثم تلا قول الله تعالى: وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [سورة الأنعام :153] الآية.
وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما من نبي بعثه الله عز وجل في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره)) ، وفي رواية: ((يهتدون بهديه، ويستنون بسنته، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل)) ، والمقصود الحث على إنكار محدثات الأمور المخالفة لهدي النبي وسنته بحسب القدرة والحال، وأدنى ذلك الإنكار بالقلب؛ وذلك بكراهة المحدثات والحذر من أهلها في سائر الحالات.
وفي سنن الدارمي وغيره عن عرباض بن سارية قال: صلى لنا رسول الله صلاة الفجر، ثم وعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة – يعني لمن ولاه الله أمركم – وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها النواجذ، وإياكم والمحدثات؛ فإن كل محدثة بدعة)) ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((من أحدث في – أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
معشر المسلمين: ومما ورد عن السلف الصالح من الحث على اتباع الهدى، والتحذير من اتباع الهوى، والإصغاء لأهل الأهواء، قول ابن مسعود : أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول. قال: قال ابن مسعود: ستكون هنّات وهنات، فبحسب امرئ إذا رأى منكرا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره.
وقال عمر رضي الله عنه: إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تعالى. وقال أيضا : يهدم الإسلام زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين.
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أوصيكم بتقوى الله تعالى، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة رسوله ، وترك ما أحدثه المحدثون بعده.
وقال الحسن رحمه الله: سنتكم والله الذي لا إله إلا هو بينهما؛ بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما بقي الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا.
وسئل إبراهيم بن موسى رحمه الله عن هذه الأهواء؟ فقال: ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير، ما هي إلا نزغة من الشيطان، وعليك بالأمر الأول.
عباد الله: مما سبق يتبين لكم أن التنكر لمنهاج السلف الصالح في الأقوال والأفعال، وتنقص العلماء الأكابر، والتشهير بالحكام على المنابر، وتحديث العوام بما لا يعرفون، وإيغار الصدور والتهويل في الأمور للحكام، والتسبب في تفريق شمل المسلمين، والسعي في إفساد ذات البين، هي الحالقة التي تحلق الدين، والتشديد إلى حدِّ التكفير بما دون الشرك من الكبائر، وغض النظر عن دعاة الشرك والخرافة من كل وثني حائر، والاحتجاج بمتشابه القرآن، وترك الصحيح الصريح مما جاء عن النبي من بيان، والتعاطف مع مثيري الفتن، والتعاون مع كل حزبي نتن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة والدعوة لله على غير ما توجبه الشريعة، ومخالفة أصول عقيدة أهل السنة والجماعة في طاعة الأئمة ونصح الأمة، كل ذلك من أنواع المحدثات التي هي شر الضلالات وآثام المبتدعات ،وهي كفيلة بهدم الدين وجلب الشقوة على المسلمين. فاحذروا عباد الله هذه الأمور ودعاتها.
عن حذيفة أن النبي قال: ((اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق، فإنه سيجيء من بعدي قوم يرجِّعون القرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم)) ، وفي رواية قال: ((يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)).
نفعني الله وإياكم يهدي كتابه، وجعلنا من خاصة أوليائه وأحبابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/322)
الشفاعة
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الشفاعة, اليوم الآخر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشفاعة العظمى واعتذار الأنبياء عنها 2- أسعد الناس بشفاعة النبي
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد..
أحبتى فى الله:
هذا هو لقاءنا الحادى عشر مع السلسلة الكريمة فى رحاب الدار الآخرة وكنا قد وقفنا عند هذا المشهد المزلزل المروع: الناس جميعاً وهم فى أرض المحشر، وقد بلغ بهم ما بلغ من الهول والغم والكرب، فالزحام حينذاك يخنق الأنفاس، والشمس فوق الرؤوس بمقدار ميل، والناس غرقى فى عرقهم كل بحسب عمله وبحسب قربه من الملك القدير ويزيد المشهد الرهيب العصيف غماً فوق الغم وكرباً فوق الكرب بإتيان جهنم والعياذ بالله.
فقد سجل المولى فى قرآنه قال تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [ الفجر: 23 - 26 ].
وفى صحيح مسلم من حديث ابن مسعود أنه قال:
((يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) ( [1] ).
فإذا ما رأت الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب الله.
فحينئذ تجثوا جميع الأمم على الركب..
ولقد سجل القرآن هذا المشهد حيث قال الله تعالى:
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28].
وفى هذه اللحظة تطير قلوب المؤمنين شوقاً إلى الجنة، وتطير قلوب المجرمين فزعاً، وهلعاً، وهرباً من النار، ويعض صنف كثير من الناس فى أرض المحشر على أنامله تحسراً على ما قدم فى هذه الحياة الدنيا -ولكن- هيهات.. هيهات!!
قال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ للإِنْسَانِ خَذُولا [الفرقان:26-29].
فى هذا الكرب ينطلق بعض الناس ويقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟!! ألا ترون ما قد بلغنا ؟!! ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم ليقضى بينكم ؟!!
فلا يتقدم للشفاعة يومئذ إلا صاحبها. سيد ولد آدم محمد بن عبد الله وحينها يقول كل نبى نفسى.. نفسى!! ويقول حبيبنا محمد أنا لها، أنا لها.
وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أيدينا سريعاً فسوف ينتظم حديثنا فى هذا الموضوع فى العناصر الآتية :-
أولاً: الشفاعة العظمى.
ثانياً: من أسعد الناس بشفاعة المصطفى.
فأعرنى قلبك، وسمعك أيها الحبيب، والله أسأل أن يجعلنى وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أولاً: الشفاعة العظمى
روى البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة أنه قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)) ثم قال: ((هل تدرون مم ذاك؟!! يجمع الله الأولين والأخرين فى صعيد واحد فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعى وتدنو منهم الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس ألا ترون ما أنتم فيه، إلى ما بلغكم؟!! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم. فيأتونه فيقولون ياآدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: إن ربى غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهانى عن الشجرة فعصيت، نفسى، نفسى، نفسى... اذهبوا إلى غيرى. اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً، فيقولون: يانوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا عند ربك؟ فيقول: إن ربى غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كان لى دعوة دعوت بها على قومى، نفسى، نفسى، نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى إبراهيم... فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبى الله، وخليله فى أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك أما ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنى كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسى، نفسى، نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى. فيقولون: أنت رسول الله، فضلك برسالاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، أما ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنى قد قتلت نفساً لم أُومر بقتلها، نفسى، نفسى، نفسى اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلَّمت الناس فى المهد، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نفسى، نفسى، نفسى. اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمداً وفى رواية: فيأتونى - فيقولون: يامحمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فانطلق، فآتى تحت العرش، فأقع ساجداً لربى، ثم يفتح الله علىّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلى، ثم يقال: يامحمد، ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تُشفّع فأرفع رأسى، فأقول: ياربى أمتي)) ( [2] ).
فتعال معى أخى الحبيب نعيش مع بعض فقرات الحديث سريعاً:
لقد بلغ من الناس ما بلغ بهم من شمس تدنوا فوق الرؤوس بمقدار الميل، هم وكرب وغم مالا يطيقون ولا يتحملون.
فلما بلغ بهم الحال لهذا الحد العصيب الرهيب بلغ بهم المقال، فقال بعض الناس لبعض: ألا ترون ما نحن فيه، ألا ترون ما قد بلغنا؟ ألا تنظرون من يشفع لنا إلى ربنا ؟. فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم. فيأتون آدم عليه السلام فيقول آدم عليه السلام: نفسى، نفسى، نفسى اذهبوا إلى غيرى..!! اللهم سلم سلم يا أرحم الراحمين. فيأتون نوح عليه السلام. ذلكم العملاق الذى ظل يدعو إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما، ذلكم النبى الكريم الذى دعى قومه فى السر والعلن فى الليل والنهار فلم يستجيبوا إلا من رحم الله.
قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح:5-9]
ما ترك هذا النبى الكريم العملاق سبيلاً إلا وسلكه، ألف سنة إلا خمسين عاماً لم ينم، ولم يهدأ، ولم يقر له قرار، ومع ذلك يقول نبى الله نوح: نفسى، نفسى، نفسى... اذهبوا إلى غيرى..
ولقد دعى نبى الله نوح دعوته، فلكل نبى دعوة مستجابة، كل نبى تعجل بهذه الدعوة فى الدنيا إلا المصطفى كما فى صحيح مسلم ((لكل نبى دعوة مجابة، وكل نبى قد تعجل دعوته، وإنى اختبأت دعوتى شفاعة لأمتي يوم القيامة)) ( [3] ).
نوح دعى على قومه كما سجل القرآن، فقال تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27].
فيأتون إبراهيم عليه السلام فيقول خليل الله: إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ويذكر إبراهيم كذباته ثم يقول نفسى، نفسى، نفسى، اذهبوا إلى غيرى!!!
أتعرف ما هي كذبات إبراهيم؟!! كذباته!!.. وهل كذب إبراهيم؟!!
الجواب من صحيح البخارى من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: لم يكذب إبراهيم قط إلا ثلاث كذبات ثنتين فى ذات الله، قوله : إِنَّى سَقِيمُُ [الصافات:89] وقوله: بَل فَعَلَهُ كَبيرهُم هَذاَ [الأنبياء:63].
وواحدة فى شأن سارة، فإنه قدم أرض جبار، ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتى يغلبنى عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختى، فإنك أختى فى الإسلام، فإنى لا أعلم فى الأرض مسلماً غيرى وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، فأتاه، فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغى لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأتى بها، فقام إبراهيم إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدى ولا أضرك، ففعلت فعاد، فقُبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال: ادعى الله أن يطلق يدى، فلك الله أن لا أضرك ففعلت، وأطلقت يده، ودعا الذى جاء بها، فقال: إنك إنما جئتنى بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر، قال: فأقبلت تمشى، فلما رآها إبراهيم انصرف، فقال لها: مَهْيم، قالت: خيراً، كف الله يد الفاجر وأخدَمَ خادماً، فقال أبو هريرة: فتلك أمكم يابنى ماء السماء ( [4] ).
هذه كذبات إبراهيم التى ذكرها ثم قال: اذهبوا إلى غيرى... اذهبوا إلى موسى...!! إنه الكليم.. إنه المصطفى بالرسالة.. إنه المجتبى بالكلام إنه المصنوع على عين الله. وَلِتصْنَعَ عَلَى عَينِى [طه:39].
اصطفاه الله برسالته على جميع الخلق واصطفاه بالكلام على جميع الخلق ومع ذلك يقول: نفسى.. نفسى.. نفسى!! اذهبوا إلى غيرى.. اذهبوا إلى عيسى.
سبحان الله!! حتى الكليم يقول: اذهبوا إلى غيرى اذهبوا إلى عيسى!! فيأتون عيسى عليه السلام فيقول عيسى عليه السلام إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى غيرى نفسى، نفسى، نفسى، ولم يذكر عيسى عليه السلام ذنباً من الذنوب اذهبوا إلى محمد بن عبد الله.
يقول الحبيب فيأتونى فأقول: أنا لها، أنا لها.
يقول: فأقوم فأخر ساجداً لربى تحت العرش فينادي عليه الملك جل جلاله ويقول يامحمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فيقول الحبيب أمتي أمتي.. يا رب أمتي.
سبحان الله !! انظر كم حب الرسول لأمته !! إنه الحليم الأواه صاحب القلب الكبير صاحب القلب الرحيم الذى قال الله في حقه بِالمؤمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
قرأ يوماً قول الله فى إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ ابراهيم: 36 ]
وقرأ قول الله فى عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة: 118 ].
فبكى فأنزل الله إليه جبريل عليه السلام وقال: باجبريل سل محمد ما الذى يبكيك؟ - وهو أعلم-، فنزل جبريل وقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال أمتي.. أمتي يا جبريل، فصعد جبريل إلى الملك الجليل. وقال: يبكى على أمته والله أعلم، فقال لجبريل: انزل إلى محمد وقل له إنا سنرضيك فى أمتك ولا نسوءك فيقول: يا رب أمتي.. يا رب أمتي.. يا رب أمتي.
وفى حديث الصور الطويل الذى رواه الطبرى والطبرانى والبيهقى وأبو يعلى الموصلى وأورده السيوطى واستشهد به ابن أبي العز الحنفى، وللأمانة العلمية التى عاهدنا الله عليها فإن الحديث بطوله ضعيف، ففيه إسماعيل بن رافع وهو ضعيف كما قال أهل الجرح والتعديل وفيه محمد بن زياد وهو مجهول. وفيه ما يتفق مع سياق حديث أبى هريرة الذى ذكرته آنفاً.
يقول المصطفى : ((فأخر ساجداً تحت العرش فيقال لى: ما شأنك؟ وهو أعلم)) فيقول المصطفى : ((يارب وعدتنى الشفاعة فشفعنى فى خلقك فأقضِ بينهم، فيقول الله جل وعلا قد شفعتك... أنا آتيكم لأقضي بينكم)).
يقول المصطفى ((فأرجع لأقف مع الناس في أرض المحشر)). وتنتظر البشرية كلها مجىء الملك جل جلاله مجيئا يليق بكماله وجلاله، فكل ما ورد ببالك فالله بخلاف ذلك لَيسَ كَمثلهِ شَىءٌ وَهُو السَّميعُ البَصِيرُ.
فصفة النزول، وصفة المجىء، وصفة الإتيان، وصفة الغضب، صفات لله جل جلاله نثبتها كما جاءت من غير تحريف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].
قال علماؤنا: استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذى أراد، وبالمعنى الذى قال، استواءً منزهاً عن الحلول والانتقال.
فلا العرش يحمله ولا الكرسى يسنده، بل العرش وحملته والكرسى وعظمته، الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته.
فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
سأل رجل إسحاق بن راهويه وقال: يا إسحاق كيف تؤمنون بإله يتنزل كل ليلة من عرشه إلى السماء الدنيا ؟! فقال: يا هذا إن كنت لا تؤمن به فإننا نؤمن بإله يتنزل كل ليلة من عرشه إلى السماء الدنيا، ولا يخلو منه عرشه.
من كان منا يتصور أن النمل يتكلم، وما عرف ذلك وفهمه إلا يوم أن قرأ فى القرآن الكريم حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ [النمل-18].
من كان منا يتصور أن هناك شىء لا يمشى على رجليه وإنما يمشى على بطنه حتى رأيت الحية تمشى على بطنها وما شاكلها وهكذا.
من زعم أنه يعرف كيفية ذات الله جل وعلا فهو واهم لأنه سبحانه وتعالى يقول وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلمًا [طه:110].
جل جلاله.. لا ند له، ولا كفء له، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا مثيل له قُل هُو اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].
والسؤال: من الذى يشفع للبشرية كلها لفصل القضاء؟!!
لم يشفع للبشرية كلها لفصل القضاء إلا المصطفى.
أيها الموحدون: والله لا يعرف قدر رسول الله إلا الله.
إن قدر رسول الله عند الله لعظيم! وإن كرامة النبى عند الله لكبيرة!
فهو المصطفى وهو المجتبى فلقد اصطفى الله من البشرية الأنبياء واصطفى من الأنبياء الرسل واصطفى من الرسل أولى العزم واصطفى من أولى العزم الخمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد واصطفى محمد ففضله على جميع خلقه. شرح له صدره ورفع له ذكره ووضع عنه وزره وزكاه فى كل شىء :
زكاه فى عقله فقال سبحانه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [ النجم: 2].
زكاه فى صدقه فقال سبحانه: وَمَا يَنطِقُ عَن الهوىَ [ النجم: 3].
زكاه فى صدره فقال سبحانه: أَلم نَشْرح لَكَ صَدْرَكَ [ الشرح: 1].
زكاه فى فؤاده فقال سبحانه: مَاكَذَبَ الفُؤادُ مَارَأىَ [ النجم: 11].
زكاه فى ذكره فقال سبحانه: وَرَفعنَا لَكَ ذكْرَكَ [ الشرح: 4].
زكاه فى طهره فقال سبحانه: وَوَضعنَا عَنكَ وزْرَكَ [ الشرح :2 ].
زكاه فى علمه فقال سبحانه: عَلَّمَهُ شَديدٌ القُوىَ [ النجم: 5 ].
زكاه فى حلمه فقال سبحانه: بِالمؤمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ التوبة :128].
زكاه كله فقال سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلقٍ عَظِيمٍ [ القلم: 4 ].
بأبى هو وأمى... هو رجل الساعة، نبى الملحمة، صاحب المقام المحمود - الذى يغبطه عليه كل نبى فى أرض المحشر - الذى وعد الله به نبينا فى قوله :
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء-79].
فهذا هو المقام المحمود كما فى حديث مسلم من حديث أبى هريرة أنه قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر وأنا أول شافع وأول مشفع)) ( [5] ).
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة كذلك أنه قال: ((إن مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وُضِعَتْ هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)) ( [6] ).
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال: ((فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم (فهو البليغ الفصيح) ونصرت بالرعب - وفى لفظ البخارى ((مسيرة شهر)) - وأحلت لى الغنائم، وجعلت لى الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بى النبيون)) ( [7] ).
هذه مكانة النبى محمد ، بل لقد أنزل الله قرآناً يتلى ليربى وليعلم الصحابة كيف يتأدبون ويعظمون رسول الله وكيف يوقرون رسول الله وكيف يتأدبون حتى فى النداء على رسول الله.. ولكن الآن ما الذى حدث للأمة؟!!
فإن الأمة لم تعرف قدر نبيها إلا من رحم الله، ولم تعظم رسولها بل وقد أساءت الأدب مع رسول الله. فهجرت الأمة شريعته، وَنَحَّت الأمة سنته ولم تعد الأمة تجيد إلا أن تتغنى برسول الله فى ليلة مولد، فى ليلة هجرة، فى ليلة نصف من شعبان!!
فالأمة الآن ما عادت تجيد إلا الرقص والغناء، إنها عشقت الهزل وتركت الجد والرجولة، أمة تدعى الحب لرسول الله وتتغنى برسولها فى المناسبات والأعياد الوطنية فى الوقت الذى نحت فيه شريعته وهجرت فيه سنته ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أحبتى فى الله:
الشمس فوق الرؤوس، الزحام وحده يخنق الأنفاس، البشرية كلها فى أرض المحشر من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه الساعة، فى هذا الموقف الرهيب المهيب.
المصطفى واقف على حوضه، والحوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك عدد كيزانه بعدد نجوم السماء من شرب منه بيد الحبيب شربة لا يظمأ بعدها أبداً ( [8] ) حتى يتمتع بالنظر إلى وجه الملك فى جنات النعيم.
اللهم اسقنا منه شربة هنيئةً مريئةً لا نظمأ بعدها أبدا ياأرحم الراحمين.
روى البخارى من حديث سهل بن سعد الساعدى يقول النبى : ((أنا فرطكم على الحوض يوم القيامة فمن مر علىّ شرب ومن شرب لا يظمأ أبداً، وليردن على الحوض قوم أعرفهم ويعرفوننى ثم يحال بينى وبينهم)) وفى لفظ فى الصحيح ((ثم يختلجون دونى)) فأقول: ((إنهم من أمتي. إنهم من أمتي. فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدى)) ( [9] ).
ومعنى ذلك أن اتباع نهج المصطفى هو سبيل الفوز والنجاة.
انظر إلى الموحدين الذين امتثلوا أمر النبى ، ونهيه، وتعلم كيف كانوا حتى فى آخر لحظات لهم فى هذه الدنيا.
فهذا معاذ بن جبل على فراش الموت نائم يدخل عليه الليل ويشتد به الألم فينظر لأصحابه ويقول هل أصبح النهار؟! فيقولون: لا لم يصبح بعد، فيبكى معاذ بن جبل ويقول: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار.
معاذ بن جبل يخشى أن يكون من أهل النار!!!
وهذا هو فاروق الأمة الأواب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذى أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، يدخل عليه ابن عباس بعدما طُعِن ليذكره وليثنى عليه الخير كله فيقول عمر: إن المغرور من غررتموه، والله لو أن لى ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه. ثم قال عمر: وددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لى ولا علىّ.
سبحان الله!!
وهذه هى عائشة تسئل عن قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [ فاطر:32].
فتقول عائشة: يابنى أما السابق بالخيرات فهؤلاء الذين ماتوا مع رسول الله وشهد لهم رسول الله بالجنة، وأما المقتصد فهؤلاء الذين اتبعوا أثر رسول الله حتى ماتوا على ذلك وأما الظالم لنفسه فمثلى ومثلك.
الله أكبر!! جعلت عائشة نفسها معنا. جعلت عائشة نفسها من الظالمين لأنفسهم!!!
وهذا هو سفيان الثورى إمام الدنيا فى الحديث ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول: أبشر يا أبا عبد الله إنك مقبل على ما كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين.
فبكى سفيان وقال: أسألك بالله ياحماد أتظن أن مثلى ينجوا من النار؟!!
انظر كيف كانوا؟! وماذا قالوا؟
انظر إلينا كيف أصبحنا؟! وماذا نقول؟!
شتان.. شتان، نحن جميعاً نقول من منا لا يدخل الجنة؟!! من منا لا يشفع له رسول الله ؟!!
ها هو الحديث فى البخارى يبين فيه الحبيب النبى أنه سيحال بينه وبين أقوام حرَّفوا وبدَّلوا وانحرفوا عن سنته.
أسأل الله العظيم أن يغفر لنا ويرحمنا إنه ولى ذلك والقادر عليه.
وأقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم
_________
الخطبة الثانية
_________
ثانياً: من أسعد الناس بشفاعة المصطفى يوم القيامة؟
هذا هو عنصرنا الأخير فى هذا اليوم الكريم المبارك.
قال سبحانه وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].
ليقف كل مسلم صادق مع نفسه سائلاً: هل امتثلت أمر الرسول ؟ هل اجتنبت نهيه ؟! هل ارتبط اللسان بالجنان والجوارح ؟!
هل التزمت بهدى النبى فى شتى الأمور بحب واتباع وإخلاص !!
يفد من هديه فسفاهةُُ وهراءُ
من يَدَّعِ حُبَّ النبى ولم
إن كان صدقاً طاعةُُ ووفاءُ
فالحب أول شرطه وفروضه
أخى فى الله: من أسعد الناس بشفاعة الرسول يوم القيامة؟
والجواب مباشرة من صحيح البخارى: قال أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال المصطفى ((لقد ظننت أنه لا يسألنى عن هذا السؤال أحد قبلك لما رأيت من حرصك على الحديث ياأبا هريرة. أسعد الناس بشفاعتى من قال لا إله إلا الله خالصاً مخلصاً من قلبه)) ( [10] ).
وفى رواية ابن حبان ((أسعد الناس بشفاعتى من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه))
وفى صحيح مسلم أنه قال: ((لكل نبى دعوة مستجابة وإنى اختبأت دعوتى شفاعةً لأمتي، فهى نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)) ( [11] ).
إذاً حتى يشفع لك رسول الله يوم القيامة يجب توفر شرط هام جداً هذا الشرط أن تحقق التوحيد. أن تقول كلمة التوحيد خالصة من قلبك.
فمن الناس الآن من يردد هذه الكلمة بلسانه ولا يدرى ما يقول، ومن الناس من لم يخلص العبادة لله جل وعلا بل راح يصرف العبادة لغير الله.
فهو لا يعرف لكلمة التوحيد معنى ولا يقف لها على مضمون ولا يعرف لها مقتضى.
ومن الناس من يردد بلسانه: لا إله إلا الله وقد انطلق حراً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج الأرضية والقوانين الوضعية الفاجرة ما يوافق هواه.
ومن الناس من ينطق بالكلمة ولا يتبع منهج الحبيب محمد !!
ومن الناس من يردد كلمة لا إله إلا الله وهو لم يحقق الولاء والبراء !!
ومن الناس من يردد بلسانه كلمة لا إله إلا الله وقد ترك الصلاة وضيع الزكاة وضيع الحج مع قدرته واستطاعته، وأكل الربا، وشرب الخمر، وأكل أموال اليتامى، يسمع الأمر فيهز كتفه فى سخرية وكأن الأمر لا يعنيه، يسمع المواعظ فيهزأ وكأن الأمر لا يعنيه!!
فلابد من إخلاص التوحيد، كلمة التوحيد ليست مجرد كلمة يرددها الإنسان بلسانه وفقط، بل إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان.
ليس الإيمان بالتمنى ولا بالتحلى ولكن الإيمان ما وقر فى القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قُبِلَ منه. ومن قال خيراً وعمل شراً لم يُقْبَل منه.
وفى الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أن النبى قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) ( [12] ).
وفى رواية عتبان بن مالك: ((فإن الله حَرَّمَ على النار من قال لا إله إلا الله يبتغى بها وجه الله)).
والله لن يسعد بشفاعة المصطفى إلا من أخلص التوحيد للعزيز الحميد واتبع المصطفى وأخلص له الاتباع.
ففى الحديث الذى رواه مسلم والترمذى واللفظ للترمذى من حديث أنس أن النبى قال: قال الله تعالى فى الحديث القدسى: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم لو أتيتنى بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) ( [13] ).
إنه التوحيد.. فأسعد الناس بشفاعة الحبيب النبى من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، فكلمة التوحيد قد قيدت بشروط ثقال عند قبولها من الملك المتعال.
فهى شجرة طيبة جذورها الحب والإخلاص وساقها اليقين والقبول وأوراقها الانقياد ومن غير الماء والضوء لاتعيش، فالعلم لها ضوء والصدق لها ماء.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا. إنه ولى ذلك والقادر عليه.
( [1] ) رواه مسلم رقم (2742) ، فى صفة الجنة.
( [2] ) رواه البخارى رقم (3340) فى الأنبياء ، ومسلم رقم (194) فى الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ، والترمذى رقم (2436) فى صفة القيامة ، باب ماجاء فى الشفاعة.
( [3] ) رواه البخارى تعليقاً فى الدعوات ، باب لكل نبى دعوة ، ورواه مسلم رقم (200) فى الإيمان ، باب اختباء النبى صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته.
( [4] ) رواه البخارى (3358) فى الأنبياء ، باب قول الله تعالى : (واتخذ الله إبراهيم خليلا) ، ومسلم رقم (2371) فى الفضائل ، باب من فضائل إبراهيم الخليل ، وأبو داود رقم (2212) فى الطلاق باب فى الرجل يقول لامرأته : ياأختى ، والترمذى رقم (3165) فى التفسير باب ومن سورة الأنبياء.
( [5] ) رواه مسلم رقم (2278) فى الفضائل ، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق ، وأبو داود رقم (4763) فى السنة ، والترمذى رقم (3615) فى المناقب.
( [6] ) رواه البخارى (3535) فى المناقب ، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، ومسلم رقم (2286) فى الفضائل ، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين.
( [7] ) رواه البخارى رقم (2977) فى الجهاد ، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : نُصرت بالرعب مسيرة شهر ، ومسلم رقم (523) فى المساجد فى فاتحته ، والترمذى رقم (1553) فى السير ، والنسائى (6/3،4) فى الجهاد.
( [8] ) رواه البخارى رقم (6579) فى الرقاق ، باب حوض النبى ، ومسلم رقم (2292) فى الفضائل ، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم.
( [9] ) رواه البخارى (6576) فى الرقاق ، باب فى الحوض ، ومسلم رقم (2304) فى الفضائل باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم.
( [10] ) رواه البخارى (99) فى العلم ، باب الحرص على الحديث.
( [11] ) سبق تخريجه.
( [12] ) رواه البخارى (3435) فى الأنبياء ، باب قول الله تعالى ) ياأهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ، ومسلم رقم (2640) فى الإيمان ، باب م اجاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله.
( [13] ) رواه الترمذى رقم (3534) فى الدعوات ، باب رقم (106) ، وحسنه شيخنا الألبانى فى الصحيحة رقم (127) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (4338).
(1/323)
فضل لين القلوب ورقتها وأسبابه
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية القلب بالنسبة للجوارح 2- الأمور التي تُليّن القلوب وتُرقّقُها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واجتهدوا في الأخذ بما فيه صلاح قلوبكم وأعمالكم؛ فإن القلب هو محل نظر الله من العبد، وبصلاحه تستقيم الجوارح، وتصلح الأعمال، وتسدد الأقوال، ففي الصحيح عن النبي قال: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه مسلم. وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله قال: ((إن الحلال بيِّن وإن الحرام بين)) الحديث، وفيه قال : ((ألا وإن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)).
وكم في الكتاب والسنة من آيات صريحة وأحاديث صحيحة اشتملت على التنويه بشرف القلب الصالح وأن صلاحه أصل كل عمل صالح ذلكم يا عباد الله لأن القلب هو أشرف ما في الإنسان، ومحل العلم منه والعرفان، فإذا صلح قلب المرء استنارت بصيرته، وطابت سريرته، وخلصت نيته، وعظمت في الله معرفته، وامتلأ من تعظيم الله وهيبته، وخوفه ومحبته، ورجائه وخشيته؛ ولهذا بعثت إليه الرسل من الرحمن، وخوطب بالقرآن؛ لإخلاص التوحيد وتحقيق الإيمان، وكان أشرف العطايا وأجل المنح، والمبارك على الجسد إذا صلح، وإنما الجوارح أتباع للقلب يستخدمها استخدام الملوك للعبيد، فسبحان مقلب القلوب ومودعها ما يشاء من الأسرار والغيوب، الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما ينطوي عليه من طاعته وأسباب حبه؛ ولذا كانت أكثر يمين النبي : ((لا، ومقلب القلوب)) ، ومن مأثور دعائه: ((اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك)) وكان أكثر دعائه: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)).
أيها المسلمون: إن القلب الصالح هو الخاشع اللين الوجل عند ذكر الله، الرحيم الرقيق لعباد الله، وهو الموعود بكل خير من الله في دنياه وأخراه: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم [سورة الأنفال:2-4].
الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب [سورة الرعد:28-29].
وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله قال ذات يوم في خطبته: ((ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا)) الحديث. وفيه قال : ((وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)) رواه مسلم.
عباد الله: إن القلوب اللينة الرقيقة الرحيمة الوجلة هي القلوب الصالحة القريبة من الله، التي تخشع إذا سمعت القرآن يتلى؛ فتنتفع بالذكرى، وتزداد من الهدى، وتشتمل على التقوى، وتلكم هي القلوب المرحومة التي تحرم أجسادها على النار، وتفتح لها أبواب الجنة، ونعم دار المتقين الأخيار.
فخذوا عباد الله بأسباب لين القلوب، واسألوا الله أن ينفعكم بها؛ فيلين قلوبكم حتى ترحموا وعلى النار تحرموا وبلقاء ربكم وجنته تفرحوا.
أيها المسلمون: إن تلاوة القرآن واستماعه رغبة في الهدى، وطلباً للزلفى، من أعظم أسباب لين القلوب ورقتها؛ قال تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد [سورة ق:37]. وقال تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء [سورة الزمر:23].
ومن أعظم ما يلين القلوب ويذهب قسوتها ذكر الموت، وشهود الجنائز، وزيارة القبور، قال : ((أكثروا ذكر هادم اللذات)). وجعل الصلاة على الجنازة وتشييعها إلى المقبرة من حقوق المسلم على أخيه؛ لما يترتب عليها من لين القلب، والتزهيد في الدنيا. وقال : ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ؛ فإنها تذكركم الآخرة)).
ومن أعظم ما يلين القلوب كثرة ذكر الله، وحضور مجالس الذكر؛ فإنها تجلو عن القلوب صداها، وتذكرها بحقوق مولاها، وتحرضها على شكر نعماها، والتوبة إلى الله من خطاياها. قال تعالى: الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب [سورة الرعد:28-29].
ومن أعظم أسباب لين القلوب زيارة المرضى، ومخالطة المساكين والفقراء والضعفاء، والاعتبار بحال أهل البلاء.
ولهذا قال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً [سورة الكهف:28]. وقال : ((انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)).
ومن أعظم ما يلين القلوب الاعتبار بما جرى ويجري على المكذبين من الماضين والمعاصرين من أنواع العقوبات وشديد الأخذات، قال تعالى: فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور [سورة الحج:45-46].
معشر المؤمنين: وأسباب لين القلوب ورقتها كثيرة، وهي بحمد الله محبوبة ميسورة، ومن أهمها: أكل الحلال، والتقرب إلى الله بنوافل الأعمال، والإلحاح على الله بالدعاء، والعطف على المساكين والأيتام والضعفاء، والرحمة بالحيوان، ومجالسة أهل العلم والإيمان، وكل ذلك بحمد الله من أبواب الخير وخصال البر، من تحراها وجدها ومن أخذ بها حمدها.
فاتقوا الله عباد الله، وتحروا ما يلين قلوبكم ويحييها، واحذروا من كل ما من شأنه أن يظلم بصيرتها ويقسيها؛ فإنكم إلى ربكم منقلبون، وبأعمالكم مجزيون، وعلى تفريطكم نادمون: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [سورة الشعراء:227].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه يحب التوابين وهو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/324)
الشمس والدابة الدخان والخسوف
الإيمان
أشراط الساعة
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طلوع الشمس من مغربها 2- الدابة 3- الدخان 4- الخسوف الثلاثة 5- كيفية حشر الناس
6- هدم الكعبة على يد الحبشة
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتى فى الله:
هذا هو لقاءنا السابع مع السلسة الكريمة فى رحاب الدار الآخرة وما زلنا بحول الله ومدده نتحدث عن العلامات الكبرى للساعة والتى ذكرها الحبيب المصطفى فى حديثه الصحيح الذى رواه مسلم من حديث حذيفة ابن أسيد الغفارى رضى الله عنه قال: اطلع علينا النبى ونحن نتذاكر فقال المصطفى : ((ما تذاكرون)) قالوا: نذكر الساعة، فقال : (( إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تسوق الناس إلى محشرهم)) ( [1] ).
وسأتحدث اليوم إن شاء الله تعالى عن بقية العلامات الواردة فى الحديث نظراً لأن المادة العلمية الصحيحة فى بقية هذه العلامات قليلة. طلوع الشمس من مغربها
أيها الأحبة الكرام:
إن الشمس منذ أن خلقها الله عز وجل تشرق من المشرق وتغرب فى المغرب بصورة متكررة منتظمة لا تتخلف يوماً ولا تتأخر بصورة تطالع الأنظار والمدارك لتستنطق الفطرة السوية للإنسان بوحدانية الرحيم الرحمن، قال جل وعلا:
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُل فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون [ يس: 38-40]
لا ريب أنها أية من الآيات التى تستنطق الفطرة السليمة النقية بوحدانية الله جل وعلا، علامة بارزة على قدرة الله.
ولذا نرى نبى من أنبياء الله - خليل الله إبراهيم - قد تحدى بهذه الآية طاغوتاً من طواغيت أهل الأرض وسجل الله جل وعلا ذلك فى كتابه الحكيم:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].
انظر أيها الحبيب كيف تحدى الخليل الطاغية النمرود بن كنعان، إذ يقول إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.
فيرد الجاهل الطاغية المجرم: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.
ولكن أين يذهب هذه الغر الجاهل أمام نور النبوة الباهر، إذ قال له الخليل بذكاء النبوة ونورها الباهر: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
فالشمس منذ خلقها الله تشرق من الشرق وتغرب فى الغرب بصورة منتظمة متكررة لا تكاد تتخلف أو تتأخر فى يوم من الأيام حتى إذا جاء الوعد الموعود استأذنت الشمس ربها أن تشرق كعادتها من المشرق فلا يأذن لها!!
ففى صحيح مسلم من حديث أبى ذر الغفارى رضى الله عنه أن النبى قال لأصحابه يوماً والشمس تغرب: (( أتدرون أين تذهب هذه الشمس ؟!)) قالوا الله ورسوله أعلم فقال المصطفى : ((إن هذه تجرى حتى تنتهى إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة لله جل وعلا فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعى، ارجعى من حيث جئت، فترتفع، فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجرى حتى تنتهى إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة لله عز وجل فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعى ارجعى من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ( أى المشرق ) فلا تزال كذلك لا يستنكر الناس منها شيئاً حتى تجرى ثم تستقر فى مكانها تحت العرش فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعى، ارتفعى اصبحى طالعة من مغربك، فتصبح الشمس طالعة من مغربها)) ( [2] ).
لا تتعجب فكل شئ فى هذه الكون يسجد لله.
قال جل فى علاه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18].
فكل شئ فى الكون يسجد لرب الأرض والسماوات إلا كفرة الجن والإنس.
انظر إلى الكون كله من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه لتتعرف على وحدانية الله، وعظمة الخالق جل فى علاه.
انظر إلى السماء وارتفاعها، والأرض واتساعها، والجبال وأثقالها والأفلاك ودورانها، والبحار وأمواجها.
انظر إلى كل متحرك وساكن، والله إن الكل يقر بتوحيد الله ويعلن السجود لله ولا يغفل عن ذكر مولاه إلا من كفر من الجن والإنس ولا حول ولا قوة إلا بالله.
انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة
كيف نمت من حبة وكيف صارت شجرة
ابحث وقل:
من ذا الذى يخرج منها الثمرة؟! ذاك هو الله
الذى أنعمه منهمرة ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة
وانظر إلى الشمس التى جذوتها مستعرة فيها ضياء وبها حرارة منتشرة
ابحث وقل:
من ذا الذى يخرج منها الشررة؟! ذاك هو الله
الذى أنعمه منهمرة ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة
الشمس والبدر من آيات قدرته والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت الصخور الصم قدسه والنحل يهتف له حمداً فى خلاياه
والناس يعصونه جهرا فيسترهم والعبد ينسى وربى ليس ينساه
اصبحى أيتها الشمس طالعة من المغرب فتسرع الشمس على الفور لتنفيذ أمر العزيز الحميد فتصبح طالعة من المغرب، انظر إلى هذا العجب !!
وضح هذه المعنى رواية ابن مردويه بسند حسن بالشواهد من حديث عبد الله بن أبى أوفى أن الصادق المصدوق قال: ((يأتى على الناس ليلة تعدل ثلاث ليالٍ من لياليكم، فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون، يقوم أحدهم فيقرأ حزبه ثم ينام ثم يقوم فيقرأ حزبه، ثم ينام فيفزعون إلى المساجد فإذا هم يرون الشمس قد طلعت من مغربها )) ( [3] ).
انظر ماذا قال المصطفى الكريم فإذا كان كذلك يعرفها المتنفلون: أى يعرفها القائمون بالليل لله رب العالمين !
الله أكبر!!!.. ما الذى يترتب على هذه الآية العظيمة ؟!
الذى يترتب على ذلك أن المصطفى قال فى رواية أبى ذر التى ذكرتها آنفا قال:
((أتدرون متى ذاكم؟!)) أى أتدرون متى تطلع الشمس من مغربها ؟! قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذاك حين لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [ الانعام: 158 ] )).
قال المصطفى ((إذا طلعت الشمس من مغربها ورآها الناس آمنوا كلهم أجمعون )) ( [4] ).
ولكن هيهات هيهات !!.
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أنه قال: ((ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيراً، طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض)) ( [5] ).
أيها الحبيب أذكر نفسى وأذكرك بالمبادرة بالتوبة والأوبة إلى الله عز وجل قبل أن يغلق الله باب التوبة علينا.
فإن المصطفى يقول والحديث رواه أحمد بسند صحيح قال: ((لا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت من مغربها طبع على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل)) ( [6] ).
أيها اللاهى.. أيها الساهى.. أيها الغافل.. أيها المضيع للتوحيد.. أيها المضيع للصلاة.. أيها المضيع للزكاة.. أيها العاق لوالديه.. أيها المنصرف عن الله:
واذكر ذنوبك وأبكها يا مذنب
دع عنك ما قد فات فى زمن الصبا
بل أثبتاه وأنت لاه تلعب
لم ينسه الملكان حين نسيته
ستردها بالرغم منك وتسلب
والروح منك وديعة أودعتها
دار حقيقتها متاع يذهب
وغرور دنياك التى تسعى لها
أنفاسنا فيهما تعد وتحسب
الليل فاعلم والنهار كلاهما
قال المصطفى : كما فى صحيح مسلم من حديث أبى موسى الأشعرى:
((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) ( [7] ).
هنيئاً لمن طلعت الشمس عليه من مغربها وهو مستقيمُ على طاعة الله، اللهم اجعلنا من أهل التوحيد والإيمان والاستقامة ووفقنا للعمل الصالح الذى يرضيك يا رب العالمين.
قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32]. الدابة :
قال جل وعلا: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرض تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82].
دابة تتكلم !! دابة تنطق !! تكلم الناس كلاماً مفهوماً واضحاً، بل وتقيم عليهم الحجة وتذكرهم بأنهم كانوا لا يوقنون بآيات الله وكانوا لا يصدقون بها.
قال المصطفى والحديث رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر: ((أول أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى، فأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريباً)) ( [8] ).
الدابة أمر عجب.. أمر مذهل.. لو تدبرته كاد قلبك أن ينخلع، دابة تخرج تجوب الأرض كلها، تفرق الدابة بين المؤمن والكافر، وتعلم المؤمن بعلامة وتعلم الكافر بعلامة، تسم الكافر على أنفه فيسود وجهه، وتسم المؤمن فيضئ وجهه كأنه كوكب درى.. أمر عجب !!
ورد فى الحديث الذى رواه أحمد فى مسنده وصححه شيخنا الألبانى أن الحبيب النبى قال: ((تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم)) ( [9] ) أى تعلم الناس على الأنوف.
بل وخذ هذا الحديث العجيب الذى رواه أحمد فى المسند والترمذى فى السنن وللأمانة العلمية التى اتفقنا عليها وأَصَّلناها من قبل أقول إن الشيخ الألبانى - حفظه الله – قد ضعف إسناد الحديث ومدار تضعيف الألبانى على علىّ بن زيد بن جدعان قال الألبانى فيه ضعف إلا أن العلامة أحمد شاكر قد صحح إسناد الحديث فقال على بن زيد بن جدعان مختلف فيه والراجح توثيقه وقال عن الحديث الإمام الترمذى حديث حسن قال : ((تخرج الدابة ومعها عصى موسى وخاتم سليمان فتسم أنف الكافر - أى تعلم أنف الكافر - وتجلو وجه المؤمن)) ويضئ وجه المؤمن كأنه كوكب درى، ((حتى أن أهل الخوان الواحد - أى المائدة - يجتمعون على طعامهم فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر)) ( [10] ). لأن الدابة بينت وأوضحت الحقيقة وميزت المؤمن من الكافر.
غالى بعض المصنفين - أقولها بصراحة - فى وصف الدابة وأعطوا لخيالهم العنان فوصفوا الدابة وصفاً درامياً خيالياً عجيباً، فمنهم من قال رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد وقوائمها قوائم بعير إلى آخر هذا الوصف الدرامى.
( [1] ) رواه مسلم رقم (2901) ، فى الفتن، باب ما يكون من فتوحات المسلمين قبل الدجال ، وأبو داود رقم (4311) ، فى الملاحم ، باب أمارات الساعة ، والترمذى رقم (2184) ، فى الفتن ، باب ما جاء فى الخسف.
( [2] ) رواه البخارى رقم (4802) ، فى تفسير سورة يس ، وفى بدء الخلق ، باب صفة الشمس والقمر ، ومسلم رقم (159) ، فى الإيمان ، باب بيان الزمن الذى لا يقبل فيه الإيمان ، والترمذى رقم (3225) ،فى التفسير ، باب ومن سورة يس.
( [3] ) رواه ابن مردويه بسند حسن.
( [4] ) رواه البخارى رقم (6506) ، فى الرقاق ، باب قول النبى : ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ، ومسلم رقم (157) ، فى الإيمان ، باب بيان الزمن الذى لا يقبل فيه الإيمان ، وأبو داود رقم (4312) ، فى الملاحم ، باب أمارات الساعة.
( [5] ) رواه مسلم رقم (158) ، فى الإيمان ، باب بيان الزمن الذى لا يقبل فيه الإيمان ، والترمذى رقم (3074) ، فى التفسير ، باب ومن سورة الأنعام.
( [6] ) رواه أبو داود ، فى البيعة ، باب ذكر الاختلاف ، وصححه الألبانى ، فى الإرواء (1208) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (7469).
( [7] ) رواه مسلم رقم (2760) ، فى التوبة ، باب غيرة الله تعالى ، وهو فى صحيح الجامع رقم (1871).
( [8] ) رواه مسلم رقم (2941) ، فى الفتن ، باب خروج الدجال ومكثه فى الأرض ، وأبو داود رقم (4310) فى الملاحم ، باب أمارات الساعة.
( [9] ) رواه أحمد رقم (22209) ، وأبو داود ، وهو فى صحيح الجامع رقم (2927).
( [10] ) رواه وأبو داود رقم (3186) فى التفسير ، باب ومن سورة النمل.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: الدخان :
والدخان هو آخر العلامات التى سيشهدها المؤمن على ظهر الأرض، وبقية العلامات هذه لا يراها المؤمن ولا يشهد عذابها الموحدون، بل هذه العلامات التى سأذكرها الآن لا تقوم إلا على الكفرة الفجرة من شرار الخلق.
الدخان علامة كبرى:
قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: إن هذا الدخان كان علامة من العلامات التى وقعت فى الدنيا بدعاء النبى على المشركين.
والدخان هنا قد وقع بالفعل ولكن الدخان الوارد فى حديث حذيفة بن أسيد الغفارى الذى هو علامة من علامات الساعة الكبرى، يختلف تمام الاختلاف عن هذه العلامة التى رآها المشركون فى مكة بدعاء الصادق المصدوق قال تعالى فى حق هذه العلامة: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ( [1] ) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11].
إذا خرج الدخان لا يقبل الله التوبة كما ذكرت.
فإذا خرج الدخان يبعث الله ريحاً ألين من الحرير تقبض هذه الريح أرواح المؤمنين من على ظهر الأرض، فلا يبقى على ظهر الأرض مؤمن.
يقول المصطفى : ((فلا تدع أحداً فى قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته ويبقى على الأرض شرار الخلق)) ( [2] ) الكفرة الفجرة ممن لا يؤمن بالله عز وجل.
كما فى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أن النبى قال: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)) ( [3] ).
فى رواية مسلم من حديث أنس أنه قال: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله)).
لا يقال فى الأرض (الله) لأن الموحدين قد قبضوا فلا يبقى إلا الكفرة وهؤلاء لا يعرفون الله ولا يوحدون الله جل وعلا وعلى هؤلاء تقوم الساعة بل تظهر بقية العلامات الكبرى التى هى عذاب فى عذاب وبلاء فى بلاء.
ما هى هذه العلامات ؟!! الخسوف الثلاثة
الخسف الأول بالمشرق:
يقع الخسف بالمشرق والخسف كما هو معلوم انشقاق الأرض قال تعالى حكاية عن قارون: فَخَسفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ [القصص:81].
فيقع خسف بالمشرق على شرار الخلق بعد أن قبض الله أرواح المؤمنين.
الخسف الثانى بالمغرب والخسف الثالث بجزيرة العرب، وبعد هذه الخسوف تخرج العلامة الأخيرة من علامات الساعة الكبرى ألا وهى نار تخرج من قعر مدينة عدن (المعروفة الآن باليمن) فتطرد الناس جميعاً إلى محشرهم.
وفى رواية البخارى من حديث أنس أن عبد الله بن سلام رضى الله عنه قال: لما نظرت إلى وجه النبى عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فآمن بالنبى - والشاهد.. أن عبد الله بن سلام سأل النبى عن أسئلة جيدة من بين هذه الأسئلة سأله عن أول أشراط الساعة فقال المصطفى : ((نار تخرج من قعر عدن تحشر الناس من المشرق إلى المغرب)) ( [4] ).
وقد يلمح طالب العلم الفطن تعارضاً ظاهراً بين النصين لكن لا تعارض فقول المصطفى فى رواية حذيفة: ((وآخر ذلك نار)) أى أنها العلامة التى إن وقعت وقعت القيامة بعدها بالنفخ فى الصور والبعث من القبور.
يقول المصطفى والحديث رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة: ((يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير وعشرة على بعير، ويحشُرُ بَقيَّتَهُم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسى معهم حيث أمسوا)) ( [5] ).
قال القرطبى الحشر هو الجمع وهو أربعة أنواع الحشر الأول والثانى فى الدنيا والحشر الثالث والرابع فى الآخرة.
أما الحشر الأول: فهو المذكور فى قوله تعالى فى سورة الحشر: مَا ظَنَنتُم أَن يخْرُجُوا [الحشر:2].
الحشر الثانى: هو الحشر الوارد فى حديث حذيفة وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم، إذاً حشر النار للناس لا يكون إلا فى الدنيا.
الحشر الثالث: حشر الناس من القبور وغيرها بعد البعث.
الحشر الرابع: حشر الناس إلى الجنة أو إلى النار نسأل الله أن يجعلنى وإياكم من أهل الجنان.
إذ الذى عليه جمهور المحققين من العلماء أن الحشر الوارد فى حديث حذيفة الذى هو علامة من علامات القيامة الكبرى لا يكون إلا فى الدنيا والدليل الصحيح الصريح على ذلك أن النبى قد ذكر أن الحشر فى الآخرة يحشر فيه المؤمنون والكافرون حفاة عراة غرلا كما فى الصحيحين من حديث عائشة أن النبى قال: ((تحشرون حفاة عراة غرلا)) قالت عائشة يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال المصطفى : ((يا عائشة الأمر أشد من أن يهمهم ذلك)) ( [6] ).
وفى رواية أنس قال: (( يا عائشة لقد نزلت على آية لا يضرك أكان عليك ثياب أم لا)) فتلى النبى لِكلِ امْرِئِ يَومَئذٍ شَأنٌ يغْنِيهِ [ عبس: 37 ].
مثل وقوفك يوم العرض عُريانا مستوحشاً قلق الأحشاء َحْيرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك ياعبدُ على مَهَلٍ فهل ترى فيه حرفاً غير ما كان
فلما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتى وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
المشركون غداً فى النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلدُ سُكَّانا
وهكذا تنتهى علامات الساعة الكبرى التى ذكرها المصطفى فى حديث حذيفة بن أسيد الغفارى الذى كنا معه طيلة اللقاءات الأربع الماضية لكن هناك علامة أخرى عجيبة غريبة قد تنزل الآن على القلوب فتهز القلوب هزاً لم ترد فى حديث حذيفة، ترى ما هى هذه العلامة العجيبة الغريبة ؟!!
إنها هدم الكعبة الشريفة حجراً حجرا..
الكعبة بيت الله الذى تهوى إليه الأفئدة وتحن القلوب إليه الذى قال فى حقه علام الغيوب:
وَإِذْ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمنًا [البقرة: 125].
مثابة للناس: أى لا يملون منه كلما نظروا إليه وإذا انصرفوا عنه تجدد الشوق إليه وازداد الحنين لزيارته ورؤيته.
إن من علامات الساعة الكبرى هدم البيت الحرام ونقضه حجراً حجرا.
قلت قبل ذلك: أن عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما ينزل إلى الأرض يقتل الدجال عليه من الله ما يستحقه، ويدعو الله أن يهلك يأجوج ومأجوج فيستجيب الله دعاءه، فيهلك يأجوج ومأجوج ويرسل المطر فنقى الأرض، فأصبحت كالزُلقة أو الزَلقة أو الزُلفة أو الزَلفة أى كالمرآة فى صفائها ونقائها، خرجت البركة من الأرض تنزلت الرحمات وحلت البركات، وعاش الناس فى أمن وسلام فى وجود نبى الله عيسى، فيذهب نبى الله عيسى ليحج البيت الحرام.
إذاً معنى ذلك أن يبقى الحج حتى فى عهد نبي الله عيسى، فإذا ما قدر الله على عيسى الموت.
فيموت نبى الله عيسى فى المدينة المنورة ويصلى عليه المسلمون من أمة محمد ويدفنون نبى الله عيسى مع الحبيب المصطفى فى الحجرة المباركة، وبعد ذلك تقع العلامات التى ذكرت الآن ولا يبقى إلا شرار الخلق، تمحى آيات الله من المصحف، لا يقول أحد كلمة لا إله إلا الله فلا يحجون البيت بل ولا يعرفون عن البيت شيئاً، من بين هؤلاء الأشرار رجل من الحبشة، هل تصدق أن الحبيب وصف شكله وكأنه ينظر إليه وهو يهدم الكعبة ؟؟
يقول المصطفى : ((لا تقوم الساعة حتى يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة)) ( [7] ).
رجل يقال له ذو السويقتين من الحبشة، بل وفى رواية البخارى من حديث ابن عباس قال المصطفى: ((كأنى أنظر إليه أسود أفحج ( [8] ) ينقض الكعبة حجراً حجرا)) ( [9] ).
وبهذا تنتهى الحياة الدنيا بحلوها ومرها، بحلالها وحرامها، بخيرها وشرها ولا يبقى إلا الكفرة من شرار الناس وعليهم تقوم الساعة وذلك بعد أن يأمر الله جل وعلا إسرافيل أن يلتقم الصور وأن ينفخ النفخة الأولى ألا وهى نفخة الفزع مصداقاً لقوله جل وعلا: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرض إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل:87].
وأقف عند هذه المشهد لأواصل الحديث إن شاء الله تعالى عن بقية المراحل التى تأخذ القلوب والألباب والله أسأل أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض.
....... الدعاء.
( [1] ) مبين : واضح بيّن.
( [2] ) رواه مسلم رقم (1924) ، فى الإمارة ، باب قوله : ((لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)).
( [3] ) رواه مسلم رقم (2949) ، فى الفتن ، باب قرب الساعة.
( [4] ) رواه البخارى ، فى الهجرة فى قصة إسلام عبد الله بن سلام.
( [5] ) رواه البخارى رقم (6522) ، فى الرقاق ، باب كيف الحشر ، ومسلم رقم (2861) ، فى الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، والنسائى (4/115،116) فى الجنائز ، باب البعث.
( [6] ) رواه البخارى رقم (6527) ، فى الرقاق ، باب الحشر ، ومسلم رقم (2859) ، فى الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، والنسائى (4/114) ، فى الجنائز باب البعث.
( [7] ) رواه البخارى رقم (1596) ، الحج ، باب هدم الكعبة ، ومسلم رقم (2909) ، فى الفتن ، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء ، والنسائى (5/216) ، فى الحج ، باب بناء الكعبة.
( [8] ) أفحج : متسع ما بين ساقيه.
( [9] ) رواه البخارى رقم (1595) ، فى الحج ، باب هدم الكعبة.
(1/325)
الصراط
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصراط وكيفية مرور الناس عليه 2- الأمانة والرّحِم على جانبي الصراط
3- الحث على صلة الرحم 4- آخر الناس مروراً على الصراط 5- النجاة من زلة الصراط
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتى فى الله:
نحن اليوم بتوفيق الله جل وعلا على موعد مع اللقاء التاسع عشر من لقاءت هذه السلسلة العلمية الهامة وكنا قد أنهينا الحديث الماضى مع مشهد الميزان وقلنا إن الحساب لتقرير الأعمال وإن الوزن لإظهار مقدارها ليكون الجزاء بحسبها.
فإذا وزنت الأعمال، وتقرر الجزاء، ما بقى إلا أن يلقى كل واحد مصيره فيأمر الملك جل وعلا أن ينصب الصراط على متن جهنم ليمر عليه الموحدون المتقون المؤمنون الصادقون إلى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر، وليمر عليه المشركون والمجرمون الكافرون الجاحدون إلى نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
لذا فموضوعنا مع حضراتكم اليوم بإذن الله تعالى هو مشهد الصراط بعد الميزان.
وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعا من بين أيدينا فسوف نركز الحديث مع حضراتكم فى هذا الموضوع الخطير فى العناصر التالية:
أولاً: الصراط جسر جهنم وأحوال الناس عليه.
ثانياً: الأمانة والرحم على جانبى الجسر.
ثالثاً: من هو آخر رجل يمر على الصراط؟
رابعاً: كيف النجاة؟
فأعيرونى القلوب والأسماع والوجدان أيها الأحبة الكرام، فإن الموضوع جد خطير، والله أسأل أن ينجنى وإياكم يوم الحساب ويوم الميزان ويوم الصراط إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أولاً: الصراط جسر جهنم وأحوال الناس عليه
أحبتى فى الله:
الصراط لغة: هو الطريق الواضح المستقيم البين، ومنه قول جرير:
أمير المؤمنين على الصراط إذا اعوج المورد مستقيم
والصراط شرعاً: المراد به هنا جسر أدق من الشعر، وأحد من السيف كما قال أبو سعيد الخدرى فى صحيح مسلم: ((الصراط جسر أدق من الشعر وأحد من السيف يضربه الله جل وعلا على ظهر جهنم ليمر عليه المؤمنون إلى جنات النعيم والمشركون إلى جهنم وبئس المصير، فهو قنطرة بين الجنة والنار)).
قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [ مريم: 71 ].
قال الإمام أبو العز الحنفى فى شرح العقيدة الطحاوية ( [1] ) : اختلف المفسرون فى المراد بالورود المذكور فى قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا [ مريم: 71 ].
وكان الرأى الأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط قال تعالى:
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [ مريم: 72 ].
وفى الصحيح قال رسول الله : ((والذى نفسى بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)) قالت حفصة: فقلت يا رسول الله، أليس الله يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا قال: ((ألم تسمعيه قال: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا )).
والتحقيق العلمى للجمع بين أقوال أهل العلم فى معنى الورود هو أن الورود على النار نوعان:
الأول:
ورود بمعنى الدخول، وهذا للكافرين والمشركين، كما قال الله فى شأن فرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [ هود: 98 ].
الثانى:
بمعنى المرور على الصراط وهذا لا يكون إلا لأهل الأنوار من المتقين الموحدين ممن قال فيهم رب العالمين: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [ مريم: 73 ].
فأعرنى قلبك وسمعك فها هو الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى يبين لنا بأسلوبه النبوى البليغ الموجز الرائع الجامع لبيان الكلم هذا المشهد المهيب مشهد المرور على الصراط، بل إن شئت فقل يجسد لنا هذا المشهد الذى يخلع الفؤاد، فعن أبي هريرة أن الناس قالوا: يارسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال النبى : ((هل تضارون فى القمر ليلة البدر؟)) قالوا: لا، يا رسول الله.فقال النبى : ((هل تضارون في الشمس ليس لها سحاب؟)) قالوا: لا، يا رسول الله. فقال النبى : ((فإنكم ترونه كذلك)) ( [2] ).
يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله يقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا؟ فيدعوهم، ويضرب الصراط بين ظهرانى جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز الصراط، ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم..سلم، وفى جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل، ثم ينجو، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار وفى رواية: فمنهم المؤمن بقى بعمله، ومنهم المجازى حتى ينجى حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد ان يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار - فكل ابن ادم تأكله النار إلا أثر السجود - فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة فى حميل السيل ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد، لكن هل تدبرت ما سمعت من حديث رسول الله r من كان يعبد الشمس يتبع الشمس ومن كان يعبد القمر يتبع القمر - وتبقى أمة الحبيب r فيها منافقوها.
فينطلق المنافقون مع أهل الإيمان فيقولون مع المؤمنين: أنت ربنا...يظنون أنهم يخدعون الله!!!
ترى ماذا يحدث؟!!
هنا يلقى الله على أهل الموقف ظلمة حالكة السواد لا يستطيع أحد فى أرض الموقف أن يخطو خطوة واحدة إلا بنور.
كما فى صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: يارسول الله أين يكون الناس حين تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار؟ فقال المصطفى ((يا عائشة هم فى الظلمة دون الجسر)) وفى لفظ مسلم ((هم على الصراط)) قال ابن مسعود- كما فى مسند أحمد ورواه الحاكم وابن حبان وابن أبى حاتم وصححه الألبانى-: ((فمنهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يتقد مرة وينطفأ مرة وهذا أقلهم نوراً، ومنهم من تحوطه الظلمة من كل ناحية)) ( [3] ).
أخى فى الله تدبر جيداً هذه الآيات:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8].
وقال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ الحديد: 12 ].
وإذا ما أراد المنافقون أن يقتربوا من الصراط سلب الله نورهم أو كما قال الضحاك: طفئ نور المنافقين فيتميز أهل النفاق من أهل الإيمان لذا إذا رأى أهل الإيمان نور المنافقين طفأ على الصراط، وجل المؤمنون وأشفقوا وهذا معنى قوله تعالى يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ التحريم: 8 ].
حينئذ يرى أهل النفاق فى الظلمات الحالكة أهل الأنوار من أهل الإيمان والتوحيد ينطلقون على الصراط - كما سأبين لاحقا - فينادى أهل الظلمات من أهل النفاق على أهل الأنوار من أهل الإيمان والتوحيد يا أهل الأنوار انظرونا نقتبس من نوركم لا تتركونا فى هذه الظلمات الحالكة السوداء فانتظروا لنمشى فى رحاب أنواركم.
قيل ارجعوا ورائكم فالتمسوا نوراً هذا من جنس الخداع للمنافقين كما خادعوا الله فى الدنيا.
في هذه اللحظات قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (1/326)
أمور تستدرك بها بقية العمر
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الاغترار بالدنيا 2- ترغيب وترهيب 3- الترغيب بعبادات يَستدرك بها
المؤمن ما بقي من عمره كاتقاء الشبهات وفعل النوافل وكثرة الصدقات 4- ذم الغيبة والنميمة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله ـ تعالى ـ في جميع أوقاتكم، وأطيعوه فيما أمركم، ولا تشغلنكم دنياكم عن آخرتكم، ولا تؤثروا أهواءكم على طاعة ربكم، ولا تجعلوا أيمانكم ونعم الله عليكم ذريعة إلى معاصيكم، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ومهدوا لها قبل أن تعذبوا، وتزودوا للرحيل قبل أن تزعجوا. أما رأيتم المأخوذين على غرة، المزعجين بعد الطمأنينة؛ الذين أقاموا على الشبهات، وجنحوا إلى الشهوات، حتى أتتهم رسل ربهم؛ فلا ما كانوا أمَّلوا أدركوا ولا إلى ما فاتهم رجعوا، بل قَدِموا على ما عملوا وندموا على ما تركوا، ولم يغنِ الندم وقد جف القلم، فرحم الله امرءاً قدم خيراً وأنفق قصداً وقال صدقاً، وملك دواعي شهوته ولم تملكه، وعصى إمرة نفسه فلم تهلكه.
عباد الله، إن العاقل يدرك أن ما مضى من أيامه نقص من عمره، وقرب من أجله، ودنا من انقطاع عمله، وأنه في أي لحظة من زمنه يوشك أن يلقى ربه بما كان عليه من عمله، وكم يؤتى الحذر من مأمنه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي قال: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)) [1] وفيه أيضا عنه قال: ((الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك)) [2] ، فخذوا الأهبة لآزف النقلة، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة، ألا وإن خير الزاد ما صحبه التقوى، وأعلى الناس عند الله منزلة أخوفهم منه.
معشر المسلمين، من أمارات العقل الراجح وبشائر التوفيق للعمل الصالح أن يستدرك المرء بقية عمره ويتحلى في سيره للقاء ربه بأمور:
الأول: أداء ما افترض الله عليه، وتكميل كل فريضة بما شرع الله من نافلتها؛ تحبباً إلى الله وتقربا إليه، ففي الحديث القدسي الصحيح يقول الله تعالى: ((وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه)) [3] فالتقرب إلى الله بالفرائض وتكميلها بالنوافل يحبب العبد إلى المولى، ومن أسباب حفظ الحواس والجوارح عما يضر في الدنيا والآخرة والفوز بجزيل العطاء والأجر.
الثاني: ترك المخالفات واتقاء الشبهات؛ فإن مباشرة المعاصي تقسي القلوب، وتغضب علام الغيوب، وتعسر المطلوب، وهي أيضا تعمي البصيرة، وتسبب الحيرة، وتنقص الأرزاق، وتذهب المودة والوفاق، وتقصم الأعمار باتفاق، ((فإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) ، وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وكم يحرم الناس الفقه في الدين بسبب المعاصي؛ فإن العلم نور [ونور الله لا يؤتاه عاصي]. وناهيكم بما توعد الله به المصرين على الذنوب من أنواع العقوبات التي قد تعجل في الحياة وقد تؤجل إلى ما بعد الممات.
وفي صحيح البخاري عن النبي قال: ((من يرد الله به خيرا يصب منه)) [4]. وفي الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة)) [5].
معشر المسلمين، أما الثالث من هذه الأمور فهو كثرة الصدقات والإحسان إلى عموم البريات؛ فإن الصدقة تطفئ الخطيئة، وتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء، ويصرف الله بها أنواعا من البلاء، وهي أيضا من أسباب تنفيس الكروب، وتحصيل جليل المطلوب، وتكفير الكثير من الذنوب، مع أنها ظل لصاحبها في موقف القيامة ووقاية له من النار، فليكثِّف الوقاية.
وأما الإحسان إلى عموم البريات فيكفي في بيان فضله أن الله يجزي على الإحسان به، وأنه ـ سبحانه ـ يحب المحسنين ومع المحسنين، ولا يضيع أجر المحسنين لا في الدنيا ولا يوم الدين، وخص المحسنين بأعلى درجات الجنان.
عباد الله، وأما الأمر الرابع الذي ينبغي أن يراعيه المسلم في سيره إلى الله فهو اعتزال فضول المجالس التي يكثر فيها القيل والقال، وتنهش فيها أعراض الرجال، ويقوم المرء منها وقد خسر من الحسنات أمثال الجبال؛ بسبب ما يجري فيها من الغيبة والبهت، والشماتة والنميمة والافتراء والجدل والمراء، وقد قال : ((الغيبة ذكرك أخاك بما يكره))، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) [6] ، وقال : ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وعرضه وماله)) [7].
ولما عُرج به مر بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدروهم فسأل عنهم، فقيل له: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم [8] ؛ ولما مر بقبرين قال: ((إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)) [9] ، وقال : ((لا يدخل الجنة نمام)) [10].
وقال : ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء منه فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) ، رواه البخاري [11] ، وقال : ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة؛ ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) [رواه مسلم] [12].
عباد الله: اتقوا الله فإنها خير لباس، ودعوا ظلم الناس تأمنوا الإفلاس، واجتهدوا في صالح العمل قبل مفاجأة الأجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون [سورة المنافقون:9-11].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم ح (2878).
[2] أخرجه البخاري ح (6488).
[3] أخرجه البخاري ح (6502).
[4] صحيح البخاري ح (5645).
[5] صحيح ، سنن الترمذي ح (2396).
[6] أخرجه مسلم ح (2589) ، و((بهّتهُ)) أي ظلمته.
[7] أخرجه مسلم ح (2564).
[8] صحيح ، أخرجه أحمد (3/224) ، وأبو داود ح (4878).
[9] أخرجه البخاري ح (216) ، ومسلم ح (292).
[10] أخرجه مسلم ح (105) ولفظ البخاري ح (6056): ((لا يدخل الجنة قتاتٍ)) وهو النمام ، لسان العرب مادة [قتت].
[11] صحيح البخاري ح (6534).
[12] صحيح مسلم ح (2581).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/327)
خطر الروافض على الإسلام
أديان وفرق ومذاهب
فرق خارجة, فرق منتسبة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
نظرة المؤمن إلى الكافر – خطورة الركون إلى الكفار – الرافضة من أكفر الكفار وألد الأعداء
وهم طوائف مختلفة : منهم مَن عبد علي بن أبي طالب رضي الله عنه , ومنهم من اعتقد أن
جبريل خان الأمانة , ومنهم من اعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الرسالة , ومنهم
من يطعن في الصحابة , وفي أم المؤمنين عائشة – دور الرافضة في إسقاط الدولة العباسية -
وجوب الحذر من الكفار
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فينبغي للمسلم الذي يؤمن بالله ورسوله ويحب الله ورسوله أن ينظر إلى الكافر على أنه عدو له، مهما أظهر له من حلاوة اللسان ولين الجانب، فإنه مخالف له في الملة والدين ولو وجد فرصة فإنه لا يتردد أبدًا في إلحاق الأذى والضرر بك أيها المسلم لأنه لا يحبك فقد وصفه الله عز وجل كما وصف الله عز وجل المنافقين من الكافرين حيث قال: يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم [التوبة:8].
وقال عز وجل: ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم [آل عمران:119]. وقال سبحانه: وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ [آل عمران:119].
فلا ينبغي للمسلمين حكامًا ومحكومين أن يركنوا إلى كافر أبدًا ولا يأتمنوا كافرًا أبدًا، وعليهم أن يدرسوا تاريخهم ويتعظوا بما وقع من قبلهم فإن التاريخ يعيد نفسه لأن سنن الله فيه لا تتغير ولا تتبدل.
لكن المسلمين حينما تستحكم الغفلة على قلوبهم فتحجب بصائرهم وتعمى أبصارهم خاصة إذا كانت أبواب السماء مفتوحة عليهم بالخيرات والنعم فإنهم غالبًا ما يغفلون، فتجدهم حينئذ وقد اتخذوا الخدم والحشم والأعوان من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من المخالفين لهم في الملة والدين وحينئذ تقع الكوارث والمصائب بالمسلمين على أيدي هؤلاء الأعداء الذين ركنوا إليهم واطمأنوا إليهم وائتمنوهم على أنفسهم وأسرارهم وقد قال تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصرون [هود:113].
فسنن الله في التاريخ لا تتغير ولا تتبدل إذا ركن المسلمون في أوقاتهم إلى أعداءهم المخالفين لهم في الدين فاتخذوا منهم الخدم والحشم والأعوان حينئذ تقع المصائب على أيدي هؤلاء الأعداء.
ثم اعلموا أيها المسلمون أن من أكفر الكفار وألد الأعداء عداوة وحقدًا علينا نحن المسلمين هم أولئك المنافقين الوثنيين الشتامين وهم طوائف كما بينا في الجمعة الماضية فمنهم من عبد علىّ بن أبي طالب رضي الله عنه واتخذه إلهًا من دون الله، ومنهم من عبد ذريته واتخذوهم آلهة من دون الله.
ومنهم من اعتقد أن جبريل خان الأمانة، ومنهم من اعتقد أن محمدًا فشل في أداء الرسالة لم يبلغ الأمانة ومنهم من اعتقد أن أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين غدروا برسول الله وخانوه ثم ارتدوا بعد وفاته ومنهم من يطعن سيدنا رسول الله في عرضه فيقذف زوجه وحبيبته أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها يرميها بالسوء والفحشاء كما رمت اليهود الصديقة مريم عليها السلام بالسوء والفحشاء كل هؤلاء كفار ليسوا من أهل ملتنا ولا هم على ديننا، هم أقرب إلى اليهود منهم للمسلمين، ولذلك فبعض أئمتنا وعلمائنا السابقين نحن المسلمين يسمون هؤلاء جميعًا الباطنيين ومنهم أبو حامد الغزالي رحمه الله صنع ذلك في كتابه فضائح الباطنية، وعامة أئمتنا وعلماءنا نحن المسلمين يسمونهم الروافض كما صنع ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه منهاج السنة النبوية في الرد على الرافضة القدرية.
فهؤلاء جميعًا من ألد أعدائنا من أكفر الكفار الذين يحاربون الله ورسوله ويحاربون المؤمنين وإن قالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنهم هدموا الشهادتين بتلك العقائد الشنيعة المكفرة فلا تغنيهم شيئًا وهم يتعبدون بالكذب اتخذوا الكذب دينًا، فإنهم يعدون خداع المسلم والكذب عليه من أفضل العبادات لديهم ويسمونها التقية، فلا يغتر بهم إلا جاهل لا يعرف الحقائق أو غافل أعمت بصيرته الشهوات والملذات اعتبروا أيها المسلمون حكامًا ومحكومين بتاريخكم واسمعوا هذه الواقعة التي وقعت لمن قبلكم.
فالدولة العباسية من أعظم دول الإسلام وحكامهما وإن أصاب بعضهم تقصير وخلل إلا أنهم من أعظم ملوك الإسلام أثرًا في تاريخ المسلمين وفي عهدهم ازدهرت بيارق العلم من جهة وازدهرت بيارق الجهاد من جهة فوصلت رايات المسلمين شرقًا وغربًا إلى ما لم تصله قبل ذلك وبلغ سلطان المسلمين وملكهم أوجهما في عهد هارون الرشيد ذلك الملك العباسي العابد المجاهد الذي كان يغزو سنة ويحج سنة ثم طرأت العلل على هذه الدولة الإسلامية العظيمة فضعفت، فكيف انهارت هذه الدولة الإسلامية، اعتبروا يا أولي الأبصار لقد سقطت الدولة العباسية تلك الدولة الإسلامية العظيمة في آخر أمرها سقطت على يد وزير باطني رافضي خبيث وقصة ذلك أن آخر الخلفاء وكونه على مذهب أهل السنة مثل أجداده من الخلفاء العباسيين. إلا أنه كان ضعيف الرأي ذا غفلة هينًا لينًا كان عديم اليقظة ليست عنده يقظة وكان محبًا للأموال متبعًا للشهوات ومن غفلته اتخذ وزيرًا باطنيًا رافضيًا خبيثًا هو محمد بن العلقمي فائتمنه على شئون الدولة وفوّضه في شئون الدولة فأخذها الوزير الخبيث يصرف الجنود من حول الخليفة شيئًا فشيئًا حتى أنه لم يبق حول الخليفة في العاصمة العباسية حينئذ بغداد، لم يبق فيها إلا عشرة آلاف فارس، ثم أخذ محمد بن العلقمي يكاتب التتار حتى إذا أقبلت جيوش التتار متلاحمة كالبحار أقبلت إلى بغداد وليس فيها حول الخليفة إلا تلك القوة الضعيفة من الجند زين الوزير بن العلقمي إلى الخليفة أن يخرج إلى هولاكو قائد التتار من أجل التفاوض على الصلح فخرج الخليفة من غفلته ومعه سبعمائة من الأعيان والقضاة والعلماء فقتلهم التتار عن بكرة أبيهم وقُتل الخليفة المستعصم بين يدي هولاكو صبرًا ومعه سبعة عشر من خواصه منهم ثلاثة من أبنائه.
وذكر المؤرخون أن عدو الله هولاكو التتري الوثني تهيب في بادئ الأمر من قتل الخليفة لما يعلم من مكانته في عالم الإسلام والمسلمين، فأخذ ابن العلقمي الوزير الخائن الرافضي الخبيث يهون عليه ذلك ويزينه عليه حتى قتله، وابن العلقمي يتفرج على ذلك.
ثم دخل التتار بغداد فتح أبوابها لهم الوزير ابن العلقمي فدخلوا يقتلون وينهبون ويأسرون ويدمرون ويحرقون أربعين يومًا حتى أصبحت بغداد التي كانت حين ذاك زهرة مدائن الدنيا أصبحت خرابًا يبابًا تنعق فيها البوم، وقُتل فيها كما يذكر ابن كثير في تاريخه حوالي ألفا ألف إنسان أي حوالي مليونين من المسلمين والوزير الرافضي الخبيث ابن العلقمي يتفرج على تلك الكارثة الهائلة التي حلت بالمسلمين وسقطت تلك الدولة العباسية الإسلامية العظيمة، التي استمر ملكها أكثر من خمسمائة سنة فاعتبروا يا أولي الأبصار اعتبروا يا أهل الإسلام بما وقع في تاريخكم واقرءوه وادرسوه واتعظوا به، واعرفوا يا أهل الإيمان عدوكم لا تستحكم الغفلة على قلوبكم وخاصة وأنتم في رخاء في بحبوحة من النعم فحينئذٍ لا تفرقون بين عدو وصديق إذا استحكمت الغفلة في قلوبكم حينئذٍ لا تفرقون بين عدو وصديق وقريب وبعيد ولا تفرقون بين كفر وإيمان ولا بين كافر ومسلم وتلك مصيبة أي مصيبة.
أيها المسلم هنا مبدأ هام عظيم يجب ألا ننساه أبدًا الكافر عدو لك وأي عدو، عدو حاقد عليك فلا تأس منه أبدًا ولا تركن إليه أبدًا لا تغره وقد أذله الله ولا تكرمه وقد أهانه الله إذ وصفه بأنه أشد جهلاً من البهائم لا تقربه وقد أبعده الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم أي إن يظهروا بكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون [الممتحنة:1-2].
بارك الله لي ولكم في القرآن ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة (1/306) رقم (408).
(1/328)
القصاص
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحساب والقضاء يوم القيامة 2- القصاص بين البهائم 3- القصاص بين العباد يوم القيامة
4- القصاص بين المؤمنين 5- حُرمة الدماء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.
أحبتى فى الله:
نحن اليوم بتوفيق الله جل وعلا على موعد مع اللقاء السادس عشر من لقاءت هذه السلسلة العلمية الكريمة.
تذكر معى أخى فى الله أننا كنا قد توقفنا بمشيئة الله جل وعلا فى اللقاءت الثلاثة الماضية مع مشهد الحساب، وتعرفنا على أهم قواعد العدل التى يحاسب الله بها عباده يوم القيامة، وتعرفنا على أول أمة ستقف بين يدى الله للحساب، وتعرفنا على أول من يقضى الله بينهم، وتعرفنا على أول ما يحاسب علية العبد بين يدى الله، فإذا فرغ الله جل وعلا من حساب العباد فيما يتعلق بحقوقه أذن لدواوين المظاليم أن تنصب للقصاص وأداء الحقوق، وهذا هو موضوعنا اليوم مع حضراتكم بإذن الله تعالى.
وكما تعودنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم فى هذا الموضوع الخطير فى العناصر التالية:
أولاً: القصاص بين البهائم.
ثانياً: القصاص بين العباد.
ثالثاً: حرمة الدماء.
رابعاً: القصاص بين المؤمنين.
أخى فى الله أعرنى قلبك وسمعك وجوارحك جيدا فإن الموضوع جد خطير، والله أسال أن يجعلنى وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً : القصاص بين البهائم
فى البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى قال: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة)) وفى رواية ((لتأدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء ( • ) من الشاة القرناء )) ( [1] ).
تدبر أيها المسلم وإياك أن تغفل.
وفى مسند أحمد بسند صحيح من حديث أبى ذر رضى الله عنه أن النبى رأى شاتين تنتطحان فقال المصطفى لأبى ذر ((هل تدرى فيما تنتطحان؟)) قال: لا قال المصطفى : ((ولكن الله يدرى وسيقضى بينهما يوم القيامة)) ( [2] ).
أيها المسلمون: إن القول بحشر البهائم والدواب والقصاص لبعضها من بعض يوم القيامة هو الحق الذى ندين لله به.
وهذا هو ما ذهب إليه جمهور أهل السنة، فلا ينبغى البتة أن ترد الأحاديث الصحيحة الواردة فى هذا الباب بدعوى أن العقل لا يستوعب القصاص بين الدواب.
قال الإمام النووى رحمه الله: إذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجراءه على ظاهره مانع من عقل أو شرع وجب أن تحمله على ظاهره، فلا ينبغى على الإطلاق تأول هذه الأحاديث ليرد هذا الحكم ألا وهو حكم القصاص بين البهائم والدواب، فإن قيل الشاه غير مكلفة لاعقل لها فكيف يقتص منها يوم القيامة؟ الجواب نقول قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: 107 ]
وقال تعالى لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23].
وليعلم العباد علم اليقين أن الحقوق لا تضيع عند الله جل وعلا فإن كان هذا هو حال الحيوانات والبهائم والدواب، فكيف بذوى الألباب والعقول من الشريف والوضيع والقوى والضعيف والكبير والصغير؟!!!
أإذا كان الله يأخذ الحق للدواب والبهائم والحيوانات فهل يترك الله حق العباد وبصفة خاصة حق من وحدوا رب الأرض والسموات؟!!
ثانياً : القصاص بين العباد يوم القيامة
أحبتى فى الله:
لا يظن أحد أن ظلمه للعباد من ضرب أو سب أو شتم أو تزوير أو أكل مال بالباطل أو أكل مال يتيم أو استهزاء أو سخرية أو غيبة أو نميمة أو جرح كرامة سيضيع سدى!!
كلا كلا !! بل إن الظلم ظلمات يوم القيامة، أما والله إن الظلم شؤم ولازال المسيىء هو الظالم:
ستعلم ياظلوم غداً إذا التقينا عند الإله من الملوم ؟!
يا من دعاك منصبك.. يا من دعاك كرسيك.. يا من دعتك صحتك.. يا من دعتك قوتك وقدرتك على ظلم الضعفاء والفقراء والمستضعفين من العباد تذكر قدرة الله جل وعلا، واعلم يقينا بأن الملك هو الذى سيقتص للمظلوم من الظالمين فاحذر الظلم بجميع أنواعه سواء كان صغيراً أو كبيرا فإنه ظلمات يوم القيامة.
فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
لا تظلمن إذا كنت مقتدرا
يدعو عليك وعين الله لم تنم
تنام عيناك والمظلوم منتبه
ففى الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبى لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن وصاه بالوصايا الغالية، وكان من بين هذه الوصايا أن قال له المصطفى : (( اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) ( [3] ).
انتبهوا أيها الأحباب إن دعوة المظلوم ترفع إلى الله دون حاجب فهى تصعد مباشرة، ولذلك ورد فى الصحيحين من حديث أبى موسى الأشعرى أن الحبيب النبى قال: ((أن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)).
وقرأ النبى قول الله تعالى وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هود: 102] ( [4] ).
قد يغتر الظالم بظلمه سنوات وهو يظلم عباد الله، والله يمهله والله يستره بستره وبحلمه عليه فيتمادى الظالم فى غيه وظلمه ونسى هذا المسكين أن الله يمهل ولا يهمل.
أين الجبابرة؟!.. أين الأكاسرة؟!.. أين القياصرة؟!.. أين الفراعنة أين الطغاة؟!.. أين الظالمون وأين التابعون لهم الغى؟!.. بل أين فرعون وهامان وقارون؟!
وذكرهم فى الورى ظلم وطغيان
أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم ؟!
أونجى منه بالسلطان انسان
هل أبقى الموت ذا عز لعزته
الكل يفنى فلا إنس ولا جان
لا والذى خلق الأكوان من عدم
حذر النبى الأمة من عاقبة الظلم، تدبروا معى جيدا هذا الحديث الرقراق الذى رواه ابن ماجه وابن حبان والبيهقى وأبى يعلى الموصلى والحديث حسن بشواهده من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أن النبى قال لأصحابه لما رجعت مهاجرة الحبشة عام الفتح إلى رسول الله قال لهم: ((ألا تحدثونى بأعاجيب ما رأيتم فى الحبشة)) فقال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينما نحن جالسون مرت بنا عجوز من عجائز رهبانهم تحمل قلة ماء على رأسها، فمرت هذه العجوز على فتى منهم فقام الفتى ووضع إحدى كفيه بين كتفيها ودفعها وخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إلى الشاب وقالت له: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسى وجمع الله الأولين والآخرين وتكلمت الأيدى والأرجل بما كانوا يكسبون فقال المصطفى ((صدقت، صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم)).
أى وربى كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم ؟! إى وربى كيف يقدس الله أمة لا تحترم فيها الكرامات ؟! لا تصان فيها الأعراض والأنساب ؟! كيف يقدس الله أمة تسفك فيها الدماء ويتهم فيها البرىء ويبرأ فيها الظالم ؟!
أمة بهذه الأخلاقيات الفاسدة محكوم عليها فى الدنيا بالدمار ومحكوم على أفرادها من أهل الظلم فى الآخرة بالنار.
أيها المسلمون حذر النبى من عاقبة الظلم يوم القيامة، فأمر الظالمين أن يتحللوا فى الدنيا قبل الآخرة من المظالم.
تدبر كلام رسول الله ففى صحيح البخارى من حديث أبى هريره رضى الله عنه، أن النبى قال: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شىء منه فليتحلله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه)) ( [5] ).
يا عباد الله قد يستطيع الظالم الآن أن يفلت بطريق أو بآخر، ولكن الظالم لن يفلت يوم القيامة فمحال أن يدخل أحد الجنة وعنده مظلمة لمسلم أو عنده مظلمة لأحد، لابد أن يطهر الله أهل الظلم حتى لو كانوا من أهل التوحيد والإيمان فى أرض الموقف فى ساحة الحساب على بساط العدل بين يدى الرب جل وعلا، فمن كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها اليوم، اذهب إلى أخيك وتحلل من المظلمة أيا كانت، كأخذ مال بظلم أو غيبة أو نميمة أو إساءة جوار أو جرح كرامة أو انتهاك عرض أو سب أو قذف أو شتم أو غش فى بيع أو شراء أو فى أى صورة من صور الظلم اذهب إلى من له المظلمة وتحلل منها الآن قبل أن تقف بين يدى الملك العدل جل جلاله لذلك سأل النبى يوما أصحابه كما فى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة فقال: (( أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتى وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح فى النار)) ( [6] ).
اللهم سلم سلم!! اللهم سلم سلم!!
أيها الموحدون بالله عليكم تدبروا هذا الحديث جيدا وأن تعيشوا معه بالقلوب والوجدان، فإن المشهد يخلغ القلب لو تدبرناه وعيناه، لقد صلى وزكى وصام بنص الحديث ولكن مع ذلك يدخل النار لما ؟! لأنه لم يمسك لسانه لأنه.. لم يكف يده.. لأنه استغل منصبه وكرسيه فى ظلم العباد وفى إحراج وإهانة خلق الله من الضعفاء المستضعفين!!
أستحلفكم بالله أن تتدبروا هذا الحديث وأن تعيشوا معه بالقلوب والوجدان، فإن الحديث يكاد يخلع القلب إن تدبرناه ووعيناه، تصوروا معى هذا المشهد فى أرض المحشر ها هو الظالم فى أرض المحشر يقف بين يدى الله فى ذل وخشوع وانكسار، شخص ببصره لا يرتد لأعلى ولا لأسفل ولا يمنة ولا يسرة بل قفز قلبه من جوفه، الشمس فوق الروؤس تكاد تصهر العظام والزحام يكاد يخنق الأنفاس، والعرق يكاد يغرق الناس وجهنم أتى بها لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها تزفر وتزمجر غضباً منها لغضب الجبار جل وعلا.
لأن الله قد غضب هذا اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله.
وفى هذه اللحظات !! وفى هذا الكربات !! ومع هذا الهول العصيب!! يرى الظالم وقد أحيط بمجموعه من الناس.. يا ترى من هؤلاء؟ هؤلاء هم الذين ظلمهم فى الدنيا، فها هو ظلم من ظلم وقد نسى، فها هم المظلومون يظهروا له يوم القيامة، ويتعلقون به ويجرونه جراً ليقفوه بين يدى الله جل وعلا، هذا يجره من ظهره وهذا يجره من لحيته وهذا يجره من يمينه وهذا يجره من يساره.
فإذا أوقفوه بين يدى الملك وأذن الله لدواوين المظالم أن تنصب وللقصاص أن يبدأ، يقول هذا: يارب هذا شتمنى، والأخر يقول يارب وهذا ظلمنى، والآخر يقول: يارب هذا اغتابنى، والأخر يقول: يارب هذا غشنى فى البيع والشراء، والآخر يقول: يارب هذا وجدنى مظلوماً وكان قادراً على دفع الظلم فجامل ونافق الظالم وتركنى، والأخر يقول: يارب هذا جاورنى فأساء جوارى.
سترى كل من ظلمته فى الدنيا نسيته، أو تذكرته متعلقاً بك بين يدى الملك جل وعلا يطالب بحقه، وأنت واقف يا مسكين ما أشد حسرتك فى هذه اللحظات وأنت واقف على بساط العدل بين يدى رب الأرض والسموات، إذا شفهت بخطاب السيئات وأنت مفلس عاجز فقير مهين لاتملك درهماً ولا ديناراً، لا تستطيع أن ترد حقاً ولا تملك أن تبدى عذراً، فيقال: خذوا من حسناته، فتنظر إلى صحيفتك التى بين يديك فتراها قد خلت من الحسنات التى تعبت فى تحصيلها طوال عمرك، فتصرخ وتقول: أين حسناتى ؟! أين صلاتى ؟! أين زكاتى؟! أين دعوتى ؟! أين علمى ؟! أين قرآنى ؟! أين برى ؟! أين طاعتى ؟! أين عملى الصالح ؟! أين ؟! أين ؟! أين....؟!
أتعرف أين هى يا مسكين ؟! لقد نقلت إلى صحائف من ظلمتهم فى الدنيا والآن فنيت حسناتك، وبقى أهل الحقوق ينادون على الله جل وعلا أن يعطيهم حقوقهم من الظالم، فيأمر الحق سبحانه أن تأخذ من سيئات من ظلمتهم فى دنياك لتطرح عليك فتنظر إلى صحيفتك فترى الصحيفة قد شحنت بالسيئات، فتصرخ وتقول: يارب هذه سيئات والله ما اقترفتها والله، فيقال لك: نعم إنها سيئات من ظلمتهم فى الدنيا من خلق الله ومن عباد الله، فتمد عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعلك تنجو فى هذه اللحظات ولست بناج، لأن الله قد حرم الظلم على نفسه وحرم الظلم بين العباد، فيقرع النداء سمعك ويخلع النداء قلبك كما قال الحق تبارك وتعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ [إبراهيم:42-52].
أيها الظالم: أيها اللاهى: أيها الساهى :
يوم القيامة والسماء تمور
حتى على رأس العباد تسير
وتبدلت بعد الضياء كدور
فرأيتها مثل السحاب تسير
فرأيتها مثل الجحيم تفور
وخلت الديار فما بها معمور
وتقول للأملاك أين تسير
طى السجل كتابه المنشور
وتهتكت للعالمين سطور
يخشى القصاص وقلبه مذعور
كيف المصر على الذنوب دهور؟
ولها على أهل الذنوب زفير
لفتىعلى طول البلاء صبور
مثل لنفسك أيها المغرور
إذا كورت شمس النهاروأدنيت
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت
وإذا الجبال تقلعت بأصولها
وإذا البحار تفجرت نيرانها
وإذا العشارتعطلت وتخربت
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت
وإذا الجليل طوى السماء بيمينه
وإذا الصحائف نشرت وتطايرت
وإذا الوليد بأمه متعلق
هذا بلا ذنب يخاف جناية
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت
أيها المسلمون اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، فسوف يقتص الملك العدل الحكيم العليم الخبير للمظلومين، فى يوم لاينفع فيه مال ولا بنون، وإنما أخذ من الحسنات ورد من السيئات.
إن عين الله يقظى لا تنام
أيها المظلوم صبراً لا تهن
فعدل الله دائم بين الأنام
نم قرير العين واهنأ خاطراً
ومن أعظم الأمور عند الملك، ومن أظلم الظلم سفك الدم بغير حق وهذا هو عنصرنا الثالث.
ثالثاً: حرمة الدماء
إن حرمة الدماء عند الله عظيمة، لذا كان أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء.
ففى الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبى قال: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء)) ( [7] ).
أرجو أن ينتبه إخواننا إذ أنه لا تعارض بين هذا الحديث: ((أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة فى الدماء)).
وبين الحديث الصحيح الذى رواه أصحاب السنن وفيه يقول المصطفى : ((أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة)) ( [8] ).
إذاً كيف نزيل هذا التعارض بين الحديثين ؟!
قال أهل العلم: أما الصلاة هى أول حق لله يقضى الله فيه، وأما الدماء فهي أول حق يقضى الله فيه للعباد، ولذلك جمعت رواية النسائى بين الأمرين فى لفظ واحد فقال المصطفى : ((أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة وأول ما يقضى فيه بين العباد فى الدماء)).
فالله هو خالق الإنسان وواهب الحياة له، فلا يجوز لأحد أن يسلب الحياة إلا خالقها وواهبها، أو بأمر شرعه هو سبحانه وتعالى فى نطاق الحدود، يقول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ [الأنعام :151].
والله لو سمعت الأمة هذه الأحاديث التى سأذكرها الآن ما رأينا هذه البرك من الدماء هنا وهناك، إذ أننا نرى الآن الدماء لا حرمة لها، يُقتل كل يوم العشرات بل المئات بل الألوف بدون مبالغة وهذه من علامات الساعة كما قال الصادق المصدوق ((بين يدى الساعة يكثر الهرج)) قالوا: وما الهرج يارسول الله؟ قال ((القتل القتل)) ( [9] ) وفى لفظ ((لا يدرى القاتل فيما قتل ولا يدرى المقتول فيما قتل)).
الله عز وجل يقول: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ [ الأنعام: 151].
وهذا الحق واضح محدود لاغموض فيه ولا لبس، حدده المصطفى فقال -والحديث رواه البخارى ومسلم من حديث ابن مسعود - قال : ((لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا الله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) ( [10] ) هذه هى الحالات الثلاثة التى يحل فيها دم المسلم.
الحالة الأولى: القصاص (النفس بالنفس):
والقصاص يقوم به ولى أمر المسلمين، أو من ينوب عنه، إذ أن الأمر ليس متروكاً للأفراد حتى يتحول المجتمع إلى فوضى، القصاص فيه حياة المجتمع، فإن القاتل إن علم أنه سيقتل سيفكر ألف مرة قبل أن يتطاول على النفس التى خلقها رب الأرض والسماء، لذا نجد أن حياة المجتمع فى القصاص أليس الله هو القائل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ البقرة: 179 ].
والله لو وقفتم على حجم القضايا التى عُرضت على المحاكم فى العام الماضى لانخلعت القلوب، فإن عدد القضايا أمام المحاكم زاد على ثلاثين مليون من القضايا، وهذا عدد ضخم ما يقرب من نصف هذا الشعب ترى لما ؟! لأن الحدود ضاعت، لأن الظالم أو القاتل يستطيع بماله أو بسلطانه أن يقدم رشوه لرجل فاسق ضال مضل ويخرج من جريمته النكراء، والأمم لا تضيع إلا بهذه المجاملات الباطلة.
قال النبى لأسامة يوم أن تقدم ليشفع فى امرأة مخزومية شريفة سرقت ((والله لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها أنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)) ( [11] ).
الحالة الثانية: الثيب الزانى
الثيب: هو المحصن الذى رزقه الله بزوجة فى الحلال الطيب، فترك زوجته فى الحلال، وراح يرتع فى مستنقع الرذيلة الآثم العفن، فدنس العرض وانتهك الشرف، فهذا يقتل رجماً حتى الموت، وقد يستصعب الإنسان منا هذا الحكم، ولكنه سيقول يقتل ثم يقتل ثم يقتل إن مست كرامته أو انتهك عرضه أو دنس شرفه.
الحالة الثالثة: الردة:
إن الذى يترك دين الإسلام بعد أن منَّ الله به عليه، هذا يقتل لقول النبى r كما فى صحيح البخارى من حديث ابن عباس: ((من بدل دينه فاقتلوه)) ( [12] ).
ولقول النبى فى الحديث الذى نحن بصدده: ((التارك لدينه المفارق للجماعة)).
هذه هى الحالات الثلاثة التى يجوز فيها لولى الأمر المسلم، أو من ينوب عنه أن يسفك الدم فى حدود الشرع التى حددها الله جل وعلا.
أما فيما عدا ذلك فإن قتل النفس البريئة أمر تشيب له الرؤوس.
اسمع وتدبر قول الله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [ النساء: 93 ].
الله أكبر !! انظروا إلى حرمة الدماء!
فى صحيح البخارى من حديث ابن عمر أن الحبيب النبى قال: ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) قال: وقال ابن عمر ((إن من ورطات الأمور التى لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حل)) ( [13] ).
وفى الحديث الذى رواه أحمد وأبو داود والحاكم والنسائى وصححه الألبانى فى صحيح الجامع أن الحبيب النبى قال: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً)) ( [14] ).
وفى الحديث الذى رواه النسائى وصححه الألبانى فى صحيح الجامع من حديث بريدة أنه قال: ((قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)) ( [15] ).
وفى الحديث الذى رواه النسائى والبخارى فى التاريخ وصححه الألبانى من حديث عمر بن الحمق الخذاعى أن الحبيب النبى قال: ((من أمن رجلاً على دمه فقتله فإنا بريء من القاتل وإذا كان المقتول كافراً)) ( [16] ).
هذه حرمة الدماء عند رب الأرض والسماوات، لذلك كانت الدماء هى أول شىء يقضى فيه الله بين العباد.
بل اسمع إلى هذا الحديث البليغ العجيب لمشهد القتيل مع قاتله فى أرض المحشر، والحديث رواه النسائى بسند حسن يقول النبى : ((يجئ المقتول متعلقاً بالقاتل يوم القيامة وأوداجه تشخب ( • ) دما بين يدى الله فيقول: يارب! سل هذا فيما قتلنى؟ حتى يدنيه من العرش)) فذكرو لابن عباس التوبة، فتلى هذه الآية: وَمن يَقتُل مُؤمِنًا متَعَمِّدًا قال: ((ما نسخت هذه الآية ولا بدلت، وأنى له التوبة؟)) ( [17] ).
رابعاً : القصاص بين المؤمنين:
هل يحدث قصاص بين أهل التوحيد والإيمان ؟!! نعم.. نعم.. ألم أقل لك أيها الأخ الكريم أنه لن يدخل الجنة أحد ولو كان موحداً لله مطيعاً لله متبعا لرسول الله أبداً، وعنده مظلمة لأخيه.
اسمع لحبيبك النبى محمد هذا الحديث الذى رواه البخارى من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أن النبى قال: ((إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيتقاضون مظالم كانت بينهم فى الدنيا، حتى إذا نقوا وهذبوا أذن لهم بالدخول إلى الجنة، فو الذى نفس محمد بيده، لأحدكم بمسكنه فى الجنة أدل بمنزله كان فى الدنيا)) ( [18] ).
أيها الأحبة الكرام بذلك أكون قد أنهيت الحديث فى الجملة عما يحدث يوم القيامة فى ساحة الحساب، وبقى أن نتعرف فى اللقاء المقبل بإذن الله إن قدر الله لنا البقاء واللقاء عن صنف مبارك كريم من هذه الأمة الميمونة يدخل الجنة مباشرةً بلا عذاب ولا حساب.. فيا ترى من هؤلاء؟!!
الجواب فى اللقاء القادم بإذن الله تعالى.
• الجلحاء : التى ليس لها قرون.
( [1] ) رواه مسلم رقم (2582) فى البر ، باب تحريم الظلم ، والترمذى رقم (2422) فى صفة القيامة ، باب ما جاء فى شأن الحساب والقصاص.
( [2] ) رواه أحمد فى المسند ، رقم (21330).
( [3] ) رواه البخارى رقم (4347) فى المغازى ، باب بعث أبى موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع ، ومسلم رقم (19) فى الإيمان ، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام ، وأبو داود رقم (1584) فى الزكاة ، والترمذى رقم (625) فى الزكاة ، والنسائى (5\52،55) فى الزكاة.
( [4] ) رواه البخارى رقم (4686) فى تفسير قوله تعالى : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى.. الآية ، ومسلم رقم (2583) فى البر والصلة ، باب تحريم الظلم ، والترمذى رقم (3109) فى التفسير وابن ماجة رقم (4018) فى الفتن.
( [5] ) رواه البخارى رقم (2449) فى المظالم ، باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له هل يبين مظلمته، والترمذى رقم (2421) فى صفة القيامة.
( [6] ) رواه مسلم رقم (2581) فى البر ، باب تحريم الظلم ، والترمذى رقم (2420) فى صفة القيامة ، باب ما جاء فى شأن الحساب والقصاص. وهو فى صحيح الجامع (87)
( [7] ) رواه البخارى رقم (6861) الديات فما فاتحته ، ومسلم رقم (1678) فى القسامة ، والترمذى رقم (1396) فى الديات.
( [8] ) رواه النسائى ( 7/ 83 ) فى تحريم الدم ، وهو فى صحيح الجامع (2527).
( [9] ) رواه البخارى رقم (7061) فى العلم ، باب ظهور الفتن ، ومسلم رقم (2672) فى العلم ، باب رفع العلم وقبضة وظهور الجهل ، وأبو داود رقم (4255) فى الفتن.
( [10] ) رواه البخارى رقم (6878) فى الديات ، باب قول الله تعالى : ( النفس بالنفس والعين بالعين ) ومسلم رقم (1676) فى القسامة ، باب ما يباح به دم المسلم ، وأبو داود رقم (4352) فى الحدود ، والترمذى رقم (1402) فى الديات ، والنسائى (7/90، 91)
( [11] ) رواه البخارى رقم (6787) فى الحدود ، باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع ، ومسلم رقم (1688) فى الحدود ، باب قطع السارق الشريف وغيره ، والترمذى رقم (1430) فى الحدود ، وأبو داود (4373) ، والنسائى (8/74،75).
( [12] ) رواه البخارى رقم (6922) فى استتابه المرتدين ، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، ومالك فى الموطأ (2/736) فى الأقضية ، والترمذى رقم (1458) فى الحدود ، باب ما جاء فى المرتد ، وأبو داود رقم (4351) فى الحدود ، والنسائى (7/104،105).
( [13] ) رواه البخارى رقم (6862) فى الديات فى فاتحته.
( [14] ) رواه أحمد فى المسند رقم (16849) والنسائى (7/81) فى تحريم الدم فى فاتحته وهو فى صحيح الجامع.
( [15] ) رواه النسائى (7/ 83) فى تحريم الدم ، باب تعظيم الدم ، وهو فى صحيح الجامع (4361).
(1) صححه شيخنا الألبانى فى الصحيحة رقم (441) وهو فى صحيح الجامع (6103).
( • ) أوداجه : عروق عنقه.* تشخب : تسيل
( [17] ) رواه الترمذى رقم (3032) فى التفسير ، والنسائى (7/85، 87) فى تحريم الدم وأخرجه أحمد فى المسند (23004، 23058) وهو فى صحيح الجامع (8031).
( [18] ) رواه البخارى رقم (2440) فى المظالم ، باب قصاص المظالم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/329)
التحذير من أذية المؤمنين والناس أجمعين
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القصاص يوم القيامة من الظالمين 2- حرمة المسلم والتحذير من أذيّته 3- أعظم الأذى
قتل النفس المحرّمة 4- حرمة لعن المسلم وهجره وسِبابه 5- انتهاك حرمة أموال المسلمين
6- انتهاك حرمة أعراض المسلمين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله ـ تعالى ـ واحذروا أذية المؤمنين، والإساءة إلى الناس أجمعين، إلا بحق ظاهر، قام عليه الدليل البين السالم من المعارض من الكتاب والسنة، والمأثور عن السلف الصالح من هذه الأمة؛ ليكون لكم برهاناً قاطعاً وحجة دافعة حين تختصمون عند ربكم، فتؤدى الحقوق إلى أهلها، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، وتؤخذ المظالم من الظالمين فترد إلى أهلها في يوم لا درهم فيه ولا دينار، بل إن كان للظالم عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، ((وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) [رواه البخاري] [1].
وفي رواية عند مسلم: ((فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) [2].
وحينئذ يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]. يَوَدُّ ?لْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـ?حِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ?لَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى ?لأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14].
عباد الله، إن أذية المؤمنين والناس أجمعين بغير حق من أشد المظالم، وأعظم المآثم التي توعد الله أهلها بالوعيد الأكيد، وتهددهم بالعذاب الشديد، في مثل قوله ـ سبحانه ـ: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58]. وقوله ـ سبحانه ـ في الحديث القدسي الصحيح: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)) [3] الحديث، أي أعلمته أني محارب له. وما ثبت في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله ـ أي في أمانه وضمانه ـ فلا تسيئوا إليه بغير حق، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يكبه على وجهه في نار جهنم)) [4].
فالذي يؤذي المؤمنين خاصة والناس عامة بغير حق على خطر من غضب الله وانتقامه، وما توعد به الظالمين في الدنيا ويوم القيامة، حتى ولو كان المؤذي من أفاضل الناس وخيارهم؛ فقد ثبت في صحيح مسلم أن أبا سفيان مر – في حال كفره – على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها. فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي فأخبره، فقال : ((يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك)). فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخي [5]. وثبت في الصحيحين أن النبي قال لمعاذ وقد بعثه إلى اليمن: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) [6].
أيها المسلمون، وإيذاء المؤمنين وغيرهم من الناس بغير حق له صور منصوص عليها من القرآن وما أثر عن النبي من بيان، ويعظم الإيذاء ويتضاعف الإثم وتشتد العقوبة، كلما عظمت حرمة الشخص، أو الزمان ، أو المكان، أو المناسبة.
ولقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أن البني قال للناس في يوم النحر في أشرف زمان ومكان وجمع حضره ، وبعد أن قرر الناس على حرمة البلد والشهر واليوم: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم – وفي رواية قال: وأبشاركم – عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب)) الحديث [7].
فمن أعظم أذية المؤمنين والناس بغير حق قتلهم بغير حق، قال تعالى: مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32]. وقال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93].
وقال ـ تعالى ـ: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?ناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيراً [ النساء:29-30]. وصح عن النبي أنه قال: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) [رواه البخاري].
أيها المسلمون، وإذا كانت هذه حرمة دم المسلم فإن لعنه وهجره وتفسيقه ورميه بالكفر بغير حق فهو كقتله، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي قال: ((ولعن المؤمن كقتله)) ، وفي سنن أبي داود عن النبي قال: ((إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً فإذا لم يجد مساغا رجعت إلى الذي لُعن فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها)) ، وصح عن النبي أنه قال: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) [متفق عليه].
وفي البخاري عن أبي ذر أنه سمع رسول الله يقول: ((لا يرمي رجل رجلاً بالفسق والكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) وفي صحيح مسلم عنه : ((المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما حتى يعتدي المظلوم)) ، وفي سنن أبي داود عن أبي خراش السلمي أنه سمع النبي يقول: ((من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)) ، وفيه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)).
أيها المسلمون، أما أذية المسلمين بأخذ أموالهم فهي من أعظم الظلم وأكبر موجبات الإثم. قال : ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) وقال : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)). فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ فقال : ((وإن كان قضيباً من أراك)).
أيها المسلمون، ثبت في صحيح البخاري عن النبي قال: ((إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) ، وقال : ((إنكم تختصمون ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته – يعني أوضح وأبين – من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإني أقطع له قطعة من النار)) [متفق عليه].
وقال : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حرامًا)) [رواه البخاري].
وأخبر أن الدَّيْنَ لا يكفره القتل في سبيل الله وذلك لأنه من حقوق الناس.
فمن أخذ للناس شيئا بغير حق فهو ظلم جزاؤه النار، سواء أخذه من طريق القوة والقهر، أو عن طريق الخديعة والحيلة، أو عن طريق الرشوة، أو بواسطة اليمين الفاجرة، أو بحكم القاضي إذا أخطأ اجتهاده، والمدعي يعلم أنه مبطل، أو كان عن طريق ظلم الناس في الاعتداء على أبدانهم وانتهاك حرماتهم، فكل ذلك ظلم يكون الظالم به عرضة لعقوبة ظلمه في الدنيا والآخرة أو فيهما معا. فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الظلم ؛ فإنه حسرة وندامة وظلمات يوم القيامة.
ومن ذلك الاستطالة في أعراض الناس بالغيبة والبهت والنميمة والتعدي عليهم بالضرب والشتم وأنواع انتهاك الحرمات، فكل هذه من الظلم التي لا تكفرها الصلاة ولا الصدقة ولا الصوم، بل لا يغفر للظالم حتى يغفر له المظلوم، فإن ديوان الظلم من الدواوين التي لا يترك الله منها شيئا بل يؤاخذ بها إلا إذا تنازل عنها أصحابها، فكم من شخص يظن أنه كثير الحسنات ثم يأتي يوم القيامة مفلسا من بين البريات بسبب ما تحمل من الظلامات، جاء في الحديث عن النبي أنه قال: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) [8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري ح (2449).
[2] صحيح مسلم ح (2581).
[3] أخرجه البخاري ح (6502).
[4] صحيح مسلم ح (657).
[5] المصدر السابق ح (2504).
[6] صحيح البخاري ح (2448) ، صحيح مسلم ح (19).
[7] صحيح البخاري ح (67 ، 7078) ، صحيح مسلم ح (1679).
[8] أخرجه مسلم ح (2582).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/330)
الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت أول مراحل الآخرة 2- ذم الدنيا في الكتاب والسنّة 3- احتضار رسول الله صلى
الله عليه وسلم 4- وسوسة الشيطان عند الاحتضار 5- الثبات على الإيمان
6- مصرع الكافر ومصرع المؤمن 7- موعظة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد...
فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء وطبتم جميعا وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذى جمعنى وإياكم فى هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنى وإياكم فى الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى فى جنته ودار كرامته إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أحبتى فى الله:
فى رحاب الدار الآخرة
سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمى والأسلوب الوعظى تبدأ هذه السلسة بالموت وتنتهى بالجنة.
وقد تحتاج هذه السلسلة إلى جهد شاق حتى تتضح لنا معالمها، لذا فإن الموضوع جد خطير ومن الأهمية بمكان، لذا استحلفكم بالله الذى لا إله إلاَّ هو.. أن تعيرونى قلوبكم وعقولكم وأسماعكم حتى نقف على أهميتها ونسأل الله التوفيق، ونسأله تعالى أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، إنه ولى ذلك والقادر عليه ويجعلنا من الذين قال فيهم الله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ [ الزمر: 18 ].
أيها الأحبة الكرام:
وسوف أستهل هذه السلسلة بالحديث عن الموت، فهذه هى المرحلة الأولى فى هذه الرحلة الطويلة.
أيها الأخيار الكرام:
لقد بين الله جل وعلا لنا الغاية التى من أجلها خلقنا فقال سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [ الذاريات: 56 ].
بل وبين لنا حقيقة الدنيا التى جعلها محل اختبار لنا فقال سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ [ الحديد: 20 ].
وأكد الحبيب المصطفى هذه الحقيقة فى حديثه الصحيح الذى رواه الترمذى من حديث سهل بن سعد الساعدى رضى الله عنه قال صلى الله عليه وسلم ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) ( [1] ).
فالدنيا حقيرة عند الله أعطاها للمؤمن والكافر على السواء، فلو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً قط شربة ماء واحدة، لذا كان المصطفى يوصى أحبابه بعدم الركون والطمأنينة إلى هذه الدار الفانية لا محالة، كما أوصى بذلك عبد الله بن عمر رضى الله عنهما كما فى صحيح البخارى: ((كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، وكان ابن عمر يقول: " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك".
ورحم الله من قال:
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
إن لله عباداً فطنا
أنها ليست لِحَىٍّ وطناً
نظروا فيها فلما علموا
صالح الأعمال فيها سُفْنا
جعلوها لُجَّة واتخذوا
فالفطناء العقلاء هم الذين عرفوا حقيقة الدار، فحرثوها وزرعوها... وفى الآخرة حصدوها.
فالذم الوارد فى القرآن والسنة للدنيا لا يرجع إلى زمانها من ليل ونهار فلقد جعل الله الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والذم الوارد للدنيا فى الكتاب والسنة لا يرجع إلى مكانها ألا وهو الأرض، إذ أن الله قد جعل الأرض لبنى آدم سكناً ومستقراً.
والذم الوارد فى القرآن والسنة لا يرجع إلى ما أودعها الله عز وجل من خيرات، فهذه الخيرات نعم الله على عباده وجميع خلقه.
إنما الذم الوارد فى القرآن والسنة يرجع إلى كل معصية ترتكب فى حق ربنا جل وعلا.
إذاً لابد وحتما من تأصيل هذا الفهم الدقيق لا سيما لإخواننا الدعاة وطلاب العلم الذين ربما يغيب عن أذهانهم حقيقة الزهد فى هذه الحياة الدنيا، فنحن لا نريد أن نُقنَّتْ أحداً من هذه الدنيا، ولا نريد أن نثبت لعامل فى هذه الدنيا ولو كان فى الحلال أنه قد تجاوز عن طريق الأنبياء والصالحين والأولياء... كلا..! كلا..!!
بل الدنيا مزرعة للآخرة.
تدبر معى قول على رضى الله عنه وهو يقول: " الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن أخذ منها، الدنيا مهبط وحى الأنبياء ومصلى أنبياء الله ومتجر أولياء الله ".
فالدنيا مزرعة للآخرة فتدبر معى هذا الحديث الصحيح الذى رواه البخارى ومسلم من حديث أنس قال: قال النبى : ((ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة)) ( [2] ).
إذاً لابد من هذا التأصيل والفهم العميق لحقيقة الدنيا، لننطلق من هذه الدار الفانية إلى دار تجمع بين سلامة الأبدان والأديان..دار القرار.
فلابد قبل العبور إلى دار القرار من المرور من دار الفناء، فالدنيا دار ممر والآخرة هى دار المقر، الدنيا مركب عبور لا منزل حبور، الدنيا دار فناء لا دار بقاء، لابد من وعى هذه الحقيقة التى لا مراء فيها، لنزرع هنا بذوراً، لنجنى هنالك ثماراً.
فاعلم أيها الحبيب هذه الحقائق جيداً، وكن على يقين جازم بأن الحياة فى هذا الدنيا موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتى نهايتها حتماً لابد، فيموت الصالحون.. ويموت الطالحون.. يموت المجاهدون.. ويموت القاعدون.. يموت المستعلون بالعقيدة.. ويموت المستذلون للعبيد.. يموت الشرفاء الذين يأبون الضيم ويكرهون الذل، والجبناء الحريصون على الحياة بأى ثمن.. الكل يموت.
قال الله جل وعلا: كُل مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
فلابد أن تستقر هذه الحقيقة فى القلب والعقل معاً، إنها الحقيقة التى تعلن بوضوح تام على مدى الزمان والمكان فى أذن كل سامع وعقل كل مفكر أنه لا بقاء إلا للملك الحى الذى لا يموت، إنها الحقيقة التى تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة العبودية والذل لقاهر السماوات والأرض!!
إنها الحقيقة التى شرب كأسها تباعاً الأنبياء والمرسلون بل والعصاة والطائعون!!
إنها الحقيقة التى تذكرنا كل لحظة من لحظات الزمن بقول الحى الذى لا يموت: لا إِلَه إِلا هُو كُلُّ شَئٍ هَالِكُ إِلا وَجْهُه [القصص:88 ].
أيها الحبيب تذكر هذه الحقيقة ولا تتغافل عنها إذ أن النبى أمرنا أن نكثر من ذكرها كما فى الحديث الصحيح الذى رواه الترمذى والنسائى والبيهقى والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر أن النبى قال: ((أكثروا من ذكر هادم اللَّذات )) ( [3] ).
إنها الحقيقة التى سماها الله فى قرآنه بالحق فقال جل وعلا: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:19-21].
لا إله إلا الله... الله أكبر... الله أكبر
إن للموت لسكرات... هل علمت إن هذه الكلمات قالها حبيب رب الأرض والسموات وهو يحتضر على فراش الموت؟
روى البخارى عن عائشة رضى الله عنها قالت: مات رسول الله بين حاقنتى وذاقنتى وكان بين يديه ركوة (علبة) بها ماء فكان يمد يده فى داخل الماء ويمسح وجهه بأبى هو وأمى ويقول: ((لا إله إلا الله إن للموت لسكرات)) ( [4] ).
هكذا يقول حبيب رب الأرض والسموات إن للموت لسكرات!! حبيب الرحمن يذوق سكرة الموت، فما بالنا نحن؟!!
وفى رواية الترمذى كان الحبيب يقول: ((إن للموت لسكرات وإن للموت لغمرات)).
وفى رواية كان يدعوا الله ويقول: ((اللهم أعنِّى على سكرات الموت)).
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ وما أدراك ما السكرات..! وما أدراك ما الكربات..! فى هذه اللحظات يزداد الهم والكرب، فى لحظات السكرات إذا نمت يا ابن آدم على فراش الموت ورأيت فى غرفتك التى أنت فيها دون أن يرى غيرك، رأيت شيطاناً جلس عند رأسك يريد الشيطان أن يضلك عن كلمة الإخلاص" لا إله إلا الله "، يريد الشيطان أن يصدك عنها، يقول لك : مُت يهودياً فإنه خير الأديان، يقول لك: مُت نصرانياً فإنه خير الأديان.
واستدل أهل العلم على ذلك بصدر حديث صحيح رواه الإمام مسلم أن رسول الله قال: ((إن الشيطان يُحضِرُ كل شئ لابن آدم..)).
بل وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية طَيَّبَ الله ثراه عن مسألة عَرْض الأديان على ابن آدم فى فراش الموت، فقال فى مجموع الفتاوى ( [5] ) : "من الناس من تعرض عليه الأديان ومنهم من لا يعرض عليه شئ قبل موته، ثم قال: ولكنها من الفتن التى أمرنا النبى أن نستعيذ منها فى قوله : ((اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال)) ( [6] ).
فمن فتن الموت أن يأتيك الشيطان ليصدك عن لا إله إلا الله، ليصدك عن كلمة التوحيد، هذه من الكربات، هذه من أشد السكرات على ابن آدم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هل علمت أُخَىّ فى الله أن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل حينما نام على فراش الموت ذهبت إليه الشياطين لتنادى عليه بهذه الكلمات، قال عبد الله ولده: " حضرت وفاة أبى فنظرت إليه فإذا هو يغرق ثم يفيق ثم يشير بيده ويتكلم ويقول: لا بَعْد..!! لا بَعْد..!!.
فلما أفاق فى صحوة بين سكرات الموت وكرباته، قال له ولده عبد الله: يا أبتى ماذا تقول؟! تقول: لا بعد، لا بعد..!! ما هذا؟!! أتدرى ماذا قال إمام أهل السنة؟؟ قال لولده: يا بنى شيطان جالس عند رأسى عاضٌ على أنامله يقول لى: يا أحمد لو فُتَّنى اليوم ما أدركتك بعد اليوم وأنا أقول له: لا بعد، لا بعد حتى أموت على لا إله إلا الله.
فإذا كنت حقا من المؤمنين الصادقين.. من الموحدين المخلصين وجاءتك الشياطين ثبتك رب العالمين وأنزل إليك ملائكة التثبيت، كما فى حديث البراء بن عازب الصحيح وسأذكر الحديث بتفصيله لاحقاً إن شاء رب العالمين، إلاَّ أن محل الشاهد فيه الآن أن النبى أخبر: ((أنَّ المؤمن إذا نام على فراش الموت جاءته ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفنُُ من أكفان الجنة وحنوطٌ من حنوط الجنة فيجلسون من المؤمن مُدَّ البصر حتى يأتى ملك الموت فيجلس عند رأسه وينادى على روحه الطيبة وهو يقول: أيتها الروح الطيبة اخرجى حميدة وابشرى بروحٍِ وريحان وربٍ راضٍ عنك غير غضبان، فتخرج روح المؤمن سهلة سلسة كما يسيل الماء من فِىِّ السقاء فلا تدعها الملائكة فى يد ملك الموت طرفة عين، ثم ترقى بها إلى الله جل وعلا..)) ( [7] ).
هكذا أيها الأحبة..
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [ إبراهيم: 27 ].
ولقد سجل الله هذه البشارة للموحدين فى قرآنه العظيم فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
وقال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]
قال ابن عباس: القول الثابت هو لا إله إلا الله فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
والحق أنك تموت والله حى لا يموت، الحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب.
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ. والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران
ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ذلك ما كنت منه تهرب.
تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الشراب إذا أحسستَ بالظمأ، ثم ماذا أيها القوى الفَتِىّ؟! ثم ماذا أيها العبقرى الذكى ؟! ثم ماذا أيها الوزير والأمير؟! ثم ماذا أيها الكبير والصغير؟! ثم ماذا أيها الغنى والفقير؟!
اسمع يا هذا وذاك:
وكل ناعٍ فَسَيُنعَى
ليس غيرُ الله يبقى
كل باك فَسَيُبكَى
كل مَذْكور سَيُنْسَى
من علا فالله أعلى
إلى كم يا أخى الوهم
وتخطئ الخطأ الجم
أما أنذرك الشيب
أيا من يَدَّعِ الفهم
تعبّ الذنب والذنب
أما بان لك العيب؟
وما فى نصحه ريب
أما نادى بك الموت
فتحتاط وتهتم
وتختال من الزهو
إلى اللحد وتنغط
إلى أضيق من سم
ليستأكله الدود
فيمسى العظم قد رم
ودع ما يعقب الضير
وخاف من لجة اليم
وقد بحت كمن باح
بقرآن الرب يهتم
أما أسمعك الصوت
أما تخشى من الفَوْت
فكم تسير فى الهوى
كأنى بك تنحط
وقد أسلمك الرهط
هناك الجسم ممدود
إلى أن ينخر العود
فزود نفسك الخير
وهيأ مركب السير
بذا أوصيك يا صاح
فطوبى لفتى راح
وبآداب محمد يأتم
وصدق الله عز وجل إذ يقول:
كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:26-30].
كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ إذا بلغت الروح الترقوة وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ من يرقيه؟!! من يرقى بروحه؟!! ملائكة الرحمة؟ أم ملائكة العذاب؟.
من يبذل له الرقية؟ من يبذل له الطب والعلاج؟! فهو من هو؟!!
صاحب الجاه والسلطان! صاحب الأموال والأطيان! انتقل فى طيارة خاصة إلى أكبر مستشفى فى العالم، التف حوله أكبر الأطباء، هذا متخصص فى جراحة القلب والبطن وهذا متخصص فى جراحة المخ والأعصاب، وهذا متخصص فى كذا، وذاك متخصص فى كذا!!.
التف حوله الأطباء يريدون شيئاً وملك الملوك أراد شيئاً آخر.
قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].
والتف حوله الأطباء مرة أخرى ،كل يبذل له العلاج والرقية!!
ولكن حاروا وداروا!!
اصفر وجهه، شحب لونه، بردت أطرافه، تجعد جلده، بدأ يشعر بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه!!
فينظر فى لحظة السكرة والكربة فيرى الغرفة التى هو فيها مرة فضاءً موحشاً ومرة أخرى أضيق من سم الخياط.
وينظر مرة فيجد أهله يبتعدون عنه وأخرى يقتربون منه، اختلطت عليه الأمور والأوراق!!
من هذا..؟!! ملك الموت!! ملك الموت عند رأسه، ومن هؤلاء الذين يتنزلون من السماء؟!!
إنه يراهم بعينه، إنهم الملائكة!! يا ترى ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟!!
يا ترى ماذا سيقول ملك الموت؟!!!
هل سيقول لى الآن: يا أيتها الروح الطيبة اخرجى إلى مغفرة من الله ورضوان ورب راض غير غضبان؟!!
أم يقول يا أيتها الروح الخبيثة اخرجى إلى سخط الله وعذابه؟
ينظر لحظة الصحوة بين السكرات والكربات، فإذا هو يعى من حوله من أهله وأحبابه فينظر إليهم نظرة استعطاف !! نظرة رجاء !!
فيقول بلسان الحال وربما بلسان المقال: يا أولادى.. يا أحبابى.. يا أخوانى لا تتركونى وحدى، ولا تفردونى فى لحدى !!
أنا أبوكم، أنا الذى بنيت لكم القصور !! أنا الذى عَمَّرت لكم الدور ! أنا الذى نمَّيت لكم التجارة !! فمن منكم يزيد فى عمرى ساعة أو ساعتين؟
افدونى بأموالى.. افدونى بأعماركم !!
وهنا يعلو صوت الحق كما قال جل وعلا :
مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29].
وقد سجل التاريخ لهارون الرشيد عندما نام على فراش الموت فنظر إلى جاهه وماله وقال: ما أغنى عنى ماليه هلك عنى سلطانيه !!
ثم قال: أريد أن أرى قبرى الذى سأدفن فيه !!
فحملوه إلى قبره، فنظر هارون إلى القبر وبكى ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه... ارحم من قد زال ملكه.
أين الجاه ؟! أين السلطان ؟! أين المال ؟! أين الأراضى والأطيان ؟! ذهب كل شئ !!
سبحانه... سبحانه... سبحانه.
سبحان ذى العزة والجبروت، سبحان ذى الملك والملكوت، سبحان من كتب الفناء على جميع خلقه، وهو الحى الذى لا يموت.
سبحانك يا من ذللت بالموت رقاب الجبابرة.
سبحانك يا من أنهيت بالموت آمال القياصرة.
كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ : من يرقى بروحه ؟!! أو من يبذل له الرقية والعلاج ؟!!
وقال سبحانه وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ.
إنه يوم المرجع.. إنه يوم العودة... انتهى الأجل... انتهت الدنيا وحتماً ستعرض على مولاك.
سأل سليمان بن عبد الملك عالماً من علماء السلف يقال له أبو حازم، قال سليمان: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت ؟!
قال أبو حازم: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب !!
أحبتى فى الله:
فى زيارة إلى أمريكا نبهنى أحد القائمين على الدعوة هناك برجل مَنَّ الله عليه بالأموال، وهو مسلم عربى ومع ذلك لا يصلى، ولا يعرف حق الكبير المتعال ذهبت إليه لأذكره بالله فقال لى بلسان المقال: أنا أتيت إلى هذه البلاد من أجل الدولار وأعدك إن عدت إلى بلدى لا أفارق المسجد قط.
قلت: سبحان الله.. ومنْ يضمن لك يا مسكين أنك سترجع إلى بلدك ؟!!، أو أن يمر عليك يوم بكامله ؟!!!
والله لا تضمن أن تتنفس بعد هذه اللحظات.
واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
دع عنك ما قد فات فى زمن الصبا
بل أثبتاه وأنت لاه تلعب
لم ينسه الملكان حين نسيته
ستردها بالرغم منك وتسلب
والروح منك وديعة أودعتها
دار حقيقتها متاع يذهب
وغرور دنياك التى تسعى لها
أنفاسنا فيهما تعد وتحسب
الليل فاعلم والنهار كلاهما
دنياك مهما طالت فهى قصيرة.. ومهما عظمت فهى حقيرة.. لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر.. ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
ثم سأل سليمان بن عبد الملك، وقال: يا أبا حازم كيف حالنا عند الله تعالى ؟!!
قال: اعرض نفسك على كتاب الله.
قال سليمان: أين أجده ؟!!
قال: فى قوله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14].
قال سليمان بن عبد الملك: فأين رحمة الله يا أبا حازم ؟!!
قال أبو حازم إِنَّ رَحمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المحُسِنِينَ [الأعراف:56].
فقال سليمان بن عبد الملك: فكيف عَرضُنَا على الله غداً؟
قال: أما المحسن فكالعبد الغائب من سفر يقدمُ على أهله، فيستقبله الأهل بفرح، والمسىء كالعبد الآبق يقدِمُ على مولاه.
وفى الصحيحين من حديث عائشة رضى الله عنها أن النبى قال: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)).
قالت عائشة: يا رسول الله أكراهية الموت؟ كلنا يكره الموت.
قال: ((لا يا عائشة، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بسخط الله وعذابه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)) ( [8] ).
وفى صحيح البخارى من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا وضعت الجنازة وحملها الرجال على الأعناق تكلمت وسمعها كل شئ إلا الثقلين - أو قال: إلا الإنسان - ولو سمع الإنسان لصعق، فإن كانت صالحة قالت: قدمونى قدمونى !! وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها..!! أين يذهبون بها!!)) ( [9] ) اللهم سلم.. سلم.
أيها اللاهى.. أيها الساهى.. أيها الشاب.. أيها الكبير.. أيها الصغير.. أيها الأمير.. أيها الوزير.. أيها الحقير..
ذكر نفسك، وقل لها !!
وأظلك الخطب الجليلُ
يا نفس قد أزف الرحيل
يلعب بك الأمل الطويلُ
فتأهبى يا نفس لا
ينسى الخليلَ به الخليلُ
فلتنزلن بمنزل
من الثَّرَى حمل ثقيلُ
وليركبن عليك فيه
فلا يبقى العزيز ولا الذليلُ
قرن الفناء بنا جميعا
وأقول قولى هذا واستغفر الله لى ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً نبيه ورسوله، اللهم صلى وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد... فيا أيها الأحبة الكرام...
هكذا تبدأ رحلتنا فى رحاب الدار الآخرة بالموت بعدما بَيَّنا بإيجاز حقيقة الدنيا وتنتهى هذه المرحلة الأولى بالوصول إلى القبر، وها أنا سأقف معكم إن شاء الله تعالى لاحقا أمام القبر، وحقيقة القبر، وما معنى البرزخ؟ وما معنى النعيم؟ وما معنى الجحيم؟ ولماذا لم يذكر الله عذاب القبر صراحة فى القرآن؟ وهل ثبتت أحاديث صحيحة عن النبى ؟وما هى حقيقة القبر؟ وما هى حقيقة البعث؟ لنواصل هذه الرحلة التى هى من الأهمية بمكان.
ها أنا ذا أذكر نفسى أولاً ثم إخوانى وأحبابى فى هذه اللحظة بالتوبة والإنابة إلى رب الأرض والسموات وأقول:
يا من أسرفت على نفسك بالمعاصى !!
يا من تركت الصلاة فى بيوت الله !!
يا من تركتِ الحجاب الشرعى وضيعتِ الصلاة !!
يا من شغلك هُبَل العصرى (التلفاز) والشيطان عن الله عز وجل !!
يا من أعرضت عن مجالس العلم وأماكن الخير والطاعة والعبادة !!
يا من قضيت عمرك على المقاهى وتركت طاعات الله.
تُبْ من الآن إلى الله وسيقبل الله توبتك إن كانت خالصة لوجهه قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ الزمر: 53 ].
أقول لك أخى الحبيب:
تُبْ إلى الله ولا تيأس مهما بلغت ذنوبك، مهما كثرت معاصيك اطرق باب الرحمن، فلن يغلق الله فى وجهك قط ما دمت تستغفر وتتوب إليه إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ النساء: 48 ].
فعاهد نفسك من الآن على التوبة أينما كنت ألم يقل الله عز وجل؟!!
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8].
يقول : ((قال الله تعالى فى الحديث القدسى: يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم لو أتيتنى بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)) ( [10] ).
أيها الحبيب...
اجتهد فى الدنيا وَعَمِّر الكون واربح ما استعطت من أموال ولكن بشرطين أن تربح من حلال، وتؤدى حق الكبير المتعال.
اجتهد فى الدنيا وازرع للآخرة، فأنا لا أريد أن أقنِّتك من هذه الحياة قط وإنما أريد أن أذكر نفسى وإياك بأن الدنيا مزرعة للآخرة، فلا ينبغى أن ننشغل بالدار الفانية على الباقية، فغداً سترحل عن هذه الحياة ولن ينفعك إلا ما قدمت.
((يتبع الميت ثلاث: ماله، وأهله، وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد يرجع أهله وماله ويبقى عمله)) ( [11] ).
وينادى عليك فى القبر بلسان الحال:
و فى التراب وضعوك
رجعوا وتركوك
ولو ظلوا معك ما نفعوك
وللحساب عرضوك
ولم يبقى لك إلا عملك مع رحمة الحى الذى لا يموت.
( [1] ) رواه الترمذى رقم (2321) فى الزهد ، باب ما جاء فى هوان الدنيا على الله عز وجل ، وابن ماجة رقم (2410) فى الزهد ، باب مثل الدنيا ، وهو فى صحيح الجامع رقم (5292).
( [2] ) رواه البخارى رقم (2320) ، فى الحرث والمزارعة ، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه ، ومسلم رقم (1553) فى المساقاة ، باب فضل الغرس والزرع ، والترمذى رقم (1382) فى الأحكام ، باب ما جاء فى فضل الغرس.
( [3] ) رواه الترمذى رقم (2308) ، فى الزهد ، باب ما جاء فى ذكر الموت ، والنسائى (4/4) ، فى الجنائز ، باب كثرة ذكر الموت ، وهو فى صحيح الجامع رقم (1210).
( [4] ) رواه البخارى رقم (4449) ، فى المغازى ، باب مرض النبى صلى الله عليه وسلم ، ومسلم رقم (418) فى الصلاة ، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر، والترمذى رقم (978،979) ، فى الجنائز ، باب ما جاء فى التشديد عند الموت ، والنسائى (4/6،7) ، فى الجنائز ، باب شدة الموت.
( [5] ) مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/255).
( [6] ) رواه البخارى رقم (1377) ، فى الجنائز ، باب التعوذ من عذاب القبر، ومسلم رقم (588) ، فى المساجد ، باب ما يستعاذ منه فى الصلاة ، والترمذى رقم (3599) ، فى الدعوات ، باب الاستعاذة من جهنم، والنسائى (8/275،276) ، فى الاستعاذة ، باب الاستعاذة من عذاب جهنم.
( [7] ) رواه البخارى رقم (1369،4699) ، فى الجنائز ، باب ما جاء فى عذاب القبر ، ومسلم رقم (2870) ، فى الجنة ، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه ، وأبو داود رقم (3231) ، فى الجنائز ، باب المشى فى النعل بين القبور ، والنسائى (4/97) ، فى الجنائز ، باب مسألة الكافر.
( [8] ) رواه البخارى رقم (6507) ، فى الرقاق ، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومسلم رقم (2683) ، فى الذكر والدعاء ، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، والترمذى رقم (1066) ، فى الجنائز ، باب ما جاء فيمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، والنسائى (4/10) ، فى الجنائز ، باب فيمن أحب لقاء الله.
( [9] ) رواه البخارى رقم (1314) ، فى الجنائز ، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء ، والنسائى (4/41) ، فى الجنائز ، باب السرعة بالجنازة.
( [10] ) رواه الترمذى رقم (3534) ، فى الدعوات ، وحسنه الألبانى فى الصحيحة رقم (127) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (4338).
( [11] ) رواه البخارى رقم (6514) ، فى الرقاق ، باب سكرات الموت ، ومسلم رقم (2960) ، فى الزهد فى فاتحته ، والترمذى رقم (2380) ، فى الزهد.
(1/331)
النوم من آيات الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من نعم الله على المخلوقات النوم 2- النوم فرع عن الوفاة 3- كم من نائم قُبِض حال
نومه 4- السنن المتعلّقة بالنوم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله ـ تعالى ـ واشكروه على سابغ نعمته واستعينوا به على طاعته، ولا تجعلوها ذريعة لمعصيته ،بل اتخذوها سلماً للفوز بمغفرته، ورضوانه وجنته، وتذكروا أنكم منقلبون إليه، فموقوفون بين يديه، ومسؤولون عما أنتم فيه من النعمى والخير العميم، وقد أبلغ في الإعذار من تقدم بالإنذار، فأعدوا للسؤال جواباً وليكن الجواب صواباً: هَـ?ذَا يَوْمُ يَنفَعُ ?لصَّـ?دِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [سورة المائدة:119].
أيها المسلمون، من آيات الله الباهرة، ونعمه الظاهرة، هذا الليل الذي جعله الله لكم لتسكنوا فيه، فتنقطع معه حركاتكم، وتهدؤوا فيه بنومكم، ولهذا ذكره الله ـ تعالى ـ من جملة آلائه امتناناً وتذكيراً، فقال: وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً [ سورة الفرقان:47]. أي يغشاكم بسواده، فتسبت حركاتكم أي تنقطع فيه؛ ليحصل لكم السكون والراحة فيه: وَجَعَلَ ?لنَّهَارَ نُشُوراً [سورة الفرقان :47]. أي تنتشرون فيه لتجارتكم وأعمالكم وسائر تصرفاتكم التي تتحقق بها معايشكم، فجعل هذا للارتياح وهذا لطلب الأرباح؛ فتقوم بذلك المصالح، ويستعان بهما على العمل الصالح، ولهذا قال ـ سبحانه ـ: أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ?لَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَ?لنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة النمل:86].
أي ألم يشاهدوا هذه الآيات العظيمة، والنعم الجسيمة، في تسخير الليل والنهار يتعاقبان، هذا بظلمته وهدوئه، ليسكنوا فيه ويستريحوا من التعب ويستعدوا للعمل، وهذا بضيائه لينتشروا فيه لمعايشهم وتصرفاتهم، فليشكروا الله، وليحسنوا العمل، إن في ذلك لآيات واضحات دالات على كمال وحدانيته، وسبوغ نعمته، ووجوب الإخلاص له في عبادته، ينتفع بها المؤمنون ويجحدها المبطلون.
عباد الله: ومما قرر الله ـ تبارك وتعالى ـ به إلهيته، واحتج به على المشركين به في عبادته، ونبه به على أنه هو الإله الحق المستحق للحب والذل والتعظيم والإجلال والإكرام من جميع الخلق قوله: وَهُوَ ?لَّذِى يَتَوَفَّـ?كُم بِ?لَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِ?لنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى? أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:60]. فأخبر بأنه وحده المتفرد بتدبير عباده في يقظتهم ومنامهم، وأنه يتوفاهم بالليل وفاة النوم، فتهدأ حركاتهم، وتستريح أبدانهم ويبعثهم في اليقظة من نومهم؛ ليتصرفوا في مصالحهم ومعاشهم ومعادهم، وليستكملوا الأرزاق والآجال، وهو سبحانه يعلم ما جرحوا وكسبوا من الأعمال، ومنهم من يتوفاه الله على نومه ثم لا يبعثه الله إلا يوم القيامة، لأنه سبحانه قد قضى بنفاد أجله وانقطاع عمله فاخترم دون أمله، ولذا كان الرسول يقول إذا أراد أن ينام: ((باسمك اللهم أموت وأحيا)) وإذا استيقظ من منامه قال: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)) [1] وكان يقول: ((باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) [2] ، وكان يقول: ((اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية)) [3].
معشر المؤمنين، في هذه الأذكار النبوية تذكير للنفس بأن النوم أخو الموت، وأنه مذكر به، وقد يكون طرفا له؛ فإن استحضر العاقل الأجل، خاف من الله ـ عز وجل ـ، وحرص على الختام بصالح العمل؛ فقد ثبت عن النبي قوله: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)) [4] وثبت عنه : أن الناس إذا ماتوا يبعثون على نياتهم [5] ، وكم من الناس اليوم يفرطون في هذا الجانب؛ فيختمون يقظتهم بعمل المنكرات، ينامون مصرين على السيئات، عازمين متواطئين على ترك صلاة الفجر مع الجماعات، فماذا لو ماتوا حال نومهم، وبعثوا على نياتهم فماذا يقولون لربهم ـ تبارك وتعالى ـ إذا وقفوا بين يديه وسأل كل واحد منهم عن إحسانه إليه وحقه عليه؟ يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [سورة عبس:34-37]. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَ?للَّهُ رَءوفُ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران:30].
ألا فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأحسنوا النيات، وبادروا فرص العمل بعمل الصالحات، واتقاء السيئات، وسرعة التوبة إلى الله ـ تعالى ـ من الزلات واختموا يقظتكم بخير، واستعينوا بالنوم على عمل البر، وأظهروا لله الشكر، ولا تكونوا ممن قال ـ تعالى ـ فيهم في معرض الذم والتهديد والإنذار والوعيد بسبب ما كانوا يقترفون: إَنَّ ?لَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?طْمَأَنُّواْ بِهَا وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَـ?تِنَا غَـ?فِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ ?لنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [سورة يونس:7-8].
نفعني وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من خاصة أوليائه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري ح (6312) ، ومسلم ح (2711).
[2] أخرجه البخاري ح (6320) ، ومسلم ح (2714).
[3] أخرجه مسلم ح (2712).
[4] أخرجه مسلم ح (2714).
[5] أخرجه البخاري ح (2118) ، واللفظ له ، ومسلم ح (2884) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يغزو جيش الكعبة ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم وآخرهم)) قالت: قلت يا رسول الله كيف يُخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ، قال : ((يُخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، والناصح المبين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله واستقيموا على دينه وهداه، واشكروه على سابغ نعماه، ولا تكونوا ممن غفل فأعرض واتبع هواه، فإن الله تعالى قد قال في وحيه الذي أوحى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [سورة طه:123-124].
واعلموا أن لنبيكم صلى الله عليه وسلم هدياً كريماً، وسنناً معلوماً، كان يأخذ به عند نومه ويوصي به أهله وصحابته، وهو وصيته لكل أحد من أمته، وبالأخذ به ينتفع من النوم ويتقرب إلى الحي القيوم، وتتقى الشرور والمكارم والهموم؛ فمن ذلك أنه أرشد إلى إزالة زفر الطعام من الأيدي قبل النوم فقال: ((إذا نام أحدكم وفي يده ريح غمر فلم يغسل يده فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه)) [1] ، وقال : ((إذا نمتم فأطفئوا سرجكم؛ فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فيحرقكم)) [2]. ولما رأى رجلا قد نام على بطنه قال: ((إن هذه ضجعة لا يحبها الله تعالى)) [3] ، وروى أنها حال أهل النار وهم يعذبون [4] ، وقال : ((إياك والسهر بعد هدأة الرِّجل؛ فإنكم لا تعلمون ما يأتي الله في خلقه)) [5] ، وكان إذا أخذ مضجعه جعل يده اليمنى تحت خده الأيمن [6] ، وكان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة [7] وقال : ((من اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله فيه كان عليه ترة)) [8] ، أي حسرة وندامة يوم القيامة، وكان يقول: ((يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد)) [9].
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله! إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
[1] صحيح ، أخرجه الترمذي ح (1859) ، وابن ماجه ح (3297) ، والغَمَر : الدسم وزهومة اللحم. لسان العرب مادة [غمر].
[2] صحيح ، أخرجه أبو داود ح (5247).
[3] صحيح ، أخرجه أحمد (2/304) ، وأبو داود ح (5040) ، والترمذي ح (2768).
[4] صحيح ، أخرجه أحمد (3/430) ، وابن ماجه ح (3724).
[5] حسن ، أخرجه الحاكم (4/284) وقال صحيح على شرط مسلم.
[6] صحيح ، أخرجه أحمد (6/287) ، والنسائي ح (2367).
[7] أخرجه مسلم ح (305).
[8] صحيح ، أخرجه أبو داود ح (4856).
[9] أخرجه البخاري ح (1142) ، ومسلم ح (776).
(1/332)
الميزان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الميزان يوم القيامة 2- ما الذي يوزن في الميزان 3- الأعمال التي تُثقل الميزان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ونحن اليوم بحول الله ومدده على موعد مع اللقاء الثامن عشر من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، وكنا قد توقفنا في اللقاءات الخمسة الماضية على التوالي مع البشرية كلها وهي تقف كلها على بساط العدل فى ساحة الحساب بين يدى الملك جل جلاله، وتعرفنا على أهم قواعد العدل التي يحاسب بها الله في ساحة الحساب، وتعرفنا على أول أمة ينادى عليها لتحاسب بين يدي الله جل وعلا، وتعرفنا على أول من يقضي الله بينهم وعلى أول ما يحاسب عليه العبد، وعلى أول حق من حقوق العباد يقضي الله فيه بين الخلق، ثم تعرفنا فى اللقاء الماضي على أصناف الناس فقلنا بأن من الناس من يأخذ كتابه بيمينه ويحاسبه الله حساباً يسيراً، ومن الناس من يأخذ كتابه بشماله وراء ظهره ويحاسبه الله حساباً عسيراً.
ومن الناس من يدخل مباشرة من غير حساب ولا عذاب.
هل يا ترى بانتهاء الحساب تنتهي أهوال القيامة؟!!
كلا..!! كلا..!!
بل إذا انقضى الحساب أمر الله جلا وعلا أن ينصب الميزان فإن الحساب لتقرير الأعمال، وإن الوزن لإظهار مقدارها ليكون الجزاء بحسابه وليظهر عدل الله للبشرية كلها في ساحة الحساب فتوزن أعمال المؤمن لإظهار فضله، وتوزن أعمال الكافر لإظهار خزيه وذله على رؤوس الأشهاد وما ربك بظلام للعبيد.
والآن نسأل...
ما هو الميزان ؟!
ما الذى يوزن فيه؟!!
ما هي الأعمال التى تثقل فى الميزان يوم القيامة؟!!!
هذه الأسئلة الثلاثة هي موضوع لقاءنا مع حضراتكم، والله أسأل أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أولاً: ما هو الميزان؟!
الميزان على صورته وكيفيته التى يوجد عليها الآن من الغيب الذى أمر الصادق المصدوق أن نؤمن به من غير زيادة ولا نقصان، وهذه هى حقيقة الإيمان، فيا خسران من كذب بالغيب وأنكر وضع الميزان، وقدح فى آيات الرحيم الرحمن واستهزاء بكلام سيد ولد عدنان، ثم تطاول فقال قول ملحد خبيث جبان: " لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال أو الفوال " وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً ( [1] ).
لأنه بجهله وغبائه وانغلاق قلبه ظن أن ميزان الآخرة كميزان الدنيا، ومن البدهي أن جميع أحوال الآخرة لا تكيف أبداً ولا تقاس البتة بأحوال الدنيا، ولقد نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله إجماع أهل السنة على: الإيمان بالميزان وأن الميزان له لسان وكَِفتان - بكسر الكاف وفتحها واللغتان صحيحتان - وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة.
وقال الإمام بن أبى العز الحنفى فى شرح العقيدة الطحاوية المشهورة قال: " والذى دلت عليه السنة أن الميزان الذى توزن به الأعمال يوم القيامة له كفتان حسيتان مشاهدتان "أ.هـ ( [2] ).
والله أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات.
أيها المسلم لا يعلم حقيقة الميزان وطبيعة الميزان وكيفية الميزان إلا الملك الرحمن، وإلا فهل تستطيع أن تتصور ميزانا يوضع فى يوم القيامة يقول فيه المصطفى : ((لو وزنت فيه السموات والأرض لوزنها)).
كيف تصور هذا الميزان؟!
ففى الحديث الذى رواه الحاكم فى المستدرك وصححه على شرط مسلم وأقر الحاكم الذهبى بل وصحح إسناد الحديث الألبانى فى السلسلة الصحيحة من حديث سلمان الفارسى أن الحبيب النبى قال: ((يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوزنهما، فإذا رأته الملائكة قالت: يارب لمن يزن هذا؟ قال: لمن شئت من خلقى، فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك)).
تأمل.. لقد عرفت الملائكة أنها ما عبدت الرحمن حق عبادته من شدة الهول والرعب، فإن مشهد الميزان من أرهب مشاهد القيامة فالميزان حق، قال جل وعلا وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
بين الله تعالى أنه يضع الموازين بالقسط (أى بالعدل) وكفى بالله جل وعلا حسيبا، والراجح من أقول أهل العلم أن الميزان يوم القيامة ميزان واحد.
فما جوابك على الجمع فى قوله تعالى ونضع الموازين الراجح من أقوال العلماء أن الجمع فى الآية باعتبار تعدد الأوزان أو الموزون، لأن الميزان يوزن فيه أشياء كثيرة، وبين الملك العدل أن الميزان إن ثقل لو بحسنة واحدة فقد سعد صاحبها سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف الميزان ولو بسيئة واحدة فقد شقى صاحبه شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، قال جل وعلا: فَإذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:101-104].
انظر إلى دقة عدل الملك وسعة فضله؛ من ثقل ميزانه ولو بحسنة واحدة سعد سعادة لا شقاوة بعدها أبداً، ومن خف ميزانه بأن كان من أهل الشسرك شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبداً، أما من استوت موازينه، أي استوت حسناته مع سيئاته، فهو على الراجح من أقوال العلماء من أهل الأعراف الذين قصرت بهم سيئاتهم فلم يدخلوا الجنة ومنعتهم حسناتهم من أن يدخلوا النار، يحبسون على قنطره بين الجنة والنار، إذا التفت أهل الأعراف إلى أهل الجنة سلموا عليهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف: 46 ].
أى لم يدخلوا أهل الأعراف الجنة وهم يرجون رحمه الله، ويطمعون أن يدخلوا الجنة، وإذا التفتوا إلى الناحية الأخرى ورأوا أهل الجحيم تضرعوا إلى الملك العليم ألا يجعلهم مع القوم الظالمين.
قال جل وعلا: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإذا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:46-47].
إذا أيها المسلم الموحد حرى بك إذا ما تعرفت على أقسام الموازين الثلاثة ألا تحتقر أى عمل صالح ولو قل، وألا تستهين بمعصية واحدة ولو صغيرة، فاعلم أنه بحسنة واحدة يثقل الميزان وبسيئة واحدة يخف الميزان، بل بكلمة واحدة نقاد إلى رضا الرحمن، وبكلمة واحدة ننال سخط الجبار.
ففى الصحيحين من حديث أبى هريرة أن النبى قال: ((إن العبد ليتكلم بكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالاً يرفعه الله بها فى الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً فيهوى بها فى جهنم)) ( [3] ).
قد يستهين كثير منا بخطورة الكلمة، وكم من كلمات أشعلت حروباً بين أمم ودول !! وكم من كلمات أطفأت حروباً بين أمم ودول.
يا صاحب الكلمة اعلم علم اليقين أن كلمة تدخل المرء فى دين الله، وكلمة تبنى بيتاً وكلمة تهدم بيتاً، وكلمة تحل فرج امرأة لرجل، وكلمة تحرم فرج امرأة لرجل.
فالكلمة لها خطرها الجسيم فى دين الله فبكلمة تنال الرضوان، وبكلمة تتعرض لسخط الرحمن، فحسنة تثقل ميزان العبد وتدخله الجنة وسيئة تخف ميزان العبد وتدخله النار، لذا ثبت فى صحيح مسلم من حديث أبى ذر أن النبى قال: ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقَ أخاك بوجه طلق)) ( [4] ).
لا تقل هذا عمل بسيط، هذه طاعة صغيرة أو حقيرة، فكم من عمل صغير عظمته النية !! وكم من عمل عظيم حقرته النية!!
فلا تحقرن من المعروف شيئاً فإن عجزت فإنك لن تعجز أيها المسلم أن تهش وتبش فى وجه إخوانك، فما من بيت تخلو منه المشاكل، فابتسامتك هذه التى تحتقرها من الممكن أن تسعد قلب حزين، فابتسامتك هذه ممكن أن تزيل ألم أخيك النفسى، فما ذنب أخيك أن تلقاه بوجه عبوس كئيب.
بل لقد أخبرنا الصادق المصدوق ، كما فى الصحيحين من حديث أبى هريرة: ((أن امرأة بغياً رأت كلباً فى يوم حار يطوف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها (أى أنها استقت له من البئر، والموق هنا هو الخف) فغُفِر لها)) ( [5] ).
أود أن أقول: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟!
نعم نحتاج إلى رحمة، نحتاج إلى رفق، فالرحمة والرفق لا يهدمان ولا يفسدان أبداً، والشدة والعنف يهدمان ويفسدان، هذه سنة الله فى خلقه، ما كان الرفق فى شىء إلا زانه وما نزع الرفق من شئ إلا شانه.
ففى الصحيحين البخارى ومسلم من حديث ابن عمر رضى الله عنهما قال : ((عذبت امرأة فى هرة حبستها حتى ماتت جوعاً، فدخلت فيها النار قال: فقال – والله أعلم – لا هى أطعمتها ولا سقتها حين حبستها ولا هى أرسلتها تأكل من خشاش الأرض)) ( [6] ).
لذا يأمرنا الصادق المصدوق كما فى الصحيحين من حديث عدى بن حاتم يقول : ((اتقوا النار، ولو بشق تمره)) ( [7] ).
فقد ينجو العبد من النار بشق تمرة، فإن ثقل الميزان بحسنة سعد العبد بعدها سعادة لا شقاوة بعدها أبداً، وإن خف الميزان ولو بسيئة شقى العبد شقاوة لا سعادة بعدها أبداً، وإن تساوت الموازين فهو من أهل الأعراف والراجح من أقوال أكثر أهل العلم أن الله جل وعلا يتغمدهم برحمته فيدخلهم الجنة.
ثانياً: ما الذى يوزن فى الميزان؟
أيها الأحبة فى الله:
لقد اختلف أهل العلم فى الجواب على هذا السؤال على ثلاثة أقوال، فأعرنى قلبك وسمعك جيداً فإن الموضوع منهجى دقيق يحتاج إلى حسن متابعة.
أولاً: القول الأول
إن الذى يوزن فى الميزان هو الأعمال ذاتها - أى أعمال العبد من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة وبر وصدقة وغير ذلك من الطيبات الصالحات.
ولكن رفض البعض وقالوا: هذه الأعمال أعراض لا أجسام، والأعراض لا توزن ولا توضع فى الميزان، فكيف توزن الصلاة وهى ليست حجم؟! وكيف توزن الزكاة وهى كذلك؟! فكيف تقولون بأن الأعمال هى التى توزن يوم القيامة؟!
والجواب: أن الله جل وعلا يوم القيامة يحول الأعراض إلى أجسام توضع فى الميزان يخف الميزان ويثقل بحسب الحسنات والسيئات.
والأدلة على ذلك من السنة الصحيحة كثيرة فتدبر معى، أزف إليك سيلاً من الأدلة الصحيحة من السنة.
روى البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى قال: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)) ( [8] ).
انتبه يا مسلم الرسول يقول كلمتان عرض وليس جسماً بهما يثقل الميزان.
بل فى الحديث الذى رواه أحمد وأبو داود والترمذى والنسائى وابن حبان وصححه شيخنا الألبانى فى مشكاة المصابيح من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه أن النبى قال: ((ما من شىء أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق)) ( [9] )
فحسن الخلق أثقل شىء فى ميزان العبد يوم القيامة، بل وأخبرنا الصادق المصدوق أن القرآن الكريم يأتى يوم القيامة ليقف أمام العبد بين يدى الله جل وعلا على هيئه غمامة، أى على هيئه ظلة على رأس العبد يوم القيامة ليشفع له أمام الله، بل ويحاج القرآن عن العبد بين يدى الحق تبارك وتعالى.
اسمع ماذا قال المصطفى والحديث رواه مسلم من حديث أبى أمامه الباهلى يقول الصادق المصدوق : ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتى يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طيرصواف، تحجان عن صاحبهما اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركه وتركها حسره ولا تستطيعها البطله (السحرة) )) ( [10] ).
وفى صحيح مسلم يقول المصطفى : ((يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به فى الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غيايتان وبينهما شرف أو كأنهما غمامتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما ظلة من طيرصواف تحاجان عن صاحبهما)) ( [11] ) ، أى بين يدى الله جل وعلا.
كل هذه أدلة من السنة الصحيحة على أن الأعراض تتحول يوم القيامة إلى أجسام وما استطعنا أن نعى كل هذه الحقائق إلا لأننا أردنا أن نحكم قوانين الآخرة الغيبية بقوانين الدنيا الحسية فعجزنا.
أيها المسلم لا تعطل ولا تكيف ولا تمثل ولا تشبه، فلا يستطيع أحداً منا الآن أن يعاند أو يكابر أو يمتنع عن الاعتراف بعالم يعيش بيننا، آلا وهو عالم النحل، بل ولا يستطيع أحد منا أن ينكر أن النمل يتكلم بدليل أن الله لما فك رموز لغة النمل لسليمان عليه السلام، فهم سليمان لغة النمل وتجاوب مع النمل، فقد سجل الله فى قرآنه العظيم: حَتَّى إذا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (1/333)
النفخ في الصور
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصور وصاحبه من الملائكة 2- نفخة الفزع 3- نفخة الصعق
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.
أحبتي في الله:
هذا هو لقاءنا الثامن مع السلسلة الكريمة في رحاب الدار الآخرة ونحن الآن على موعد مع حدث هام يحدث حين قيام الساعة ألا وهو النفخ في الصور وإليك هذه الآيات الكريمة:
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا (1/334)
تابع الحساب
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سؤالات العبد يوم القيامة 2- السؤال عن العُمُر 3- السؤال عن العمل 4- السؤال عن
المال 5- السؤال عن البدن
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد...
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.
أحبتي في الله:
نحن اليوم بتوفيق الله جل وعلا على موعد مع اللقاء الخامس عشر من لقاءات هذه السلسلة المنهجية المباركة.
أخي الحبيب: تذكر معي أننا قد توقفنا في اللقاءين الماضيين على التوالى مع قواعد العدل التى يحاسب الله جل وعلا عباده بها يوم القيامة، ثم تعرفنا على أول أمة يحاسبها الله جل وعلا، وعلى أول من يقضي الله بينهم يوم القيامة، وعلى أول ما سيحاسب وما يسأل عنه العبد بين يدي الرب جل وعلا، ونحن اليوم بإذن الله تعالى لا زلنا مع الناس فى ساحة الحساب بين يدي الله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل يسأل العبد بعد الصلاة عن أربع:
عن عمره فيما أفناه؟! وعن علمه ماذا عمل فيه؟! وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟! وعن جسمه فيما أبلاه؟! هذه الأربع هي موضوع لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك.
أحبتي الكرام: أعيروني القلوب والأسماع فإن الموضوع من الأهمية بمكان والله أسأل أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض.
ولا شك أن الله عز وجل سيسأل العبد في ساحة الحساب عن كل ما قدم في هذه الحياة.
قال الله سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
وقال جل وعلا: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].
فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها.
ولكن النبي قد ذكر أن الله سبحانه سيسأل العبد عن أربع كما في الحديث الصحيح الذى رواه الترمذي والطبراني في معجمه والصغير، والخطيب في التاريخ، وصححه شيخنا الألباني في السلسلة الصحيحة وصحيح الجامع من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه؟)) ( [1] ).
أولاً :السؤال عن العمر
أحبتي في الله :
العمر هو البضاعة، ورأس المال فمن ضاعت بضاعته، وانتهى رأس ماله دون أن يحقق الربح فهو من الخاسرين.
هل حسبت أن هذا العمر، وهذه الأيام، وهذه الشهور وهذه السنوات، التى هى عمرك، والتى تمضى منك، وأنت لا تشعر، هل حسبت أن الله لن يسألك عنها؟!!
قال الله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116].
وقال سبحانه: أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40].
أليس ذلك بقادر على أن يبعثهم للوقوف بين يديه للسؤال عما قدموه وعما فعلوه.. للسؤال عن القليل، والكثير، صغير أو كبير، حقير أو عظيم !!
أيها المسلم الأيام تمر والأشهر تجرى وراءها تسحب معها السنين، وتجر خلفها الأعمار وتطوى الحياة جيلا بعد جيل وبعدها سيقف الجميع بين يدي الملك الجليل.
العمر يولي ستسأل عن كل ساعة، عن كل يوم، عن كل أسبوع، عن كل سنة، عن عمرك كله فيما أفنيته.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: " يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة فإن مضى يوم مضى بعضك وإن مضى بعضك مضى كلك".
ولذا كان الحسن رحمه الله يقول: " ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينادي بلسان الحال ويقول يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: " والله ما ندمت على شئ كندمي على يوم طلعت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي".
العمر هو البضاعة الحقيقة، ووالله ما منحنا هذه البضاعة الكريمة للهو واللعب والملذات والشهوات، والله ما للهو خلقنا بل خلقنا لغاية كريمة ولغاية عظيمة.
قال جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
هذه هي الغاية التي خلق الله لها الخلق، والله ما خلقنا الله لنضيع الأعمار أمام المسلسلات، وأمام المباريات، وأمام الأفلام، وأمام هذا العبث واللهو الذى تحول فى حياة هذه الأمة المسكينة إلى جد.
ومن أجمل ما قيل في قول الله تعالى فى حق نبي الله يحيى وَأتينَاهُ الحكْمَ صَبِياً [مريم:12]، قال جمهور المفسرين: أي آتاه الله الحكمة وهو طفل صغير فذهب إليه يوماً بعض أترابه من زملائه قبل أن يوحي الله إليه بالنبوة فقالوا: يا يحيى هيا بنا لنلعب! فقال يحيى: والله ما للعب خلقنا والله ما للهو والعبث خلقنا.
والله ما خلقنا لنضيع الأعمار، فإن جُلَّ الأمة الآن يقضي جُلَّ الليل أمام التلفاز ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يا من يمضي عمرك وأنت لا تدري.. اعلم بأنك ستسأل عن هذه الساعات.. ستسأل عن هذا العمر..
وتذكر يا من يمضي عمرك وأنت في غفلة أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة وأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، تذكر وصية الحبيب لعبد الله بن عمر كما في صحيح البخاري أنه أخذ بمنكبي عبد الله بن عمر وقال يا عبد الله :((كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ( [EME1] [2] ).
ما أحوجنا ورب الكعبة لهذه الكلمات، ونحن نعيش الآن عصراً طغى فيه حب الشهوات وحب الملذات وحب الدنيا، فإن كثيراً من الناس يُذَكَّر بقول الله فلا يتذكر !!، ويُذَكَّر بحديث رسول الله فلا يتحرك قلبه وكأن القلوب تحولت إلى حجارة!!
قال الله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [ البقرة: 74 ].
وقال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].
اللهم ارزقنا التفكير في آلائك ونعمك برحمتك يا أرحم الراحمين.
وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء".
قيل لإبراهيم بن أدهم طيب الله ثراه: يا إبراهيم كيف وجدت الزهد فى الدنيا؟!
فقال إبراهيم: بثلاثة أشياء، قيل: وما هي؟!
قال إبراهيم: رأيت القبر موحشاً وليس معي مؤنس، ورأيت الطريق طويلاً وليس معي زاد، ورأيت جبار السماوات والأرض قاضياً وليس معي من يدافع عني.
أيها الأحبة الكرام: الدنيا كلها إلى زوال والعمر كله إلى فناء، ويوم أن نام السلطان الفاتح محمد بن ملك شاه على فراش الموت، وكان من السلاطين الأثرياء الأغنياء قال: اعرضوا عَلَيَّ كل ما أملك من الجواري والغلمان، والنساء، والأموال، والجواهر بل، وليخرج الجند جميعاً، فخرج الجيش عن بَكْرَة أبيه، فنظر السلطان إلى هذا الملك العظيم وبكى وقال: والله لو قَبِلَ مني ملك الموت كل هذا لافتديت به!!
ثم نظر إلى جنوده وقال: أما هؤلاء والله لا يستطيعوا أن يزيدوا فى عمري ساعة ثم أجهش بالبكاء وقال: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29].
وهذا أخوه هارون الرشيد الذى كان يخاطب السحابة في كبد السماء، ويقول لها: أيتها السحابة في أي مكان شئت أمطري فسوف يحمل إلي خراجك إن شاء الله تعالى.
لما نام على فراش الموت بكى هارون قال لإخوانه: أريد أن أرى قبرى الذي سأدفن فيه!!
فحملوه إلى قبره، فنظر هارون إلى قبره وبكى ورفع رأسه إلى السماء: وقال يا مَنْ لا يزول مُلكه ارحم من زال ملكه.
واذكر ذنوبك وابكها يا مذنبُ
دع عنك ما قد فات فى زمن الصبا
بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعبُ
لم ينسه الملكان حين نسيته
ستردها بالرغم منك وتُسلبُ
والروح منك وديعة أودعتها
دارٌ حقيقتها متاعٌ يذهبُ
وغرور دنياك التى تَسْعَى لها
أنفاسنا فيها تُعَدُّ وتُحسَبُ
الليل فاعلم والنهار كلاهما
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون :115-116].
أخى الكريم:
لن تتحرك قدمك يوم القيامة حتى تسأل عن عمرك.
انتبه يا من تغافلت عن هذه البضاعة ورأس المال الحقيقى الذي تملكه ألا وهو عمرك، واعلم يقينا أن كل يوم يمر عليك يبعدك عن الدنيا يوماً ويقربك من الآخرة يوماً.
قال لقمان الحكيم لولده: أى بُنَيَّ إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة فأنت إلى دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها.
ولقي الفضيل بن عياض رجلاً فقال الفضيل: كم عمرك؟! قال الرجل: ستون سنة، قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله توشك أن تصل. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الفضيل: هل عرفت معناها، قال: نعم عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع.
قال الفضيل: يا أخي من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، عرف أنه موقوف بين يديه ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً. فبكى الرجل وقال: يا فضيل وما الحيلة؟! قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟، قال: أن تتقي الله فيما بقي من عمرك يغفر الله لك ما قد مضى، وما قد بقي من عمرك.
ثانياً: عن علمه ماذا عمل به؟!
اعلم يقينا أنك ستسأل عن كل كلمة استمعت إليها في خطبة جمعة، أو محاضرة أو قرأتها فى كتاب، ستسأل عن علمك الذى تعلمت، ماذا عملت به؟؟ تُرى منذ متى ونحن نسمع عن الله؟! تُرى منذ متى ونحن نسمع عن رسول الله ؟! ومع ذلك سترى البون شاسعاً بين القول والعمل، سترى فجوة خطيرة بين القول، والعمل، وهذه الفجوة سبب من أسباب النفاق، قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3].
وقال جل وعلا: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
أسأل الله أن يرزقنا الصدق، والإخلاص في القول، والعمل.
أيها الأحبة الكرام: العلم أغلى ما يطلب في هذه الحياة بلا شك، ولا نزاع فلا سبيل إلى معرفة الله، ولا سبيل إلى الوصول إلى رضوان الله فى الدنيا والآخرة إلا بالعلم الشرعى، العلم يبذل له المال، العلم يبذل له العمر، العلم يبذل له الوقت كله، فإن أغلى ما يضحى له هو العلم، ولم يأمر الله نبيه بطلب الزيادة من شيء إلا من العلم، كما قال تعالى آمراً نبيه المصطفى : وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].
ثم قال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ فاطر: 28 ]. ثم قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [ المجادلة: 11 ].
ثم قال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ آل عمران: 18 ].
وفى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبى قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً – قال ابن حجر فى الفتح: أي محواً من الصدور- ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً – وفي لفظ ((رؤساء جهالا)) - فسئلوا فأفتوا بغير علم فَضَلُّوا وأَضَلُّوا)) ( [3] ).
وفي الصحيحين أن النبى قال: ((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)) ( [4] ).
وفي الصحيحين أن النبى قال لعلي: ((لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خيرُُ لك من حمر النعم)) ( [5] ).
وفي الحديث الذى رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وحسنه شيخنا الألباني بشواهده من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبى قال: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل من فى السموات والأرض حتى الحيتان فى الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً أو درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) ( [6] ).
من آتاه الله العلم آتاه الحظ الوافر، وآتاه الخير كله، فإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولكن الله لا يعطي الدين إلا لمن يحب، ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين، قال - كما في صحيح مسلم وغيره - : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)) ( [7] ).
هذا العلم إن لم يحرك قلبك وجوارحك للعمل، ولخشية الله وتقواه فلا خير فيه، ولا بركة له.
ما ثمرة العلم إن لم يورثك العمل؟! ما ثمرة العلم إن لم يقر بنا من الله سبحانه وتعالى؟!
ما ثمرة هذه المحاضرات والخطب والكلمات التى تخلع القلوب إن لم تعبد القلوب لرب الأرض والسماوات؟!
إن لم يورثنا هذا العلم خشية الله.. إذا لم يورثنا هذا العلم تقوى القلوب.
إن لم يورثنا هذا العلم حُب السنة وبُغض البدعة فما ثمرة هذا العلم؟!
يقول الإمام الشاطبي في كتابه القيم "الموافقات": " إن كل علم لا يفيد عملا ليس في الشرع ما يدل على استحسانه".
قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد أن النبي قال: ((يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه (أي أمعاءه) ، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه)) ( [8] ).
لذا كان الحبيب المصطفى يستعيذ من علم لا ينفع كما في صحيح مسلم وسنن الترمذي من حديث زيد بن الأرقم أن النبي كان يقول في دعاءه ((...اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها)) ( [9] ).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: " إنني أخاف أن يقال لي يوم القيامة أعلمت أم جهلت؟ فأقول: علمت فلا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها فتقول الآمرة: هل ائتمرت؟ وتقول الزاجرة: هل ازدجرت؟"
ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الحقيقي هو الذى يورثك خشية الله هو الذى يورثك العمل.
وكان علي بن أبي طالب يقول: " يا حملة العلم اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيأتي أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم يقعدون جلفاء يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه، وجلس إلى غيره، أولئك لا ترفع أعمالهم تلك إلى الله عز وجل".
إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، لذا قال مالك بن دينار: " إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا". اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص في القول والعلم، وقال ابن السماك: كم من مُذَكِّر لله وهو ناس لله!! وكم من مُخَوِّف من الله وهو جريء على الله!! وكم من مُقَرِّب إلى الله وهو بعيد عن الله!!
وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ عن آيات الله!!
فأنت ترى كماً هائلاً من المحاضرات، والدروس، وترى كما هائلا من المراجع، والمجلدات، والكتب، ومع ذلك ترى بونا شاسعا وفرقا كبيرا بين هذا المنهج النظري وبين هذا الواقع العملي.
إن هذه الفجوة تبذر بذور النفاق في القلوب كما قال علام الغيوب: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3].
لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن علمه ماذا عمل به؟!
ثالثاً: عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟!
المال نعمة من أعظم النعم، المال زينة الحياة الدنيا مع الأولاد.
قال جل وعلا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ الكهف :46]
ولاحظ أن الله قدم في هذه الآية المال على الأولاد، المال زينة ونعمة عظيمة، ولكن لا يعرف قدر هذه النعمة إلا من عرف الغاية من المال، فما أكرمها من نعمة إن حركتها أيدي الصالحين، والشرفاء.
المال نعمة لا يعرف قدرها إلا صالح تقي عرف الغاية من المال، وعرف الوظيفة الحقيقية للمال، وعرف أن المال ظل زائل وعارية مسترجعة.
المال نعمة من الله مَنَّ بها عليك، وزينة زَيَّنَكَ الله بها.
ولكن انتبه سوف تُسأل عن هذا المال كله من أين اكتسبت؟! وفيما أنفقت؟! سؤالان يملأن القلب بالخوف والوجل ويجعلان العبد يسأل نفسه ألف مرة قبل أن يحصل على هذا المال.
يا من تتاجر في الحرام، فى المخدرات لتحرق قلوب فلذة أكبادنا ولا هم لك إلا أن تجمع المال، حاسب نفسك الآن وقف مع نفسك موقف صدق، من الآن طَهَّر مالك كله قبل أن تُسأل بين يدي الله الذى يعلم السر وأخفى، عن كل ما جمعت من مال، من أين لك هذا المال؟ وفيما أنفقته؟؟
فالمال نعمة إذا حركته أيدي الصالحين والشرفاء، المال منحة لمؤمن تقي عرف الغاية منه، وعرف الوظيفة لهذا المال، لذا يقول سيد الرجال كما في الصحيحين: ((لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) ( [10] ).
وتدبر معي أخي الكريم قول الحبيب والحديث رواه أحمد والترمذي وصححه شيخنا الألباني من حديث أبي كبشة الأنماري عنه قال: ((ثلاثة أقسم الله عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، وما ظُلِمَ عبد مظلمةً فصبر عليها إلا زاده الله عز وجل بها عزاً ولا فتح عبد باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب فقر وأحدثكم حديثا فاحفظوه إنما هذه الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي في ماله ربه ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية لله يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول لو أن لى مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته ووزرهما سواء)) ( [11] ).
إن المال لا يصبح نعمة إلا إذا كان في يد صالحة تعرف الغاية منه والمال الذي سنتركه ليس مالاً لنا وإنما هو مال ورثتنا كما في صحيح البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال : ((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله))؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا وماله أحب إليه من ماله وارثه، قال: ((فإن ماله ما قدم ومال ورثته ما أخر)) ( [12] ).
لذا يقول المصطفى كما في صحيح مسلم من حديث ابي هريرة رضي الله عنه: ((يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو اعطى فأقنى، وما سوى ذلك، فهو ذاهب وتاركه للناس)) ( [13] ).
ولذا ورد فى سنن الترمذي أن عائشة رضي الله عنها ذبحت شاة وتصدقت بها كلها إلا الذراع فقال النبي : ((ما بقى من الشاة يا عائشة))؟ قالت: ما بقي منها شيء إلا الذراع، فقال المصطفى : ((بقي كلها إلا الذراع)) ( [14] ).
إن الذي تصدقت به هو الذي سيبقى لك في ميزان أعمالك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
واسمع لحبيبك المصطفى وهو يقول كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: ((أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين قال تعالى: يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )) [المؤمنون:51].
وقال تعالى للمؤمنين: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، وقال: يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [ البقرة: 172 ]، ثم ذكر ((الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يَمُدُّ يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام - وفى رواية ((وملبسه حرام )) - وغُذِي بالحرام فَأَنَّى يُستَجَاب لذلك)) ( [15] ).
أنى يستجاب لمن أكل الحرام، أنى يستجاب لمن شرب الحرام أنى يستجاب لمن غذى أولاده بالحرام، إننا نرى الآن تهاوناً مروعاً في الأكل الطيب الحلال فنرى الرجل لا هم له إلا جمع المال، من أي سبيل كان حتى لو كان حراماً حتى لو كان من الربا حتى لو كان من أموال الناس بالباطل المهم أن يكتنز المال، ومع ذلك فوالله لن يخرج من الدنيا بدرهم أو دولار
والفقر خير من غناً يطغيها
النفس تجزع أن تكون فقيرة
فجميع ما في الأرض لا يكفيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت
ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن
هى القناعة فالزمها تكن
هل راح منها بغير الطيب والكفن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها
لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟
رابعاً :عن جسمه فيما أبلاه
قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
سيسأل الفؤاد والقلب عما وعاه من اعتقاد، هل امتلأ القلب بحب الله وبحب رسول الله والمؤمنين وامتلأ في الوقت ذاته ببغض الشرك والمشركين والباطل والمبطلين؟! سيسأل السمع عن كل ما سمع سيسأل البصر عن كل ما رأى، فهل يا ترى لا يسأل العبد بين يدى الرب سبحانه إلا عن هذه الجوارح فحسب..؟ كلا بل سيسأل الإنسان عن جسمه كله.
سيشهد هذا الجسم كله بما قدم وبما صنع وبما فعل سيشهد السمع والبصر والفؤاء ستشهد الرجل واليد والجوارح عامة قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].
وقال الله جل وعلا وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:19-21].
سيشهد عليك بدنك كله وسوف تسأل عن هذا البدن وعن هذا الجسم فيما أبليته، هل أبليت جسمك فى عمل الدنيا والآخرة أم في عمل الدنيا فحسب؟
فلا حرج أن يبلي الإنسان جسمه في عمل الدنيا وفي عمل الآخرة, والخطأ والحرج أن يفنى وأن يبلي جسمه كله وحياته كلها في عمل الدنيا ليضيع بذلك حق الله وعمل الآخرة، ياأخي في الله تاجر وعَمِّر وابنِ واجمع المال من الحلال لكن لا تنسى حق الكبير المتعال لا تنسى الآخرة. اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، فلا حرج أن تجمع بين الأمرين.
قال المصطفى ((اللهم اصلح لي ديني الذى هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي)) ( [16] ).
فلا تجعل عمرك جله للدنيا وتنسى الآخرة، ستتمني يوم القيامة الرجعة والعودة إلى الدنيا لا لتعمل للدنيا مرة أخرى بل لتعمل للآخرة، قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:97-100].
كلا.. فاعمل الآن للدنيا وللآخرة قبل أن تتمنى الرجعة والعودة فيقال لك: كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100].
لا يسمعها الله ولا يجيبها الله، واعلم يقيناً أنه والله لو أفنيت جسمك كله ليلاً ونهاراً من أجل الدنيا ونسيت عمل الآخرة والله لن تحصل من الدنيا إلا ما قدره الرزاق لك، تدبر هذا الحديث الجميل الذى رواه الترمذي وغيره وصحح الحديث الشيخ الألباني في صحيح الجامع أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر الله له)) ( [17] ).
أخي الحبيب سل نفسك الآن فيما أبليت جسمك في عمل الدنيا والآخرة أم في عمل الدنيا؟
هل أبليت جسمك في طاعة الله ورسوله أم في معصية الله ورسوله؟
سل نفسك الآن فيما مضى من عمرك هل سَخَّرت جسمك فى طاعة الله ورسوله أم سخرته في معصية الله ورسوله؟
هل أعطاك الله نعمة هذا الجسم لتعصى الله بها أم لتطيع الله بها؟
واعلم يقيناً أن المعصية سبب لكل شقاء وضنك وبلاء في الدنيا والآخرة والطاعة سبب لكل فلاح وفوز وخير في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس: "إن للطاعة نوراً في الوجه ونوراً في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق، وإن للمعصية سواداً فى الوجه وظلمة في القلب وضيقاً في الرزق وضعفاً في البدن وبغضاً في القلوب".
وذهب رجل إلى إبراهيم بن أدهم طيب الله ثراه فقال له يا إبراهيم: ساعدني في البعد عن معصية الله ، كيف أترك معصية الله جل وعلا؟ فقال له إبراهيم: تذكر خمسا فإن عملت بها لن تقع في معصية الله وإن زلت قدمك سرعان ما ستتوب إلى الله جل وعلا، قال: هاتها يا إبراهيم. قال إبراهيم: أما الأولى إن أردت أن تعصي الله جل وعلا فلا تأكل من رزق الله. قال: كيف ذلك والأرزاق كلها بيد الله؟
قال: فهل يجدر بك أن تعصي الله وأنت تأكل من رزقه. قال يرحمك الله يا إبراهيم: هات الثانية. قال إبراهيم: أما الثانية إن أردت أن تعصي الله جل وعلا فابحث عن مكان ليس فى ملك الله واعصٍ الله عليه. قال: كيف ذلك والملك ملكه والأرض ملكه والسماء ملكه؟! قال: ألا تستحي أن تعصي الملك في ملكه؟ قال يرحمك الله هات الثالثة. قال: أما الثالثة إن أردت أن تعصي الله جل وعلا فابحث عن مكان لا يراك الله فيه. قال: وكيف ذلك والله يسمع ويرى؟!
قال: ألا تستحي أن تعصي الله وأنت على يقين أن الله يراك؟ قال: يرحمك الله هات الرابعة.
قال: إذا جاءك ملك الموت فقل له أجلنى ساعة حتى أتوب إلى الله وأدخل في طاعته. قال: كيف ذلك يا إبراهيم ؟! والله جل وعلا يقول: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].قال: فهل يجدر بك وأنت تعلم ذلك أن تسوف التوبة وعمل الطاعات؟ قال: يرحمك الله هات الخامسة. قال: أما الخامسة إذا جاءتك زبانية جهنم لتأخذك إلى جهنم فإياك أن تذهب معهم. فبكى الرجل وعاهد الله عز وجل على الطاعة.
أيها المسلم فكر في هذه الخمس جيدا قبل أن تعصي الله، واعلم يقينا أنك بشر فإن زلت قدمك في معصية الله جدد الأوبة والتوبة إلى الله واعلم جيداً أن الله يحب التوابين والمتطهرين وما من ليلة إلا والملك ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بكماله وجلاله كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وينادي الحق سبحانه وتعالى ويقول: ((أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذى يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فاغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)) ( [18] ).
فهيا أخي الحبيب عُد إلى الله وتب إلى الله واستعد للجواب عن هذه الأسئلة الأربعة، واعلم علم اليقين أنه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه؟!
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
( [1] ) رواه الترمذى رقم (2419) ، فى صفة القيامة ، باب رقم (1) ، وقال : حسن صحيح ، وصححه شيخنا الألبانى فى الصحيحة رقم (946) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (7299).
( [2] ) رواه البخارى رقم (11/192) ، فى الرقاق ، باب قول النبى (( كن فى الدنيا كأنك غريب )) ، والترمذى رقم (2334) ، فى الزهد ، باب ما جاء فى قصر الأمل.
( [3] ) رواه البخارى (1/174) ، فى العلم ، باب كيف يقبض العلم ، ومسلم رقم (2673) ، فى العلم ، باب رفع العلم وقبضه ، والترمذى رقم (2654) ، فى العلم ، باب ما جاء فى ذهاب العلم.
( [4] ) رواه البخارى رقم (3116) ، الجهاد ، باب قول الله تعالى فإن لله خمسه وللرسول ، ومسلم رقم (1027) ، فى الإمارة ، باب فضل الرمى.
( [5] ) رواه البخارى رقم (3701) فى فضائل أصحاب النبى ، باب مناقب على بن أبى طالب رضى الله عنه ، ومسلم رقم (2406) فى فضائل الصحابة ، باب من فضائل على ابن أبى طالب.
( [6] ) رواه أبو داود رقم (3641،3642) ، فى العلم ، باب الحث على طلب العلم ، والترمذى رقم (2683،2684) ، فى العلم ، باب ما جاء فى فضل الفقه على العبادة ، وهو فى صحيح الجامع حديث رقم (6297).
( [7] ) رواه مسلم رقم (1631) ، فى الوصية فى باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته ، وأبو داود رقم (2880) ، فى الوصايا ، باب ما جاء فى الصدقة عن الميت ، والترمذى رقم (1376) فى الأحكام ، باب فى الوقف ، والنسائى (6/251) ، فى الوصايا ، باب فضل الصدقة عن الميت.
( [8] ) رواه البخارى (6/238) ، فى بدء الخلق ، باب صفة النار ، ومسلم رقم (2989) ، فى الزهد ، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله.
( [9] ) رواه مسلم رقم (2722) ، فى الذكر والدعاء ، باب التعوذ من شر ما عمل ، ورواه الترمذى رقم (3478) ، فى الدعوات ، باب رقم (69) ، والنسائى (8/255) ، فى الإستعاذة ، باب الاستعاذة من قلب لا يخشع.
( [10] ) رواه البخارى (9/65) ، فى فضائل القرآن ، باب اعتباط أصحاب القرآن ، ومسلم رقم (815) ، فى صلاة المسافرين ، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه ، والترمذى رقم (1937) ، فى البر والصلة ، باب ما جاء فى الحسد.
( [11] ) رواه مسلم رقم (2588) ، فى البر والصلة ، ورواه الترمذى واللفظ له رقم (2326) ، فى الزهد ، باب جاء أن مثل الدنيا مثل أربعة نفر ، ورواه أيضاً الإمام أحمد فى المسند (4/230،231) ، وابن ماجة ، فى الزهد رقم (4228).
( [12] ) رواه البخارى رقم (6442) ، فى الرقاق ، باب ما قدم من ماله فهو له ، ورواه الإمام أحمد فى المسند رقم (3626).
( [13] ) رواه مسلم رقم (2959) ، فى الزهد ، باب الزهد.
( [14] ) رواه الترمذى رقم (2472) ، فى صفة القيامة ، باب رقم (34) ، وقال : هذا حديث صحيح.
( [15] ) رواه مسلم رقم (1015) ، فى الزكاة ، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها ، والترمذى رقم (2992) ، فى التفسير ، باب ومن سورة البقرة.
( [16] ) رواه مسلم رقم (2721) فى الذكر ، باب التعوذ من شر ما عمل ، وهو فى صحيح الجامع رقم (1263).
( [17] ) صححه شيخنا الألبانى فى الصحيحة رقم (949) وقال أخرجه الترمذى (2/76).
( [18] ) رواه البخارى رقم (1145) فى التهجد ، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل ، ومسلم رقم (758) فى صلاة المسافرين ، باب الترغيب فى الدعاء والذكر فى آخر الليل ، والموطأ (1/214) فى القرآن ، والترمذى رقم (3493) فى الدعوات ، وأبو داود رقم (1315) فى الصلاة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/335)
الدعاء.. فضله وحقيقته وأدبه وثمرته
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حق الداعي على الله عز وجل ومنزلته 2- عدم تعليق الدعاء بالمشيئة 3- قصر المسألة
إلى الله دون سائر خلقه 4- أوقات مستحبّة للدعاء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله ربكم وأطيعوه، واشكروا له ولا تكفروه، وأثنوا عليه بما هو أهله وادعوه، فإنه ـ سبحانه ـ قد أمركم بإخلاص الدعاء، ووعدكم عليه بكريم العطاء وصرف البلاء، وأرشدكم إلى أن الدعاء من أعظم الأسباب التي ينال بها الخير ويتقى به المكروه في الدنيا والأخرى، فقال ـ جل ذكره ـ في تنزيله وذكره: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]. وقال ـ سبحانه ـ: هُوَ ?لْحَىُّ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ فَـ?دْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [غافر:65].
عباد الله، اطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء، وسلوا الله العفو والعافية واليقين في الآخرة والأولى، وسلوه ـ تبارك وتعالى ـ أن يستر عوراتكم، وأن يؤمن روعاتكم، وأن يؤتيكم في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة؛ فإن ذلك من جوامع الدعاء، واستجابته من جزيل العطاء وسابغ النعماء، ومن دعا ربه فاستجاب له ورأى ما يسره فليقل: الحمد لله الذي بنعمته وعزته وجلاله تتم الصالحات. ومن أبطأ عنه مطلوبه ومراده أو رأى ما يكره فليقل: الحمد لله على كل حال [1] ؛ فإن ذلكم هو هدي نبيكم محمد في تلك الأحوال.
أيها المسلمون، أكثروا من الدعاء، فليس شيء أكرم على الله ـ عز وجل ـ من الدعاء، ومن لم يدع الله ـ عز وجل ـ غضب عليه، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي قال: ((إن الله حيي كريم إذا رفع العبد إليه يديه يستحي أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً)) [2]. وفي صحيح الحاكم وغيره بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بإحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)) [3].
أيها المسلمون، من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له، ومن سره أن يستجيب الله له حال الشدة والضيق فليكثر من الدعاء حال الرخاء، وليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، وليلح في الدعاء ؛ ففي المتفق عليه عن أبي هريرة عن النبي قال: ((يستجيب الله لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل)) ، قالوا: وما الاستعجال يا رسول الله؟ قال: ((يقول: قد دعوتك يا رب، قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لي، فيتحسر عند ذلك فيدع الدعاء)) [4].
وفيهما عنه أيضا قال: قال رسول الله : ((لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارزقني إن شئت. ليعزم مسألته ؛ فإنه يفعل ما يشاء لا مكره له)) [5] ، وفي صحيح مسلم عنه أيضا أن رسول الله قال: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) [6].
فينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء، وأن يكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما، وقد روي عن الإمام ابن عيينة ـ رحمه الله ـ قال: لا يمنعن أحدكم الدعاء ما يعلم من نفسه ـ يعني التقصير ـ فإن الله قد أجاب شر خلقه وهو إبليس حين قال: قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36].
أيها المؤمنون، ليكن فزع أحدكم في الدقيق والجليل من حاجاته ورغباته إلى الله، ولا يلتفت في شيء منها بقلبه إلى أحد سواه؛ فإن الله ـ تعالى ـ قال: وَ?سْأَلُواْ ?للَّهَ مِن فَضْلِهِ [النساء:32]. وقال: فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18].
وفي الترمذي بسند حسن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل)) [7] ، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ثوبان قال: قال رسول الله : ((من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له الجنة؟)) فقلت: أنا. فكان لا يسأل الناس شيئا [8].
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله تسعة ـ أو ثمانية أو سبعة ـ فقال: ((ألا تبايعون رسول الله ؟)) وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ((ألا تبايعون رسول الله؟)) فبسطنا أيدينا وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: ((على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا ـ وأسر كلمة خفيفة ـ ولا تسألوا الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه)) [9].
عباد الله، اجتهدوا في الدعاء، وأكثروا من الثناء، وعظموا الرجاء، وتحلوا بآداب الدعاء، فإن خزائن الله ملأى، ويديه سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، وفي الحديث القدسي الصحيح يقول الله ـ تعالى ـ: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي شيئاً)) [10]. في التنزيل: ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين [الأعراف:55-56].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من خاصة أوليائه وأحبابه، الذين يحل عليهم رضوانه ويمنحهم جزيل ثوابه، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرج ابن ماجه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب قال : ((الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات))، وإذا رأى ما يكره قال: ((الحمد لله على كل حال)) وهو حديث حسن.
[2] أخرجه أحمد (5/438)ـ وأبو داود ح (1488) والترمذي ح (3556) وقال: حسن غريب، وابن ماجه ح (3865).
[3] مستدرك الحاكم (1/493) وقال : صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي بنحوه ح (3381).
[4] صحيح البخاري بنحوه ح (6340) ، صحيح مسلم ح (2735) واللفظ له.
[5] صحيح البخاري ح (6339) ، صحيح مسلم ح (2679).
[6] صحيح مسلم ح (2679).
[7] سنن الترمذي ح (2326) ، وقال : حسن غريب ، وهو صحيح إلا أن قوله : ((برزق.. )) انظر السلسلة الصحيحة للألباني (2787).
[8] سنن أبي داود ح (1643) ، وصحح المنذري إسناده في "الترغيب" ح (1200).
[9] صحيح مسلم ح (1043).
[10] أخرجه مسلم ح (2577).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين والناصح المبين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، وعاملوه معاملة من يعتقد أنه يسمع ويرى، وادعوه واذكروه في سائر أحوالكم تفوزوا بخيري الدنيا والأخرى، ولا تعرضوا عن الدعاء فتحشروا مع من استكبر وأبى، بل ادعوا الله مخلصين له الدين راغبين راهبين، وبآداب الوحيين مستمسكين؛ فإن سؤال الله الحاجات دقيقها وجليلها كبيرها وصغيرها توحيد وعبادة، وإن عدم الاحتياج إلى الله والإعراض عنه كفر وإباء؛ يوصل صاحبه النار وبئس مهاده، وإن الالتفات بالحاجات إلى غير رب الأرض والسماوات شرك برب العالمين؛ يخرج صاحبه من الدين، ويحرمه إذا مات عليه مغفرة ورحمة أرحم الراحمين، ويحرم عليه الجنة ويجعله خالدا في النار، وذلك هو الخسران المبين.
عباد الله، اعلموا أن دعاء المؤمن لا يرد، غير أنه قد تقتضي حكمة الله تأخير الإجابة، أو يعوض عنه بما هو أولى له مما دعا به عاجلا وآجلا، وذلك من رحمة الله بعباده. فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء، كما هو متعبد في التسليم والتفويض للقدر والقضاء، ومن جملة آداب الدعاء تحري الأحوال والأوقات الفاضلة كالسجود، وعند الأذان وبين الأذان والإقامة وآخر الليل، ومنها أن يكون على طهارة إذا تيسر، ومنها استقبال القبلة، ورفع اليدين، وتقديم التوبة، والاعتراف بالذنب، والإخلاص، وسبقه بما تيسر من الصدقة، وترك أكل الحرام، وافتتاح الدعاء بالحمد والثناء، والصلاة على خير المرسلين وخاتم الأنبياء، وسؤال الله بأسمائه الحسنى، والدعاء بجوامع الدعاء.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/336)
المجاهر بالكفر وأتباعه
التوحيد
نواقض الإسلام
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
طبقات الكفار المجاهرين بالكفر : الأولى : أئمة الكفر ورؤوسه , الثانية : الأتباع المقلدون -
مضاعفة العذاب لأئمة الكفر من وجوه : عقيدتهم الكافرة , عنادهم وإعراضهم , صدهم عن
سبيل الله – كفر أتباع الكفار بالإجماع وإن كانوا مسالمين , والأدلة على ذلك , وأما حكمهم في
الآخرة ففيه تفصيل – أسباب استحقاق الكافر العذاب هو العناد والإعراض
_________
الخطبة الأولى
_________
فبعد أن بينا لكم أهم أحوال الكفار المنافقين نبدأ منذ اليوم في بيان أحوال الكفار المجاهرين، وأصنافهم وطبقاتهم، ثم يأتي الحديث بعد ذلك بأمر الله تعالى عن موقف المسلم من كل هؤلاء وما يجب عليه من أحكام شرعية في هذا الشأن.
فأما الكفار المجاهرون فعلى طبقتين:
الأولى: رؤساء الكفر وأئمته وطواغيته ودعاته.
الثانية: الأتباع المقلدون من تبعة الكفرة وحميرهم الذين هم تبع لهم.
أما رؤساء الكفر وأئمته وطواغيته ودعاته الذين كفروا بالله وصدوا عن سبيل الله صدوا الناس عن الإيمان فإنه يُضاعف لهم العذاب يوم القيامة من وجوه.
أولها: من حيث عقيدتهم الكافرة نفسها التي اعتقدوها.
وثانيها: من حيث عنادهم وضلالهم وإعراضهم عن الحق عمدًا وعلى بصيرة.
وثالثها: من حيث سعيهم لإطفاء نور الله وإخفاء كلماته، وهدم دينه وصد الناس عنه.
فمن اجتمعت فيه من أئمة الكفر ودعاته ورؤساءه وطواغيته، من اجتمعت فيه هذه الثلاثة فهو من أشد عذابًا من أتباعهم لأنهم يحملون أوزارهم وأوزار أتباعهم قال تعالى: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابًا فوق العذاب [النحل: 88].
وقال سبحانه عن آل فرعون وهم من أشد الكفار وطغيانًا وجبروتًا قال تعالى: النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر: 46].
وكما أرسل سيدنا رسول الله إلى هرقل إمبراطور الروم يدعوه إلى الإسلام كان مما قال له في كتابه: ((أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين)) [1] أي عليك إثم أتباعك.
فأئمة الكفر رؤساؤهم وطواغيته ودعاته هم أشد أعداء الله كفرًا وخبثًا وحقدًا على المسلمين وعداوة للمؤمنين.
أما الطبقة الثانية من طبقات الكفار فهي طبقة الأتباع المقلدين من جهلة الكفرة، وحميرهم الذين هم تبع لهم يقولون: إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [الزخرف:23].
فهؤلاء مع أنهم قد يكونون مسالمين لأهل الإسلام غير محاربين لهم، ولم ينصبوا أنفسهم لما نصب لهم أنفسهم أولئك الطواغيت والرؤساء وأئمة الكفر فإنهم مع ذلك كفار على الرغم من أنهم أتباع مقلدون، كفار بإجماع العلماء، لأن الأدلة تتضافر على وصفهم بالكفر قال : ((ما من مولود يولد إلا وهو على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه يمجسانه)) [2].
فأخبر أن كل مولود حتى أطفال الكفار والمشركين، كل مولود يولد على الإسلام فهو مسلم حتى يبلغ ويميز، ثم أخبر أن أبويه يتوليان نقله من الفطرة إلى الكفر من الإسلام إلى الكفر، ومع ذلك وصفه بوصف الكفر مع أن سبب كفره هنا هو المنشأ والمربا الذي عليه والده، ومع ذلك فهو يهودي أو نصراني أو مجوسي وصفه رسول الله بوصف الكفر.
والقرآن صريح في أن الكفرة من الأتباع والمقلدين مثل مرؤوسيهم في الكفر وفي العذاب في النار فأخبر سبحانه عن هؤلاء الأتباع المقلدين لأئمة الكفر أنهم يصفون رؤسائهم في الكفر يوم القيامة بقولهم: ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون [الأعراف: 38].
وقال سبحانه وتعالى: وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعًا فهل أنتم مغنون عنا نصيبًا من النار قال الذين استكبروا إنا كلٌ فيها إن الله قد حكم بين العباد [غافر: 48].
فهذه الأدلة وغيرها دلت على أن الأتباع والمقلدين في أمم الكفر كفارٌ مثل طواغيتهم ورؤساءهم وأئمتهم في الكفر.
لكن في مسألة تعذيبهم في النار تفصيل لابد منه، وهو التفريق بين الكافر المقلد الذي تمكن من العلم ومعرفة الحق ووجه من الوجوه ثم أعرض عنه، وبين الكافر المقلد الذي لم يتمكن من العلم ومعرفة الحق ولو بوجه من الوجوه.
فأما الأول فلا عذر له عند الله يوم القيامة.
وأما الثاني فمنهم من يكون مريدًا للهدي تواقًا إلى الحق يقول يا ربي لو أعلم دينًا خير من هذا الذي أنا عليه لدنت به وتركت الذي أنا عليه، لكنه لا يعرف سوى ما هو عليه لا يقدر على غيره لعدم من يرشده إلى الحق ويبين له الحجة.
وإما أن يكون لا إرادة له في معرفة الهدى والحق، فهو على ما هو عليه لا يتطلع إلى ما سواه ولا تتوق نفسه إلى معرفة الهدى والحق، فهما وإن كانا ليسا سواء وإن كان هذا ليس مساويًا للأول لكنهما تحت حكم الله عز وجل يقضي بينهما يوم القيامة بحكمته وعدله.
فأما من لم يتمكن من العلم ومعرفة الحق ولو بوجه من الوجوه من الأتباع والمقلدين من أهل الكفر فحكمه حكم من لم تبلغه الدعوة من أهل الفترات.
يحكم الله بينهم يوم القيامة بحكمته وعدله فيمتحنهم يوم القيامة فمن أجاب منهم وأطاع أدخله الجنة، ومن كذب منهم وعصى أدخله النار.
والله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا من خلقه حتى يقيم الحجة عليه أخبر بذلك في كتابه فقال سبحانه: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً [الإسراء:15]. وقال تعالى: رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [النساء:165].
وقال عز وجل: وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين [الزخرف: 76].
فهذا الذي عرف ما جاء به الرسول وتمكن من العلم به ولو بوجه من الوجوه ثم أعرض عنه فهو ظالم يُعذَّب بفعله هذا يوم القيامة، وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول ولم يتمكن من هذا ولو بوجه من الوجوه فلا يسمى هذا ظالمًا. هذا من أهل الفترة الذين بينا حكمهم.
وقيام الحجة يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص. فقد تقوم الحجة في زمان غير زمان وقد تقوم الحجة في بقعة غير البقعة، وقد تقوم الحجة في شخص دون الآخر ذلك كله بسبب توافر أسباب العلم والمعرفة والبلاغ وبحسب قدرة المدعو على فهم الخطاب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا، قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [الأنعام:130-131].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (7، 2941) ، صحيح مسلم (1773) عن أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري (1358) صحيح مسلم (2658) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد... فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
أيها المسلمون نعلم مما سبق مما قررت عن حال أتباع المقلدين الكفار أن العذاب إنما يستحق على الكافر بسببين أو بأحدهما، إما بسبب الإعراض عن الحجة، أو بسبب العناد لها بعد قياسها فالكفر الموجب للعذاب إذن هو إما كفر عناد أو كفر إعراض.
فأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة على صاحبه وعدم قيام العلم والمعرفة وعدم تمكنه من العلم بها ومعرفتها، ليس كفرًا موجبًا للعذاب صاحبه من أهل الفترة يمتحنه الله عز وجل كما بيناه.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب: 70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإن ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/337)
الإيمان بالقدر والقضاء.. وجوبه وثمرته
الإيمان
القضاء والقدر
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار بلاء 2- الحكمة من وقوع البلاء على المؤمن 3- جزاء الصبر في الآخرة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، أيها الناس، اتقوا الله، واعملوا صالحاً يحبه ربكم ويرضاه، وخذوا من دنياكم الحذر، وآمنوا بكل ما يجري به القدر، ولا تستبدلوا ما هداكم الله له من الطاعة بالمعصية فتحل بكم الغير، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53]. أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ?للَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ?لْبَوَارِ (1/338)
في التذكير
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعد الله بالجنة للمؤمنين 2- ذكر بعض العبادات اليسيرة في فعلها العظيمة في أجرها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، ومما يروى من وصايا النبي وبليغ عظاته أن قال: ((أيها الناس، أيقنوا من الدنيا بالفناء ومن الآخرة بالبقاء، واعملوا لما بعد الموت فكأنكم بالدنيا كأن لم تكن، وبالآخرة كأن لم تزل، إن من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية، وإن الضيف مرتحل والعارية مردودة، فرحم الله امرءا نظر لنفسه، ومهد لرمسه، ما دام سنه مرخى وحبله على غاربه ملقى قبل أن ينفد أجله وينقطع عمله، ألا وإن دنياكم سريعة الذهاب وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، بل اسعوا في عمران آخرتكم، واجتهدوا في تكمليها وتحسينها قبل انتقالكم؛ فإن قصور الجنة وبساتينها تعد وتهيأ بحسب ما تقدمون من صالح الأعمال والأقوال، ومن فاته منزله من الجنة فليس له إلا النار دار الإهانة والنكال، فإن الناس يوم القيامة يصيرون إلى فريقين؛ فريق في الجنة وفريق في السعير)) [1] ، وفي موعظة للنبي قال: ((فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت، والذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار)) [2].
قال ـ تعالى ـ: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (1/339)
السلام مع اليهود
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
اليهود مصدر الشر , وعداوتنا معهم عقدية – اليهود ينطلقون في حربهم الإسلام من منطلقات
دينية عقدية – دعاوى الوطنية والقومية لم تُغن شيئاً – حربنا مع اليهود لا يديرها إلا الإسلام -
صلاح الدين وأسباب انتصاره على اليهود , وحال الأمة اليوم ودور المنافقين ودعاة السلام
المزعوم – اليهود لا عهد لهم ولا ذمة وحربنا معهم مستمرة – دور اليهود الخبيث في المدينة
وكيدهم للمسلمين وموقف النبي صلى الله عليه وسلم منهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد... فاليهود أمة القردة والخنازير مصدر الشر والفساد والحروب والفتن، العداوة بيننا وبينهم دينية، والحرب بيننا وبينهم عقيدية، ولذلك فهم يتوارثون الحقد علينا نحن المسلمين، ولا يضعون راية الحرب ضدنا أبدًا، إنها حرب بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، حرب بين حق الأمة الإسلامية وباطل الأمة اليهودية، بين إيمان الأمة الإسلامية وكفر الأمة اليهودية، إنهم يتوارثون الحقد على إيماننا وعلى إسلامنا ولا يكفون أبدًا عن إذكاء نيران الحرب والمكائد ضدنا نحن المسلمين، كلما انطفأت نار معركة أشعلوا غيرها، فلسان الحال بيننا وبينهم في الحقيقة كما قال الشاعر:
ليس بيني وبين قيس عتاب غير طعن القلى وضرب الرقاب
إنهم يحاربوننا باسم الدين، يحاربوننا باسم التوراة، وقد سموا دولتهم إسرائيل، وإسرائيل اسم نبي من أنبياء الله، فهو يعقوب بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهم يجمعون شتاتهم من سائر أنحاء العالم، يجمعونهم في الأرض التي بارك الله فيها، حول المسجد الأقصى، يجمعونهم باسم التوراة. حتى المدن والأقاليم في فلسطين أطلقوا عليها أسماء دينية توراتية. فساسة اليهود وزعماؤهم وإن كان أكثرهم علمانيين لا يقيمون للدين وزنًا إلا أنهم يعلمون تمام العلم أن قضيتهم لا يمكن أن تنجح أبدًا إلا إذا أعلنوها باسم الدين، إلا إذا أعلنوها باسم التوراة، فهل نقاتلهم نحن باسم الأرض والتراب، هل نقاتلهم باسم الجبال والحفر والبيارات، هل نقاتلهم باسم بيارات الزيتون والبرتقال والبطيخ.
أي منطق هزيل هذا يمكن أن يقف أمام منطق أمة ترفع راية التوراة والدين في وجهنا، ماذا صنعت الوطنية والقومية منذ أربعين سنة، ماذا صنعت في مواجهة الأمة اليهودية، لقد هُزمت الوطنية الترابية والقومية العنصرية، هُزمت شر هزيمة أمام القردة والخنازير بل أصبحت الهزائم المتكررة المتتالية منذ أربعين سنة من أهم خصائص الوطنية الترابية والقومية العنصرية ومن أهم سمات أولئك الذين لا يزالون يقاتلون باسم بيارات الزيتون والبرتقال والبطيخ، أنهم في التيه منذ أربعين سنة، أصحاب الوطنية الترابية والقومية العنصرية من العرب والمسلمين لا يزالون في التيه منذ أربعين سنة يأبون العودة إلى دينهم وإلى إسلامهم، يرفضون أن تكون المعركة بينهم وبين أمة التوراة أمة إسرائيل معركة إسلامية، اليهود يفرون إلى دينهم، يبحثون فيه عن أسباب الاجتماع والقوة والظفر وهؤلاء يفرون من دينهم من إسلامهم، يشغلون أنفسهم وأمتهم.
يلهون أمتهم وشعوبهم بالشعارات الزائفة التي لا طائل من ورائها، ولن تقوى أبدًا على مواجهة اليهود الذين يرفعون رايات التوراة وإسرائيل، الحرب بيننا وبين اليهود في الحقيقة حرب دينية، لن يديرها على الحقيقة إلا الإسلام، الإسلام الذي أصدر أمرًا صريحًا لا عودة فيه ونصه: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [التوبة:29].
هذا أمر إلهي، أمر عسكري سياسي، أمر ديني ولكنه ليس موجهًا إلى أولئك الذين لا يزالون يقاتلون باسم بيارات الزيتون والبرتقال والبطيخ، إنه أمر إلهي موجه إلى أمة الجهاد، إلى الأمة الإسلامية، إلى المسلمين، إلى الأمة الإسلامية التي فرضت على نفسها حياة الجهاد كاملة، فالجهاد حياة كاملة، لكن الأمة الإسلامية اليوم أكثر شبابها مشغول باللهو واللعب والعبث وأكثر رجالاتها مشغولون بالتجارات والجري وراء المكاسب وراء المغانم والمصالح والجري وراء أذناب البقر، ولذلك فهم وحالتهم هذه لا يستطيعون تنفيذ ذلك الأمر الإلهي، لا يستطيعون القتال لأنهم لم يحيوا حياة الجهاد الكاملة.
لما سقط المسجد الأقصى قبل بضع مئات من السنين سقط في أيدي الصليبيين أيام ذلك المجاهد والملك الصالح صلاح الدين الأيوبي، أقسم صلاح الدين ألا يقرب الطيب والنساء حتى يستنقذ القبلة الأولى وأبر الله قسمه فحرر صلاح الدين الأيوبي السلطان المجاهد والملك الصالح حرر بيت المقدس في بضع سنين أنقذ الله بيت المقدس على يديه، وعلى يد جيشه المجاهد لمّا علم صلاحه وصدق نيته في الجهاد، فقد رفع صلاح الدين الأيوبي راية الجهاد الإسلامي في سبيل الله فاستنقذ بيت المقدس تحت ظل هذه الراية المباركة، أما نحن الأمة الإسلامية اليوم فإن معظم أعمالنا تفنى في اللهو واللعب والتجارات والمكاسب والمغانم والجري وراء أذناب البقر وها نحن ننتظر ومع هذا فنحن ننتظر النصر من الله، والنصر لا يأتي، ها نحن ننتظره منذ أربعين سنة، وهو لا يأتي كأن النصر حظوظ مرتجلة وليس سننًا إلهية لا تتبدل، النصر له سنن إلهية لا تتبدل، لا يُمنح لأمة معظم أعمارها يفنى في اللهو واللعب والتجارات، والجري وراء أذناب البقر.
ولما بلغ بنا الإعياء والتقاعس عن رفع راية الجهاد ومبلغه تجرأ خفافيش النفاق ممن في قلبه مرض في هذه الأمة برفع أصواتهم يبشروننا بالصلح والسلام مع القردة والخنازير، كأن اليهود يمكن في يوم من الأيام أن يضعوا راية الحرب ضدنا أو يطفئوا نار مكائدهم ودسائسهم ضدنا، اليهود حاربوا أكرم خلق الله وأفضل أنبيائه ورسله، حاربوا سيدنا محمداً حتى آخر لحظة وهم يعلمون علم اليقين أنه خاتم النبيين الذي بشرت به التوراة والإنجيل ويعلمون علم اليقين أن الله ناصره ومؤيده ومظهره عليهم وعلى غيرهم من الكفرة والمشركين ومع ذلك حاربوه حتى آخر لحظة حاربوه وخانوه وغدروا به وتآمروا على قتله حتى آخر لحظة، ولم يضعوا راية الحرب ضده أبدًا.
وهو أكرم خلق الله وأفضل أنبيائه ورسله ويعلمون صفته كما يعرفون أبناءهم حتى في أحلك الأوقات وأشدها حلكًا في غزوة الخندق وجيوش الأحزاب من غطفان تحيط بهذه المدينة النبوية وهدفهم الإبادة هدفهم قتل سيدنا رسول الله وقتل أصحابه أجمعين، في هذه اللحظات العصيبة الحرجة وقد بلغت قلوب الصحابة الحناجر، نقض يهود قريظة العهود التي أبرموها مع الرسول وتحرشوا مع المسلمين ومما زاد في خطورتهم أنهم يسكنون داخل المدينة النبوية، فكان خطرهم على النساء والصبيان والذرية وعلى الأموال شديدًا، وكان بإمكان يهود بني قريظة أن يفجروا جبهة المسلمين من داخلها في أحلك الأوقات والمسلمون محاصرون من كل جانب بجيوش الأحزاب، لولا أن الله عز وجل لطف بأوليائه ورحمهم فأبطل كيد اليهود وكيد الأحزاب أنزل ملائكته فألقوا الرعب في قلوب الأحزاب وانهزمت جيوش الأحزاب وانسحبت فجأة فبقيت يهود بني قريظة بغير دعم ولا سند.
ولما وضعت معركة الأحزاب معركة الخندق أوزارها ورجع جيش المسلمين إلى المدينة، رجع رسول الله إلى بيته ووضع ثيابه ونزع ملابس الحرب عن جسده الشريف، واغتسل من عناء المعركة ووعثائها فإذا بجبريل عليه السلام على الباب يقول يا رسول الله وضعت السلاح، والله لم تضع الملائكة السلاح، اخرج إليهم وأشار إلى يهود بني قريظة فنادى منادي رسول الله نادى في جيش الجهاد ألا لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة وهب المسلمون وذهب رسول الله بجيش نبوي من المؤمنين المجاهدين قوامه ثلاثة آلاف مجاهد ونزل على حصون بني قريظة فحاصرهم، حاصرهم بضعًا وعشرين ليلة، حتى رضي يهود بني قريظة أخيرًا عن حكم سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري رضي الله عنه، لم يرضوا أن ينزلوا على حكم رسول الله خوفًا من العاقبة ورضوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري لأن الأوس كانت حلفاء بني قريظة قبل الإسلام فطمعوا في رأفة سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري وشفقته عليهم إذ كان من الأوس حلفائهم قبل الإسلام، وجيء بسعد بن معاذ الأوسي جريحًا بسهم أصابه من غزوة الخندق جيء به بين يدي رسول الله فحكم على يهود بني قريظة بقتل الرجال وسبي والنساء الذرية وتقسيم أموالهم بين المجاهدين من أصحاب رسول الله فكبر سيدنا رسول الله وقال: ((لقد حكمت فيهم يا سعد بحكم الله من فوق سبعة أرقعة)) [1].
نعم هذا هو حكم الله من فوق سبع سماواته هذا حكمه في اليهود أهل الخيانة والغدر وأهل الشر والفساد والإفساد، أهل الخيانة والغدر حتى مع أكرم خلق الله وخاتم أنبيائه ورسله.
فيا ترى هل يترك اليهود أهل الغدر والخيانة والحرب والفساد هل يتركون طبائعهم فيسالموننا وينصحون لنا نحن أمة الكسل نحن أمة القعود نحن أمة اللهو واللعب والتجارات والجري وراء أذناب البقر؟.
أم هل ينهزم اليهود ويستسلمون لأولئك الذين مازالوا يقاتلون في سبيل التراب والجبال والحفر ويرفعون رايات الزيتون والبرتقال والبطيخ؟.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيًا حميدًا ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأتِ بآخرين وكان الله على ذلك قديرًا [النساء:131-132].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (4121)، صحيح مسلم (1768)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب: 70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/340)
العناية بالأولاد
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تربية الأولاد واجب شرعي 2- طلب الزوجة الصالحة والزوج الصالحة 3- إلحاح
الزوجين في الدعاء وسؤال صلاح الولد والذريّة 4- تعليم الرسول لعمر بن أبي سلمة
5- العدل بين الأولاد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، أيها الناس، اتقوا الله في جميع أحوالكم؛ فإن تقوى الله خير ما اتصفتم به في حياتكم، وتزودوا به لمعادكم، واحفظوا وصية الله لكم في أولادكم؛ فإنهم من أعظم أماناتكم: وَ?لَّذِينَ هُمْ لاِمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:8-11].
عباد الله، يقول الله ـ تعالى ـ: يُوصِيكُمُ ?للَّهُ فِى أَوْلَـ?دِكُمْ [سورة النساء:11]. ويقول ـ جل ذكره ـ: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون [التحريم:6].
ويقول ـ سبحانه ـ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132].
فأوصاكم الله في أولادكم وذويكم خيراً أن تنشئوهم على الطاعة، وأن تجنبوهم المعصية، وأن تأمروهم بالصلاة، وأن تشغلوا أوقاتهم بكل ما تحمد عاقبته، وأن تؤدبوا من خالف الحق واتبع الهوى، يقول : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)) [1].
عباد الله، إن أول العناية بالأولاد وحفظ الوصية فيهم، أن يسأل كل من الرجل والمرأة ربه أن يرزقه زوجاً يكون له قرة عين، ويطلب من الأزواج مرضيَّ الخلق والدين، يقول الله ـ تعالى ـ في محكم القرآن في معرض الثناء على عباد الرحمن: وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
وذكر ـ سبحانه ـ عن موسى عليه السلام، وقد رأى من بنات الرجل الصالح الأدب والعفة والبعد عن مظان الريبة، أنه قال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [سورة القصص:24]. فهذا أصل في الضراعة إلى الله ـ تعالى ـ بطلب الزوج الصالح الذي يعين على الطاعة ويصون عن القبائح، وثبت أنه قال للزوج: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [2] ، وقال لأولياء المرأة: ((إذا جاءكم من ترضون دينه... )) [3] الحديث.
عباد الله، وثاني تلك الأمور التي هي من أسباب الغبطة والسرور، أن يلح كل من الزوجين على ربهما سؤال الأولاد الصالحين، كما حكى الله عن إبراهيم الخليل أنه قال: رَبّ هَبْ لِى مِنَ ?لصَّـ?لِحِينِ [الصافات:100]. وقال: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]. وقال هو وإسماعيل: رَبَّنَا وَ?جْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ [البقرة:128]. وقال ـ سبحانه ـ عن زكريا: رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ?لدُّعَاء [آل عمران:38]. وقبل ذلك ذكر ـ سبحانه ـ عن الأبوين ـ عليهما السلام ـ أنهما قالا: لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَـ?لِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ?لشَّـ?كِرِينَ [الأعراف:189].
فدل ذلك على أن هبة الولد الصالح من أجلِّ النعم وأسبغ ألوان الكرم، كيف لا وابن آدم إذا مات: ((انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [4].
عباد الله، ومِن حفظ وصية الله في الأهل والأولاد، أن تخلص الدعاء لهم بالخير جهدك، وأن لا تدعو عليهم أبداً ولو في حال سخطك؛ فإن دعاء الوالد للولد أو عليه مستجاب كما أخبر ـ سبحانه ـ عن إبراهيم أنه دعا له ولذريته فقال: وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لاْصْنَامَ [إبراهيم:35]. فاستجاب الله له وجعل ذريته أنبياء هداة للأنام، وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)) [5].
أيها الآباء وأيتها الأمهات، اعتنوا بأولادكم وربوهم تربية صالحة تكونوا من الشاكرين، ويكونوا لكم ذخرا في الموازين. ولو كانوا في حال الصغر؛ فإن العلم في الصغر كالنقش على الحجر في الثبات وبقاء الأثر، فقد صح أن الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ كان طفلاَ صغيرا يحبو على الأرض، فأخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال : ((كخ كخ ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة)) [6].
وقال عمرو بن سلمة ـ رضي الله عنهما ـ: كنت غلاما في حجر رسول الله ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله ـ تعالى ـ، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) [7] ، فما زالت تلك طعمتي بعد. وقال : ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع)) [8].
وأمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يفرق بينهم في المضاجع دفعا للمفسدة، وحذرا من الفتنة، وتنبيها للأمة على واجب الصيانة وحفظ الديانة.
أيها المسلمون، ومن حق أولادكم عليكم أن تعدلوا بينهم في العطايا، قال : ((إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم)) [9] ، وكان السلف يستحبون أن يعدلوا بين أولادهم في القبلة، وأصل ذلك أن أحد الصحابة خص أحد أولاده بصدقة وأراد أن يشهد النبي عليها فقال له النبي : ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا، قال: ((أفتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟)) قال: نعم، قال: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) [10] ، وفي رواية قال : ((أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور)) [11] ، وفي لفظ: ((إلاَّ على الحق)) [12]. فرجع ذلك الرجل في صدقته وعدل بين أولاده في عطيته.
ألا فاتقوا الله معشر العباد، واحفظوا وصية الله لكم في الأولاد، وتذكروا موقفكم يوم المعاد يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [الدخان:41].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين والمسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
[1] صحيح ، أخرجه أحمد (2/187) ، وأبو داود (495) ، والحاكم (1/197).
[2] أخرجه البخاري ح (5090) ، ومسلم ح (1466).
[3] حسن ، أخرجه الترمذي ح (1085).
[4] أخرجه مسلم ح (3084).
[5] صحيح مسلم ح (3014).
[6] أخرجه البخاري ح (1396) ، ومسلم ح (1069).
[7] أخرجه البخاري ح (4957) ، ومسلم ح (2022).
[8] تقدم تخريجه قريباً.
[9] أخرجه أحمد (4/269) ، وأبو داود ح (3542). وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني قال الحافظ: ليس بالقوي. التقريب (6520).
[10] أخرجه البخاري ح (2398) ، ومسلم ح (1623) بنحوه,
[11] أخرجه البخاري ح (2456) ، ومسلم ح (1623).
[12] أخرج هذه الرواية عبد الرزاق في مصنفه ح (16496) ولكنها مرسلة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/341)
فتنة الدجال
الإيمان
أشراط الساعة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعظم فِتَن الدنيا الدجال 2- أحاديث فتنة الدجال 3- أسباب للعصمة من فتنة الدجال
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله، وآمنوا بكل ما أخبركم به الله في كتابه أو على لسان نبيه محمد مما كان ومما سيكون. ومن ذلك ما جاء عن النبي من ذكر الفتن وأشراط الساعة، فإن كل ما ثبت عنه فإنه حق يجب اعتقاده والعمل بما يقتضيه إرشاده ؛ طلبا للعافية في الدين والدنيا والآخرة.
وأبلغ ما يكون من أشراط الساعة وأعظم فتنة بين يديها فتنة الدجال؛ عصمنا الله وإياكم وأهلينا وذرياتنا منها؛ فقد صح عن النبي أنه قال: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال)) [1]. وأنه ما من نبي إلا وقد أنذر به أمته تنويهاً به وتنبيهاً على خطر فتنته، وتحذيرا للأمة من شبهه، وما يكون معه من الخوارق.
أيها الناس، ولما كان نبينا آخر الأنبياء وأمته آخر الأمم، وتقرر أنه سيخرج في آخر هذه الأمة، قال فيه قولا بليغا لم يقله نبي من الأنبياء قبله لأمته، ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ، فبين صفته، ونبّه على أنواع فتنته، وجلى أمره؛ ليكون كل مسلم على بينة منه، ومعرفة بسبيل العصمة من فتنه، والنجاة من شبهه. فجزاه الله عنا خير ما يجزي نبياً عن أمته لقاء بيانه ونصحه وشفقته.
أيها المسلمون: ومن ذلك ما ثبت عن أبي أمامة الباهلي قال: خطبنا رسول الله فكان أكثر خطبته حديثاً حدثناه عن الدجال وحذرناه، فكان من قوله أن قال: ((إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم ـ عليه السلام ـ أعظم من فتنة الدجال. وإن الله ـ تعالى ـ لم يبعث نبياً إلا حذر أمته الدجال. وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة. وإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج لكل مسلم، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم. وإنه يخرج من خلة بين الشام والعراق، فيعيث يميناً ويعيث شمالاً، يا عباد الله! اثبتوا. فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي.
إنه يبدأ فيقول: أنا نبي ـ قال عليه الصلاة والسلام: ولا نبي بعدي ـ، ثم يثني فيقول: أنا ربكم – قال عليه الصلاة والسلام: ولا ترون ربكم حتى تموتوا. وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإنه مكتوب كافر، يقرأه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب.
وإن من فتنته أن معه جنة وناراً؛ فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليستغث بالله، وليقرأ فواتح سورة الكهف فتكون عليه برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم.
وإن من فتنته أن يقول لأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني، اتبعه فإنه ربك.
وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فيقتلها وينشرها بالمنشار حتى يلقى شقين ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا فإني أبعثه الآن ثم يزعم أنه له رب غيري، فيبعثه الله، ويقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وأنت عدو الله، أنت الدجال، والله ما كنت بعد أشد بصيرة بك مني اليوم)).
وجاء في رواية أبي سعيد عند مسلم قال رسول الله : ((ذلك الرجل أرفع أمتي درجة في الجنة)) [2].
وإن من فتنته يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت.
وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه، وأمده وأدرَّه ضروعاً.
عباد الله، وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه الدجال وظهر عليه، إلا مكة والمدينة، لا يأتيها من نقب من نقابها إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة حتى ينزل عند الضريب الأحمر، عند منقطع السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقي منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فينفي الخبث منها كما ينفى الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص.
فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله! فأين العرب يومئذ؟ - تريد الذين يجاهدون في سبيل الله، ويذبون عن حريم الإسلام، ويمنعون أهله من صولة أعداء الإسلام – قال : ((العرب يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى ـ عليه السلام ـ، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقري ليقدم عيسى عليه السلام يصلي، فيضع ـ عيسى عليه السلام ـ يده بين كتفيه ثم يقول له: تقدم فصلِّ فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف قال عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ: افتحوا الباب، فيفتح ووراءه الدجال ومعه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساج – أي الطيلسان الضخم الغليظ – فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هاربا، ويقول عيسى ـ عليه السلام ـ: إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها، فيدركه عند باب اللدِّ الشرقي فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء، لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة – إلا الغرقد فإنها من شجرهم لا تنطق – إلا قال: يا عبد الله يا مسلم هذا يهودي فتعال اقتله... )) الحديث. رواه ابن ماجة في سننه [3] ، والحاكم في مستدركه [4] ، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ ابن حجر [5] ، وقوى إسناده غير واحد من أهل العلم.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا فتنة عدو الله، واعلموا أنه لا عصمة لكم ولا نجاة إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة عبده ورسوله ومصطفاه، ومن ذلك أن تتعوذوا من فتنة الدجال دبر كل صلاة قائلين: اللهم إني أعوذ بك من جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال.
ومن إرشاده لاتقاء فتنة الدجال ما أشار به في قوله: ((من سمع بالدجال فلا يأته، ومن حضره فَليَنْأَ عنه، إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات)) [6].
ومن أسباب العصمة منه الإعراض عن الكذب والكذابين، والحذر من تلبيساتهم وشبهاتهم؛ فإنهم من جنسه، ومن أصغى إلى كلامهم وتلبيساتهم كان على خطر من فتنة الدجال. فاحذروا هذه التلبيسات وأصناف المخترعات التي تهدف إلى تضليل الناس وإيقاعهم في الحيرة والالتباس، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى? عَلَيْكُمْ ءايَـ?تُ ?للَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيم [سورة آل عمران:101].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم ح (2946).
[2] صحيح مسلم ح (2938) ولفظه: ((هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)). واللفظ الذي ذكره الخطيب عند ابن ماجه.
[3] أخرجه ابن ماجه ح (4077).
[4] مستدرك الحاكم (4/492-494).
[5] فتح الباري (13/93).
[6] صحيح ، أخرجه أبو داود ح (4319) ، وأحمد (4/431).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/342)
في تعظيم شأن اليمين
فقه
الأيمان والنذور
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم أمر اليمين 2- كفارة اليمين المنعقدة 3- اليمين الغموس 4- حلف التاجر لترويج سلعته
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله ربكم في جميع أموركم وسائر أحوالكم، وعظموا القسم بربكم، ووفروا اليمين في خصوماتكم، واحفظوا أيمانكم، ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم، ولا تجعلوا أيمانكم ذريعة إلى معاصيكم ؛ فإن شأن اليمين عند الله عظيم وخطير، والتساهل بها أمر جسيم؛ فليست اليمين مجرد كلمة تمر على اللسان، ولكنها عهد وميثاق يسأل عنه العبد بين يدي الملك الديان، فيجب أن يلتزم الحالف صدقه وأن يوفيه حقه، وإلا كان الحالف عرضة للشقاء والخسران.
أيها المسلمون، إنما شرعت اليمين تعظيماً لرب العالمين، وتوحيداً لإله الأولين والآخرين، وقياماً بحق الرب الخالق، وتأكيداً للخبر الصادق، وحفظاً لحقوق العباد، وقطعا للنزاع والخصام، وكل ما من شأنه أن يسبب الشحناء والقطيعة بين أهل الإسلام، فهي شريعة من شرائع الله المحكمة، وشعيرة من شعائره المعظمة، وبينة للحقوق محترمة.
فالواجب تعظيم اليمين بحفظها عملاً بقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: وَ?حْفَظُواْ أَيْمَـ?نَكُمْ [سورة المائدة:89]. قال ابن عباس : (يريد لا تحلفوا) فمعنى الآية على هذا النهي عن الحلف، لا ينبغي طلبها ولا عقدها إلا عند الحاجة، فإذا احتيج إليها فينبغي أن تكون محترمة عند المستحلف والحالف معظمة في اعتقادهما، فلا يحلف إلا بالله ـ تعالى ـ، ولا يحلف بالله إلا مع الصدق، وإذا حلف وحنث كفَّر عن يمينه، وليحذر الكذب في اليمين؛ فإنها تقطع الأصل والنسل ؛ فتمحوا الآثار، وتخرب عامر الديار، وفي الحديث عن النبي قال: ((من حلف بالله فليصدق، ومن حُلِف له بالله فَلْيرضَ، ومن لم يرضَ فليس من الله)) [1].
أيها المسلمون، ولما كان هذا شأن اليمين كان من لطف الله ـ تعالى ـ بعباده ورحمته بهم أن عفا عن لغو اليمين، وهي التي لا تقصد، كقول الرجل: لا والله، وبلى والله، ونحو ذلك، مما لا يقصد به اليمين، فإن تلك لا تنعقد ولا كفارة لها، قال تعالى: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?لَّلغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة:225].
وكذلك من رحمته ـ تعالى ـ بعباده ولطفه بهم أن شرع لهم كفارة اليمين المنعقدة والحنث فيها، إذا رأى غيرها خيرا منها، كما في الصحيح عن النبي أن النبي قال للأشعريين وقد طلبوه؟ رواحل للجهاد: ((والله لا أحملكم، فقال: إني لم أحملكم بل الله حملكم إني والله ـ إن شاء الله ـ لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا وكان قد حلف قبل ذلك أن لا يحملهم، فقالوا له: لعلك قد نسيت أنك قد حلفت لا تحملنا، أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني)) [2].
وقال النبي لعبد الرحمن بن سمرة: ((يا عبد الرحمن إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفِّر عن يمينك)) [3] ، فمن حلف أن لا يصل قريبه أو أخاه المسلم، أو لا يكلمه، أو لا يدخل بيته، ونحو ذلك مما فيه معصية للخالق وتقصير في حق ذي الحق، فلا ينبغي له أن تمنعه يمينه عن فعل البر وتحقيق الصلة، بل الذي ينبغي له أن يكفِّر عن يمينه ويفعل الذي هو خير أسوة بالنبي. وكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع أي كيلو ونصف من بر أو أرز أو نحوهما، أو كسوتهم بما تصح به الصلاة وتحصل به الزينة من أوسط الناس، أو عتق رقبة؛ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثم، فالإطعام والكسوة والعتق على التخيير بين هذه الثلاثة، فإذا لم يجدوا واحدا منها فصيام ثلاثة أيام.
أيها المسلمون، أما اليمين الغموس الفاجرة التي يقتطع بها المرء مال أخيه، فلا تنحل بالكفارة أبدا، وإنما تنحل بالتوبة من الخطيئة وردّ المظلمة، لا كفارة لها إلا ذلك، وإلا فالمرء على خطر من الوعيد الذي أفصح عنه النبي فيما صح عنه من قوله: ((من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) [4] ، وقال : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة))، قالوا: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيبا من أراك)) [5].
أيها المسلمون، ومن التساهل باليمين أن تتخذ وسيلة لترويج السلع، قال رسول الله : ((الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب)) [6] ، ومن الثلاثة الذين جاء فيهم الوعيد، المنفق سلعته بالحلف الكاذب، الذي جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمين ولا يبيع إلا بيمين [7].
فاتقوا الله في أيمانكم، وتذكروا مسؤولياتكم عنها يوم منقلبكم، فلا تحلفوا إلا صادقين بارين وذلك حين تترجح المصلحة في عقد اليمين، وما كان منها مخالفا للشرع فكفروا عنه وأتوا الذي هو خير، واحذروا أن تحول اليمين بينكم وبين الطاعة وفعل الخير: وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [سورة البقرة:281].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الغفور الرحيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح ، أخرجه ابن ماجه ح (2101).
[2] أخرجه البخاري ح (6623) ، ومسلم ح (1649).
[3] أخرجه البخاري ح (6623) ، ومسلم ح (1652).
[4] أخرجه البخاري ح (2357) ، ومسلم ح (138).
[5] أخرجه مسلم ح (137).
[6] أخرجه البخاري ح (2087) ، ومسلم ح (1606).
[7] هذا لفظ الطبراني في المعجم الكبير ح (6111) ، وأصل الحديث عند مسلم ح (106).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/343)
معسكر الكفر
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب معرفة الإيمان وأهله وسرُّ ذلك – اليهود والنصارى قُطبا معسكر الكفر , وعداؤهما
للإسلام – وجوب الحذر من اتباع سبيلهما والأدلة على ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نعود مرة أخرى على الكلام عن معسكر الكفر فمعرفة الكفر وأهله لا تقل أهمية عن معرفة الإيمان وأهله.
معرفة الإيمان مطلوبة منك أيها المسلم لتحقيق الإيمان واعتقاده والعمل به ومعرفة أهل الإيمان مطلوبة منك أيها المسلم لمحبتهم والتقرب إلى الله تعالى بموالاتهم ومناصرتهم. وقد كنا بدأنا ببيان الإيمان ووصف أهله، أهل معسكر الإيمان ثم انتقلنا إلى التعريف بالكفر وأهله الذين هم أهل معسكر الكفر، معرفة الكفر أيضًا مطلوبة منك أيها المسلم من أجل الحذر من الوقوع فيه على حد قول الأثر: (تنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)، كما أن معرفة أهل الكفر مطلوبة منك أيها المسلم من أجل بغضهم والتقرب إلى الله تعالى بمعاداتهم ومجاهدتهم. فإن الإيمان الكامل الذي يستكمل جميع عراه وحلقاته المتينة لا يتحقق إلا بالحب والبغض والموالاة والمعادة كما أخبر بذلك سيدنا رسول الله.
إذا علمت هذا المبدأ أيها المسلم فاعلم أن هناك طائفتين هما قطبا رحى معسكر الكفر ودعامتاه إلى أن يأذن الله عز وجل بانهيار هاتين الدعامتين وانتهائهما في آخر الزمان.
هاتان الطائفتان هما اليهود والنصارى، فاليهود والنصارى هما أهم طوائف معسكر الكفر، هذا المعسكر الذي ناصب أنبياء الله ورسله العداوة ونصب لهم الحرب، فمنذ موسى عليه السلام إلى أن بُعث خاتم النبيين وإمام المرسلين سيدنا محمد واليهود والنصارى هما دعامتا معسكر الكفر المناوئ لرسالات الله وأنبيائه ورسله.
فلما بعث خاتم النبيين وإمام المرسلين سيدنا محمد قامت الحرب التي أعلنها معسكر الكفر على دعوته ورسالته. وكان مركزها ومدارها على هاتين الطائفتين وعلى اليهود منهم على وجه الخصوص.
وستظل هاتان الطائفتان هما قطبا رحى الصراع والحرب بين الإيمان والكفر إلى أن يأتي الأجل الذي ضربه الله عز وجل وحينئذ يكون انتهاء هذا الصراع وختامه بنزول عيسى بن مريم عليه السلام وكسر الصليب ومحوه من الأرض وقتل الأعور الدجال رئيس اليهود وطاغيتهم الأكبر ومسيحهم المنتظر.
وإلى ذلك الحين فإن الصراع بيننا نحن المسلمين وبين اليهود والنصارى مستمر وهو جولات وكر وفر يوم لنا ويوم علينا.
الصراع بيننا وبينهم كر وفر إلى أن يأذن الله عز وجل بإنتهائه في الأجل المضروب له.
معرفة هذا العدو الماكر الكافر الذي مازال يسلُّ في وجوهنا نحن المسلمين جميع أسلحه المكر والحرب والفساد والإفساد، معرفته في غاية من الأهمية من أجل الحذر منه ومن أجل الحذر من الوقوع في حبائل مكائده ودسائسه الماكرة الخبيثة، ومن أجل هذا شُرع لك أيها المسلم أن تدعو الله عز وجل كل يوم في صلواتك مرات ومرات تستعين به عز وجل وتسأله الهداية إلى الصراط المستقيم والثبات على صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وفي نفس الوقت تعوذ به سبحانه من طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، فمن هم هؤلاء الذين أمرت أن تعوذ بربك عز وجل من طريقهم كل يوم في صلواتك؟
المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى. وصفهم بذلك سيدنا رسول الله في غير ما حديث ثبت عنه وصف هاتين الطائفتين الكافرتين بهذين الوصفين، من تلك الأحاديث: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه وفيه قال له النبي : ((المغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى)). أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
والقرآن الكريم وصف اليهود بأنهم أمة لعنهم الله وغضب عليهم ومسخ بعضهم قردة وخنازير، وجعل منهم عبدة للطاغوت.
قال تعالى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت [المائدة:60].
وقال أيضًا سبحانه في وصف أمة اليهود: وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله [البقرة:61].
وقال تعالى: وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلت أيديهم ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء [المائدة: 64].
وقال تعالى مخاطبًا النصارى: يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل [المائدة:77].
وقال عز وجل: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًا مما ذُكّروا به [المائدة: 14].
لما أمرنا الله عز وجل أن نسأله كل يوم ونستعين به وندعوه أن يهدينا إلى الصراط المستقيم صراطه المستقيم الذي هو دين الإسلام الذي جاء به خاتم النبيين وإمام المرسلين سيدنا محمد : اهدنا الصراط المستقيم ودين الإسلام هذا الذي جاء به سيدنا محمد هو الدين الذي بُعث به جميع أنبياء الله ورسله الكرام وهو طريق النبيين جميعًا والصديقين والشهداء والصالحين، إنه طريق عباد الله الذيين أنعم عليهم بهذه النعمة الكبرى والمنة الكبرى نعمة الهداية إلى دينه القويم الموصل إلى رضوانه العميق ونعيمه المقيم.
اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم [الفاتحة: 6-7] لكن لا يكتفي المسلم بهذا بل يستجير بربه ويستعيذ به من طريق أهل الجحيم طريق المغضوب عليهم اليهود وطريق الضالين النصارى.
فعُلم من هذا أن المسلم يُخاف عليه من الانحراف إلى طريق هاتين الطائفتين الضالتين الفاسدتين المفسدتين، يُخاف على أمة محمد من ذلك وقد وقع فيهم ذلك كما أخبر به إذ قال محذرًا أمته: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال : فمن)) ؟ [1] أي نعم، اليهود والنصارى من كان قبلكم ستتبعونهم سيكون منكم من يتبعهم في عاداتهم وطرائق عيشهم وحياتهم وسننهم، يتبعهم في طريقهم ويقلدهم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخل أولئك الضالون من أمة محمد ذلك الجحر من وراء اليهود والنصارى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (7320) ، صحيح مسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102]. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/344)
جرائم بشعة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فساد في بعض مجتمعات المسلمين 2- العلاقة بين الإيمان والكبائر 3- جريمة الزنا
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتى في الله:
((جرائم بشعة)) تدق أجراس الخطر في آذان المسلمين جميعاً وتقرع الآذان بشدة وقوة وهى تقول: أفيقوا أيها المسلمون ،فإن ما تعيشون فيه من ضنك وشقاء إنما هو نتيجة حتمية عادلة لعزوفكم عن منهج ربكم.
تلك الجرائم التي صدمت آذاننا وأفزعت قلوبنا في الأيام القليلة الماضية هذا الذي دخل على أخته فوجدها بين أحضان مدرسها الخصوصي فأخذته الغيرة فقتل أخته.
وهذه المرأة الفاجرة الداعرة التي دخل عليها أبوها فرآها تمارس الفاحشة والعياذ بالله مع شاب وهو الذي صُدِم قلبه، وكاد بصره أن يُخطف يوم أن وصل إلى مسامعه همسات تؤكد أن فلذة كبده وثمرة فؤاده تمارس الفاحشة، فما كان من هذه الشقية التعسة وشريكها الشقي التعس إلا أن انقضا على هذا الوالد المسكين فقتلاه.
ما هذا الذي نسمع؟! وما هذا الذي يحدث؟! وما هذا الذي يجري يا عباد الله؟! إن الإسلام دين الفطرة، فالإسلام لا يحارب دوافع الفطرة أبداً ولا يستقذرها، وإنما ينظمها ويطهرها ويرقيها إلى أسمى المشاعر التي تليق بالإنسان كإنسان.
قال تعالى:... فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [ طه: 123- 126 ].
ولن تكون جرائمنا التي نشرتها جرائدنا الغراء في الماضي القريب هي الأخيرة من نوعها، ولم ولن تكن هذه الجرائم هي الأخيرة بل ورب الكعبة سوف نسمع أبشع من هذا ما دام الناس يتلقون تربيتهم وتعاليمهم عن العلمانيين والساقطين والراقصين والتافهين وقد تركوا تعاليم رب العالمين، ونَحّو شريعة سيد المرسلين ، لن تكون هذه الجرائم هي الحلقة الأخيرة للمسلسل وإنما هي لبنة عفنة في بناء عفن، وهي حلقة في مسلسل آسن، وهي حلقة من سلسلة طويلة مُرَّة مريرة لم ولن تنتهي حتى يعود الناس من جديد إلى قرآن ربهم وسنة نبيهم.
أيها المسلمون الإسلام دين الفطرة، الإسلام دين الله الذي خلق الرجل والمرأة على السواء، وهو يعلم سبحانه وتعالى ما يصلح الفرد وما يصلح المجتمع، وما يسعد به الفرد وما يسعد به المجتمع، أليس هو القائل: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
الإسلام يحرص على أن يهيء المناخ الصالح لكى يتنفس الفرد المسلم في جو اجتماعي طاهر نظيف، ثم يعاقب بعد ذلك وبمنتهى الصرامة والشدة كل فرد ترك هذا الجو النظيف الطاهر النقي وراح يرتع في وحل الجريمة الآثم طائعاً مختاراً غير مضطر، فالإسلام لا يطلق لإحد العنان لكي يعيث في الأرض فساداً، من انتهاك حرمات، أو التعدي على أعراض المؤمنات، أوتجريح البيوت الآمنة المطمئنة، فالإسلام لا يطلق للفرد العنان ليفعل هذا كله، ولكن إذا لم تجدِ في الفرد التربية ولم تؤثر فيه الموعظة ولم يلتفت إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله وإلى كرامة أبناء المجتمع الذي يعيش بينهم، إذا لم يراعى الفرد كل هذا وانطلق ليعربد وينتهك العرض والحرمة حينئذٍ يأخذ الإسلام على يديه بمنتهى الصرامة والشدة، لتعيش الجماعة كلها آمنة هادئة مطمئنة، وهذه هي عين الرحمة في أسمى معانيها،أليس ربنا هو القائل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
فتعال معي لنعيش مع هذا المثل المجسد لحال الإسلام مع العضو الفاسد وما تدعو إليه هذه الآية الكريمة.
أرأيتم لو أن إنساناً من الناس أصيب بمرض خبيث - أعاذنا الله إياكم منه – بطرف من أطرافه وقرر الأطباء المتخصصون أنه لابد من بتر هذا الطرف حتى لا يسري المرض في جميع أجزاء الجسم، هل يأتي عاقل ويقول: لا إنها وحشية إنها بربرية، إنها غلظة وقسوة، لا تقطعوا هذا الطرف لا والله وإنما سيأتي أقرب الناس إلى المريض وأحب الناس إليه ويتضرع إلى الطبيب بل ويبذل له كل نصح وكل دعاء، مع أنه يعلم أنه ذاهب إلى غرفة العمليات ليقطع طرف من أطراف عزيز لديه وحبيب عنده، ولكنه يعلم أن بتر هذا الطرف سيضمن له الحياة بأمر الله جل وعلا وستحيى بقية أطرافه، نعم إنها الرحمة بعينها رغم أنه سيبتر طرف من أطراف الجسد، فهذا الفرد الذي عاث وعربد وهتك، ولم تؤثر فيه الموعظة، ولم يراعي حرمة المجتمع الذي عاش وترعرع فيه، وانطلق ليعيث في الأرض فساداً بانتهاك الحرمات وهتك الأعراض، فالإسلام بعين الرحمة يأخذ على يدي هذا الفرد العفن بمنتهى الشدة والصرامة ليزول الفرد العفن السرطاني ولتبقى الجماعة كلها هادئة آمنة مطمئنة أليس الله هو القائل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
لذلك شدد الشرع بصرامة على معاقبة جريمة الفاحشة لأنها أبشع جريمة على ظهر الأرض بعد الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله، فقد سجل المولى في قرآنه في سياق صفات عباد الرحمن فقال: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان:68-71].
فترى واضحاً جلياً في الآيات الكريمة من صفات المؤمنين عدم الشرك بالله، وعدم قتل النفس التي حرم الله، وبعدها مباشرة عدم ارتكاب فاحشة الزنا وقد جاءت في القرآن الكريم مرتبة حسب بشاعتها وخطرها وجسامتها على الفرد والمجتمع.
فإن المرأة إذا وقعت في الفاحشة والعياذ بالله وضعت رأس زوجها بل رؤوس أهلها في الوحل والطين والتراب، فإذا خافت الفضيحة والعار والشنار وكانت متزوجة أو بكراً قتلت ما في أحشائها وبذا وقعت في كبيرتين كبيرة الزنا وكبيرة القتل – فإذا كانت متزوجة وخانت زوجها الذي انطلق بعيداً بعيداً ليأتها بالطعام والشراب، ولينفق عليها من المال الحلال الطيب، ووقعت في الفاحشة وحملت من الزنا وأبقت على ولدها من الزنا، ونسب هذا الولد لزوجها المخدوع المسكين، حينئذ تكون قد أدخلت هذه الزوجة الخائنة على بيت زوجها ولداً أجنبياً عنهم عاش بينهم وهو أجنبي عنهم، وخلى ببناتهم ولا يحق له ذلك، بل وورث أموالهم بعد موت المورث، وليس له أدنى حق في ذلك.
وهكذا تهدم البيوت، وتدفن الفضيلة، وتنهار المجتمعات، وإذا زنى الرجل اختلطت الأنساب وتأججت نار الأحقاد في الصدور.
أيها المسلمون، أيها الآباء، أيتها الأمهات، أيها الشباب، أيتها البنات أيتها الأخوات الفاضلات، والله الذي لا إله غيره ماشرع الإسلام هذه الأحكام إلا لتبقى المرأة المسلمة دُرَّةً مصونة ولؤلؤة مكنونة لا يمسها إلا زوجها، ولا تنظر إليها عين زانية، وإنما حفظ الإسلام كرامتها، فأمرها بالحجاب وأمر الرجل بغض البصر، وأمر الرجال والنساء بتخفيف مؤنة الزواج ووضع الضمانات الوقائية التي تضمن أن يعيش الرجل والمرأة في ظل مجتمع نظيف.. طاهر.. نقي، ثم يعاقب بعد ذلك من ترك هذه الضمانات الوقائية وذهب ليتمرغ في أوحال المعصية طائعاً مختاراً غير مضطر.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) ( [1] ).
قال عكرمة قلت لابن عباس: كيف يُنزع منه الإيمان؟! فقال ابن عباس: هكذا وشبك ابن عباس بين أصابعه، ثم قال فإن زنى أو شرب الخمر نزع منه الإيمان هكذا، فإن تاب وعاد إلى الله عاد إليه الإيمان مرة أخرى.
قال الحافظ بن حجر في "الفتح": ورواه أبو داود والحاكم مرفوعاً من حديث أبي هريرة أنه قال: ((إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، وكان عليه كالظَّلة فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان)) ( [2] ).
فإن تاب إلى الله عاد إليه الإيمان قبل الله منه التوبة وهذا هو المحك الحقيقي بين أهل السنة وفرق الضلال الأخرى التي كفَّرت مرتكبي الكبيرة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي صحيح مسلم وسنن النسائي من حديث أبي هريرة أنه قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولا يكلمهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم)) قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: ((شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر )) ( [3] ).
يقول الرسول ثلاثة لا ينظر إليهم الله ولا يزكيهم ولا يكلمهم يوم القيامة يا ترى من هم خابوا وخسروا ورب الكعبة؟! قال: الأول: شيخ زانٍ، قَلَّت عنده الشهوة وضعفت عنده الرغبة وبالرغم من ذلك ذهب ليتمرغ في أوحال الفاحشة العفنة، ويرتع في مستنقع الرذيلة القذر!! والثاني: ملك كذاب، هذا ملك ليس به حاجة للكذب فهو الآمر الناهي يستطيع بيسر أن يأمر هذا ليفعل كذا، ويأمر ذاك ليفعل كذا فليس هناك شيء يدعوه إلى الكذب ومع ذلك يكذب!! والثالث: عائل مستكبر.. أي فقير متعالٍ مستكبر.. سبحان الله رغم أنه فقير ومع هذا يتكبر على خلق الله!! فهؤلاء الثلاثة - أعاذنا الله وإياكم منهم - خابوا وخسروا الخسران المبين.
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: ((لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) ( [4] ).
انتبه جيداً أيها المسلم وتدبر، يقول الرسول: لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاثة، يعني لا يجوز أن يقتل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا إذا كان واحداً من ثلاثة: الثيب الزاني والثيب هو المحصن والمحصن هو الذي وطيء في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل. والنفس بالنفس أي: إذا قتل نفساً فالقاتل يقتل من ولي الأمر المسلم، والتارك لدينه أي المرتد عن دينه.
وفي الصحيحين أيضاً في الحديث الطويل أن النبي : أخبر أن جبريل ومكائيل عليهما السلام قد جاءاه في يوم من الأيام فقال النبى في الرؤيا ((انطلق، فانطلقنا فأتينا على مثل التنور فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوْا....)) ثم بين الملكان للنبي الأمر: ((....وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور، فانهم الزناة والزواني... )) ( [5] ).
لذا لا نستكثر أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين)) ( [6] ) أي دعته امرأة ذات منصب وجمال ليفعل بها الفاحشة فتذكر الله جل وعلا وتذكر نار جهنم فقال: إني أخاف الله رب العالمين، وأبى أن يفعل بها ما أرادته منه.
وفي الصحيحين في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار: ((خرج ثلاثة نفر فدخلوا غار فسقطت صخرة من الجبل فسدت عليهم باب الغار فقالوا: لا ملجأ لنا إلا أن نلجأ إلى الله بصالح أعمالنا فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها قالت: يا عبد الله اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم....)) ( [7] ).
فانظر أيها المسلم ومحص جيداً فسوف ترى أن البعد عن جريمة الزنا من أعظم أسباب تفريج الكربات في الدنيا والآخرة، ولذا شدد القرآن غاية التشديد في جريمة الزنا فقال الله جل وعلا: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ النور: 4 ].
ويزيد القرآن في تفظيع وتبشيع هذه الجريمة فيقول جل وعلا: الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [ النور: 3 ].
وللعلماء في حد الزاني تفصيل ونزاع إما أن يكون بكراً أو يكون محصناً والبكر هو الشاب الذي لم يتزوج، وقد بينا المحصن قبل قليل، أما حد الزانى إذا كان بكراً عند الله جل وعلا أن يجلد مائة جلدة وأن يغرب عن بلده عام – أي أن ينفى عاماً عن بلده، وذلك بسجنه في مكان بعيداً عن بلده لمدة عام كامل.
وهذا هو رأي جمهور العلماء وخالف الجمهور في ذلك الإمام أبوحنيفة فقال أبو حنيفة: يجلد فقط ويبقى التغريب للإمام فإن شاء الإمام – أي ولى الأمر – غَرَّب وإن شاء لم يُغَرَّب، ولكن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم. برواية في الصحيحين من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهنى قالا: ((كنا عند النبى فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي. قال: ((قل)) قال: إن ابنى كان عسيفاً (أى أجيراً) عند هذا فزنى بامرأته، فافتديتُ منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم، فقال النبى والذى نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم تُرَدًّ، وعلى ابنك جلد مائةٍ وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. فغدا عليها فاعترفت فرجمها)) ( [8] ).
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس قال: ((... جلس عمر بن الخطاب على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإني قائلٌ لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يَدَي أجلى، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أُحِلُّ لأحدٍ أن يكذب علي، إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها. رجم رسول الله ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أوكان الحَبَلُ، أو الاعتراف)) ( [9] ).
وفى لفظ الإمام مالك قال عمر: ((ووالله لولا أني أخشى أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله، لكتبتها "الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة" فإنا قد قرأناها)). قال مالك: الشيخ والشيخة يعني الثيب والثيبة فارجموهما ألبتة – أي المحصن والمحصنة.
ويقول: وآية الرجم نُسخت تلاوتها وبقي حكمها لم ينسخ، فهي آية منسوخة التلاوة باقية الحكم لم تنسخ.
هذا هو حد الزاني المحصن الذي ترك هذا اللحم الطيب الذي أحله الله وذهب ليأكل اللحم النيء الخبيث الذي حرمه الله تعالى عليه.
وقد خالف الإمام أحمد بن حنبل جمهور أهل العلم، وقال: بل إن الزاني المحصن يجلد ويرجم واستدل على ذلك بحديث في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت، ولكن الراجح أن حديث عبادة كان في أول الأمر فقد نسخ وبقي حكم الرجم فقط للزاني المحصن، واستدل جمهور أهل العلم على ذلك بأن النبي رجم الزاني المحصن فقط ولم يجلده قبل الرجم كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث بريده عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك جاء إلى المصطفى وقال يا رسول الله طهرني، قال: ((ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه)) قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال رسول الله : ((ويحك ارجع استغفر الله وتب إليه)) قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال النبي مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله : ((فيم أطهرك؟)) فقال: من الزنى. فسأل رسول الله : ((أبه جنون؟)) فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال: ((أشرب خمراً؟)) فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. قال: فقال رسول الله : ((أزنيت؟)) فقال: نعم. فأمر به فرجم. فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته.وقائل يقول: ما توبةٌ أفضل من توبة ماعز أنه جاء إلى النبي فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة.
قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء النبي وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: ((استغفروا لماعز بن مالك))، قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك قال: فقال رسول الله : ((لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم)) ( [10] ).
لقد جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله وقال له طهرني، جاء بمفرده ،لم يأت به بوليس الآداب، وإنما جاء يسعى على قدميه للحبيب المصطفى قائلاً: يا رسول الله طهرني، يا سبحان الله !! يا ترى ما الذي جاء بك يا ماعز ؟! لِم يا ماعز لم تفر من الرجم؟! وتفر من الحد؟!!
إنها المراقبة... إنها مراقبة الله في السر والعلن.
هذا هو الحد الفاصل بين من يراقب الله ويخافه، وبين من يراقب الناس، هذا هو الحد الفاصل بين أن نربي أبناءنا على مراقبة القانون الوضعي ومراقبة الحي الذي لا ينام علام الغيوب.
((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط، ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) ( [11] ).
فيا أيها الإخوة الكرام: نريد أن نربي أبناءنا على مراقبة علام الغيوب، وتعال معي نتجول في هذا الدرس الذي أراد أحد الأساتذة الكرام أن يعلمه لطلابه، وأراد أن يربي طلاب علمه على مراقبة الله جل وعلا تربية عملية على أرض الواقع، وها هو يدفع لكل تلميذ من تلاميذه دجاجة أو طائر وهو يقول: فليذهب كل تلميذ وليذبح هذا الطائر في مكان لا يراه فيه أحد، فذهب كل تلميذ بطائره في مكان يغيب فيه عن أعين الناس حتى يذبح طائره ويعود به إلى أستاذه، ونظر الأستاذ فوجد تلميذاً نجيباً جاء بطائره ولم يذبحه فقال له، لماذا لم تذبح طائرك؟! فقال: يا أستاذي لقد طلبت منا أن نبحث عن مكان لا يرانا فيه أحد، وما من مكان ذهبت إليه إلا ورأيت أن الله يراني، فأين أذبحه؟!
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
أليس هو القائل جل جلاله تقدست أسماءه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[المجادلة:7].
أمسك أعرابي بامرأة في الصحراء، وأراد أن يفعل بها الفاحشة، فأرادت هذه المرأة التقية الورعة أن تلقنه درساً من دروس المراقبة، ترى ماذا قالت له المرأة ؟! قالت له: اذهب وانظر هل نام الناس جميعاً في الخيام ؟! فانطلق سعيداً سريعاً لينقب وليبحث، ثم عاد إليها قائلاً: اطمئني نام الناس جميعاً ولا يرانا إلا الكواكب! فقالت المرأة: وأين مكوكبها؟! أين الذي لا يغفل ولا ينام؟! أين الحي القيوم الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم؟!
أيها المسلمون: إن الإسلام الذي ندين به هو دين الرحمة، لقد أخبرنا نبى الرحمة : أن بغياً من بغايا بني إسرائيل دخلت الجنة، رأت كلباً في يوم حارٍ قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له موقها (أى خفها) فاستقت له ( [12] ) وأخبرنا أيضاً أن الله أدخل الجنة رجلاً لأنه رحم كلباً فسقاه الماء ( [13] ).
وأخبرنا أيضاً: ((أن امرأة دخلت النار في هرة سجنتها حتى ماتت لا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)) ( [14] ).
أيها المسلمون الموحدون: اعلموا علم اليقين أن الإسلام دين الرحمة.. دين الرأفة.. دين الشفقة حتى بالكلاب والقطط.
وها هو مشهد آخر من مشاهد الرحمة كما جاء في حديث ماعز السابق ذكره ثم جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله طهرني فقال: ((ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه)) فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك. قال: ((وما ذاك))؟ قالت: إنها حبلى من الزنا فقال: أنت؟ قالت: نعم. فقال لها: ((حتى تضعي ما في بطنك)) قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت. قال: فأتى النبي فقال: قد وضعت الغامدية. فقال: ((إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه)) وفي رواية فلما ولدته أتته بالصبي في خرقة. قالت: هذا قد ولدت. قال: ((أما الآن لا، فاذهبي حتى تفطميه)) فلما فطمته أتته بالصبي وفى يده كسرة خبز فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام. فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيُقْبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد. فسبها فسمع نبي الله سبه إياها فقال: ((مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة، لو تابها صاحب مكس لغفر له)) ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت ( [15] ).
يا لها من كرامة منقبة فازت بها الغامدية لإصرارها إقامة حد الله عليها!! فيا لها من سعادة من يصلي عليه النبي ويدعو له نهر الرحمة، وينبوع الحنان بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
وهذا هو حد الزاني إذا كان بكراً أو محصناً كما بينَّا أيها الأحبة الكرام.
نداء إلى كل من ارتكب جريمة الزنا النكراء.
يا كل من ارتكب هذه الجريمة النكراء أذكرك بهذا النداء الندى الرضي وبهذا النداء العلوي الرباني الذي يسكب الأمل في القلوب سكباً، الذي يرد البسمة إلى الشفاه رداً ويرد الأمل إلى القلوب، ويرد الدمعة الحزينة الدائبة إلى العيون، هذا النداء من ربك الذي خلقك، وهو الذي يعلم ضعفك ويعلم عجزك، وبالرغم من ذلك ينادي عليك من سمائه وعليائه جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ الزمر:53].
أيها العاصي.. أيها المذنب بادر بالتوبة والأوبة والعودة إلى خالقك واعلم بأن الأصل في الكبائر هو التوبة مالم يرفع أمرك إلى ولي الأمر المسلم.
إذاً نفهم من ذلك ما دام أمرك لم يرفع لولي الأمر المسلم، فما عليك إلا أن تتوب إلى الله عز وجل وأن تلجأ إلى الله، وأن تقلع عن الكبيرة وعن الصغيرة بكل سبيل، وأن تندم كل الندم على فعلها، وأن تكثر من العمل الصالح وأن تتذلل لخالقك بحب وإخلاص وأن تبكي بين يدي العزيز الغفار فإن قبل منك الله التوبة - ونرجوا أن يقبلها - سعدت في الدنيا والآخرة.
ومن هنا أقول: هيا بنا جميعاً نتوب من ذنوبنا صغيرة كانت أو كبيرة عسى الله أن يتقبل، أليس هو القائل وقوله الحق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ التحريم: 8 ].
أخي الحبيب: تب إلى الله عز وجل فها أنا ذا أذكر نفسي وإياكم بالتوبة والأوبة إلى الله فإن التوبة يؤمر بها العاصي والمؤمن، واعلم يقيناً أن الله سيفرح بتوبتك، وإن كنت قد ارتكبت جريمة الزنا، نعم وإن كنت قد ارتكبت جريمة الزنا، عد إلى الله وتب إليه وسيفرح الله بتوبتك وأوبتك إليه وهو الغني عن العالمين الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.
((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك إلا كما ينقص المِخْيطُ إذا أُدخل البحر)).
فلا تقنط من رحمة الله ولا تيأس، وتب إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الله تواب، واعلم بأن الله غفور كريم يغفر الذنوب ويقبل التوبة.
ففى صحيح مسلم من حديث أنس قال: قال رسول الله : ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك، إذا هو بها قائمة عنده)) ( [16] ).
يقول المصطفى : ((أما والله لله أشد فرحاً بتوبة عبده من الرجل براحلته)) ( [17] ).
فيا من أذنبت في حق الله بالنهار تب إلى الله، ويا من أذنبت في حق الله بالليل تب إلى الله، ففي الحديث الصحيح من كلام سيد الخلق: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيىء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيىء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) ( [18] ).
وطلوع الشمس من مغربها علامة من علامات الساعة الكبرى حينها لا تقبل التوبة ولا الأوبة.
فلا تيأس ولا تقنط من رحمة الله ما دامت لم تطلع الشمس من مغربها ولا تقنط من عفوه واعترف إلى الله بالذنب وقل:
إلهي لا تعذبني فإني مقرٌّ بالذي قد كان مني
فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومنِّ
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني
فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
يا من تصر على الزنا، على انتهاك الحرمات والأعراض اعلم علم اليقين أن الزنا دين حتماً ستدفعه.
يا هاتكاً حرم الرجال وتابعاً طرق الفساد فأنت غير مكرم
من يزنِ في قوم بألفي درهم في بيته يزنى بربع الدرهم
إن الزنا دين إذا استقرضته كان الوفاء بأهل بيتك فاعلم
فيا أيها المسلم الحريص على عفة نسائك عف تعف نساءك وتذكر دائماً أمك وأختك وبنتك وزوجك، فإن رأيت امرأة مسكينة ضعفت فأعنها على طاعة الله، وأنت أيتها الأنثى أياً كنت أماً أو زوجة أو بنتاً، تذكري دائماً وضع نصب أعينك مراقبة الله عز وجل في الكبيرة والصغيرة وتذكري النيران المتأججة والجنة المزخرفة، وتذكري دائماً حال أسرتك جمعاء لو ارتكبت هذه الجريمة النكراء كيف يكون حالهم؟!
فاتقِ الله، اتقِ الله في نفسك وأسرتك...
( [1] ) رواه البخارى رقم ( 2475 ) في المظالم ، باب النُّهبى بغير اذن صاحبه ، ومسلم رقم ( 57 )
في الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصى ونفيه عن المتلبس بالمعصية ،وأبو داود ( 4689 )
في السنة ، والترمذى رقم ( 2627 ) في الإيمان ، والنسائى ( 8/ 64 ) في السارق.
( [2] ) رواه أبو داود رقم ( 4690 ) في السنة ، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه والترمذى
رقم ( 2625 ) في الإيمان ، باب ما جاء لا يزنى الزانى وهو مؤمن والحاكم في المستدرك
( 1/ 22 ) وصححه ووافقه الذهبى وهو في صحيح الجامع ( 587 )
( [3] ) رواه مسلم رقم ( 107 ) في الإيمان ، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمَنِّ بالعطية ،
والنسائى ( 6/ 86 ) في الزكاة ، باب الفقير المختال.
( [4] ) رواه البخارى ( 6878 ) في الديات ، باب قول الله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ ومسلم رقم ( 1676 ) في القسامة ، باب ما يباح به دم المسلم ، وأبو داود رقم
( 4352 ) في الحدود ، والترمذى رقم ( 1402 ) في الديات ، والنسائى ( 7/ 90-91 )
( [5] ) رواه البخارى رقم ( 7047 ) في التعبير ، باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح ، ومسلم رقم
( 2275 ) في الرؤيا ، باب رؤيا النبى ، والترمذى رقم ( 2295 ) في الرؤيا.
( [6] ) رواه البخارى رقم ( 660 ) في الآذان ، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد ومسلم ( 1031 ) في الزكاة ، باب فضل إخفاء الصدقة ، والموطأ ( 2/ 952 ، 903 ) في الشعر ، والترمذى رقم ( 2392 ) في الزهد ، والنسائى ( 8/ 222 ، 223 ) في القضاء.
( [7] ) رواه البخارى رقم ( 5974 ) في الأدب ، باب إجابة دعاء من بر والديه ، ومسلم رقم
( 2743 ) في الذكر ، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة ، وأبو داود رقم ( 3387 ) في
البيوع ، باب في الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه.
( [8] ) رواه البخارى رقم ( 6827 ، 6828 ) في الحدود ، باب الاعتراف بالزنا ، ومسلم رقم
( 1697 ) في الحدود ، باب من اعترف على نفسه بالزنى.
( [9] ) رواه البخارى رقم ( 6830 ) في الحدود ، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت ، ومسلم
(1691) في الحدود ، باب رجم الثيب في الزنى ، والموطأ ( 2/ 823 ) في الحدود ، باب
ما جاء في الرجم ، والترمذى ( 1431 ) في الحدود ، وأبو داود رقم ( 4418 ) في الحدود
والدارمى في السنة ( 2/ 179 ) وأحمد في المسند ( 1/ 23،29،36،40،43،47،50،55 )
( [10] ) رواه البخاري مختصراً رقم (6824 ، 6825 ) في الحدود ، باب سؤال الإمام المقر : هل
أحصنت؟ ومسلم واللفظ له رقم (1695) في الحدود ، باب من اعترف على نفسه بالزنى
( [11] ) رواه مسلم رقم ( 179 ) في الإيمان ، باب في قوله عليه السلام : ((إن الله لا ينام)).
( [12] ) رواه البخارى رقم ( 3467 ) في أحاديث الأنبياء باب ( 54 ) ، ومسلم رقم ( 2245 )
في السلام ، باب فضل ساقى البهائم المحترمة وإطعامها.
( [13] ) رواه البخارى رقم ( 6009 ) في الأدب باب رحمة الناس والبهائم ، ومسلم رقم
( 2244 ) في السلام ، باب تحريم قتل الهرة ، وأبو داود رقم ( 2550 ) في الجهاد ، باب
ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم.
( [14] ) رواه البخارى رقم ( 3318 ) في بدء الخلق ، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم.
ومسلم رقم ( 2242 ) في السلام ، باب فضل ساقى البهائم المحترمة وإطعامها.
( [15] ) رواه مسلم رقم ( 1695 ) في الحدود ، باب من اعترف على نفسه بالزنى.
( [16] ) رواه البخارى رقم ( 6308 ) في الدعوات ، باب التوبة ، ومسلم رقم ( 2748 ) في التوبة ، باب الحض على التوبة.
( [17] ) رواه مسلم رقم ( 2746 ) في التوبة ، باب الحض على التوبة.
( [18] ) رواه مسلم رقم ( 2760 ) في التوبة ، باب غيرة الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/345)
عذاب القبر
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأدلة على عذاب القبر ونعيمه 2- أسباب عذاب القبر 3- سبيل النجاة من عذاب القبر
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتى في الله:
فى رحاب الدار الآخرة:
سلسلة علمية كريمة تجمع بين المنهجية والرقائق وبين التأصيل العلمى والأسلوب الوعظى، الهدف منها تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات وانصرف فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات.
لعل الغافل أن ينتبه ولعل النائم أن يستيقظ قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.
لقد انتهينا في اللقاء الماضي مع الجنازة وهي في طريقها إلى القبر تتكلم.!!، كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي قال: ((إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت :يا ويلها، أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شئ إلا الثقلين - أو قال: إلا الإنسان - ولو سمع الإنسان لصعق)) ( [1] ).
وها نحن قد وصلنا بالجنازة إلى القبر فقف معي الآن عند القبر وأهواله وفتنة القبر وأحواله. أسأل الله جل وعلا أن يحفظنا وإياكم من فتنته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وكعادتنا فسوف ينتظم حديثنا اليوم مع حضراتكم في هذه العناصر التالية:
أولاً: الأدلة على عذاب القبر ونعيمه.
ثانياً: أسباب عذاب القبر.
ثالثاً: ما السبيل للنجاة من عذاب القبر؟
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب الكريم والله أسال أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أولاً: الأدلة على عذاب القبر ونعيمه
نحن اليوم في أمس الحاجة لهذا الموضوع الذي نحن بصدده فهو من الأهمية بمكان لا سيما بعد ما قرأنا على صفحاتٍ سوداء في مقال أسود بعنوان " عذاب القبر خرافات وخزعبلات "!!
هكذا يعنون لمقاله فضيلة الأستاذ الدكتور ثم يتطاول هذا الأستاذ الدكتور الجريء فيقول: "إن جميع الأحاديث التي وردت في مسألة عذاب القبر مجرد خرافات"!!!، ثم أظهر جهله الفادح، فقال: "إن عذاب القبر غيب والقرآن بَيَّن لنا أن النبي لا يعلم الغيب"!! جهل مركب..!
معنى ذلك يا فضيلة الدكتور أنه ينبغي أن ننكر ونكذب كل أمر غيب أخبرنا به المصطفى ، كالإيمان بالله، وكالإيمان بالملائكة، وكالإيمان باليوم الآخر وكالإيمان بالقدر خيره وشره...إلى سائر الغيبيات التي أخبر عنها رسول الله.
نسي هذا المسكين قول رب العالمين في سيد المرسلين: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم: 3-5].
أما تقرأ يا مسكين في سورة البقرة قوله تعالى: ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.. [ البقرة :1-2].
وتمنيت يا فضيلة الدكتور لو قرأت من جديد هذه الآيات، إن أول صفة من صفات المؤمنين الإيمان بالغيب.
وخرج علينا أستاذ آخر فكتب كتاباً ضخماً يزيد عن الثلاثمائة صفحة، ينفي فيه من أول صفحة إلى آخر صفحة عذاب القبر ونعيمه، يلوي أعناق النصوص لياً عجيباً، وها أنا الآن أرد على هؤلاء المتطاولين المكذبين المنكرين، الذين قال عنهم الإمام القرطبي والإمام الحافظ ابن حجر: "لم ينكر عذاب القبر إلا الملاحدة، والزنادقة، والخوارج، وبعض المعتزلة، ومن تمذهب بمذهب الفلاسفة، وخالفهم جميع أهل السنة "
وقال الإمام أحمد رحمه الله: "عذاب القبر حق ومن أنكره فهو ضال مضل"
أيها الحبيب: سأقدمُ إليك سيلاً من الأدلة الصحيحة على عذاب القبر من كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ولن أطيل الوقفة مع القرآن! لماذا؟!..لأن القرآن حمَّال ذو أوجه كما قال على بن أبي طالب لابن عباس وهو في طريقه لمناظرة الخوارج.
قال على: يا ابن عباس جادلهم بالسنة ولا تجادلهم بالقرآن فإن القران حمَّال ذو أوجه.
استهل الحديث بين يدي هذا العنصر الهام بمقدمة اقتبسها من كلام أئمتنا الأعلام وأبدأ هذه المقدمة بكلام دقيق نفيس للإمام ابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية على شارحها ومصنفها الرحمة من الله جل وعلا.
قال: اعلم أن عذابَ القبر هو عذاب البرزخ، وكل إنسان مات وعليه نصيب من العذاب فله نصيبه من العذاب قُبِرَ أو لم يُقْبر سواء أكلته السباع أو احترق فصار رماداً في الهواء أو نسف أو غرق في البحر.
تأملوا يا من تحكمون العقول في هذا الدليل الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فحرقوه. ثم ذرّوه، نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين. فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم. فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر الله البحر فجمع ما فيه. ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك، وأنت أعلم فغفر الله له)) ( [2] ).
الشاهد من الحديث أن الله أحياه بعدما حُرِق وذُرِىَ رماده في البحر والبر فقال له الملك: كن فكان على الفور.
قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ. [ آل عمران: 59 ].
وقال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ البقرة: 259 ].
وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ البقرة: 260 ].
إن قدرة الله لا تحدها حدود، لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء وأنهي هذه المقدمة بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، حيث قال:
"إن الله تعالى قد جعل الدور ثلاثة، وهى: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار" ثم قال:"وجعل الله لكل دار أحكاماً تختص بها، فجعل الله الأحكام في دار الدنيا تسير على الأبدان، والأرواح تبع لها، وجعل الأحكام في دار البرزخ تسرى على الأرواح، والأبدان تبع لها، وجعل الأحكام في دار القرار تسرى على الأرواح والأبدان معاً"
ثم قال ابن القيم: "واعلم أن سعة القبر، وضيقه، ونوره، وناره ليس من جنس المعهود للناس في عالم الدنيا".
ثم ضرب للناس مثلا عقلياً دقيقاً رائعاً فقال :
"أنظر إلى الرجلين النائمين في فراش واحد أحدهما يرى في نومه أنه في نعيم، بل وقد يستيقظ وأثر النعيم على وجهه ويقص عليك ما كان فيه من النعيم، قد يقول لك: الحمد لله لقد رأيتني الليلة وأنا مع رسول الله ورأيت النبي وكلمت النبي ورد علىّ النبي وقال لي النبي..الخ
من رأى النبي في المنام فقد رآه حقاً، وأخوه إلى جواره في فراش واحد قد يكون في عذاب ويستيقظ وعليه أثر العذاب ويقص عليك ويقول: كابوس كاد أن يخنق أنفاسي!!"
هل تدبرت أخي في الله في هذا الكلام؟!! الرجلان في فراش واحد هذه روحه كانت في النعيم، وهذا روحه كانت في العذاب مع أن أحدهما لا يعلم عن الأخر شيئاً.
هذا في أمر الدنيا فما بالك بأمر البرزخ الذي لا يعلمه إلا الله؟!!
مقدمة دقيقة ولو تدبرتها لوقفت على الحقيقة.
وأنا أقول: متى كان العقل حاكماً على الشرع والدين؟!!
لله در عَليّ يوم أن قال: "لو كان أمر الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه" ( [3] ).
إليك الأدلة الصحيحة الصريحة على عذاب القبر أستهلها بهذه الترجمة الفقهية البليغة لإمام الدنيا في الحديث - الإمام البخاري - فقد ترجم في كتاب الجنائز باباً بعنوان ((باب ما جاء في عذاب القبر)) وتكفي هذه الترجمة، ولقد فقهَ البخاري في تراجمه كما قال علماء الحديث وعلماء الجرح، وساق البخاري في هذا الباب الآيات الكريمة عن الله جل وعلا وروى فيه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ، وسأكتفي بآية واحدة استدل بها جميع أهل السنة بلا خلاف على ثبوت عذاب القبر:
قال الله تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:45-46].
قال جميع علماء أهل السنة: ذكر الله في هذه الآية عذاب دار البرزخ وعذاب دار القرار ذكراً صريحاً، وحاق بآل فرعون سوء العذاب، النار يعرضون عليها غدواً وعشياً أي: صباحاً ومساءاً هذا في دار البرزخ، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب: أي: يوم القيامة.
فذكر الله عذابين في الآية: عذاباً في الدنيا وعذاباً في الآخرة عذاب دار البرزخ وعذاب دار القرار.
وقبل أن أزف إليك الأدلة الصحيحة التي تلقم المنكرين الأحجار أود أن أنوه إلى أن الله قد أنزل على النبي وحيين وأوجب الله على عباده الإيمان بهما ألا وهما القرآنُ والسنة الصحيحة.
انطلق هؤلاء المنكرون وقالوا: كفانا القرآن وظنوا أنهم - بهذه الدعوى التي يغنى بطلانها عن إبطالها، ويغنى فسادها عن إفسادها - أنهم قد خدعونا والله ما خدعوا إلا أنفسهم.
من كَذَّبَ بالسنة الصحيحة فقد كفر بالقرآن..ومن رد السنة فقد رد القرآن.
تدبر معي آيات الله عز وجل: وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].
وقال تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً [النساء:80].
وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ النساء: 65 ].
وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا [الأحزاب: 36 ].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [ الحجرات:1-2].
فالسنة حكمها مع القرآن على ثلاثة أوجه.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين: السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
"الوجه الأول: أن تأتي السنة مؤكدة لما جاء به القرآن وهذا من باب تضافر الأدلة.
الوجه الثانى: أن تأتي السنة مبينة وموضحة لما أجمله القرآن.
قال تعالى: وأقيموا الصلاة لكن لم يذكر عدد الصلوات، ولا أركان الصلاة، ولا كيفية الصلاة ولا مواقيت الصلاة، فجاء الحبيب المصطفى لكي يبين لنا عددها وأركانها وكيفيتها ومواقيتها وهكذا.
الوجه الثالث: أن تأتي السنة موجبة أو محرمة لما سكت عنه القرآن، قال المصطفى : ((ألا يوشك رجل شبعان متكيء على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)) ، قال المصطفى : ((ألا إن ما حرم الله كما حرم رسول الله)) ( [4] ).
وإليكم الأحاديث الصحيحة التي تثبت أن عذاب القبر حقيقة لا ريب:
ففي الحديث الذي رواه أحمد والحاكم وغيره وحسنه الشيخ الألباني "كان عثمان إذا وقف على القبر بكى وإذا ذكر الجنة والنار لا يبكي فقيل له: يا عثمان تذكر الجنة والنار فلا تبكي فإذا وقفت على القبر تبكي، قال عثمان: لقد سمعت رسول الله يقول: ((القبر أول منازل الآخرة فإن نجى منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه صاحبه فما بعده أشد منه)).
وانظر إلى هذا الحديث الصحيح قال المصطفى حينما مر على قبرين فقال : ((أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير))، ثم قال: ((أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الأخر فكان لا يستتر من بوله - أو لا يتنزه من بوله -)) ( [5] ).
وَقِفْ مع هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي كان يدعو الله ويقول: ((اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر)) ( [6] ).
وفي الحديث الذي رواه مسلم وأحمد وابن حبان والبزار وغيرهم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: ((بينما النبي في حائط لبنى النجار على بغلة له ونحن معه إذ جاءت به (أي البغلة) فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، فقال: ((من يعرف أصحاب هذه الأَقْبُر؟)) قال رجل: أنا، قال: ((فمتى ماتوا؟)) قال: في الشرك، فقال: ((إن هذه الأمة تُبْتَلَى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يُسْمِعَكُم من عذاب القبر الذي أسمع منه)) ثم أقبل علينا بوجهه فقال: ((تعوذوا بالله من عذاب القبر)) قلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر)) ( [7] ).
وفى الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((دَخَلَتْ علىّ امرأة من يهود المدينة فذكرت عذاب القبر فقالت المرأة لعائشة: أعاذك الله من عذاب القبر فلما خرجت اليهودية سألت عائشة النبي عن عذاب القبر فقال: ((نَعَمْ عذاب القبر)) وفى رواية: ((عذاب القبر حق)) فقالت عائشة: ((فما رأيت النبي يصلى بعدها إلا ويستعيذ من عذاب القبر)) ( [8] ).
واسمع إلى هذا الحديث العمدة في المسألة، وهو أصل من أصول هذا الباب رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه والنسائي في سننه وأبو داود في سننه ورواه الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وأقره الإمام الذهبي وصحح الحديث الإمام ابن القيم في كتاب تهذيب السنن وإعلام الموقعين وأطال النفس للرد على من أَعَلَّ هذا الحديث وصحح هذا الحديث الشيخ الألباني وغيره من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: خرجنا مع النبي في جنازة رجل من الأنصار فلما انتهينا إلى القبر جلس النبي على شفير القبر (حافة القبر) وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير (لا يتكلمون) وفى يد النبي عود ينكت به الأرض ثم رفع النبي رأسه فنظر وقال لأصحابه: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب القبر)) قالها النبي مرتين أو ثلاثة ثم التفت إليهم النبي وقال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: يا أيتها النفس الطيبة اُخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السِّقَاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفى ذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ،حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له ،فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي إلى السماء السابعة،فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه ،فيأتيه ملكان، فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربى الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هو رسول الله، فيقولان له وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فأمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ،ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي، وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه،فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟! فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ لا تفتح لهم أبواب السماء فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه.. هاه.. لا أدرى، فيقولان: له ما دينك؟ فيقول: هاه.. هاه.. لا أدرى، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاه.. هاه.. لا أدرى، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذى يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجئ بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة!!)) ( [9] ).
معذرة أيها الحبيب لقد أطلت عليك الجولة مع الأدلة على عذاب القبر ونعيمه، وسأعرج سريعاً على العنصرين الآخرين وهي أسباب عذاب القبر، ما السبيل للنجاة؟، وذلك بعد جلسة الاستراحة.
وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم...
( [1] ) رواه البخارى رقم (1314) ، في الجنائز ، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء، والنسائى في (4/41) ، في الجنائز ، باب السرعة بالجنازة.
( [2] ) رواه البخارى رقم (7506) ، في التوحيد ، باب قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله ، ومسلم رقم (2756) ، في التوبة ، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه ، والموطأ (1/240)، في الجنائز ، باب جامع الجنائز ، النسائى (4/113) في الجنائز ،باب أرواح المؤمنين.
( [3] ) رواه أبو داود رقم (162،163،164) في الطهارة ، باب كيف المسح ، وصححه الشيخ الألبانى ، والأرناؤوط في تخريج جامع الأصول.
( [4] ) رواه أحمد رقم ( 17128) وأبو داود رقم (4604) في السنة باب في لزوم السنة والحاكم ، وهو في صحيح الجامع رقم (8186).
( [5] ) رواه البخارى رقم (216) ، في الوضوء ، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله ، ومسلم رقم (292) ، في الطهارة ، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه ، والترمذى رقم (70) ، في الطهارة ، باب ما جاء في التشديد في البول ، وأبو داود رقم (20،21) في الطهارة ، باب الاستبراء من البول ، والنسائى في الطهارة ، باب التنزه عن البول.
( [6] ) رواه البخارى رقم (1377) في الجنائز ، باب التعوذ من عذاب القبر ، ومسلم رقم (588) ، في المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة ، والترمذى رقم (3599) في الدعوات ، باب الاستعاذة من جهنم ، والنسائى (4/275،276) ، في الاستعاذة ، باب الاستعاذة من عذاب جهنم.
( [7] ) رواه مسلم (2867) ، في صفة الجنة ،باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه.
( [8] ) رواه البخارى رقم (1372) في الجنائز ، باب عذاب القبر ، ومسلم رقم (584) ، في المساجد ، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر ، والنسائى (4/104) ، في الجنائز ، باب التعوذ من عذاب القبر.
( [9] ) رواه أبو داود رقم (3212) في الجنائز ، باب الجلوس عند القبر ، ورواه ابن خزيمة والحاكم ، والبيهقى في شعب الإيمان ، وقد جمع الألبانى روايات هذا الحديث من جميع مصادره وصححه في صحيح الجامع رقم (1676).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
ثانياً: أسباب عذاب القبر:
والحديث عنها له وجهان مجمل ومفصل، أما المجمل فإن معصية الله عز وجل أصل لكل بلاء وعلى رأس هذه المعاصي الشرك، فإن أعظم زاد تلقى الله به هو التوحيد، وإن أبشع وأعظم ذنب تلقى الله به هو الشرك، قال الله: إنَّ الشِّركَ لَظُلمُُ عَظيِمُُ [ لقمان:13].
أما التفصيل فقد ذكر النبي كما ذكرت آنفا أن النميمة من أسباب عذاب القبر، وهناك الآن أناس متخصصون في النميمة.
فالنميمة سبب من أسباب عذاب القبر، وأيضا عدم الاستتار من البول، وعدم التنزه منه وهذا ما ذكره النبي في حديثه الذي كنا بصدده من قبل.
أيضا من أسباب عذاب القبر الكذب والربا وهجر القرآن كما في حديث سمرة بن جندب الطويل الذي رواه البخاري الذي لا يتسع المقام لذكره الآن لقد ذكر فيه النبي من أسباب عذاب القبر الكذب والرياء وهجر القرآن والزنا، والغلول (كل شئ يأخذ من الغنيمة قبل أن تقسم ) ويدخل تحت الغلول السحت والحرام.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله إلى خيبر ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهباً، ولا وَرِقاً، غنمنا المتاع والطعام والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي يعنى وادي القرى ومع رسول الله عبد له، وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن يزيد من بني الضُّبيب، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله يَحُلُّ رحله، فرمي بسهم، فكان فيه حتفه فقلنا: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله، فقال رسول الله : ((كلا والذى نفسى محمد بيده، إن الشَّمْلَة (إزار يتشح به) لتلتهب عليه ناراً، أخذها من الغنائم يوم خيبر، لم يصبها المقاسم)) قال: ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين (الشراك: سير من سيور النعل) فقال: أصبته يوم خيبر فقال رسول الله : ((شراك من نار، أو شراكان من نار)) ( [1] ).
أيها الأحباب: والسؤال الآن فما السبيل للنجاة من عذاب القبر؟!
ثالثاً: السبيل للنجاة من عذاب القبر:
أقول لك بإيجاز شديد، أعظم سبيل للنجاة من عذاب القبر أن تستقيم على طاعة الله جل وعلا وأن تتبع هدى النبي.
قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
ومن أنفع الأسباب كذلك للنجاة من عذاب القبر ما ذكره الإمام ابن القيم في كتابه القيم (الروح)، قال: ومن أنفعها أن يتفكر الإنسان قبل نومه ساعة ليذكر نفسه بعمله، فإن كان مقصراً زاد في عمله وإن كان عاصياً تاب إلى الله، وليجدد توبة قبل نومه بينه وبين الله.
فإن مات من ليلته على هذه التوبة فهو من أهل الجنة ،نجاه الله من عذاب القبر ومن عذاب النار.
ومن أعظم الأسباب التي تنجي من عذاب القبر:
أن تداوم على العمل الصالح كالتوحيد، والصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، وحضور مجالس العلم والعلماء التي ضيعها أناس كثيرون وانشغلوا عنها بلهو قتل الوقت.
أيضا من أعظم الأسباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، كل عمل يرضي الرب فهو عمل صالح ينجي صاحبه من عذاب القبر والنار.
وأبشركم... أن من أعظم الأعمال التي تنجي صاحبها من عذاب القبر الشهادة في سبيل الله ورد في الحديث الذي رواه الحاكم وحسن إسناده الشيخ الألباني أن النبي قال: ((للشهيد عند الله ست خصال، الأولى: يغفر له مع أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، الثانية: ينجيه الله عز وجل من عذاب القبر، الثالثة: يأمنه الله يوم الفزع الأكبر، الرابعة: يلبسه الله تاج الوقار، الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها، الخامسة: يزوجه الله بثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، السادسة: يشفعه الله في سبعين من أهله )).
ولن أترك مكاني هذا إلا بعد أن أزف إليكم حديثا يملأ القلب أملا ورضا، والحديث رواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي وصحح إسناده الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ((سورة الملك، تبارك الذي بيده الملك، هي المانعة وهى المنجية تنجيه من عذاب القبر)) ( [2] ).
( [1] ) أخرجه البخارى رقم (4234) ، في المغازى ، باب غزوة خيبر ، ومسلم رقم (115) ، في الإيمان ، باب غلظ تحريم الغلول ، الموطأ (2/459) في الجهاد ، باب ما جاء في الغلول، وأبو داود رقم (2711) في الجهاد ، باب في تعظيم الغلول ، النسائى (4/24) في الإيمان والنذور.
( [2] ) رواه الترمذى رقم (2892) في ثواب القرآن وصحح إسناده شيخنا الألبانى.
(1/346)
التيمم والمسح على الخفين
فقه
الطهارة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليسر ورفع الحرج سِمة شريعة الإسلام 2- كيفية الغسل 3- وضوء رسول الله
4- رخصة المسح على الجَوْربين والخفين 5- صفة الجورب أو الخف الذي يجوز المسح
عليه 6- مدة المسح سفراً وإقامة 7- ذم التنطّع 8- أحكام المسح على الجبيرة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله ـ تعالى ـ حق التقوى، فإن حق التقوى أن يطاع ربكم فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، فأطيعوا ربكم ولا تعصوه، واذكروه فلا تنسوه، واشكروه ولا تكفروه، تفوزوا بمغفرته ومحبته ورضوانه وجنته، وتنجوا من مقته وعقوبته وناره ولعنته في الدنيا والأخرى.
عباد الله، من نعم الله الجلية ومنحه الكبرى التي ينبغي أن تذكر فتشكر، وأن يتقرب بها إليه فلا تكفر، وهي مما خص الله به هذه الأمة وجعلها من أسباب المحبة والمغفرة والرحمة، ما أشار إليه الحق ـ تبارك وتعالى ـ بقوله: هُوَ ?جْتَبَـ?كُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْر?هِيمَ هُوَ سَمَّـ?كُمُ ?لْمُسْلِمِينَ [سورة الحج:78].
فاليسر ورفع الحرج في هذه الشريعة المباركة المطهرة شامل لجملة أحكامها، وهو سمة من أبيَن سماتها، وأمثلة ذلك من نصوص الوحيين كثيرة، وشواهده في أحكامها وفيرة، ومن ذلك ما امتن به الرب الجليل على العباد بقوله في محكم التنزيل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ?لصَّلو?ةِ ف?غْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ?لْمَرَافِقِ وَ?مْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ?لْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَ?طَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى? سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ ?لْغَائِطِ أَوْ لَـ?مَسْتُمُ ?لنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَ?مْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـ?كِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة:6].
فقد امتن ربنا سبحانه على عباده بيسير أمر الطهارة، والتنبيه على أنواعها وموجباتها بأوجز إشارة، وبيان كيفيتها ومواضعها بأوضح عبارة، فابتدأ بذكر الوضوء وهو الطهارة من الحدث الأصغر كالغائط والبول وغيرهما مما خرج من السبيلين، ويلحق بذلك ما ثبت في السنة نقضه للوضوء على التعيين، وجعل هذه الطهارة خاصة بأربعة أعضاء ظاهرة هي: الوجه، واليدان، والرأس، والرجلان. وذلك ـ والله أعلم ـ لكونها كثيراً ما تتعرض للأذى والغبار، وهي أعضاء تكسب بها الأوزار، فتحتاج إلى التطهير على وجه الكمال خمس مرات في الليل والنهار.
أيها المسلمون، ثم أردف ـ تبارك ـ وتعالى بذكر الطهارة الكبرى بقوله: وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَ?طَّهَّرُواْ [سورة المائدة:6]. وهي الغسل من الجنابة بتعميم جميع البدن بالغسل بالماء، وموجبه خروج المني بصفته وطبيعته من الذكر والأنثى، وكذلك الجماع مطلقاً، ومثلهما الحيض والنفاس من النساء، وقد بينت السنة كيفية الاغتسال وأن المغتسل يغسل فرجه أولاً، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة حتى إذا وصل إلى رأسه صب عليه الماء ثلاثاً أو حتى يرويه، ثم يغسل شق بدنه الأيمن ثم الشق الأيسر ثم يغسل رجليه، وبهذه الكيفية يتحقق له الغسل والوضوء مع النية.
وكان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع وهو أربعة أمداد، وقد يغتسل بخمسة أمداد [1] ، وكان هديه الاقتصاد في ماء الوضوء والاغتسال، وحث العباد على الاقتصاد فيهما مع الكمال.
معشر المسلمين، ولما كان المسلمون يتعرضون غالبا في السفر وأحيانا في الحضر لفقد الماء أو العجز عن استعماله لمانع أو داء، شرع التيمم من الصعيد الطيب من الأرض، فقال: وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى? سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ ?لْغَائِطِ أَوْ لَـ?مَسْتُمُ ?لنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَ?مْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْه [سورة المائدة:6]. فهذا هو التيمم؛ يصلي به المسلم ـ إذا احتاج إليه ـ النفل والفرض؛ فإنه طهارة تامة ينوب عن التطهر بالماء في سائر أحكامه، ولا يبطل إلا بمبطلات الوضوء. وصفته أن يضرب المتيمم وجه الأرض ضربة واحدة بباطن يديه ثم يمسح بهما مرة وجهه وظاهر كفيه.
معشر المسلمين، وفي قوله ـ تعالى ـ: وَأَرْجُلَكُمْ قراءة أخرى صحيحة وهي القراءة بخفض وَأَرْجُلَكُمْ ؛ على الرؤوس؛ رخصة المسح على الخفين والجوربين ونحوهما من التساخين، وهي رخصة تواترت فيها الأحاديث عن النبي حيث بلغت أربعين حديثاً من رواية سبعين صحابيا، كلهم أخبر أنه رأى النبي مسح على خفيه [2] ، وليس بينهم – بحمد الله – اختلاف في ذلك، واتفق عليها من بعدهم التابعون وأتباعهم وأئمة الهدى، وقرروها في عقيدتهم تنبيها على أن من أنكرها فقد خالف أصولهم واتبع غير سبيلهم.
وثبت أيضا أن النبي مسح على الجرموقين – وهما الشراب ونحوهما من التساخين – عن تسعة من أصحاب النبي ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة. فعن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي في سفر، فتوضأ، فأهويت لأنزع خفيه فقال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين)) فمسح عليهما متفق عليه [3]. وعنه أيضا أن النبي توضأ ومسح على الجوربين والنعلين. صححه الترمذي [4].
أيها المسلمون: ولابد أن يكون الملبوس من خف أو جورب ضافياً على القدم إلى الكعبين، لا يقصر عنهما حتى يكون ساتراً لما يجب غسله؛ ليكون المسح نائباً عن الغسل، وهذا مأخوذ من مسمى الخف والجورب، فإنه لا يطلق في اللغة ولا في اصطلاح الشرع إلا على ما كان ساتراً للقدم كله إلى الكعبين، أما النعلان والخفان المقطوعان وكل ما يلبس دون الكعبين فلا يصح المسح عليه. ومن كان عادته خلع الخفين عند دخول المسجد والمجلس ونحوهما فينبغي له أن يقتصر على مسح الجوربين دون الخفين، وإنما يشرع المسح على الخفين في الطهارة من الحدث الأصغر كالبول والريح والغائط ونحوهما، أما من أصابه حدث أكبر كالجنابة والحيض من المرأة، فلابد من نزع خفيه وغسل رجليه ليستكمل طهارته؛ لحديث صفوان بن عسال قال: كان يأمرنا ـ يعني النبي ـ إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن ليس من غائط وبول ونوم [5].
أيها المؤمنون، وتبتدئ مدة المسح من أول مسح في طهارة من حدث يلي لبس الخفين أو الجوربين إلى مثل ذلك الوقت من اليوم الثاني في حق المقيم، وهو يوم واحد، وفي حق المسافر ثلاثة أيام، لما ثبت عن علي قال: قال رسول الله : ((ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم)). يعني في المسح على الخفين. [رواه مسلم] [6].
وعن صفوان بن عسال قال: أمرنا رسول الله أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا [7].
فالأحاديث جاءت بألفاظ: يمسح، ونمسح، وأمر بالمسح، إلى غير ذلك، مما يدل على أن ابتداء المدة متعلق بالمسح لا باللبس، ولأنه بداية التمتع بالرخصة.
فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على إنعامه وما يسر من أحكامه، وتوبوا إليه من كل ذنب وخطيئة: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ [سورة التحريم:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري ح (201) ، ومسلم ح (325).
[2] انظر بعض الروايات في صحيح البخاري ح (202 ، 204 ، 205 ، 387) ، وفي صحيح مسلم ح (272 ، 273 ، 275).
[3] صحيح البخاري ح (206) ، صحيح مسلم ح (274).
[4] صحيح ، سنن الترمذي ح (99) وقال : حسن صحيح.
[5] حسن ، أخرجه أحمد (4/239) والترمذي ح (96) وقال : حسن صحيح ، والنسائي ح (127) ، وابن ماجه ح (478).
[6] صحيح مسلم ح (276).
[7] مسند أحمد (4/240).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/347)
موقف اليهود من الإسلام
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
9/7/1408
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
اليهود وصفاتهم وأحوالهم مع ربهم ورسلهم , وكُتبه – جحودهم وإنكارهم رسالة محمد صلى
الله عليه وسلم مع ثبوت البشارة بها في كتبهم – موقفهم من إسلام عبد الله بن سلام وبهتانهم
تحذير الأمة منهم ومن التشبه بهم في صفاتهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لماذا وصف اليهود في سورة الفاتحة بالمغضوب عليهم؟، اليهود قوم عندهم علم آتاهم الله ما شاء من علم في التوراة التي أنزلها على نبيه موسى عليه السلام وفيما أوحاه إلى أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى.
لكنهم قوم ليس عندهم قصد صالح ولا نية صالحة، ولا عبادة ولا زهد ولا خلق كريم هم قوم أهل بهت وكذب ومكر وخداع وجدال وخصام ويعبدون المال، بل اتخذوا المال إلهًا وهم في صفة نبيهم موسى عليه السلام وذلك لما غاب عنهم أربعين ليلة ذهب إلى موعد ربه فجمعوا من حليهم فصنع لهم السامري جسدًا على صورة عجل له خوار، فعبدوا ذلك العجل المصنوع من الذهب وسجدوا له.
اليهود قوم عاندوا ربهم عز وجل وجادلوه بل وقتلوا أنبياءه ورسله وكذبوهم: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم ففريقًا كذبتم وفريقًا تقتلون [البقرة: 87].
كانوا كلما جاءهم نبي يحذرهم من عبادة الأهواء واتباع الشهوات ويكونون قد غرقوا فيها قتلوه إن استطاعوا وكذبوه، وكان من أعظم جرائمهم التي استحقوا بها الغضب الإلهي كتم العلم وإخفاء الحق وتحريف الكتاب فالله سبحانه وتعالى أنزل التوراة على نبيه موسى عليه السلام وأمر بني إسرائيل بتحكيمها والعمل بما جاء فيها فعطلوها وحرفوها وغيروها وبدلوها.
حرفوا معانيها بالتأويل وحرفوا ألفاظها بالتغيير والتبديل، كانوا يخفون المرادات الحقيقية لكلام الله يخفونها عن الناس إذا فسروا كلام الله لهم ويظهرون لهم غيرها مما يخترعونه ويتأولونه افتراءً على الله عز وجل، وكانوا يخفون النص الحقيقي الصحيح للتوراة، النص الذي أنزله الله على موسى عليه السلام، يخفون من هذا النص ما خالف أهواءهم وعارض شهواتهم، ويظهرون للناس بدلاً منه نصًا يزيفونه ويزورونه ويحرفونه، يكتبونه بأيديهم في قراطيس يظهرونها للناس.
قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرًا [الأنعام:91]. وقال تعالى: ومن الذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا [المائدة: 41].
وكان من أعظم العلم الذي أوتيه هؤلاء في التوراة البشارة بمحمد البشارة في التوراة والإنجيل ببعثة محمد وذكر أوصافه وأوصاف أمته وأوصاف المكان الذي يخرج منه، وأوصاف الأرض التي يسكن فيها وأنها أرض سبخ ذات نخل بين حرتين، ومما جاء في التوراة من أوصافه ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سُئل عن أوصاف رسول الله في التوراة، فقال: نعم أوصاف رسول الله محمد في التوراة كأوصافه في القرآن وذكر من قوله: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأفتح به أعينًا عمياً وآذانًا صُما وقلوبًا غُلفًا) [1].
هذا من أوصاف رسول الله في التوراة، وجاء من أوصاف أمته أنهم أمة أناجيلهم في صدورهم - أي يحفظون القرآن في صدورهم - يحملونه في صدورهم بخلاف أهل التوراة وأهل الإنجيل فإنهم لا يحفظون نصوص الكتابين، أما أمة محمد فمن مزايا بل من خصوصيات الكتاب الذي أُنزل على سيدنا محمد أن هذه الأمة تحمله في صدورها كما تحمله في سطورها.
لما وجد اليهود أوصاف سيدنا محمد في التوراة والإنجيل ووجدوا أوصاف الأرض التي يسكنها أقبلوا من كل حدب وصوب يبحثون وينتظرون خروج هذا النبي الكريم فنزل بعضهم اليمن ونزل بعضهم في هذه المدينة الطيبة ينتظرون خروج محمد رسول الله.
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
لما بُعث النبي ورأته اليهود وعرفوا أنه النبي الموصوف في التوراة والإنجيل والذي بشرت به أنبياء بني إسرائيل كذبوه وخالفوه وعاندوه، لأنهم حسدوه لأنهم كانوا يطمعون أن يكون هذا النبي الموصوف في تلك الكتب المنزلة منهم من بني إسرائيل، فلما رأوه ناوؤه واستخدموا كل وسيلة وكل حيلة وكل مكر لمحاربته بل ولقتله مع علمهم ومعرفتهم وتيقنهم بأنه نبي الله الذي بشرت به الأنبياء من قبل وذُكرت أوصافه في التوراة والإنجيل ومع معرفتهم تمام المعرفة أنه سيظهره الله وأنهم لن يستطيعوا قتله، ومع ذلك حاربوه وحاولوا قتله.
كان عبد الله بن سلام الإسرائيلي من كبار أئمتهم وساداتهم وعلمائهم، من كبار بني إسرائيل عند مبعث النبي فلما علم عبد الله بن سلام بمقدم النبي إلى هذه المدينة الطيبة النبوية أتاه يسأله عن أشياء فقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟
فقال النبي : ((أخبرني به جبريل آنفًا فقال عبد الله بن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، جبريل عدو اليهود من الملائكة)).
ثم قال النبي : ((أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب - تحشر الناس عندما تخرج من المشرق إلى المغرب - وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله)).
أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه وصدق بنبوة سيدنا محمد وآمن به واتبعه.
ثم قال عبد الله بن سلام: يا رسول إن اليهود قوم بُهت فسلهم عني قبل أن يعلموا إسلامي. اليهود قوم أهل كذب وافتراء فسلهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي. فلما جاء اليهود إلى النبي قال النبي: ((أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام. قالوا: أعاذه الله من ذلك. فأعاد النبي : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام)). فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله ابن سلام بينهم وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا وأخذوا يتنقصونه، وقبل هنيهة كانوا يقولون: خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا. فانظر إلى هؤلاء القوم هؤلاء اليهود وكيف يغيرون ويتغيرون ويكذبون ويُكذِّبون ويعاندون ويخاصمون أنبياء الله ورسله بل سيدهم وإمامهم محمد ، صدق عبد الله بن سلام إنهم قوم أهل بُهت يَكْذِبون ويُكَذِّبون ويفترون ويغيرون الحقائق، ويحرفون الكلم عن مواضعه.
فيا أمة محمد احذروا من اليهود ومن مشابهة اليهود ومن محاكاة اليهود فإنه يُخاف عليكم من ذلك، فإن محمداً مشفق عليكم من ذلك، أخبر بأنه سيقع منكم من يقلد اليهود ويحاكيهم ويشبههم في تلك الصفات والخلال والأفعال والأحوال، وأكثر ما يخاف على الأمة الإسلامية من محاكاة اليهود يُخاف على علمائها من ذلك، أكثر ما يخاف على علمائنا من ذلك.
فقد كانوا أئمتنا يقولون من انحرف من علماء هذه الأمة عن الحق ففيه شبه من اليهود، ومن انحرف من عباد أمة محمد من انحرف منهم عن الحق ففيه شبه من النصارى.
أما من انحرف من علماء أمة محمد فشبههم باليهود لأنهم حينئذ يحرفون معاني كلام الله عز وجل بالتأويل والتعطيل وصرفها عن معانيها الحقيقية والتلبيس على الناس بتزييف معانٍ يتأولونها على غير ما أراد الله عز وجل، وهذا نصف التحريف الذي وقع فيه بنو إسرائيل، والنصف الآخر لو استطاع المنحرفون من هذه الأمة لاقترفوه وهو تحريف ألفاظ القرآن العظيم الذي أنزله الله على سيدنا محمد ولكنه الله عز وجل منع خلقه من تحريف ألفاظ القرآن فلا يستطيعون ذلك لأن الله تكفل بنفسه بحفظ هذا القرآن العظيم فكانت هذه خصوصية لهذا القرآن العظيم لم تكن للتوراة والإنجيل، فالتوراة والإنجيل وُكل حفظها إلى من أُنزلت عليهم فضيعوها وحرفوها وبدلوها، وهذا القرآن العظيم تكفل الله عز وجل بنفسه بحفظه فلا يستطيع أحد من الخلق تحريف ألفاظه ولا إخفاء شيء من آياته. هو محفوظ كما أُنزل على محمد وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لكن من انحرف من علماء هذه الأمة يحرفون معاني كلام الله عز وجل ويلبسون على الأمة بتأويلها على غير معانيها الحقيقية ويخفون بعض أحكام هذه الشريعة الإسلامية اتباعًا للشهوات وعبادة للأهواء وتقربًا للسلاطين فهم حينئذ يشبهون اليهود في هذا الاعتبار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [البقرة:75].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (4838).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب: 70-71].
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/348)
علامات الساعة الصغرى
الإيمان
أشراط الساعة
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حتمية مجيء يوم القيامة 2- العلامات الصغرى التي وقعت 3- علامات الساعة التي لم
تقع بعد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فحياكم الله جميعا أيها الآباء الفضلاء، وأيها الأخوة الأحباء الأعزاء، وطبتم جميعا وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتى في الله :
فى رحاب الدار الآخرة
سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، تبدأ بالموت وتنتهي بالجنة أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها.
وهذا هو لقاءنا الثالث من لقاءات هذه السلسلة المباركة، وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الأول وتوقفنا مع الجنازة وهى في طريقها إلى القبر تتكلم، ثم توقفنا في اللقاء الماضي مع الجنازة وقد أغلق عليها القبر، ليعيش صاحبها في نعيم مقيم، أو في عذاب أليم إلى قيام الساعة، وكان من الحكمة والمنطق قبل أن أتكلم عن مراحل الساعة أن أتحدث عن علامات الساعة الصغرى والكبرى، ولذا فإن حديثنا اليوم مع حضراتكم عن العلامات الصغرى بين يدى الساعة.
وكعادتنا سوف ينتظم حديثنا اليوم مع حضراتكم في العلامات الصغرى في العناصر التالية :
أولاً: الساعة آتية لاريب فيها
ثانياً: العلامات الصغرى التي وقعت وانقضت
ثالثاً: العلامات الصغرى التي وقعت ولم تنقضِ
رابعاً: العلامات الصغرى التي لم تقع بعد
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعا ممن: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ [الزمر:18].
أولاً: الساعة آتية لا ريب فيها:
أحبتي في الله:
إن الحديث عن اليوم الآخر ليس من باب الترف العلمي ولا من باب الثقافة الذهنية الباردة التي لا تتعامل إلاَّ مع العقول فحسب، بل إن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان بالله جل وعلا لا يصح إيمان العبد إلا به أصلا وابتداءً، كما في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب وفيه أن جبريل عليه السلام سأل الحبيب المصطفى ما الإيمان؟ فقال الحبيب : ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)).
لا يمكن أن يستقر الإيمان باليوم الآخر في قلب عبد من العباد إلا إذا وقف على حقيقة هذا اليوم وعرف أحواله وكروبه وأهواله.
ومن ناحية ثالثة إذا استقرت حقيقة الإيمان باليوم الآخر في قلب عبد صادق، دفعه هذا العلم بهذا اليوم إلى الاستقامة على منهج الله وعلى طريق الحبيب رسول الله ، لأنه سيعلم يقينا أنه غدا سيقف بين يدى الله جل وعلا ليكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ليقول له الملك: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الَيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14].
فالهدف من هذه السلسلة تذكير المسلمين للاستيقاظ من غفلتهم ورقدتهم الطويلة، وإيقاظ المسلمين بالتوبة والإنابة إلى الله جل وعلا قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.
أيها المسلمون قال الله جل وعلا: ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:6-7].
وإذا كان البشر يرون الساعة بعيدة فإن خالق البشر يرى الساعة قريبة قال جل وعلا: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [ المعارج: 6- 10].
وقال سبحانه: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ [القمر:1].
وقال جل وعلا: أَتَى أَمْرُ الله فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1].
وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أما عن وقت قيام الساعة فإن هذا من خصائص علم الله جل وعلا لا يعلم وقت قيام الساعة ملك مقرب أو نبي مرسل.
قال سبحانه في سورة الأعراف: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرض لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ الله وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187].
وقال سبحانه في سورة الأحزاب: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [ الأحزاب: 63 ].
وقال سبحانه في سورة النازعات: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:42-46].
فلا يعلم وقت قيام الساعة إلا الله.
إن جبريل عليه السلام هو أعلى الملائكة ومحمد هو أعلى الخلق منزلة ومع ذلك جاء جبريل إلى النبي فقال له: متى الساعة؟
فقال المصطفى : ما المسئول عنها بأعلم من السائل!! وهو جبريل والمسئول هو البشير النذير، لا يعلمان وقت قيام الساعة... أفيتجرأ عاقل بعد ذلك ليقول بأنه على علم بوقت قيام الساعة. في صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي ق ال: ((مفاتح الغيب خمس لايعلمهن إلا الله وتلى النبي قول الله تعالى: إِنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].
وإذا كان الله عز وجل قد أخفى وقت قيام الساعة، فقد أخبر سبحانه وتعالى ببعض العلامات والأمارات التي تكون بين يدي الساعة، لينتبه الخلق بالإنابة والتوبة إلى الله جل وعلا، وقد سمى القرآن هذه العلامات والأمارات بالأشراط فقال سبحانه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18].
أي فقد جاءت علاماتها وأماراتها وهاأنا ذا أقسم العلامات إلى ثلاثة أقسام:
أولا: علامات صغرى وقعت وانتهت.
ثانيا: علامات صغرى وقعت ولم تنقضِ مازالت مستمرة.
ثالثا: علامات صغرى لم تقع بعد.
أولا: علامات صغرى وقعت وانتهت.
وأول هذه العلامات بعثة الحبيب المصطفى.
ففي الصحيحين أنه قال: (( بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى)) ( [1] ) فبعثة النبي علامة صغرى وموت النبي أيضا وكلاهما مضيتا.
كما في صحيح البخاري من حديث عوف بن مالك قال: ((أعدد ستاً بين يدى الساعة...)) ( [2] ) وذكر النبي أولها موته.
ومن هذه العلامات الصغرى أيضا التي وقعت وانقضت انشقاق القمر قال سبحانه: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ ، وقد وردت الأحاديث الكثيرة الصحيحة عن رسول الله رواها الإمام مسلم في صحيحه أذكر حضراتكم بحديث واحد من هذه الأحاديث.
من حديث أنس قال: طلب أهل مكة من رسول الله أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر.
فقال: ((ماذا تريدون؟))، قالوا: نريد أن تشق لنا القمر في السماء نصفين فسأل الحبيب ربه فاستجاب الله للمصطفى وشق له القمر في السماء نصفين فقال المصطفى : ((اشهدوا.. اشهدوا)) ( [3] ). ومع ذلك أنكروا وأعرضوا وقالوا: سحر مستمر.
ومن هذه العلامات الصغرى أيضا خروج نار في أرض الحجاز روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : (( لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببُصْرَى)) ( [4] ).
وبُصْرَى بلد تسمى حوران في ديار الشام، ولقد وقعت هذه الآية بمثل ما حَدَّث الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى.
قال الإمام القرطبي في التذكرة: ولقد وقعت هذه الآية بمثل ما حدث الصادق المصدوق. ففي يوم الأربعاء في الثالث من شهر جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة خرجت نار من أرض الحجاز كانت لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته رآها من أرض الحجاز جميع أهل الشام.
ثانياً: العلامات الصغرى التي وقعت ومازالت مستمرة لم تنقض بعد، جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ((قام فينا رسول الله مقاماً ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حَدَّث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه )) ( [5] ).
أخبر النبي بالفتن التي ستقع وقال كما في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة وغيره قال: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا)) ( [6] ).
فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل على الإيمان فلا يأتى الليل عليه إلا وقد كفر بالرحيم الرحمن!
ويمسي على الإيمان فلا يأتى الصباح عليه إلا وقد كفر بالله عز وجل!!
ومن الفتن التي يتعرض لها المسلم اليوم فتنة الغربة: فالمسلم الصادق يعيش الآن فتنة قاسية ألا وهي فتنة الغربة قال الحبيب كما في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة: ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)) ( [7] ).
فأهل الغربة الآن يفرون بدينهم من الفتن بل لقد روى الترمذي في سننه بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((سيأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على جمر بين يديه)).
ومن الفتن التي تعرض لها المسلم فتنة الشهوات: وفي الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة أنه قال: قال المصطفى : ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافس فيها من كان قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم)) ( [8] ).
إذ يرى المسلم واقع أمته مرُُ أليم في الوقت الذي يرى فيه أمم الكفر ودول الكفر قد قفزت قفزات سريعة جدا في عالم الحضارة والرقي والتطور والمدنية. فينظر المسلم الشاب الغيور إلى واقع الأمة فيرى الأمة ذليلة كسيرة مبعثرة كالغنم في الليلة الشاتية الممطرة، وتعصف الفتنة بقلبه ويتساءل مع نفسه أهذه هي الأمة التي دستورها هو القرآن ونبيها محمد عليه الصلاة والسلام وربها هو الرحيم الرحمن، ما الذي بدل عزها إلى ذل؟! ما الذي غير علمها إلى جهل؟! ما الذي حول قوتها إلى ضعف وهوان؟!
وهناك فتنة الأولاد وفتنة الزوجات قال جل وعلا: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَولادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحذَرُوهُمْ [التغابن:14].
فتن كثيرة قال المصطفى كما في الصحيحين من حديث أنس قال : ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال وتكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)) ( [9] ).
بل لقد ورد في سنن الترمذي بسند صحيح أن النبي قال: ((يتقارب الزمان بين يدي الساعة فتكون السنة كالشهر ويكون الشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كاحتراق السعفة)) ( [10] ) احتراق جريدة من النخيل.
ومن علامات الساعة الصغرى التي وقعت ولم تنقض إسناد الأمر إلى غير أهله.
ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: أن أعرابيا دخل على النبي وهو يحدث الناس فقال الأعرابي: يا رسول الله متى الساعة؟ فمضى النبي في حديثه ولم يجب الأعرابي على سؤاله فلما أنهى النبي حديثه قال: ((أين السائل عن الساعة آنفا؟)).. فقال الأعرابى: ها أنا ذا يا رسول الله. قال: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)). فقال الأعرابي الفقيه: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )) ( [11] ).
تدبر معي حديث النبي الذي رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة قال : ((سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذَّب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويُخَوَّن فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة)) قيل من الرويبضة يا رسول الله؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)).
ومنها تداعي الأمم على أمة الحبيب المحبوب ، ففي الحديث الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان وهو حديث صحيح بمجموع طرقه أنه قال: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) قالوا أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((كلا.. إنكم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل... وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم وليقذفن في قلوبكم الوهن)) قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) ( [12] ).
واقع نعيش فيه.. واقع تحياه الأمة !! تداعت أذل أمم الأرض من اليهود ومن عباد البقر والملحدين على أمة الإسلام في كل مكان، وطمع في الأمة الذليل قبل العزيز، والضعيف قبل القوى، والقاصي قبل الداني، وأصبحت الأمة قصعة مستباحة لأمم الأرض!!
ومن العلامات: كما في الحديث الذي رواه أحمد والطبراني في الكبير بسند صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: ((بين يدي الساعة رجال معهم سياط كأنها أذناب البقر يغدون في سخط الله ويروحون في غضب الله)) ( [13] ).
وفى صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال المصطفى : ((صنفان من أهل النار لم أرهما رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسمنة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) ( [14] ).
أيها الأحبة الكرام لا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك، وأرجيء الحديث عن العلامات الصغرى التي لم تقع بعد إلى ما بعد جلسة الاستراحة. والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم
( [1] ) رواه البخارى رقم (6503) في الرقاق ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ومسلم رقم (2950) في الفتن ، باب قرب الساعة.
( [2] ) أخرجه البخارى رقم (3176) في الجهاد ، باب مايحذر من الغدر.
( [3] ) رواه مسلم رقم (2800) في صفات المنافقين ، باب انشقاق القمر.
( [4] ) رواه البخارى رقم (7118) في الفتن ، باب خروج النار ، ومسلم رقم (2902) في الفتن ، باب لا تقوم االساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز.
( [5] ) رواه مسلم رقم (2891) في الفتن وأشراط الساعة ، باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون.
( [6] ) رواه مسلم رقم (118) في الإيمان ، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن والترمذى رقم (3196) في الفتن.
( [7] ) رواه مسلم رقم (145) في الإيمان ، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً.
( [8] ) أخرجه البخارى رقم (6425) في الرقاق ، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها ، ومسلم رقم (2961) في الرقاق ، والترمذى رقم (2464) في صفة القيامة.
( [9] ) رواه البخارى رقم (80 ، 81) ، في العلم ، باب رفع العلم وظهور الجهل ، ومسلم رقم (2671) ، والترمذى رقم (2301) ، وابن ماجة (40405).
( [10] ) رواه الترمذى رقم (2434) وصححه شيخنا الألبانى في المشكاة (5389).
( [11] ) رواه البخارى رقم (59) في العلم ، باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثة فأتم الحديث ثم أجاب السائل.
( [12] ) رواه أبو داود رقم (4297) في الملاحم ، باب تداعى الأمم على الإسلام وفي سنده أبو عبد السلام صالح بن رستم الهاشمى ، وهو مجهول لكن قد رواه أحمد رقم (22296) من طريق آخر بسند قوى وصححه شيخنا الألبانى في الصحيحة رقم (956).
( [13] ) رواه مسلم رقم (2857) في الجنة ، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء.
( [14] ) رواه مسلم رقم (2128) في الجنة ، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
ثالثاً: علامات صغرى لم تقع بعد
من هذه العلامات التي أخبر عنها النبي ولم تقع ما رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها)) ( [1] ).
من أهل العلم من قال: إن هذا قد وقع على عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
ومن العلامات التي لم تظهر ما أخبر عنه الصادق المصدوق كما جاء في البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، فيقول كل رجل منهم: لعلى أكون أنا الذي أنجو)).
وفى رواية قال : ((يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً)) ( [2] ).
ومن العلامات أيضاً التي لم تظهر بعد: ظهور المهدي رضي الله عنه فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلاً منى - أو من أهل بيتي - يواطيئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)) ( [3] ).
يخرج هذا الرجل يؤيد الله به الدين يملك سبع سنين ( [4] ) يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً تنعم الأمة في عهده نعمة لم تنعمها قط، تخرج الأرض نباتها، وتمطر السماء قطرها، ويعطى المال بغير عدد.
قال ابن كثير: في زمانه تكون الثمار كثيرة، والزروع غزيرة، والمال وافر، والسلطان قاهر، والدين قائم، والعدد راغم، والخير في أيامه دائم.أ.هـ ( [5] ).
وقد تواترت الأحاديث في المهدي تواتراً معنوياً، وقد نص على ذلك الأئمة والعلماء.
ونكتفي بذلك القدر ونسأل الله أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض إنه ولي ذلك والقادر عليه.
( [1] ) رواه البخارى رقم (7121) في الفتن ، باب خروج النار ، ومسلم رقم (157) في الزكاة ، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها.
( [2] ) رواه البخارى رقم (7119) في الفتن ، باب خروج النار ، ومسلم رقم (2894) في الفتن باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب ، وأبو داود رقم (4313:4314) في الملاحم ، والترمذى رقم (2572 : 2573) في صفة الجنة.
( [3] ) رواه أبو داود رقم (4282) في المهدى ، والترمذى رقم (2231 : 2232) في الفتن باب ما جاء في المهدى وقال : هذا حديث حسن صحيح وهو كما قال.
( [4] ) رواه أبو داود رقم (4265) في المهدى ، والحاكم في المستدرك (4/ 557) وحسنه الألبانى في صحيح الجامع رقم (6612).
( [5] ) النهاية في الفتن والملاحم.
(1/349)
الحج إلى بيت الله الحرام
فقه
الحج والعمرة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يوم عرفة يوم تكفير السيّئات 2- فرضية الحج 3- فوائد الحج للمسلم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا أيها الناس، اتقوا الله ـ تعالى ـ وأطيعوه، وحجوا بيته الحرام وعظموه، واتخذوا الشيطان عدوا وأغيظوه؛ بالمسارعة إلى الخيرات، والتوبة إلى الله من الزلات، وذكر الله في سائر الأوقات، والوقوف – إذا تيسر لكم – مع حجيج المسلمين في عرفات، فقد صح عن جابر عن نبيكم أنه قال: ((إذا كان يوم عرفة إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم. فيقول الملائكة: يا رب! فلان كان يرهق – أي يقع في شيء من المعاصي – وفلان وفلانة، قال: يقول الله ـ عز وجل ـ: لقد غفرت لهم)). قال رسول الله : ((فما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة)) [1].
وصح عن أنس قال: وقف النبي بعرفات وكادت الشمس أن تغرب فقال: ((يا بلال! استنصت لي الناس))، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله ، فأنصت الناس، فقال: ((معشر الناس! أتاني جبرائيل آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال: إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات)) فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله لنا خاصة؟ قال: ((هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة))، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: كثر خير الله وطاب [2].
وفي الموطأ بسند صحيح عن طلحة بن عبد الله بن كريز مرسلاً أن رسول الله قال: ((ما رُئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما كان من يوم بدر)) [3].
عباد الله، لشهود هذه الفضائل الكبيرة وغيرها من المنافع الكثيرة فرض الله عليكم الحج مع الاستطاعة، وجعله نافلة بعد الفريضة إلى قيام الساعة، فقال ـ سبحانه ـ: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]. وقال ـ جل ذكره ـ: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ [الحج:27، 28].
وصح عن النبي أنه قال: ((أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)) [4] ، وقال : ((الحج مرة، فمن زاد فتطوع)) [5] ، وذلك كله من رحمة الله بالعباد ولطفه بهم في المعاش وفي المعاد.
أيها المسلمون، الحج عبادة جليلة وفريضة عظيمة، تشمل أنواعا من التقرب إلى الله ـ تعالى ـ في غاية من الذل والخضوع والمحبة له ـ سبحانه ـ، في أوقات ومناسك معظمة ومواطن محترمة، يبذل المسلم من أجل شهودها النفس والنفيس، ويتجشّم الأسفار ويتعرض للأخطار، وينأى عن الأوطان ويفارق الأهل والأولاد والإخوان، كل ذلك محبة لله ـ تعالى ـ وشوقاً إليه، وطاعة له وتقرباً إليه، ولذلك يتكرم الله ـ تعالى ـ على عباده فيجازيهم على هذا الإحسان بالإحسان الذي صحت به الأخبار وفصلته الآثار.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [6]. وفي الصحيحين أيضا عنه أن النبي قال: ((من حج – وفي لفظ مسلم: من أتى – هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كهيئته يوم ولدته أمه)) [7] يعني نقياً من الذنوب.
وعن ابن مسعود عن النبي قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [8].
وروي عنه أنه قال: ((هذا البيت دعامة الإسلام ،فمن خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر كان مضموناً على الله إن قبضه أن يدخله الجنة، وإن رده رده بأجر وغنيمة)) [9].
أيها المؤمنون، وفي مناسك الحج والوقوف بمشاعره يتحقق للعبد – من الرغبة في الخير ونشاط الهمة في أنواع من الطاعات؛ من صلاة، وطواف وصدقات، وذكر، وتلاوة القرآن، وإحسان إلى الناس بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة – ما يرجى أن تضاعف عليه الأجور، وترتفع الدرجات، ويحط من الخطيئات ما لا يدخل تحت حصر، ولا يحيط به وصف.
وقد صح عن النبي أنه قال: ((صلاة في المسجد الحرام خير – وفي لفظ: أفضل – من مائة ألف صلاة فيما سواه)) [10] ، فإذا كان هذا في الصلاة فيرجى أن تكون الأعمال كلها مضاعفة كذلك نظراً لشرف المكان وفضل الزمان وكمال الحال.
وقد صح عن النبي أنه قال: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) [11] ، وقال: ((من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)) [12] ، وقال: ((فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمُر النَّعَم)) [13].
فاتقوا الله عباد الله، وهلموا لشهود تلك المنافع، وعظموا الرغبة إلى ربكم، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من خاصة أوليائه وأحبابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن خزيمة ح (2840) ، وابن حبان ح (3853) بنحوه ، وأخرجه البغوي في شرح السنة ح (1931) ، وهو ضعيف لأن فيه عنعنة أبي الزبير وهو مدلس ، انظر السلسلة الضعيفة للألباني رقم (679). وقد ثبتت مباهاة الله بعباده في هذا اليوم عند مسلم ح (1348).
[2] لم أجده.
[3] موطأ مالك (1/422) ، وهو مرسل.
[4] أخرجه مسلم ح (1337).
[5] إسناده صحيح ، أخرجه أحمد (1/255) ، والدارمي ح (1788).
[6] صحيح البخاري ح (1773) ، صحيح مسلم ح (1349).
[7] صحيح البخاري ح (1819) ، صحيح مسلم ح (1350).
[8] صحيح ، أخرجه أحمد (1/387) ، والترمذي ح (810) وقال : حسن غريب ، وأخرجه النسائي ح (2630) ، وابن ماجه ح (2887).
[9] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/209) : رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير وهو متروك.
[10] صحيح ، أخرجه أحمد (3/343) ، وابن ماجه ح (1406).
[11] أخرجه مسلم ح (1893).
[12] أخرجه مسلم ح (2674).
[13] أخرجه البخاري ح (3009) ، ومسلم ح (2406).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/350)
علامات الساعة الكبرى (المسيح الدجال)
الإيمان
أشراط الساعة
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علامات الساعة الكبرى 2- فتنة الدجال 3- وصف الدجال 4- السبيل إلى النجاة من
فتنته
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتي في الله:
هذا هو لقاءنا الرابع مع دروس سلسلة الدار الآخرة، وكنا قد أنهينا آنفا الحديث عن العلامات الصغرى التي ستقع بين يدي الساعة، والآن حديثنا عن العلامات الكبرى التي ستقع قبل قيام الساعة مباشرة، وقد ذكر النبي هذه العلامات في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: اطلع علينا النبي ونحن نتذاكر فقال: ((ما تذاكرون؟)) قلنا: نذكر الساعة قال: ((إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم)) ( [1] ).
ولقد ذكر المصطفى هذه العلامات بغير هذا الترتيب في روايات أخرى صحيحة والذي يترجح من الأخبار كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" :
أن خروج الدجال هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال وينتهي ذلك بقيام الساعة ولعل خروج الدابة يقع في نفس اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب، والله أعلم ( [2] ).
ولكن على أي حال فإن العلامات الكبرى ستقع متتابعة فهي كحبات العقد إذا انفرطت منه حبه تتابعت بقية الحبات.
ففي الحديث الذي رواه أحمد والحاكم في مستدركه وصححه على شرط مسلم وأقره الحاكم والذهبي والألباني من حديث أنس أن النبي قال: ((الأمارات (أي العلامات الكبرى) خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضاً)) ( [3] ).
واسمحوا لي أن أستهل الحديث اليوم مع حضراتكم في العلامات الكبرى عن الآية العظيمة الأولى التي تؤذن بتغير الأحوال على الأرض، ألا وهي المسيح الدجال... وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعا فسوف أركز الحديث في العناصر التالية :
أولاً: الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض.
ثانياً: وصف دقيق للدجال وفتنته.
ثالثاً: ما السبيل إلى النجاة.
فأعرني قلبك جيدا... وأعرني سمعك تماما... فإن الموضوع من الخطورة بمكان.
أولاً: الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض، فتدبر جيدا أيها الحبيب وقِفْ على خطر هذه الفتنة!، فالدجال أعظم فتنة على وجه الأرض من يوم أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة.
لماذا سمى الدجال بالمسيح الدجال؟!!
سمى الدجال بالمسيح لأن عينه ممسوحة قال المصطفى : ((الدجال ممسوح العين)) ( [4] ) وسمى بالدجال لأنه يغطى الحق بالكذب والباطل فهذا دجل فسمى بالدجال وفتنة الدجال فتنة عظيمة!!
وفى صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال)) ( [5] ).
وأمرُ الدجالِ أمرُُ غيبي والأمر الغيبي لا يجوز أن نتكلم فيه بشيء من عند أنفسنا إنما ننقل عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وأنوه أيضاً أننا لا نلتفت إلا لما صح من حديث رسول الله كعادتنا ولله الحمد والمنة.
روى ابن ماجه في سننه وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في المستدرك وصحح الحديث الشيخ الألباني من حديث أبي أمامة الباهلي أن الحبيب قال: ((إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة المسيح الدجال ولم يبعث الله نبيا إلا وقد أنذر قومه الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة ،فإن يخرج الدجال وأنا بين أظهركم فأنا حجيج لكل مسلم، وإن يخرج الدجال من بعدي فكل امريء حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم)).
يا لها من كرامة لأمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
ففتنة الدجال عظيمة!.. أعظم فتنة على وجه الأرض بشهادة الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى.
أحبتي في الله:
لقد وصف النبي الدجال وصفاً دقيقاً محكماً وبين لنا فتنته بياناً شافيا حتى لا يغتر بالدجال أحد من الموحدين بالله رب العالمين... وهذا هو عنصرنا الثانى.
ثانياً: وصفٌ دقيقٌ للدجال وفتنته
وصف النبي الدجال فقال : والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال :
قام رسول الله في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى على الله بما هو أهله.... فذكر الدجال فقال: ((إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال، ولقد أنذر نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه ألا فاعلموا أنه أعور وأن الله ليس بأعور)) ( [6] ).
وفى رواية ((أعور العين اليمنى)) ، وفي رواية أخرى صحيحة ((أعور العين اليسرى)) ، اعلموا أنه أعور وأن الله ليس بأعور جل جلاله، جل ربنا عن الشبيه.. وعن النظير.. وعن المثيل.. لا كفء له، ولا ضد له، ولا ند له ولا شبيه له، ولا زوج له ولا ولد له: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، لَيسَ كَمثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ.
ثم قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مسلم)) ( [7] ).
ماذا تريد بعد ذلك من الرحمة المهداة والنعمة المسداة من الذي قال ربه في حقه: بالمُؤمِنِينَ رَؤوفُُ رَحِيمُُ.
يبين لك لتتعرف على الدجال إن خرج بين أظهرنا، يقول لك ممسوح العين... مكتوب بين عينيه كافر... يقرؤه كل مسلم.
وفى رواية حذيفة في صحيح مسلم قال : ((الدجال، مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب)) ( [8] ).
لا ينبغي أن نصرف لفظ النبي على غير ظاهره، الكتابة على جبين الدجال كتابة حقيقية لدرجة أنه وردت في رواية في صحيح مسلم قال : ((الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه (ك ف ر) أي كافر)) ( [9] ).
وصف عجيب للدجال من رسول الله عليه الصلاة والسلام !
أستحلفك بالله أن تتدبر معي هذا المطلع العجيب الذي رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال الذي لا ينطق عن الهوى : ((لأنا أعلم بما مع الدجال من الدجال، معه نهران يجريان أحدهما رأى العين ماء أبيض، والأخر رأى العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً، وليغمض، ثم ليطأطيء رأسه فليشرب منه فإنه ماء بارد)) ( [10] ).
يقول لنا الصادق المصدوق لا تخش نار الدجال فهو دجال يغطى الحق بالكذب والباطل، إن رأيت ناره فاعلم بأنها ماء عذب بارد طيب.
وفى رواية أخرى في صحيح مسلم لحذيفة رضي الله عنه أن النبي قال: ((يخرج الدجال وإن معه ماءً وناراً، فما يراه الناس ماءً فهي نار تحرق وما يراه الناس نارا فهو ماء بارد عذب)) ( [11] ).
في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أنه قال: سأل الصحابة رسول الله عن المدة التي سيمكثها الدجال في الأرض، فقال الحبيب : ((أربعون يوما، يوم كسنة ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كسائر أيامكم ))، قلنا: يا رسول الله اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: ((لا، اقدروا له قدره)) ( [12] ) ، يعنى صلوا الفجر وعدوا الساعات التي كانت قبل ذلك بين الفجر والظهر، وصلوا الظهر، وعدوا الساعات التي كانت بين الظهر والعصر وهكذا.
فسأل الصحابة رسول الله - وما زلنا في حديث النواس ابن سمعان -: وما سرعته في الأرض؟!: ((يمكث في الأرض أربعين ليلة فيمر على الأرض كلها؟ سرعته كالغيث - أي المطر- استدبرته الريح))... يعنى يمر في كل أرجاء وأنحاء الأرض.
ثم قال الحبيب : ((يأتي الدجال على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ماكانت ذراً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر)).
فتنة رهيبة !!
فلو عقل هؤلاء لعلموا أن صفات النقص من أعظم الأدلة على كفره وبطلان إدعاءاته.
لقد ذل من بالت عليه الثعالب
رب يبول الثعلبان برأسه
فلا خير في ربٍ نأته المطالب
لو كان ربا كان يمنع نفسه
و آمنت بالله الذي هو غالب
برئت من الأصنام في الأرض كلها
إن الذي يستحق أن يعبد هو المتصف بكل صفات الكمال والإجلال.
ثم ينطلق الدجال إلى قوم آخرين فيقول لهم: أنا ربكم. فيقولون :لا ويكذبونه.
يقول المصطفى : ((ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل)) أي جماعات النحل
فتنة رهيبة!!
ثم تزداد الفتنة !!!
يقول النبي ثم يدعوا رجلا ممتلئا شبابا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين، فيمشى الدجال بين القطعتين أمام الناس ويقول للشاب قم فيستوي الشاب حيا بين يديه !!.
فتنه رهيبه !!!
وفى رواية أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم ( [13] ) يقول المصطفى : ((فيخرج إليه شاب فتلقاه المسالح، مسالح الدجال (أي أتباعه من اليهود الذين يحملون السلاح) فيقولون له: أين تعمد؟
فيقول: إلى هذا الذي خرج (أي إلى الدجال) فيقولون له أولا تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، أي لو نظرت إلى الدجال سأعرفه!
فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أو ليس قد نهانا ربنا أن نقتل أحداً دونه، فينطلقون بهذا الرجل المؤمن إلى الدجال، فإذا نظر المؤمن إليه قال: أيها الناس! هذا المسيح الدجال الذي ذكره لنا رسول الله يقول المصطفى: ((فيأمر الدجال به فيشج، فيقول: خذوه وشجوه، فيوسع ظهره وبطنه ضربا، قال: فيقول: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب. قال: فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه، قال: ثم يمشى الدجال بين القطعتين ،: ثم يقول له: قم، فيستوي قائما، قال: ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة؟ قال: ثم يقول: يا أيها الناس: إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس، قال: فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا، فلا يستطيع إليه سبيلا، قال: فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه في النار وإنما ألقي في الجنة)) فقال رسول الله : ((هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)) ( [14] )
وسأختم حديثي عن فتنة الدجال بحديث عجيب رواه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث تميم الداري رضي الله عنه من حديث فاطمة بنت قيس عن تميم الداري قالت: سمعت منادي رسول الله ينادي: "الصلاة جامعة فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله ، وكنت في النساء التي تلي ظهور القوم فلما قضى الرسول صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال: ((أيها الناس ليلزم كل إنسان مصلاه)) ثم قال ((أتدرون لم جمعتكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم.
فقال رسول الله : ((أما إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانياً فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام "قبيلتان عربيتان مشهورتان" فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفؤوا ( [15] ) إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا جزيرة فلقيتهم دابة أهلب ( [16] ) كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره، فقالوا: ويلك، من أنت؟ قالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة، قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، فلما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير، فإذا أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني: ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهرا، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا ندرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل الذي في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق فأقبلنا إليك سراعا، وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن بيسان قلنا: وعن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له: نعم، قال: أما إنه يوشك أن لا يثمر، قال: أخبروني عن بحيرة طبرية، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر، قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين، ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال أما إن ذاك خيرا لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عنى، أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فسأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة فهما محرمتان على كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحدا منهما، استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدنى عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها)) قالت: قال رسول الله : وطعن بمخصرته في المنبر ((هذه طيبة.. هذه طيبة)) يعنى: المدينة ((ألا هل كنت حدثتكم عن ذلك؟)) فقال الناس: نعم، قال: ((فإنه أعجبني حديث تميم لأنه وافق الذي كنت حدثتكم عنه وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق، ما هو؟ من قبل المشرق ما هو ؟، وأومأ بيده إلى المشرق)) قالت: فحفظت هذا من رسول الله.
أيها الأحبة الكرام:
هذا قليل من كثير، فلا زال هناك الكثير عن فتنة الدجال، فقد أجملت لكم ما يسر الله عز وجل، لنقف على خطورة هذه الفتنة.
وهناك سؤال لابد أن يطرح في هذا المجال ألا وهو:
هل سيقتل الدجال؟! ومن الذي سيقتله؟ !!!
نعم... أبشروا سيقتل الدجال وسيقتله عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
روى ابن ماجه في سننه والحاكم في المستدرك وصحح الحديث الألباني من حديث أبي أمامة الباهلي أنه قال: ((بينما إمام المسلمين يصلى بهم الصبح في بيت المقدس إذا نزل عيسى بن مريم، فإذا نظر إليه إمام المسلمين عرفه، فيتقهقر إمام المسلمين لنبي الله عيسى ليصلى بالمؤمنين - من أتباع سيد النبيين محمد- فيأتي عيسى عليه السلام ويضع يده في كتف إمام المسلمين ويقول: لا بل تقدم أنت فصلِّ فالصلاة لك أقيمت))، وفي لفظ ((فإمامكم منكم يا أمة محمد ويصلى نبي الله عيسى خلف إمام المسلمين لله رب العالمين، فإذا ما أنهى إمام المسلمين، قام عيسى وقام خلفه المسلمون، فإذا فتح عيسى باب بيت المقدس، رأى المسيح الدجال معه سبعون ألف يهودي معهم السلاح، فإذا نظر الدجال إلى نبي الله عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء، ثم يهرب فينطلق عيسى وراءه فيمسك به عند باب لد في فلسطين، فيقتله نبي الله عيسى ويستريح الخلق من شر الدجال)).
ويبقى هنا سؤال ألا وهو: ما السبيل إلى النجاة؟
والإجابة على هذا السؤال تكون بعد جلسة الاستراحة
وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم
( [1] ) رواه مسلم رقم (2901) فى الفتن ، باب ما يكون من فتوحات المسلمين قبل الدجال ، وأبو داود رقم (4311) فى الملاحم ، باب أمارات الساعة ، والترمذى رقم (2184) فى الفتن ، باب ما جاء فى الخسف.
( [2] ) فتح البارى (11/353).
( [3] ) أخرجه أحمد فى المسند رقم (7040) وقال محققه : إسناده صحيح.
( [4] ) رواه مسلم رقم (2933) ، فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفة ما معه ، وأبو داود رقم (4316،4317،4318) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2246) فى الفتن
( [5] ) رواه مسلم رقم (2946) فى الفتن ، باب فى بقية من أحاديث الدجال.
( [6] ) رواه البخارى رقم (7127) فى الفتن ، باب ذكر الدجال ، ومسلم رقم (169) فى الإيمان ، باب ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال ، وأبو داود واللفظ له رقم (4757) فى السنة ، باب فى الدجال ، والترمذى رقم (2236،2242) فى الفتن ، باب ما جاء فى علامة الدجال.
( [7] ) رواه مسلم رقم (2933) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفة ما معه ، وأبو داود رقم (3416 - 3418) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2246) فى الفتن.
( [8] ) رواه مسلم رقم (2933) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفة ما معه ، وأبو داود رقم (3416 :3418) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2246) فى الفتن.
( [9] ) رواه مسلم رقم (2933) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه.
( [10] ) رواه البخارى رقم (7130) فى الفتن ، باب ذكر الدجال ، ومسلم رقم (2934،2935) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه ، وأبو داود رقم (4315) فى الملاحم ، باب خروج الدجال.
( [11] ) رواه مسلم رقم (2934 ، 2935 ) فى الفتن ، باب ذكر الدجال.
( [12] ) رواه مسلم رقم (2937) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه ، وأبو داود رقم (4321، 4322) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2241) فى الفتن ، باب ما جاء فى فتنة الدجال.
( [13] ) رقم (2938) فى الفتن وأشراط الساعة ، باب فى صفة الدجال.
( [14] ) رواه البخارى رقم (7132) فى الفتن ، باب لا يدخل المدينة ، ومسلم رقم (2938) فى الفتن ، باب صفة الدجال وتحريم المدينة عليه.
( [15] ) أرفأت السفينة : قربتها إلى الشط وأدنيتها من البر.
( [16] ) الهلب : ما غلظ من الشعر والأهلب : الغليظ الشعر الخشن.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد أحبتي في الله:
فما السبيل إلى النجاة؟
أحبتي الكرام: أجيب لكم عن هذا السؤال من كلام سيد الرجال محمد بن عبد الله حتى تطمئن قلوبكم وتستريح، ثبتكم الله.
ففي الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه والحاكم في مستدركه وصححه الألباني.
قال : ((من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)) ( [1] ).
وفى لفظ: ((من حفظ عشر آيات من أوائل سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)).
وفى لفظ: ((من حفظ عشر آيات من أواخر سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)).
لقد تبينتم الآن أمر الدجال، فالأمر جد خطير، هل نقف على مثل هذه الخطورة ونحفظ عشر آيات فقط من سورة الكهف، أراكم تقولون لا بل حفظ السورة بالكامل أمر يسير أمام هذه الخطورة الشديدة، أرى منكم أناساً يقولون نذهب إلى مكة أو المدينة، سأقول لكم لا بأس، من يستطيع الفرار منكم إلى مَكة المباركة أو طيبة طيبها الله، فله ذلك، فهما محرمتان على الدجال أن يدخل واحدة منهما وذلك من سبل النجاة.
لكنني لا أجد لك سبيلا للنجاة أكبر وأشرف وأجل وأعظم من أن ُتوحد الله جل وعلا وتعرف معنى كلمة.. "لا إله إلا الله".. فهذا هو أصل الأصول وبر الأمان لكل مؤمن يريد الأمان حقا في الدنيا والآخرة.
ألم يقل لك المصطفى بأنه لا يقرأ كلمة كافر بين عيني الدجال إلا مؤمن موحد للكبير المتعال، واعلم يقينا بأن الإيمان ليس كلمة يرددها لسانك فحسب.. بل الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان "يعنى القلب"... وعمل بالجوارح والأركان... ولابد أن تعلم أن أركان الإيمان... أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره فلا بد لك من الآن أن تصحح إيمانك بالله جل وعلا وتحقق الإيمان يقينا.
وقد قال الحسن : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه.
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-33].
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:107 -110].
( [1] ) رواه مسلم رقم (809) فى صلاة المسافرين ، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسى ، وأبو داود رقم (4323) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2888) فى ثواب القرآن.
(1/351)
كن ربانيا ولا تكن رمضانيا
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, فضائل الأعمال
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الثوابت الإيمانية 2- الاستقامة على الدين 3- الاستعانة بالله
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتي في الله:
إننا اليوم على موعد مع لقاء من الأهمية البالغة بمكان وهو بعنوان: "كن ربانياً ولا تكن رمضانياً" وكما تعودنا دائماً حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا فسوف نركز هذا الموضوع في العناصر التالية:
أولاً: الثوابت الإيمانية.
ثانياً: عرفت فالزم.
ثالثاً: استعن بالله ولا تعجز.
فأعيروني القلوب والأسماع والوجدان أيها الأحبة، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله ،وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً: الثوابت الإيمانية.
أحبتي في الله:
ها هو رمضان قد انتهى فمن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد فات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، لقد انتهى شهر الصيام، انتهى شهر القيام والقرآن، انتهى شهر البر والجود والإحسان، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر.
فليت شعري من المقبول منا في رمضان فنهنيه ومن المطرود المحروم منا فنعزيه.
فيا عين جودي بالدمع من أسف على فراق ليالي ذات أنوارِ
على ليالي لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزارِ
ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري
فابكوا على ما مضى في الشهر واغتنموا ما قد بقي من فضل أعمارِ
أيها الفضلاء الأعزاء:
مما لا ريب فيه أن الله جل وعلا قد فضل شهر رمضان على سائر الشهور والأزمان، واختصه بكثير من رحماته وبركاته، ويسر الله فيه الطاعة لعباده مما لا يحتاج إلى دليل أو برهان، فأنت ترى المسلمين في رمضان ينطلقون بأريحية ويسر إلى طاعة الرحيم الرحمن جل وعلا، ولم لا؟! وقد غُلِّقت أبواب الجحيم، وفتحت أبواب النعيم، وغل فيه مردة الجن والشياطين، فأنت ترى الناس تقبل على طاعة الله وعبادته بأريحية عجيبة، ولكن ما يحزن القلب ويؤلم النفس أنك ترى كثيراً ممن عطروا بأنفاسهم الزكية المساجد في رمضان يعرضون عن طاعة الله رب البرية بعد رمضان، وكأنهم في رمضان يعبدون ربا أخر، فالإيمان له ثوابت لا يستغني عنها المؤمن حتى يلقى الكبير المتعال، فمثلاً الصلاة: من من المؤمنين الصادقين يستغني عن الصلاة بعد رمضان؟! انظر إلى المساجد في رمضان، وانظر إلى ذات المساجد بعد رمضان.
أيها الموحدون: هل يستغني مؤمن صادق مع الله عن هذا الأصل الأصيل وعن هذه الثوابت الإيمانية حتى يلقى رب البرية وهو الركن الثاني من أركان هذا الدين قال تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]
وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
وحذر الله أشد التحذير من تضييع الصلاة ومن تركها في رمضان أو غير رمضان فقال جل وعلا: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].
وقال جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:38-43].
فيا من هيأ الله له صيام شهر رمضان لا تضع الصلاة، فالصلاة صلة لك بالله، ومعين لك يطهرك من المعاصي والذنوب، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((من غدا إلى المسجد أو راح أَعَدَّ الله له نُزلاً في الجنة كلما غدا أو راح)) ( [1] ).
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن النبي قال: ((ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط )) ( [2] ).
افترض الله على المؤمنين الصلاة وتعبدهم بها في كل زمان ومكان حتى يلقى العبد ربه ليُسأل أول ما يُسأل عن الصلاة.
فعن أبي هريرة قال: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر)) ( [3] ).
أيها الموحدون: ومن الثوابت الإيمانية: القرآن
إن القرآن حياة القلوب والأرواح، القرآن حياة النفوس والصدور، القرآن حياة الأبدان، القرآن شراب النفس وطعامها، فهل يستغني مؤمن عن روحه؟! هل يستغني مؤمن عن أصل حياته، إن القرآن يهدى للتي هي أقوم فلا تضيعوا هذا الطريق ولا تنصرفوا عنها.
إن طرف القرآن بيد الله، وإن طرفه أيديكم فإذا تمسكتم بهذا الحبل المتين لن تضلوا، ولن تهلكوا أبداً، وهل يستغني أحد عن أن يكلمه الله في اليوم مرات، فمن أراد أن يكلم الله فليدخل في الصلاة ومن أراد أن يكلمه الله فليقرأ القرآن، وهل تستغن عن ربك أيها الموحد؟!، لا تضيع القرآن بعد رمضان ،واعلم أن الله قد مَنَّ عليك بالقرآن في رمضان فجعلت لنفسك ورداً يومياً، فلماذا بعد رمضان تركت هذا الورد ووضعت المصحف في علبته كأنك لن تحتاج إليه إلا في رمضان المقبل؟!
فيا أيها الحبيب الكريم:
اقرأ القرآن واعمل بما فيه، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، ففي صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله يقول : ((اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)) ((اقرؤوا الزهراوين: البقرة، وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)) ((اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)) ( [4] ).
ويقول كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) ( [5] ).
((رجل أتاه القرآن فهو يقرأه آناء الليل وآناء النهار)) أي في سائر العام فلا تهجروا القرآن يا أمة القرآن بعد رمضان، ومن الثوابت التي لا غنى عنها للمؤمن بعد رمضان: ذكر الرحيم الرحمن.
أخي الكريم:
إذا كنت تحافظ على الأذكار والاستغفار في رمضان، فهل تستغني عن هذا الزاد بقية العام، إن الذكر شفاء من الأسقام ومرضاة للرحمن ومطردة للشيطان، فرطِّب لسانك دوماً بذكر الرحيم الرحمن جل وعلا، واسمع لحبيبك المصطفى كما في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني من حديث معاذ بن جبل يقول : ((ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها لدرجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم))؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ((ذكر الله عز وجل)) ( [6] ).
انظر إلى فضل الذكر، فالذاكر في معية الله، كما في الصحيحين أنه قال: ((قال الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه حين يذكرني فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلىَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشى، أتيته هرولةً)) ( [7] ).
فاذكر الله جلا وعلا لتكون دوماً في معيته سبحانه وتعالى، والمعية نوعان: معية عامة، ومعية خاصة، أما المعية العامة فهي معية العلم والمراقبة والإحاطة والمعية الخاصة فهي معية الحفظ والنصر والعون والمدد والتأييد، فهل تستغني أيها المؤمن عن معية الله جل وعلا؟!!
فإذا أردت ذلك فداوم على الذكر ولا تضع هذا النور أبداً، ويكفى أن تعلم أن النبي قال في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري الطويل ((... وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصن حصين أحرز نفسه منهم، وكذلك العبد لا يُحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله)) ( [8] ).
إذاً لابد لك من هذا الزاد لأن فيه الخير العظيم، فالذكر من الثوابت التي لا غنى عنها بحال لا في رمضان ولا في غير رمضان.
ومن الثوابت الإيمانية أيضاً: الإحسان إلى الناس.
إننا نرى كثيراً من الناس لا تظهر عليهم علامات الجود والكرم إلا في رمضان فقط، فإذا ما انتهى رمضان لا تجد إلا العبوس في وجه الفقراء ولا نجد إلا البخل والشح ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أنت قد منَّ الله عليك بالإنفاق على الفقراء والمساكين وكثير من أوجه الخير في رمضان فهلا عودت نفسك على الإنفاق حتى ولو بالقليل.
ففي الصحيحين من حديث عدي أن الحبيب النبي قال: ((ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه، ليس بينه وبينه تُرجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) ( [9] ).
فالإحسان من الثوابت الإيمانية التي لا يستغني عنها مؤمن في رمضان ولا في غير رمضان حتى يلقى ربه جل وعلا.
ومن هذه الثوابت الإيمانية أيضاً: قيام الليل.
في رمضان وُفقت بفضل الله ورحمته ومنته إلى صلاة التراويح والقيام فلماذا لا تستمر على هذا الدرب المنير؟.. لماذا تضيع القيام بالليل.
اسمع للنبي وهو يقول في الحديث الذي رواه الحاكم وابن خزيمة والترمذي وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث أبي أمامة يقول : ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى الله تعالى ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات)) ( [10] ).
فاعمل أخي المسلم على أن تكتب من القائمين الليل ولو بركعة واعمل جاهداً أن تكون من أصحاب هذه الآية: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16].
ومن الثوابت الإيمانية: التوبة.
ما منا أحد إلا وتاب وأناب إلى الله في رمضان، فهل معنى ذلك أنه إذا انتهى رمضان انتهى زمن التوبة ولا نحتاج إلى توبة وأوبة إلى الله جل وعلا؟!
وانظر إلى حال الكثير من المسلمين تجد أن الكثير منهم ينفلتون يوم العيد إلى المعاصي والشهوات وكأنهم كانوا في سجن وبمجرد أن تم الإفراج عنهم مغرب اليوم الأخير من رمضان انطلقوا وكأنهم خرجوا من هذا السجن وسرعان ما انكبوا على أنواع المعاصي والشهوات كجائع انكب على الطعام من شدة الجوع الذي أَلَمَّ به، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ذلك ليس بحال المؤمن الموحد، فإن المؤمن الموحد عمره كله عنده عبادة لرب الأرض والسماوات فتجده ينتقل من عبودية إلى عبودية، ومن طاعة إلى طاعة ومن فضل إلى فضل، لذا يجب عليك أن تكون دائماً في عبودية حتى تلقى رب البرية، يقول النبي كما في صحيح البخاري من حديث أبى هريرة: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) ( [11] ).
النبي صلوات الله عليه وسلامه يقسم بالله، أنه يتوب ويستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بل وفي رواية مسلم قال ((يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إليه واستغفره في اليوم مائة مرة)) ( [12] ).
هذا حال سيد الخلق أجمعين وإمام المرسلين فما حالنا؟! فالتوبة من الثوابت الإيمانية التي لا غنى عنها لمؤمن بعد رمضان، وهذه بعض الثوابت التي نحافظ عليها في رمضان، ويتخلى عنها أكثرنا بعد رمضان، فأحببت أن أذكر نفسي وأحبابي وأخواتي بهذه الثوابت الإيمانية التي لا يستغني عنها مؤمن بحال حتى يلقى رب البرية جل وعلا.
ثانيا: عرفت فالزم.
ذقت حلاوة الإيمان وعرفت طعم الإيمان، عرفت هذا في رمضان، ما منا من أحد صام وقام رمضان وقام ليلة القدر إلا وذاق هذه الحلاوة، حلاوة شرح الصدر وسرور القلب، عرفت فالزم، الزم هذا الضرب المنير، واستقم على هذا الصراط المستقيم، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل)) ( [13] ). وفي صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: ((كان رسول الله إذا عمل عملاً أثبته)) ( [14] ). أي داوم عليه وحافظ عليه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي عمرة سفيان بن عبد الله الثقفي أنه قال للنبي ((قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك)). قال الحبيب : ((قل آمنت بالله ثم استقم)) ( [15] ) ، قل آمنت بالله ثم استقم، أي استقم على ضرب الإيمان، استقم على طريق التوبة، استقم على طريق الاستغفار، استقم على طريق قيام الليل، استقم على طريق الإحسان، استقم على طريق هذه الثوابت الإيمانية التي أعانك الله عليها في رمضان، قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآْخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا قرأها يوماً على المنبر عمر بن الخطاب فقال: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ثم استقاموا على منهج الله فلم يروغوا روغان الثعالب، والاستقامة هي المداومة والثبات على الطاعة.
أيها الحبيب الكريم: عرفت فالزم.. الزم هذا الدرب ولا تنحرف عنه.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
( [1] ) رواه البخارى رقم ( 662 ) فى الآذان ، باب فضل من غدا إلى المسجد أو راح ، ومسلم
رقم ( 669 ) فى المساجد ، باب المشى إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات.
( [2] ) رواه مسلم رقم ( 251 ) فى الطهارة ، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره ، والموطأ
( 1/ 161 ) فى قصر الصلاة فى السفر ، والترمذى رقم ( 51 ) فى الطهارة ، والنسائى
( 1/89-90 ) فى الطهارة.
( [3] ) رواه الترمذى رقم ( 413 ) فى الصلاة ، باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة
الصلاة ، والنسائى ( 1/ 232 ) فى الصلاة والحاكم ( 1/ 263 ) ورواه أيضاً أحمد فى
المسند ( 5/ 72 ) وهو فى صحيح الجامع ( 2573 ).
( [4] ) رواه مسلم رقم ( 804 ) فى صلاة المسافرين ، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة ،
والترمذى رقم ( 2886 ) فى ثواب القرآن ، باب ما جاء فى سورة آل عمران.
( [5] ) رواه البخارى رقم ( 5026 ) فى فضائل القرآن ، باب اغتباط صاحب القرآن ، ومسلم رقم
( 815 ) فى صلاة المسافرين ، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه ، والترمذى رقم
( 1937 ) فى البر والصلة.
( [6] ) الموطأ موقوفاً ( 1/ 112 ) فى القرآن ، باب ما جاء فى ذكر الله تعالى ، ومرفوعاً عند أحمد
فى المسند ( 5/ 239 ) ، ( 6/ 447 ) والترمذى رقم ( 3374 ) فى الدعوات ، وابن ماجة
رقم ( 3790 ) فى الأدب وصححه الأرناؤوط فى تخريج جامع الأصول.
( [7] ) رواه البخارى رقم ( 7405 ) فى التوحيد ، باب قول الله تعالى : ويحذركم الله نفسه
ومسلم رقم ( 2675 ) فى الذكر ، باب الحث على ذكر الله تعالى.
( [8] ) أخرجه الترمذى رقم ( 2867 ) فى الأمثال ، باب ما جاء فى مثل الصلاة والصيام والصدقة
والطبرانى فى الكبير ( 3/ 285 ) رقم ( 3427 ) وابن خزيمة وابن حبان ( 1222 موارد )
والحاكم ( 1/ 117 ) وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبى وهو فى صحيح الجامع
( 1724)
( [9] ) رواه البخارى ( 6539 ) فى التوحيد ، باب كلام الرب عز وجل ، ومسلم ( 1016 ) فى الزكاة ، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة ، والترمذى ( 2427 ) فى صفة القيامة
( [10] ) رواه الترمذى رقم ( 3543 ، 3544 ) فى الدعوات وابن أبى الدنيا فى (( كتاب التهجد ))
وابن خزيمة فى صحيحه وحسنه الألبانى فى صحيح الترغيب ( 620 ) وهو فى صحيح
الجامع ( 4079 )
( [11] ) رواه البخارى رقم ( 6307 ) فى الدعوات ، باب استغفار النبى فى اليوم والليلة.
[12] رواه مسلم رقم ( 2702 ) فى الذكر والدعاء ، باب استحباب الاستغفار والإكثار منه.
( [13] ) رواه البخارى ( 6462 ) فى الرقاق ، باب القصد والمداومة فى العمل ، ومسلم ( 782 )
فى الصلاة ، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره ،واللفظ له والموطأ ( 1/ 118 )
وأبو داود ( 1/ 315 ) فى صلاة الليل ، والنسائى ( 3/ 218 ) فى صلاة الليل.
( [14] ) رواه مسلم رقم ( 746 / 141 ) فى صلاة المسافرين ، باب جامع صلاة الليل.
( [15] ) رواه أحمد فى المسند ( 3/ 413 ، 4/ 385 ) ومسلم رقم ( 38 ) فى الإيمان ، باب جامع
أوصاف الإسلام ، والترمذى رقم ( 2412 ) فى الزهد ، باب ما جاء فى حفظ اللسان
قال هذا حديث صحيح ، وابن ماجة رقم ( 3972 ) فى الفتن ، والدارمى ( 2710 ) فى
الرقاق ، والبيهقى فى السنن ( 6/ 320 ) وعبد الرازق فى مصنفه ( 2011 ) وابن حبان
( 2543 موارد ) والحاكم فى المستدرك ( 4/ 313 )، والخطيب فى تاريخه ( 2/ 370 )
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد أيها الأحبة الكرام.
ثالثاً: استعن بالله ولا تعجز.
من أعانه الله على الطاعة فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول لك على طاعته، ولا قوة لك على الثبات على دينه إلا بمدده سبحانه فاستعن بالله ولا تعجز واتقه ما استطعت واطلب المدد والعون منه أن يثبتك على طريق طاعته وعلى درب نبيه وتدبر وصيته لمعاذ بن جبل.
كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما أن النبي قال لمعاذ بن جبل يوماً: ((يا معاذ والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ، لا تدعن في كل صلاة - وفي رواية- دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) ( [1] ).
نعم اطلب العون والمدد من الله على عبادته سبحانه وأنت إن سلكت هذا الدرب المنير لن يخزك الله أبداً، أليس هو القائل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
هذا وعد منْ؟! وعد رب العالمين، ورب الكعبة سيصرف الله بصرك عن الحرام، وسيصرف الله قلبك عن الشهوات والشبهات، وسيحفظ الله فرجك من الحرام، وسيصرف الله يدك عن البطش في الحرام، وسيصرف الله قدمك من الخطأ الحرام، فأحسن أيها المسلم الموحد ليكون الله معك، فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجَّاه، ومن فوض إليه أموره كفاه، قال جل في علاه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ... [الزمر:36].
علق قلبك بالله سبحانه فهو الغنى الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، ومع ذلك لو تاب إليه عبده الفقير الحقير مثلى لفرج بتوبته وهو الغنى عن العالمين يقول النبي : ((لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوِّيَّة مهلكةٍ، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله – قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها زاده وشرابه فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)) ( [2] ).
وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب : ((قدم على النبي سَبْيٌ، فإذا امرأة من السَّبْي تحلُب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته)) فقال لنا النبي : ((أترون هذه طارحة ولدها في النار؟)) قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) ( [3] ).
والله لو تدبرت هذا الحديث لوقفت على العجب العجاب، لذا قال أحد السلف: اللهم إنك تعلم أن أمي هي أرحم الناس بي وأنا أعلم أنك أرحم بي من أمي، وأمي لا ترضى لي الهلاك أفترضاه لي وأنت أرحم الراحمين؟!!
نعم إنها رحمة الله جل وعلا، ينادي بها على عباده بهذا النداء الندى العذب: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
إنها رحمة الله التي وسعت كل شيء فاستعن بالله ولا تعجز، وإن زلت قدمك عُد وإن زلت أخرى عُد، وإن زلت للمرة الألف عُد، واعلم بأن الله لا يمل حتى تملّوا، نحن عبيده هو الذي خلقنا ويعرف ضعفنا وفقرنا وعجزنا لذا لا يريد منا الطاعة وإنما يريد منا العبودية له سبحانه وتعالى.
فالطاعة لك أنت، فهو سبحانه لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية ففي صحيح مسلم من حديث أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر أن رسول الله قال: قال الله تعالى: ((... يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً... )) ( [4] ).
أيها الموحد: استعن بالله على الطاعة، واستعن بالله على أن تثبت على هذا الدرب المنير، واعلم يقيناً أن من أعظم الأسباب التي تعين العبد على أن يثبت على طاعة الله جل وعلا أن يكون وسطاً معتدلاً في طاعته لربه، لا غلواً في الإسلام ولا تنطع، فخير الأمور الوسط، لا غلو، لا إفراط، لا تفريط، لذا يقول المصطفى : ((إن الدين يسرٌ ولن يشاد الدينَ أحد إلا غلبه فَسَدَّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغَدْوَةِ والرَّوحة وشيء من الدُّلْجة)) ( [5] ).
وعن أنس بن مالك قال: دخل رسول الله فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ((ما هذا الحبل؟)) قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي : ((لا، حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فَتَرَ فليقعد)) ( [6] ).
وكلكم يعلم قصة الرهط الذين جاءوا لبيوت النبي والحديث في الصحيحين من حديث أنس: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ؟ فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء إليهم النبي فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى)) ( [7] ).
نعم لقد جمع النبي هذا المنهج الوسط وحوله إلى منهج عملي على أرض الواقع في هذا الدعاء الرقيق الرقراق الذي رواه مسلم فقد كان النبي يدعو الله ويقول: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دُنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)) ( [8] ).
إنه منهج الوسط.. منهج الاعتدال، لقد جمع النبي بكلماته هذه بين خيري الدنيا والآخرة لأن من كسب الدنيا بالعمل الصالح كسب الآخرة بإذن الله، ومن خسر الدنيا بالعمل السيء خسر الآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
( [1] ) رواه أبو داود رقم ( 1522 ) فى الصلاة ، باب الاستغفار ، والنسائى ( 3/ 53 ) فى
السهو ، والحاكم ( 3 / 273 – 274 ) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبى
وهو فى صحيح الجامع ( 7969 ).
( [2] ) رواه البخارى رقم ( 6308 ) فى الدعوات ، باب التوبة ، ومسلم رقم ( 2744 ) فى
التوبة ، باب فى الحض على التوبة ، والترمذى رقم ( 2499 ، 2500 ) فى صفة القيامة
باب المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه.
( [3] ) رواه البخارى رقم ( 5999 ) فى الأدب ، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته ، ومسلم رقم
( 2754 ) فى الفضائل ، باب فى سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه.
( [4] ) رواه مسلم رقم ( 2577 ) فى البر والصلة ، باب تحريم الظلم ، والترمذى رقم ( 2497 )
فى صفة القيامة.
( [5] ) رواه البخارى رقم ( 39 ) فى الإيمان ، باب الدين يسر وهو فى صحيح الجامع ( 1611 )
( [6] ) رواه البخارى رقم ( 1150 ) فى التهجد ، باب ما يكره من التشديد فى العبادة ، ومسلم
رقم ( 784 ) فى صلاة المسافرين ، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره.
( [7] ) رواه البخارى رقم ( 5063 ) فى النكاح ، باب الترغيب فى النكاح ، ومسلم ( 1401 )
فى النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة.
( [8] ) رواه مسلم رقم ( 3427 ، 3428 ) فى الدعوات ، باب ما يقول إذا رأى المبتلى.
(1/352)
في التوحيد
التوحيد
أهمية التوحيد
عبد الله بن محمد بن زاحم
المدينة المنورة
28/11/1409
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوحيد دعوة جميع الأنبياء 2- تحقيق أنواع التوحيد الثلاثة 3- قطع جميع العلائق
مع البشر وغيرهم , وقصر العلاقة مع الله عز وجل 4- بعض صور عبادة غير الله
5- العمل الصالح وسيلة العبد إلى ربه 6- قصة الثلاثة أصحاب الغار
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فإذا تأملنا القرآن الكريم، وجدناه يركز على قاعدة أساسية، هي الهدف لكل رسالة سماوية، وهي الغاية من وجود الإنسان في هذه الحياة، من قام بها على وجهها فقد حقق غاية وجوده، ومن قصر فيها أو نكل عنها، فقد أبطل غاية وجوده، وصار عاطلاً بلا وظيفة.
إنها العبودية الخالصة لله. قال ـ تعالى ـ: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. هذه هي وظيفة الإنسان التي من أجلها خلق ومن أجلها وجد في هذه الدنيا.
فيجب أن تكون حياة الإنسان وتصوره مبنية على هذه الوظيفة. متجهة إليها، فإن كل الرسالات السماوية جاءت لتحقيق هذه الوظيفة للإنسان، فجميع الرسل – عليهم السلام – من أولهم نوح إلى آخرهم محمد كان أساس دعوتهم تذكير أممهم بهذه الوظيفة، وتحقيق العبودية لله.
فهذا نوح ـ عليه السلام ـ: قَالَ ي?قَوْمِ إِنّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?تَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:2، 3]. لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى? قَوْمِهِ فَقَالَ يَـ?قَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59]. وَإِلَى? عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [الأعراف:65].
وَإِلَى? ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـ?لِحًا قَالَ يَـ?قَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73].
وَإِلَى? مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَـ?قَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ [الأعراف:85]. وَإِبْر?هِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?تَّقُوهُ ذ?لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [العنكبوت:16]. لَقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ?لْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْر?ءيلَ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ?للَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ?لضَّلَـ?لَةُ فَسِيرُواْ فِى ?لأرْضِ فَ?نظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُكَذّبِينَ [النحل:36]. وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25].
والقرآن لم يحدد نوع العبادة ولم يحصرها، فهي شاملة لكل ما يدخل تحت مسمى العبادة من الأقوال والأفعال والاعتقاد، فكلها حق لله، وحرام صرف شيء منها لغير الله، كائنا من كان. حياً كان أو ميتاً، ولا تتحقق العبودية لله إلا بأمرين متلازمين.
الأول: الإيمان بأن هناك عبداً ورباً. وأنه ليس في الوجود إلا رب واحد، وما سواه فعبيد له، وأن الرب موصوف بصفات الكمال مما وصف نفسه ووصفه رسوله – - وهذا هو توحيد المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ ?للَّهُ ?لصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ [سورة الإخلاص].
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11].
والثاني: التوجه إلى الله في كل حركة للجوارح وكل حركة للفؤاد، والتجرد من كل تصور آخر ومن كل أمر يخالف مقتضى العبودية.
وهذا هو توحيد القصد والطلب، وهو توحيد الألوهية، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ ي?أَيُّهَا ?لْكَـ?فِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَـ?بِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَـ?بِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ [سورة الكافرون].
فبتحقيق توحيد الربوبية والأسماء والصفات وتوحيد الألوهية يتحقق معنى العبادة.
ومن واجبات العبادة أن تكون قيمة الأعمال مستمدة من قواعدها لا من نتائجها، فالإنسان مكلف بأداء العبادة وليس مكلفاً بنتائجها، وإنما النتائج راجعة إلى قدر الله ومشيئته.
ومقتضى العبودية لله نَبْذ الأنداد والأضداد، والبراءة من كل عبودية لغير الله، فَمَنْ يَكْفُرْ بِ?لطَّـ?غُوتِ وَيُؤْمِن بِ?للَّهِ فَقَدِ ?سْتَمْسَكَ بِ?لْعُرْوَةِ ?لْوُثْقَى? لاَ ?نفِصَامَ لَهَا وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256]. وَإِذْ قَالَ إِبْر?هِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?لَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26، 27]. والأنداد: قد لا تكون آلهة تعبد من دون الله على النحو الذي كان في الجاهلية الأولى، بل قد تكون صوراً أخرى خفية، قد تكون في تعلق الرجاء بغير الله، وقد تكون في الخوف من غائب غير الله أو من ميت تحت الثرى، وقد تكون في الاعتقاد أن أحداً من الخلق يملك التصرف في هذا الكون أو شيء منه، وقد تكون في مضاهاة الله في عظمته وكبريائه وربوبيته، وقد تكون في الطاعة والانقياد كما قال ـ تعالى ـ: ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ [التوبة:31]. قال عدي بن حاتم – -: لسنا نعبدهم – أو قال: إنهم لم يعبدوهم – فقال رسول الله : ((بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فصارت طاعتهم في المعصية عبادة)) [1]. وبها اتخذوهم أرباباً فمن أطاع مخلوقاً في معصية الخالق فقد اتخذه رباً وعبده من دون الله.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ، يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
هناك أنواع من العبادة تصرف لغير الله في بعض البلاد الإسلامية، ولا موجه ولا مرشد.
من ذلك: الركوع للمخلوقين، ومعلوم أن الركوع ركن من أركان الصلاة مثل السجود، فبعض الناس إذا قابل أحداً يحترمه أو له فضل عليه ركع له ركوعاً جزئياً أو كلياً، كما هو المشاهد في بعض الخدم وفي بعض الممثلين إذا خرج على الجمهور، وقد يكون القصد التحية لكنها صورة عبادة خاصة لله لا تصرف لغير الله ولا يحيّى بها.
ومن ذلك الطواف، فهو عبادة لله وقربة يطاف حول الكعبة المشرفة ومن شعائر الإسلام، فلا يجوز أن يطوف أحد بضريح أو تمثال أو نصبٍ.
ومن ذلك طلب النجاح، أو طلب الهداية للأولاد، أو طلب الولد، أو طلب المدد والغوث، أو طلب تفريج الهم والغم والكرب وغير ذلك من أنواع العبادة، أو طلب الحاجات التي لا يقدر عليها إلا الله،لا يجوز طلبها من أحد غير الله، كائناً من كان؛ لأنها دعاء والدعاء مخ العبادة [2] ، وحرام صرف العبادة لغير الله.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ تناصحوا فيما بينكم، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تأخذكم المجاملات إلى عدم المبالاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، اللهم اعنا على شكرك وعلى ذكرك وحسن عبادتك. وألهمنا رشدنا وقنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلاً، واهدهم سبل السلام، واغفر لنا ولجميع المسلمين، إنك أنت الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الطبري في تفسيره (6/114) [التوبة: 31]، والترمذي ح (3095) قال أحمد شاكر في تعليقه على تفسير الطبري رقم (16632): غطيف بن أعين الشيباني الجزري أو غصيف وثقه ابن حبان وقال الترمذي ليس بمعروف في الحديث وضعفه الدارقطني. وأخرجه الطبراني في الكبير (17/92). قال الحافظ في غطيف: ضعيف. التقريب (5399) وفي عبد السلام بن حرب: ثقة حافظ له مناكير. التقريب (4095).
[2] ضعيف، أخرجه الترمذي ح (3371) فيه: الوليد بن مسلم: ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية. التقريب (7506) وقد عنعن هنا. وفيه ابن لهيعة: عبد الله لهيعة الحضرمي، وقد صح الحديث بلفظ ((الدعاء هو العبادة)) وأخرجه أحمد (4/271)، والترمذي ح (2969) وقال: حسن صحيح، وأبو داود ح (1479)، وابن ماجه ح (3828).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على نعمة المتوالية، لا نحصي لها عداً، ولا نقدر لها قدراً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وَأَحْصَى? كُلَّ شَىْء عَدَداً [الجن:28]. وأَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا [الطلاق:12]. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، اختاره لتبليغ رسالته، واصطفاه لعبادته، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن العمل الصالح الخالص لوجه الله ـ تعالى ـ، هو الوسيلة التي يتقرب بها العبد إلى ربه.
يَئَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?بْتَغُواْ إِلَيهِ ?لْوَسِيلَةَ وَجَـ?هِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35].
وفي حديث النفر الثلاثة قدوة وعبرة، عن عبدالله بن عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله – - يقول: ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه. فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله ـ تعالى ـ بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي طلب الشجر يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً، أو مالاً: فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه.
قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمّت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين مائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها، قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد، فترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون)) [ متفق عليه] [1].
إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
[1] صحيح البخاري ح (2272)، صحيح مسلم ح (2743).
(1/353)
مجيء الرب جل وعلا
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مجيء الرب جل جلاله 2- أول من يُكلّمهم الله يوم القيامة 3- العرض على الله عز وجل
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتي في الله:
هذا هو لقاءنا الثانى عشر من لقاءات هذه السلسلة الكريمة المباركة وكنا قد توقفنا في اللقاء السابق مع البشرية كلها، وهي في أرض المحشر وقد أصابها من الكرب، والهم، والغم مالا يستطيع بليغ على وجه الأرض أن يجسده، الشمس فوق الرؤوس تكاد تذيب الجماجم بل والعظام، والزحام وحده يكاد يخنق الأنفاس، فالبشرية كلها منذ أن خلق الله آدم إلى آخر رجل قامت علية الساعة تقف في موقف واحد في أرض واحدة.
العرق يكاد يغرق الناس كلُُ بحسب عمله في عرقه، والأهوال تزداد شدة عندما يؤتَى بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، يؤتَى بها إلى أرض المحشر فإذا ما رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب ربها جل وعلا، حينئذ تجثوا جميع الأمم على الركب من هول الموقف، بل ولا يتكلم يومها إلا الأنبياء ودعوتهم يومئذ اللهم سلم سلم!! اللهم سلم سلم!!!
ويزداد الكرب والهم على الخلق فيقول بعضهم لبعض ألا ترون ما نحن فيه ألا ترون ما قد بلغنا ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم، ويذهبون إلى صفوة الله من خلقه إلى الأنبياء والمرسلين فيقول كل نبي: إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ثم يقول كل نبي نفسي، نفسي، نفسي!!! إلا المصطفى محمد بن عبد الله إنه التجارة الرابحة.. إنه صفوة الله من خلقه..، وأكرم الخلق على الله.
يقول الحبيب: فيأتوني فيقولون يا رسول الله، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك؟!
فأقوم وأقول: أنا لها، أنا لها، ويخر ساجداً تحت عرش الرحمن جل جلاله ويثنى على الله سبحانه وتعالى بمحامد لم يفتح الله به على أحد من قبله فينادي عليه ربه ويقول: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطى واشفع تشفع فيقول المصطفى : ((يا رب..أمتي، أمتي، أمتي)).
وفى حديث الصور الطويل الذي خرجناه في اللقاء الماضي مع حديث الشفاعة الذي ذكرت الآن يقول الله جل وعلا لنبيه المصطفى ما شأنك؟ وهو أعلم، فيقول الحبيب : ((يا رب قد وعدتني الشفاعة. فشفعني في خلقك، فأقضِ بينهم، فيقول الله جل جلاله: قد شفعتك، أنا آتيكم لأقضي بينكم)). فيرجع الحبيب المصطفى ليقف مع الناس في أرض المحشر لينظروا جميعاً مجيء الرب جل جلاله لفصل القضاء بين العباد.
وهذا هو لقاءنا مع حضراتكم في هذا اليوم المبارك، وكما تعودنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في العناصر التالية:
أولاً: مجيء الرب جل جلاله.
ثانياً: أول من يكلمهم الله يوم القيامة.
ثالثاً: العرض على الله جل وعلا وأخذ الكتب.
فأعيروني القلوب والأسماع فإن هذه الكلمات تكاد تخلع القلوب ورب الكعبة.
أولاً: مجيء الرب جل جلاله:
أحبتي في الله:
هل منكم من أحد قد حضر يوماً محكمة من محاكم الدنيا؟!
يوم يؤتى بالمتهمين ليقفوا وراء هذا القفص الحديدي وفجأة وقد امتلأت قاعة المحكمة بأهل المتهمين وبالمحامين، يدخل القضاة ليجلسوا على منصة القضاء ويصرخ الحاجب: محكمة، فَتَصْمُت الأنفاس، وتتقطع وتكاد القلوب أن تقفز من الصدور، ويبدأ المحامون في المرافعات، والمجادلات والمعاذير وتسمع هيئة القضاء، ويردون، ويترافعون، ويتناقشون ثم يسدل الستار على هيئة القضاء ليتناقش القضاة في إبرام الحكم وفي النطق به، وفي المرة الثانية يدخل القضاة ليصدروا الحكم في هذه القضية.
أسألك بالله أنظر إلى وجوه الناس في قاعة المحكمة.
العيون تبكى.. والقلوب تكاد تقفز من الصدور.. والأنفاس متقطعة الكلام همس.. والسؤال تخافت.. الكل ينظر بأى شئ سيحكم؟!! وما الذي سينطق به القاضي؟! وهو العبد الحقير الفقير إلى الله الملك القدير.
تصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلب بل تكاد القلوب أن تقفز إلى الحناجر لتقف على حجم الهول والخلق جميعاً في أرض المحشر ومن بينهم الأنبياء يقفون وينظرون إلى السماء وهم ينظرون مجئ الملك العدل جل جلاله.
يقول الحق جل وعلا:
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:108-111].
تنشق السماء وينزل أهل السماء الأولى من الملائكة بضعف من في الأرض من الإنس والجن.
قال الله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا [الفرقان:25].
يقول ابن عباس: ينزل أهل السماء الأولى من الملائكة بضعف من في الأرض من الجن والإنس فتحيط الملائكة بالخلائق في أرض المحشر، فإذا ما نظرت الخلائق إلى الملائكة قالوا أفيكم ربنا؟! فتقول الملائكة: لا وهو آت.
قال الله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210].
ويقول الحق سبحانه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:22-26].
اللهم سلم سلم.. اللهم سلم سلم يا أرحم الراحمين.
يأتي الحق جل وعلا إتياناً يليق بكماله وجلاله.
لا تعطل صفة المجيء ولا تكيف صفة المجيء، ولا تشبه صفة المجيء، ولا تشبه الله بأحد من خلقه، فكل ما دار ببالك، فالله بخلاف ذلك.
جل ربنا عن الشبيه والنظير وعن المثيل، لا ند له، ولا كفء له، ولا شبيه له، ولا صاحبة له، ولا ولد له: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [سورة الإخلاص].
قال جل جلاله: الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ اسْتَوىَ [طه : 5].
استوى كما أخبر وعلى الوجه الذي أراد وبالمعنى الذي قال، استواءً منزهاً عن الحلول والانتقال.
فلا العرش يحمله ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته والكرسي وعظمته، الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته، سبحانه وتعالى.
فالاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
قال جل جلاله: لَيسَ كَمثْلِهِ شَئٌ وَهُو السَّمِيعٌ البَصِيرٌ [الشورى:11].
وقال جل جلاله: وِلا يُحيطُونَ بِهِ عِلمًا [طه:110].
قال جل جلاله: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74].
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ.
ثم يتنزل أهل السماء الثانية من الملائكة بضعف من في الأرض من ملائكة السماء الأولى والجن والإنس فيحيط أهل السماء الثانية بأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن.
وهكذا أهل السماء الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة على قدر ذلك من التضعيف.
ثم يتنزل حملة عرش الملك جل وعلا وهم يحملون العرش يسبحون الله سبحانه ويقولون: سبحان ذي الملك والملكوت.. سبحان ذي العزة والجبروت.. سبحان من كتب الموت على الخلائق ولا يموت. سبوح قدوس.. قدوس.. قدوس.. رب الملائكة والروح.
اسمع لربك جل وعلا وهو يقول:
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:13-18].
ويضع الحق جل جلاله كرسيه حيث شاء من أرضه ويقول: يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت إليكم منذ خلقتكم، أسمع قولكم، وأرى أعمالكم، فأنصتوا اليوم إليَّ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تُقرأ عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ثم يقول الحق جل جلاله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي ءَادَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:60-65].
أتدرون من هم أول من يكلمهم الله في هذا الموقف العصيب؟ !!
هذا هو عنصرنا الثانى من عناصر اللقاء.
ثانياً: أول من يكلمهم الله جل وعلا:
أول من يكلمه الله جل وعلا يوم القيامة في هذا الموقف العصيب هو آدم عليه السلام ينادي عليه الحق سبحانه كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن المصطفى قال: ((يقول الله تعالى: يا آدم فيقول: لبيك! وسعديك! والخير كله في يديك! فيقول الله جل وعلا! أخرج بعث النار فيقول آدم: وما بعث النار؟ فيقول الله جل وعلا: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال: فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بِسُكارى ولكن عذاب الله شديد)) فاشتد ذلك على أصحاب الحبيب محمد فقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الرجل؟ فقال المصطفى : ((أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم رجلُُ)) ثم قال: ((والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ربع أهل الجنة)) فحمدنا الله وكبرنا ثم قال: ((والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة)) فحمدنا الله وكبرنا ثم قال: ((والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالرقمة في ذراع الحمار)) ( [1] ).
قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً أمة المصطفى: كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ.
اللهم لك الحمد يا من خلقتنا موحدين وجعلتنا من أمة سيد النبيين.
ثم بعد ذلك ينادى رب العزة تبارك وتعالى: يا نوح.. يقول لبيك وسعديك، فيقول الله سبحانه هل بلغت قومك؟! فيقول نوح: نعم يارب والله أعلم فيقول الحق جل جلاله: يا قوم نوح هل بلغكم نوح؟! فيقولون لا ما أتانا من نذير وما آتانا من أحد، فيقول من يشهد لك يا نوح؟!! فيقول نوح: محمد وأمته!
((فتدعون فتشهدون أنه قد بلغ أمته ثم أدعى فأشهد عليكم)) ( [2] ) وفي لفظ ابن ماجه بسند صححه شيخنا الألباني يقول المصطفى : ((فيقول الله لأمتي ما الذي أخبركم أن نوح قد بلغ قومه)) ؟! فتقول الأمة الميمونة لربها جل وعلا: جاءنا نبينا محمد فأخبرنا أن الرسل جميعاً قد بلَّغوا قومهم فصدقناه. يقول المصطفى : ((فذلك قول الله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
ثم يدعى عيسى عليه السلام ويقال له يا عيسى: ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116].
لماذا خص الله عيسى من بين سائر الرسل بهذا السؤال؟!!
لأنه ما من رسول بعث في قومه إلا وقد آمن به من آمن من قومه، وكفر من كفر، إلا قوم عيسى فمنهم من قال: إن عيسى هو الله!! ومنهم من قال أن عيسى هو ابن الله!! ومنهم من جعل عيسى وأمه إلهين من دون الله!! فهل هناك إله يأكل؟! إله يشرب؟! إله يتزوج؟! إله يقضي حاجته؟!!
ولله در ابن القيم يقول:
نريد جوابه ممن وَعَاه
أعباد المسيح لنا سؤال
أماتوه فهل هذا إله ؟!
إذا مات الإله بصنع قوم
وأعجب منه بطن قد حَوَاهُ
ويا عجباً لقبر ضم رباً
لدى الظلمات من حيض غَزَاهُ
أقام هناك تسعاً من شهور
ضعيفاً فاتحاً للثدى فاهُ
وشَقَّ الفَرْجَ مولوداً صغيراً
بلازم ذاك فهل هذا إله ؟!
ويأكل ثم يشرب ثم يأتي
سيسأل كلهم عما افتراه
تعالى الله عن إفك النصارى
قال تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 116-117].
ثم يقول عيسى عليه السلام لربه الرحمن: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].
فيرد الله جل وعلا على عبده المصطفى ونبيه عيسى عليه السلام يقول: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119].
ثم يدعى جميع الرسل قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ [ المائدة: 109 ].
واسمع لله جل وعلا وهو يقول: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6].
يجمع الله سبحانه وتعالى الرسل بجلال العبودية بل وجلال العبودية في جواب الرسل على الله جل جلاله وهم يقولون: لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ.
أيها الأخيار: يسأل الرسل والملائكة بل والأنبياء بل والشهداء؟ فهل نُترك بعد هؤلاء؟!!
قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:68-70].
ويبدأ العرض على الله جل وعلا وكيف يبدأ الحساب؟
هذا ما سوف نتعرف عليه بإيجاز بعد جلسة الاستراحة
وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم
( [1] ) رواه البخارى رقم (6530) فى الرقاق باب قوله عز وجل: إن زلزلة الساعة شىء عظيم ، ومسلم رقم (222) فى الإيمان ، باب قوله ( يقول الله لآدم : أخرج.... ) واللفظ له.
( [2] ) رواه البخارى رقم (4487) فى التفسير ، باب قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ، والترمذى رقم (2965) فى التفسير ، باب ومن سورة البقرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلى وسلم وزد وبارك عليه وعلى أصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد.
ثالثاً: العرض على الله جل وعلا وأخذ الكتب:
أيها الأحبة الكرام:
بعد ذلك يبدأ الحساب وسنقف مع الحساب وقفات، فالحساب يبدأ بالعرض على الله جل جلاله بالوقوف بين يدي الحق الملك العدل سبحانه فأنت في أرض المحشر ستستمع إلى نداء الملائكة: أين فلان بن فلان؟
هذا هو اسمي.. ماذا تريدون يا ملائكة الله؟!
أقبل للعرض على الله جل وعلا!!
وقد وكلت الملائكة بأخذك، وسوقك في أرض المحشر على رؤوس الأشهاد، والخلائق كلها تنظر إليك، فيقرع النداء قلبك ويصفر وجهك وترتعد فرائصك وتضطرب جوارحك وترى نفسك بين يدي الحق جل جلاله ليكلمك ليس بينك وبينه ترجمان كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه قال: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه تُرجمان، فينظر أيمن منه (أي عن يمينه) فلا يرى إلا ما قدم (أي في هذه الحياة الدنيا) وينظر أشأم منه (أي عن شماله) فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) ( [1] ) أي ولو بنصف تمرة تتصدقون بها إلى الله جل وعلا.
يقرع النداء القلب ويأمر الله تبارك وتعالى بالصحف وبالكتب فيأخذ كل إنسان صحيفته.
تلك الصحيفة التى لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها. فكم من معصية قد كنت نسيتها.. ذكرك الله إياها. وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها.. أظهرها الله لك وأبداها.. فيا حسرة القلب ساعتها على ما فرطنا في دنيانا من طاعة موالنا.
اسمع لربك جل وعلا، وهو يقول: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:47-49].
أيها المسلم :
مُستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
تذكر وقوفك يوم العرض عُرْيانا
على العصاة ورب العرش غضبانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنقٍ
فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
إقرأ كتابك ياعبدُ على مهلٍ
إقرار من عرف الأشياء عرفانا
فلما قرأت ولم تنكر قراءته
وأمضوا بعبد عصى للنار عطشانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتى
والمؤمنون بدار الخلد سكانا
المشركون غداً في النار يلتهبوا
أقف عند هذا القدر مع العرض على الله جل وعلا لنواصل الحديث إن قدر الله لنا البقاء واللقاء لنتعرف على :كيفية العرض ؟، كيفية الحساب ؟! كيف يحاسب الله المؤمن يوم القيامة ؟! وكيف يقرأ المؤمن كتابه ؟! وهل تظهر الحسنات أولاً أم تظهر السيئات ؟! وما الذي يقوله الله للمؤمن ؟!
وكيف يحاسب الله الكافر يوم القيامة؟! وكيف يقرأ الكافر صحيفته وكتابه؟!
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
( [1] ) رواه البخارى رقم (7512) فى التوحيد، باب كلام الرب عز وجل ، ومسلم رقم (1016) فى الزكاة ، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة ، والترمذى رقم (2427) فى صفه القيامة.
(1/354)
نفخة البعث
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
محمد بن إبراهيم حسان
المنصورة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نفخة البعث 2- الأدلة على البعث من القرآن والسنة 3- من مات على شيء بُعث عليه
_________
الخطبة الأولى
_________
أحبتى في الله:
هذا هو لقاءنا التاسع مع رحلة في رحاب الدار الآخرة وها نحن الآن على موعد مع حديث مروع مهيب يحدث حين وقوع الساعة.
قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرض إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ 0وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:68-70].
فبعد أن تكلمنا آنفا عن الصور، ونفخة الفزع، والصعق بقي لنا أن نتكلم عن نفخة البعث؟ وكما تعودنا أيها الأحبة الكرام حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً سوف ينتظم حديثى في هذا الموضوع الهام في العناصر التالية:
أولاً: نفخة البعث
ثانياً: الأدلة على البعث من القرآن والسنة
ثالثاً: من مات على شىء بعث عليه: لقد انتهينا في اللقاء الماضي عند هذا المشهد الرهيب في وسط هذا الكون المذهل المهيب حينما ينطق صوت جليل قريب يسأل صاحب الصوت ويجيب فلا يومها من سائل غيره ولا مجيب.
ويقول بعد فناء كل الخلق قاطبة أين الملوك؟! أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! ثم ينادى جل جلاله بصوته سبحانه ويقول: لمن الملك اليوم؟! فلا يجيب على الله أحد لأنه لا أحد، يجيب على ذاته جل في علاه ويقول :لله الواحد القهار.
مات كل مخلوق ولم يبق إلا الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، كان آخراً كما كان أولاً: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
هو الأول فلا شىء قبله وهو الآخر فلا شىء بعده وهو الظاهر فلا شىء فوقه وهو الباطن فلا شيء دونه وهو السميع العليم.
أول اً : نفخة البعث:
والله لا يعلمها إلا من وسع علمُه كلَ شيء؟! ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: ((بين النفختين أربعون)) قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال أبو هريرة: أبيتُ قالوا: يا أبا هريرة أربعون شهراً؟ قال: أبيت قالوا: يا أبا هريرة أربعون سنة؟ قال: أبيت ( [1] ). ومعنى قوله أبيت أي: أبيت أن أسأل رسول عن ذلك فعلمها عند الله.
بعد أربعين إذا أراد الله أن يحى ويبعث خلقه أنزل من السماء ماءً فتنبت به الأجسام في القبور تحت باطن الأرض كما ينبت البقل.
ففي صحيح مسلم أنه قال: ((كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ( [2] ) منه خلق ابن آدم ومنه يركب)) ( [3] ) فإذا ما أراد الله أن يبعث الخلائق أتى بهذه العظمة الدقيقة وأتى بجسد صاحبها. ماتفرق منه في البحار.. وما تفرق منه في التراب.. وما ذهب منه إلى بطون الحيوانات والسباع.. يأتي به الله جل وعلا ويركب الله جل وعلا جسد صاحبها والله يعلم عظمة كل إنسان خلقه من لدن آدم إلى يوم القيامة فتكتمل الأجساد في القبور وحينئذ يأمر إسرافيل بعد مايحييه أن يلتقم الصور ( [4] ) وينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح.. أرواح المؤمنين لها نور وأرواح المشركين لها ظلمة!! فتسرى الأرواح إلى الأجساد التي اكتملت كما يسرى السم في اللديغ ( [5] ) وحينئذ يأمر الله جل وعلا الأرض أن تتزلزل وأن تتشقق ليخرج منها الناس من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة.
قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرض إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:68-70].
وقال تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:51-54].
وقال تعالى : وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرض عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:41-45].
واستمع معي إلى قول الله عز وجل: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:1-8].
تعال معي أخي في الله لنتجول سريعاً مع معانى هذه الآيات: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرض أَثْقَالَهَا : أي إذا حدث زلزال الأرض العظيم الذي ليس له مثيل على الإطلاق، فلفظت الأرض ما حوته من جثث الخليقة وقالت بلسان الحال: لقد أثقلتمونى كثيراً بذنوبكم ومعاصيكم فتحملت منكم الكثير، من سفك دماء، وسلب ونهب، وطغيان، وعربدة، وسرقة، وما إلى ذلك من تلكم المعاصي؟
وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا : ما الذي حول أمنها إلى اضطراب؟! ما الذي حول سكونها إلى زلزلة؟! ما الذي حدث؟! فترد الأرض عليهم وتقول: إنها أوامر الله... سبحان الله الأرض تتكلم! إنها إرادة الله!!
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا : في هذا الوقت سوف تعرف الأحداث، سوف تعرف الأخبار وذلك بأمر من الله رب السموات والأرض.
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ : بالله عليك عش بقلبك، وكيانك معي هذا المشهد الذي يخلع القلب ويزلزل الكيان. الأرض تتشقق وتتفتح القبور متناثرة هنا وهناك في شمال وجنوب وغرب وشرق، تتشقق تلكم القبور ويخرج من كل قبر عشرة أو مائه أو ألف يخرج من هنا وهنالك يخرج هذا وذاك، شَخُصَ البصر إلى اتجاه واحد لا يلتفت يميناً ولا يساراً إلى هذا الداعى - الملك الكريم - الذي جاء بأمر رب العالمين ليقود الناس جميعاً إلى أرض جديدة عفراء لم يطأها أحد من قبل بقدميه ألا وهى أرض المحشر.
قال جل وعلا: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:108- 111].
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ لا يلتفت أحد ولا يتخلف أحد، أيتها العظام البالية أيتها العظام النخرة، يا أكفاناً خاوية ويا قلوباً خاوية ويا عيوناً سائلة ويا أبداناً فاسدة.
أيها الناس جميعاً في القبور حان وقت القيام لفصل القضاء بين يدى الملك الغفور.
ترى كيف يخرج الناس من قبورهم؟! يخرج الناس من القبور حفاة، عراة، غُرْلا، لا نعال في أقدامهم، لا ثياب تغطى أبدانهم. لا شىء يسترهم.
غرلا: جمع أغرل والأغرل هو الصبى الصغير المولود قبل ختانه.
قال تعالى: كَمَا بَدَأنَا أَوَّلَ خَلقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَينَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].
يقول النبي : ((يحشر الناس حفاةً عراةً غرلاً)).
فتعجبت عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟!! فقال المصطفى : ((يا عائشة الأمر أشد من أن يهمهم ذلك)) ( [6] ).
قال جل وعلا: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:33-37].
تصور هذا المشهد يا عبد الله لتقف على هول وفظاعة هذا اليوم.
مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
على العصاة ورب العرش غضبانا
فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
إقرار من عرف الأشياء عرفانا
وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
والمؤمنون بدار الخلد سكانا
تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً
والنار تلهب من غيظ ومن حنق
اقرأ كتابك ياعبد على مهل
فلما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي
المشركون غداً في النار يلتهبوا
يا عبد الله دثر نفسك في هذا اليوم برداء طيب كريم ألا وهو رداء العمل الصالح.. دثر جسدك في هذا اليوم برداء العمل الصالح.. رداء الطيبات الصالحات الباقيات عند رب الأرض والسموات.
ذلك أن العمل الصالح هو القائد الوحيد إلى جنان العزيز الحميد.
ثانياً: الأدلة على البعث من القرآن والسنة:
ها هو أحد الجاحدين يأتي إلى النبي بعظم فيفته بين يديه ويذره في الهواء ويقول للنبي في سخرية واستهزاء: يا محمد أتزعم أن ربك يبعث هذا بعد ما صار رميماً؟!! فقال له النبي : ((نعم يميتك ثم يحيك ثم يدخلك النار)).
فنزل قول الله جل وعلا: أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرض بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:77- 83].
يقول المصطفى كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده بسند حسن من حديث بسر بن جحاش القرشي أن الحبيب النبي بصق يوماً على كفه ووضع المصطفى أصبعه عليها ثم قال: قال الله تعالى: ((يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت الروح التراقي قلت: أتصدق، وَأّنَّى أوان الصدقة)) ( [7] ).
قال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40].
بلى وعزته وجلاله إنه لقادر على أن يبعث الموتى.
وفى الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: قال الله تعالى: ((كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد)) ( [8] ).
قال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَن يُبعَثُوا قُل بَلَى وَرَبَّى لَتُبعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَئونَّ بِمَا عَمِلتُم [التغابن:7].
أي سيبعثهم الله وسوف يقرأون في الصحائف التى لا تغادر صغيرة ولا كبيرة ولا تظلم مثقال ذرة من أعمالهم التى اقترفوها.
فرد الكفار المعاندون المكابرون وقالوا كما جاء في كتاب الله: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا [الإسراء:49-52].
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال: ((كان رجل يسرف على نفسه فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وقال: يا بنى إذا أنا مت فحرقوني فإذا صرت فحماً فاسحقوني فإذا كان يوم ريح عاصف فذروني - وفي لفظ فذروا نصفي في البر ونصفي في البحر - فلإن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحداً من العالمين)). وأخذ هذا الرجل العهود والمواثيق على أولاده أن يحرقوه وأن يسحقوه وأن ينثروه في الريح في البر والبحر فلما مات الرجل فعلوا به ذلك. يقول المصطفى : ((فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه وقال: الملك جل جلاله لهذا الرجل كن، فإذا هو رجل قائم بين يديه سبحانه ثم قال: عبدي ما حملك على ذلك؟ قال: خشيتك يا رب وأنت تعلم. فغفر الله له)) ( [9] ).
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي يقول: قال الله: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) ( [10] ).
ولقد ضرب الله لنا أمثلة عملية في كتابه الكريم نزفها إلى كل من يجهل حقيقة البعث وينكر هذه الحقيقة التي لا ريب فيها.
قال سبحانه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:259-260].
يقول أهل التفسير: مر العُزير على قرية بيت المقدس وقد دمر القرية بختنصر وأصبحت لا مظهر فيها لأسباب الحياة فوقف العزير أمام هذه القرية متأملاً متدبراً ثم قال: كيف يحي الله هذه القرية بعد موتها؟!!
كيف يبعث الله جل وعلا هؤلاء الأموات؟!! وكيف يعيد الحياة إلى هذه القرية الخاوية؟!! فأماته الله مائة سنة ثم بعثه، وخاطبه بواسطة الملك قال: ياعزير كم لبثت ؟!! فوجد العزير الشمس تميل إلى الغروب فظن أنها شمس اليوم الذي نام فيه فقال: لبثت يوماً أو بعض يوم قال: ياعزير لقد لبثت مائة سنة. قال: كيف ذلك؟!!
انظر إلى وجهي المقارنة الثابت، والمتحرك، انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه أي لم يتغير لونه أو طعمه أو رائحته.
فكر في هذا جيداً لتعلم أن الملك على كل شىء قدير.. انظر إلى حمارك فإذا به قد بلي وتحول إلى عظام رميم فأمر الله جلا وعلا أن يحيي هذا الحمار أمام عينه وبين يديه ليجعله برهاناً دامغاً للناس جميعاً على أن الله على كل شئ قدير، أمر الله تعالى الأرض أن تجمع العظام، فجاءت العظام من هنا ومن هناك بعدما صارت رميم فالتئمت واكتملت وصار كل عظم إلى جوار العظم الذي يليه فتركبت العظام وأصبح الحمار هيكلاً عظمياً فقط بين يدي العزير وعلى الفور أمر الله جل وعلا أن تكسى العظام باللحم وبالتوالي أمر أن يكسى اللحم بالشعر، وفي التو أمر الله الملك أن ينفخ الروح فنهق الحمار بإذن الله سبحانه الذي أحيى العظام وهي رميم!! هذه هي طلاقة القدرة التى انفرد بها الواحد الفرد الصمد!! فنظر العزير إلى هذه وقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وإبراهيم الخليل عليه السلام قال: رب أرني كيف تحي الموتى بعد هلاكها؟!! قال: أولم تؤمن يا إبراهيم؟! قال: بلى يا رب ولكن ليطمئن قلبى قال: يا إبراهيم خذ أربعة من الطير اذبحهن وعلمهن واخلط العظم مع اللحم مع الريش؟ وخذ كوماً من لحم وعظم وريش مخلوط وممزوج وضع كل جزء من الخليط هذا على رأس جبل.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وجعل إبراهيم رؤوس الطيور في يديه ثم وقف إبراهيم عليه السلام ونادى على هذه الطيور فجاءت تسعى إلى إبراهيم ولم يأتِ طيراناً لينظر إبراهيم بعينه وليطمئن أنه هو بعينه الذي ذبحه وعلمه بيده حتى جاء كل طير إلى إبراهيم.
يقول الحافظ: فكان إبراهيم إذا قدم رأساً لطائر ليست رأسه أبى فإذا قدم الرأس لجسدها التأم الرأس في الجسد بإذن الله.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، قدرة الله لا تحدها حدود.. قدرة الله ليس لها نهاية.. قدرة الله العقل قاصر عن إدراك حدودها.
ولقد ذكر الله مثالاً ثالثاً سنختم به هذا العنصر الهام. وذكر الله أصحاب الكهف الذين لبثوا في كهفهم موتى ثلاث مائةٍ سنين وازدادو تسعة: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا ءَاتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:9-12].
الله أكبر... أماتهم الله هذه السنوات ثم بعثهم ليجعلهم آية للناس إنه جل وعلا على كل شىء قدير.
أيها الأخيار: إن من كَلَّف عقله ليصل إلى حدود قدرة الله كالذي كلف نملة أن تنقل جبلاً من موضعه إلى موضع آخر.
ياشافي الأمراض من أرداك؟!
عجزت فنون الطب من عافاك؟!
من يا صحيح بالمنايا دهاك؟!
بلا اصطدام من يقود خطاك؟!
فهوى بها من ذا الذي أهواك؟!
ولا مرعى من ذا الذي يرعاك؟!
لدى الولادة ما الذي أبكاك؟!
من ياثعبان بالسموم حشاك؟!
أو تحيى وهذا السم يملأ فاك؟!
شهداً وقل للشهد من حلاك؟!
فرثٍ ودم من ذا الذي صفاك؟!
قل للطبـ يب تخطفته يد الردى
قل للمريض نجا وعوفي بعدما
قل للصحيح مات لا من علة
بل سائل الأعمى خطى وسط الزحام
بل سائل البصير كان يحذر حفرة
وسل الجنين يعيش معزولا بلا راع
وإذا الوليد بكى وأجهش بالبكاء
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه
وسله كيف تعيش ياثعبان
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت
بل سائل اللبن المصفى كان بين
أإله مع الله !! أإله مع الله !! أإله مع الله!!
لا إله إلا الله، ولا رب غيره، ولا معبود بحق سواه
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
( [1] ) رواه البخارى رقم (4814) فى التفسير سورة الزمر باب قوله : ونفخ فى الصور فصعق من فى السموات ومن فى الارض إلا من شاء الله ، ومسلم رقم (2955) فى الفتن باب مابين النفختين ، والموطأ ( 1/ 239) فى الجنائز ، وأبو داود رقم (4743) فى السنة ، باب فى ذكر البعث والصور ، والنسائى (4/111) فى الجنائز.
( [2] ) عجب الذنب : عظمة دقيقة صغيرة لاتزيد عن حبة العدس توجد فى آخر السلسلة الفقرية فى كل إنسان.هذه العظمة لاتبلى أبداً ، يبلى الجسد كله وتبقى هذه العظمة الدقيقة.
( [3] ) رواه مسلم رقم (2955) فى الفتن ، باب مابين النفختين وهو نفس الحديث السابق إلاأن هذه الزيادة ليست فى البخارى.
( [4] ) الصور : البوق وهو القرن.
( [5] ) اللديغ : أى الذى لدغه ثعبان أو عقرب.
( [6] ) رواه البخارى رقم (6527) فى الرقاق ، باب الحشر ، ومسلم رقم (2859) فى الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، والنسائى (4/114) فى الجنائز ، باب البعث.
( [7] ) أخرجه أحمد فى المسند (17769) ، وعند ابن ماجة رقم (2707).
( [8] ) رواه البخارى رقم (4974) فى تفسير سورة قل هو الله أحد والنسائى (4/112) فى الجنائز ، باب أرواح المؤمنين.
( [9] ) رواه البخارى رقم (7508) فى التوحيد ، باب قوله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله ، ومسلم رقم (2756) فى التوبه ، باب فى سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه ، والموطأ (1/ 240) فى الجنائز ، باب جامع الجنائز ، والنسائى ( 4/113) وفى الجنائز باب أرواح المؤمنين.
( [10] ) رواه الترمذى رقم (3534) فى الدعوات ، باب رقم (106) ، وحسنه شيخنا الألبانى فى الصحيحة برقم (127) وهو فى صحيح الجامع رقم (4338).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، فاللهم أجزه عنا خير ما جزيت به نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
أحبتي في الله:
ثالثاً: من مات على شىء بعث عليه:
أخي في الله مرة ثانية أعرني قلبك وسمعك فإن الموضوع من الأهمية والخطورة القصوى بمكان.
فلقد ورد في حديث في صحيح مسلم أن النبي قال: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)) ( [1] ).
يا عبد الله ستبعث على أي هيئة مت عليها فإن كنت من السعداء مت على طاعة ستبعث يوم القيامة عليها، وإن كنت من الأشقياء مت على معصية ستبعث عليها يوم القيامة.
الله أكبر...
هناك من يبعث والنور يشرق من وجهه، ومن أعضائه، وعن يمينه، ومن بين يديه قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ التحريم: 8 ].
ورد في الأثر الذي أورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه السيوطي لابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه وروى الحاكم الأثر في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وتعقب الحاكمَ الذَّهبيُ وقال: بل هو صحيح على شرط البخاري: أن عبد الله بن مسعود قال: "منهم من يكون نوره كالجبل ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يوقد مرة ويطفأ مرة، ومنهم من تحيط الظلمة به من كل ناحية".
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [ الحديد: 13].
ينادى أهلُ الظلمات أهلَ الأنوار: ياأهل الأنوار انتظرونا، لا تتركونا في هذا الظلام الحالك الدامس!! ألم نكن معكم؟ ألم نصلِّ معكم صلاة الجماعة؟ ألم نشهد معكم الغزوات؟ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14].
ومنهم من يبعث فينطلق إلى أرض المحشر صرخ بأعلى صوته لبيك اللهم لبيك. من هذا؟
هذا من مات بلباس الإحرام في الحج والعمرة يبعث به ملبياً يوم القيامة ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: بينما رجل واقف مع النبي بعرفة، إذ وقع من راحلته، قال أيوب: فأوقصته فذكر ذلك للنبي فقال: ((اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)) ( [2] ).
((ومنهم من يخرج منه دم اللون لون الدم، والريح ريح المسك)). من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: ((هم الشهداء في سبيل الله)).
يقول : ((والذى نفسى بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم والعرف عرف المسك)) ( [3] ).
أحبتي في الله:
نحب أن ننوه إلى أنه قد يظهر أمام الناس شخص قتل في غزوة أو معركة ويقال: أنه شهيد وهو ليس كذلك!.. لماذا؟!
لأنه لا يعلم السر وأخفى إلا الله، فلا تحكم لأحد بالشهادة الجازمة في الدنيا، لذا لا يقال: الشهيد فلان، ولكن قل نرجو الله أن يتقبله عنده في الشهداء ومن يعلم النيات غير الله!!
ومنهم من يبعث وبطنه منتفخة لا يقوى على القيام بل ولا يستطيع الجلوس يتخبط عن يمينه وعن شماله يتكفأ على وجهه، من هؤلاء؟!
هؤلاء هم أكلة الربا: قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].
انظروا معي إلى المشهد الآخر...
رجل يسير في أرض المحشر ومن حوله مجموعة من الأطفال الصغار هذا يتعلق بيده وهذا يتعلق بقدمه!! وهذا يجره جراً وهذا يدفعه دفعاً!! مشهد رهيب.. مَنْ هذا؟! مَنْ هؤلاء؟!...
هذا هو آكل أموال اليتامى بالباطل وهؤلاء هم اليتامى!! إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [ النساء :10 ].
ومنهم من يبعث من النساء وعليها جلباب من لعنة الله ودرع من النار وقد وضعت يدها على رأسها وهي تسير على أرض المحشر وتقول: ياويلاه... ياويلاه.... أتدرون من هذه؟!
قال رسول الله إنها النائحة.. النائحة هي التى تسير خلف الجنازة تبكى وتصرخ وتلطم وجهها وتشق جيبها وتضع التراب على رأسها وتقول.. ياويلاه!!... يا ويلاه!!
ومنهم من يبعث وفي يده كأس الخمر..
ومنهم من يبعث وهو يحمل على كتفه ماسرقه في الدنيا. قال تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].
قال الحافظ بن كثير: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شىء بعث عليه.
فإن أردت أخي الحبيب أن تبعث على طاعة فأطع الله جل وعلا في دنياك، وإن زلت قدمك في معصية فاحدث بعد المعصية توبة، فإذا ما جاءك ملك الموت وأنت على طاعة. قبضك وأنت على ذات الطاعة. وحشرت يوم القيامة في زمرة الطائعين تحت لواء سيد النبيين وقائد المرسلين محمد بن عبد الله.
وأختم حديثي معكم عن هذا العنصر بهذين المشهدين اللذين يخلعان القلوب.
شاب أمريكي من أصل أسباني، دخل على إخواننا المسلمين في إحد المساجد في نيويورك في مدينة "بروكلين" بعد صلاة الفجر وقال: لهم أريد أن أدخل في الإسلام، قالوا: من أنت؟ قال: دلوني ولا تسألوني فاغتسل ونطق بالشهادة، وعلموه الصلاة فصلى بخشوع نادر احتقر رواد المسجد جميعاً أنفسهم أمام خشوع وسجود وبكاء هذا الشاب وتعجبوا لحاله.
وفى اليوم الثالث خلى به أخ مصري ذكي واستدرجه وقال: ياأخي بالله عليك ما حكايتك؟ قال: والله لقد نشأت نصرانياً وقد تعلق قلبي بالمسيح عليه السلام ولكنني نظرت في أحوال الناس فرأيت الناس قد انصرفوا عن أخلاق المسيح تماماً فبحثت عن الإسلام وقرأت عنه فشرح الله صدري للإسلام، ولكنني في الليلة التي دخلت عليكم فيها نمت بعد تفكير عميق وتأملت في البحث عن الحق فجاءنى المسيح عليه السلام في الرؤيا وأنا نائم وأشار لي بسبابته هكذا، وقال لي: كن محمدياً.
يقول: فخرجت أبحث عن مسجد فأرشدني الله إلى هذا المسجد فدخلت عليكم وبعد هذا الحديث القصير أَذَّنَ المؤذن لصلاة العشاء ودخل هذا الشاب الصلاة مع المصلين، وسجد في الركعة الأولى، وقام الإمام بعدها ولم يقم أخونا المبارك بل ظل ساجداً لله فحركه من بجواره فسقط فوجدوا روحه قد فاضت إلى الله جل وعلا. الله أكبر
واستحلفك بالله يا أخي في الله أن تتأمل طويلا في هذه الخاتمة.
وهذه أخت من مدينة السويس عادت مع زوجها بعد رحلة الحج في الباخرة سالم اكسبريس، وصرخ الجميع بأن الباخرة تغرق، وصرخ زوجها: هيا أخرجى فقالت: والله لن أخرج حتى ألبس حجابي كله فقال: هذا وقت حجاب! أخرجي! فإننا سنهلك!! قالت: والله لن أخرج إلا وقد ارتديت حجابي بكامله فإن مت ألقى الله على طاعة. فلبست ثيابها وخرجت مع زوجها. فلما تحقق الجميع من الغرق تعلقت به وقالت: استحلفك بالله هل أنت راضٍ عني؟ فبكى. قالت: هل أنت راضٍ عني؟ فبكى. قالت: أريد أن أسمعها قال: والله إني راضٍ عنك. فبكت المرأة التقية الشابة في ريعان شبابها وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وظلت تردد الشهادة حتى غرقت فبكى الزوج وهو ويقول: أرجو من الله أن يجمعنا بها في الآخرة في جنات النعيم.
وها هو رجل عاش أربعين سنة يؤذن للصلاة لا يبتغي إلا وجه الله، وقبل الموت مرض مرضاً شديداً فأقعده في الفراش، وأفقده النطق فعجز عن الذهاب إلى المسجد، فلما اشتد عليه المرض بكى وقال في نفسه: يارب أأذن لك أربعين سنة وأنت تعلم أني ما ابتغيت الأجر إلا منك، وأحرم من الآذان في آخر لحظات حياتى. يقسم أبناؤه أنه لما حان وقت الآذان وقف على فراشه واتجه للقبلة ورفع الآذان في غرفته وما إن وصل إلى آخر كلمات الآذان: لا إله إلا الله، خر ساقطاً على الفراش فأسرع إليه بنوه فوجدوا روحه قد فاضت إلى مولاها.
إنما الأعمال بالخواتيم.
وهذا شيخنا المبارك عبد الحميد كشك رحمه الله يقبض في يومٍ أحبه من كل قلبه في يوم الجمعة يغتسل، ويلبس ثوبه الأبيض، ويضع الطيب على بدنه وثوبه ويصلى ركعتى الوضوء، وفي الركعة الثانية وهو راكع يخر ساقطاً فيسرع إليه أهله وأولاده، فوجدوا أن روحه قد فاضت إلى الله جل في علاه. لقد أجرى الكريم عادته بكرمه؛ أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شىء بعث عليه.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
( [1] ) رواه مسلم رقم (2878) فى الجنة ، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت.
( [2] ) رواه البخارى رقم (1265) فى الجنائز ، باب الكفن فى ثوبين ، ومسلم رقم (1206) فى الحج باب ماذا يفعل المحرم إذا مات ، وأبو داود رقم (3238،3239) فى الجنائز ، والنسائى (5/195) فىالحج ، باب غسل المحرم بالسدر إذا مات.
( [3] ) رواه البخارى رقم (2803) فى الجهاد ، باب من يجرح فى سبيل الله ، ومسلم رقم (1876) فى الإمارة ، باب فضل الجهاد والخروج فى سبيل الله.
(1/355)