شروط النكاح وطلاق السنة
فقه
النكاح
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله عز وجل ومعرفة حدود الله وأحكامه والعمل بذلك-
خطورة عقد النكاح والأحكام المترتبة عليه ، واعتناء الشارع به-
شروط عقد النكاح:
1- أن يكون بولي بالغ عاقل ، وتعريف الولي. 2- رضا المرأة البالغة. 3- خلو الزوج
والزوجة من الموانع الشرعية-
من اهتمام الشارع بعقد النكاح أن رتب للخروج منه حدوداً ، إذا تعذرت الحياة بين الزوجين ،
ومن هذه الحدود: 1- الطلاق في طهر لم يجامع فيه ، أو وهي حامل. 2- عدم التطليق ثنتين أو
ثلاثاً. 3- وجوب بقاء المرأة في بيتها في الطلاق الرجعي مدة عدتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله سبحانه فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، فاعرفوا حدود الله وأحكامه، واعملوا بما تقتضيه شريعته الكاملة.
ألا وأن مما أحكمه الله شرعا وتنظيما، ذلك النكاح الذي جعله الله صلة بين بني آدم وسببا للقربى بينهم ورتب لعقده وفسخه أحكاما معلومة وحدودا معروفة، فهو عقد عظيم خطير يترتب عليه من أحكام الله شيء كثير، يترتب عليه النسب والإرث والمحرمية والنفقات وغيرها، فمن ثَم اعتنى الشارع به اعتناء عظيما بالغا، فجعل له شروطا وحرمات، ونحن نذكر هنا شيئا من ذلك.
فمن شروط عقد النكاح: أن يكون بولي بالغ عاقل يعرف الكفؤ من الناس ومصالح النكاح لقوله : ((لا نكاح إلا بولي)) فالمرأة لا تزوج نفسها ولا غيرها لا بطريق الأصالة ولا بطريق الوكالة، والولي هو العاصب وأحق الناس بالولاية أقربهم.
ولا ولاية لمن يدلي بالأم فقط كأبي الأم والخال والأخ من الأم لأن الولاية في النكاح للعصبة فقط.
ويجب على الولي أن يتقي الله تعالى وأن يراعي مصلحة المرأة ويزوجها من هو كفؤ لها دينا وخلقا إذا رضيته ولا يحل له أن يمنعها من الكفؤ فإن فعل فقد عصى الله ورسوله وسقطت ولايته عليها ويزوجها غيره من أوليائها.
ومن شروط عقد النكاح رضا المرأة إذا كانت بالغة فلا يجوز أن تزوج المرأة بغير رضاها سواء كانت بكرا أم ثيبا وسواء كان الذي يريد أن يزوجها أبوها أو غيره لقول النبي : ((لا تنكح البكر حتى تستأذن)) وفي رواية لمسلم: ((والبكر يستأمرها أبوها)) ، وقد كان بعض العلماء رحمهم الله يقولون: لا بأس أن يجبر الأب بنته البكر، ولكن قولهم ضعيف لأنه يخالف الحديث ولأنه يترتب على ذلك مفاسد كثيرة غالبا، ولأن كثيرا من الناس قد يجبر ابنته لمصلحة نفسه، ولأن إذا كان لا يملك أن يجبرها على بيع أقل شيء من مالها فكيف يملك أن يجبرها على بذل نفسها لمن لا تهواه ولا ترضاه؟ إذن فلا بد من رضا المرأة بكرا كانت أم ثيبا، ولكن لو فرضنا أنها رغبت الزواج بشخص لا يرضي دينه فإنه يجب أن تمنع منه.
ومن شروط النكاح أن تكون الزوجة والزوج خاليين من الموانع، فلا يصح النكاح في حال يحرم العقد فيها فلا يصح من المحرم بحج أو عمرة ولا على المحرمة بحج أو عمرة ولا يصح النكاح والمرأة في عدة من غيره، ولذلك لا يجوز للرجل أن يخطب المرأة المعتدة من غيره.
ومن اهتمام الشارع بعقد النكاح أن رتب للخروج منه حدودا لا بد منها فإذا أراد الرجل طلاق امرأته فليصبر وليتأن لعل الله أن يغير الأمور والأحوال، وربما غيَر البغُْضَ محبة،ً لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراًًًً كثيراًًًًًًًًًً [النساء:19].
فإذا كان لا بد من الطلاق فليطلقها على الوجه الشرعي وهو أن يطلقها واحدة وهي حامل أو في طهر لم يجامعها فيه.
ولا يحل له أن يطلقها وهي حائض ولا في طهر جامعها ثم تطهر وهو في ذلك لا يجامعها ثم ليطلقها بعد ذلك إن شاء ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن عبد الله بن عمر طلق زوجته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله فتغيظ منه رسول الله ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.
وإياكم والحمق في الطلاق، فلا تطلقوا أكثر من واحدة لا تطلقوا اثنتين ولا تطلقوا ثلاثا فإن ذلك خلاف الشرع، وإنه ليجب على الذين يكتبون الطلاق أن يكون عندهم علم من الشرع وأن يتمشوا في كتابة الطلاق على الوجه الشرعي، ويرشدوا الناس إلى ذلك، وإذا طلق الرجل امرأته طلاقا له فيه رجعة فإنه يجب أن تبقى في بيته حتى تنتهي عدتها، ولها أن تتزين له وأن تكلمه وأن لا تحتجب منه لأنها في حكم الزوجات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً [الطلاق:1].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/123)
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
صالح بن راشد الهويمل
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نبذة تعريفية عن الصّديق 2- الصّديق الداعية 3- الصّديق المنفق 4- تضحية الصّديق
5- من مناقب الصّديق : شجاعته 6- ثبات الصديق
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، نتحدث اليوم عن رجل عظيم، جليل القدر، رفيع المنزلة، كان اسمه عبد الله، وحقًا فقد كان عبدًا لله، عبده حق عبادته، وجاهد فيه حق جهاده، أنفق في سبيله ماله كله، ونافح عن دينه، ونصر رسوله وصدقه وآمن به، وجهل فضله كثير من الناس، وبخسوه حقه، بل حتى الخطباء، والوعاظ، والكتاب، كثيرًا ما يتجاهلونه؛ ربما لأنه كان عظيمًا بجوار عظيم، كبيرًا بجوار كبير، رؤوفًا بجوار رؤوف، فطغت عظمة الأول وقدره ومنزلته على عظمته ومنزلته. إنه عبد الله بن عثمان بن عامر، أتعرفونه؟! أم فوجئتم بهذا الاسم؟ فالصفات التي ذكرناها ليست إلا لواحد من كبار الصحابة، وعبد الله بن عثمان بن عامر من يكون؟! فنقول: لا تعجل أخي إنه أعظم الصحابة، وأفضلهم، إنه الصديق، إنه ثاني اثنين إذ هما في الغار، إنه الرجل الذي وزن إيمانه بإيمان الأمة، إنه أول الخلفاء الراشدين، وأول العشرة المبشرين، وأول من آمن من الرجال، قال عنه الحبيب : ((لو كنت متخذًا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي)) [1]. وعن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله : ((أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: ليس من النساء، قال: أبوها)) [2].
فعن هذا الحبيب للحبيب نتكلم اليوم، ونحن نعرف أننا لن نفيه حقه، ولا بعضًا من حقه.
ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وصحب الرسول سنة قبل البعثة، وسبق إلى الإسلام واستمر معه طوال إقامته في مكة وفي الهجرة والغار، وشهد معه المشاهد كلها إلى أن مات، وكانت الراية معه يوم تبوك، وحج بالناس في السنة التاسعة في حياة الرسول ، واستمر خليفة الأرض بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، ولقب بخليفة رسول الله.
أما صفته الخَلْقِية: فقد كان أبيضًا، نحيفًا، خفيف العارضين لا يستمسك إزاره على حقويه؛ لشدة نحافته، معروق الوجه – أي: قليل لحم الوجه – غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأصابع.
أما صفاته الخُلقية: فقد جمع الفضائل كلها، وكان أشبه ما يكون بالحبيب محمد فقد كان صِدِّيقًا أوَّاه شديد الحياء، كثير الورع، حازمًا،رحيمًا، تاجرًا، كريمًا، شريفًا، غنيا بماله وجاهه وأخلاقه، لم يشرب الخمر قط؛ لأنه سليم الفطرة، سليم العقل، ولم يعبد صنمًا قط، بل يكثر التبرم منها،ولم يؤثر عنه كذبًا قط، بل كان صديقًا، وقيل في الأمثال: إن الطيور على أشكالها تقع، وهذه حقيقة تمثلت بالحبيب وصاحبه فما أشبه أحدهما بالآخر.
لما جاء الإسلام سبق إليه، وأسلم كثير من السابقين على يديه، فقد أسلم على يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة: هم عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين وورد عنه أنه قال: ((ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما عتم حين ذكرته له)) [3]. ما تردد فيه وما عتم ـ أي: ما تأخر ـ.
أما عن ألقابه، فقد كان يلقب بالصديق، ومعلوم منزلة الصديقين عند ربهم، وكفاه فخرًا أن ينعت بالصديق، كيف لا؟! وهو النعت الذي ناله بسبب سرعته وتصديقه لرسول الله كما كان يلقب بالعتيق، ولقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: لما سمي أبو بكر عتيقًا؟ قالت: نظر إليه الرسول وقال: ((هذا عتيق الله من النار)) [4]. وقيل: سمي بذلك حين ولد، وقيل: سمي بذلك لجمال وجهه.
ولقب بالأواه؛ لرحمته ورأفته فهو الصديق والعتيق والأواه، رضي الله عنه وأرضاه، ولعن كل من أبغضه وعاداه.
وكان أفضل الناس إسلامًا منذ أسلم، وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض مواقفه المشرقة منها قوله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
ذكر عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر، ذلك أن المشركين قالوا: ربنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤنا. ولم يستقيموا [5]. وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد عبده ورسوله. فاستقام. وكذلك أنزل الله فيه قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? (1/124)
مغالاة المهور
فقه
النكاح
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
مشكلة الزواج وكثرة الشكوى منها ، ووجها ذلك:
1- المغالاة في المهور ، وهذا خلاف هديه صلى الله عليه وسلم وسنته في ذلك.
2- عضل بعض الأولياء مولياتهم وعدم قبول الخطاب وخطورة ذلك ، وما فيه من جناية: على
الولي بمعصية الله – على المرأة بظلمها – على الخاطب-
وحكم الولي الذي يعضل موليته وإسقاط ولايته ورد شهادته وسقوط عدالته-
خطورة المغالاة في المهور ووضع العقبات للخطاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن في مجتمعنا مشكلة من أهم المشاكل كل من سمعناه يشكو منها عند ذكرها ويود بكل قلبه أن يسلك الناس طريقا إلى حلها، ألا وهي مشكلة الزواج فإنها مشكلة من وجهين، الأول: من جهة المغالاة في المهور والتزايد فيها وجعلها محلا للمفاخرة حتى بلغت إلى الحال التي هي عليها الآن. ولقد صار بعض الناس الآن يزيد في تطويرها ويدخل المهر أشياء جديدة تزيد الأمر كلفة وصعوبة، حتى أصبح المهر في الوقت الحاضر مما يتعسر أو يتعذر على كثير من الناس فتجد الكثير يتعب تعبا كبيرا في أول حياته وعنفوان شبابه، ولا يكاد يدرك ما يحَصَّل به المرأة التي تحصنه، كل هذا بسبب هذا التصاعد الذي لا داعي له في المهور، وهذا مما يعوق عن النكاح الذي أمر الله به ورسوله، وهو خلاف المشروع، فإن المشروع في المهور تخفيفها قال النبي : ((أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة)).
وتزوجت امرأة بنعلين فأجاز النبي نكاحها وقال للرجل: ((التمس ولو خاتما من حديد)) فالتمس فلم يجد شيئا فقال النبي : ((هل معك شيء من القرآن)) ؟ قال نعم سورة كذا وكذا فقال النبي : ((زوجتكما)) أو قال: ((ملكتكها بما معك شيء من القرآن)).
وقال له رجل يا رسول الله إني تزوجت امرأة على أربع أواق يعني مائة وستين درهما، فقال النبي : (( على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عُرْض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه)).
وقال أمير المؤمنين عمر : (لا تغلوا صدق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي ) [رواه الخمسة وصححه الترمذي].
فيا أيها القادر: لا تغال في المهر ولا تفاخر في الزيادة فيه فإن في مجتمعك من إخوانك من لا يستطيع مباراتك، فالأولى أن تأخذ بالأيسر اتباعا للمشروع وتحريا لبركة النكاح ورأفة بإخوانك الذين يعجزون عما تقدر عليه، وإذا دخلت على أهلك ورغبت فأعطهم ما تشاء ولو أننا نسلك طريقة لتسهيل الأمر وتخفيف حدة المغالاة بتأجيل بعض المهر بأن نقدم من المهر ما دعت الحاجة إليه في النكاح، ونؤجل الباقي في ذمة الزوج لكان هذا جائزا وحسنا، وفي ذلك تسهيل على الزوج ومصلحة للزوجة، فإن ذلك أدعى لبقائها معه لأنه لو طلقها لحل المهر المؤجل إذا لم يكن له أجل معين، فانظروا رحمكم الله هذه المشكلة بعين الاعتبار ولا تجعلوا المهور محلا للمفاخرة والمباهاة ويسروا ييسر الله عليكم.
أما الوجه الثاني، من هذه المشكلة: فهي امتناع الأولياء من قبول الُخَّطاب، فإن بعض الأولياء يمتنع من تزويج من له عليها ولاية، وهذا لا يجوز إذا كان الخاطب كفؤا ورضيته المخطوبة لقوله تعالى في المطلقات إذا أراد زوجها نكاحها بعد تمام العدة فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف وقال النبي : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) قالوا يا رسول الله وإن كان فيه قال ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات)) هذا وفي منع المرأة من تزويجها بكفؤها ثلاث جنايات جناية الولي على نفسه بمعصية الله ورسوله، وجناية على المرأة حيث منعها من كفؤها الذي رضيته، وجناية على الخاطب حيث منعه من حق أمر الشارع بإعطائه إياه.
وإذا امتنع الولي من تزويج موليته بكفء رضيته سقطت ولايته وصارت الولاية لمن بعده الأحق فالأحق، كما قال أهل العلم رحمهم الله، وقالوا: إذا تكرر منه هذا صار فاسقا ناقص الإيمان والدين، حتى قال كثير من أهل العلم لا تقبل شهادته ولا تصح إمامته ولا ولايته ولا جميع أفعاله وتصرفاته التي يشترط لها العدالة فاتقوا الله أيها الناس واتقوا الله أيها الأولياء وزوجوا من ترضون دينه وخلقه ولا تمنعوا النساء، فإن في ذلك تعطيلا للرجال والنساء وتفويتا لمصالح النكاح وانتشارا للمفاسد.
إذا لم يتزوج أبناؤنا ببناتنا فبمن يتزوجون؟ وإذا لم نزوج بناتنا بأبنائنا فبمن نزوجهن؟ أترضون أن يتزوج أبناؤنا بنساء أجنبيات بعيدات عن بيئتنا وعاداتنا ولهجاتنا فتتغير البيئة والعادة واللهجة بجلبهن وربما حصل منهن اتعاب للزوج بكثرة طلبهن السفر إلى بلادهن أو غير ذلك.
أترضون أن تبقى بناتنا بدون أزواج يحصنون فروجهن وينجبن منهن الأولاد الذين بهم قرة أعينهن. إنه لا بد من أن يتزوج أبناؤنا ببناتنا، ولكن علينا أن نتعاون لتسهيل الطرق أمامهم مخلصين لله قاصدين بذلك تحصيل ما أمر الله به ورسوله فإن الخير في طاعة الله ورسوله ولقد منع رجال من تزويج من لهن عليهن ولاية لينالوا حطاما من الدنيا فباءوا بالخسران والندامة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم [النور:32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/125)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير باليوم الآخر وعذاب الله والتحذير من الدنيا. 2- انتشار المعاصي والمنكرات في
الأمة المسلمة وصور ذلك. 3- أسباب انتشار المعاصي. 4- حكم الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وأهميته. 5- التحذير من ترك القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب، أقيموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك دعاية المجتمع فلا يقوم المجتمع إلا إذا شعر كل فرد من أفراده أنه جزء من كل، وأن فساد جزء من هذا الكل فساد للمجتمع، وأنه كما تحب لنفسك أن تكون صالحا فكذلك يجب أن تحب لأخيك أن يكون صالحا لقول لقول النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) وإذا شعر الإنسان بهذا الشعور النبيل وإن هذا هو ما يقتضيه الإيمان ويفرضه عليه فإنه لا بد أن يسعى في إصلاح المجتمع بشتى الوسائل بالطرق التي تضمن المصلحة وتزول بها المفسدة، فيأمر بالمعروف بالرفق واللين والإقناع وليصبر على ما يحصل له من الأذى القولي والفعلي، فإنه لا بد من ذلك لكل داع كما جرى ذلك لسيد المصلحين وخاتم النبيين، وليجعل الأمل والنجاح نصب عينيه فإن ذلك أكبر عون له على سيره في مهمته، ولا يجعل لليأس عليه سبيلا فتفتر همته وتضعف عزيمته وإن كلهم أن يتعاونوا في هذا الأمر الجليل العظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يساعدوا من رأوه قائما به ويقوموا معه نصرة للحق وقضاء على الباطل، وأن لا يخذلوا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أو يرجفوا به فإن في ذلك نصرا للباطل وإذلالا للحق.
لقد اتخذ بعض الناس عادة توجب توهين عزائم الدعاة إلى الله وتضعيف همم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فتجدهم إذا سمعوا واعظا يقولون وأقولها باللغة العامة (وهو عاد يبى ينفع كلامه. هم الناس يبى يطيعون) إلى نحو هذه الكلمات التي يوهنون بها عزائم الدعاة إلى الخير، وكان الأجدر بهؤلاء أن يشجعوا ويقولون للداعي والآمر: إنك على خير، وقد حصلت أجرا أو أبرأت ذمتك وسينفع الله بذلك إن شاء الله، فلقد قال النبي : ((لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)).
أيها المسلمون: إن الواجب علينا أن نتعاون تعاونا حقيقيا فعالا في إصلاح المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن نكون كلنا جندا وهيئة في هذا الأمر العظيم كما جعلنا نبينا فقال: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) وإن علينا أن نعرف أن الذمة لا تبرأ ونحن نعلم بالمنكر ولا نغيره أو نبلغه لمن يغيره إذا لم نستطع تغييره.
أيها المسلمون: إننا لو علمنا أن في بيت من بيوت هذا البلد مرضا فتاكا لأخذنا القلق والفزع ولا ستنفعنا الأدوية وجهد الأطباء للقضاء عليه، هذا وهو مرض جسمي، فكيف بأمراض القلوب التي تفتك بديننا وأخلاقنا.
إن الواجب علينا إذا أحسسنا بمرض ديني أو خلقي يفتك بالمجتمع ويحرف اتجاهه الصحيح، أن نبحث بصدق عن سبب هذا الداء وأن نقضي عليه وعلى أسبابه قضاء مبرما من أي جهة كانت، لا تأخذنا في ذلك لومة لائم قبل أن ينتشر الداء ويستفحل أمره، قال النبي : ((مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وبعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا: مالك فقال: تأذيتم بي ولابد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)).
وإننا لنشكر بهذه المناسبة لقوم يظهر منهم الغيرة وَحُبُّ الإصلاح بما يكتبونه من النشرات التي يوجهونها إلى من يوجهونها إليه، نشكرهم على هذه النشرات بقدر ما تنفع وتثمر، وهم مأجورون على حسب نيتهم وعملهم، ولعل الأولى أن يتصلوا بمن يظنون بهم المساعدة والعون بأنفسهم ويحققوا في الأمور التي يكتبون فهيا ويتساعدوا جميعا على إزالتها، ولا ينقص ذلك من إخلاصهم شيئا إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: والعصر إن الإنسان لفي خسر (1/126)
عقوبة الزنا واللواط
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله عز وجل ومعرفة نعمة هذا الدين وما فيه من الرحمة والحكمة-
حكمة مشروعية الحدود ، وتفاوت العقوبات-
خطورة الزنا وأسبابه ، والتحذير من زنا الجوارح-
خطورة اللواط وشناعته وأثره على المجتمع-
عقوبة اللواط والحكمة في ذلك-
الواجب على المجتمع المسلم ، وولاة الأمور ، ودورهم في التمسك بالأخلاق ومواجهة النساء ،
وتفقد الأهل والأولاد وتعهدهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: -
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمة الله عليكم بهذا الدين القويم الجامع بين الرحمة والحكمة رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في اتباع الطريق الموصل إلى الهدف الأسمى.
أيها الناس: إن من طبيعة البشر أن يكون لهم نزعات متباينة فمنها نزعات إلى الخير والحق ومنا نزعات إلى الباطل والشر كما قال الله تعالى: إن سعيكم لشتى [الليل:4].
ولما كانت الشريرة والنزعات الخاطئة والأعمال السيئة لا بد لها من رادع يكبح جماحها ويخفف من حدتها شرع رب العباد وهو الحكيم العليم الرؤوف الرحيم حدودا وعقوبات متنوعة بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتصلح الفاسد وتقيم المعوج وتكفر عن المجرم جريمته إذ لا يجمع الله عليه بين عقوبة الدنيا والآخرة، فأوجب إقامة الحدود على مرتكبي الجرائم كل بحسب جريمته.
فالسارق تقطع يده، لأنه يسرق بها غالبا، وقطاع الطريق إذا قَتلوا قُتلوا، وإن أخذوا المال فقط قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، لأنهم يستعينون على قطع الطريق بأرجلهم وأيديهم فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف نكالا وجزاء من جنس العمل، وقاذف المحصنات والمحصنين يجلد ثمانين جلدة حتى لا تنتهك الأعراض، وشارب الخمر عقوبته يحصل بها الردع عند تناول هذا الشراب الذي وصفه النبي بأنه أم الخبائث ومفتاح كل شر.
أما جريمة فساد الأخلاق وانهيار المجتمع تلك الجريمة التي تكمن في فعل الزنى واللواط فإنها جريمة عظيمة رتب الشارع عليها عقوبة أكبر، فالزاني الذي يطأ فرجا حراما.
إما أن يكون محصنا وإما أن يكون غير محصن، فالمحصن هو البالغ العاقل الذي تزوج امرأة ووطئها بنكاح صحيح فإذا زنى فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن مع المسلمين إذا كان مسلما، وأما غير المحصن وهو من لم يتزوج على الوصف الذي ذكرنا فإنه إذا زنى جلد مائة جلدة ويُسَفَّرُ عن البلد سنة كاملة.
أيها المسلمون: وإذا كان الزنى بالفرج موجبا لهذه العقوبة فإن هنا زنى آخر دون ذلك يوجب الإثم والعقوبة الأخروية وربما كان سببا للوقوع في الزنى الأكبر ألا وهو زنى الجوارح الأخرى وهو ما أشار إليه النبي بقوله: ((العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى)).
أما اللواط وهو وطء الذكر الذكر، فذلك الفاحشة الكبرى والجريمة النكراء إنه مفسدة الدنيا والدين إنه هدم للأخلاق ومحق للرجولة إنه فساد للمجتمع وقتل للمعنويات إنه ذهاب الخير والبركات وجالب للشرور والمصيبات إنه معول خراب ودمار وسبب للذل والخزي والعار، والعقول تنكره والفطر السليمة ترفضه والشرائع السماوية تزجر عنه وتمقته، ذلكم بأن اللواط ضرر عظيم وظلم فاحش، فهو ظلم للفاعل بما جر إلى نفسه من الخزي والعار وقادها إلى ما فيه الموت والدمار، وهو ظلم للمفعول به حيث هتك نفسه وأهانها ورضي لها بالسفول والانحطاط ومحق رجولتها فكان بين الرجال بمنزلة النسوان، لا تزول ظلمة الذل من وجهه حتى يموت، وهو ظلم للمجتمع كله بما يفضي إليه من حلول المصائب والنكبات.
ولقد قص الله علينا ما حصل لقوم لوط حيث أنزل عليهم رجزا من السماء، أي عذابا من فوقهم أمطر عليهم حجارة من سجيل فجعل قريتهم عاليها سافلها، وقال بعد أن قص علينا عقوبتهم وما هي من الظالمين ببعيد [هود:83].
أيها المسلمون: متى فشت هذه الفاحشة في المجتمع ولم يعاقبه الله بدمار فإنه سيحل به ما هو أعظم من ذلك، سيحل به انتكاس القلوب وانطماس البصائر وانقلاب العقول حتى يسكت على الباطل أو يزين له سوء عمله فيراه حسنا، وأما إذا يسر الله له ولاة أقوياء ذوي عدل أُمَناء يقولون الحق من غير مبالاة وينفذون الحد من غير محاباة فإن هذا علامة التوفيق والصلاح. أيها المسلمون: ولما كانت هذه الجريمة أعني جريمة فاحشة اللواط من أعظم الجرائم كانت عقوبتها في الشرع من أعظم العقوبات فعقوبتها القتل والإعدام قال النبي : ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) ، واتفق جمهور الصحابة أو كلهم على العمل بمقتضى هذا الحديث، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: لم يختلف أصحاب رسول الله في قتله سواء كان فاعلا أم مفعولا به ولكن اختلفوا كيف يقتل فقال بعضهم يرجم بالحجارة وقال بعضهم يلقى من أعلى مكان في البلد حتى يموت وقال بعضهم يحرق بالنار، فالفاعل والمفعول به إذا كان راضيا كلاهما عقوبته الإعدام بكل حال سواء كانا محصنين أم غير محصنين لعظم جريمتها وضرر بقائها في المجتمع فإن بقاءهما قتل معنوي لمجتمعهما وإعدام للخلق والفضيلة ولا شك أن إعدامهما خير من إعدام الخلق الفضيلة.
أيها المسلمون: إن علينا كمجتمع إسلامي قوامه الدين والأخلاق ولله الحمد أن نجتهد بقدر ما نستطيع على التمسك بديننا والتخلق بالأخلاق الفاضلة، وأن يسعى كل منا من الولاة فمن دونهم لمنع الفساد والمفسدين وإصلاح المجتمع وأن نتخذ الحيطة ونتبع مواقع الفساد لتطهيرها. على كل منا أن يراقب حال أولاده وأهله الذكور والإناث فيمنع نساءه من الخروج متبرجات بثياب الزينة والطيب وغيره مما يلفت النظر، ويتفقد أولاده أين ذهبوا وأين غابوا ومن أصحابهم ومن جلساؤهم، وأن يمنعهم من مخالطة السفهاء ومعاشرة من يخشى الفساد بمعاشرتهم، وعلى كل أهل حارة ومحلة أن يتفقدوا محلتهم وحارتهم ويتعاونوا على منع الشر والفساد، فإذا أصلح الرجل أهله وأصلح أهل الحارة جيرانهم وحرص الولاة على إصلاح بلدهم حصل بذلك من الخير ما يكفل السعادة للمجتمع وإن أهمل الناس واجبهم في هذا فاتهم من الخير بقدر ما فوتوا من الواجب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين [الأعراف:170].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/127)
مضار الخمر والتحذير منه
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله وشكره على ما أباحه من الطيبات ، وكيفية ذلك-
دِلالة الكتاب والسنة من إجماع الأمة على تحريم الخمر ولعن شاربها- تعريف الخمر ، وبيان مضارها الدينية والدنيوية (الصد عن ذكر الله وعن الصلاة – الوعيد
الشديد والعقوبات – إفساد المعدة والأمراض الكثيرة – العداوة والبغضاء طريق إلى الفواحش -
ضياع الأموال)-
عقوبة شارب الخمر ، وتحريم الحشيش.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتمتعوا بما أباح الله لكم من الطيبات واشكروه عليها بأداء حقوقه التي أوجبها عليكم، فإن الشكر سبب لدوام النعم ومزيدها واحذروا ما حرمه، وإنما حرم عليكم ما فيه ضرركم دينا ودنيا رحمة بكم، وهو الرؤوف الرحيم.
فمما حرمه الله عليكم في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع على تحريمه المسلمون الخمر الذي سماه النبي أم الخبائث وقال: ((هي مفتاح كل شر)) وأخبر الله في كتابه: أنه رجس من عمل الشيطان [المائدة].
ووردت الأحاديث الكثيرة في تحريمه والتحذير منه والوعيد على شربه قال أنس بن مالك : ((لعن رسول الله في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة لها)) كل هؤلاء ملعونون على لسان محمد وقال : ((لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) وقال: ((مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن)) وقال: ((إن عند الله عقدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قيل: وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار القيح والدم ومن شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا)).
والخمر اسم جامع لكل ما خامر العقل أي غطاه سكرا وتلذذا من أي نوع كان وقد ذكر علماء الشريعة والطب والنفس والاجتماع للخمر مضار كثيرة، فمن مضاره أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة لأن صاحبه يتعلق به ولا يكاد يفارقه، وإذا فارقه كان قلبه معلقا به.
ومن مضاره ما فيه من الوعيد الشديد والعقوبات، ومن مضاره أنه يفسد المعدة ويغير الخلقة فيتمدد البطن وتجحظ العيون.
والسكارى يسرع إليهم تشوه الخلقة والهرم وحدوث السل الرئوي وتقرح الأمعاء وإضعاف النسل أو قطعه بالكلية، ومن مضاره فساد التصور والإدراك عند السكر حتى يكون صاحبه بمنزلة المجانين، ثم هو بعد ذلك يضعف العقل، وربما أدى إلى الجنون الدائم.
ومن مضاره إيقاع العداوة البغضاء بين شاربيه وبينهم وبين من يتصل بهم من المعاشرين والمعاملين، لأن قلوب أهل الخمر معلقة به فهم في ضيق وغم لا يفرحون ولا يسرون بشيء إلا بالاجتماع عليه، كل كلمة تثيرهم، وكل عمل يضجرهم.
ومن مضاره قتل المعنويات والأخلاق الفاضلة وأنه يغري صاحبه بالزنا واللواط وكبائر الإثم والفواحش، فصلوات الله وسلامه على من سماه أم الخبائث ومفتاح كل شر.
ومن مضاره إنه يستهلك الأموال ويستنفد الثروات حتى يدع الغني فقيرا، وربما بلغت به الحال أن يبيع عرضه أو عرض حرمه للحصول عليه، ولقد كانت الدول الكافرة المتحضرة تحاربه أشد المحاربة وتكون الجمعيات العديدة للتحذير منه السعي في منع المجتمع منه لما علموا فيه من المضار الخلقية والاجتماعية والمالية.
وقد سبقهم الإسلام إلى ذلك فحذر منه غاية التحذير ورتب عليه من العقوبات الدنيوية الأخروية ما هو معلوم لعامة المسلمين، حتى جاء في الحديث أن النبي أنه قال: ((إذا سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه)).
وقد أمر النبي حين حرمت الخمر أن تراق في الأسواق وتكسر أوانيها.
وحرق أمير المؤمنين عمر بيت رجل يقال له رويشد كان يبيع الخمر وقال له: أنت فويسق وليست برويشد.
والحشيش من الخمر بل هو أخبث منه من جهة إفساد العقل والمزاج وفقد المروءة والرجولة فإن متعاطيها تظهر عليه علامات التخنث والدياثة على نفسه حتى تنحط غريزته الجنسية إلى طبع أقبح من طبع النساء، وهذه المضار التي ذكرناها وما هو أكثر منها، منها ما هو ظاهر ومنها ما يظهر سريعا ومنها ما يتأخر، وأعظم من ذلك عقوبة الآخرة التي لا فكاك منها إلا بالتوبة إلى الله والرجوع إليه جنبني الله وعافانا من البلاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين [المائدة:90-92].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/128)
في نجاة المتقين
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, فضائل الإيمان
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله والتعرف إليه في الرخاء ، وكيف يكون ذلك -
من ثمرات التقوى النجاة من المهالك ، ونماذج من السيرة والتاريخ (نجاته صلى الله عليه وسلم
من المشركين في الغار – يونس عليه السلام – أصحاب الغار) -
النجاة يوم القيامة لأهل التقوى ، وقوله تعالى : وإن منكم إلا واردها وبيان معنى الورود وخوف السلف وسبيل النجاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا ربكم وتعرفوا إليه في حال الرخاء يعرفكم في حال الشدة تعرفوا إلى ربكم بالخضوع له والمحبة والتعظيم وكثرة العبادة ابتغاء مرضاته وتجنب معاصيه خوفا من عقابه الأليم تعرفوا إلى الله بفعل الطاعات ما دمتم في زمن القدرة والإمكان قبل أن تتمنوا العمل فلا تستطيعوا إليه سبيلا.
عباد الله: يقول الله تعالى: وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون فمن اتقى الله تعالى وامتثل أمر الله واجتنب نهيه نجاه بمفازته إذا وقع في هلكة أنجاه الله منها ويسر له الخلاص من ذلك، فالمتقون هم أهل النجاة، وشاهد ذلك ما وقع وما يقع للمتقين. ألم يبلغكم ما وقع لسيد المتقين حيث خرج من مكة ومعه صاحبه أبو بكر يخشيان على أنفسهما من قريش فنجاهما الله تعالى من ذلك وقريش على رؤوسهم يقول أبو بكر: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا فيقول له رسول الله : ((لا تحزن إن الله معنا. ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)) فنجى الله تعالى نبيه بمفازته من غير أن يمسه سوء.
ألم تسمعوا ما وقع لنبي الله يونس حيث ذهب عن قومه مغاضبا لهم لما عصوه فركب البحر فثقلت بهم السفينة فاقترع أهلها أيهم يلقى في البحر لتخف السفينة وينجو بعض من فيها ولا يهلكوا كلهم فوقعت على قوم فيهم نبي الله يونس فألقوا في البحر فالتقم الحوت يونس: فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجاب له رب العالمين فأنجاه من الغم قال الله تعالى: فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [الصافات:143-144].
ألم يأتيكم نبأ الثلاثة من بني إسرائيل باتوا في غار فانحدرت عليهم من الجبل صخرة سدت الغار فلا يستطيعون الخروج فقالوا إنه لا ينجيكم منها إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران فنأى بي طلب الشجر فتأخرت حتى ناما فكرهت أن أوقظهما فانتظرت استيقاظهما حتى طلع الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي حتى استيقظ أبواي فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة قليلا.
فقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها حبا شديدا فأردتها عن نفسها فامتنعت حتى ألجأتها الضرورة سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين دينارا على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك لأجلك فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة قليلا إلا أنهم لا يستطيعون الخروج.
فقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم إلا واحدا ترك أجره وذهب فثمرت له أجره حتى نما وكثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أعطني أجري فقلت كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق فهو أجرك فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت له لا أستهزئ بك فأخذه كله ولم يترك منه شيئا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون.
وهكذا ينجِّي الله المتقين بمفازتهم في هذه الدنيا وينجيهم من مفاوز يوم القيامة وأهوالها ومن عذاب الجحيم وسَمومها قال الله تعالى: وإنْ منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيه جثياً [مريم:71-72].
بكى عبد الله بن رواحة وكان مريضا فقيل ما يبكيك فقال ذكرت قول الله تعالى: وإن منكم إلا واردها فلا أدري أنجو منها أم لا.
وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه بكى ويقول أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تنجينا من النار وأن تلحقنا بالمتقين الأبرار وأن تنجينا من مفاوز الدنيا والآخرة يا كريم يا جواد اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/129)
خطبة استسقاء
فقه, موضوعات عامة
الصلاة, مخلوقات الله
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله عز وجل ومعرفة نعمة الماء ، ووجوب شكرها -
أهمية الماء للحياة ، ولا يملك أحد إنزاله إلا الله -
وجوب اللجوء إلى الله والتضرع إليه والدعاء والتوبة إلى الله -
الاستغفار والدعاء وطلب السقيا والمطر -
هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء والحكمة من قلب الرداء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته عليكم بهذا الماء الذي يسره الله لكم فأنزله من السماء ثم سلكه ينابيع في الأرض وخزنه فيها لتستخرجوه عند الحاجة إليه، ولو بقي على وجه الأرض لفسد وأفسد الهواء ولكن لله بحكمته ورحمته خزنه لكم عند الحاجة إليه لكم فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين [الحجر:22].
فاحمدوا الله أيها المسلمون على هذه النعمة واعرفوا قدر ضرورتكم إلى الماء الذي هو مادة حياتكم وحياة بهائمكم وأشجاركم وزروعكم، وإنه لا غنى لكم عن رحمة الله إياكم به طرفة عين قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراًً فمن يأتيكم بماء معين.
أيها المسلمون: إنكم لتعلمون ما يحصل من الضرر بتأخر هذا الماء أو نقصانه في الزروع والثمار والبهائم، ولقد شاهدتم ما حصل من نزول المياه الجوفية الذي لعله يكون من أسبابه قلة الأمطار، فأنتم أيها المسلمون مضطرون إلى المطر غاية الضرورة، ولا يستطيع أحد أن ينزل المطر إلا الله تعالى يجيب المضْطر إذا دعاه ويكشف السوء فهو غياث المستغيثين وجابر المنكسرين وراحم المستضعفين، وهو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم يعطي لحكمة ويمنع لحكمة وهو اللطيف الخبير.
أيها المسلمون: إذا علمتم أنكم مضطرون إلى رحمة ربكم وغيثه غاية الضرورة وأنه لا يكشف ضركم ولا يغيث شدتكم إلا الرحمن الرحيم الجواد الكريم.
أيها المسلمون: إذا علمتم أن الدعاء مخ العبادة، وأن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا، وأن من دعا الله بإخلاص وصدق فلن يخيب، فإما أن يعطى مطلوبه أو يدخر له ما هو أكثر منها وأعظم أو يدفع عنه من السوء ما هو أشد وأكبر إذا علمتم أيها المسلمون ذلك كله فارفعوا قلوبكم وأيديكم إلى ربكم مستغيثين به راجين لفضله آملين لكرمه وقدموا بين يدي ذلك توبة نصوحا واستغفارا من الذنوب.
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم نسألك أن تغيث قلوبنا وتحييها بذكرك وتصلح باطننا بالإخلاص والمحبة لك وظاهرنا بالاتباع التام لرسولك والانقياد الكامل لشريعته حتى لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضى ونسلم تسليما.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أنْبِتْ لنا الزرع وأدَّر لنا الضرع واسقنا من بركات السماء وأخرج لنا من بركات الأرض اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا عذاب ولا هدم ولا غرق.
أيها الإخوان: اقتدوا بنبيكم بقلب العباءة فإن النبي كان يقلب رداءه تفاؤلا على ربكم أن يقلب حالكم إلى الرخاء وإشعارا بالتزامكم تغيير لباسكم الباطن بلزوم التقوى بدلا من التلوث بلباس المعاصي والردى. ثم يستقبل القبلة فيقلب رداءه ويدعو.
ثم يدعو الناس إلى التوبة وبيان أن ما أصابهم فإنما هو بذنوبهم وأنه ينبغي التوبة والإلحاح كل وقت ثم ينصرف.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/130)
طاعة ولي الأمر
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
صالح بن عبد الرحمن الأطرم
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- واجب ولاة الأمر 2- الطاعة حقٌ لولاة الأمر
3- النصح لولاة الأمر 4- الدعاة لولاة الأمر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله، وأطيعوه، وراقبوا أمره، ولا تعصوه، واشكروه على جميع نعمه. إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى? لِعِبَادِهِ ?لْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7].
عباد الله: اعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، واجتهدوا في إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة للدين، واحذروا النزاع وأسباب التفرق، وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46].
ومن أسباب التفرق، وتمزيق القلوب: الحسد والتباغض والتدابر، وفعل ما يسخط الآخر كالنجش، وهو أن يزيد في ثمن السلعة بعد أن يَرْضى صاحبها ببيعها للسائم الأول، أما ما دامت في الحراج وصاحبها يطلب الزيادة، فلا بأس. وبيعه على بيع أخيه، وشرائه على شراء أخيه.
والتفرق من أمور الجاهلية.
واعلموا أن الله أمر ولاة أمور المسلمين بأن يؤدوا ما بأعناقهم من الأمانة للرعية، وأن يحكموا بالعدل، فيقيموا الحدود والتعزيرات، ويردعوا العصاة عن المعاصي، وأن يرفقوا بهم، فلا يكلفوهم ما يشق عليهم، قال تعالى: وَ?خْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].
وأمر الرعية بأن يسمعوا لهم، يطيعوهم فيما أمروهم أو نهوهم، ما لم يكن في معصية الخالق، قال تعالى : يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
فوجوب طاعة ولي أمر المسلمين عقيدة دينية، يدين بها المسلم لربه، فإن أمره أميره أو مديره بأمر، وجب عليه تنفيذه، ما لم يكن معصية لله، وإن نهاه عن فعل شيء وجب الانتهاء عنه.
وولاة الأمور هم العلماء والأمراء، فطاعة هؤلاء فيها مصلحة الدين والدنيا، ومخالفتهم فيها فساد الدين والدنيا، فولي الأمر جُنَّة ـ أي: ستر وحجاب ـ ونعمة على المجتمع الإسلامي يقودهم للجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأعراض والأموال، ويقودهم من له الولاية على الحرمين في الحج، ويولي من هو أهل للولاية على مصالح قطع الطريق والتعرض للمسلمين ويأخذ أموالهم أو يقتلهم أو ينتهك أعراضهم، ويضرب على يد من يريد الإخلال بالأمن.
فلهذه المصالح وغيرها قال العلماء: تجب طاعة الأمير ولو كان فاسقًا بنفسه، فإن صلى بالناس إمامًا وجب أن يصلوا معه.
وكما تجب طاعة ولاة الأمور يجب النصح لهم، وإظهار محاسنهم وإخفاء مساوئهم، ويحرم الكلام بما يوقع بغضهم في القلوب، أو ينفروا عنهم، ومن لم يقدر على النصح دعا لهم.
قال الأمام أحمد: لو علمت أن لي دعوة مستجابة لصرفتها لولي الأمر؛ لأن في صلاح ولي الأمر صلاح الرعية. وهذا من فقه الإمام أحمد، وثبت في الحديث : ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تجتمعوا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم)) [1].
ويقول الشاعر:
نصح الإمام على الأنام فريضة ولأهله كفارة وطهور
ويشترط لنصح ولي الأمر صلاح نية الناصح وصدقها، ويعرف ذلك بألا يرى منه الافتخار بأنه يصل إلى الأمراء والحكام، بل يخفي نصيحته، فإن صادفت قبولاً كان دالاً على الخير، والدال على الخير كفاعله، وإن صادفت ردًا فقد برئت ذمته، ففي احترام ولاة الأمور من الأمراء والعلماء عز المجتمع. فوحدة الكلمة لها روعتها، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [ آل عمران:103]، فلا يوقع بهم في الكلام ولاسيما مع الصغار والعوام، والذين لا يعرفون العواقب، فالكتاب والسنة مملوءان بهذا المعنى، وإليكم قول بعض العلماء في تفسير الآية الكريمة : أطيعوا السلطان في ضرب الدراهم والدنانير والمكاييل والموازين والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد.
قال بعض المفسرين : لو نهى السطان العالم عن الفتوى، فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاص؛ لأن الفتوى علاج للقلوب فلابد أن ينظر السلطان في طبيب القلوب فهو أولى بالنظر من طبيب الأجسام ومثله المعلم!!
ومن أمثلة ما يطاعون به سائر الأنظمة، التي فيها مصلحة للمجتمع ولا تخالف نصًا من الكتاب والسنة، وكما تجب الطاعة لولاة الأمور من المواطنين تجب أيضًا على المتعاقدين المستقدمين، فيجب عليهم أن ينفذوا ما التزموا به من شروط الاستقدام، التي وضعتها الدولة، فلا يعثون في الأرض فسادًا، ولا يبثون كلامًا مسمومًا، ولا يغشون في أعمالهم، فمن خالف ما التزم به من الشروط، أو أعان على المخالفة، فهو عاص لولاة الأمور، ففي الحديث الشريف: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني)) [2] ، وفي الحديث الآخر: ((أن سَلَمة بن يزيد سأل رسول الله قال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، حتى سأله الثانية والثالثة، فجذبه الأشعت بن قيس، فقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم)) [3].
وفي الحديث الآخر: ((إنها ستكون بعدي أثرة، وأمور تنكرونها، قالوا : يا رسول الله ! كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم)) [4] ، وفي رواية: ((وتسألون لهم0)) ، وفي الحديث الآخر: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قالوا: يا رسول الله ! ألا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. لا ما أقاموا فيكم الصلاة)) [5].
وفي الحديث الآخر: ((ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة)) [6].
وفي الحديث الآخر: ((على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية،فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) [7] ، أي: لا ينفذ ما أمر به من المعصية، أما ما أمر به من الطاعات فعليه تنفيذه.
ولهذه النصوص ولغيرها قال بعض العلماء: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء. فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، ومن تعظيم العلماء والحكام ألا ينشر الإنسان أو يذيع أمرًا أو حدثًا رآه، بل يرده لهاتين الفئتين، قال تعالى: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لاْمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
قال القرطبي في أحكام القرآن (5/291): (والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئًا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أَوِ ?لْخَوْفِ ، وهو ضد هذا أَذَاعُواْ بِهِ ، أي: أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته).
ولا يصدر هذا من أقوياء المسلمين وأهل العقول السليمة؛ ولهذا قال بعض المفسرين: (إنه يصدر من ضعفة المسلمين؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك).
ذكره القرطبي في أحكام القرآن (5/291).
كما نقل عن الضحاك: أنهم المنافقون، فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف. وقال القرطبي أيضًا: قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْهُمْ [النساء :8]، أي: لم يحدثوا به ولم يفشوه، حتى يكون النبي هو الذي يحدث به ويفشيه. أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه.
كما نقل عن بضع التابعين: أن المراد بولي الأمر: الولاة، وقيل أمراء السرايا، ولا يمنع أن تشمل الآية العلماء، وولاة المؤمنين العاملين بشرع الله.
ولا مانع أن يكون الإخبار للمسؤول المباشر أو المسؤول العام حسب الحال والمصلحة. قوله تعالى: لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، قال القرطبي: (أي: لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه، وما ينبغي أن يكتم)، فلو تأدب المسلمون بآداب القرآن، وتخلقوا بأخلاقه ؛ لسلمت صدورهم، واجتمعت كلمتهم، وانتصروا على عدوهم.
ولولاة الأمور والرعايا الأسوة الحسنة في رسول الله وأصحابه حينما جاءه خبر بني قريظة بنقضهم للعهد، بعد انهزام الأحزاب في غزوة الخندق، ندب أحد الصحابة ليتثبت عن نقض بني قريظة، ثم قال له: إذا وجدتهم لم ينقضوا فارفع صوتك بالخبر إذا أقبلت علينا، وإن وجدتهم قد نقضوا فأعطني الإشارة من دون أن يسمع الصحابة [8].
فالرسول أراد منه أن يرفع صوته بعدم نقضهم العهد؛ لما في ذلك من تقوية لنفوس المسلمين ورفع لمعنوياتهم.
وكذا الإشارة حالة نقضهم العهد ؛ لما في ذلك من تشجيع للمنافقين، وليكون الإخبار من جهة الرسول حسب الطريقة التي يراها.
ولهذا خطب الرسول بالصحابة بعد صلاة الظهر، وأمرهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فما كان منهم رضي الله عنهم إلا السمع والطاعة.
فالمسلم حقًا يعمل بما سمع من كتاب الله سنة نبيه، ولو خالفهما الكثير من الناس.
قال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ?لأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [الأنعام :116] وقال: وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [ سبأ:13].
فالعبرة – أيها المسلمون – بمن نجا، كيف نجا؟! وليس العبرة بمن هلك، كيف هلك؟
فلا تستوحشوا من الطريق ؛ لقلة السالكين، ولا تغتروا بكثرة الهالكين.
نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، كما نسأله السلامة من حقوق خلقه، والإعانة على أداء حقه، وأن يجعلنا من المتعاونين مع ولاة أمورنا على البر والتقوى، وألا يجعلنا من المتعاونين على الإثم والعدوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [ النساء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/367) واللفظ له قال أحمد شاكر: إسناده صحيح (8785)، ومسلم ح (1715) بنحوه.
[2] أخرجه البخاري ح (2957)، ومسلم ح (1835).
[3] أخرجه مسلم ح (1846).
[4] أخرجه البخاري ح (3603)، ومسلم ح (1843).
[5] أخرجه مسلم ح (1855).
[6] أخرجه مسلم ح (1855).
[7] صحيح، أخرجه أحمد (2/17، 142)، وابن ماجه ح (2864).
[8] انظر سيرة ابن هشام (3/ 221 ـ 222) وقد ذكرها بدون سند، وانظر البداية والنهاية لابن كثير (4/105).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/131)
شهر محرم
الإيمان, موضوعات عامة
الولاء والبراء, مخلوقات الله
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله عز وجل واستحضار حكمته البالغة في تعاقب الشهور والأعوام -
حكمة تعاقب الليل والنهار ، وجعل الشمس والقمر حسباناً -
حكمة الله عز وجل في جعل الحساب الشرعي مبنياً على الشهور الهلالية -
بداية التاريخ الهجري ، وحكمة البدء من شهر محرم -
وجوب اعتبار التاريخ الهجري في سائر المعاملات والمحافظة على تميز الأمة وعدم مجاراة
الغرب في عاداتهم وأخلاقهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا ربكم واعلموا ما لله من الحكمة البالغة في تعاقب الشهور والأعوام وتوالي الليالي والأيام، فإن الله جعل الليل والنهار خزائن للأعمال ومراحل للآجال يعمرها الناس بما يعملون من خير وشر حتى ينتهي إلى آخر أجلهم، ومن رحمته بعباده أن جعل لهم ليلا ونهارا وجعل لكل منهما آيتين آية النهار وهي الشمس وآية الليل وهي القمر، كل نهار يتجدد بمنزلة الحياة الجديدة يستجد فيه العبد قوته ويستقبل عمله، ولذلك سمى الله النوم بالليل وفاة واليقظة بالنهار بعثا فقال تعالى: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون.
ومن رحمته بعباده أن جعل الشمس والقمر حسبانا ففي الشمس معرفة الفصول وفي القمر حسبان الشهور وجعل الله السنة اثنى عشر شهرا قال الله تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً وفي كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم.
والأربعة الحرم ثلاثة منها متوالية وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والرابع منها مفرد وهو رجب بين جمادى وشعبان، وإن من تيسير الله تعالى أن جعل الحساب الشرعي العربي مبنيا على الشهور الهلالية لأن لها علامة حسية يفهمها الخاص والعام، وهي رؤية الهلال في المغرب بعد غروب الشمس فمتى رؤي الهلال فقد دخل الشهر المستقبل وانتهى الشهر الماضي، وبذلك عرفنا أن ابتداء التوقيت اليومي من غروب الشمس لا من زوالها لأن أول الشهر يدخل بغروب الشمس وأول الشهر هو أول الوقت.
ولقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حيث جمع الناس سنة ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ فقال بعضهم: يبدأ من مولد النبي وقال بعضهم: يبدأ من بعثته وقال بعضهم: يبدأ من هجرته وقال بعضهم: يبدأ من وفاته، ولكنه رجّح أن يبدأ من الهجرة لأن الله فرق بها بين الحق والباطل فجعلوا مبتدأ تاريخ السنين في الإسلام سنة الهجرة لأنها هي السنة التي كان فيها قيام كيان مستقل للمسلمين، وفيها تكوين أول بلد إسلامي يسيطر عليه المسلمون، فاتفق فيه ابتداء الزمن والمكان.
ثم أن الصحابة الذين جمعهم عمر تشاوروا من أي شهر يبدؤن السنة فقال بعضهم من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي مهاجرا إلى المدينة وقال بعضهم من رمضان لأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن واتفق رأي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ويلي ذي الحجة الذي فيه أداء الناس حجتهم الذي به تمام أركان الإسلام لأن الحج آخر ما فرض من الأركان الخمسة ثم أنه يلي الشهر الذي بايع فيه النبي الأنصار على الهجرة وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم.
عباد الله: إن علينا أن نشكر الله على ما يسره لنا من هذا الحساب البسيط الميسر وإن على الأمة الإسلامية أن تجعل لنفسها وجودا وكيانا مستقلين مستمدين من روح الدين الإسلامي وأن تكون متميزة عن غيرها وفي كل ما ينبغي أن تميز به من الأخلاق والآداب والمعاملات لتبقى أمة بارزة مرموقة لا تابعة لغيرها هاوية في تقليد من سواها تقليدا أعمى لا يجر إليها نفعا ولا يدفع عنها ضررا، وإنما يظهرها بمظهر الضعف والتبعية وينسيها ما كان عليه أسلافها ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، فالتاريخ اليومي يبدأ من غروب الشمس، والشهري يبدأ من الهلال والسنوي يبدأ من الهجرة. هذا ما جرى عليه المسلمون وعملوا به واعتبره الفقهاء في كتبهم في حلول آجال الديون وغيرها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [يس:37-40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/132)
التحذير من الرشوة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
صالح بن عبد الرحمن الأطرم
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بالكسب الطيب والتحذير من الكسب الخبيث – الأكل من الحرام من الاعتداء الذي
لا يحب الله أهله – الرشوة والتحذير منها , وآثارها السيئة – صور الرشوة المختلفة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وأعرضوا ما تكسبون من الأموال على شرع الله، فما أحله الله لكم فكلوه هنيئًا مريئًا، وما حرمه عليكم فلا تُقْدموا عليه، وتباعدوا عنه، واتقوا يومًا تعرضون فيه على الله لا تخفى عليه منكم خافية، فأنبتوا أجسامكم وأولادكم وأهليكم نباتًا حسنًا، وذلك بتغذية الأرواح بمحبة الله ومحبة رسوله، وغذوا أجسامكم بالطيبات من المأكولات والمشروبات، فالجسد الذي ينبت على السحت والحرام النار أولى به. فأيكم يريد أن تكون النار مصيره، وجهنم مأواه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، وقد أمر المرسلين بأكل الطيبات، وعمل الصالحات. قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ وَ?شْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة :172]. وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـ?تِ مَا أَحَلَّ ?للَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]، وقال تعالى: وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ?للَّهُ حَلَـ?لاً طَيّباً وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة:88].
فلزامًا على المسلم ألا يعتدي – بمعنى لا يتجاوز – ما نهاه عنه الله، فمن خالف أمر الله بأكل الحرام، فهو المعتدي، ولا يرضى المسلم أن يخرج نفسه عن نطاق محبة الله باعتدائه؛ لأن الله يقول: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [المائدة:97]، وحينئذ تثبت محبة الله للملتزمين أوامره، الواقفين عند حدوده، فما حياة المسلم وما عيشته الهنيئة حينما يعرض نفسه للاعتداء، والله يعلم منه خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم الضمائر والسرائر وسوء النوايا والطوية جهر المسيء بقوله أم أسر، سمى الحرام باسمه أم باسم آخر، وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ?جْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ (1/133)
تحريم الإفتاء بغير علم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله ، ومعرفة أنه وحده له الخلق والأمر -
عظم جناية الذين يحللون ويحرمون بغير علم ، وأنه من القول على الله بغير علم -
وقوع العامة وبعض طلبة العلم في ذلك ، وخطورة هذا الصنف -
من العقل والإيمان وتقوى الله وتعظيمه أن يقول الرجل لما لا يعلم : لا أعلم -
حال الصحابة والسلف وتهيبهم من الفتوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله وحده له الخلق والأمر فلا خالق إلا الله ولا مدبر للخلق إلا الله ولا شريعة للخلق سوى شريعة الله، فهو الذي يوجب الشيء ويحرمه وهو الذي يندب إليه ويحلله، ولقد أنكر الله على من يحللون ويحرمون بأهوائهم.
فقال تعالى: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حلالاً وحراماً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة [يونس:59-60]. ويقول تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم [النحل:116-117].
أيها الناس: إن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء إنه حلال وهو لا يدري عن حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه حرام وهو لا يدري عن حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه واجب وهو لا يدري أن الله أوجبه، أو يقول عن الشي إنه غير واجب وهو لا يدري أن الله لم يوجبه.
إن هذا جناية وسوء أدب مع الله عز وجل. كيف تعلم أن الحكم لله ثم تتقدم بين يديه فتقول في دينه وشريعته ما لا تعلم. لقد قرن الله تعالى القول عليه بلا علم بالشرك به فقال سبحانه: قل إنما حرّم رَبِي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف:33].
أيها الناس: إن كثيرا من العامة يفتي بعضهم بعضا بما لا يعلمون فتجدهم يقولون: هذا حلال أو حرام أو واجب أو غير واجب وهو لا يدري عن ذلك، أفلا يعلم هذا الرجل أن الله سائله عما قال يوم القيامة. أفلا يعلم أنه إذا أضل شخصا فأحل له ما حرم الله أو حَرَمه مما أحلّ الله له فقد باء بإثمه وكان عليه مثل وزر ما عمله من إثم بسبب فتواه؟
إن بعض العامة إذا رأى شخصا يريد أن يستفتي عالما يقول له: ما حاجة أن تستفتي؟ هذا واضح. هذا حرام، مع أنه في الواقع حلال فَيحْرِمُه ما أحل الله له.
أو يقول هذا واجب فيُلْزمه بما لم يلزمه الله به أو يقول هذا غير واجب فيسقط عنه ما أوجب الله عليه، أو يقول هذا حلال وهو في الواقع حرام فيوقعه فيما حرم الله عليه، وهذا جناية منه على شريعة الله وخيانة لأخيه المسلم حيث غره بدون علم.
لو أن شخصا سأل عن طريق بلد من البلدان فقلت: الطريق من هنا وأنت لا تعلم لعد الناس ذلك خيانة منك وتغريرا، فكيف تتكلم عن طريق الجنة وهو الشريعة التي أنزل الله وأنت لا تعلم عنها شيئا.
وإن بعض المتعلمين يقعون فيما يقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم والإيجاب فيتكلمون فيما لا يعلمون ويُجْمِلون في الشريعة ويفصلون وهم من أجهل الناس في أحكام الله، إذا سمعتَ الواحد منهم يتكلم فكأنما ينزل عليه الوحي من جزمه فيما يقول وعدم تورعه، لا يمكن أن ينطق بلا أدري أو لا أعلم، مع أن عدم العلم هو وصفه الحق الثابت، وهذا أضر على الناس من العامة لأن الناس ربما يثقون بقوله ويغترون به، وليت هؤلاء يقتصرون على نسبة الأمر إليهم لا بل تراهم ينسبون ذلك للإسلام فيقول: الإسلام يقول كذا الإسلام، يرى كذا، وهذا لا يجوز إلا فيما علم القائل أنه من دين الإسلام، ولا طريق إلى ذلك إلا بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله أو إجماع المسلمين عليه.
إن بعض الناس لجرأته وعدم ورعه يقول عن الشيء المحرم الواضح تحريمه: ما أظن هذا حراما، أو عن الشيء الواجب الواضح وجوبه: ما أظن هذا واجبا، إما جهلا منه أو عنادا أو مكابرة أو تشكيكا للناس في ذلك.
أيها الناس: إن من العقل وإن من الإيمان وإن من تقوى الله وتعظيمه أن يقول الرجل عما لا يعلم لا أعلم لا أدري اسأل غيري، فإن ذلك من تمام العقل، لأن الناس إذا رأوا تثبته وثقوا به ولأنه يعرف قدر نفسه حينئذ وينزلها منزلها، وإن ذلك من تمام الإيمان بالله حيث لا يتقدم بين يدي ربه ولا يقول عليه ما لا يعلم.
ولقد كان النبي يسأل عما لم ينزل عليه فيه الوحي فينتظر حتى ينزل عليه الوحي فيجيب الله سبحانه عما سئل عنه نبيه: يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات [المائدة:4]. ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم ذكراً [الكهف:83]. يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو [الأعراف:187].
ولقد كان الأجلاء من الصحابة تعرض لهم المسألة لا يدرون حكم الله فيها فيهابونها ويتوقفون فيها، فها هو أبو بكر يقول: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم.
وها هو عمر بن الخطاب تنزل به الحادثة فيجمع لها الصحابة ويستشيرهم فيها وقال ابن سيرين لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي بكر ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر.
وقال ابن مسعود : أيها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم.
وسئل الشعبي عن مسألة فقال لا أحسنها فقال له أصحابه: قد استحيينا لك، فقال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالت: لا علم لنا إلا ما علمتنا.
وجاء رجل إلى مالك بن أنس أحد الأئمة الأربعة فقال: يا أبا عبد الله جئتك من مسافة بعيدة في مسألة حمّلني إياها أهل بلدي لأسألك. فقال: فسل. فسأله فقال: لا أحسنها. فبهت الرجل فقال: ماذا أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن.
وكان الإمام أحمد يسأل عن المسألة فيتوقف أو يقول: لا أدري أو يقول: سل غيري أو سل العلماء أو نحو ذلك.
فاتقوا الله أيها المسلمون ولا تقولوا في دين الله ما لا تعلمون: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
اللهم اعصمنا من الزلل ووفقنا لصواب القول والعمل، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/134)
فضل الاكتساب
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
صالح بن عبد الرحمن الأطرم
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بالكسب الطيب والعمل – الأخذ بالأسباب دون الاعتماد عليها – كيف يكون العمل المباح
عبادة – فضل عمل اليد والحض عليه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، والتزموا أوامره، واعلموا أن الله أوجد الإنسان عاملاً متحركًا وساعيًا كادحًا، متطلعًا لاكتساب المال وهو مأمور بذلك، ولكن أنيط به هذا الأمر بسمو المراد، وعلو الهمة، ونيل الغاية، وهذا يعني به اكتساب الطيب والحلال والعمل الشريف، مراعيًا فيه ما رسمته الشريعة من طرق الاكتساب، وقد جاءت النصوص تحث على العمل وتأمر به وتجعله سببًا لمورد الرزق والفوز في الدنيا والآخرة، وتربط العامل بمن عمل من أجله وهو ربه وخالقه وإلهه؛ لأن العامل والعابد حينما يعمل ويعبد وهو لا يراعي مراقبة ربه وعلمه فإن ذلك لا ينفعه، قال تعالى: لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً [مريم :42]، قالها حكاية عن إبراهيم مخاطبًا أباه وقومه، وقال تعالى: وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى? عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
على أن العامل مستعين بالله ومتوكل عليه، فالاعتماد على الأسباب يقدح بالتوحيد والعقيدة، والاستعانة بالله بدون فعل سبب عجز وغرور، قال تعالى: ?دْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، وقال : ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)) [1] ، فأنت أيها العامل عليك بفعل السبب المشروع كما أمرت، والله المهيئ والميسر حيث ربط المسببات بالأسباب، فشُكره وذِكره وطاعته وحسن عبادته والإخلاص فيها سبب لدخول الجنة، إذا تغمدك برحمته، والزواج سبب للولد، والحرث سبب للحب والثمرة، والبيع والشراء سبب لحصول النقود بيدك، وكذا الأعمال المهنية سبب لاكتساب النقود، ولكن إن وجدت النية الصادقة الصالحة لهذه الأعمال حتى يتقوى بها على طاعته سبحانه، واكتسبها على ما رسمته شريعة الله، فقصد بالزواج عفة الفرج، وغض البصر، وبالولد تكثير أمة محمد وعبيد الرحمن.
فهذا السعي النافع والعمل المثمر، وإن خلا عمله مما تقدم فالمسلم وغيره سواء، والإنسان والبهائم في الهدف سواء؛ لأن الكل يطلب الشبع عن الجوع، والري عن الظمأ، وهكذا حينما يصدق الإنسان في معاملاته، ويحفظ أماناته من أجل الإنسانية وتثبيت السمعة لم ينفعه ذلك في الآخرة.
وخير ما يبتغي به المرء الكسب الحلال من عمل بيده، أو تجارة ملتمسًا أوضح طريق مشروع لاكتساب المال، قال : ((يأتي زمان على أمتي لا يبالي فيه المرء من أين اكتسب المال من حلال أو من حرام)) [2] ، وهذا لا شك أنه ذم لمن يصاحبه الجشع وعدم المبالاة لاكتساب المال من أي طريق كان، قال في فضل الاكتساب: ((ما أكل أحد طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود – عليه والصلاة والسلام – كان يأكل من عمل يده)) [3] ، رواه البخاري، وابن ماجه، ولفظه قال: ((ما اكتسب ابن آدم كسبًا أطيب من عمل يده، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو صدقة)) [4] ، وقال : ((لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه)) [5] ، وسئل عليه الصلاة والسلام: أي الكسب أطيب؟ قال: ((عمل الرجل بيده ولك كسب مبرور... )) [6].
فالإسلام – أيها المسلمون – دين عمل ليس الإسلام بالخمول والكسل، وأنه يؤخر عن العمل، وأن صاحبه يركن إلى العجز والخور والجبن والبخل، التي هي شر الصفات. ولقد كان الرسول الكريم يتعوذ منهن صباحًا ومساءً: ((أعوذ بك من الهمِّ والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال)) [7].
فكيف يظن بالإسلام إذا شوهد بعض الخمول في أهله ظن السوء؟ وهذا كلام رسول الله وهو التعوذ من العجز والكسل، فهما مصدر كل شر، ومانعًا كل خير، فالعاجز الكسول منقطع عن خيري الدنيا والآخرة.
وانظر – أيها المسلم – إلى تخطيط نبي الله ونبي الهدى في سيره وأقواله وأفعاله.
وهناك نموذج منه ليكشف عن بصرك وبصيرتك غمامة الجهل ودياجير الظلام.
عن أنس : ((أن رجلاً من الأنصار أتى إلى النبي فسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حِلْسِ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقُعْب نشرب فيه الماء. قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله، وقال: من يشتري هذين. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه، ثم أخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا فائتني به. فآتاه فشد فيه رسول الله عودًا بيده، ثم قال للأنصاري: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يومًا، ففعل فجاء وقد أصاب عشر دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال النبي : هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة)) [8].
فاتقوا الله – أيها المسلمون - وشمروا عن سواعدكم، قال تعالى: فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ?لنُّشُورُ [الملك :15].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى? عَـ?لِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة :105].
[1] أخرجه مسلم ح (2664).
[2] أخرجه البخاري ح (2083).
[3] صحيح البخاري ح (2072).
[4] صحيح سنن ابن ماجه (2138).
[5] أخرجه البخاري ح (2074)، ومسلم ح (1042).
[6] أخرجه أحمد (4/141)، والحاكم (2/10) وقال: الشيخان لم يخرجا عن المسعودي ومحله الصدق.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/60 ـ 61): وفيه المسعودي وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.
[7] صحيح، أخرجه أبو داود ح (1555)، وعند البخاري ح (6363): ((... وضلع الدين، وغلبة الرجال)).
[8] أخرجه أبو داود (1641)، وابن ماجه (2198)، وفيه: أبو بكر الحنفي: لا يُعرف حاله. تقريب التهذيب (3748).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/135)
في شيء من آيات الله تعالى الدالة على قدرته
الإيمان, التوحيد, قضايا في الاعتقاد
الربوبية, الله عز وجل, معجزات وكرامات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله والتفكر في مخلوقاته وما فيها من الحكم والعبر-
من آيات الله عز وجل:
1- ما أجراه على يد عيسى ابن مريم من معجزات (إحياء الموتى – شفاء المرضى.. ).
2- الآيات في سورة البقرة في إحياء الموتى الذين قالوا أرنا الله جهرة – قصة البقرة -
( الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت – الرجل الذي مر على قرية خاوية -
إبراهيم والطير.. ) -
دلالة هذه الآيات على قدرة الله عز وجل وأنه على كل شيء قدير -
من آيات الله قصة منبوذ الأرض الذي قال : ما يدري محمد إلا ما كتبت له.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتفكروا في خلق السموات والأرض وما أودع الله فيهما من الآيات الدالة على كمال علمه وقدرته وتمام حكمته ورحمته فكم في السموات والأرض من آيات ظاهرة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه أحاط بكل شيء علماً لقد خلق السموات والأرض وما بينهما بما في ذلك من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والأنهار والبحار خلق ذلك كله في ستة أيام على أكمل وجه وأتم نظام ولو شاء لخلقه في لحظة واحدة، لكنه سبحانه اقتضت حكمته أن يكون في ستة أيام أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة: وربك يخلق ما يشاء ويختار [القصص:68]. إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [يس:82]. وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [القمر:50].
ولقد أرانا الله تعالى من عجائب آياته ما يكون آية للموقنين وعبرة للمعتبرين. لقد أخبر الله عن عيسى بن مريم أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، فيأتي إلى الرجل الميت ويأمره فيحيا ويتكلم ويخرج الموتى من قبورهم بإذن الله.
وقص الله علينا في سورة البقرة خمس حوادث كلها في إحياء الموتى فقال تعالى في قصة بني إسرائيل: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم [البقرة:55-56].
وفي قصة القتيل الذي قتله ابن عم له واتهم به قبيلة أخرى فأمرهم موسى أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها فيحيا ويخبرهم بقاتله: فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون [البقرة:73].
وفي قصة الذين نزل بديارهم وباء فخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذراً من الموت وفراراً من قدر الله، فأراهم الله تعالى أنه لا مفر من الله ومن قضائه: فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم [البقرة:243]. ليستيقنوا أنه لن يعجز الله أحد في السموات ولا في الأرض.
وفي قصة الرجل الذي مر على القرية وهي خاوية على عروشها مهدم بناؤها يابسة أشجارها هامدة أرضها فقال: أنّى يُحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وكان معه حمار، وطعام، وشراب.
فأما الحمار فمات وانجلى لحمه وجلده وبرزت عظامه تلوح، وأما الطعام والشراب فلم يتغير مع بقائه هذه المدة الطويلة في الشمس والهواء فقال الله لهذا الرجل: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه أي لم يتغير: وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً [البقرة:259].
فنظر إلى عظام حماره ينشزها الله يركب بعضها فوق بعض كل عظم في محله، ونظر كيف يرتبط بعضها ببعض، ونظر إلى اللحم يكسو هذه العظام فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير.
وفي قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين سأل الله تعالى أن يريه كيفية إحياء الله الموتى قال له: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك أي ضمهن وقطعهن أجزاء: ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ليتباعد ما بينهن ففعل ذلك ثم دعاهن فالتأمت أجزاء هذه الطيور كل جزء من طير إلى جزئه وكل ريشة في مكانها حتى تكاملت الطيور بلحظة وجاءت إلى إبراهيم تسعى وكانت رؤوسهن معه فاتصل كل جسم برأسه الذي خلقه الله له قبل ذبحه.
لقد أرى الله ذلك عباده في الدنيا وأخبر أن بعث العالم كله بعد موته هيّن على الله تعالى: ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة [لقمان:28]. وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [الروم:27]. يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده [الإسراء:52]. ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون [الروم:25]. إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضزون [يس:53]. فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة [النازعات:13-14].
هذا الخلق كله من أوله إلى آخره صغاره وكباره ذكوره وإنائه إذا أراد الله بعثهم دعاهم دعوة واحدة فخرجوا جميعا لا يتخلف أحد منهم يقول المجرمون منهم: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيقال هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
ومن آيات الله ما ذكره البخاري في صحيحه أن رجلاً نصرانياً أسلم في عهد النبي وكان يكتب للنبي ثم ارتد نصرانياً فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له. فأماته الله فدفنه أصحابه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا فحفروا له وأعمقوا، فلفظته الأرض مرة ثانية ثم حفروا له وأعمقوا ما استطاعوا، فلفظته الأرض مرة ثانية فعلموا أنه ليس ذلك من الناس، فتركوه منبوذا على ظهر الأرض.
فآيات الله كثيرة وقدرته عظيمة فاعتبروا أيها المؤمنون واتقوا من هذه قدرته وهذه آياته لعلكم تفلحون: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/136)
آيات الله الدالة عليه
الإيمان, التوحيد, قضايا في الاعتقاد, موضوعات عامة
الربوبية, الله عز وجل, مخلوقات الله, معجزات وكرامات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خلق السماوات والأرض في ستة أيام. 2- مراحل خلق الإنسان. 3- ميلاد عيسى المعجز.
4- قصص القرآن في إحياء الله الموتى بقدرته. 5- من هان عليه الخلق هان عليه البعث
والإعادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتفكروا في آياته الدالة على كمال قدرته، لتزدادوا بذلك تعظيما لله تعالى وعبادة، فلقد خلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما بما في ذلك الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والبحار والأنهار خلق ذلك كله في ستة أيام على أكمل وجه وأتم نظام ولو شاء لخلقها في لحظة واحدة كما قال الله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [النحل:40]. وقال تعالى: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [القمر:50].
ولكنه تعالى خلقها في ستة أيام لحكمة اقتضت ذلك وربك يخلق ما يشاء ويختار.
ولقد خلق الله تعالى الإنسان من سلالة من طين، خلق منها آدم ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ماء دافق يخرج من الصلب والترائب ثم يستقر في قرار مكين لا يعتريه شمس ولا هواء ولا حر ولا برد يطوره الله تعالى في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة الغشاء، أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك فإذا تمت هذه الأيام وهي أربعة أشهر أرسل الله تعالى إليه الملك الموكل بالأجنة، فنفخ فيه الروح فأصبح إنسانا بعد أن كان جمادا فتبارك الله أحسن الخالقين.
ولقد أرى الله تعالى عباده من آيات قدرته ما يكون آية للموقنين وعبرة للمعتبرين.
لقد خلق الله تعالى عيسى بن مريم من أم بلا أب وأقدره على النطق في المهد فتكلم بكلام من أفصح كلام البشر وأبينه قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً (1/137)
اليمين المشروعة وكفارتها
فقه
الأيمان والنذور
صالح بن عبد الرحمن الأطرم
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
معنى الأيمان , وكيفيتها , واليمين المشروعة – حكم اليمين الغموس وكفارتها -
كفارة اليمين – وكيف يكون حفظ الأيمان – حكم الحلِف بغير الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله، واعلموا أن الإيمان وقعت في كلام العرب، وهي جمع يمين، والمراد بها الحلف، والإنسان يحلف ليؤكد حكمًا بذكر معظم على وجه مخصوص، وهذا الأسلوب في كلام العرب، يقصد به تأكيد الكلام. وحروف القسم عندهم الواو والباء والتاء.. فيقولون: والله وبالله وتالله. كل هذه الألفاظ جارية على لسان العرب، إلا أن استعمالهم للواو أكثر. وإذا عرفنا الغرض من الحلف وسر ألفاظه، فلابد من معرفة الحلف المشروع الذي تجب فيه الكفارة، وما هي الكفارة؟
أيها المسلمون: اليمين المشروعة هي أن يحلف الإنسان باسم من أسماء ربه وصفاته، كأن يقول: وربي وخالقي، وحياة الله، وكلام الله، وعزة الله، والقرآن؛ لأن القرآن كلام الله، والكلام صفة من صفاته. فهذه هي اليمين المشروعة، فإن بر بيمينه ففعل ما حلف على فعله أو ترك ما حلف على تركه، كأن يقول: والله لأدرسن غدًا، فدرس. أو قال: والله لا أدرس غدًا، فلم يدرس. فلا شيء عليه ؛ لأنه وفَّى بيمينه، فإن خالف ما حلف عليه وهدَّ عقد اليمين من قلبه على مستقبل ممكن فعله أو تركه، وجبت عليه الكفارة ؛ لأنه حنث في يمينه.
أخي المسلم: أما الأيمان على اللسان من غير قصد، فهو لغو اليمين ولا كفارة فيها، قال تعالى: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?لَّلغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ [البقرة :225]، وفسَّرت هذا عائشة بقولها: كقول الرجل في بيته: لا والله، وبلى والله.
وإن حلف الإنسان على أمر ماض صادق فيه فهو بار في يمينه، فإن كان كاذبًا فهي الغموس، وقد سميت باليمين الغموس؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ولا كفارة لها إلا التوبة والندم. وليحذر المسلم من اليمين الغموس؛ لأن فيها وعدًا شديدًا في القرآن والسنة. اختصم الأشعث ابن قيس هو ويهودي في أرض، فقال الرسول للأشعث : ((ألك بينة؟)) قال: لا. قال: ((فلك يمينه)) قال الأشعث: إذًا يحلف ويأخذ مالي. فنزلت الآية الكريمة: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [1] [آل عمران :77]، وقال : ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه لقي الله وهو عليه غضبان)) قالوا: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيبًا من أراك)) [2].
أيها المسلمون: بعد أن عرفنا اليمين التي تجب فيها الكفارة، والتي لا تجب فيها، فالمراد بالتكفير إذا أراد الإنسان أن يخالف ما حلف عليه، أو خالفه وكان ذاكرًا مختارًا مكلفًا، ولم يقل في يمينه إن شاء الله، فإن قال: إن شاء الله أو خالف يمينه ناسيًا أو مكرهًا فلا شيء عليه.
والكفارة معناها محو الذنب ومغفرته، والمراد بها إطعام عشرة مساكين، لكل مسلم نصف صاع من وسط طعام البلد، يسلم لهم تملكًا، أو كسوتهم، فيكسي كل مسكين ما يكفيه في صلاته، أو تحرير رقبة، فإن لم يجد واحدة من هذه الثلاث فيصوم ثلاثة أيام، يخير الإنسان بين الثلاثة والصيام على الترتيب. قال تعالى: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?للَّغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ?لاْيْمَـ?نَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـ?كِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـ?ثَةِ أَيَّامٍ ذ?لِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَـ?نِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:89].
فالذي ينبغي للمسلم أن يحفظ يمينه بالبر والتقوى، وعدم الإكثار منها، والكذب فيها، والتكفير إذا وجبت الكفارة، قال تعالى: وَ?حْفَظُواْ أَيْمَـ?نَكُمْ [المائدة :89]، وقال تعالى: وَلاَ تَجْعَلُواْ ?للَّهَ عُرْضَةً لاِيْمَـ?نِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224].
وقال : ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) وذكر منهم الرجل الذي ينفق سلعته بالحلف الكاذبة، فلا يبيع الا بيمينه، ولا يشتري إلا بيمينه [3].
وعلى المسلم ألا يحلف إلا على خير، فلا يحلف على فعل محرم أو ترك واجب أو فعل مكروه كقطيعة رحم، وعدم فعل الخير، فإن فعل ذلك فلا ينفذ بل يكفِّر. قال : ((إني لأحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها فآتي الذي هو خير، وأكفِّر عن يميني)) [4] ، وقال تعالى: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22].
أيها المسلمون: إن المخلوق لا يجوز أن يحلف بغير أسماء الله وصفاته ؛ لأن الحلف بغير الله يتضمن تعظيم المحلوف به، ولا يجوز تعظيم أحد بهذه الصورة إلا الله، فالحلف بغير الله يخل بالعقيدة، جاء يهودي إلى النبي قال: إنكم تشركون وتنددون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة. فأمر النبي أن يقول: ورب الكعبة، وما شاء الله ثم شئت [5] ؛ لأن الواو تقتضي المساواة في الدرجة ولا أحد في درجة الله. وفهم اليهودي لهذا الشرك لكونه له هوى، وإلا فهو في كفر أكبر وشرك أعظم.
قال : ((لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)) [6]. والحلف بغير الله ينافي كمال التوحيد، ولقد نبه الشيخ محمد بن عبد الوهاب على هذه المسألة في دعوته التي حماها آل سعود. جزى الله الجميع خيرًا.
ومما هو شائع على ألسنة كثير من المسلمين من الحلف بغير الله كقولهم: وحياتك، والكعبة، والشرف ورأسك، والنبي، ونحو ذلك.
فعلى من يفعل ذلك لكونه اعتاده لسانه، أو جاهلاً أو قاصدًا أن يتقي الله، ويترك كل ما يخل بعقيدته، والرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة. نسأل الله ان يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ?للَّهُ بِ?لَّلغْوِ فِى أَيْمَـ?نِكُمْ وَلَـ?كِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة :225].
[1] أخرجه البخاري ح (2417، 2516، 2667)، ومسلم ح (138).
[2] أخرجه مسلم ح (137) ولفظه: ((... فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة...)). وعند البخاري ح (2357): ((من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو عليها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)). وعند مسلم (138) نحوه. وليس فيه ذكر الأراك.
[3] رواه مسلم ح (7446).
[4] أخرجه البخاري ح (6623)، ومسلم ح (1649).
[5] صحيح، أخرجه أحمد (6/371 ـ 372)، والنسائي ح (3773).
[6] أخرجه البخاري ح (7401) دون قوله: ((أو ليصمت))، ومسلم ح (1646) ولفظه: ((ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم...)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/138)
الإيمان بالقدر الاحتجاج به
الإيمان
القضاء والقدر
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بتقوى الله والإيمان ، وبيان أركانه -
من الإيمان: الإيمان بقضاء الله وقدره ، ومعناه -
وجوب الإيمان بكمال علم الله وسعته ، وكمال حفظه ورعايته -
وجوب الإيمان بنفاذ مشيته سبحانه ، وعموم خلقه لكل شيء -
لا يصح الاحتجاج بالقدر على المعاصي والتهاون بالواجبات ، والدليل على ذلك:
1- لو كان القدر حجة لم ترتفع بإرسال الرسل. 2- أن هذه حجة المشركين بالدنيا والله ما
أشركنا. 3- عدم الاحتجاج بالقدر في الأمور الدنيوية ( الرزق – الزواج – الاختبارات.. )
فلماذا الاحتجاج به في حق الله -
وجوب العمل وسؤال الله الهداية.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، ودبر عباده على ما تقتضيه حكمته وكان لطيفا خبيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وكان على كل شيء قديرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة وبشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وآمنوا برسوله، فالإيمان أن يؤمن العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله [البقرة:285].
ومن الإيمان أن تؤمنوا بقضاء الله وقدره، فآمنوا بأن الله بكل شيء عليم، عَلِمَ ما كان في الماضي وما سيكون في المستقبل علم ذلك جملة وتفصيلا لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه [ق:16].
آمنوا بكمال علم الله وسعة علمه، وآمنوا بكمال حفظه وتمام رعايته وأنه كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ما سيكون إلى يوم القيامة فإن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب، قال: أكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير [الحج:70]. ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير [الحديد:22].
أيها المسلمون: آمنوا بمشيئة الله في عموم ملكه فإنه ما من شيء في السماوات أو في الأرض إلا وهو ملك لله عز وجل: لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير [المائدة:120].
وما من شيء في ملكه إلا وهو بمشيئته وإرادته، فبيده الملك وبيده مقاليد السماوات والأرض ما من شيء يحدث من رخاء وشدة وخوف وأمن وصحة ومرض وقلة وكثرة إلا بمشيئته سبحانه وتعالى.
وآمنوا أيها المسلمون بعموم خلق الله لكل ما في السماوات والأرض: الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل [الزمر:62]. والله خلقكم وما تعملون فإن الله خالق السماوات والأرض ومدبرهما وخالق الإنسان ومدبره، فللإنسان عزيمة وإرادة وله قدرة وعمل، والذي أودع فيه تلك العزيمة وخلق فيه تلك القدرة هو الله عز وجل، لو شاء لسلبه الفكر فضاعت إرادته ولو شاء لسلبه القدرة فما استطاع العمل.
أيها المسلمون: إن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة لا يتم الإيمان إلا به، لكنه ليس حجة للإنسان على فعل معاصي الله أو التهاون بما أوجب الله.
وجه ذلك أن الله أعطاك عقلا تتمكن به من الإرادة وأعطاك قدرة تتمكن بها من العمل فلذلك إذا سلب عقل الإنسان لم يعاقب على معصية ولا تَرْكِ واجب، وإذا سلب قدرته على الواجب لم يؤاخذ بتركه.
إن الاحتجاج بالقدر على المعاصي أو ترك الواجبات حجة داحضة باطلة أبطلها الله في كتابه، ويبطلها العقل والواقع. أبطلها الله في كتابه فقال تعالى: رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولو كان القدر حجة لم ترتفع بإرسال الرسل، لأن القدر ثابت مع إرسال الرسل. وقال تعالى: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون.
فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة صحيحة وعذرا مستقيما لما أذاق الله المحتجين به على شركهم بأسه لأن الله لا يظلم أحدا.
إن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وترك الواجبات حجة داحضة يبطلها العقل، وذلك لأن المحتج بالقدر ليس عالما بالقدر فيبني عمله عليه، فكيف يحتج بما ليس له تأثير في فعله، إذ لا تأثير للشيء في فعل الفاعل حتى يكون عالما بهذا المؤثر.
ولو أن أحدا اعتدى على شخص بأخذ ماله أو قتله وقال هذا شيء بقضاء الله وقدره لم يقبل المعتدي عليه ولا الناس عذره، فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر من غيره إذا اعتدي عليه ويحتج به لنفسه إذا اعتدى على حق الله.
إن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وترك الواجبات حجة داحضة يبطلها الواقع فإن كل شخص يرغب الوظيفة إذا سمع بمسابقة عليها جائزة سعى في ذلك حتى يصل إلى الوظيفة، وإن وصوله إلى الوظيفة حاصل بقضاء الله وقدره بلا شك، ومع ذلك فقد سعى للوصول إليها بما يستطيع من الأسباب، ولم يترك العمل للوصول إليها، فلماذا يترك ما أوجب الله عليه وهو قادر على فعله، عالم أنه يوصله إلى رضوان الله والجنة ثم يحتج بالقضاء والقدر لماذا لم يسع للوصول إلى الجنة كما سعى للوصول إلى الوظيفة وإلى المعيشة.
وإننا في أيام الامتحان لنرى الطلاب الذين يريدون النجاح يسهرون الليل ويتعبون النهار في المراجعة ليصلوا إلى النجاح، وما أحد منهم يريد النجاح فيترك المراجعة احتجاجا بالقضاء والقدر، فكيف يصح أن يترك الإنسان ما أوجب الله عليه وهو يعلم أنه يوصله إلى رضوان الله والجنة ثم يحتج بالقضاء والقدر.
وإننا لنرى الشخص يحجب عن نوع معين من الطعام يضره أكله ونفسه تشتهيه فيتركه خوفا من مضرته ولا يمكن أن يقدم عليه ويحتج بالقضاء والقدر، فلماذا يقدم على المعصية وهي تضره ثم يحتج بالقضاء والقدر؟
إن الإنسان العاقل كلما تأمل الواقع وقاس الأمور بعقله ونظر في كتاب الله وسنة رسوله علم علما يقينا أن لا حجة للإنسان بقضاء الله وقدره على ما يفعله باختياره، وأن الاحتجاج بذلك على ترك الواجب أو على فعل المحرم حجة داحضة باطلة لا يفعلها إلا الباطلون المكابرون.
أما الأمور غير الاختيارية كالموت والمرض وسقوط شيء على الإنسان حتى يقتله أو نحو ذلك فهذا حجة للإنسان، ولذلك لا يؤاخذ الله المجنون على ما ترك من الواجبات أو فعل من المحرمات، ولا يؤاخذ الله العبد على ما فعله من محرم جاهلا به أو ناسيا لأنه ليس مختارا لفعله لو علم بتحريمه.
فاتقوا الله أيها المسلمون وآمنوا بقضاء الله وقدره واجعلوه وسيلة لكم إلى الاستعانة بالله وطلب الهداية منه لأن بيده أزّمة الأمور ومقاليدها فإن الصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي أفلا ندع العمل ونتكل على القضاء قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى [الليل:5-10] )) [والحديث رواه البخاري].
فاتقوا الله عباد الله ولا تجعلوا قدر الله حجة لكم على شريعته ومخالفته، فتضلوا ضلالا بعيدا وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/139)
القوة البدنية للمسلم من مطالب الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
صالح بن عبد الرحمن الأطرم
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
الصحة وقوة البدن من مطالب الإسلام – اهتمام الإسلام بتقوية البدن والحث على أنواع من
الرياضة , وهدف ذلك – بعض مظاهر الخلل والانحراف في أنواع الرياضات الحديثة وآثارها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن من سعادة الإنسان المسلم في هذه الدنيا، أن يصرف ما أعطاه الله من الصحة في البدن في طاعته، وما رزقه من الأمن في التزود من التقوى، من العمل بما يحب ويرضى، وبهذا يصبح المسلم قد راعى شكر هاتين النعمتين بدلاً من جحدهما، قال : ((نعمتان مجحودتان: الصحة في البدن، والأمن في الأوطان)) [1] ، وعلامة الشقاوة جحد هاتين النعمتين بأن لا يقوم بشكرهما. فالصحة والقوة في البدن مطلب من مطالب الإسلام،فلقد كان رسول الله أقوى المؤمنين بدنًا، كما كان أقواهم في إيمانه،وقد قال : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)) [2] ، ثم بين ما تستعمل فيه هذه القوة، وهو العمل فيما يعود على الإنسان من المصلحة الدينية والدنيوية، وما يثيب عقيدته وصلته بربه فقال: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن فاتك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا، لكان كذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) [3].
ولقد دعا الإسلام إلى الرياضة البدنية إذا كانت عونًا على طاعة الله وعلى طاعة رسول الله، وعلى جهاد الكفار وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، كما دعا إلى تعلم الرماية، وركوب الخيل، والمسابقة فيهما، والمسابقة على الإقدام، والمصارعة، فلقد سابق عائشة مرتين، فسبقته في الأولى، وسبقها في الثانية [4] ، والرياضة مشروعة أيضًا في الشرائع السابقة كما قال تعالى عن إخوة يوسف: إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَـ?عِنَا [يوسف :17].
ومثل هذا السباحة؛ لأنها ترويض للبدن، وتمرين للأعضاء وأمنٌ من الغرق، وقد ألحق بعض العلماء في الرياضة الجائزة حمل الأثقال والقفز ما لم يصل إلى حد هلاك النفس أو حد الشعوذة، حتى إذا احتاج المسلم لنفسه في حرب الكفار كان قويًا في بدنه، كما يطلب منه أن يكون أمينًا في عقيدته وعمله، وهاتان الصفتان هما صفة الأنبياء وأتباعهم. قال تعالى في موسى – عليه السلام -: إِنَّ خَيْرَ مَنِ ?سْتَجَرْتَ ?لْقَوِىُّ ?لامِينُ [القصص :26]. وقد دل على قوة بدنه رفع الصخرة التي لا يرفعها إلا العشرة من أقوى الرجال، وصارع الرسول (ركانة) وهو من أقوى الكفار وأشدهم على قطيع من الغنم، فصرعه الرسول في المرة الأولى، والثانية، والثالثة، ثم قال: والله ما وضع جنبي على الأرض غيرك يا محمد، فعرف (ركانة) أن قوة بدن محمد ما هي إلا قوة إيمانه، وثبات قلبه، لذا أسلم ركانة ، فقال الرسول : ((إن الغنم هي لك)) [5].
وقال في أتباع الأنبياء: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الفتح:29]. وقال سبحانه آمرًا المسلمين بإعداد القوة للكفار: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال :60]. وبين أن النفقة في هذا السبيل مخلوفة ومُوفّا جزاؤها قال تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال:60]، قال بعض المفسرين: إن هذه الآية نزلت في المسلمين يوم بدر؛ لما قصدوا الكفار من غير استعداد ولا عدة فأمرهم الله بأن لا يعودوا لمثله. ثم فسروا القوة باتخاذ السلاح، وإيجاده بأيد المسلمين، واتخاذ الحصون والجنود في الثغور، وتعلم الرماية. قرأ النبي هذه الآية على المنبر فقال: ((ألا إن القوة الرمي)) [6] ، قالها ثلاثًا. وقال لما مر على صبية يتعلمون الرماية: ((ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا)) [7] ، ويشتمل تعلم الرماية لكل آلة أعدت لذلك من بنادق وغيرها؛ لأن الإعداد إنما يكون مع الاعتياد، وإذا من لا يحسن الرمي ولا أساليب الحرب التي تتطلبها الحروب في هذه الأوقات لا يسمى معدًا للقوة.
وجوز النبي بذل العوض على المسابقة بالخيل والإبل والرمي؛ لما فيها من العون على الجهاد في سبيل الله، وتعلم الكر والفر والأصابة، وقد جعلها من اللهو الجائز، بل هو حق، وأبطل سواها، قال : ((كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رمية بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو مداعبته امرأته، فإنه من الحق)) [8].
وكره كراهية شديدة لمن تعلم الرمي أن يتركه، لما في الصحيح عن النبي أنه قال : ((ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب اليَّ أن تركبوا، ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا)) [9] ، وقال أيضًا: ((ومن تعلم الرمي ثم تركه، فهي نعمة كفر بها)) [10] ، وسبب هذه الكراهية أن من تعلم الرمي حصلت له أهلية الدفاع عن دينه، ونكاية العدو، وتأهيل لوظيفة الجهاد، فإذا تركه فرط في القيام بما يتعين عليه.
فإذا عرفنا جواز الرياضة البدنية فيما تقدم، وذلك بما يعود على الإسلام والمسلمين بالمصلحة، فهي طاعة رغب فيها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: السبق والصراع ونحوها طاعة إذا قصد بها نصرة الإسلام، وأخذ السبق عليه أخذ بالحق، ولما فيه من تعلم الرماية وركوب الخيل من العون على الجهاد في سبيل الله، ويدل عليه قوله : ((من رمى بسهم بنية الجهاد في سبيل الله كان له ثواب تحرير رقبة)) [11] ، أي: عتقها، وإن من الأهداف السامية للقوة البدنية في المسلم: إغاظة الكفار لعلمهم اليقيني بأن المسلم سيستعمل قوته في طاعة الله، وفي جهادهم فلقد قال الكفار حينما أراد النبي عمرة القضاء: سيأتيكم محمد وأصحابه قد أوهنتهم حمى يثرب، فأوحي إلى الرسول بذلك فأمر الصحابة بأن يمشوا المشي السريع، متقارب الخطى في الثلاثة أشواط الأولى من الطواف، والكفار على جبل أبي قبيس، الذي يطل على الكعبة ينظرونهم، فماتوا بغيظيهم وقالوا كأنهم غزلان ما ضرتهم الحمى [12] ، ومن هنا شرع الرمل في الطواف عند قدوم مكة؛ ليعرف المسلمون الهدف الذي رمل من أجله الرسول – عليه والصلاة والسلام -.
أيها الأخ المسلم: إن البدن ليس ملكًا لك تصرفه حسب الهوى والشهوة، وهو ملك لله تصرف قوته وحركاته وسكناته في طاعة من خلقه، فما ألهى وأشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة، وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب فكله حرام.
وقال بعض العلماء: (من وثب مرحًا ولعبًا بلا نفع فانقلب فذهب عقله، عصى وقضى الصلاة). فما كان من الرياضات الجائزة جاز صرف المال والقوة فيها، وما كان من الرياضات الممنوعة التي تشتمل على أنواع المحرمات فصرف الأموال فيها غير جائز، وإن مما تشتمل عليه الرياضات في وقتنا الآن خلو النية الصالحة،والقصد الصحيح للتقوي على الجهاد في سبيل الله، إذ لو كان كذلك لما حصلت هذه المحرمات، كانكشاف بعض العورات من الأفخاذ، الله أكبر، أعلى البدن مستور، وبعض العورة مكشوف، فأين هذا من تعاليم الإسلام ؟!
ثانيًا: لو قصد بها المعنى الصحيح لما تركت الصلاة، ولما تساهل عنها من اللاعبين والمشجعين، والله أكبر، ما أعظم المسلمين لو كان اللعب فيما يعود عليهم بالمصلحة، وإذا حان وقت الصلاة ورفع الأذان، وأقيمت الصلاة، وحرم من لم يصل من اللعب والمشاهد، والله أكبر، لو قصد المسلمون برياضاتهم وألعابهم الصحيح، فهل يبيحون تقبيل اللاعبين ؟! والله أكبر، لو قصد بالمباراة بين النوادي إظهار قوة المسلمين وشجاعتهم وأنهم أصحاء أقوياء؛ لَما زرع الحقد بينهم! ولما حدثت الخصومات بين الفرقاء! ولما جرحوا شعور الآخرين! ولما أبدوا الإعجاب والفخر حينما يفوز بزعمهم الفائزون!!
وإن آثار هذه الألعاب السيئة ليظهر على الشباب في الأسواق والمدارس، والعجائز في البيوت، لو علم هؤلاء أن الصياح وتشجيع الفائزين في الألعاب والرياضات بالتصفيق والضجيج ينشأ عنه إعجاب الفائزين، وجرح شعور المغلوبين، وهدف الإسلام إيجاد المحبة والألفة بين أفراد المسلمين، فإذا غلب أحدهم في الرياضات الجائزة أخذ العوض الذي أعد للسابق، دعى للمسبوق بالتوفيق والسداد.
أسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يرفع عنا البلاء، وأن يوفق المسؤولين عن الرياضات في بلادنا بأن يسلكوا بها الطريق الصحيح الذي يرضي الله ورسوله، ويصرفوا أوقاتهم وأموالهم وأبدانهم في طاعة الله، فلقد أخذت الكثير من أوقات الشباب، وألهتهم عن دروسهم، ومراجعة علومهم، وليت القائمين على أمر الشباب والرياضة قللوا منها بعض الشيء ومارسها طلابنا وشبابنا في فترات إجازاتهم،بحيث تكون على الطريقة المرضية التي تسعد المسلمين.
فلنتق الله في كل أمورنا، ولنتأس بهدى وتعاليم ديننا، ولنستفد من الرياضة بجميع أنواعها، ولتكن غايتنا رضاء الله ونصرة الإسلام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فِى سَبِيلِ ?للَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال :60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1]
[2] أخرجه مسلم ح (2664).
[3] أخرجه مسلم ح (2664).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (6/264)، وأبو داود ح (2578).
[5] حديث مصارعة الرسول لركانة أخرجه أبو داود ح (4078)، والترمذي ح (1784) وفيه ضعف يتقوى بشواهد أخرى.
أما القصة فرواها البيهقي في سننه (10/18) مرسلة عن سعيد بن جبير، قال البيهقي: " وهو مرسل جيد، وقد روى بإسناد آخر موصولاً، إلا أنه ضعيف والله أعلم". انظر ارواء الغليل (1503).
[6] أخرجه مسلم ح (1917).
[7] أخرجه البخاري ح (2899).
[8] أخرجه أحمد (4/146، 148)، وأبو داود ح (2513)، والترمذي ح (1637)، والنسائي ح (3578)، وابن ماجه ح (2811) وفي سنده خالد بن يزيد: مقبول. تقريب التهذيب (1704)، وعبد الله بن الأزرق: مقبول. تقريب التهذيب (3354).
[9] جزء من الحديث السابق.
[10] جزء من الحديث السابق، وعند مسلم ح (1919) عن عقبة بن عامر أن رسول الله قال: ((من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو قد عصى)).
[11] صحيح، أخرجه أحمد (4/113)، والترمذي بمعناه ح (1638)، والنسائي ح (3143) والحاكم (2/95) وقال: صحيح. ووافقه الذهبي وجميعهم لم يذكروا النية.
[12] أخرجه البخاري ح (1602، 4256)، ومسلم ح (1266)، وأبو داود ح (1885 ـ 1886 ـ 1889)، والنسائي ح (2945) وابن ماجه (2953) وعند أصحاب السنن زيادة عما في الصحيحين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/140)
في الحذر من أعداء المسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بتقوى الله وشكره على نعمة الإسلام -
تكالب الأعداء على الإسلام من أول يوم ، إلى يومنا هذا ، وصور ذلك ، وبعض أقوالهم في
ذلك. خوف الكفار اليوم من الإسلام لا من المسلمين -
خطورة سفر الشباب إلى بلاد الكفار ، واستغلال الأعداء لذلك -
حقيقة الدنيا وسرعة تقلبها ، وقرب الموت ، وعدم الاغترار بدنيا الكفار -
لا يجوز الذهاب إلى بلاد الكفار ، ولا الاعتداد بالنفس والثقة بها وأنها لن تتأثر ، ودليل ذلك من
قوله صلى الله عليه وسلم : (( من سمع بالدجال فلينأ عنه.. )) -
نماذج من المنتكسين ممن ذهب إلى بلاد الكفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعمة الإسلام التي لا يعدلها نعمة، تلك النعمة التي ضل عنها كثير من الناس، وهداكم الله تعالى بمنه إليها، تلك النعمة التي عشتم عليها وعاش عليها آباؤكم، فلم يجر ولله الحمد على بلادكم استعمار مستعمر جاس خلال الديار بجنوده وعتاده فخرب الديار وأفسد الأديان والأفكار، اشكروا الله تعالى على هذه النعمة وحافظوا على بقائها واستمرارها واسألوا الله الثبات عليها وإياكم أن تتعرضوا لما يزيلها ويسلبها منكم فتخسروا دنياكم وآخرتكم.
عباد الله: إن الإسلام منذ بزغ نجمه، وأعداؤه يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون من قوة: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، فلقد حاول أعداء الإسلام أن يقضوا عليه في عهد النبي ثم في عهد خلفائه الراشدين ثم في العصور التالية إلى وقتنا هذا، حاولوا القضاء على الإسلام وبني الإسلام بالعنف والصراع المسلح تارة وبالمكر والخداع والخطط والهدامة تارة أخرى.
ولسنا مجازفين عندما نقول ذلك فبين أيديكم التاريخ يشهد بما نقول وبين أيديكم شهادة أعظم وأصدق وهي شهادة الله تعالى في كتابه وكفى بالله شهيدا.
وليست هذه المحاولة من أعداء المسلمين من صنف واحد منهم ولكن من سائر أصناف الأعداء من المشركين واليهود والنصارى وسائر الكفار والمنافقين، اسمعوا ما قال الله تعالى في المشركين وهم يفتنون الناس عن دينهم: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبر وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [البقرة:217].
وقال في اليهود والنصارى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير [البقرة:120].
وقال فيهم أيضا: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، وقال في سائر الكفار: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين ، وقال في المنافقين: فما لكم من المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونوا سواء [النساء:88-89].
فهذه أيها المسلمون شهادة الله تعالى على أعدائكم بما يريدون منكم وما يحاولونه من صدكم عن دينكم، وأي شهادة أعظم من شهادة الله، وأي شهادة أصدق من شهادته، فهو العليم بنيات عباده وأحوالهم، وإن التاريخ في ماضيه البعيد لن يخفي ما شهد الله تعالى به عليهم كما نطق به في وقته الحاضر على ألسنة قادة الكفر السياسيين والمفكرين.
قال أحد رؤساء الوزارة البريطانية سابقا: لن تستطيع أوروبة السيطرة على الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان ما دام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين.
وقال الحاكم الفرنسي في الجزائر قبل استقلالها: لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون بالعربية فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم ونقتلع العربية من ألسنتهم.
هكذا يغري قادة الكفر بإزالة القرآن من الوجود، وهم لا يعنون إزالة نسخ القرآن من أيدي المسلمين إنما يريدون أن يزيلوا من المسلمين روح القرآن والعمل به حتى لا يبقى بين المسلمين من القرآن إلا رسمه ولا من الإسلام إلا اسمه.
وقال رئيس جمعيات المنصرين في مؤتمر القدس المنعقد قبل أكثر من أربعين عاما يخاطب جماعة التنصير إن مهمتكم ليس في إدخال المسلمين في النصرانية. إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها.
هذا أيها المسلم كلام قادة الكفر في الغرب فماذا عن كلام قادة الكفر في الشرق؟ لقد كتبت إحدى الصحف الشيوعية في روسيا تقول: من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام نهائيا.
فكفار الشرق والغرب كلهم أعداء للإسلام كلهم يريدون القضاء عليه، لأنه هو الذي يخيفهم ويرعبهم كما أقر به أحد رؤساء الوزارة البريطانية في كلامه السابق.
وقال أحد المسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية قبل أكثر من ست وعشرين سنة إن الخطر الذي يهددنا تهديدا مباشرا وعنيفا هو الخطر الإسلامي.
ولا تعجبوا أيها الأخوة من تصريح هؤلاء بالخوف من الإسلام فإن الله يقول: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركين.
وجماعة الكفر لا يخافون من المسلمين اليوم، لأن المسلمين اليوم في حال يرثى لها من الضعف والذل، ليس لهم هيبة ولا منهم خوف بسبب تفرقهم في دينهم وإعراض الكثيرين منهم عنه، وإنما يخاف جماعة الكفر من الإسلام نفسه، فوالله لو أن المسلمين طبقوا الإسلام عقيدة وعملا لملكوا مشارق الأرض ومغاربها قال الله تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين.
أيها المسلمون: إذا كان قادة الكفر في الشرق والغرب يخافون ذلك الخوف من دينكم فسيحاولون سلبه عنكم بكل وسيلة كما فعلوا ويفعلون.
وإن من أكبر الوسائل وأعظمها خطرا سفر الشباب إلى بلاد الكفر، حيث يذهب إليهم شباب ناشئ في عنفوان شبابهم وفي وقت تطلعهم إلى الاستقلال الفكري والعملي، قابل للتوجيه الجديد فكرا وسلوكا، غير متحصن بحصانة قوية من علم أو دين أو تجربة، تغره المظاهر وتجذبه الدعاية وتجترفه الشبهة التي تلقى بين يديه في دينه وسلوكه وعاداته.
يذهب هؤلاء الشباب إلى بلاد الكفر لا ذهاب الدعاة إلى الإسلام المرشدين للخلق، ولكن ذهاب التلميذ المستلهم المتلقف لما يلقى إليه وبطبيعة التلمذة سيكون قابلا لما يلقى إليه على عِلاّته عاجزا نفسيا أو اضطراريا عن مناقشة أستاذه، فليقل ما شاء.
وإن الخطر على هؤلاء الذاهبين إليهم كما يكون في حقول التعليم يكون كذلك في إقامتهم في بلاد كفر لا يسمعون فيها أذانا ولا يشاهدون مساجد تقام فيها شعائر الإسلام، وإنما يسمعون أجراس النواقيس ويشاهدون معابد اليهود والنصارى ومسارح اللهو ومعاقل الخمر والفساد وعبادة المادة، فيرجع الكثير من هؤلاء وقد انقلب في دينه رأسا على عقب ولوثوا أدمغتهم بقذارة الكفر والإلحاد والشك في دين الإسلام ورسوله وشريعته.
فيا أيها الشاب المسلم يا من ولدت في الإسلام وربيت عليه، يا من عشت بين أبوين مسلمين على الفطرة، يا من ترددت في أرض المسلمين صباحا ومساء تسمع الأذان وتصلي مع المسلمين يدوي في جوك خمس مرات في اليوم والليلة قول: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح.
أنت الآن على مَقْرُبةٍ من الشهادة الإعدادية أو التوجيهية شهادة المتوسطة أو الثانوية فلا تلق بدينك إلى التهلكة حين تذهب إلى بلاد كفر لا تسمع فيه مؤذنا ولا تشهد جماعة ولا ترى مساجد يذكر فيها اسم الله تعالى، وإنما هو الكفر واللهو والغفلة والإعراض عن الله تعالى أهلها كما قال الله تعالى فيهم: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم [محمد:12]. يتمتعون بما أوتوا من زهرة الدنيا، فإذا ماتوا فالنار والعذاب يقال لهم إذا عرضوا عليها: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون [الأحقاف:20].
أيها الشباب المسلم ألم تعلم أن هذه الحياة الدنيا التي تعيشها ليست هي الحياة سواء عشتها هنا أو هناك.
ألم تر ما فيها من تنغيص وكدر ومحن وفتن؟ ألم تر الموت يتخطف شبابا وكهولا وشيوخا صباحا ومساء؟
إنما الحياة يا أخي حياة الآخرة كما قال ربك عز وجل: يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي [الفجر:23-24].
وكما قال نبيكم : (( لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)).
أتدري ما مقدار السوط؟ إنه يبلغ حوالي متر واحد وهو في الجنة خير من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها بكل ما فيها من زهرة وترف وجاه ورئاسة وملك، لأن نعيم الجنة يبقى، وزهرة الحياة تفنى.
أيها الشاب المسلم: لقد سمعت وقرأت عن قادة الكفر ماذا يريدون لدينك من القضاء عليه ودينك إنما يتمثل بك أنت فأنت محله وأنت حامله، وسيحاولون أن ينزعوه من قلبك فتصبح خاليا من الدين خاويا من الحياة.
فهل تطيب نفسك أن تسلم إليهم قيادها ليوجهوك كيف شاؤا؟ لعلك تغتر بالأماني فتقول: أنا ولله الحمد مؤمن فلا يمكن أن تخدعني دعاياتهم. وهذا قول طيب لكن الإنسان يشعر بأنه قوي على التخلص من البلاء حين يكون في عافية منها بعيدا عن مواقعه، فإذا قرب منه وابتلي به تغيرت حاله وضعفت قوته ونفد صبره فلم يمكنه تخليص نفسه.
استمع إلى قول النبي : ((من سمع بالدجال فلينأ عنه ( أي فليبعد عنه) فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه بما يبعث به من الشبهات)).
وهكذا نقول لك أيها الشاب بالنسبة لذهابك إلى بلاد الكفر تظن أنك تقوى على التخلص من البلاء بما في قلبك من الإيمان وأنت في بلاد الإسلام، ولكن إذا حللت في بلاد الكفر فقد تتغير الحال فابعد عن الشر تقرب من السلامة.
وانظر إلى من ذهب من الشباب إلى بلاد الكفر وهو مستقيم على دينه، فرجع من بلاد الكفر منحرفا عنه متغيرا في عقيدته منسلخا عن عبادته، ذهب إلى بلاد الكفر وهو يفخر بالإسلام ورجع وهو يسخر به، ذهب إلى بلاد الكفر وهو يقيم الصلاة ويقوم بشرائع الإسلام فرجع لا يقيم الصلاة ولا يقوم بشرائع الإسلام. أفلا تخشى إذا ذهبت إلى بلاد الكفر أن يصيبك مثل ما أصاب هذا فتخسر دنياك وآخرتك.
أيها الشاب المسلم: إن بقائك في بلادك وهجرك لبلاد الكفر لا يفقدك العلم ولا ينقصك الاستزادة منه، فهذه حكومتك وفقها الله تعالى وزادها رشدا وصلاحا وحماية وإصلاحا قد هيأت لك بما أنعم الله به عليها من مال يذلل لها المصاعب ويلبي لها المطالب، هيأت لك كليات في جامعات تغنيك عن السفر إلى بلاد الكفر وتبقيك في دار الإسلام قريبا من أهلك وأقاربك وأصدقائك في راحة تامة وطمأنينة وأمن على دينك، ولك فيمن تخرجوا منها واحتلوا المراكز اللائقة ولم يفتهم شيء مما قدر لهم من الدنيا، لك فيهم أسوة ولك فيمن ذهبوا إلى بلاد الكفر فتغيرت أديانهم عبرة.
ففكر أيها الشاب المسلم بهذا الأمر الخطير تفكيرا جديا بعيد المدى ولا تعدل بسلامة دينك شيئا فهو رأس مالك، بل هو حياتك وحكمة وجودك كما قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/141)
في تحقيق نصر الله لمن ينصره
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بتقوى الله والصدق مع الله ، وكيفية ذلك -
كيفية نصر المرء الله تعالى : (بالانتصار على نفسه الأمارة – التغلب على الهوى – الغيرة
لدينه وحرماته) -
نصر الله للصحابة ووعده لعباده المؤمنين بالتمكين لهم وشروط ذلك كما في الآية -
نماذج من نصر الله لعباده المؤمنين:
1- نصر في الدفاع والخلاص : غزوة الأحزاب.
2- نصر في الطلب والغلبة : كرامة الله لسعد بن أبي وقاص في عبوره وجيشه النهر في طلب
الفرس -
نصر الله للأمة عندما كانت قائمة بأمره ، وخذلانها لما أعرضت عن دينها ، وضياع القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين، اصدقوا الله تعالى في عقائدكم وفي نياتكم في أقوالكم وفي أفعالكم، عاملوا الله تعالى كما أمركم أن تعاملوه به، اعبدوه مخلصين له الدين، التزموا شريعته غير مغالين ولا مفرطين، انصروا الله تعالى بالانتصار على أنفسكم الأمارة بالسوء والتغلب على أهوائكم التي تهوي بكم إلى النار.
انصروا الله تعالى بالغيرة لدينه وحمايته والذود عنه فإن الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [محمد:7]. كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز [المجادلة:21]. وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [النور:55]. ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:40-41]. ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين [الأنبياء:105-106].
فيا أمة القرآن يا أمة محمد يا أمة التوحيد والإيمان: إن ما سمعتم من هذه الآيات الكريمة وهذه الوعود المؤكدة الصادقة إنها لكلام ربكم العليم القدير القوي العزيز، ولقد صدق الله وعده وأنجز نصره وهزم الأحزاب وحده.
لقد كان ذلك حينما كانت الأمة الإسلامية قائمة بالشرط المشروط عليها للنصر تؤمن بالله ورسوله وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالنصر من عند الله عز وجل لأنها تؤمن بأن لله وحده عاقبة الأمور، لا ترهب الأعداء ولا تخاف من قواهم المادية، وإنما تقابل عددهم بشجاعة وعددهم بما هو أقوى وأعتى وأفكارهم وتصرفاتهم الماكرة بما هو أدهى وأنكى، ممتثلين بذلك أمر الله عز وجل: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخير ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم [الأنفال:60]. معتمدين في ذلك على الله عز وجل: فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين. مؤمنين بقول من بيده ملكوت السماوات والأرض وهو يجير ولا يجار عليه: إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
ولهذا أتم الله لهم النصر في مواطن تزيغ فيها الأبصار وتنحسر الأفكار وتنقطع الحيل، وإنّي ضارب لكم في ذلك مثلين، أحدهما: نصر في الدفاع والخلاص، والثاني: نصر في الطلب والغلبة.
أما الأول: ففي غزوة الأحزاب حين تألب الأحزاب من قريش ومن مالأهم من كفار العرب على رسول الله وحاصروا المدينة في نحو عشرة آلاف مقاتل ونقضت يهود بني قريظة العهد الذي بينهم وبين النبي فكان الأعداء على المدينة كما وصفهم الله تعالى: إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً [الأحزاب:10-11].
وحاصروا النبي والمؤمنين قرابة شهر وأصاب المسلمين من الجوع والتعب والبرد ما كان من أعظم الابتلاء فدعا عليهم رسول الله فقال: ((اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم ثم أرسل الله تعالى عليهم ريحا شرقية باردة شديدة لم تبق لهم خيمة ولا نارا ولا قرارا)).
قال حذيفة بن اليمان لقد رأيتنا مع رسول الله في غزوة الخندق فصلى رسول الله هويا من الليل في ليلة ذات ريح شديدة وقر يعني بردا فقال النبي : ((ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة فلم يتقدم أحد من شدة البر والجوع والخوف)) ، أعادها الثانية والثالثة ثم قال: يا حذيفة قم فائتنا بخبر القوم فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني باسمي فقال: ((يا حذيفة اذهب فائتنا بخير القوم ولا تُحْدِثن شيئا حتى تأتينا)).
قال فمضيت كأنما أمشي في حمام أي في جو دافئ هادئ لا برد ولا ريح فدخلت في القوم والريح وجنود الله تعالى تفعل بهم ما تفعل لا تُقِرّ لهم قرارا ولا تبقي خيمة ولا نارا، فإذا أبو سفيان وكان يومئذ كافرا، يُصْلى ظهره بالنار فأردت أن أرميه ولو رميته لأصبته، فذكرت قول النبي قال فرجعت إلى النبي وأنا أمشي في مثل الحمام يعني في جو دافئ هادئ فأخبرته بخبر القوم، فلما فرغت أصابني البرد فألبسني رسول الله من فضل عباءة كان يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال النبي : ((قم يا نومان)).
ثم تفرق الأحزاب خائبين خاسرين كما قال الله عز وجل ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً [الأحزاب:25]. وحينئذ قال النبي : ((الآن نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم)).
أما يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي وهم آخر قبائل اليهود في المدينة فخرج إليهم النبي بعد رجوعه فورا، وحاصرهم نحو عشرين ليلة حتى نزلوا على حكم النبي فحكّم فيهم النبي سيد الأوس سعد بن معاذ فقال أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى نساؤهم وذريتهم وتقسم أموالهم فقال النبي : ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة)). فجيء بالقاتلة مُكتّفين فضربت أعناقهم وكانوا بين السبعمائة والثمانمائة، وسبيت نساؤهم وذريتهم وغنمت أموالهم كما قال الله تعالى فيهم: وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم (أي من حصونهم) وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديراً.
هذا مثال لنصر الله تعالى للمؤمنين في الدفاع والخلاص مما لا طاقة لهم به.
أما نصره إياهم في الطلب والغلبة، فقد ذكر المؤرخون أن سعد بن أبي وقاص الذي فتح الله تعالى على يديه أكثر بلاد فارس وقال فيه النبي : (( اللهم أجب دعوته وسدد رميته)) لما تابع الفرس يفتح بلادهم بلدا بلدا فوصلوا إلى نهر دجلة عبروها إلى عاصمتهم المدائن ولم يتركوا للمسلمين جسورا ولا سفنا فلما وصل سعد إلى النهر بعساكر الإيمان أخبرهم أنه عازم على العبور إلى الفرس على ظهر الماء فاقتحم بفرسه النهر وهو يجري ويقذف بالزبد واقتحم الناس معه ولم يتخلف أحد منهم، فجعلت خيولهم تعوم بهم في الماء وهم يحدثون على ظهورها كأنما تمشي على ظهر الأرض، فإذا تعب فرس أحد منهم قيض الله له مثل الصخرة الكبيرة يقف عليها ليستريح حتى عبروا النهر فلما رآهم الفرس ولّوا هاربين وتركوا بلادهم وأموالهم غنيمة للمسلمين وتحقق قول الله تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون.
ولما وصل خُمْسُ الغنيمة إلى عمر في المدينة ونظر إليه قال: إن قوما أدوا هذا لأمناء. فقال له علي إنك عففت فعفت رعيتك ولو رتعت لرتعوا.
فهذا مثالٌ من نَصْرِ الله تعالى للمؤمنين في طلبهم لعدوهم وغلبتهم عليه بما لا طاقة لهم به، فمن يتصور أن النهر ممتلأ ماء يمشي عليه المجاهدون بخيولهم حتى يعبروا إلى الجانب الآخر، ذلك ليس بعزيز على الله تعلى فإنه القادر على كل شيء: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
اللهم هيئ لهذه الأمة نصرا عزيزا تعز به أهل طاعتك وتذل به أهل معصيتك وتعلي به كلمتك إنك على كل شيء قدير.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وإليه المنتهى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن النصر من عند الله وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ولما كانت الأمة الإسلامية قائمة بشريعة الله حافظة مشارق الأرض ومغاربها وكان لها السلطة والسيطرة على الأمم لأنها تقاتل لله وبالله وفي الله إخلاص لله تعالى واعتماد عليه والتزام بشريعته فلما اختلفت أهواؤها وتفرقت كلمتها وتشعبت مناهجها دب فيها الضعف وتكالبت عليه الأعداء وغزوها من كل جانب وبكل سلاح، غزوها من ناحية الفكر والعقيدة فغيروا الأفكار وأفسدوا العقيدة، غزوها من ناحية الأخلاق والمثل العليا فأفسدوا الأخلاق وهدموا المثل، غزوها من ناحية المنهج والسلوك فضيعوها في متاهات الجهل والخرافات والبدع وفرقت الأمة دينها وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وأبدلوا القوانين الشرعية الإلهية بقوانين وضعية طاغوتية فحكموا بغير ما أنزل الله بل زعموا أن الحكم بما أنزل الله قد انقضى وقته وانقرض أهله فلا يطابق هذا العصر ولا يناسب أهله وما هو إلا رجعية وتخلف إلى الوراء: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [المائدة:50].
فلما بلغت الأمة إلى هذا المستوى انحطت معنويتها ونزعت من قلوب أعدائها هيبتها وتسلط الأعداء عليها بقوة السلاح فغزوها غزوا عسكريا في حرب التتار وفي حرب الصليبيين النصارى وفي حرب الصهيونيين اليهود وفي حروب أخرى هناك وهناك. وفي هذا الأسبوع تبجح رئيس وزراء اليهود بانتصاراته التي قال إنها أسعد أيامه مفتخرا برفع العلم اليهودي على أرض فلسطين قبل أكثر من ثلاثين عاما، ومفتخرا بتوحيد القدس مدينة المسجد الأقصى لصالح الأمة اليهودية بعد أن كانت مقسومة بين اليهود والعرب وكان المسجد الأقصى في القسم العربي فاستولى اليهود عليه قبل عشرة أعوام وعلى أراض أخرى من أراضي العرب.
أيها المسلمون إن لنا أن نتساءل لماذا سلطت هذه الأمة اليهودية على أمة العرب حتى استحلت من بلادها ومقدساتها ولكن علينا أن نتصور تصورا صريحا قبل الجواب والصراحة وإن كانت مرة في بعض الأحيان لكنها هو الوسيلة للحكم الصحيح كشق الجرح يؤلم المريض لكنه الوسيلة للعلاج الناجح. وعلينا بعد التصور الصريح أن نحكم بالعدل والعقل ولو على أنفسنا.
إننا إذا نظرنا إلى تسليط هؤلاء اليهود على العرب وجدناه من عند أنفسهم كما قال الله تعالى في الجواب على سؤال المصابين يوم أحد: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مِثَليْها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ، ثم ختم الآية بقوله إن الله على كل شيء قدير [آل عمران:165]. إشارة إلى أنه قادر على أخذ أعدائهم، فهل تدرون ما هذا الذي كان من عند أنفسهم إنها معصية واحدة في أمر تنظيمي كانت من أسباب هذه المصيبة فلو تصورنا حال العرب اليوم تصورا صريحا وحكمنا حكما عدلا مبنيا على العقل بعيدا عن تيارات العاطفة لوجدنا في العرب اليوم ما هو من أكبر أسباب الخذلان والهزيمة، ففي العرب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وفي العرب من يشرك بالله بدعاء المخلوقين وتعظيمهم والتعلق بهم كما يفعل ذلك في الله عز وجل، وفي العرب من لا يقيم الصلاة ولا يؤتي الزكاة وفي العرب من لا يصوم رمضان ولا يحج البيت وفي العرب من يحكم بغير ما أنزل الله ويرى أن الحكم بما أنزل الله قد انتهى وقته وانقرض أهله وأنه غير صالح لهذا العصر، وفي العرب من تباع الخمور في أسواقهم وتشرب علانية كما حدثني بذلك من أثق به وفي العرب من لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر وفي العرب من لا يقيم الحدود التي أوجب الله في الجرائم ويرى أن ذلك همجية ووحشية إلى غير ذلك من المعاصي والمنكرات.
فإذا كانت معصية واحدة من بعض المجاهدين في غزوة أحد من أسباب مصيبة الهزيمة فما بالكم أيها الأخوة بهذه الفظائع التي توجد في بعض البلاد العربية اليوم.
إن الطمع في النصر بدون وجود أسبابه طمع في غير محله، إنه كالطمع في الأولاد بدون نكاح وكالطمع في الأشجار بدون غرس، أو في ربح التجارة بدون اتجار.
إننا متى صدقنا الله تعالى في الجهاد في سبيله فكان قتالنا لتكون كلمة الله هي العليا وشريعته هي الحكم فنقيم على أرض الله تعالى دولة إيمانية تؤمن بالله واليوم الآخر وتعمل صالحا فتقوم بأمر الله وتحكم بشريعة الله وتوالي من والى الله ورسوله وتعادي من عادى الله ورسوله وتتمشى في ظاهرها وباطنها على ما مشى عليه عباد الله الصالحون من سلف هذه الأمة فستكون العاقبة لنا وسيورثنا الله أرضهم وديارهم وأموالهم كما أورثها سلف هذه الأمة وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا [الأحزاب:27] إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين [الأعراف:128]. ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين [الأنبياء:105].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
(1/142)
ذكر الله تعالى
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بذكر الله تعالى ، وبيان فضله (النصر – ثبات القلب في مواطن الفزع – سرور القلب -
نور الوجه ) -
الآيات والأحاديث في فضل الذكر ، وبعض أذكار مخصوصة -
ذكر الله يكون باللسان والقلب والجوارح وبيان كيفية ذلك -
التحذير من الغفلة عن ذكر الله عز وجل وبيان عاقبة ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اذكروا اله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا، وكونوا من أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، كونوا من الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وتنفرج الكروب، بذكر الله يحصل النصر ويثبت الله القلب في مواطن الفزع، ولذلك أمر الله تعالى بذكره عند مقابلة الأعداء في الحرب فقال: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون.
إن ذكر الإنسان لربه يملأ قلبه سرورا ويكسو وجهه نورا ويذكره الله به يقول الله تعالى في القرآن الكريم: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون.
ويقول تعالى في الحديث القدسي الذي رواه النبي عنه: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) وقال النبي : ((سبق المفردون. قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا)) وقال : ((مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت)) وسئل من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله قال: (( من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه))، وقال : ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)).
وأمر أن يلقن الميت إياها عند موته، وإن من أكبر أسباب ذكر الإنسان لها عند موته أن يكون مكثرا لها في حياته، فإن من كثر من شيء ألفه. وقال : ((أكثروا من شهادة أن لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها)). وقال : ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل)). وقال : ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)).
وقال : ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)) ، وقال : ((من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)). وقال: ((لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)). وقال : ((يعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة. فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة قال يسبح الله مائة تسبيحة فتكتب له ألف حسنة)).
فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من هذه المكاسب العظيمة من أعمال يسيرة أكثروا من ذكر الله عز وجل بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم، ليكن ذكر الله وأسمائه وصفاته وأفعاله ففي كل شيء له آية تذكركم به وتبرهن على وحدانيته وعظمته وقدرته وتبرز بها آثار رحمته وحكمته. اذكروا الله تعالى بألسنتكم بقول لا إله إلا الله، سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر.
واعلموا أن كل قول من الخير تريدون به وجه الله فهو من ذكر الله. اذكروا الله تعالى بجوارحكم بفعل الطاعات وترك المعاصي، فإن كل فعل أو ترك تقومون به طاعة لله وتقربا إليه فهو من ذكر الله، أكثروا من ذكر الله تعالى ولا تكونوا ممن أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا. أكثروا من ذكر الله قبل أن يحال بينكم وبينه إما بالموت أو بالعجز أو بحرمانكم منه عقوبة على غفلتكم.
لا يشغلنك أيها المسلم عن ذكر الله مال ولا بنون، فإنما المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات والصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا. والباقيات الصالحات كل عمل صالح وعلى رأسها قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله: إن ذكر الله تعالى غنيمة وربح وإن الغفلة عن ذكره غرم وخسارة، فعن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)) والترة: النقص والحرمان.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك اللهم اجعلنا في أهلنا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات من الذين اغتنموا أوقاتهم بالباقيات الصالحات واعصمنا يا مولانا من الغفلة عن ذكرك ومن التشاغل بما لا يقربنا إليك، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك الوهاب واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/143)
فضل لا إله إلا الله
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الألوهية, الدعاء والذكر
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل الذكر والأمر به , وأنواعه – فضل قول لا إله إلا الله , ومعنى هذه الكلمة , وفضلها -
ركنا هذه الكلمة , ولماذا رفض المشركون قولها والفهم الخاطئ لمدلول هذه الكلمة -
مقتضيات كلمة لا إله إلا الله التحاكم إلى
شريعته
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله كما أمركم أن تتقوه، وأطيعوا أمره ولا تعصوه، واذكروه يذكركم واشكروه ولا تكفروه.
عباد الله: لقد أمرنا الله بذكره في عموم الأوقات. فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، وخص بعض الأوقات، كأدبار الصلوات، وبعد الانتهاء من أداء العبادات، فأمر بذكره فيها لمزيتها على غيرها، قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ قِيَـ?ماً وَقُعُوداً وَعَلَى? جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وقال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200].
وذكر الله تعالى يتناول جميع الطاعات القولية والفعلية، وكل الطاعات ذكر الله – عز وجل، كما يتناول ذكره باللسان والقلب، فالمؤمن دائمًا يذكر الله ولاسيما الذكر القولي بالتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير؛ لأن هذا النوع متيسر للإنسان في كل أحواله سواء كان راكبًا أو ماشيًا، أو وهو قائم أو قاعد أو مضطجع، ولأن اللسان لا يتعب من تحركه بالذكر. بخلاف بقية الأعضاء، فإنها تتعب من كثرة الحركة، وأفضل الذكر: لا إله إلا الله، فينبغي الإكثار منها، قال : ((خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) [1].
ولما كانت هذه الكلمة العظيمة بهذه المنزلة العالية، من بين أنواع الذكر وتعلق بها الأحكام. وصار لها شروط، ولها معنى ومقتضى، فليست كلمة تقال باللسان فقط. وهذه الكلمة يعلنها المسلمون في الأذان والإقامة والخطب، وهي كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت من أجلها جميع المخلوقات، وبها انزل الله كتبه، وأرسل رسله، وشرع شرائعه، ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسمت الخليقة من أجلها إلى مؤمنين وكفار، وعنها وعن حقوقها يكون السؤال والجواب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وأسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد. فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي كلمة التقوى. والعروة الوثقى، وهي كلمة الإخلاص، وبها تكون النجاة من الكفر والنار والخلاص. من قالها عصم دمه وماله في الدنيا، وإذا كان موقنًا بها من قلبه نجا من النار في الآخرة ودخل الجنة. كما قال عليه الصلاة والسلام: ((فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) [2]. وهي كلمة وجيزة اللفظ قليلة الحروف خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان، فقد روى ابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله قال: ((قال موسى عليه السلام: يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى قل: لا إله إلا الله، قال: يا رب كل عبادك يقولون هذه، قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضيين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله)) [3].
وهذه الكلمة العظيمة لها ركنان:
الركن الأول: النفي، وهو نفي الألوهية عما سوى الله من سائر المخلوقات.
والركن الثاني: الإثبات. وهو إثبات الألوهية لله سبحانه وبهذا يتضح معناها، وأه البراءة من الشرك والمشركين، وإخلاص العبادة لله وحده. وهذا معنى قول الخليل عليه السلام لأبيه وقومه: إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?لَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26،27]. وأيضًا معنى قوله تع الى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِ?لطَّـ?غُوتِ وَيُؤْمِن بِ?للَّهِ فَقَدِ ?سْتَمْسَكَ بِ?لْعُرْوَةِ ?لْوُثْقَى? لاَ ?نفِصَامَ لَهَا [البقرة:256].
فالمسلم عندما يقول هذه الكلمة يعلن البراءة من الشرك والمشركين، ويلتزم بعبادة الله وحده مخلصًا له الدين،فإنه وفى بهذا الالتزام؛ فقد حقق دين الإسلام، وفاز بدار السلام، وإلا فمجرد النطق بها من غير عمل بمدلولها ومقتضاها لا يفيد الإنسان شيئًا، فإن المنافقين كانوا يقولونها بألسنتهم ولا يعتقدونها بقلوبهم، فصار يعتقد في الموتى، ويطوف بالأضرحة تقربًا إلى الأموات، ويطلب المدد من الأولياء والصالحين، وينذر لقبورهم ويذبح لها، فهذا لا تنفعه لا إله إلا الله؛ لأنه لم يعمل بمقتضاها وهو البراءة من الشرك والمشركين، وإخلاص العبادة لله رب العالمين؛ لأن معنى لا إله إلا الله: ترك عبادة القبور، وترك التقرب إلى الأموات، كما تترك عبادة الأوثان من اللات والعزى ومناة، لا فرق بين عبادة الأصنام وعبادة القبور، وهذا هو معنى لا إله إلا الله.
ولهذا قال النبي لكفار قريش، قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: أَجَعَلَ ?لاْلِهَةَ إِلَـ?هاً و?حِداً إِنَّ هَـ?ذَا لَشَىْء عُجَابٌ [ص:5]. فالمشركون فهموا أن معنى لا إله إلا الله، ترك الشرك لأبيه العبادة لله وحده. وهؤلاء القبوريون اليوم لا يفهمون هذا، ولهذا يجمعون بين الشرك والنطق بلا إله إلا الله، ربما يفسرون لا إله إلا الله بأن معناها، الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق، ويقولون: إن من أقر بأن الله هو الخالق الرازق فقد حقق التوحيد، وشهد أن لا إله إلا الله. ولا مانع بعد ذلك عندهم أن يذبح للأموات ويتقرب إليهم بأنواع العبادات.وكأن هؤلاء لم يعلموا أن المشركين الذين طلب منهم النبي أن يقولوا: لا إله إلا الله كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق، كما قال الله عنهم: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ?لْعَزِيزُ ?لْعَلِيمُ [الزخرف:9] ، وقال: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ?لسَّمْعَ و?لاْبْصَـ?رَ وَمَن يُخْرِجُ ?لْحَىَّ مِنَ ?لْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ?لْمَيّتَ مِنَ ?لْحَىّ وَمَن يُدَبّرُ ?لاْمْرَ فَسَيَقُولُونَ ?للَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس:31].
وإن هذا الفهم الخاطئ لمعنى لا إله إلا الله لو كان صادرًا من عوام لهان الأمر؛ لأن العوام يمكن تعليمهم، ويمكن قبولهم للحق أكثر من غيرهم، ولكن المصيبة أن يكون هذا الفهم الخاطئ لمعنى لا إله إلا الله صادرًا من قوم يدعون العلم ويتصدرون للفتوى والتدريس، فهؤلاء يصعب تفهيمهم وإقناعهم لأن جهلهم مركب، والجاهل المركب هو الذي لا يدري. ولا يدري أنه لا يدري. وهو أبعد عن قبول الحق من الجاهل البسيط الذي يعترف بجهله، أولئك هم علماء الضلال الذين أهلكوا أنفسهم وأهلكوا غيرهم من الجلهة الذين أحسنوا بهم الظن، وقلدوهم في الضلال، أولئك هم الذين حذرنا منهم رسول الله بقوله: ((وإنما أخشى على أمتي الأئمة المضلين)) [4]. إن هؤلاء وإن كانوا علماء في فقه فروع الدين، فإنهم يجهلون الأصل، ويفقدون الفقه الأكبر الذي هو معرفة التوحيد الذي جاءت به الرسل، ولذلك يعادونه ويعادون أهله، ويؤلفون في الصد عنه، وعن معنى لا إله إلا الله ومقتضاها لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ?لَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآء مَا يَزِرُونَ [النحل :25].
عباد الله: وإن من مقتضى لا إله إلا الله وحقها على من نطق بها: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلاً، والعمل بطاعة الله وترك معاصيه.
وقد وجد في الناس اليوم خلق كثير يقولون هذه الكلمة ولكنهم لا يقيمون الصلاة، أو لا يؤتون الزكاة، وقد دل الكتاب والسنة على أن من لا يصلي فليس بمسلم، وإن قال: لا إله إلا الله.
قال تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ [التوبة:5] ، وقال في الآية الأخرى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ?لدّينِ [التوبة:11].
فدلت الآيتان الكريمتان على أن الذي لا يقيم الصلاة لا يخلى سبيله بل يُقتل، وعلى أنه ليس من إخواننا في الدين لأنه كافر.
وقال النبي : ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)) رواه مسلم [5]. قد منع جماعة بعد وفاة النبي الزكاة، وهم يقولون: لا اله إلا الله، فقاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة ولم يمنعهم من قتالهم نطقهم بهذه الكلمة، لأنهم اعتبروا الزكاة من حق لا إله إلا الله؛ لأن النبي قال: ((فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها)) [6].
وقد قيل للحسن – رحمه الله -: إن ناسًا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة، وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يُفتح لك.
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أهل لا إله إلا الله حقًا، جعلنا الله وإياكم من أهلها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.
[1] حسن، أخرجه الترمذي ح (3585). وقال: حديث غريب من هذا الوجه.
[2] أخرجه البخاري ح(5401).
[3] أخرجه ابن حبان (الإحسان ح 6281) ، والحاكم (1/528) ، وقال: صحيح الإسناد. وقال الذهبي: صحيح. وصحح إسناده الحافظ ابن حجر. انظر: فتح الباري (11/208).
[4] صحيح ، أخرجه أحمد (5/278) ، وأبو داود ح (4252) ، والترمذي ح (2229).
[5] صحيح مسلم ح (82).
[6] أخرجه البخاري ح (25) ، ومسلم ح (21،22).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: ومن معنى لا إله إلا الله ومقتضاها: التحاكم إلى شريعته، وتحريم ما حرمه وتحليل ما أحله، وأن لا يطاع مخلوق بمعصيته، فيجب على من قال: لا إله إلا الله، الحكم بشرع الله، والكفر بأحكام الطواغيت واجتنابها؛ لأن التشريع حق لله وحده فمن وضع قوانين يحكم بها بين الناس بدل شريعة الله فقد جعل نفسه شريكًا لله. ومن أطاعه في ذلك مختارًا فقد أشرك بالله، قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ ?لدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ?للَّهُ [الشورى:21]. وقال تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]. وقال تعالى: ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ وَ?لْمَسِيحَ ?بْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـ?هاً و?حِداً لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـ?نَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31].
ولما سمع عدي بن حاتم هذه الآية قال: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم، فقال : ((أليسوا يحلون ما يحرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟)) قال: بلى، قال: ((فتلك عبادتهم)) [1] وهذا يتمثل اليوم في الولاة الذين يحكمون بالقوانين المتعصبين الذين يقلدون أئمتهم ولو أخطأوا في الاجتهاد وخالفوا الدليل، ويتمثل في المتصوفة الذين يطيعون مشائخ الطرق في فعل الأمور الشركية والبدعية، كل ذلك داخل في عبادة الأحبار والرهبان من دون الله، وهذا مما يوجب على المسلم الذي يريد النجاة لنفسه، أن يتعلم معنى لا إله إلا الله، ويفهم مقتضاها، ويعمل بذلك حتى يكون من أهلها.
قال تعالى: فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [محمد:19] ، فأمر سبحانه بالعلم قبل القول والعمل؛ لأن العمل الذي لا يؤسس على علم صحيح يكون ضلالاً، وقال تعالى: وَلاَ يَمْلِكُ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لشَّفَـ?عَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِ?لْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، أي: شهد بالتوحيد بأن قال: لا اله إلا الله وَهُمْ يَعْلَمُونَ بقلوبهم ويفهمون ما شهدت به ألسنتهم.
فاتقوا الله – عباد الله – وتفقهوا في معنى لا إله إلا الله لتعملوا بمقتضاها، وتمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله والزموا جماعة المسلمين فإن خير 1لحديث كتاب الله... إلخ.
[1] حسن ، أخرجه الترمذي ح (3095)، وابن جرير الطبري في تفسيره (6/114).ٍٍ
(1/144)
الصلاة وكفر تاركها
فقه
الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بتقوى الله ، وبيان معنى الإسلام الذي ارتضاه الله لنا ، وأنه ليس عقيدة فحسب ولكنه
عقيدة وقول وعمل -
الصلاة من أعظم أركانه الإسلام بعد الشهادتين ، واحتفاء الشرع بها في فرضها -
نعمة الصلاة وكيفية شكرها ، وما فيها من صلة بين العبد وربه -
أثر إقامة الصلاة والمحافظة عليها وفضل ذلك -
تهاون كثير من الناس اليوم بأمر الصلاة وإضاعتها وخطورة ذلك
والأدلة على ذلك من القرآن والسنة -
كفر تارك الصلاة والدليل عليه ، واتفاق الصحابة على ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله تعالى رضي لكم دينا لم يرض لكم دينا سواه، رضي لكم الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. رضي لكم الإسلام وهو الاستسلام لله تعالى والانقياد له ظاهرا وباطنا في العقيدة والقول والعمل ليس الإسلام عقيدة فحسب ولكن الإسلام عقيدة وقول وعمل.
إن الإسلام كما لا يكون بالعمل وحده لا يكون كذلك بالعقيدة وحدها. يقول النبي : ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام)). يقول بُنِيَ الإسلام ومعنى ذلك أن هذه الأصول هي دعائم الإسلام التي لا يمكن أن يقوم إلا بها كما لا يقوم البناء إلا بأساسه.
أيها الناس: من هذا الحديث يتبين لنا أن الصلاة ركن من أركان الإسلام بل هي ركنه الأعظم بعد الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ولقد روي عن رسول الله أنها عمود الدين حيث قال: ((رأس الأمرِ الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)). هذه الصلاة التي فرضها الله على رسوله وعلى أمته: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً [النساء:103]. كتاباً أي فريضة. موقوتا، موقوتا بوقت لكل صلاة وقتها التي لا تصح إلا فيه إلا أن يكون ثَم عذر، الصلاة التي فرضها الله على رسوله مباشرة بدون واسطة، فرضها عليه في أعلى مكان يصل إليه بشر، وفي أفضل وقت مر على رسول الله فرضها عليه ليلة المعراج وهو فوق السماوات السبع، وفرضها أول ما فرضها على النبي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وهذا دليل واضح على محبة الله لها وعنايته بها، وأنها جديرة بأن يستوعب المسلم فيها جزء كبيرا من وقته لأنها الصلة بينه وبين ربه وخالقه يجد فيها راحة نفسه وطمأنينة قلبه، ولذلك كانت قرة عين الرسول فرضها الله على عباده خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ولكنه تبارك وتعالى خفف عنهم فكانت خمسا بالفعل وخمسين في الميزان، ففي هذه الخمس مصالح الخمسين وثواب الخمسين.
أفلا تشكرون أيها المسلمون ربكم على هذه النعمة الكبيرة التي أولاكم بها وتقومون بواجبها فتؤدونها في أوقاتها بأركانها وواجباتها وشروطها في تكملونها بمكملاتها.
أيها المسلمون: إن الصلاة صلة بينكم وبين ربكم، فالمصلي إذا قام في صلات استقبله الله بوجهه فإذا قرأ: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي، وإذا قرأ: الرحمن الرحيم ، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قرأ: مالك يوم الدين. قال الله: مجدني عبدي، وإذا قرأ : إياك نعبد وإياك نستعين قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قرأ: اهدنا الصراط المستقيم قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل. أفنجد أيها المسلم صلة أقوى من تلك الصلة يجيبك ربك على قراءتك آية آية وهو فوق عرشه وأنت في أرضه عناية بصلاتك وتحقيقا لصلاتك. ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا صلاها على الوجه الذي أُمر به لأنه اصطبغ بتلك الصلة التي حصلت له مع ربه فَقَوِيَ إيمانُه واستنار قلبه وتهذبت أخلاقه.
أيها المسلمون إن من حافظ على الصلوات وأداها على الوجه المشروع كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة.
ولقد شبه رسول الله هذه الصلوات الخمس بنهر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم وليلة خمس مرات فهل يبقى بعد هذا الاغتسال من وسخه شيء، كلا، فهذه الصلوات الخمس تغسل الذنوب عن المصلي غسلا فيكون نقيا بها من الذنوب فهي كفارة لما بينهن من الذنوب ما اجتنبت الكبائر.
أيها المسلمون: إن ما ذكرناه من هذه الفضائل للصلوات الخمس ليس على سبيل الاستيعاب ولكنه قليل من كثير.
ومن عجب أن يجهل قوم من المسلمين قدر هذه الصلوات أو يتجاهلوه ويتغافلوا عنه حتى كانت الصلاة في أعينهم من أزهد الأعمال قدرا وصاروا لا يقيمون لها وزنا في حساب أعمالهم ولا يبذلون لها وقتا من ساعات أعمارهم، لا بل ربما يسخر بعض منهم بها فيتخذونه سخرية وهزوا ولعبا ويسخر ممن يصليها نسأل الله السلامة.
فأي دين يا عباد الله لهذا أي دين يا عباد الله لشخص يدع هذا العمل يدع الصلاة مع يسر عملها وقلة ما تشغل من وقت وكثرة ثوابها وعظم مصالحها ومنافعها على القلب والبدن والفرد والجماعة والقول والعمل.
فهي عون للمرء على عمله كما قال تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وكان النبي إذا أهمه أمر قام إلى الصلاة، أي دين لشخص يدع الصلاة وهي التي جاء الوعيد في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله على من تهاون بها أو تغافل عنها قال الله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً وهذا الآية ظاهرة في أن من أضاع الصلاة واتبع الشهوات فليس بمؤمن لأن الله تعالى قال: إلا من تاب وآمن وقال سبحانه: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون.
وأخبر النبي أن من لم يحافظ على هذه الصلوات فليس له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة ويحشر مع أئمة الكفر فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
فأي دين لشخص يدع الصلاة وهو يؤمن بهذا الوعيد على مضيعها والغافل قولك هذا لا يكفيك عند الله حتى تستلم وتنقاد لشريعة الله تعالى فإن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.
ونقول له المنافقون يقولون لا إله إلا الله: ولا يذكرون الله إلا قليلًا [النساء:142]. والمنافقون يقولون للرسول إذا جاءوا إليه: نشهد إنك لرسول الله [المنافقون:1]. والمنافقون يصلون: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى [النساء:142].
أفترى أنهم كانوا مسلمين وناجين من النار، لا، استمع قول الله تعالى: إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً [النساء:140]. إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً [النساء:145].
وإذا أراد أن يجادل ويلبّس فإن لدينا نصا صريحا في كفر تارك الصلاة فقد ثبت عن رسول الله أنه قال: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)). وقال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)).
وقال عبد الله بين شقيق كان أصحاب النبي لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وهذا الكفر الذي ذكره النبي ورآه الصحابة رضي الله عنهم ليس كفر نعمة كما قال بعضهم ولا أنه خصلة من خصال الكفر كما قاله آخرون، ولكنه الكفر الأكبر المخرج عن دين الإسلام.
فإن النبي قال: ((الكفر)) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وفرق بين (الكفر) المعرف باللام يعني الدالّ على الكفر المطلق وبين (كفر) المنكر في الإثبات. ولنا دليل مركب من دليلين على أن تارك الصلاة كافر كفرا أكبر مخرجا عن الملة هو أن النبي نهى عن منازعة ولاة الأمور أمرهم قال: ((إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان)) وقال : ((شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم قالوا: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة)).
ومن هذين الدليلين أخذ أن ترك الصلاة يبيح منابذة الأئمة فيكون كفرا بواحا. فترك الصلاة ردة عن الإسلام وكفر بالله والردة عن الإسلام لها أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة.
أما أحكام الدنيا فإن المرتد ينفسخ نكاحه من زوجته، وتحل لغيره، ويكون استمتاعه بها استمتاعا بامرأة أجنبية منه، وأولاده منها بعد ردته ليسوا أولادا شرعيين، ويجب قتله إذا استمر على ردته، ولا يغسل لأنه لا يطهره الماء وهو كافر، ولا يصلى عليه، ولا يستغفر له، ولا يدعى له بالرحمة، ولا يدفن مع المسلمين ويكون ماله في بيت مال المسلمين لا يرثه أقاربه.
وأما أحكام الآخرة فإنه يحرم دخول الجنة ويدخل النار خالدا فيها أبدا.
فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على صلواتكم فماذا يبقى من دينكم إذا ضيعتموها، فإن آخر ما تفقدون من دينكم الصلاة. قال الإمام أحمد كل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء.
اللهم اجعلنا مقيمي الصلاة ومُنَّ علينا بالتوفيق لما تحب وترضى يا جزيل الهبات واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/145)
صفة الصلاة
فقه
الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بتقوى الله وإقامة الصلاة وكيفية ذلك -
صفة الصلاة كما جاءت في الحديث ، وما جاء في القراءة فيها -
وبيان صفة القيام والركوع والسجود والتشهد وما يقال فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأقيموا الصلاة، فإن الصلاة عمود دينكم ولن يقوم البنيان بدون عموده، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، أقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا.
أقيموا الصلاة كما أمرتم صلوا كما صلى رسول الله. أسبغوا الوضوء واستقبلوا القبلة، قوموا لله مخلصين فاستقبلوا وجهه بقلوبكم وبيته بأبدانكم، واعلموا أن الله قَِبل وجه المصلي، اطمئنوا في صلاتكم، لا تصلوها وأنتم عجالى، فلا صلاة بدون طمأنينة.
دخل رجل المسجد ورسول الله جالس فصلى صلاة لا يطمئن فيها ثم جاء فسلم على النبي فرد عليه السلام وقال: ((ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى كصلاته الأولى ثم جاء فسلم على النبي فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل))، ثلاثا ردده النبي ثلاثا لعله يقيم صلاته ولأجل أن يزداد شغفه بتعليم النبي ولذلك قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني؟
فقال النبي : ((إذا قمت للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تطمئن قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)).
أيها المسلمون: إن من صلى بدون طمأنينة فلا صلاة له وإن صلى مائة مرة كما قال رسول الله لهذا الرجل: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)).
اقرؤوا الفاتحة في كل ركعة فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، واقرؤوا معها في الفجر سورة من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره أحيانا ومن طواله أيضا، فقد كان النبي ربما قرأ في المغرب بسورة طويلة قرأ مرة بالأعراف، ومرة بالصافات، ومرة بـ(حم) الدخان ومرة بسورة محمد، ومرة بالمرسلات.
واقرؤوا من الظهر والعصر والعشاء الآخرة من أوساط المفصل.
طوال المفصل من ق إلى عم، وأوساطه من عم إلى الضحى، وقصاره من الضحى إلى آخر القرآن.
ارفعوا أيديكم عند تكبيرة الإحرام إلى المناكب أو إلى الأذنين، ثم ضعوا اليمنى على مفصل كف اليسرى بعد التكبير على صدوركم، وانظروا موضع سجودكم ولا تلتفتوا في الصلاة، ولا ترفعوا أبصاركم إلى السماء، فقد قال : ((لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء أو لا ترجع إليهم)).
استفتحوا الصلاة بعد ذلك فقولوا: ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)) ، أو قولوا: ((سبحانك اللهم وبحمدك..)) ، إلى آخره.
تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم، ثم اقرؤوا الفاتحة والسورة، ثم اركعوا مكبرين وارفعوا أيديكم عند الركوع وضعوها على ركبكم مفرقة الأصابع، وجافوها عن جنوبكم، واعتدلوا في ركوعكم فسوُّوا ظهوركم وساووها مع رؤوسكم، فقد كان يسوي ظهره ورأسه، لا يُنزل رأسه ولا يرفعه، وعظموا ربكم في ركوعكم، فقولوا سبحان ربي العظيم وكرروا ذلك.
وكان يكثر في ركوعه وسجوده من قوله سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، ارفعوا من الركوع قائلين سمع الله لمن حمده ورافعين أيديكم إلى المناكب أو إلى الأذنين، وبعد القيام قولوا اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
والمأموم لا يقول سمع الله لمن حمده لقول النبي : ((إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد)).
ثم اسجدوا مكبرين ولا ترفعوا أيديكم عند السجود، اسجدوا على الأعضاء السبعة الجبهة مع الأنف واليدين والركبتين وأطراف القدمين ضعوا أيديكم حال السجود على الأرض وأصابعها نحو القبلة مضموما بعضها إلى بعض محاذية لمكان الجبهة الأنف أو محاذية للمنكب.
اعتدلوا في سجودكم فارفعوا البطن عن الفخذين والفخذين عن الساقين، ونُّحوا اليدين عن الجنبين فقد كان النبي ينحيها حتى يرُى بياض إبطه إلا إذا كان الإنسان مأموما فإنه لا ينحيها إذا كان يؤذي من بجنبه، وارفعوا الذراعين عن الأرض فإن النبي نهى عن بسطها على الأرض، وقولوا: سبحان ربي الأعلى، وكرروها وقولوا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
ولا تسجدوا على لباس عليكم من ثوب أو مشلح أو غترة إلا لحاجة كشدة حرارة الأرض وخشونتها أو نحو ذلك ثم ارفعوا من السجود مكبرين واجلسوا على قدم الرَّجِْل اليسرى وانصبوا قدم الرَّجْل اليمنى، وضعوا اليد اليمنى على فخذ الرجِْل اليمنى أو على ركبتها وضموا منها الخنصر والبنصر وحلقوا أبهامها مع الوسطى وحركوا السبابة عند الدعاء، وضعوا اليد اليسرى على فخد الرجل اليسرى أو ركبتها مضموم أصابعها بعضها إلى بعض، وقولوا: ربي اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني وعافني، ثم اسجدوا السجدة الثانية مكبرين، واصنعوا كما صنعتم في السجدة الأولى قولا وفعلا ثم صلوا الركعة الثانية بدون استفتاح ولا تعوذ كالركعة الأولى ثم اجلسوا للتشهد واصنعوا في جلوسكم كما فعلتم في الجلوس بين السجدتين وقولوا التحيات لله والصلوات.
فإن كانت الصلاة ركعتين فأكملوا التشهد وسلموا على اليمين السلام عليكم ورحمة الله، وإن زدتم وبركاته فلا بأس وسلموا على اليسار: السلام عليكم ورحمة الله.
وإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين فقوموا بعد التشهد الأول مكبرين وارفعوا أيديكم عند القيام، وصلوا ما بقي من صلاتكم على صفة ما سبق في الركعة الثانية إلا أنكم تقتصرون على الفاتحة، وتجلسون للتشهد الأخير متوركين بأن تنصبوا قَدَمَ الرجل اليمنى وتخرجوا الرجل اليسرى من تحت ساقها وتستقروا على الأرض.
أيها المسلمون: هذه صفة الصلاة فأقيموها وأتقنوها لعلكم تفلحون، فقد قال الله تعالى: قد أفلح المؤمنون إلى قوله: أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [المؤمنون:1-11].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/146)
في محبة الله ورسوله
الإيمان
الإيمان بالرسل
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب محبة العبد الضعيف لربه وعلامات ذلك , ودليل صدقه – حال السلف في تقديمهم محاب الله
ورسوله وحالنا , ومظاهر الخلل في دعوانا محبة الله ورسوله – وجوب محبة الرسول صلى
الله عليه وسلم ولزومها لمحبة الله , وعلامات هذه المحبة – ارتباط الولاء والبراء بمحبة الله ورسوله – الأسباب الجالبة لمحبة الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأطيعوه حبًا وإجلالاً وطمعًا في ثوابه، وخوفًا من عقابه، فهو الإله الذي تؤلهه القلوب وتعبده محبة وإجلالاً وتعظيمًا، وإذا كانت القلوب قد جبلت على حب من أحسن إليها فإن كل إحسان وكل نعمة فمصدر ذلك منه سبحانه: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53]. فيجب على العبد أن يحبه غاية الحب ويعبده وحده لا شريك له، ومحبة العبد لربه لها علامات تدل عليها، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]. فعلامة محبة العبد لله أن يكون متبعًا لرسوله يفعل ما أمر به ويترك ما نهى عنه قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى أما من ادعى أنه يحب الله وهو مخالف لرسوله فإنه كاذب في دعواه، قال بعض السلف: ادّعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحبة: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى وقوله تعالى: يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ إشارة إلى ثمرة محبة الله وفائدتها، وهي أن من أحب الله أحبه الله وغفر له ذنوبه، قال تعالى: ء ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]. فذكر في هذه الآية الكريمة أن محبة العبد لربه لها أربع علامات:-
الأولى: الذلة على المؤمنين. بمعنى أن يكون رحيمًا بهم عاطفًا عليهم محسنًا إليهم.
الثانية: العزة على الكافرين. بمعنى أنه يكون شديدًا عليهم مبغضًا لهم كما قال الله تعالى: أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ [الفتح:29].
الثالثة: أن يكون مجاهدًا في سبيل الله بالنفس والمال واللسان والقلب.
الرابعة: أن يكون لا تأخذه في الله لومة لائم، بحيث لا يؤثر فيه لوم الناس له على ما يبذله من الجهاد والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلا يمنعه لوم الناس له عن الاستمرار في ذلك.
ومن علامة صدق العبد في محبته لله أن يُقدم ما يحبه الله على ما تحبه نفسه، وما يميل إليه هواه وطبعه من المال والقرابة والوطن، قال تعالى: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْو?نُكُمْ وَأَزْو?جُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْو?لٌ ?قْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـ?رَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـ?كِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى? يَأْتِىَ ?للَّهُ بِأَمْرِهِ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [التوبة:24]. أمر الله نبيه أن يتوعد من قدم محبة هذه الثمانية: أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثرها - أو بعضها - على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها كالجهاد والهجرة ونحو ذلك.
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: أي إن كانت هذه الأشياء أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه، ولهذا آثر السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ما يحبه الله على ما يحبونه، فقدموا أنفسهم وأموالهم للجهاد والإنفاق في سبيله مع ما في ذلك من القتل ونفاد الأموال. وترك المهاجرين ديارهم وأموالهم وأولادهم وانتقلوا من وطنهم الأصلي إلى دار الهجرة يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله، وقال الله فيهم: أُوْلَئِكَ هُمُ ?لصَّـ?دِقُونَ [الحشر:8].
فقارنوا يا عباد الله بين حال أكثرنا اليوم وحال هؤلاء الصادقين، فالكثير منا اليوم يقدم هوى نفسه على طاعة ربه، فإذا دعي إلى الصلاة في المسجد آثر النوم والراحة أو اللهو واللعب ولم يخرج إلى الصلاة ولم يجب داعي الله. وإنما يجيب داعي الشيطان والهوى والنفس، وإذا دعي إلى الصلاة وهو في متجره أو عمله آثر طلب الدنيا على طلب الآخرة، فأقبل على البيع والشراء بأداء العمل الدنيوي ولم يذهب إلى الصلاة وعصى أمر ربه في قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ [الجمعة:9]. وفي قوله تعالى: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لاْصَالِ [النور:36،37].
والتاجر الذي يأخذ المال بطرق محرمة كالربا والغش والكذب قد آثر حب المال على حب الله، والبخيل الذي يمنع الحقوق الواجبة في ماله كالزكاة والإنفاق في سبيل الله قد آثر حب المال على حب الله ونسي قوله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180].
والوالد حينما يؤمر بإلزام أولاده بالصلاة وإحضارهم إلى المسجد وإنقاذهم من النار كما قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6] وقوله : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)) [1] ، فإنه لا يبالي بأمر الله ورسوله ويترك أولاده في بيته لا يشهدون صلاة ولا يعرفون مسجدًا،لأنه آثر حب أولاده على محبة الله فهو لا يريد أن يضربهم أو يغضبهم ولو عصوا ربهم وتركوا واجبهم، فصارت محبة الأولاد أشد عنده من محبة الله، واتقاء غضب الأولاد أهم في نظره من اتقاء غضب الله، وإلا لو كان الأمر بالعكس لقدم أمر الله على محبتهم. وهذا خليل الله إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – لما أمره الله بذبح ابنه الذي وهبه الله له بعد كبر سِنّه بادر إلى امتثال أمر ربه وتقديم محبة الله على محبة هذا الابن. ولما ظهرت نيته وخالص محبته لربه نسخ الله الأمر بذبح الابن وفداه بذبح عظيم، وبشره بابن آخر هو إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، كل هذا ببركة طاعة الله وتقديم محبته على محبة غيره.
عباد الله: وكما تجب محبة الله تعالى تجب محبة رسوله وهي تابعة لمحبة الله ولازمة لها، عن أنس بن مالك أن النبي قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) أخرجاه في (الصحيحين) [2]. وروى البخاري عن عمر بن الخطاب : أنه قال للرسول : لأنت يا رسول أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي : ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)). فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي. فقال النبي : ((الآن يا عمر)) [3]. وذلك لأن الرسول هو الذي دلنا على الخير وبين لنا طريق النجاة وسبيل السعادة وحذرنا من الشر والهلاك وبسببه اهتدينا، ومحبته تقتضي متابعته وطاعته، فمن ادعى محبته بدون متابعته أو ادعى محبته ولم يتمسك بسنته ولم يترك البدع المخالفة لسنته، فهو كاذب في دعوى محبته لرسول الله لأن محبته تقتضي فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وقد قال الله تعالى: مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ [النساء:80] ، فالذي يدعي محبته ويخالف سنته ويعمل بالبدع والخرافات هو كاذب في دعواه.
ومن علامة محبة العبد لله ورسوله: أن يُحب من يحبهم الله ورسوله، فالله يحب المحسنين المتقين ويحب التوابين ويحب المتطهرين، والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين وما يحبه الله من أعمالهم وأخلاقهم، وفي (الصحيحين)، عن أنس قال: قال رسول الله : ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) [4] ، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان ولو كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أنفسهم شيئًا) رواه ابن جرير. فمن أحب الله تعالى أحب فيه ووالى أولياءه وعادى أعداءه، فمن كان كذلك تولاه الله. ومن لم يكن كذلك فإن الله لا يتولاه، وإذا لم يتوله الله تولاه أعداؤه، قال الله تعالى: ?للَّهُ وَلِيُّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ?لطَّـ?غُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ?لنُّورِ إِلَى ?لظُّلُمَـ?تِ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:257].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] حسن ، أخرجه أحمد (2/170) ، وأبو داود ح (495) والحاكم (1/197).
[2] صحيح البخاري ح (15) ، صحيح مسلم ح (44).
[3] أخرجه البخاري ح (6257).
[4] أخرجه البخاري ح (16) ، ومسلم ح (43).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، يَمُن على من يشاء من عباده بالإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن من علامات محبة الله بغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال والأقوال، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]. وقال تعالى: وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ [آل عمران:57] ، وقال تعالى: وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ [البقرة:205]. فيجب على المؤمن الذي يحب الله أن يبغض ما يبغضه الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [الممتحنة:1]. وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ [الممتحنة:13]. وقال تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]. فأوجب سبحانه في هذه الآيات بغض أعداء الله المحادين له الذين غضب الله عليهم من الكفار والمنافقين والمتكبرين، ولو كانوا من أقرب الأقربين، كما أوجب سبحانه على المؤمن بغض المعاصي من الكفر والفسوق والعصيان لأن الله يبغضها فيكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار، كما جاء في الحديث، واعلموا أن كل محبة تأسست على معصية الله ستنقلب عداوة يوم القيامة، قال تعالى: ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67]، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً (1/147)
مسؤولية الأمام والمأمومين
فقه
الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بتقوى الله عز وجل وتعلم حدوده والتفقه في الدين - من حدود الله حدود صلاة الجماعة ومسؤولية الإمام - صفة صلاته صلى الله عليه وسلم ومراعاته أحوال المأمومين ، وإقامته الصفوف وحرص الخلفاء الراشدين على ذلك - وجوب متابعة المأموم لإمامه وعدم مسابقته ، والحرص على تسوية الصفوف - الحث على الصف الأول والتحذير من التأخر عنه وعن الصلاة - حكم صلاة المنفرد خلف الصف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله لتعبدوا ربكم على بصيرة وبرهان، فإنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، لا يستوي من يعبد الله وهو يعلم كيف يعبده ويعلم أنه يعبده على شريعة الله تعالى وسنة رسوله ومن يعبده وهو يجهل ذلك، ومتى علمتم حدود ما أنزل الله فاتقوا الله في التزامها ما استطعتم وطبقوها كما علمتم: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [آل عمران:132]. ولا تأخذكم في ذلك لومة لائم أو انتقاد منتقد: أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.
أيها الناس: إن من حدود ما أنزل الله على رسوله حدود صلاة الجماعة حيث حد للإمام فيها والمأموم ما لم يكن محدودا في حالة الانفراد، وكل واحد منهما مسؤول عما يختص به.
فمن مسؤوليات الإمام أن يحرص على إكمال الصلاة. بحيث تكون مثل صلاة النبي في أصحابه رضي الله عنهم، فإنها أتم صلاة وأخفها كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه ما صليتُ وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله.
فالإمام لو صلى وحده لكان له الخيار بين أن يقتصر على أقل واجب في الصلاة وبين أن يفعل أعلى مطلوب فيها، ولكنه إذا صلى بالجماعة لم يكن مخيرا في ذلك، بل يجب عليه أن يراعي من خلفه بحيث يتمكنون من فعل أدنى الكمال في صلاتهم لأنه لا يصلي لنفسه فحسب وإنما يصلي لنفسه ولمن خلفه فليتق الله فيهم ولا يحرمهم من فعل أدنى الكمال خلفه، وإن ترقى إلى أن تكون صلاته كصلاة النبي فهو أكمل وأطيب.
ومن مسؤوليات الإمام أيضا أن يحرص على إقامة الصفوف وتسويتها بالقول وبالفعل إذا لم يفد القول، فيأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها ويؤكد ذلك عليهم ويتوعدهم على مخالفتها ويسويها بيده إن لم ينفع ذلك كما كان نبينا وإمامنا وقدوتنا يفعل ذلك، فعن أنس بن مالك أن النبي قال: ((سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة)) متفق عليه وللبخاري من إقامة الصلاة)) ولأبي داود: ((رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق)).
وله من حديث ابن عمر أن النبي قال: ((أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات الشيطان)) (يعني الفضاء بين الرجلين فإن الشيطان يدخل فيه من بين أهل الصف) قال : ((ومن وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله)) وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: ((أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا)).
وعن النعمان بن بشير قال: ((كان رسول الله يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى رآنا أنا قد عقلنا عنه ثم خرج يوما فقام حتى كاد يكبر فرأى رجلا باديا صدره من الصف فقال: عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن بين وجوهكم أي بين قلوبكم)).
كما في رواية لأبي داود وهذا وعيد شديد على من لا يسوون الصفوف أن يخالف الله بين قلوبهم فتختلف وجهات نظرهم وتضيع مصالحهم بسبب اختلافهم.
وعن البراء بن عازب قال: ((كان رسول الله يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)).
وقال النعمان بن بشير : ((كان رسول الله يسوي يعني صفوفنا إذا قمنا للصلاة فإذا استوينا كبر)) [رواهما أبو داود].
فانظروا قوله فإذا استوينا كبر هذه الجملة الشرطية تجدوها صريحة في أنه لا يكبر للصلاة حتى تسوي الصفوف، ولقد أدرك ذلك الخلفاء الراشدون والأئمة المتبعون لرسول الله ففي الموطأ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه يأمر بتسوية الصف فإذا جاءوه فأخبروه أن قد استوت كبر، وكان قد وكل رجالا بتسوية الصفوف.
وقال مالك بن أبي عامر كنت مع عثمان بن عفان فقامت الصلاة وأنا أكلمه- يعني في حاجة- حتى جاء رجال كان قد وكلهم بتسوية الصفوف فأخبروه أن الصفوف قد استوت فقال لي: استو في الصف ثم كبر، فهذا فعل رسول الله وخلفائه الراشدين لا يكبرون للصلاة حتى تستوي الصفوف.
أفليس من الجدير بنا أن يكون لنا فيهم أسوة حسنة، أمر بتسوية الصفوف وإقامتها وأن ننتظر فلا نكبر للصلاة حتى نراهم قد استووا على الوجه المطلوب، وأن لا نخشى في ذلك لومة لائم أو تضجر متضجر.
لكن من الأسف إن كثيرا من الأئمة - فتح الله علينا وعليهم - لا يولي هذا الأمر عناية، وغاية ما عنده أن يقولها على العادة: استووا اعتدلوا. فلا يشعر نفسه بالمقصود منها ولا يبال من خلفه بها ولا يأتمرون بها ، تجده يقول ذلك وهم باقون على اعوجاجهم وتباعد بعضهم من بعض، ولو أن الإمام شعر بالمقصود ونظر إلى الصفوف بعينه وانتظر حتى يراهم قد استووا استواء كاملا ثم كبر لبرئت ذمته وخرج من المسؤولية.
هذه بعض من مسؤوليات الإمام في إمامته. أما المأموم فإنه لو كان يصلي وحده لكان مخيرا بين أن يقتصر على أدنى واجب في صلاته أو أن يطول فيها، ولكنه إذا كان مع الإمام فقد ارتبطت صلاته بصلاة إمامه، فلا يجوز أن يتقدم على الإمام بالتكبير ولا القيام ولا القعود ولا الركوع ولا السجود، ولا يأتي بذلك مع الإمام أيضا، وإنما يأتي به بعده متابعا له فلا يتأخر عنه قال النبي : ((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار))، وقال أيضا: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون)).
ومن مسؤوليات المأموم المحافظة على تسوية الصفوف، وأن يحذر من العقوبة على من لم يسوها، وأن يحافظ على المراصة فيها وسد خللها والمقارنة بينها ووصلها بتكميل الأول فالأول، وأن يحذر من عقوبة قطع الصفوف فإن من قطع صفا قطعه الله، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء - يعني الأذان - والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه - يعني يقترعوا عليه - لاستهموا)).
وقال: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها)). وقال : ((أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر)) [رواه أبو داود].
ورأى في أصحابه تأخرا، وفي لفظ رأى قوما في مؤخر المسجد فقال: ((تقدموا فأْتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) ، فهل ترضى أيها المسلم لنفسك أن تكون في شر الصفوف، وهو آخر الصفوف مع تَمكّنِكَ من أولها، هل ترضى لنفسك أن تعرضها للعقوبة بالتأخر عن مقدم الصفوف حتى يؤخرك الله في جميع مواقف الخير؟ هل ترضى لنفسك أن لا تصف بين يدي ربك كما تصف الملائكة عند ربها يتراصون في الصف ويكملون الصفوف المقدمة؟
ما من إنسان يرضى لنفسه بذلك إلا وقد رضي لها بالخسران، فتقدموا أيها المسلمون إلى الصفوف، وأكملوا الأول فالأول وتراصوا فيها وتساووا ولينوا بأيدي إخوانكم لتسوية الصف أو التراص فيها لتتموا صلاتكم، وتمتثلوا أمر نبيكم وتقتفوا أثر سلفكم الصالح.
ومن وجد الصف تاما ولم يجد له مكانا فيه فليصل خلفه ولا حرج عليه، ومن صلى وحده خلف الصف وهو يجد مكانا فيه فلا صلاة له، وإذا اجتمع ثلاثة فصلى بهم أحدهم فليتقدم عليهم، وإذا كانوا يصلون على بساط ونحوه لا يتسع لتقدم الإمام عليهم فليصلوا صفا واحدا ويكون الإمام بينهما مساويا لهما أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره.
وإذا اجتمع اثنان وأرادوا الصلاة جماعة صلى الإمام عن يسار المأموم والمأموم عن يمينه مستويين لا يتقدم الإمام عن المأموم لا قليلا ولا كثيرا.
فاتقوا الله لعلكم تفلحون: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين [آل عمران:132-136].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/148)
في صلاة الكسوف
فقه, موضوعات عامة
الصلاة, مخلوقات الله
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بتقوى الله وشكره على ما سخره لنا مخلوقات ، ومنها تسخير الشمس والقمر -
حكمة كسوف الشمس والقمر ، وسرُّ كثرتها هذه الأيام -
حال الناس اليوم مع الكسوف ، مقارنة مع حال السلف وسبب ذلك -
صفة صلاة الكسوف والخطبة فيها -
الواجب فعله عند حدوث الكسوف
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واشكروه على ما سخر لكم من مخلوقاته، فلقد سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه وَسَخَّرَ لَكُمُ ?لْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى ?لْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ?لانْهَـ?رَ وَسَخَّر لَكُمُ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:32-34].
سخر لكم الشمس والقمر دائبين لتعلموا بمنازل القمر عدد السنين والحساب ولتتنوع الثمار بمنازل الشمس بحسب الفصول والأزمان. سخرهما يسيران بنظام بديع وسير سريع ?لشَّمْسُ وَ?لْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن:5]، لا يختلفان علوا ولا نزولا ولا ينحرفان يمينا ولا شمالا، ولا يتغيران تقدما ولا تأخرا عما قدر الله تعالى لهما في ذلك صُنْعَ ?للَّهِ ?لَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88].
فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال علمه وقدرته وبالغ حكمته وواسع رحمته آيتان من آياته في عظمهما آيتاه من آياته في نورهما وإضاءتهما وَ?لشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ?لْعَزِيزِ ?لْعَلِيمِ وَ?لْقَمَرَ قَدَّرْنَـ?هُ مَنَازِلَ حَتَّى? عَادَ كَ?لعُرجُونِ ?لْقَدِيمِ (1/149)
أحكام اللباس
الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بتقوى الله وشكره على ما أنعم من الرزق واللباس -
من فوائد اللباس ، وحكمة حاجة الإنسان إلى ما يستر عورته الظاهرة -
العورة الباطنة وبم تستر -
من أحكام اللباس أن الأصل فيها الحل -
من اللباس المحرم: ما يختص بالكفار – ما يختص بالمرأة للرجل ، والعكس للمرأة -
لباس الشهرة – الإسبال للرجال – الحرير للرجال والذهب
وحكم لبس (دبلة) الخطوبة وارتباطه بعقيدة النصارى -
اللباس الذي لا يستر العورة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم عليكم بما أخرجه لكم من طيبات الرزق واللباس: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون [الأعراف:26].
لقد بين الله تعالى فوائد هذا اللباس بأنه زينة ومواراة للسوأة أي ستر العورة، ولم يجعل الله للإنسان ساترا طبيعيا من أصل الخلقة، ليتذكر الإنسان أنه دائما في عورة ومحتاج إلى الستر، فينتقل من معرفة الحاجة إلى الستر الحسي للعورة الحسية إلى معرفة الحاجة إلى الستر المعنوي للعورة، وهي عورة نقص الدين والأخلاق، فيسترها بتكميل دينه وأخلاقه، ولقد دلت النصوص أن اللباس بقسميه لباس الزينة ولباس الحاجة جائز والأصل فيه الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه قال الله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ً [البقرة:29]. وقال سبحانه: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [الأعراف:32]. قاله إنكارا على من يحرمون شيئا من اللباس والطعام بغير دليل.
ولقد بين رسول الله لأمته ما لا يجوز لهم من اللباس بيانا ظاهرا. فمن ذلك لباس ما يختص بالكفار، سواء كان لباسا شاملا للجسم كله أو لعضو منه، فكل لباس يختص بالكفار ولا يلبسه غيرهم فإنه لا يجوز للمسلم لبسه، لقول النبي : ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
فإن التشبه بهم يقتضي شعور المتشبه بأنهم أعلى منه، فيعجب بهم وبصنيعهم حتى يؤدي به ذلك إلى إعجابه بعقائده وأعمالهم، ومن ذلك لباس الرجل ما يختص بالمرأة ولباس المرأة ما يختص بالرجل، فكل لباس يختص بالرجل سواء كان شاملا لجميع الجسم كالقميص أم مختصا بعضو منه كالسسراويل والحذاء وغيرها، فإنه لا يجوز للمرأة أن تلبسه، وكل لباس يختص بالمرأة فإنه لا يجوز للرجل لبسه، لأن النبي لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، ومن ذلك لباس ما يقصد به الفخر والخيلاء من ثوب أو سروال أو نعل أو غيرها لأن النبي نهى أن يفخر أحد على أحد، فيتظاهر بالرفعة والعلو عليه وما يدري هذا المفتخر فلعل الأحوال تتغير فيحل محل من افتخر عليه في الفقر والإعواز، ويحل الثاني محله في الغنى والوجود وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: ((بينما رجل يمشي في حلة - إزار ورداء - تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) ، وفي الحديث عن ابن عمر قال سمعت رسول الله يقول: ((من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان)) ، ومن ذلك أن ينزل لباس الرجل إلى ما تحت الكعبين سواء كان قميصا أم سروالا أم مشلحا لقول النبي : ((ما أسفل ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)). وقال النبي : ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
ومن ذلك لباس الرجل الحرير الطبيعي فكل لباس من حرير سواء كان ثوبا أم سروالا أم شرابا أم غترة طاقية أم غيرها فهو حرام على الرجال.
ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب أن النبي قال: ((لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) وقال: ((إنما يلبس الحرير من لا خلاق له)).
ومن ذلك لبس الرجل الذهب فلا يجوز للرجل أن يلبس ذهبا لا خاتما ولا سوارا ولا أزرارا ولا غيره، ففي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي : ((رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده فقال الناس للرجل بعدما ذهب رسول الله : خذ خاتمك انتفع به، فقال: والله لا آخذه وقد طرحه رسول الله )) ، وفي سنن النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رجلا قدم من نجران إلى رسول الله وعليه خاتم من ذهب فأعرض عنه رسول الله وقال إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي قال :((من مات من أمتي وهو يتحلى بالذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة)) [رواه أحمد]. وعن علي بن أبي طالب أن النبي أخذ حريرا وذهبا فقال: ((هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم)) [رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم].
ومن ذلك لبس خاتم الخطبة الذي يسمونه (الدبلة) فهو سيئ للرجال والنساء لأن هذه العادة سرت من النصارى، قاله محدث الشام في عصره الألباني.
قال: ويرجع ذلك إلى عادة قديمة يضع الرجل العروس الخاتم على رأس إبهام العروسة المرأة ويقول باسم الأب ثم يضعه على رأس السبابة ويقول باسم الابن يعنون بالأب الله وبالابن عيسى تعالى الله عن قولهم ثم يضعه على رأس الوسطى ويقول باسم روح القدس وعندما يقول آمين يضعه في البنصر حيت يستقر.
أيها المسلم: إذا كانت هذه العادة متلقاة من النصارى فكيف ترضى لنفسك بصفتك مسلما أن تقلدهم فيها وتتشبه بهم، وقد علمت أن نبيك قال: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) كيف تذهب بعقلك إلى هذه الخرافة التي لا حقيقة لها فليست الدبلة بالتي تجلب المودة وليس عدمها بالذي يطرد المودة.
وعن ابن مسعود أن النبي قال: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)). وفسر العلماء التولة بأنها شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والدبلة شبيهة بالتولة لأنهم يعتقدون أنها رابطة بين الزوج وزوجته وهي بعيدة من ذلك فليست بربط شرعي، لأن الربط الشرعي بين الزوجين يكون بعقد النكاح، وليست ربطا كونيا لأنها لا تأثير لها حسا سوى ما يقع في وهم لابسيها بناء على عقيدة لا أصل لها.
ولا تعجبوا أن تكون التولة نوعا من الشرك وذلك لأن الخلق والأمر كله لله عز وجل وحده، فوضع السببية في الأسباب إلى الله وحده، فمن جعل شيئا ما سببا لشيء لم يجعله الله سببا له فقد شارك الله فيما يختص به.
إذن فخاتم الخطبة إن كان من ذهب فهو حرام سيئ على الرجل من جهتين من جهة أنه ذهب ومن جهة العقيدة الفاسدة والتقليد الأعمى الذي مصدره من النصارى، وإن كان غير ذهب أو استعملته الأنثى فهو سيئ من جهة واحدة.
ومن اللباس المحرم لبس الرجل والمرأة ما لا يستر من الثياب ما يجب ستره، كلبس الرهيف الذي لا يستر والقصير، ويتضح ذلك في الرجال في أيام الصيف حيث يلبسون سراويل قصيرة يبدو منها بعض الفخذ وثيابا رهيفة عليها لا تستر وهذا غير ساتر في الصلاة فلا تصح الصلاة حينئذ فيقعون في خطر عظيم حيث يصلون صلاة لا تنفعهم. ويتضح ذلك في النساء حيث تلبس خمارا رهيفا وتخرج إلى السوق فتبدو كأنها غير ساترة وجهها.
فاتقوا الله أيها المسلمون واستعينوا بنعم الله على طاعته ولا تجعلوا هذه النعم وسيلة للأشر والبطر والرفاهية في الإثم: واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [آل عمران:131-132].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/150)
الخوف والرجاء
الإيمان, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية, خصال الإيمان
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
حال العبد بين الخوف والرجاء , ومنهج القرآن في ذلك , وسِرُّه – الأمر بالخوف والخشية من
الله , وما هو الخوف المحمود – أنواع الرجاء , وعلامة الرجاء المحمود – الأمور الجالبة
للخشية من الله , وعلامة ذلك – وجوب المبادرة بالتوبة والاستغفار
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتدبروا كتاب الله فقد حثكم على فعل الطاعات وبين لكم ثوابها وثمراتها لتكثروا منها، ونهاكم عن المعاصي وبين لكم عقابها وآثارها الضارة لتحذروا منها وتجتنبوها، كما أنه وصف لكم الجنة وما فيها من النعيم والفوز المقيم لتعملوا لها، ووصف لكم النار وما فيها من العذاب الأليم والهوان المقيم لتتركوا الأعمال الموصلة إليها، وهكذا كثيرًا ما نجد آيات الوعد إلى جانب آيات الوعيد. وذكر الجنة إلى جانب ذكر النار، ليكون العبد دائمًا بين الخوف والرجاء. لا يأمن من عذاب الله ولا ييأس من رحمة الله، كما قال تعالى: وَ?لَّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ (1/151)
ما يحرم من اللباس
الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
قوله تعالى : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم ) وما فيه من امتنانه سبحانه على عباده بثلاثة أنواع من الألبسة -
اللباسان الحسيان أحدهما ضروري والآخر جمال وزينة ، وبيانهما
اللباس المعنوي لباس التقوى ومعناه -
لطيفة في إضافة الزينة إلى الله في قوله تعالى: (زينة الله) ، وما فيه من الفوائد -
من أنواع اللباس المحرم لباس الصور ، ودليل ذلك وحال الناس اليوم في هذا النوع ، وحكم
شرائه -
من اللباس المحرم الإسبال للرجال ، وحكم الإسبال لغير خيلاء ، وموقف السلف ممن فعل ذلك كما في قصة موت عمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون [الأعراف:26]. في هذه الآية الكريمة بين الله تعالى ما منّ به على عباده حيث أنزل عليه ثلاثة أنواع من الألبسة نوعان: حسيان، ونوع معنوي.
فأما النوعان الحسيان فهما: لباس ضروري يواري الإنسان به عورته يكسو به بدنه لا بد له منه، ولباس ريش ويقال رياش وهو لباس الجمال والزينة الزائد عن اللباس الضروري.
وأما النوع المعنوي فهو لباس التقوى تقوى الله عز وجل بامتثال أمره واجتناب نهيه، وهذا اللباس خير من النوعين الحسيين، ذلك لأنه يواري سوأه الإنسان في الدنيا والآخرة: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب [الطلاق:2-3]. ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً [الطلاق:4].
إن هذا اللباس هو الزينة التي أخرج الله لعباده وأحلها لهم وأنكر على من يحرمها بدون برهان: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [الأعراف:32]. إن في إضافة هذه الزينة إلى الله ووصفها بأنه الذي أخرجها لهم لأكبر برهان على أنه ليس من حقنا أن نتحكم بهذه الزينة في تحليل أو تحريم، وإنما حكمها إلى الله وحده لأنه الذي أخرجها لعباده وحده، وليس من حقنا كذلك أن نستعملها كما نشاء، وإنماء نستعملها على الوجه الذي حدد لنا بدون تعد: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون [البقرة:29].
لقد حدد الله لنا استعمال هذا اللباس نوعا وكيفا، حلاً وحرمة، لئلا نتجاوز بها إلى حد لا يليق بنا.
أما الحل فإن الحلال من هذا اللباس هو الأصل لأن الله يقول: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً [البقرة:29]. واللباس مما خلق الله لنا في الأرض فهو حل لنا حتى يقوم دليل على تحريمه، ولهذا كان الحل من اللباس أكثر بكثير من المحرم، وأما المحرم فهو قليل بالنسبة إليه، لأن عطاء الله سبحانه أوسع من منعه ولا يمنع إلا لحكمة بالغة اقتضت المنع.
فمن المحرم لباس الصور ولباس ما فيه صورة لأن عائشة رضي الله عنها: ((اشترت نمرقة- والنمرقة الوسادة أو المخدة- وكان فيها تصاوير، فجاء النبي فلما رأها قام على الباب ولم يدخل، قالت: فعرفت في وجهه الكراهية فقلت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسول الله ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله : ما بال هذه النمرقة؟ فقلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها فقال رسول الله : إن أصحاب هذه الصور يُعذبون يوم القيامة فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم، ثم قال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة)) [ رواه البخاري ومسلم].
النبي قام على الباب ولم يدخل لأن في البيت مخدة فيها صورة، وظهرت كراهية ذلك على ملامح وجهه حتى أعلنت أم المؤمنين عائشة التوبة من أجل ما في وجهه.
ومن أمة محمد ومن المؤمنين من يصطحبون الصور في ملابسهم، فيلبسون الصور أو يلبسون ما فيه الصور.
نعم، لقد غزانا أعداء الإسلام بفتنة هذه الصور فأتونا بها من كل فج ورمونا بها من كل ناحية وضعوا هذه الصور في ملابسنا، فكان في بعض الأقمشة صور الحيوانات الكبيرة أو الصغيرة بالتلوين تارة وبوضع قصاصات أو مطاط على صورة حيوان تارة، وتجدون ذلك ظاهرا في الألبسة الجاهزة وصنعوا لنا حليا من الذهب أو غيره على صورة الحيوانات على صورة فراشة أو سمكة لنلبسه فتفارقنا الملائكة بلبسه، صنعوا لنا ذلك كله وأكثروا علينا ليهون علينا أمره وننسى أمر الله ورسوله فيه أو نتهاون في أمر الله ورسوله.
وإن لباس هذه المصورات محرم وبيعها وشراؤها محرم لأنه إعانة على الإثم وقد قال الله تعالى: ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب [المائدة:2].
وكما لا يجوز للمسلم أن يلبس الصورة أو ما فيه صورة فإنه لا يجوز له أن يُلبسها صبيه الصغير ذكرا كان أو أنثى، والخلاص من ذلك إذا كانت عند الإنسان الآن أن يقطع رأسها إن كانت حليا.
أما إن كانت في قماش فإن كانت ملصقة إلصاقا قلعها أو قلع رأسها وإن كانت مرسومة باللون وضع على الرأس لونا يطمسه. وفي صحيح مسلم عن أبي الهَياج الأسدي أن علي بن أبي طالب قال له: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا صورة إلا طمستها ولا قبرا مُشرّفاً إلا سويته)).
ومن المحرم أيضا ما يحرم على الرجال خاصة وهو لبس ما نزل عن الكعبين من سراويل أو قميص أو مشلح أو غيرها، لقول النبي : ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)) رواه البخاري، وقال ابن عمر رضي الله عنهما، ما قال رسول الله في الإزار فهو في القميص فلا يحل للرجل أن ينزل شيئا من ثيابه أسفل من الكعبين، لأن النبي توعد على ذلك بالنار ولا وعيد إلا على فعل محرم.
ولقد ظن بعض الناس أن هذا الحديث فيمن نزل ثيابه خيلاء. والخيلاء أن يتخيل الشخص لنفسه منزل عالية فيتعاظم في نفسه ويعجب بها، ظن أن هذا الحديث فيمن نزل ثيابه خيلاء لأن النبي قال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه)) فأراد أن يحمل ذاك المطلق على هذا المقيد، ولكن هذا ليس بصحيح فإن الوعيد فيهما مختلف وسببه مختلف، الوعيد فيمن جر ثوبه خيلاء أن الله لا ينظر إليه والوعيد فيمن نزل ثوبه عن كعبيه أن ما نزل في النار فالعقوبة جزئية، والعقوبة الأولى أن الله لا ينظر إليه وهو أعظم من تعذيب جزء من بدنه بالنار.
وأما السبب فمختلف أيضا فأحدهما أنزله إلى أسفل من الكعبين والثاني جره خيلاء وهذا أعظم ولذلك كانت عقوبته أعظم، وقد قال علماء أصول الفقه إنه إذا اختلف السبب والحكم في الدليلين لم يحمل أحدهما على الآخر، فلا يحل للرجل أن ينزل شيئا من ثيابه تحت الكعبين سواء كان ذلك سراويل أم قميصا أم مشلحا أم غيرها، فإن فعل فعقوبته أن يعذب موضع النازل بالنار.
ولا يحل له أن يجر شيئا من ذلك خيلاء، فإن فعل فعقوبته أن لا ينظر الله إليه بل في صحيح مسلم عن أبي ذر أن النبي قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قالها ثلاثا فقال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
ودخل شاب من الأنصار على عمر بن الخطاب يثني عليه مع الناس حين طُعِن فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض فقال: ((ردوا علي الغلام فردوه عليه فقال: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك)).
فائدتان في رفع الثوب ينبه عليهما أمير المؤمنين عمر بقاء الثوب حيث لا تتلف الأرض أسفله، وتقوى الله عز وجل: ولباس التقوى ذلك خير [الأعراف:26].
قد يقول متهور: أنا لا أبالي إذا أتلف أسفل ثوبي، وجوابنا فهل لا تبالي أيضا إذا أضعت تقوى الله واستعنت بنعمه على معاصيه فانقلبت النعم نقما والمتعة ألما؟.
فاتقوا الله عباد الله، واستعينوا بنعمه على طاعته، واحفظوا حدوده، وأقيموا فرائضه، واعبدوه حق عبادته ما استطعتم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/152)
في وجوب رعاية المرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
نقص المرأة في عقلها وتدبيرها ودليل ذلك ، وحاجته إلى من يقوم عليها -
خطورة تهاون الرجال في القيام بمقتضى قوامتهم على النساء وآثار ذلك على الأمة والمجتمع -
قرار المرأة في بيتها خير من خروجها إلى المسجد فكيف بغيره -
حكم تغطية المرأة وجهها ودليل ذلك ، والترهيب من التبرج والسفور -
حال نساء السلف في امتثالهن الأمر وحشمتهن ونساء اليوم وواجب أولياء الأمور تجاههن
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [البقرة:282]. وقال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [النساء:34].
أيها الناس: إن من هاتين الآيتين الكريمتين يتبين لنا مدى نقص المرأة في عقلها وتدبيرها، ففي الآية الأولى بيان نقص عقلها وإدراكها وإحاطتها حتى فيما تستشهد عليه ويطلب منها رعايته وضبطه.
وفي الآية الثانية بيان نقص تدبيرها وتصرفها وأنها بحاجة إلى مسؤول يتولى القيام عليها وهو الرجل لهذا وجب على الرجال رعاية النساء والقيام عليهن لتكميل ما فيهن من نقص: وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم.
وإنه كلما عظم الخطر عظمت المسؤولية وكلما كثرت أسباب الفتنة وجبت قوة الملاحظة وإننا في عصر عظم فيه الخطر وكثرت أسباب الفتنة، بما فتح علينا من زهرة الدنيا واتصالنا بالعالم الخارجي مباشرة أو بواسطة وسائل الإعلام، وبسبب ضعف كثير من الرجال أو تهاونهم بالقيام بمسئوليتهم تجاه نسائهم وقع كثير من النساء في شرك هذه الفتنة وهاوية ذلك الخطر، حتى إنك لترى المرأة الشابة تخرج من بيتها إلى السوق بألبسة مغرية ألبسة جميلة إما قصيرة وإما طويلة ضيقة ليس فوقها إلا عباءة قصيرة أو طويلة يفتحها الهواء أحيانا وترفعها هي نفسها عمدا أحيانا، تخرج بخمار تستر به وجهها لكنه أحيانا يكون رقيقا يصف لون جلد وجهها، وأحيانا تشده على وجهه شدا قويا بحيث تبرز مرتفعات وجهها كأنفها ووجنتها، تخرج لابسة من حلي الذهب ما لبست، ثم تكشف عن ذراعيها حتى يبدو الحلي كأنما تقول للناس: شاهدوا ما عليّ. فتنة كبرى ومحنة عظمى.
تخرج متطيبة بطيب قوي الرائحة يفتن كل من في قلبه مرض من الرجال، وربما خلع ثياب الحياء فصار يلاحقها، تخرج من بيتها تمشي في السوق مشيا قويا كما يمشي أقوى الرجال وأشبهم كأنما تريد أن يعرف الناس قوتها ونشاطها، وتمشي كذلك في السوق مع صاحبتها تمازحها وتضاحكها بصوت مسموع وتدافعها بتدافع منظور.
وتقف على صاحب الدكان تبايعه وقد كشفت عن يديها وعن ذراعيها وربما تمازحه أو يمازحها أو يضحك معها إلى غير ذلك مما يفعله بعض النساء من أسباب الفتنة والخطر العظيم والسلوك الشاذ الخارج عن توجيهات الإسلام.
يقول الله تعالى لنساء نبيه وهن القدوة: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [الأحزاب:33]. ويقول النبي : (( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن)) هكذا يقول النبي : ((وبيوتهن خير لهن)) ، خير لهن من أي شيء، من مساجد الله فكيف بخروجهن للأسواق، ويقول الله عز وجل: والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة [النور:60]. فإذا كانت المرأة من العجائز ممنوعة من التبرج بالزينة فكيف تكون الشابة التي هي محل الفتنة ؟ ويقول الله سبحانه وتعالى: وليضربن بخمرهن على جيوبهن [النور:31].
فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار وهو ما تغطي به رأسها على جيبها ليستر ما قد يبدو من رقبتها أو يربوا على صدرها فكيف تخالف المرأة المسلمة المؤمنة بالله ورسوله إلى محاولة إبداء وجهها وهو محل الفتنة والتعلق بها ؟ ويقول الله سبحانه: ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن [النور:31]. وهو الخلخال الذي تلبسه برجلها وتخفيه بثوبها فإذا ضربت برجلها على الأرض سمع صوته فإذا كانت المرأة منهية أن تفعل ما يعلم به زينة الرجل المخفاة فكيف بمن تكشف عن ذراعها حتى تشاهد زينة اليد ؟ إن فتنة المشاهدة أعظم من فتنة السماع.
ويقول النبي : (( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس))، ويعني بهم الظلمة من ذوي السلطة الذين يضربون الناس بغير حق أما من يضربون الناس بحق لتقويمهم وتأديبهم فليسوا من هؤلاء وقد يكون المقصود من الحديث كراهة هذا النوع من السياط، أما النوع الثاني فيقول فيه النبي : ((ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها من مسيرة كذا وكذا)). وصفهن النبي بأنهن (كاسيات)أي عليهن كسوة ولكنهن(عاريات)لأن هذه الكسوة لا تستر إما لخفتها أو ضيقها أو قصرها (مائلات) عن طريق الحق (مميلات) لغيرهن بما يحصل منهن من الفتنة (رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة) بما يلففن عليهن من شعورهن أو غيره حتى يكون كسنام البعير المائل.
وصح عن النبي أنه قال: ((أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) فمنعها من حضور المسجد للصلاة لأنها أصابت بخورا فكيف بمن تتطيب بما هو أطيب من البخور وأشد جاذبية ثم تخرج إلى الأسواق، وصح عن النبي أنه قال: ((خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) لماذا كان ذلك؟ كان ذلك لأن آخر الصفوف أبعد عن الرجال والاختلاط بهم هذا وهو في العبادة والصلاة فكيف بمن تلي الرجال وتختلط بهم في الأسواق؟.
هذه أيها المسلمون توجيهات الله سبحانه في كتابه وتوجيهات رسوله في سنته: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً [الأحزاب:36]. ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً [النساء:69]. هذه توجيهات الإسلام.
أما طريق أهل الإسلام فقد قالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: يدنين عليهن من جلابيبهن [الأحزاب:59]. خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسها. أفلا نأخذ أيها المسلمون بهذه التوجيهات الإسلامية ونعتبر بطريق أهل الإسلام، أفلا نتقي الله عز وجل أفلا نتدارك ما وقع فيه كثير من النساء من مخالفة طريق أهل الإسلام ونلزمهن بالسلوك السليم والصراط المستقيم حتى يكون مجتمعنا مجتمعا إسلاميا في رجاله ونسائه في عباداته وأخلاقه لقد كان الكثير من النساء يخرجن من بيوتهن (في أيام الدراسة إما لشراء بعض الأدوات المدرسية وإما للاتصال بزميلتها فيما يتعلق بالدراسة، أما الآن وقد أغلقت المدارس أبوابها في هذا العام أو أوشكت) فجدير بنسائنا أن يلزمن بيوتهن وأن لا يخرجن إلى الأسواق وسيجدن ذلك ثقيلا عليهن في أول الأمر لكنهن سيألفن ذلك ويخفف عليهن في النهاية فيصرن ذوات الخدور وربات الحياء وإن على أولياء أمورهن من الرجال أن يفطنوا لذلك وأن يقوموا بما أوجب الله عليهم من رعاية وأمانة حتى يصلح الله لهم الأمور ويمنعهم من الفتنة، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله رسوله فقد فاز فوزا عظيما [الأحزاب:70-71].
اللهم وفقنا للتقوى والقول السديد وأصلح لنا الأعمال واغفر لنا الذنوب واجعلنا ممن أطاعك وأطاع رسولك وفاز بثوابك إنك جواد كريم اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وقوموا بما كلفكم الله به من رعاية أولادكم وأهلكم خصوصا النساء فإن النساء يحتجن إلى زيادة العناية بالرعاية لأنهن ناقصات في العقل وناقصات في الدين، ناقصات في العقل وفي التفكير وبعد النظر والعاطفة تفكيرها مضطرب غير موزون ونظرها قريب لا يتجاوز قدميها وعاطفتها متداعية كل سبب يجذبها وكل هوى يطيح بها وناقصة الدين لأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم ولأنها تكثر اللعن وتكفر العشير.
أيها المسلمون: يا رجال الإسلام اشكروا هذه النعمة التي حباكم الله بها وقوموا بها على الوجه الأكمل، اسمعوا ربكم خالق الكون وعالم أسراره والمحيط بخفيه وظاهره ومستقبله وماضيه اسمعوه يقول: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض [النساء:34]. فاعرفوا أيها الرجال هذا الفضل وقوموا بحقه لا تبخسوا أنفسكم حقها وتنسوا الفضل لا تغلبكم النساء على رجولتكم ولا يلهينكم الشيطان عن رعاية أهليكم ولا تشتغلوا بأموالكم عن قيمكم وأخلاقكم والحفاظ على عوراتكم وشرفكم.
أيها المسلمون: إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة الهينة وليست المشكلة الجديدة لأنهن الفاسق منهن شرك الشياطين وحبائل الشر تصيد بهن كل خفيف الدين مسلوب المروءة. قال النبي : ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان)) [رواه مسلم]. وقال: ((المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) أي زيّنها في نظر الرجال [رواه الترمذي قال الألباني وإسناده صحيح]. وقال : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) [متفق عليه].
فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا هذه الفتنة التي حذركم منها نبيكم اقضوا على أسباب الشر قبل أن تقضي عليكم وسدوا أبواب الفساد قبل أن تنهار عليكم.
أيها الناس: إن كثيرا من النساء في هذا العصر قد لعب الشيطان بهن وبأفكارهن وتصرفاتهن تخرج الواحدة منهن إلى الأسواق بدون حاجة، وقد قال رسول الله في النساء اللاتي يخرجن إلى الصلاة في المساجد قال: ((بيوتهن خير لهن)). وتخرج الواحدة منهن متزينة متطيبة متحلية وقد قال : ((إن المرأة إذا إستعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية)) [رواه الترمذي وقال حسن صحيح] وتخرج الواحدة منهن فتمشي في السوق مشية الرجل وترفع صوتها كما يتكلم الرجل وتزاحم كما يزاحم الرجل وتختلط مع الرجال بدون مبالاة هذا موجود في بعض النساء ولا سيما في أماكن البيع، وكل هذا خطر عظيوم ضرر جسيم ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة خرج النبي من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال الرسول للنساء إستأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق عليكن بحافات الطريق فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق به. وقالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: يدنين عليهن من جلابيبهن [الأحزاب:59]. خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها وقالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور: وليضربن بخمرهن على جيوبهن [النور:31]. فانقلب الرجال يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها ( [1] ) المرحل ( [2] ) فاعتجرت به ( [3] ) تصديقا وإيمانا بما أنزل الله في كتابه.
أيها الناس: إن الكثير يتساءلون على من تكون مسؤولية هذا التوسع في خروج النساء أعلى الجهات الحكومية أم على وجهاء البلد أم على الولي المباشر والحق أن كل واحد سواء كان جهة أم شخصا كل واحدا عليه مسؤولية ذلك ولكنها على الولي المباشر أكبر وأعظم وأقرب حَلاًّ إذا وفقه الله للقيام بمسؤوليته إن على كل واحد منا أن يمنع زوجته وابنته وأخته وكل من في كفالته أن تخرج إلى السوق إلا من حاجة لا يمكنه أن يقضيها بنفسه عنها. وإذا خرجت فلتخرج غير متطيبة ولا متبرجة ولا لابسة ثياب زينة وأن تخرج وعليها السكينة وتخفي صوتها وتحرص على أن يكون خروجها في الوقت الذي لا تزاحم فيه الرجال.
ومتى عرف الرجل مسؤوليته أمام أهله وخاف مقام ربه وحرص على إصلاح عائلته ومجتمعه فسيقوم بما أوجب الله عليه من الرعاية: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا [الطلاق:2-3].
( [1] ) كساء من صوف أو خز.
( [2] ) برد فيه تصاوير رحل أو إزار خز فيه علم.
( [3] ) لبسته على صفة معينة.
(1/153)
الحث على مخالفة الكفار
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, الولاء والبراء
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
شمول الشريعة لمصالح الدين والدنيا – معنى ( اهدنا الصراط المستقيم ) الآيات , وما فيها من
التمسك بهديه صلى الله عليه وسلم ومخالفة الكفار – الأمر بمخالفة الكفار , والحذر من اتباع
سبيلهم , والحكمة في ذلك – مظاهر التشبه بالكفار اليوم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واعتزوا بدينكم.
عباد الله: إن الله سبحانه قد أغنى المسلمين، وأنعم عليهم بشريعة كاملة شاملة لكل مصالح الدين والدنيا. وعلق السعادة في الدنيا والآخرة على العمل بها والتمسك بهديها. قال تعالى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123] ، وقال تعالى: فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]. وهذه الشريعة هي الصراط المستقيم الذي هو طريق المنعَم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وما خالفها فهو طريق المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى والمشركين.
وأنت أيها المسلم في كل ركعة من صلاتك تدعو ربك أن يهديك الصراط المستقيم، وأن يجنبك طريق المغضوب عليهم والضالين حينما تقرأ سورة الفاتحة - التي قراءتها ركن من أركان الصلاة - في كل ركعة، فتأمل هذا الدعاء ومقاصده وثماره.إنه يعني أول ما يعني الاقتداء بالرسول والتمسك بشريعته في العبادات وفي المعاملات وفي الآداب والأخلاق العامة والخاصة.
وإنه يعني مخالفة الكفار فيما هو من خصائصهم في العبادات والمعاملات وفي الآداب والأخلاق؛ لأن التشبه بهم في الظاهر يورث محبتهم في الباطن. ولهذا تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على الأمر بمخالفتهم، والنهي عن التشبه بهم إبعادًا للمسلم عما فيه مضرته؛ لأن أعمال الكفار باطلة، ومساعيهم ضالة، ونهايتهم إلى الهلاك. فجميع أعمال الكافر وأموره لابد فيها من خلل يمنعها أن تتم له بها منفعة قال تعالى: وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـ?لُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ?لظَّمْانُ مَاء حَتَّى? إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور:39]. وقال تعالى: مَّثَلُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ?شْتَدَّتْ بِهِ ?لرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18].
أيها المسلمون: ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله مما سبق في علمه تعالى حيث قال فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)). قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟)) [1] أي: من القوم إلا هؤلاء؟ وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي : ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرًا بشبر وذراعًا بذراع)) فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ قال: ((ومن الناس إلا أولئك؟)) [2] فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم. وقد كان رسول الله ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس إخباره عن وقوع المضاهاة في الأمة للكفار إخبارًا عن جميع الأمة، بل قد تواتر عنه أنه قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة)) [3] ، وأخبر أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة [4]. وأن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته. فعلم بخبره الصادق أنه لابد أن يكون في الأمة قوم يتمسكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا، وقوم ينحرفون إلى شعبة من شعب دين اليهود، أو إلى شعبة من شعب دين النصارى. وهذا الانحراف يزينه الشيطان. فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلاً.
والحكمة – يا عباد الله – في النهي عن التشبه بهم والأمر بمخالفتهم ظاهرة؛ ذلك أن المشابهة لهم في الظاهر تورث تشبهًا بهم في الباطن يقود إلى موافقتهم في الأخلاق والأعمال. والمخالفة لهم في الظاهر توجب مخالفتهم في الباطن، مما يوجب مفارقتهم مفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال، والانعطاف إلى أمة الهدى والرضوان.
أيها المسلمون: قد كثر اليوم في المسلمين التشبه بالكفار في كلامهم ولباسهم وهيئتهم بين الرجال والنساء مما لست أحصيه في مقامي هذا.
من ذلكم: ما يفعله الرجال من حلق لحاهم، وتغذية شواربهم، وإطالة شعور رؤوسهم على شكل ما يفعل الكفار. وقد أمر النبي بجز الشارب وإعفاء اللحية وإكرامها وتوفيرها، ومخالفة المشركين الذين يحلقون لحاهم ويغذون شواربهم [5].
فقص الشارب وإعفاء اللحية، كما أنه من خصال الفطرة وهدي الأنبياء، وهو مخالفة لأعداء الله ورسوله، فهو كذلك عين المصلحة، فإن قص الشارب فيه النظافة والتحرز مما يخرج من الأنف، ولأنه إذا طال تدلى على الشفة فينغمس فيما يتناوله من مشروب ومأكول، وفي ذلك ما فيه من التقذر. كما أن طول الشارب فيه تشويه للمنظر وإن استحسنه من لا يعبأ به من الناس. وتوفير اللحية فيه الوقار للرجل والجمال، ولهذا يبقى جماله في حال كبره بوجود شعر اللحية. واعتبر ذلك بمن يعصي الرسول فيحلقها كيف يبقى وجهه مشوهًا قد ذهبت محاسنه؟ ولكن العوائد والتقليد الأعمى يوجبان استحسان القبيح واستقباح الحسن. والذي نقوله لهؤلاء - هدانا الله وإياهم -: الواجب عليكم التوبة والرجوع إلى الصواب، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وقد وضحت لكم سنة رسول الله وأنتم مأمورون باتباعه والاقتداء به، قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ، فتمسكوا بسنته ولا تغتروا بكثرة المخالفين.
ومن الأمور التي يجري فيها تقليد الكفار: التكلم بلغتهم من غير حاجة حتى بين العرب الخلص وفي بلاد العرب. فإن الإنسان إذا أكثر من التكلم بغير العربية اعتاد ذلك وهجر اللسان العربي – وهو شعار الإسلام.
فاللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون. ولهذا كان كثير من الفقهاء - أو أكثرهم -يكرهون في الأدعية التي في الصلاة والذكر أن يدعى الله أو يذكر بغير العربية. فإن الله قد اختار لسان العرب فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم النبيين محمد واعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن لا ريب أنه مكروه؛ فإنه من التشبه بالأعاجم، ولأنه يفضي إلى هجر العربية واستبدالها بغيرها. واللغة العربية من الدين، وتعلمها فرض واجب؛ لأن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهمان إلا بفهم العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وآما اللغة الأجنبية فيتعلمها المسلم وينطق بها عند الحاجة فقط، فإذا لم يكن هناك حاجة فيكره له أن ينطق بها. لكن – مع الأسف – ادخل في المستشفيات العربية أو المطارات وستجد التخاطب والكتابة بغير العربية حتى كأنك في أوربا.
ومن الأمور التي يجري تقليد الكفار فيها: تقليدهم في أمور العبادات، كتقليدهم في الأمور الشركية من البناء على القبور، وتشييد المشاهد عليها والغلو فيها. وقد قال : ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) [6]. وأخبر أنهم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه الصور، وأنهم شرار الخلق [7]. وقد وقع في هذه الأيام من الشرك الأكبر بسبب الغلو في القبور ما هو معلوم لدى الخاص والعام؛ وسبب ذلك تقليد اليهود والنصارى. ومن ذلك تقليدهم في الأعياد الشركية والبدعية كأعياد الموالد- عند مولد الرسول - وأعياد موالد الرؤساء والملوك. وقد تسمى هذه الأعياد البدعية أو الشركية بالأيام أو الأسابيع – كاليوم الوطني للبلاد. ويوم الأم وأسبوع النظافة – وغير ذلك من الأعياد اليومية والأسبوعية، وكلها وافدة على المسلمين من الكفار؛ وإلا فليس في الإسلام إلا عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى. وما عداهما فهو بدعة وتقليد للكفار، فيجب على المسلمين أن ينتبهوا لذلك ولا يغتروا بكثرة من يفعله ممن ينتسب إلى الإسلام وهو يجهل حقيقة الإسلام، فيقع في هذه الأمور عن جهل، أو لا يجهل حقيقة الإسلام ولكنه يتعمد هذه الأمور، فالمصيبة حينئذ أشد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
[1] أخرجه البخاري ح (3269 ، 6889) ، ومسلم (2669) والمسند والسنن دون ذكر القذة ، وعند أحمد (4/125) : ((ليحملن أشرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم ، أهل الكتاب حذو القذة بالقذة)). قال البناني في الفتح الرباني (1/198): إسناده جيد.
[2] أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (6/176) سورة التوبة آية (69). وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر وهو نجيح بن عبدالرحمن السندي. انظر: تقريب التهذيب رقم (7150).
[3] أخرجه مسلم ح (156 ، 1920 ، 1923).
[4] صحيح ، أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" رقم (84) بتحقيق الألباني. وأحمد (6/396)، والترمذي ح (2167) ، وابن ماجه ح (3950).
[5] أخرجه البخاري ح (5553) ، ومسلم ح (259) ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله : ((خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب)). واللفظ للبخاري ، وعند مسلم: ((أوفوا اللحى)).
[6] أخرجه البخاري ح (1265) ، ومسلم ح (529).
[7] أخرجه البخاري ح (417 ، 1276 ، 3660) ، ومسلم ح (528).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/154)
التحذير من فتنة النساء
الأسرة والمجتمع
المرأة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بتقوى الله ووقاية النفس والأهل من النار وكيفية ذلك -
قصور المرأة ونقصان دينها ودليل ذلك ودلالته -
واقع كثير من النساء اليوم ، ومخالطتهن الرجال في الأسواق وغيرها وخطورة ذلك -
واقع نساء السلف ومبادرتهن لتنفيذ الأوامر -
خطورة ترك النساء بلا أمر وتوجيه ، وواجب ولاة الأمور حيال ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم: قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها والناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم: 6].
وقوا أنفسكم وأهليكم هذه النار بفعل الوقاية منها، ولا يكون ذلك إلا بامتثال أمر الله ورسوله واجتناب نهي الله ورسوله والقيام بما أوجب الله علينا وحملنا من الرعاية والحماية خصوصا في النساء، فإن النساء يحتجن إلى زيادة الرعاية لأنهن ناقصات في العقل وناقصات في الدين، كما أخبر بذلك سيد المرسلين ومن لا ينطق عن الهوى.
وكما يشهد به الواقع المحسوس، فالمرأة قاصرة النظر والتفكير نظرها لا يتجاوز قدميها، وتفكيرها مضطرب لا يقر على شيء، كل شيء يغيره عاطفتها متداعية كل شيء يجذبها ويميل بها.
ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى الرجال قوامين عليهن فقال سبحانه: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فقوموا أيها الرجال بما جعلكم الله قوامين به ولا تبخسوا أنفسكم حقها لا تغلبكم النساء على رجولتكم ولا يلهينكم الشيطان عن رعاية أهليكم ولا تنشغلوا بأموالكم عن أولادكم ولا بمكاسبكم عن أخلاقكم وشرفكم.
أيها المسلمون: إن كثيرا من النساء في هذا العصر قد لعب الشيطان بهن وبأفكارهن وتصرفاتهن وجنبهن طريق الهدى إلى طريق الهوى والردى، تخرج الواحدة منهن إلى السوق بدون حاجة.
وقد قال الرسول بيوتهن خير لهن وتخرج الواحدة متزينة بالثياب والحلي ومتطيبة وقد قال رسول الله : ((إن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية)) [رواه الترمذي وقال حسن صحيح]. وتخرج الواحدة فتمشي في السوق مشية الرجل بقوة وجلد، وترفع صوتها كما يتكلم الرجل، وتزاحم الرجل، وتخالط الرجال في السوق وعند الدكاكين، وكل هذا مخالف لهدي السلف الصالح. فإن النبي خرج من المسجد وقد اختلط النساء مع الرجال النساء مع الرجال في الطريق فقال النبي : ((للنساء استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق عليكم بحافات الطريق)) فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق بها، وقالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها وقالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور: وليضربن بخمرهن على جيوبهن فانقلب الرجال يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطِها ( [1] ) المرحل ( [2] ) فاعتجرت به ( [3] ) تصديقا وإيمانا بما أنزل الله في كتابه.
أيها المسلمون: إن ترك الحبل على الغارب للنساء وإطلاق سراحهن يخرجن متى شئن وعلى أية كيفية أردن بدون مبالاة ولا حياء من الله ولا مراقبة له إنه لمن أكبر أسباب الشر والفساد وسقوط المروءة والأخلاق والسمعة السيئة للبلاد وحلول العذاب والعقاب قال الله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً [الاسراء:16]. وقال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب [الأنفال:25]. وقال النبي : ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان)) [رواه مسلم]. وقال: ((المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) أي زينها في نظر الرجال [رواه الترمذي وقال الألباني إسناده صحيح] وقال : ((ما تركت يعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) [متفق عليه].
فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا هذه الفتنة التي حذركم منها نبيكم اقضوا على أسباب الشر قبل أن تقضي عليكم وأغلقوا أبواب الفساد قبل أن تتكسر الأبواب.
أيها الناس: إنه لا يستغرب إذا خرجت المرأة الشابة متزينة بثياب جميلة ليس فوقها سوى عباءة قصيرة أو مرفوعة إلى أعلى بدنها، ولا يستغرب إذا خرجت متطيبة بطيب يحرك النفس ولا يستغرب إذا خرجت مع رفيقتها في الأسواق تتدافعان وتتمازحان، ولا يستغرب إذا وقفت على صاحب الدكان تقلب السلع وهذه تصلح وهذه لا تصلح وهي تضحك عنده مع رفيقتها ولا يستغرب إذا فسرت عن ذراعيها ليرى ما عليهما من حلي وغيره، ولا يستغرب إذا ضربت برجليها ذات الجوارب المكعبة الطويلة، لا يستغرب مع هذا كله أو بعضه أن يطمع فيه من في قلبه مرض، فيلاحقها في سيارته أو على قدميه أو يلقي إليها كلاما لأن الله يقول: فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [الأحزاب:32].
والخضوع باللباس والفعل يطُمع فيها من في قلبه مرض، لأنه ضعيف الإيمان والمراقبة لله، قليل الخوف من ربه، عادم المروءة في بني جنسه وقد رأى مع ضعف إيمانه ومرض قلبه وانعدام مروءته ما يغريه من هذه المرأة فأصبح صيد شركها وقتيل فتنتها.
أيها الناس: لقد أصبحت مشكلة النساء مشكلة خطيرة لا ينبغي تجاهلها أو السكوت عنها لأنها إن بقيت على ما كانت عليه فسيكون لها عاقبة وخيمة على البلد وأهلها أو سمعتها، أفلا يعقل المسؤولون عن أهليهم وعن بلادهم أن على كل واحد منهم مسؤولية أهله، أفلا يمكنه أن ينصح امرأته وبنته وأخته وذات قرابته كما فعل رجال الأنصار حين أنزلت سورة النور، ثم ألا يمكنه أن يمنع نساءه من الخروج إلا لحاجة لابد منها، ويلزمها إذا خرجت أن لا تخرج متبرجة أو متطيبة، ثم ألا يمكن من له بنت أو أخوات أو أقارب يدرسن أن يحثهن على بث الوعي بين الطالبات وتحذيرهن من التجول في الأسواق وخروجهن بالزينة، إنه كله ممكن ويسير إذا صدق الإنسان ربه وخلصت نيته وقويت عزيمته.
وإَّن على ولاة الأمور في البلد مسؤولية من في الأسواق من رجال ونساء ومنعهم من أسباب الشر والفتنة والقبض على من قامت القرينة على اتهامه والتحقيق معه وإجراء ما يلزم من تأديبه.
وإن على عامة الناس مساعدة ولاة الأمور في ذلك بقدر ما يستطيعون من زجر من يرونها متبرجة أو محاولة للفتنة وإلقاء الأضواء على المشتبه فيهم ممن في قلوبهم مرض حتى لا يبقى لهم في مجتمعنا مكان.
فإذا حرصنا على منع أسباب الفتنة من كثرة النساء في الأسواق وتبرجهن، وحرصنا على مقاومة من يلاحقونهن وإجراء اللازم من تأديبهن، وقمنا في ذلك لله وبالله، مثنى وفرادى فسوف نلقى العون من الله عز وجل والخير الكثير.
اللهم طهر مجتمعنا من أسباب الفتن والفساد، وجنبنا موجبات الهلاك والعقاب، وهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأصلح لنا شؤوننا، واغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
( [1] ) كساء من صوف أو خز.
( [2] ) برد فيه تصاوير رحل أو إزار خز فيه علم.
( [3] ) لبسه أو لفته على جسمها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/155)
في الدين الحق
أديان وفرق ومذاهب
أديان
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
الإسلام أكبر نعمة على البشرية – حال البشرية حولنا – مظاهر الانحراف عن الإسلام -
لزوم البراءة من سائر الأديان ولا يتحقق الإسلام إلا بذلك , والرد على دعوة حرية الأديان - وجوب الاعتزاز بالإسلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه إذ هداكم للإسلام أكبر نعمة أسداها للبشرية، قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ، [المائدة:3]. وقال تعالى: واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً [آل عمران:103]. وقال تعالى: واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون [الأنفال:26].
انظروا إلى الناس من حولكم تجدونهم ما بين ملاحدة تنكروا للأديان وأنكروا الخالق وتجبروا على الخلق وتسموا بأسماء مختلفة ما بين شيوعية، وبعثية، وقومية، واشتراكية، وقد استدرجهم الله فأعطاهم من السلطة والقوة والاختراع والتكتل ما ارهبوا به العالم، واغتروا به في أنفسهم، ثم إن الله سبحانه دمرهم بسهولة فأضعف قوتهم وشتت شملهم ومزق وحدتهم وسلط عليهم الفقر والفاقة حتى أصبحوا عبرة للمعتبرين. ما أغنت عنهم أهواؤهم ولا نفعتهم جموعهم وجنودهم ولا حمتهم أسلحتهم الفتاكة.
لقد انهارت الشيوعية لأن أصحابها لم يبنوها على دين ولم يقيموها على أساس. بل بنوها على شفا جرف هار فانهار بهم في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين. ومن الناس من يتمسك بدين وضعه لنفسه أو وضعه له شياطين الجن والإنس يعبد صنما أو قبرا أو شجرا أو حجرا لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، بل هو أضعف ممن عبده كما قال تعالى : والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ، [فاطر :13-14].
وذلك هو دين الوثنيين على اختلاف أجناسهم وتنوع معبوداتهم قديما وحديثا. ومن الناس من يتمسك بدين مبدّل محرّف أو منسوخ، قد انتهى العمل به، وأولئك هم اليهود والنصارى وهم المغضوب عليهم والضالون، والذين نسأل الله أن يجنبنا طريقهم، في آخر سورة الفاتحة في كل ركعة من صلاتنا.
ومن الناس من ينتسب إلى الدين الصحيح وهو الإسلام انتسابا في الظاهر وهو يكفر به في الباطن وإنما انتسب إليه ليعيش مع المسلمين ويخادعهم أولئكم هو المنافقون الذين أخبر الله أنهم في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا.
ومن الناس الآن من ينتسب إلى الإسلام بأقواله لكنه يخالفه بأفعاله وتعبداته فيدعو غير الله ويذبح لغير الله ويستغيث بالأموات ويعبد القبور. أو يتقرب إلى الله بدين لم يشرعه فيتقرب إليه بالبدع والمحدثات. يفنى عمره ويتعب جسمه وينفق ماله في إحياء البدع والخرافات باسم الإسلام والدين. وهو يبعد عن رب العالمين وأولئكم هم عباد الأولياء والصالحين الذين يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر:3] ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس:18]. أولئكم هم الذين قال الله تعالى فيهم : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، [الكهف: 103-104]. وقال تعالى فيهم : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع [الغاشية:2-7].
ومن تمام عقوبتهم وابتلائهم أنهم يحسبون أنهم على حق فلا يقبلون النصيحة ولا يفيد فيهم التوجيه. بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون
ومن الناس من ينتسب إلى الإسلام الآن لكنه لا يقيم أركانه فلا يصلي ولا يزكي ولا يصوم ولا يحج ولا يحكم بشرع الله ولا يحرّم ما حرّم الله ورسوله من الربا والمكاسب الخبيثة.
ومن الناس يكتفي بمجرد التسمي وما يكتب في جواز السفر وحفيظة النفوس قد اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم. ومن الناس اليوم خلق كثير ينتسبون إلى الإسلام لكنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا. فانقسموا إلى جماعات وأحزاب وفرق، لكل فرقة وجماعة منهج مختلف عن منهج الأخرى في الاعتقاد والتعبد والدعوة ولم يبق على الحق من هذه الفرق إلا من تمسك بالكتاب والسنة وسار على منهج السلف الصالح كما قال النبي – -: (( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة: قيل من هي يا رسول الله؟ قال : من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) ، ولقد أخبر الله سبحانه عن براءة النبي – -من هذه الفرق المخالفة للفرقة الناجية قال تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون [الأنعام :159].
وبين سبحانه طريق النجاة من هذا الاختلاف بقوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا [آل عمران : 103].
إنه لا صلاح ولا فرج ولا نجاة من عذاب الله إلا بالتمسك بالإسلام علما وعملا واعتقادا قولا وفعلا وحكما به بين الناس : إن الدين عند الله الإسلام [آل عمران:19].
ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران :85]. أفغير دين الله يبغون ، [آل عمران :83]. أفغير الله أبتغي حكماً [الأنعام:114]. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون [المائدة :50].
وهناك من يتحمسون للدين اليوم ويقومون بالدعوة إليه بزعمهم -وهم جهال - بأحكامه آنية مغرضون يريدون الدس فيه وإثارة الفتن بين المسلمين فيروجون الشبه ويزهدون في علم السلف ويصفون العلماء بأنهم قاصرو النظر لا يفهمون فقه الواقع. وهم يريدون بذلك أن يفصلوا المسلمين عن علمائهم حتى يدخلوا عليهم مبادئهم وأفكارهم المنحرفة. وقد يستخدمون لذلك بعض أبنائنا المغرورين فتنبهوا لذلك واحذروا فتنتهم ولا تروجوا أقوالهم بينكم فإنها سبب فتنة وشر رعانا الله وإياكم وجميع المسلمين من الفتن.
إن الذي لا يفهم فقه الواقع في الحقيقة هو الذي لا يتنبه للدعوات المدسوسة باسم الإسلام من أجل إثارة الفتنة وشق عصا الطاعة وتفريق الكلمة فاحذروا هذا الصنف واحذروا من دعاة السوء – واتقوا الله لعلكم ترحمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، رضي لنا دين الإسلام. فلا دينا سواه. وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له. ولا نعبد إلا إياه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أعلم الخلق وأخشاهم وأتقاهم لله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه. أما بعد : أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه لا يتحقق للإنسان التمسك بدين الإسلام حتى يتبرأ مما سواه من سائر الأديان. لأنه لم يبق بعد بعثة محمد – - دين صحيح إلا دين الإسلام الذي جاء به. قال : (( والله لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي )) ، وقال : (( لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)) وقال تعالى : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين [سورة الكافرون].
بعض الجهال يقول إن الإسلام جاء بحرية الأديان والتعايش بين أصحابها وهذا خطأ واضح. وجهل فاضح فالإسلام لا يقر الأديان الباطنية ولذلك شرع عند القدرة قتال أهلها لإزالتها قال تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله [الأنفال :39].
والإسلام أمر بترك اليهود والنصارى على دينهم إذا بذلوا الجزية وخضعوا لدين الإسلام وهم صاغرون وذلك لأنهم أهل دين سماوي منسوخ فاعطوا الفرصة من اجل أن ينتقلوا منه إلى دين الإسلام بعد تأمله بخلاف الوثنيين والدهرية فهؤلاء لا يجوز تركهم على كفرهم فالواجب على المسلم ألا يتكلم في هذه المسائل الخطيرة إلا عن علم وبصيرة.
عباد الله : إن دين الإسلام دين العزة فهو يعلو ولا يعلى عليه فما بال بعض المسلمين يذلون للكفرة والله تعالى يقول: ولا تهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [آل عمران:139].
ويقول تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون [المنافقون:8].
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – - : نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإذا أردنا العزة بغيره أذلنا الله فالواجب على المسلم أن يعتز بدينه ولا يذل ولا يهون. الواجب على المسلم أن يترفع بدينه عن الدنايا والرذائل والأخلاق الفاسدة والصفات الهابطة. ولكن بعض المنتسبين إلى الإسلام إذا سافروا إلى بلاد الكفار صاروا عارا على الإسلام بأخلاقهم وتصرفاتهم القبيحة يمارسون أقبح الفحش والإجرام، ولا يتورعون عن الحرام، يعاقرون الخمور، ويغشون مجالس اللهو والفجور، ويظهرون نساءهم بأقبح مظاهر العري والسفور، فيشوهون الإسلام عند من لا يعرف الإسلام وهم في الحقيقة إنما يمثلون ويظهرون ما تكنه قلوبهم من مرض ونفاق. والإسلام بريء منهم ومن تصرفاتهم.
فاتقوا الله – عباد الله -، واحمدوا الله على دين الإسلام واعتزوا به وأظهروه على حقيقته في أي مكان يعزكم الله وينصركم. واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
(1/156)
الزكاة وأحكامها
فقه
الزكاة والصدقة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر بتقوى الله وأداء ما أوجب الله من حقوق الأموال وأعظمها الزكاة -
الترهيب من منع الزكاة -
الأموال التي تجب فيها الزكاة، وبعض أحكامها -مصارف الزكاة -وجوب شكر نعمة الله عز وجل وما أمدنا به من رزق وأموال -
ما يقدمه الإنسان من زكاة فهو لنفسه في الحقيقة -
زكاة الزروع والثمار والواجب فيها ، وجنس ما يخرجه منها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأدوا ما أوجب الله عليكم في أموالكم التي رزقكم الله تعالى فقد أخرجكم الله من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، ولا تملكون لأنفسكم نفعا ولا ضرا، ثم يسر الله لكم الرزق وأعطاكم ما ليس في حسابكم، فقوموا أيها المسلمون بشكره، وأدوا ما أوجب عليكم لتُِبَّرؤوا ذممكم وتطهروا أموالكم، واحذروا الشح والبخل بما أوجب الله عليكم فإن ذلك هلاككم، ونزع بركة أموالكم.
ألا وإن أعظم ما أوجب الله عليكم في أموالكم الزكاة التي هي ثالث أركان الإسلام وقرينة الصلاة في محكم القرآن، وجاء في منعها والبخل بها الوعيد بالنيران. قال الله عز وجل: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير [آل عمران:180]. وقال تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون [التوبة:34-35].
وقال النبي في تفسير الآية الأولى: ((من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع، وهي الحية الخالي رأسها من الشعر لكثرة سمها، مُثَّل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه، يعني شدقيه، يقول أنا مالك أنا كنزك)) [رواه البخاري].
وقال في تفسير الآية الثانية: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد)) [رواه مسلم]. وحق المال هو الزكاة.
أيها المسلمون: إنه والله لا يحمى على الذهب والفضة في نار كنار الدنيا إنما يحمى عليها في نار أعظم من نار الدنيا كلها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا.
أيها المسلمون: إنه إذا أحمي عليها لا يكوى بها طرف من الجسم متطرف، وإنما يكوى بها الجسم من كل ناحية الجباه من الأمام والجنوب من الجوانب والظهور من الخلف.
أيها المسلمون: إنه إذا كوي به الجسم لا تترك حتى تبرد وتزول حرارتها، ولكنها كلما بردت أعيدت فأحميت.
أيها المسلمون: إن هذا العذاب ليس في يوم ولا في شهر ولا في سنة: ولكن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
فيا عباد الله يا من آمنوا بالله ورسوله، يا من صدقوا بالقرآن وصدقوا بالسنة، ما قيمة الأموال التي تبخلون بزكاتها، وما فائدتها، إنها تكون نقمة عليكم وثمرتها لغيركم.
إنكم لا تطيقون الصبر على وهج النار، فكيف تصبرون على نار جهنم، فاتقوا الله.
عباد الله وأدوا الزكاة طيبة بها نفوسكم.
أيها المسلمون: إن الزكاة واجبة في الذهب والفضة على أي حال كنا سواء كانت جنيهات أو ريالات أم قطعا من الذهب والفضة أم حليا من الذهب والفضة للبس أو للبيع أو للتأجي،ر فالذهب والفضة جاءت نصوص الكتاب والسنة خاصة في إيجاب الزكاة في الحلي فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن امرأة أتت النبي ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال: ((أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسروك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟)) فخلعتهما فألقتهما إلى النبي وقالت: هما لله ورسوله. قال في بلوغ المرام [رواه الثلاثة وإسناده قوي].
لكن لا تجب الزكاة في الذهب والفضة حتى يبلغا نصابا، فنصاب الذهب وزن أحد عشر جنيها سعوديا وثلاثة أسباع جنيه، فما دون ذلك لا زكاة فيه إلا أن يكون للتجارة.
ونصاب الفضة وزن ستة وخمسين ريالا سعوديا، فما دون ذلك لا زكاة فيه، أما مقدار الزكاة في الذهب والفضة فهو ربع العشر.
وتجب الزكاة أيضا في الأوراق النقدية إذا بلغت ما يساوي ستة وخمسين ريالا سعوديا من الفضة وفيها ربع العشر.
وتجب الزكاة في الديون التي للإنسان وهي الأطلاب التي له على الناس إذا كانت من الذهب أو الفضة أو الأوراق النقدية وبلغت نصابا بنفسها أو بضمها إلى ما عنده من جنسها سواء كانت حالة أو مؤجلة، فيزكيها كل سنة إن كانت على غنى، لكن إن شاء أدى زكاتها قبل قبضها مع ماله، وإن شاء انتظر حتى يقبضها فيزكيها لكل ما مضى.
أما إن كانت الديون على فقير فلا زكاة على من هي له حتى يقبضها فيزكيها سنة واحدة عما مضى لأنها قبل قبضها في حكم المعدوم.
وتجب الزكاة في عروض التجارة إذا بلغت قيمتها نصابا بنفسها أو بضمها إلى ما عنده من الدراهم أو العروض وهي كل مال أعده مالكه للبيع تكسبا وانتظارا للربح من عقار وأثاث ومواشي وسيارات ومكائن وأطعمة وأقمشة وغيرها، فتجب عليه الزكاة فيها وهي ربع عشر قيمتها عند تمام الحول، فإذا تم الحول وجب عليه أن يثمن ما عنده من العروض ويخرج ربع عشر قيمتها سواء كانت القيمة مثل الثمن أو أقل أو أكثر، فإذا اشترى سلعة بألف ريال مثلا وكانت عند الحول تساوي ألفين وجب عليه زكاة ألفين، وإن كانت لا تسوي إلا خمسمائة لم يجب عليه إلا زكاة خمسمائة.
ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول، فلو تلف المال قبل تمام الحول أو نقص النصاب فلا زكاة فيه، ولو مات المالك قبل تمام الحول فلا زكاة عليه ولا على الورثة، فلو روث الشخص مالا فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول عنده.
ويستثنى من ذلك ربح التجارة ففيه الزكاة إذا تم حول رأس المال، وإن لم يتم الحول على الربح.
ويستثنى من ذلك عروض التجارة فإن حولها حول عوضها إذا كان نقدا أو عروضا، فإذا كان عند الإنسان دراهم يتم حولها في رمضان فاشترى بها في شعبان مثلا شيئا للتكسب والتجارة فإنه يزكيه في رمضان وإن كان لم يمض عليه إلا شهر واحد، ولا يجوز أن يؤجل زكاته إلى شعبان من السنة الثانية. ويستثنى من ذلك الأجرة فإن زكاتها تجب وقت قبضها إذا كان قد مضى على عقد الإجارة حول.
وإذا كان الشخص يملك المال شيئا كالرواتب الشهرية فلا زكاة على شيء منه حتى يحول عليه الحول، وإذا كان يشق عليه ملاحظة ذلك فليزك الجميع في شهر واحد من السنة كل عام فما تم حوله فقد زكي في وقته وما لم يتم حوله فقد عجلت زكاته ولا يضر تعجيل الزكاة وهذا أربح وأسلم من الاضطراب.
وإذا كان للإنسان عقار يسكنه أو سيارة يركبها أو مكينة لفلاحته فلا زكاة عليه في ذلك لقول النبي : (( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)).
وإذا كان له عقار يؤجره أو سيارة يكدها في الأجرة أو معدات يؤجرها فلا زكاة عليه فيها وإنما الزكاة فيما يحصل منها من الأجرة.
واعلموا أيها المسلمون أن الزكاة لا تنفع ولا تبرأ منها الذمة حتى توضع في الموضع الذي وضعها الله فيه مثل ذوي الحاجة من الفقراء والمساكين والغارمين الذين عليهم أطلاب لا يستطيعون وفاءها.
فلا تحل الزكاة لغني ولا لقوي مكتسب، وإذا أعطيتها شخصا يغلب على ظنك أنه مستحق فتبين فيما بعد أنه غير مستحق أجزأت عنك والإثم عليه حيث أخذ مالا يستحق، ويجوز أن تدفعه إلى أقاربك الذين لا تنفق عليه إذا كانوا مستحقين لها، ويجوز أن تدفعها لشخص محتاج للزواج إذا لم يكن عند ما يتزوج به، ولا يقضي بالزكاة دين على ميت ولا يسقط بها دين على معسر ولا تصرف عن واجب سواها.
وفقني الله وإياكم لأداء ما يجب علينا من مال وعمل على الوجه الذي يرضاه بدون عجز ولا كسل وزادنا من فضله ما نزداد به قربة إلى ربنا ورفعة في درجاتنا إنه جواد كريم، وصلى الله عليه وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي منّ على عباده بما أخرج لهم من الزروع والثمار وأنعم عليهم بمشروعية صرفها فيما يرضيه عنهم من غير إسراف ولا إقتار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العزة والاقتدار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان آناء الليل والنهار وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أمدكم به من أموال وبنين وجنات وعيون، أمدكم بثمرات النخيل تتفكهون بها رطبا وبسرا ثم تدخرونها قوتا وتمرا فهو الذي خلقها وأوجدها وهو الذي نماها وأصلحها وهو الذي نوعها جودا ورداء وقسمها، اشكروا الذي أبقاكم حتى أدركتم جناها واشكروا الذي شرع لكم الإنفاق منها على ما يرضيه وزكاها أدوا ما أوجب الله عليكم فيها من الزكاة لتفوزوا بالخلف العاجل والثواب الجزيل العطايا والهبات: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين [سبأ:39].
عباد الله: أتحسبون أن ما تخرجونه من الزكاة لا ينفعكم أتحسبون أن ما تخرجونه من ذلك فائت عليكم غير مدخر لكم أتحسبون أن ذلك غرم وخسارة لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إن ما تخرجونه من ذلك هو ما تبقونه لأنفسكم في الحقيقة وهو المال الرابح: وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا [المزمل:20]. وإن الذي تبقونه وتبخلون به هو المال الزائل لأنكم إما أن تأكلوه في حياتكم فيفنى أو تتركوه لمن بعدكم بعد موتكم فيغنمه الوارث البعيد أو الأدنى هذا هو حقيقة ما تبقونه من المال وتلك حقيقة ما تقدمونه عند الملك العلام، ذبح آل النبي شاة فتصدقوا بها ولم يبقه منها إلا الكتف فدخل النبي : ((فقال ما بقي منها فقالت: عائشة ما بقي منها إلا كتفها فقال النبي : بقي كلها غير كتفها)) وصدق رسول الله فإن الذي بقي من الشاة حقيقة هو ما تصدقوا به لأنه هو الذي سيجدونه مدخرا عند الله أما ما أبقوه فسيفنى.
عباد الله: إن النفوس مجبولة على الشح ولكن من يوق شح نفسه فقد أفلح. إن الشيطان حريص على أن تبخلوا بها حريص على أن تمنعوها بالكلية أو أن تمنعوا ما يجب فيها من قدر أو وصف إنه يعدكم ويمنيكم وما يعدكم الشيطان إلا غرورا.
أيها المسلمون: إننا في قوت جذاذ النخيل ووقت إخراج زكاتها وإن الواجب عليكم أن تحاسبوا أنفسكم في الدنيا قبل أن تحاسبوا عليها في الآخرة. لقد بين النبي لأمته ما يجب عليهم من زكاة الثمار بيانا ظاهرا لا إشكال فيه، بيانا تقوم به الحجة وتزول به الشبهة فقال صلوات الله وسلامه عليه فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر، وهذا بيان ما بعده بيان فالزكاة فيما يسقى بالنضح أي بالسواني والمكائن نصف العشر ،سهم بين ومقدار معلوم قاله رسول الله لأمته وبلغه إليهم فمات صلوات الله وسلامه عليه وقد فوض إليهم الأمر ووكلهم إلى ما عندهم من الدين والأمانة وربه سبحانه هو المتولي لحسابهم: إنما عليك البلاغ وغلينا الحساب [الرعد:40].
أيها المسلم: حاسب نفسك أخرج السهم الذي قدره الله لك ورسوله ومن يطع الرسول فقد أطاع الله: ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [الأحزاب:71]. أخرج نصف العشر من ثمار نخيلك مراعيا بذلك اختلاف الأنواع وقيمة الجيد منها لا تبخل على نفسك فربك لم يفرض الزكاة عليك إلا تكميلا لعبادتك وتطهيرا لما لك وإبراء لذمتك.
أيها المسلمون: إننا في زمن تختلف فيه أنواع النخيل اختلافا بينا ظاهرا فبينما بعض النخيل يباع الكيلو منها بثلاثة ريالات أو أكثر إذا ببعضها يباع الكيلو منه بنصف ريال أو أقل ثم يغلب الشح بعض الناس فيخرج زكاة النوع الأول من هذه النوع الثاني الذي نسبته إليه السدس وهذا حيف بلا شك فإن هذا ليس بإخراج لنصف العشر باعتبار النخل كله أرأيت لو كان لك سهم من بستان مقدار سهمك نصف العشر هل ترضى أن تأخذ من النوع الذي كيلوه بنصف ريال بدلا عن الذي كيلوه بثلاثة ريالات؟ لن ترضى أبدا إذن فكيف لا ترضاه لنفسك في الدنيا ثم ترضاه لربك ولنفسك في الآخرة؟.
أيها المسلمون: إذا عرفتم أن الواجب نصف العشر سهم بين بنص رسول الله فإن من العلماء من قال يجب عليه أن يخرج زكاة كل نوع من ذلك النوع يخرج زكاة الطيب من الطيب وزكاة المتوسط من المتوسط وزكاة الرديء من الرديء وهذا أمر شاق ولا سيما مع كثرة الأنواع ولذلك قال بعض العلماء لا بأس أن يخرج عن الجيد من المتوسط بقدر القيمة.
وقال الإمام أحمد فيما رواه عنه ابنه وبعض أصحابه إذا باع ثمره أو زرعه وقد بلغ ففي ثمنه العشر أو نصفه فجعل رحمه الله الواجب في الثمن إذا بيع وهذا من أعدل ما يكون.
أيها المسلمون: إنني لا أتكلم بهذا لأن لي حظا في الزكاة ولا لأسألكم عليه أجرا ولكني أتكلم به إبراء لذمتي بإبلاغكم وإبراء لذممكم بإخراج ما يجب عليكم ولعلكم ستقولون لماذا لم يتكلم عليه من قبلي ولكن الجواب على هذا سهل فإن التباين الكثير وكثرة الأنواع الجيدة جدا لم يكن إلا من مدة سنين قليلة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم [البقرة:267-268].
(1/157)
زكاة الفطر وسنن العيد
فقه
الزكاة والصدقة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
سرعة انقضاء أيام رمضان والحث على اغتنام ما تبقى -
ما شرعه الله من عبادات في ختام الشهر وثمرتها (زكاة الفطر والسنة فيها – صلاة العيد وآدابها).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا ربكم وحاسبوا أنفسكم ماذا عملتم في شهركم الكريم، فإنه ضيف قارب الزوال وأوشك على الرحيل عنكم والانتقال، وسيكون شاهدا لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فابتدروا رحمكم الله ما بقي منه بالتوبة والاستغفار والاستكثار من صالح الأقوال والأفعال والابتهال إلى ذي العظمة والجلال لعل ذلك يجبر ما حصل من التفريط والإهمال.
لقد كانت أيام هذا الشهر معمورة بالصيام والذكر والقرآن، ولياليه منيرة بالصلاة والقيام وأحوال المتقين فيه على ما ينبغي ويرام، فمضت تلك الأيام الغرر، وانتهت هذه الليالي الدرر، كأنما هي ساعة من نهار، فنسأل الله أن يخلف علينا ما مضى منها بالبركة فيما بقي وأن يختم لنا شهرنا بالرحمة والمغفرة والعتق من النار والفوز بدار السلام وأن يعيد أمثاله علينا ونحن نتمتع بنعمة الدين والدنيا والأمن والرخاء إنه جواد كريم.
عباد الله، إن ربكم الكريم شرع لكم في ختام هذا الشهر عبادات جليلة يزداد بها إيمانكم وتكمل بها عباداتكم وتتم بها نعمة ربكم.
شرع الله لنا زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد، أما زكاة الفطر فقد فرضها رسول الله صاعا من طعام، ففي صحيح البخاري عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((فرض رسول الله زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)) [1].
وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي سعيد الخدري قال: ((كنا نخرج في عهد رسول الله يوم الفطر صاعا من طعام وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر)) [2].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات)) [3].
فأخرجوا أيها المسلمون زكاة الفطر مخلصين لله ممتثلين لأمر رسول الله ، فقد فرضها رسول الله على جميع المسلمين صغيرهم وكبيرهم حتى من في المهد، أما الحمل في البطن فلا يجب الإخراج عنها إلا تطوعاً إلا أن يولد قبل ليلة العيد فيجب الإخراج عنه.
أخرجوها صاعا عن كل شخص مما تطعمون من البر أو الرز أو التمر أو غيرها من طعام الآدميين، أخرجوها طَيّبة بها نفوسكم، واختاروا الأطيب والأنفع، فإنها صاع واحد في الحول مرة، فلا تبخلوا على أنفسكم بما تستطيعون.
أخرجوها مما فرضه رسول الله من الطعام ولا تخرجوها من الدراهم ولا من الكسوة، فمن أخرجها من ذلك لم تقبل منه، ولو أخرج عن الصاع ألف درهم أو ألف ثوب لم يقبل، لأنه خلاف ما فرضه رسول الله ، وقد قال : ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) [4]. ادفعوها إلى الفقراء خاصة، والأقارب المحتاجون أولى من غيرهم، ولا بأس أن تعطوا الفقير الواحد فطرتين أو أكثر، ولا بأس أن توزعوا الفطرة الواحدة على فقيرين أو أكثر، ولا بأس أن يجمع أهل البيت فطرتهم في إناء واحدة بعد كيلها ويوزعوا منها بعد ذلك بدون كيل.
وإذا أخذ الفقير فطرة من غيره وأراد أن يدفعها عن نفسه أو عن أحد من عائلته فلا بأس لكن لابد أن يكيلها خوفا من أن تكون ناقصة إلا أن يخبره دافعها بأنها كاملة فلا بأس أن يدفعها بدون كيل إذا كان يثق بقوله.
أيها المسلمون: أخرجوا زكاة الفطر يوم العيد قبل الصلاة إن تيسر لكم فإنه أفضل، ولا بأس أن تخرجوها قبل العيد بيوم أو بيومين، ولا يجوز تقديمها على ذلك، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد إلا من عذر مثل أن يأتي خبر ثبوت العيد فجأة ولا يتمكن من إخراجها قبل الصلاة.
ومن دفع زكاة الفطر إلى وكيل الفقير في وقتها برئت ذمته، ومن دفعها إلى وكيله هو ليدفعها للفقير لم تبرأ ذمته حتى يدفعها وكيله في وقتها إلى الفقير أو وكيله، والأفضل إخراج الفطرة في المكان الذي أنتم فيه في وقتها سواء كان بلدكم أو غيره من بلاد المسلمين لا سيما إذا كان مكانا فاضلا كمكة والمدينة، ولا بأس أن توكلوا من يخرجها عنكم في بلدكم إذا سافرتم إلى غيره. هذه زكاة الفطر.
أما التكبير فقد شرع الله لنا التكبير عند إكمال العدة فقال تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
فكبروا الله من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، كبروا الله في المساجد والبيوت والأسواق.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
اجهروا بذلك تعظيما لله وإظهارا للشعائر، إلا النساء فيكبرن سرا.
وأما صلاة العيد فقد أمر بها رسول الله الرجال والنساء حتى العواتق وذوات الخدور اللاتي ليس لهن عادة بالخروج وحتى الحيض يشهدن دعاء الخير ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى، فلا يجلسن في مصلى العيد لأن مصلى العيد مسجد يثبت له جميع أحكام المساجد.
وفي الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها قالت: ((أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، وفي لفظ المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين فقلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال: لتلبسها أختها من جلبابها)) [5].
فاخرجوا أيها المسلمون إلى صلاة العيد رجالا ونساء صغارا وكبارا تعبدا لله عز وجل وامتثالا لأمر رسول الله وابتغاء للخير ودعوة المسلمين، فكم في ذلك المصلى من خيرات تنزل وجوائز من الرب الكريم تحصل ودعوات طيبات تقبل.
وليخرج الرجال متنظفين متطيبين لابسين أحسن ثيابهم غير أنه لا يجوز لهم لبس الحرير ولا شيء من الذهب فإنهما حرام على الذكور. وليخرج النساء محتشمات غير متطيبات ولا متبرجات بزينة.
والسنة أن يأكل قبل الخروج إلى صلاة العيد تمرات وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر إن أحب يقطعهن على وتر قال أنس بن مالك كان النبي : ((لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا)) [6].
وقد قال الله عز وجل: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
وأما الخروج بالتمر إلى مصلى العيد وأكله هناك بعد طلوع الشمس فإنه من البدع وكل بدعة ضلالة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح البخاري في : الزكاة ، باب : فرض صدقة الفطر (1503) واللفظ له ، وكذا مسلم في : الزكاة ، باب : زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984).
[2] صحيح البخاري في : الزكاة ، باب : الصدقة قبل العيد (1510) ، بنحوه ، وكذا مسلم في : الزكاة ، باب : زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (985) بنحوه.
[3] أخرجه أبو داود في : الزكاة ، باب : زكاة الفطر (1609) ، وابن ماجه في : الزكاة ، باب : صدقة الفطر (1827) ، والحاكم (1/409) ، وقال : "حديث صحيح على شرط البخاري" ووافقه ابن الملقن في الخلاصة (1/313) ، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1420).
[4] أخرجه البخاري : الصلح ، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور ، فالصلح مردود (2697) ، ومسلم في : الأقضية ، باب : نقض الأحكام الباطلة ودر محدثات الأمور (1718) ، واللفظ له ، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] صحيح البخاري كتاب : الحيض ، باب : شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى (324) ، ومسلم في : صلاة العيدين ، باب : ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى (890) واللفظ له.
[6] أخرجه البخاري في : الجمعة ، باب : الأكل يوم الفطر قبل الخروج (953).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/158)
التحذير من المضللين والمشعوذين
التوحيد
نواقض الإسلام
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
العقيدة الصحيحة تكون بالتوحيد والابتعاد عن الشرك ومعرفتهما – تخطيط الأعداء لإفساد
عقيدة التوحيد – وجوب التحاكم إلى شرع الله وأنه من لوازم التوحيد – نماذج من انحراف
المسلمين عن دينهم , والتحذير من الأئمة المضلين , وخطورتهم – التحذير من الدجالين
والمشعوذين والسحرة والرد على من يشجعهم – الحث على التداوي بالمباح وأنه لا ينافي
التوكل والحذر من إتيان الكهنة والسحرة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتمسكوا بعقيدة التوحيد التي هي معنى لا اله الا الله ومدلولها ومقتضاها، واحذروا مما ينافي هذه العقيدة أو يناقضها من الشرك الأكبر والأصغر، والوسائل المفضية إلى الشرك.
فإن العقيدة لا تكون صحيحة سليمة إلا بالتوحيد والابتعاد عن الشرك، قال تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً [النساء:36]. وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]. وقال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِ?لطَّـ?غُوتِ وَيُؤْمِن بِ?للَّهِ فَقَدِ ?سْتَمْسَكَ بِ?لْعُرْوَةِ ?لْوُثْقَى? لاَ ?نفِصَامَ لَهَا [البقرة:256].
عباد الله: إنه يجب على كل مسلم أن يعرف ما هو التوحيد حتى يتمسك به، ويعرف ما هو الشرك حتى يتجنبه؛ لأنه لا نجاة له إلا بذلك، وكيف يعمل بالتوحيد من هو جاهل به؟! وكيف يتجنب الشرك وهو لا يعرفه؟! إن الأمر خطير والواجب كبير، ومازال أعداء الإسلام يخططون لإفساد عقيدة التوحيد، خصوصًا في هذا الزمان الذي قل فيه العلماء. وإن كثر فيه القراء. كما أخبر بذلك النبي والتبس فيه الحق بالباطل، وقل فيه دعاة الحق حتى أصبحوا غرباء بين الناس.
كثير من يدعي الإسلام اليوم، لكن كثيرًا من هؤلاء المدعين يريد أن يجمع بين الإسلام وضده، يريد أن يجمع بين الإسلام والكفر، وبين التوحيد والشرك، كما قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِ?للَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] ، هناك من يقول :إنه مسلم لكنه لا يريد الحكم بما أنزل الله. وإنما يريد الحكم بالقوانين الوضعية التي يحكم بها الكفار؛ لأنه يراها أحسن مما أنزل الله وأصلح للناس في هذا الزمان، وحال هؤلاء كحال الذين قال الله تعالى فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ [النساء:60].
وقد رد الله على هؤلاء دعواهم وتناقضهم في ختام ما بعدها من الآيات بقوله تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
وهناك فريق آخر يدعي الإسلام ويقول لا إله إلا الله بلسانه ثم يناقض ذلك بفعله، فيدعو الموتى ويذبح للقبور، وينذر لها، ويستغيث بالأولياء لقضاء حاجته وشفاء مرضه. ويطلب منهم المدد ويسمي هذا توسلاً إلى الله وتقربًا إليه بواسطتهم، فيكون كالذين قال الله فيهم: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَـ?ؤُنَا عِندَ ?للَّهِ قُلْ أَتُنَبّئُونَ ?للَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَلاَ فِى ?لأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18]. والذين قال الله فيهم: وَ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ?للَّهِ زُلْفَى إِنَّ ?للَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَـ?ذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:3].
وهناك علماء ضلال يُحَسِّنون لهم هذا ويدعون إلى هذا الشرك ويبررونه بشبهات يلفقونها، وهي ما بين حديث موضوع أو حكاية باطلة أو رؤيا من الشيطان، فيجمعون تلك الشبهات في كتب يطبعونها ويوزعونها على الناس، ويدعونهم بها إلى الشرك وعبادة المخلوقين باسم التوسل والتبرك بالنبي ومحبة الأولياء والصالحين. ويقولون: إن الذين ينهون عن هذا مفاهيمهم خاطئة يجب أن تصحح!!
وقد حذرنا رسول الله من هؤلاء المضللين الذين يخدعون الناس باسم العلم والصلاح، وهم في الحقيقة دعاة ضلال وقادة فتنة، قال : ((إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)) [1] رواه البرقاني في صحيحه. وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)) ، رواه أبو داود الطيالسي [2]. فحصر في هذين الحديثين خوفه على أمته في علماء الضلال لشدة خطرهم على الأمة،لأنهم يلبسون الحق بالباطل ويغررون بالعوام، ولاسيما أن كثيرًا من الناس يقبلون الباطل أكثر من قبولهم للحق. فالواجب الحذر والتحذير من هؤلاء؛ لأن خطرهم على المسلمين عظيم، ومن هؤلاء المضللين من يكتب بعض المنشورات المشتملة على أحاديث مكذوبة، وقد يخلطها بشيء من الأحاديث الصحيحة أو الآيات القرآنية، ويقول: من نسخ منها كذا وكذا ووزعه على الناس يحصل له من الثواب والخير كذا وكذا، فيبادر بعض الجهال إلى نسخها وتوزيعها اغترارًا بهذا الترغيب، فيكون متعاونا على الإثم والعدوان مع أصحابها.
وهناك مشعوذون وسحرة دجالون يظهرون على الناس بين الحين والآخر بأعمال بهلوانية، ويعرضون سحرهم وشعوذتهم وتقميرهم في أندية ومحافل يجتمع فيها جموع غفيرة من الدهماء والسذج ينظرون إلى تلك الأعمال السحرية الشيطانية التي يقوم بها هؤلاء المشعوذون، مثل سحب السيارة بشعرة، ووضع الصخرة العظيمة على بطن أحدهم وتحته المسامير الحادة، ومرور السيارة من فوقه، وطعن عينه بأسياخ الحديد ولا يتأثر بذلك، وبعضهم يتظاهر أمام الناس بطعن نفسه بالسكين، أو يدخل النار ولا تحرقه، وبعضهم يمشي على الحبل أو الخيط، وأمثال هذه المشعوذات التي حقيقتها التدجيل، والكذب على الناس لسلب أموالهم وإفساد عقيدتهم وترويج السحر بينهم، وقد حذرنا الله في كتابه من السحر، وأخبر أنه كفر وأنه من تعليم الشياطين، وعمل المفسدين، والعجيب أن هؤلاء السحرة والمشعوذين يجدون منا من يشجعهم، ويبذل لهم الأموال الطائلة على ما يقدمونه من سحر وباطل، مع أن هذا من أعظم المنكر الذي يجب إنكاره ومعاقبة من يتعاطاه بالقتل. وقد قال النبي : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر،...)) الحديث، رواه البخاري ومسلم [3].
فعد السحر قرين الشرك وأمر باجتنابه، فكيف يليق بالمسلم أن يحضره ويشجعه ويدفع المال للسحرة مع إنه يجب قتلهم؟! قال الإمام أحمد: صح قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي ، وقد مر جندب بن كعب بن عبد الله الأزدي على ساحر يلعب بحضرة بعض الأمراء ويقمر على أعين الناس، فيظهر لهم أنه يقطع رأس إنسان ويميته، ثم يعيده ويحييه، فيتعجبون منه، فضربه جندب بالسيف فقتله وقال: إن كان صادقًا فليحيي نفسه. وهكذا يجب أن يكون موقف المسلم الموحد من السحرة والمشعوذين والدجالين، يقف من هؤلاء موقف الاستنكار والقوة والشجاعة ودحض الباطل، لا موقف المسالم السلبي، أو المشجع الذي يدفع الجوائز لهؤلاء المشعوذين الدجالين.
وقد يقول بعض المتحذلقين: إن هؤلاء يقومون بأعمال رياضية وحركات خفيفة تدربوا عليها وليست سحرًا ولا شعوذة، فلا بأس بها ولا مانع من حضورها والتشجيع عليها.
ونرد على هؤلاء:
أولاً: بأن هناك فَرقًا بين الأعمال الرياضية والأعمال السحرية، فالأعمال الرياضية لها حدود لا تصل إلى الطعن بالسكاكين والعبث بالنيران وحمل الصخرة الكبيرة على الصدر ومرور السيارة من فوق الشخص وجذبها بالشعرة وما شابه ذلك، وإنما هذا من باب السحر التخييلي المسمى (بالقمرة) بحيث يخيل للناس شيئًا وهو بخلافه، أو من باب الاستعانة بالجن والشياطين ليعملوا له هذه الاشياء ويظهر للناس أنه هو الذي يعملها.
ثانيًا: يمكن أن يكون في هذه الأعمال شيء من الحركة الرياضية المخلوطة بأشياء من الأعمال السحرية لأجل التغرير بالناس ولبس الحق بالباطل حتى يظنوها كلها أعمالاً رياضية فلا يستنكروها.
ثالثًا: لو أجزنا مثل هذه الأعمال على أنها رياضية خالصة فإن هذا يفتح الباب للأعمال السحرية؛ لأن أهل الشر ينتهزون الفرص، والناس لا يقفون عند حد ميولهم إلى الباطل أكثر من رغبتهم في الحق، فيجب الحذر من هؤلاء الدجالين والضرب على أيديهم؛ لأنهم يفسدون في الأرض والله لا يصلح عمل المفسدين.
عباد الله: ومن الناس من يذهبون إلى الكهان والسحرة لأجل العلاج والتداوي عندهم يلتمسون عندهم الشفاء ولو على حساب عقيدتهم ودينهم، يأمرهم هؤلاء الكهان والسحرة بالذبح لغير الله فيذبحون، ويدعون علم الغيب فيصدقون. ويأمرونهم بأشياء يتلقونها عن الجن والشياطين فيصدقونهم ويعملون بتوجيهاتهم وإن كانت كفرًا وشركًا، يتجاهلون قول النبي : ((لعن الله من ذبح لغير الله))، وقوله : ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) رواه أبو داود [4]. وعن عمران بن حصين مرفوعًا: ((ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) رواه البزار [5] بإسناد جيد.
وكل من فعل هذه الأمور أو فعلت له راضيًا بها فقد كفر بالقرآن وبرئ منه رسول الرحمن؛ لأن هذه الأمور كفر وشرك فمن رضي بها فهو كالفاعل لها. فالأمر خطير.
وقد يتسمى هؤلاء بالأطباء الشعبيين وهم في الحقيقة كهنة ومشعوذون يستخدمون الجن ويغررون بالناس باسم الطب الشعبي، والطب الشعبي بريء من هذه الجرائم؛ لأن الطب الشعبي حقيقته المعالجة بأمور مباحة مجربة كالكي والفصد والحجامة ونحو ذلك من استعمال الأدوية النباتية المباحة. أما الكهانة والسحر وما شابههما فليست طبًا شعبيًا، وإنما هي أعمال شيطانية وادعاء لعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فالواجب الحذر والتحذير من ذلك، وأن يبلغ ولاة الأمور عن هؤلاء المشعوذين لتأديبهم والأخذ على أيديهم.
فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على عقيدتكم من الفساد أكثر مما تحافظون على صحة أبدانكم من الأمراض، فماذا يستفيد الإنسان إذا عاش سليم الجسم مريض العقيدة، فإن صحة البدن مع فساد العقيدة خسارة في الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:116].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.
[1] صحيح ، أخرجه أحمد (5/278) ، وأبو داود ح (4252) ، والترمذي ح (2229).
[2] في مسنده ح ( ).
[3] صحيح البخاري ح (2615 ، 6465) ، صحيح مسلم ح (89).
[4] صحيح سنن أبي داود ح (3904) وعنده ((فقد برئ مما أُنزل..)).
[5] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/153) : رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع ، وهو ثقة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أمرنا أن نعبده مخلصين له الدين، ونهانا عن طاعة الكفار والمشركين، والانخداع بأعمال السحرة والمشعوذين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: ((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام)) ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى في جميع أحوالكم، وفي حال صحتكم ومرضكم، فخذوا ما أحل الله لكم ودعوا ما حرم الله عليكم. ففي الحلال غنية عن الحرام، واعلموا أن الله سبحانه بمنه وفضله جعل لكل داء دواء وأباح لعباده التداوي به، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي أنه قال: ((لكل داء دواء، فإذا أصاب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل)) ، والتداوي بالأدوية المباحة من جملة الأسباب التي أمر الله بالأخذ بها، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه رفع الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا ـ إلى أن قال: ـ وفي قوله : ((لكل داء دواء)) ، تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه... انتهى.
وفي عصرنا هذا تطور الطب، وعثر على كثير من الأدوية النافعة المباحة، وأعظم منها وأنفع العلاج بالرقية من القرآن الكريم الذي جعله الله شفاء ورحمة للمؤمنين من الأمراض الحسية والمعنوية، وكذلك العلاج بالأدعية الشرعية النبوية، أما المحرمات فإن الله لم يجعل فيها شفاء كما قال عبد الله بن مسعود : (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) رواه البخاري.
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلاً وشرعًا، أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث وغيرها،وأما العقل فهو أن الله سبحانه إنما حرم ما حرم لخبثه،فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبًا عقوبة لها، كما حرم على بني إسرائيل بقوله: فَبِظُلْمٍ مّنَ ?لَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـ?تٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] ، وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه، وتحريمه له حماية لها وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه وإن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقمًا أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المتداوي به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب، وأيضًا فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب في ملابسته، وهذا ضد مقصود الشارع، وأيضًا فإنه داء كما نص عليه صاحب الشريعة، فلا يجوز أن يتخذ دواء.
قلت: هذا الذي ذكره ابن القيم من الأضرار التي تنشأ عن التداوي بالمواد المحرمة كالخمر والنجاسات وغيرها. فكيف بأضرار التداوي بالأمور الشركية التي يعملها السحرة والكهان ؟! فهذه تفسد العقيدة وتجعل الإنسان يعيش بلا عقيدة إن شفي بها. وإن مات مات مشركًا، إن لم يتب منها قبل موته.
فاتقوا الله – عباد الله – وعليكم بالتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله وما عليه جماعة المسلمين.
فإن خير الحديث كتاب الله... إلخ.
(1/159)
في الصيام والقيام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
من فضائل شهر رمضان - فضل الصوم -
الحث على اغتنام شهر رمضان ( صلاة – قرآن – إحسان) - نواقص ونواقض الصوم - فضل قيام رمضان وآدابه وأحكامه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من مواسم الخير والبركات وما حباكم به من الفضائل والكرامات، واعرفوا قدر هذه المواسم بعمارتها بالطاعات وترك المحرمات.
عباد الله لقد أظلكم شهر مبارك كريم وموسم رابح عظيم، شهر تضاعف فيه الحسنات وتعظم فيه السيئات، شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، شهر أنزل الله فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيام نهاره وفريضة، وقيام ليله تطوعا، من فطّر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتقا له من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء، أُعْطِيت فيه هذه الأمة خمس خصال لم تُعْطَهنّ أمة من الأمم قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله كل يوم جنته فيقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كان يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة منه.
إنه شهر رمضان، من صامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، من أتى فيه بعمرة كان في الأجر كمن حج، فيه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((قال الله عز وجل كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصوم جنة)) (يعني وقاية من الإثم والنار) فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه)).
أما فرحه عند فطر فيفرح بنعمتين: نعمة الله عليه بالصيام، ونعمته عليه بإباحة الأكل والشراب والنكاح، وأما فرحة عند لقاء ربه فيفرح بما يجده من النعيم المقيم في دار السلام. وفي صحيح البخاري عن النبي أنه قال: ((إن في الجنة بابا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون لا يدخله غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق ولم يفتح لغيرهم)).
وقال النبي : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)).
عباد الله: اغتنموا شهر رمضان بكثرة العبادة والصلاة والقراءة والإحسان إلى الخلق بالمال والبدن والعفو عنهم، واستكثروا فيه من أربع خصال: اثنتان ترضون بهما ربكم، واثنتان لا غنى لكم عنهما فأما اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله والاستغفار، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما فتسألون الله الجنة وتستعيذون به من النار.
عباد الله: احفظوا صيامكم عن النواقص والنواقض. احفظوه عن اللغو والرفث وقول الزور وهو كل قول محرم وعمل الزور، وهو كل عمل محرم، فمن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، فرب صائم ليس له إلا الجوع والظمأ.
اجتنبوا الكذب والفحش والغش والخيانة. اجتنبوا الغيبة والنميمة. اجتنبوا الأغاني المحرمة واللهو المحرم فعلا وسماعا، فإن كل هذه من منقصات الصيام.
قوموا بما أوجب الله عليكم من الصلاة في أقواتها وأدائها مع الجماعة، قوموا بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الحكمة من الصيام التقوى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:183].
عباد الله: قوموا شهر رمضان، فإن من قامه إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه، واعلموا أن صلاة التراويح هي قيام رمضان، ولكن سميت تراويح لأن الصحابة كانوا كلما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلا.
صلوا هذه التراويح بطمأنينة بخشوع وحضور قلب، فإنها صلاة لا مجرد حركات، والمقصود منها التعبد لا سرد ركعات.
وإن كثيرا من الناس يتهاون بهذه التراويح من الأئمة وغير الأئمة، أما الأئمة فكثير من يسرع بها إسراعا مخلا لكثير من السنن، بل ربما يخل بالأركان، وأما غير الأئمة فيفرطون فيها بالترك وعدم الصبر مع الإمام وقد قال النبي : ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) فقوموا مع الإمام حتى ينصرف من الوتر، وإذا قمتم من آخر الليل وأحببتم الصلاة فصلوا ركعتين بدون وتر لأن الوتر لا يعاد مرة ثانية.
واعلموا أن أفضل عدد تصلى به التراويح ما ثبت عن النبي وهو إحدى عشر ركعة أو ثلاثة عشر ركعة ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشر ركعة)). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((كان النبي يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة)) [رواه مسلم]. وصح عن عمر بن الخطاب أنه أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة [رواه مالك في الموطأ عن محمد بن يوسف وهو ثقة ثبت عن السائب بن يزيد وهو صحابي].
فهذا العدد جاءت به سنة النبي واتبعه فيها عمر، ومع ذلك لو صلاها الإنسان ثلاثا وعشرين أو تسعا وثلاثين كما كان الناس عليه زمن عمر بن عبد العزيز أو أقل من هذا فلا ينكر عليه لأنه روى عن السلف في ذلك اختلاف، ولكن الذي ينكر على بعض الناس هو الإسراع المفرط الذي تذهب به الطمأنينة وتفوت به مكملات الصلاة وربما واجباتها.
واجتهدوا أيها المسلمون في قراءة القرآن فإنه كلام ربكم فلكم الشرف في تلاوته والأجر، ولكم بالعمل به الحياة الطيبة وطيب الذكر، ولكم بكل حرف منه عشر حسنات، وإذا مررتم بآية سجدة فاسجدوا في أية ساعة من ليل أو نهار، كبروا عند السجود وقولوا في السجود: سبحان ربي الأعلى. وادعوا.
وإذا سجدتم للتلاوة في الصلاة فكبروا عند السجود وعند الرفع منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك في ضلال بعيد [إبراهيم:1-3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/160)
في وجوب اتباع الكتاب والسنة والنهي عن الابتداع في شعبان وغيره
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
الأمر باتباع الكتاب والسنة والآيات في ذلك , وأن هذا من لوازم الشهادتين – اتباع الرسول
صلى الله عليه وسلم دليل محبة الله , وطاعته من طاعة الله , والتحذير من مخالفة أمره صلى
الله عليه وسلم – تحذيره صلى الله عليه وسلم من البدع والمحدثات – تعريف البدع , وأنواعها
وأثرها , وخطورتها – من البدع الاحتفال بليلة النصف من شعبان , وحكم صيام يومها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتمسكوا بكتابه وسنة نبيه ففيهما الكفاية والهدى والنور، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلال وغرور، قال تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم ولا تتبعوا من دونه أولياء [الأعراف:3] ، وقال تعالى: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [طه:123] ، فقد وعد الله من تمسك بكتابه وعمل به ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الاخرة، وتوعد من أعرض عن كتابه فقال: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى.
أي: من خالف أمري وما أنزلته على رسولي فأعرض عنه وتناساه، وأخذ من غيره هداه: فإن له معيشة ضنكاً أي: ضنكا في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء فإن قلبه في قلق وحيرة وشك، وقيل: إن المعيشة الضنك أن يضيّق عليه في قبره حتى تختلف اضلاعه : ونحشره يوم القيامة أعمى ، أي: أعمى البصر والبصيرة، كما قال تعالى: ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم [الإسراء:97] ، وقد امر الله بطاعته وطاعة رسوله في كثير من الآيات، وطاعة الله تكون باتباع كتابه، وطاعة الرسول تكون باتباع سنته قال تعالى: ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين [النساء:13-14] ، وهذا من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن شهد أن لا إله إلا الله وجب عليه أن يطيعه ويتبع كتابه، ومن شهد أن محمدا رسول الله، وجب عليه أن يطيعه ويتبع سنته.
وقد أخبر الله سبحانه أن من يطع الرسول - - فذلك دليل على محبته لله ومحبة الله له، ومن لم يطع الرسول فإن ذلك دليل على كفره قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [آل عمران:31-32].
وأخبر الله سبحانه أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله لأن طاعة الرسول طاعة لمن ارسله قال تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء:80] ، وأخبر سبحانه أن من أطاع الرسول – - حصلت له الهداية التامة قال تعالى: وإن تطيعوه تهتدوا [النور:54] ، وأخبر أن طاعة الرسول سبب للرحمة قال تعالى: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون. واخبر ان من عصى الرسول فهو ضال متبع لهواه. قال تعالى: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون اأواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله [القصص:50].
وتوعد من خالف امر الرسول بالعقوبة العاجلة والآجلة فقال تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
قال ابن كثير – رحمه الله – أي :فليحذر وليخش من خالف الرسول - - باطنا وظاهرا. أن تصيبهم فتنة ، أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو حد أو حبس أو نحو ذلك. وكان النبي – - يحذر من مخالفة الكتاب والسنة ويبين أن ما خالف الكتاب والسنة فهو بدعة وضلالة فكان يقول في خطبه: ((إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدى محمد – - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) ، ويقول: ((من يعشْ منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الامور فإن كل محدثة بدعة)) ، وقال : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ، رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد)) أي: مردود على مُحْدثه وعامله لا يقبل؛ لأنه بدعة مخالفة لما شرع الله لعباده، ففي هذه النصوص وأمثالها التحذير من البدع والمخالفات ؛ والبدعة: هي الطريقة المخترعة في الدين التي ليس له دليل من الكتاب والسنة يقصد فاعلها ومخترعها التقرب بها إلى الله – عز وجل - كإحداث عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله، أو تخصيص وقت للعبادة لم يخصصه الله ولا رسوله لها، أو فعل العبادة على صفة لم يشرعها الله ورسوله.
فالبدعة قد تكون بإحداث عبادة ليس لها أصل في الشرع مثل بدعة الاحتفال بمناسبة مولد النبي – - والاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج، أو بمناسبة الهجرة النبوية. أو تخصيص وقت من الأوقات للعبادة ليس له خصوصية في الشرع، كتخصيص شهر رجب أو ليلة النصف من شعبان بصلاة أو ذكر أو دعاء، وتخصيص يوم النصف من شهر شعبان بصيام وقد تكون البدعة بإحداث صفة للعبادة غير مشروعة، كالدعاء الجماعي بعد الصلوات المفروضة، والاذكار الجماعية وما أشبه ذلك. والبدع تصد عن دين الله، وتبعد عن الله، وتوجب العقوبة العاجلة والآجلة، لأنها من دين الشيطان، لا من دين الرحمن.
والمبتدع متبع لهواه : ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله [القصص:50]. والمبتدع يقول على الله بلا علم، والقول على الله بلا علم قرين الشرك. قال تعالى محذرا من ذلك : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون [الأعراف:33]. قال الإمام ابن القيم: والقول على الله بلا علم والشرك متلازمان. ولما كانت هذه البدع المضلة جهلا بصفات الله، وتكذيبا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله – - كانت من أكبر الكبائر إن قصرت عن الكفر. وكانت أحب إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، وقال إبليس – لعنه الله: أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بـ لا إله إلا الله وبالاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون، لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ومعلوم أن المذنب إنما ضرره على نفسه، وأما المبتدع فضرره على الناس، وفتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة.
والمبتدع يتهم ربه بأنه لم يكمل الدين قبل وفاة النبي – - فهو مكذب لقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم ، أو يتهم الرسول بعدم البلاغ.
والمبتدع يريد ان يفرق جماعة المسلمين،لأن اجتماع المسلمين إنما يتحقق باتباع ما شرع الله، كما قال تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وقال : وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.
فالمبتدع يريد ان يفرق المسلمين عن صراط الله وعن سبيله المتحد إلى سبل البدع المختلفة، لأن البدع لا تقف عند حد ولا تنتهي إلى غاية. فكل مبتدع له طريقة خاصة غير طريقة المبتدع الاخر، كما صور النبي ذلك حينما خط بيده خطا وقال : ((هذا سبيل الله مستقيما، وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال : هذه السبل ليس منها سبيل الا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ: وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [الأنعام:153] )) رواه احمد والحاكم، وقال : صحيح، ولم يخرجاه. وهو دليل واضح على أن البدع تفرق المسلمين.
عباد الله: إننا في زمان كثرت فيه البدع ونشط فيه المبتدعة، فصاروا يروجون البدع بين الناس ويدعون إليها في كل مناسبة، وهذا بسبب غربة الدين، وقلة العلماء المصلحين. ومن هذه البدع ما يروج كل عام، ويغتر به الجهال والعوام، من الاحتفال بليلة النصف من شعبان وتخصيصها بأنواع من الذكر والصلاة، لأنهم يزعمون أنها تقدر فيها الآجال والأرزاق وما يجري في العام، ويظنون أنها هي المعنية بقوله تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم. ويخصون اليوم الخامس عشر من شهر شعبان بالصيام، ويستدلون بحديث روي في هذا، وهذا كله من البدع المحدثة، لأنه لم يثبت تخصيص ليلة النصف من شعبان بذكر ولا قيام. ولا تخصيص يومها بالصيام، ولم يثبت في ذلك حديث عن النبي – - وما لم يثبت فيه دليل فهو بدعة في الدين ومخالف لعمل المسلمين المتمسكين بالسنة التاركين للمبتدعة. وإليكم ما قاله العلماء المحققون في هذه الليلة: قال أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع : وروى ابن وضاح عن زيد بن اسلم قال: ((وما ادركنا أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولا يَِرَوْن لها فضلا على سواها )).
وقال ابن رجب – في كتابه لطائف المعارف -: وأنكر ذلك – يعني تخصيص ليلة النصف من شعبان اأكثر علماء الحجاز. منهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن اسلم عن فقهاء اهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة.
وقال ايضا : قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيه شيء عن النبي – - ولا عن أصحابه وقال الحافظ العراقي: حديث صلاة ليلة النصف من شعبان باطل وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات.
وأما صيام يوم النصف من شعبان فلم يثبت بخصوصه حديث عن النبي – -. والحديث الوارد فيه ضعيف، كما قاله ابن رجب وغيره. والضعيف لا تقوم به حجة. وأما زعمهم أن هذه الليلة تقدر فيها أعمال السنة وأنها المعنية بقوله تعالى: إنّا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم ، فهو زعم باطل،لأن المراد بتلك الليلة ليلة القدر، كما قال تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وهي في رمضان لا في شعبان لأن الله سبحانه قال: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، فالقرآن أنزل في ليلة القدر وليلة القدر في رمضان بلا خلاف. بدليل قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. قال الإمام ابن كثير: يقول الله تعالى مخبرا عن القران العظيم انه انزله في ليلة مباركة، وهي ليلة القدر كما قال عز وجل: إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وكان ذلك في شهر رمضان، كما قال تبارك وتعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، قال: ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان، كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة. فإن نص القران أنها في رمضان. ثم قال عن الحديث المروي في ليلة النصف من شعبان وهو أن النبي – - قال : ((تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى ان الرجل لينكح ويولد له وقد اخرج اسمه في الموتى )) ، قال : هو حديث مرسل، مثله لا يعارض النصوص.
فاتقوا الله – عباد الله - وتمسكوا بكتاب ربكم، وسنة بينكم، وما كان عليه السلف الصالح، واحذروا من البدع ومروجيها، كما حذركم النبي – -.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [الأنعام:195].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أمرنا باتباع صراطه المستقيم، ونهانا عن اتباع سبل أصحاب الجحيم. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك البر الرحيم. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بلغ البلاغ المبين. وقال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تلقوا عنه الدين. وبلغوه للمسلمين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى والزموا السير على الطريق الصحيح الذي يوصلكم إلى دار السلام. واحذروا الطرق المنحرفة التي توردكم المهالك والآثام، واعلموا انه ليس لليلة النصف من شعبان ولا ليومها خصوصية على غيرها من الليالي والأيام، فمن كان معتادا لقيام الليل في سائر السنة فليقم في تلك الليلة كغيرها من الليال. ومن كان معتاد الصيام ايام البيض من كل شهر فليصم تلك الأيام من شعبان كعادته في شهور العام. وكذلك من كان يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، وصادف ذلك يوم النصف من شعبان فليصمه على عادته تابعا لغيره، وهكذا من كان عادته ان يصوم غالب شهر شعبان كما روى مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: ((ولم أره صائما من شهر قط أكثر من صيامه في شعبان)) وفي رواية: ((كان يصوم شعبان إلا قليلا )) ، فمن اقتدى بالنبي – - وصام غالب شعبان ومر النصف أثناء صيامه فلا بأس. لأنه في هذه الحال صار تابعا. وإنما الممنوع تخصيصه دون غيره. واعملوا عباد الله أن فيما ثبت عن النبي – - من نوافل الصلوات والصيام غنيمة للمسلم وخير كثير، فلا يجوز للمسلم أن يلتفت لما سوى ذلك من الشذوذات والمبتدعات والمرويات التي لم تثبت، فإن هذا سبيل أهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه ويتركون المحكم ويحبون البدع ويميتون السنن. وإنك لتعجب حين ترى حرص بعض الناس على تتبع الشواذ، وترك الثوابت من العبادات.
فاتقوا الله، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، فتمسكوا به.وخير الهدي هدي محمد – - فاقتدوا به. وشر الأمور محدثاتها فاجتنبوها.فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار...
(1/161)
الغناء
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الغناء في بيوت المسلمين. 2- مشغلة شبابنا بأخبار الفنانين واللاهين. 3- أدلة
حمرمة الغناء من الكتاب والسنة. 4- أقوال العلماء في الغناء وذمه. 5- الغناء سبب للعقوبة في
الدنيا والآخرة. 6- حرمة بيع أشرطة الغناء ودعوة لترك هذا الكسب الخبيث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واعلموا أن من أعظم ما يصد عن ذكر الله ويشغل العباد عن طاعته استماع الأغاني والمعازف على اختلاف أنواعها وتعدد أشكالها، تلكم الأغاني التي احتلت غالب بيوت المسلمين اليوم وحاصرت البيوت التي لم تستطع احتلالها حصارا شديدا تحاول الدخول فيها والتغلغل إلى ساكنيها، لقد فتن بها كثير من الرجال والنساء الذين ضعف إيمانهم وخفت عقولهم، وافتتن بهم شباب الأمة من بنين وبنات فشغلوا أوقاتهم وملأوا أرجاء بيوتهم بأصوات المغنين والمغنيات عبر الأشرطة والإذاعات ومن وراء ذلك الصحف والمجلات الماجنة التي تنوه بشأن هؤلاء المطربين وتنشر أسماءهم وصورهم على صفحاتها لتعريف الناس بهم وترويج بضاعتهم المنتنة الخبيثة وهذا والله من أقسى مصائب اليوم أن نرى دعاة الضلال هؤلاء يلقون إجلالا وهم ينفثون في الناس سماً.
حتى لقد أصبح كثير من الشباب يعرف عن هؤلاء المغنين والمغنيات وأغنياتهم كل دقيق وجليل ويعرف مواقيت بث تلك الأغاني آناء الليل والنهار ولو سألته عن معنى لا إله إلا الله لقال: هاه هاه لا أدري. ولو سألته عن مواقيت الصلاة لقال: لا أدري ولو سألته عن كتاب الله وعن بعض السور القصيرة لقال: لا أدري بل إن بعضهم لا يفرق بين الآية والحديث ولو سئل عن أبسط جزئيات الدين لقال: لا أدري. وكيف يدري ومن أين يدري؟ وهمته متجهة عند ذلك وهو يلقن أغنية فلان
إذا كنت لا تدري ولم تك بالذي
يسأل من يدري فكيف إذاً تدري
جهلت ولم تعلم بأنك جاهل
فكيف إذا تدري بأنك لا تدري
ومن أعجب الأشياء أنك لا تدري
وأنك لا تدري بأنك لا تدري
فإلى الله المشتكى وإلى الله نشكو ما لاقاه إسلامنا، وما يلاقيه من المنحرفين الذين أوقفوا حياتهم على تقويض أركان الإسلام وهدم أصوله وقواعده فشككوا في العقائد وعطلوا الأحكام واعترضوا على الله في التشريع وعلى الرسول في البيان.
قال تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم.
قال عبد الله بن مسعود : لهو الحديث هو الغناء والذي لا إله غيره - 3 مرات -.
فلهو الحديث هو الغناء وهو كل كلام يلهي القلب، ويأكل الوقت ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه الأرض لعمارتها بالخير والصلاح فمن الناس من يشتري هذا اللهو من أشرطة أو آلات موسيقية أو قصائد غزلية يشتريه بماله ويشتريه بوقته ويشتريه بحياته، يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص، يفنى فيه عمره المحدود الذي لا يعاد ولا يعود يشتري هذا اللهو ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا فهو جاهل محجوب لا يتصرف عن علم ولا يرمي عن حكمة وهو سيئ النية والغاية، يريد ليضل عن سبيل الله، يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة وهو سيء الأدب يتخذ سبيل الله هزوا ويسخر من الدين وأهله ومن ثم كان عقابه في الآخرة أن له عذابا مهينا، ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم فكانت العقوبة بإهانة هؤلاء الساخرين من الدين وأهله.
أيها الإخوة: إن حكم سماع الأغاني والآلات الموسيقية هو الحرمة ومن كان في شك من تحريم الأغاني والموسيقى والمعازف فليزل الشك باليقين من قول رب العالمين والرسول الأمين في تحريمها وبيان أضرارها فهناك النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على تحريم الأغاني، والوعيد لمن استحل ذلك وأصر عليه والمؤمن يكفيه دليل واحد من كتاب الله أو صحيح سنة رسول الله فكيف إذا تكاثرت الأدلة على ذلك وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا.
والدليل الذي ذكرته قبل قليل كاف في المسألة والعذاب المهين في الآخرة أكبر رادع لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولكن من باب الاستزادة فمن الأدلة من كتاب الله:
قوله تعالى: واستفزز من استطعت منهم بصوتك ، قال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: صوت الشيطان هو الغناء والمزامير واللهو.
وقال تعالى: والذين هم عن اللغو معرضون واللغو هو الكلام الباطل والغناء، بلا شك والذين لا يشهدون الزور قال محمد بن الحنفية: الزور ههنا الغناء والغناء من أعظم الزور.
وأما الأدلة من السنة:
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير، قالوا: يا رسول الله، أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ قال: بلى، ويصومون ويصلون ويحجون، قيل: فما بالهم؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف والقينات فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير)).
وروى البخاري في صحيحه عن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي يقول: ((ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف)).
ومعنى يستحلون: إما أنهم يفعلون هذه المحرمات، فعل المستحل لها بحيث يكثرون منها ولا يتحرجون من فعلها وإما أنهم يعتقدون حلها وقد يكون هذا بسبب فتوى ضالة من فتاوى أصحاب الأهواء والمراد بالمعازف في الحديث آلات اللهو من طبل وطنبور وعود وقانون وقيتار ونحوها.
ودلالة هذا الحديث على تحريم الغناء دلالة قطعية ولو لم يرد في المعازف حديث ولا آية سوى هذا الحديث لكان كافيا وخاصة فيما يغني به المطربون اليوم من ألفاظ الفحش والبذاءة والمجاهرة بفنون المجون والخلاعة وذكر أشعار الغزل المتضمن لوصف القدود والخدود والثغور والنهود مع ذكر المحبة والغرام، والاشتياق وما جرى هذا المجرى مما هو أعظم الأسباب في إثارة الوجد والهوى وإزعاج النفوس المريضة إلى طلب العتبا وخلع جلباب الحياء والدعوة إلى الزنا نسأل الله السلامة، وأما حكم الأئمة الأربعة على الغناء واستعمال المعازف والاستماع إليها:
فهذا محمد بن القاسم تلميذ الإمام مالك سأل مالكا عن الغناء فأجابه قائلا: قال تعالى: فماذا بعد الحق إلا الضلال أفحق هو أم باطل؟ وما أحسن جواب الإمام مالك فإن الغناء إن لم يكن حقا فهو باطل وباطل والباطل في النار.
وهل من عاقل يقول إنه حق؟
وقال مرة أيضا وقد سئل عما يترخص به أهل المدينة من الغناء، قال: إنما يفعله عندنا الفساق. فحكم مالك على المغنين والمستمعين والمشتغلين بالغناء والطرب بالفسق والفاسق في حكم الإسلام لا تقبل له شهادة ولا يصلي عليه الأخيار إن مات بل يصلي عليه غوغاء الناس وعامتهم، فمن يريد أن يكون كذلك؟ طبعا لا أحد.
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فقال: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته.
أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فقد كان حكمه أشد وأقسى، فهو يرى الغناء من الذنوب التي يجب تركها والابتعاد عنها وتجب منها التوبة فورا كسائر الذنوب والمعاصي وبالغ أصحابه في النهي عن السماع إلى حد أن قالوا: سماع الأغاني فسق والتلذذ بها كفر.
أما الإمام أحمد فقد قال: الغناء ينبت في القلب النفاق فلا يعجبني. ومذهب تحريم الملاهي عامة، غناء كانت أو ضربا على عود أو مزمارا أو غير هذه، عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وعند أصحابه أجمعين، ومع هذا نجد أن المذاهب الأربعة اتفقت على تحريم آلات الطرب كلها أيضا.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الغناء مبدؤه من الشيطان وعاقبته سخط الرحمن. وقال القرطبي: الغناء ممنوع بالكتاب والسنة، وقال ابن الصلاح الغناء مع آله: الإجماع على تحريمه ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح الغناء.
وأخيرا فهذا حكم حماة الإسلام وأنصار الشريعة وأمناء الأمة مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد رحمهم الله أجمعين وهذا حكم واضح وصريح في منع الغناء وتفسيق فاعله والمستمع إليه، كما هو حكم مستمد من كتاب الله وسنة رسوله.
وقد تقدم على حكم الأئمة حكم الله ورسوله وهو كذلك أكثر صراحة وأشد وضوحا في منع الغناء وتحريمه فهل يجوز بعد هذا لمؤمن يحب الله ورسوله أن يقول: إن هذا الغناء الذي يعرفه الناس اليوم مباح حلال؟ وهل يجوز لمسلم يحترم نفسه ويستبرئ لدينه وعرضه أن يعدل عن هذا المنهج القويم، وهذه الجادة الواضحة إلى مسلك أعوج مسلك أناس منحرفون غارقون في شهواتهم ولذاتهم حتى أصبحت حياتهم كلها في خدمة هذا العفن الفني.
قال ابن القيم رحمه الله:
حب القران وحب ألحان الغنا
في قلب عبد ليس يجتمعان
والله ما سلم الذي هو دأبه
أبداً من الإشراك بالرحمن
وإذا تعلق بالسماع أصاره
عبدا لكل فلانة وفلان
وقال بعض العارفين: الغناء يورث النفاق في قوم والعناد في قوم والكذب في قوم، والرعونة (المياعه) في قوم والخبث في قوم.
وأكثر ما يورث عشق الصور واستحسان الفواحش وإدمان سماعه يثقل القرآن على القلب وسر المسألة أنه قرآن الشيطان فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا.
والغناء أشد لهوا، وأعظم ضررا من أحاديث الفساق وأخبارهم فإنه رقية الزنا ومنبت النفاق وخمرة العقل وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل لشدة، إقبال النفوس عليه ورغبتها فيه.
ويوضح ذلك أنه لا يوجد أحد ممن عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفي ضلال عن طريق الهدى علما وعملا وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء بحيث إذا عرض له في المذياع إذاعة القرآن تجده يصرف الموجة بحثا عن أي موجة فيها أغنية وهذا ديدن الكثير من الناس اليوم أصلحهم الله.
ومن أسماء الغناء أنه رقية الزنا وهو اسم موافق لمسّماه ولفظ مطابق لمعناه فليس في رقى الزنى أنجح منه ومن المعلوم: أن المرأة إذا استعصت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء فحينئذ تعطي الليان.
وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدا فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من جهتين من جهة الصوت ومن جهة معناه، ولهذا قال النبي لأنجشه حاديه: ((يا أنجشه رويدك رفقا بالقوارير)) يعني النساء وعن خالد بن عبد الرحمن قال: (كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع غناء من الليل فأرسل إليهم بكرة، فجيء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الفحل ليهدر فتضيع له الناقة، وإن التيس لينبت فتستحرم له العنز وإن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة).
وهذا الحطيئة نزل برجل من العرب ومعه ابنته مليكه فلما جنه الليل سمع غناءا فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني، فقال: وما تكره من ذلك، فقال: إن الغناء رائد من رائدة الفجور ولا أحب أن تسمعه ابنتي وقال في قصة أخرى: (جنبوني نديّ مجالسكم ولا تسمعوني أغاني شبيبتكم فإن الغناء رقية الزنا).
ولا ريب أن كل غيور يجب عليه أن يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب ومن يسر لأهله سماع رقية الزنا فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه.
فلعمر الله كم من حرّة صارت بالغناء من البغايا وكم من حرٍ أصبح به عبدا للصبيان أو الصبايا وكم من غيور تبدّل به اسما قبيحا بين البرايا، وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا وكم جرّع من غصّة وأزال من نعمة وجلب من نقمة وذلك منه إحدى العطايا وكم خبّأ لأهله من آلام متنظرة وغموم متوقعة وهموم مستقبلة وعذاب في الآخرة ولعذاب الآخرة أشد وأبقى نسأل الله السلامة والعافية.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن من المعلوم أنه ما من أمة أوغلت في الغناء والموسيقى إلا أصابها الضعف والخور والهزيمة النفسية وانحلال الأخلاق والتشبث بالدنيا وكراهية الموت مما يؤدي إلى طمع الأعداء بها ومحاولة النيل منها بأي سبب من الأسباب.
وهذا من مضار الاستماع إلى الغناء أنه سبب لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة، قال ابن القيم رحمه الله: والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلط الله عليهم العدو وبلوا بالقحط والجدب، وولاة السوء انتهى كلامه، بل ويصل الحد إلى أن يخسف الله بهم الأرض كما في الحديث: يكون خسف ومسخ وقذف عندما تكون القينات والمعازف أو كما قال.
أيها الإخوة: إن مفاسد استماع الغناء كثيرة وآفاته خطيرة فلنتق الله عز وجل فيما نعمل أو نذر وفيما نسمع أو نقول فالأمر ليس بالأمر الهين فإن عذاب الله مهين وقد توعد من استكبر عن آياته ولم يتبع الحق بعد أن عرفه واستبان له الطريق بالعذاب الأليم.
فطهروا بيوتكم من هذه الأنجاس واستبدلوا أشرطة الغناء بأشرطة القرآن أو المحاضرات أو المواعظ فالحمد لله قد وجد البديل وليس هناك أي عذر لأي شخص والتسجيلات الإسلامية متوفرة في كل مكان بل وفي كل مدينة من بلاد الحرمين الشريفين.
وأنت يا من تبيع هذه الأشرطة اعلم أنك تبيع حراما وتنشر فسادا وكسبك خبيث وأن عليك وزر كل من يسمع شريط غناء اشتراه منك فتب إلى الله واستبدل بيع هذه الأشرطة الخبيثة ببيع أشرطة قد سجل فيها الكلم الطيب النافع من كتاب الله وسنة رسوله والمواعظ النافعة والخطب والمحاضرات المفيدة وهي ولله الحمد كثيرة ومتوفرة.
وتذكر حديث الرسول حينما قال: ((إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا يطلب إلا بطاعته)).
وقال أيضا: ((إن الرزق يطلب ابن آدم أكثر مما يطلبه أجله)).
فطالما أن رزقك مضمون ومقسوم لك وأنت في بطن أمك فلا تخشى من ذي العرش إقلالاً وقد تكفل برزق الحوت في الماء والطير في الهواء واعلم أن للكسب الحرام آثارا سيئة من أشدها على الإنسان أنه لا يستجاب له دعاء مع أنه لا يستغني عن ربه طرفة عين، ففي الحلال غنية عن الحرام، وأناشد أيضا من لديه محلات بيع أفلام فيديو أناشده بأن يتقي الله في المسلمين وأن لا يفسدهم وألا يهيج فيهم الشهوة المحرمة وألا يشجع الأحداث على فعل الجرائم والمنكرات فإن أشرطة الفيديو تفتك بالناس وتفسد أكثر مما يفسد شريط الغناء وهذا الذي يبيع ويؤجر أشرطة الفيديو هو ممن يحبون أن يشيع الفساد في البلاد قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون وهل أفسد الناس وصيرهم إلى ما نرى اليوم من انحلال الأخلاق والتمرد على القيم والأعراف إلا هذا الفيديو الخبيث؟ فاتقوا الله يا أصحاب محلات الفيديو وتوبوا إلى الله تخلصوا مما أنتم فيه من الإثم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتي على ما فطرت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين.
(1/162)
من يجب عليه صوم رمضان والمفطرات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- الأمر بتقوى الله وشكره على مواسم الطاعات واغتنامها – من فضائل شهر رمضان -
استقبال رمضان وحكم صيام يوم الشك – وجوب صوم رمضان , ومن يُرخّص لهم في الفطر
وأحكام ذلك – الحث على قيام شهر رمضان وآداب ذلك – أنواع المفطرات وحكم من فعل
شيئاً منها ناسياً – بعض المباحات للصائم – وجوب حفظ الصوم من النواقص والنواقض
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من مواسم الخيرات وما حباكم به من الفضائل والكرامات، وعظموا تلك المواسم وأقدروها قدرها بفعل الطاعات والقربات واجتناب المعاصي والموبقات، فإن تلك المواسم ما جعلت إلا لتكفير سيئاتكم وزيادة حسناتكم ورفعة درجاتكم.
عباد الله: لقد استقبلتم شهرا كريما وموسما رابحا عظيما لمن وفقه الله فيه للعمل الصالح، استقبلتم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهرا تضاعف فيه الحسنات وتعظم فيه السيئات، أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، جعل الله صيام نهاره فريضة من أركان إسلامكم، وقيام ليله تطوعا لتكميل فرائضكم، من صامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن أتى فيه بعمرة كان كمن أتى بحجة، فيه تفتح أبواب الجنة، وتكثر الطاعات من أهل الإيمان، وتغلق أبواب النار، فتقل المعاصي من أهل الإيمان وتغل الشياطين، فلا يخلصون إلى أهل الإيمان بمثل ما يخلصون إليهم في غيره.
أيها الناس: صوموا لرؤية هلال رمضان ولا تقدموا عليه بصوم يوم أو يومين لأن النبي نهى عن ذلك إلا من كان عليه قضاء من رمضان الماضي فليقضه أو كان على عادة بصوم فليصمه، مثل من له عادة بصوم يوم الاثنين أو الخميس فصادف قبل الشهر بيوم أو بيومين، أو كان له عادة بصيام أيام البيض ففاتته فليس عليه بأس بصيامها قبل رمضان بيوم أو يومين.
ولا تصوموا يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا كان في ليلته ما يمنع رؤية الهلال من غيم أو فتر أو نحوهما، ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ومن حديث أبي هريرة عن النبي : ((فإن غبى عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) وقال عمار بن ياسر : من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم.
ومن رأى الهلال يقينا فليخبر به ولاة الأمور ولا يكتمه. وإذا أعلن في إذاعتكم ثبوت دخول رمضان فصوموا وإذا أعلن فيها ثبوت دخول شوال فأفطروا لأن إعلان ولاة الأمور ذلك حكم به.
جاء أعرابي إلى النبي فأخبره أنه رأى الهلال فقال : ((أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. فقال النبي : فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا)).
صوم رمضان أحد أركان الإسلام فرضه الله على عباده فمن أنكر فريضته فهو كافر، لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:183]. وقال تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه [البقرة:185].
فالصوم واجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم ذكرا كان أم أنثى ليست حائضا ولا نفساء، فلا يجب الصوم على كافر، فلو أسلم في أثناء رمضان لم يلزمه قضاء ما مضى منه، ولو أسلم في أثناء يوم من رمضان أمسك بقية اليوم ولم يلزمه قضاؤه.
ولا يجب الصوم على صغير لم يبلغ، لكن إن كان لا يشق عليه أُمر به ليعتاده فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصوِّمون أولادهم، حتى إن الصبي ليبكي من الجوع فيعطونه لعبة يتلهى بها إلى الغروب.
ويحصل بلوغ الصغير إن كان ذكرا بواحد من أمور ثلاثة: أن يتم له خمس عشرة سنة أو تنبت عانته أو ينزل منيا باحتلام أو غيره، وتزيد الأنثى بأمر رابع وهو الحيض.
فمتى حصل للصغير واحد من هذه الأمور فقد بلغ ولزمته فرائض الله وغيرها من أحكام التكليف إذا كان عاقلا.
ولا يجب الصوم على من لا عقل له كالمجنون والمعتوه ونحوها فالكبير والمهذري لا يلزمه الصوم ولا الإطعام عنه ولا الطهارة ولا الصلاة لأنه فاقد التمييز فهو بمنزلة الطفل قبل تمييزه، ولا يجب الصوم على من يعجز عنه عجزا دائما كالكبير والمريض مرضا لا يرجى برؤه، ولكن يطعم بدلا عن الصيام عن كل يوم مسكينا بعدد أيام الشهر، لكل مسكين ربع صاع نبوي من البر أي أن الصاع يكفي لأربعة فقراء عن أربعة أيام، والأحسن أن يجعل مع الطعام شيئا يأدمه من لحم أو دهن.
وأما المريض بمرض يرجى برؤه فإن كان الصوم لا يشق عليه ولا يضره وجب عليه أن يصوم لأنه لا عذر له، وإن كان الصوم يشق عليه ولا يضره فإنه يفطر، ويكره له أن يصوم وإن كان الصوم يضره فإنه يحرم عليه أن يصوم، ومتى برئ من مرضه قضى ما أفطر، فإن مات قبل برئه فلا شيء عليه.
والمرأة الحامل التي يشق عليها الصوم لضعفها أو ثقل حملها يجوز لها أن تفطر ثم تقضي إن تيسر لها القضاء قبل وضع الحمل أو بعده إذا طهرت من النفاس، والمرضع التي يشق عليها الصوم من أجل الرضاع أو ينقص لبنها من الصوم نقصا يخل بتغذية الولد تفطر ثم تقضي في أيام لا مشقة فيها ولا نقص.
والمسافر إن قصد بسفره التحيل على الفطر فالفطر حرام عليه، ويجب عليه الصوم.
وإن لم يقصد بسفره التحيل على الفطر مخير بين أن يصوم وبين أن يفطر ويقضي عدد الأيام التي أفطر، والأفضل له فعل الأسهل عليه.
فإن تساوى عنده الصوم والفطر فالصوم أفضل لأنه فعل النبي ولأنه أسرع في إبراء ذمته وأخف من القضاء غالبا، وإن كان الصوم يشق عليه بسبب السفر كره له أن يصوم، وإن عظمت المشقة به حرم أن يصوم لأن النبي خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر،فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب والناس ينظرون إليه،فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال : ((أولئك العصاة. أولئك العصاة)).
ولا فرق في المسافر بين أن يكون سفره عارضا لحاجة أو مستمرا في غالب الأحيان مثل أصحاب السيارات الأجرة (التكاسي) أو غيره من السيارات الكبيرة، فإنهم متى خرجوا من بلدهم فهم مسافرون يجوز لهم ما يجوز للمسافرين الآخرين من الفطر في رمضان وقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين والجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء عند الحاجة، والفطر لهم أفضل من الصيام إذا كان الفطر أسهل لهم ويقضونه في أيام الشتاء لأن أصحاب هذه السيارات لهم بلد ينتمون إليها وأهل فيها يأوون إليهم، فمتى كانوا في بلدهم فهم مقيمون وإذا خرجوا منها فهم مسافرون، لهم ما للمسافرين وعليهم ما على المسافرين، ومن سافر في أثناء اليوم في رمضان وهو صائم، فالأفضل أن يتم صوم يومه، فإن كان فيه مشقة فليفطر ثم يقضيه، ولا يتقيد السفر بزمن، فمن خرج من بلده مسافرا فهو على سفر حتى يرجع إلى بلده ولو أقام مدة طويلة في البلد التي سافر إليها إلا أن يقصد بتطويل مدة الإقامة التحيل للفطر، فإنه يحرم عليه الفطر ويلزمه الصوم لأن فرائض الله تعالى لا تسقط بالتحيل عليها.
ولا يجب الصوم على الحائض والنفساء، ولا يصح منهما إلا إن تطهرا قبل الفجر ولو بلحظة، فيجب عليهما الصيام، ويصح منهما وإن لم تغتسلا إلا بعد طلوع الفجر، ويلزمهما قضاء ما أفطرتا من الأيام.
أيها المسلمون لقد رغّب النبي في قيام هذا الشهر وقال: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))، وإن صلاة التراويح من قيام رمضان، فأقيموها وأحسنوها وقوموا مع إمامكم حتى ينصرف، فإن من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة تامة وإن كان نائما على فراشه.
وإن على الأئمة أن يتقوا الله عز وجل في هذه التراويح فيراعوا من خلفهم ويحسنوا الصلاة لهم فيقيمونها بتأن وطمأنينة ولا يسرعوا فيها فيحرموا أنفسهم ومن وراءهم الخير، أو ينقروها نقر الغراب لا يطمئنون في ركوعها وسجودها وقعودها والقيام بعد الركوع فيها.
وعلى الأئمة أن لا يكون همّ الواحد منهم أن يخرج قبل الناس أو أن يكثر عدد التسليمات دون إحسان الصلاة فإن الله تعالى يقول: ليبلوكم أيكم أحسن عملاً [الملك:2]. لم يقل أيكم أسرع نهاية أو أكثر عملا.
وقد كان نبيكم وهو أحرص الناس على الخير والأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيره، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قام بأصحابه في رمضان ثم ترك ذلك خشية أن تفرض على الناس فيعجزوا عنها.
وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما في الناس بإحدى عشرة ركعة فهذا العدد الذي قام به النبي وواظب عليه واتبعه فيه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب هو أفضل عدد تصلى به التراويح، ولو زاد الإنسان رغبة في الزيادة لا رغبة عن السنة بعد أن تبينت له لم ينكر عليه لورود ذلك عن بعض السلف، وإنما ينكر الإسراع الفاحش الذي فعله بعض الأئمة فيفوت الخير عليه وعلى من خلفه.
وفقني الله وإياكم لاغتنام الأوقات بالطاعات، وحمانا من فعل المنكر والسيئات، وهدانا صراطه المستقيم، وجنبنا صراط الجحيم، وجعلنا ممن يصوم رمضان ويقومه إيمانا بالله واحتسابا لثواب الله إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/163)
في بيان حكم زيارة المسجد النبوي وما يرتكب فيها من أخطاء
فقه
المساجد
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
مشروعية زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم وفضل الصلاة فيه – بعض أخطاء الزيارة :
1- اعتقاد البعض أنها من مكملات الحج 2- اعتقاد البعض وجوبها 3- شد الرحال للقبر
لا للمسجد 4- اعتقاد البعض اشتراط صلاةِ عدد محدد فيه 5- رفع الصوت والدعاء عند القبر
6- زيارة أماكن ومساجد في المدينة لا تُشرع زيارتها – آداب الزيارة , وحكم زيارة النساء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأخلصوا له العبادة، مقتدين بنبيكم – - حتى تكون أعمالكم صحيحة مقبولة عند الله تعالى.
عباد الله: لا شك ان زيارة مسجد رسول الله – - سنة ثابتة. لقوله – -: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الاقصى )). وأخبر أن الصلاة في مسجده أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام. فدل ذلك على مشروعية زيارة مسجده – - والسفر من أجل ذلك. طلبا لهذا الفضل العظيم ولكن بعض الزائرين يخطئون في ذلك اخطاء كثيرة.
منها: اعتقاد بعضهم أن زيارة المسجد النبوي الشريف لها علاقة بالحج، أو أنها من مكملاته أو من جملة مناسكه. وهذا خطأ واضح، لأن زيارة المسجد النبوي ليس لها وقت محدد من السنة، ولا ارتباط لها بالحج أصلا. فمن حج ولم يزر المسجد النبوي فحجه تام وصحيح.
ومنها: اعتقاد بعضهم أن زيارة المسجد النبوي واجبة. وهذا اعتقاد غير صحيح. لأن زيارة المسجد النبوي سنة. فلو لم يزره طوال حياته فلا شيء عليه. ومن زاره بنية صالحة حصل على ثواب عظيم، ومن لم يزره فلا اثم عليه.
ومنها: إن بعض الزوار يعد زيارة مسجد الرسول زيارة لقبر الرسول. وهذا خطأ في التسمية قد يكون مصحوبا بخطأ في الاعتقاد، لأن أصل الزيارة التي يسافر من أجلها هي لمسجد الرسول – - بقصد الصلاة فيه، وتدخل زيارة قبر الرسول – - وزيارة غيره من قبور الصحابة وزيارة قبور الشهداء تدخل تبعا لزيارة المسجد.لا أنها تقصد بالسفر أصالة.لأن النبي – - نهى عن السفر الذي يقصد به التعبد في مكان من الأمكنة إلا إلى المساجد الثلاثة. فلا يسافر لأجل زيارة قبور الانبياء والأولياء ولا لأجل الصلاة في مسجد من المساجد غير الثلاثة، وأما الأحاديث التي وردت في الحث على زيارة قبر الرسول – - لمن حج البيت فكلها أحاديث لا يحتج بواحد منها، لأنها إما موضوعة وإما ضعيفة متناهية الضعف كما بين ذلك أئمة الحفاظ، لكن من زار مسجد رسول الله – - استحب له زيارة قبره وزيارة غيره من القبور تبعا لزيارة المسجد. وأخذا من عموم مشروعية زيارة القبور بشرط أن تكون زيارة شرعية يقتصر فيها على السلام على الموتى والدعاء لهم بالرحمة والرضوان. لا الاستغاثة بهم من دون الله وطلب الحوائج منهم فإن هذه زيارة شركية لا شرعية.
ومن الأخطاء التي تحصل ممن يزورون المسجد النبوي الشريف أنهم يظنون أنه لا بد أن يصلوا فيه عددا محددا من الصلوات أما أربعين صلاة ونحو ذلك. وهذا الخطأ، لأنه لم يثبت عن النبي – - تحديد للصلوات التي يصليها الزائر لمسجده، والحديث الوارد بتحديد اربعين صلاة حديث غير ثابت ولا يحتج به، فعلى هذا يصلي ما تيسر له من الصلوات بدون تقيد بعدد.
ومن الاخطاء العظيمة التي يقع فيها بعض من يزورون قبر النبي – - رفع الاصوات عنده بالادعية. يظنون أن للدعاء عند قبره مزية، وأن ذلك مشروع وهذا خطأ عظيم. لأنه لا يشرع الدعاء عند القبور. وإن كان الداعي لا يدعو الا الله. لأن ذلك بدعة ووسيلة إلى الشرك، ولم يكن السلف يدعو عند قبر النبي – - إذا سلموا عليه. وانما كانوا يسلمون ثم ينصرفون. ومن أراد ان يدعوا الله استقبل القبلة ودعا في المسجد لا عند القبر ولا مستقبل القبر. لأن قبلة الدعاء هي الكعبة المشرفة فلينتبه هذا.
ومن الأخطاء العظيمة التي يقع فيها بعض من يزورون مسجد الرسول – - أنهم يذهبون لزيارة أمكنة في المدينة أو مساجد لا تشرع زيارتها. بل زيارتها بدعة محرمة، كزيارة مسجد الغمامة ومسجد القبلتين والمساجد السبعة، وغير ذلك من الأمكنة التي يتوهم العوام والجهال أن زيارتها مشروعة، وهذا من أعظم الاخطاء، لأنه ليس هناك ما تشرع زيارته في المدينة من المساجد غير مسجد الرسول – - ومسجد قباء للصلاة فيهما، أما بقية مساجد المدينة فهي كغيرها من المساجد في الارض لا مزية لها على غيرها ولا تشرع زيارتها، فيجب على المسلمين أن ينتبهوا لذلك ولا يضيعوا أوقاتهم وأموالهم فيما يبعدهم عن الله وعن رحمته، لأن من فعل شيئا من العبادات لم يشرعه الله ولا رسوله فهو مردود عليه. ولم يدل دليل على زيارة المساجد السبعة، ولا مسجد القبلتين، ولا مسجد الغمامة، لا من فعل الرسول – - ولا من أمره، وانما هذا شيء محدث مبتدع.
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه. وليس لدخول مسجد الرسول – - ذكر مخصوص. وإنما يقول الزائر عند دخوله: بسم الله والصلاة والسلام على رسوله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم من الشيطان الرجيم. اللهم افتح لي أبواب رحمتك. كما يقول ذلك عند دخول سائر المساجد، ثم يصلي ركعتين يدعو الله فيهما بما أحب من خيري الدنيا والاخرة. وإن صلاهما في الروضة الشريفة فهو أفضل. لقوله : ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )) ثم بعد الصلاة يزور قبر النبي وقَبْرَي صاحبيه: أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما - قائلا: السلام عليك يا أبا بكر ورحمة الله وبركاته. السلام عليك يا عمر ورحمة الله وبركاته. وكان ابن عمر – رضي الله عنهما – إذا سلم على الرسول – - وصاحبيه لا يزيد على قوله: السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا ابتاه. ثم ينصرف. وهذه الزيارة إنما إتشرع في حق الرجال خاصة. أما النساء فليس لهن زيارة شيء من القبور. لا قبر النبي – - ولا غيره. لأن النبي – - لعن زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. وهذا يعم مسجد الرسول وغيره، فالمرأة تكفيها زيارة المسجد النبوي والصلاة فيه. وليس للزائر إلا أن يصلي الصلوات الخمس في مسجد الرسول – - وأن يكثر فيه من الذكر والدعاء وصلوات النوافل اغتناما للأجر ما دام في المدينة أيام زيارته إن بقي فيها. وإلا فإنه يكفيه ما تيسر من الصلوات بدون تحديد.
فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا الأوقات قبل الفوات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الالباب [البقرة:197].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/164)
المعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذنوب والمعاصي أخرجت الأبوين من الجنة وأحاقت بالعذاب بنيهما. 2- اعتبار أبي
الدرداء بحال أهل قبرص. 3- عموم البلاء بظهور المعاصي. 4- دعوة لهجر الصغائر
ومعرفة أضرارها. 5- توبة مرابي. 6- ذكر بعض المنكرات المتفشية في مجتمعنا.
7- للذنوب عقوبات منها نزع الإيمان ونزع الغيرة وذهاب الحياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: ما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟.
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه؟ بدّل بالقرب بعدا وبالرحمة لعنة وبالجمال قبحا، وبالجنة نارا تلظى وبالإيمان كفرا وما الذي غرّق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟
وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم، وصارت بيوتهم عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمع الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعا ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم ولإخوانهم أمثالها وما هي من الظالمين ببعيد؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله الأرض؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرا؟
تساؤلات كثيرة تحتاج إلى جواب إنها ولا ريب الذنوب والمعاصي، روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال (لما فتحت قبرص فرق أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك، يا جبير ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى).
وروى أيضا من حديث أم سلمة قالت: سمعت رسول الله يقول: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمّهم الله بعذاب من عنده، فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون؟ قال: بلى، قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان)) ، وفي سنن ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتلتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم)) حديث حسن.
وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: ((إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى تهلكنه)).
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه قال: ((إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله من الموبقات)).
وقال بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من تعصي. وقال وهب بن الورد: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك.
وعن أبي الدرداء أنه قال: (ليحذر امرؤا أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر) ثم بين قائلا: (إن العبد يخلو بمعاصي الله فيلقي الله بغضه في قلوب الخلق وهو لا يشعر).
وكان الإمام أحمد دائما يتمثل قول أبي العتاهية:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
وقال آخر:
يا مدمن الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا
وقال ذو النون: من خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية.
ومن أعجب ما روي عن أبي جعفر السائح قال: كان حبيب التاجر يكري الدراهم بالربا، فمر ذات يوم بصبيان فإذا هم يلعبون، فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكل الربا فنكس رأسه وقال: يا رب أفشيت سري إلى الصبيان فرجع فجمع ماله كله، وقال: يا رب إني أسير وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال فأعتقني فلما أصبح تصدق بالمال كله وأخذ في العبادة ثم مر ذات يوم بأولئك الصبيان فقال بعضهم لبعض: اسكتوا فقد جاء حبيب العابد فبكى وقال: اللهم أنت تذم مرة وتحمد مرة وهذا كله من عندك.
فولوج الناس باب المعاصي هو من أعظم أسباب البلاء التي تحل بالأمة وسبب لزوال النعم، وذلك لأن الله يغار وغيرته أن يعمل بمعاصيه وفي الصحيح أن رسول الله قال: ((لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن)).
فالعصاة عندما حاربوا الله بأنواع المعاصي سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
فالمعاصي أيها الأحبة: تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضا حتى يصعب على العبد مفارقتها، والخروج منها حتى تصير المعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة، فلو عطل العاصي المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه وضاق صدره وأعيت عليه مذاهبه حتى يعاودها، حتى إن كثيرا من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها ولا داعية إليها إلا لما يجد من الألم بمفارقتها.
والناظر للواقع الذي نعيشه يجد كثيرا من المعاصي التي عمت بها البلوى وأصبح الكثير يظنها حلالا وذلك لانتشارها بين الناس فسأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
فمن أعظم الذنوب والمعاصي التي يقع فيها بعض الناس هو معصية الربا، وهو كبير من كبائر الذنوب وسبب مؤذنٌ لحرب الله، وأدناه كأن ينكح الرجل أمه، ولقمة منه تعدل ستة وثلاثين زنية وهو أعظم من كبيرة الزنا الذي فيه فساد الأنساب.
ومن المعاصي أيضا الزنا الظاهر وذلك بتبرج النساء وتعطرهن وإلقاء الحشمة جانبا وقد قال : ((أيما امرأة خرجت من بيتها متعطرة فهي زانية وكل عين تنظر إليها زانية)). وركوبها مع السائق وخروجها معه بدون محرم هذا من الخلوة المحرمة وهو من المعاصي التي لا ترضي الله.
أيها الإخوة: لقد كثر في مجتمعنا تضييع الصلوات وترك الجمع والجماعات لقد كثر أكل الحرام من الربا والغش في المعاملات والرشوة، وأكل أموال الناس بالباطل بأنواع الحيل وشهادة الزور والأيمان والفاجرة في الخصومات لقد ارتفعت أصوات المعازف والمزامير والمغنيات في البيوت، والدكاكين والسيارات وما علم هؤلاء أن سبب فساد القلوب هو الغناء كما قال عبد الله بن مسعود: (الغناء ينبت في القلب النفاق كما ينبت الماء العشب).
لقد تبرجت النساء في الأسواق وزاحمت الرجال كاسيات عاريات مائلات مميلات وتمرد هؤلاء النسوة على القيم وعلى المبادئ الشريفة فأصبحت الواحدة منهن لا تبالي بما تفعل وترتكب المعاصي وما خفي أعظم، كثرت على الأسطح قنوات البث المباشر، لكي يشاهد أصحابها ما يبث عبر القنوات الخارجية من أغاني وتفسخ وعري ومجون ألا يتقي الله هؤلاء.
ولقد ضاع أيضا كثير من الشباب ونشأوا على الأخلاق الرذيلة والعادات السيئة والجهل بأمور دينهم وصار همّ الكثير منهم تقليد الكفار في شعره ولباسه وكلامه ومشيته، فحلقوا لحاهم وأرسلوا شواربهم وشعر رؤوسهم وأطالوا أظافرهم وأسبلوا ثيابهم وتختموا بخواتيم الذهب وضيعوا أوقاتهم وصرفوا كل طاقاتهم فيما لا يفيد لا في الدين ولا في الدنيا فأصبح الكثير منهم لا صلة له بالقرآن ولا صلة له بالمسجد ولا صلة له بأهل الخير، لا صلة له بوالديه، لا يعرف إلا النوادي الرياضية والمقاهي وقرناء السوء وغير ذلك من المنكرات. بل إن دائرة المنكرات دائرة واسعة تشمل هذه التي ذكرنا وتشمل غيرها من المبتدعات التي فرقت المسلمين وأضعفت صفوفهم وأذهبت ريحهم وجعلتهم طعمة لكل طامع، وضحكة لكل ساخر ولعبة لكل عابث كالنعرة القومية والقبلية والإقليمية والجنسية والمذهبية، والتعصب لهذه الأصنام التي لا تقل خطرا عن الأصنام التي حطمها أبو الحنيفية إبراهيم عليه السلام وحطمها بعده محمد حيث قال: ((ومن ادعى بدعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)).
أيها الإخوة: إن المعاصي في مجتمعاتنا المعاصرة قد تكاثرت وتنوعت بشكل يخيف، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا أنه قد حدث في مجتمعاتنا معاص لم تكن معروفة من قبل بسبب ما مكن الله لهذا الجيل من تسخير ما في الكون من أسرار وتفجير ما في الأرض من خيرات واختلاط العالم بعضه ببعض بسبب سهولة المواصلات، وأنه يا عباد الله يُخشى علينا من العقوبة المهلكة فعلينا أن نتبنه لأنفسنا ونرجع إلى ربنا لنتدارك أمرنا، وقد ينزل الله من العذاب والبأس والبلاء مثل الكوارث والجوائح والزلازل التي تجعل العصاة نكالاً لمن يأتي بعدهم كما عذب القرون الأولى وقد يكون غير ذلك من البلاء والفتن التي تسلبهم نعمة الأمن والاستقرار وتضربهم بالخوف والجوع والذلة والمسكنة كما قال تعالى: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة: اعلموا أن الإنسان الذي يقع في معاصي الله وينتهك حرماته يعاقبه الله بعقوبات كثيرة.
من هذه الآثار العقابية القدرية المضرة بالدين والقلب والبدن وغير ذلك مما يحيط بالمعاصي وتلمّ بها وهي متفاوتة بحسب تفاوت المعاصي في درجاتها ومفاسدها، فمنها سواد في الوجه وظلمة في القلب، وضيقه وهمه وغمه وحزنه وألمه وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه وتمزق شمله وضعفه في مقاومة عدوه وتعريه من زينته بالثوب الذي جعله الله زينة له وهو ثوب التقوى، ومنها زوال أمنه وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة، ومنها وقوعه في بئر الحسرات، فلا يزال في حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطرا أو إلى غيرها وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه، فيالها من نار قد عذب بها القلب في هذه الدار قبل نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه أو يحرم بركته ومنها حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس.
ومنها أن يحرم حلاوة الطاعة فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة وزيادة الإيمان والرغبة في الآخرة فإن الطاعة تثمر هذه الثمرات ولابد. ومنها قوة القلب واعلموا أيها الإخوة أنه ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب وإنما خلقت النار لإذابة القلوب القاسية وإذا قسى القلب قحطت العين وجفت من الدمع.
ومنها أن المعصية تورث الذل ولابد فإن العز كل العز في طاعة الله قال تعالى: من كان يريد العزة فإن العزة لله جميعا.
قال ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
و ترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وكلما اشتدت ملابسة الإنسان للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جدا حتى لا يتقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له ويسعى له في تحصيله ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله والجنة عليه حرام وهذا يدل على أن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له.
ومن عقوبات المعاصي: ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب وهو أصل كل خير وذهابه ذهاب الخير أجمعه وفي الصحيح: ((الحياء خير كله)).
ومن أعظم العقوبات أن لا يشعر المعاقب بالعقوبة، وأشد منه أن يقع السرور بما هو بلاء وعقوبة فيفرح بالمال الحرام، ويبتهج بالتمكن من الذنب، ويسر بالاستكثار من المعصية ومن كان هذا حاله فمتى ترجى منه التوبة والطاعة؟ وهذا بالنسبة للفرد وأما إذا رضي المجتمع بها فسوف يضر بهم الله بأنواع البلاء كما ذكرنا حتى يعم الجميع.
أيها الإخوة: إن الذنب بعد الذنب يقطع طرق الطاعة ويصد عن سبل الخيرات ومن ثم يقسوا القلب وتستحجر النفس فيبتعد من التوبة النصوح، والدليل على هذا أن كثيرا من أرباب المعاصي تتحرك بالتوبة ألسنتهم، وتنطق بالاستغفار أفواههم، أما قلوبهم فمنكرة وعلى المعاصي مصرة وهذا من أعظم الأمراض، وهذه بعض العقوبات التي يعاقب بها العصاة في الدنيا قبل الآخرة ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فاتقوا الله أيها المسلمون وابتعدوا عن المعاصي والآثام.
يبارك لكم في أموالكم وأوقاتكم وأولادكم وتنالوا رضا ربكم في الدنيا والآخرة.
(1/165)
في فرض الحج وشروطه والاستنابة فيه
فقه
الحج والعمرة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
- وجوب الحج والتحذير من ترك أدائه – شروط الحج ( البلوغ – الاستطاعة ) -
فضل الحج وثوابه – حكم التوكيل والنيابة في الحج , وحكم التكسّب بذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأدوا ما فرضه الله عليكم من الحج إلى بيته حيث استطعتم إليه سبيلا، فقد قال الله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [آل عمران:97].
وقال النبي : ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا)).
وأخبر أن الإسلام بني على هذه الخمس، فلا يتم إسلام عبد حتى يحج، ولا يستقم بنيان إسلامه حتى يحج.
وعن عمر بن الخطاب قال لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جَِدة (أي غنى) ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين.
ففريضة الحج ثابتة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله وبالإجماع عليه إجماعا قطعيا.
فمن أنكر فريضة الحج فقد كفر، ومن أقر بها وتركها تهاونا فهو على الخطر، فإن الله يقول بعد ذكر إيجابه على الناس: ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ، كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه؟ كيف يبخل بالمال على نفسه في أداء هذه الفريضة وهو ينفق الكثير من ماله فيما تهواه نفسه؟ وكيف يوفر نفسه عن التعب في الحج وهو يرهق نفسه في التعب في أمور دنياه؟ وكيف يتثاقل فريضة الحج وهو لا يجب في العمر سوى مرة واحدة؟ وكيف يتراخى ويؤخر أداءه وهو لا يدري لعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه؟
فاتقوا الله عباد الله وأدوا ما فرضه الله عليكم من الحج تعبدا لله تعالى ورضا بحكمه وسمعا وطاعة لأمره إن كنتم مؤمنين: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيَِرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً [الأحزاب:36].
إن المؤمن إذا أدى الحج والعمرة بعد بلوغه مرة واحدة فقد أسقط الفريضة عن نفسه وأكمل بذلك أركان إسلامه، ولم يجب عليه بعد ذلك حج ولا عمرة إلا أن ينذر الحج أو العمرة فيلزمه الوفاء بما نذر لقول النبي : ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)).
أيها المسلمون: إن من تمام رحمة الله ومن بَِالغ حكمته أن جعل لفرائضه حدودا وشروطا لتنضبط الفرائض وتتحدد المسؤولية، وجعل هذه الحدود والشرائط في غاية المناسبة للفاعل والزمان والمكان.
ومن هذه الفرائض الحج فله حدود وشروط لا يجب على المسلم إلا بها، فمنها البلوغ ويحصل في الذكور بواحد من أمور ثلاثة: إنزال المني أو تمام خمس عشرة سنة أو نبات العانة، وفي الإناث بهذه الثلاثة وزيادة أمر رابع وهو الحيض.
فمن لم يبلغ فلا حج عليه ولو كان غنيا، لكن لو حج صح حجه تطوعا وله أجره، فإذا بلغ أدى الفريضة لأن حجه قبل البلوغ لا يسقط به الفرض لأنه لم يفرض عليه بعد، فهو كما لو تصدق بمال ينوي به الزكاة قبل أن يملك نصابه، وعلى هذا فمن حج ومعه أبناؤه أو بناته الصغار فإن حجوا معه كان له أجر، ولهم ثواب الحج، وإن لم يحجوا فلا شيء عليه ولا عليهم.
ومن شروط وجوب الحج أن يكون مستطيعا بماله وبدنه، لأن الله تعالى شرط ذلك للوجوب في قوله: من استطاع إليه سبيلاً فمن لم يكن مستطيعا فلا حج عليه، فالاستطاعة بالمال أن يملك الإنسان ما يكفي لحجه زائدا عن حوائج بيته وما يحتاجه من نفقة وكسوة له ولعياله وأجرة سكن لمدة سنة وقضاء ديون حالةَّ، فمن كان عنده مال يحتاجه لما ذكر لم يجب عليه الحج، ومن كان عليه ديٌن حاُّلٌ لم يجب عليه الحج حتى يوفيه.
والدينْ كل ما ثبت في ذمة الإنسان من قرض وثمن مبيع وأجرة وغيرها فمن كان في ذمته درهم واحد حال فهو مدين، ولا يجب عليه الحج حتى يبرأ منه بوفاء أو إسقاط، لأن قضاء الدين مهم جدا حتى إن الرجل ليقتل في سبيل الله شهيدا فتكفر عنه الشهادة كل شيء إلا الدين فإنها لا تكفره وحتى إن الرجل ليموت وعليه الدين فتعلق نفسه بدينه حتى يقضى عنه.
أما الدين المؤجل فإن كان موثقا برهن يكفيه لم يسقط به وجوب الحج، فإذا كان على الإنسان دين قد أرهن به طالبه ما يكفي الدين وبيده مال يمكنه أن يحج به فإنه يجب عليه الحج لأنه قد استطاع إليه سبيلا، أما إذا كان الدين المؤجل غير موثق برهن يكفيه فإن الحج لا يجب عليه حتى يبرأ من دينه.
والاستطاعة بالبدن أن يكون الإنسان قادرا على الوصول بنفسه إلى البيت أي مكة بدون مشقة، فإن كان لا يستطيع الوصول إلى البيت أو يستطيع الوصول لكن بمشقة شديدة كالمريض، فإن كان يرجو الاستطاعة في المستقبل انتظر حتى يستطيع ثم يحج، فإن مات حُجَّ عنه من تركته، وإن كان لا يرجو الاستطاعة في المستقبل كالكبير والمريض والميؤوس من برئه فإنه يوكل من يحج عنه من أقاربه أو غيرهم، فإن مات قبل التوكيل حُجَّ عنه من تركته، وإذا لم يكن للمرأة محرم فليس عليها حج لأنها لا تستطيع السبيل إلى الحج، فإنها ممنوعة شرعا من السفر بدون محرم، قال ابن عباس رضي الله عنهما سمعت النبي يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا فقال النبي : انطلق فحج مع امرأتك)) فأمره النبي أن يحج مع امرأته مع أنه كُتَِب مع الغزوة ولم يستفصل منه النبي هل كانت امرأته شابة أو كان معها نساء أو لا؟
وهو دليل على أن المرأة يحرم عليها السفر على أي حال وعلى أي مركوب طائرة أو سيارة إلا بمحرم وهو زوجها، وكل من يحرم عليه نكاحها تحريما مؤبدا كالأب وإن علا، والابن وإن نزل، والأخ وابن الأخ وإن نزل، وابن الأخت وإن نزل، والعم والخال سواء كان ذلك من نسب أو رضاع، وكأب الزوج وإن عل،ا وابنه وإن نزل، وزوج البنت وإن نزلت، وكزوج الأم وإن علت إذا كان قد دخل بها.
ولا بد أن يكون المحرم بالغا عاقلا فمن كان دون البلوغ لا يكفي أن يكون مَحْرما لأن المقصود من المحرم حفظ المرأة وصيانتها وهيبتها، وذلك لا يحصل بالصغير.
أيها المسلمون: من رأى من نفسه أنه قد استكمل شروط وجوب الحج فليؤده ولا يتأخر، فإن أوامر الله ورسوله على الفور بدون تأخير، والإنسان لا يدري ما يحصل في المستقبل وقد يسر الله وله الحمد لنا في هذه البلاد ما لم ييسره لغيرنا من سهولة الوصول إلى البيت وأداء المناسك، فقابلوا هذه النعمة بشكرها وأداء فريضة الله عليكم قبل أن يأتي أحدكم الموت فيندم حين لا ينفع الندم، واسمعوا قول الله عز وجل: وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين [الزمر].
ومن حج على الوجه الشرعي مخلصا لله متبعا لرسول الله فقد تم حجه سواء كان قد تمم له أم لا، أما ما توهمه بعض العوام أن من لم يتمم له فلا حج له فهو غير صحيح فلا علاقة بين التميمة والحج.
وفقني الله وإياكم لقيام بفرائضه والتزام حدودها وزوَّدَنا من فضله وكرمه وحسن عبادته ما تكمل به فرائضنا وتزداد به حسناتنا ويكمل به إيماننا ويرسخ به ثباتنا إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/166)
الطهارة للصلاة
فقه
الطهارة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
حكم الطهارة , وكيفيتها , وشرح آية المائدة – الذكر بعدها وحكمته – الإسراف في الماء
وحكمه – التحذير من التساهل في شأن الطهارة – وجوب تطهير الثياب والبقعة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى ، واعلموا أن الطهارة مفتاح الصلاة ، ومن أعظم شروط صحتها ، قال تعالى: يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون [المائدة:6].
ففي هذه الآية الكريمة الأمر بالطهارة للصلاة من الحدث الأصغر بالوضوء، ومن الحدث الاكبر بالاغتسال بجميع البدن.
وفيها أن الطهارة من الحدثين تكون بالماء الطهور عند وجوده والقدرة على استعماله ، فإن لم يجد الماء أو وجده ولم يقدر على استعماله، لمرض أو لكون الماء قليلا لا يكفي لطهارته وحاجته إليه للشرب والطبخ ، فإنه يتيمم بالتراب بدلا من الماء.
وفي الآية بيان تيسير الله لعباده ورفع الحرج عنهم فيما شرعه لهم من الطهارة بالماء، أو بالتراب عند عدم الماء، أو العجز عن استعماله، وأنه سبحانه يريد أن يطهرهم من الحدث والنجاسة ، ومن الذنوب والأخلاق الذميمة.
وليتم نعمته عليكم [المائدة :6].
بالترخيص لكم بالتيمم بدلا من الطهارة بالماء عند تعذرها.
لعلكم تشكرون [المائدة : 6]. الله على نعمته وتيسيره ، ورفعه للحرج عنكم ، وذلك بالثناء عليه سبحانه والاعتراف بفضله والقيام بطاعته.
وفي الآية الكريمة: بيان أعضاء الوضوء ، وهي الوجه واليدان ، والرأس ، والرجلان، وأن الفرض في الوجه واليدين والرجلين الغَسْل، والفرض في الرأس المسح بكامله، وانه في الحدث الاكبر ، وهو الجنابة ونحوها يجب غسل جميع البدن. وأما صفة التيمم بالتراب فقد بينتها السنة النبوية، وذلك بأن يضرب بيديه على تراب طهور له غبار يعلق باليد، ويمسح بهما وجهه وكفيه، ومثل التراب ما كان عليه غبار طاهر من فراش أو جدار ونحوها، فإن لم يكن على الفراش أو الجدار ونحوهما غبار ، فإنه لا يجزئ التيمم بالضرب عليه.
عباد الله : وصفة الوضوء أن ينوي بقلبه ، رفع الحدث، ثم يقول: بسم الله، ثم يغسل كفيه ثلاث مرات ، ثم يتمضض ثلاث مرات ،ويستنشق ثلاث مرات ، ويبالغ في المضمضة بأن يدير الماء إلى أقصى فمه ، ويبالغ في الاستنشاق بأن يجتذب بالماء إلى أقصى أنفه ، إلا ان يكون صائما فإنه لا يبالغ في المضمضة والاستنشاق خشية أن يذهب الماء إلى حلقه ، ثم يغسل وجهه من منابت الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا ، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ، واللحية من الوجه يجب غسل ظاهرها ولو طالت ، ويستحب تخليل باطنها بالماء ، ثم يغسل يديه مع المرفقين ثلاث مرات ، ثم يمسح جميع رأسه بأن يضع يديه مبلولتين بالماء على مقدم رأسه ، ويمرهما إلى قفاه ، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه ، والأذنان مع الرأس يمسح ظاهرهما وباطنهما ، وذلك بأن يدخل إصبعيه السبابتين في خرقي اذنيه ، ويدير إبهاميه على ظاهرهما ، ثم يغسل رجليه ثلاثا مع الكعبين. ويجب تعميم أعضاء الوضوء بجريان الماء عليهما ، فإن بقي منها شيء لم يصل إليه الماء لم يصح وضوؤه ، لما روى عمر رضي الله عنه أن رجلا ترك موضع ظفر من قدمه اليمنى فأبصره النبي – - فقال : ((ارجع فأحسن وضوءك )) ، رواه مسلم.
وإذا كان في بعض أعضاء الوضوء جرح يتضرر بالماء، فإنه يجنب الماء الجرح ، ويغسل باقي العضو ، ويتيمم عن موضع الجرح ، وإن كان على الجرح غطاء من ضماد أو لصوق أو جبيرة على كسر، فانه يمسح عليه بالماء ويكفيه عن غسله.
وإذا كان على رجليه خفان أو كنادر ساترة للكعبين وما تحتهما فإنه يمسح عليهما ويكفيه ذلك عن غسل الرجلين. والشّراب إذا كانت ضافية على الكعبين وما تحتهما ، وكانت متينة تستر الجلد ، فإنه يمسح عليهما ويقومان مقام الخفين على الصحيح من قولي العلماء.
ومدة المسح على الخفين وما يقوم مقامهما من الشراب يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر الذي يباح له قصر الصلاة. وأما ماعلى جرح من ضماد فانه يمسح عليه إلى نزعه أو برء ما تحته.
وصفة الغسل من الجناية ونحوها: أن ينوي الاغتسال للجنابة ونحوها، ثم يسمي، ثم يغسل كفيه ثلاثا، ثم يستنجي، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يحثي الماء على رأسه ثلاث مرات يعممه بها ويروي أصول شعره، ثم يفيض الماء على سائر بدنه ويعممه به، ولا يترك منه شيئا لا يصل إليه لأنه لو بقي منه شيء ولو قليل لم يغسله لم تصح طهارته حتى يغسله.
عباد الله: والحكمة – والله أعلم - في غسل هذه الأعضاء في الوضوء كونها التي يباشر بها العبد ما يريد فعله ، وبها يعصي الله ويطيعه ، وهي أسرع ما تحرك من الإنسان لطاعة والمعصية. وقد أخبر النبي - - أنه كلما غسل عضوا منها حط الله عنه كل خطيئة اصابها بذلك العضو.
ولما أمر سبحانه بغسل هذه الأعضاء في لأوضوء وغسل جميع البدن في الاغتسال من الجنابة ونحوها قال تعالى: ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون [المائدة:6].
فبين سبحانه أن الحكمة في ذلك إرادته تطهير المسلم من الحدث وتطهيره من الخطايا. وجاء في الحديث : أن هذه الأمة يبعثون يوم القيامة غراً محجّلين من آثار الوضوء، ويعرفون بذلك ببين الامم ، مما يدل على فضل الوضوء وفائدته للمسلم في الدنيا والاخرة.
وإذا فرغ من الطهارة استحب له أن يقول: أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، لما روى عمر بن الخطاب – - عن النبي – - أنه قال : (( ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيّها شاء )) ، رواه احمد ومسلم. وفي رواية يقول زيادة على ذلك : ((اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين )). والحكمة من قول هذا الذكر بعد الوضوء هي الجمع بين طهارة الباطن بشهادة التوحيد وطهارة الظاهر بالوضوء.
عباد الله: إياكم والإسراف في الماء في الوضوء والاغتسال ، فقد نهى النبي – - عن ذلك، وكان يتوضأ بالمُدّ ، ويغتسل بالصاع وهو القدوة ، فالإكثار من صب الماء في الوضوء والاغتسال إسراف لا داعي له ، وربما أن الإنسان يسرف في صب الماء ولا يتطهر الطهارة المطلوبة بحيث يبقى شيء لم يصل إليه الماء ،لأنه لم ينتبه لذلك.
فاتقوا الله – عباد الله – وحافظوا على الطهارة للصلاة وتطهروا كما امركم الله، واقتدوا برسول الله – -: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [آل عمران:132].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين على فضله وإحسانه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى ، واعلموا أن الطهور شطر الإيمان ، وأن التطهير للصلاة بالوضوء والاغتسال أمانة بين العبد وبين ربه ، يسأل عنه يوم القيامة. قال تعالى في وصف المؤمنين : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون [المؤمنون :8].
وبعض الناس يتساهل في شأن الطهارة فلا يتمها كما أمر الله ، وقد يصلي طول عمره أو غالبه من غير طهارة صحيحة فلا تصح صلواته. ويذكر عن بعض البادية أنهم يتيممون بالتراب دائما مع وجود الماء ويظنون ان التيمم يكفي عن الماء ، والله تعالى إنما جعل التيمم بدل الماء عند فقده أو العجز عن استعماله ،فمن تيمم بوجود الماء وقدر على استعماله لم تصح صلاته ، لأنه صلى بغير طهارة فترك شرطا من شروط صحة الصلاة.
واعلموا أنه كما تجب الطهارة من الحدث بالوضوء أو الاغتسال تجب الطهارة من النجاسة في الثياب والبقعة ، فيجب أن يصلي ببدن طاهر وبثياب طاهرة ، وفي بقعة طاهرة. واذا أصابت البدن أو الثوب أو البقعة نجاسة وجب غسلها بالماء حتى تزول.
فاتقوا الله – عباد الله – واعلموا ان خير الحديث كتاب الله...
(1/167)
النميمة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد الحميد التركستاني
الطائف
14/1/1420
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أمراض مجتمعنا النميمة. 2- تصوير النميمة. 3- ذم النصوص للنميمة. 4- الوعيد
للمنان بعذاب القبر وعذاب القيامة. 5- حكم النميمة. 6- بواعث النميمة. 7- صفات النمام.
8- في علاج النميمة. 9- قصة نمام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى والتزموا أفضل الأخلاق والآداب وابتعدوا عن سيئات الأخلاق.
واعلموا أن من أمراض النفوس التي انتشرت في المجتمع المسلم مرض النميمة، وهو داء خبيث يسري على الألسن فيهدم الأسر ويفرق بين الأحبة، ويقطع الأرحام وما أكثر انتشار النميمة بين الرجال والنساء في هذه الأيام، وأصل النميمة هي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد وكشف الستر وهتكه.
قال يحي بن أكثم: النمام شر من الساحر ويعمل النمام في ساعة ما لا يعمل الساحر في سنه.
ويقال: عمل النمام أضر من عمل الشيطان، لأن عمل الشيطان بالخيال والوسوسة، وعمل النمام بالمواجهة والمعانية.
ومن أمثلة النميمة كأن تقول: قال فلان فيك كذا وكذا وهو يكرهك ولا يحبك وسواء كان هذا الكلام بالقول أو بالكتابة أو بالرمز أو بالإيماء، إلى غير ذلك من الكلام غير الصحيح أحيانا وإن كان صحيحا لا يجوز أيضا نقله لأن هذا من النميمة ومن هتك الستر عما يكره كشفه، ومن نمّ لك نمّ عليك كما قيل.
النمام هو إنسان ذو وجهين يقابل كل من يعاملهم بوجه، فهو كالحرباء يتلون بحسب الموقف الذي يريده وقد حذر النبي من أمثال هؤلاء فقال: ((ذو الوجهين لا يكون وجيها عند الله)) وقال في الحديث الآخر: ((من كان ذا وجهين في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار)) رواه البخاري، في الأدب المفرد وهو حديث صحيح، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((تجد من شر الناس يوم القيامة، عند الله، ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) فالمسلم الصادق أيها الإخوة: له وجه واحد حيثما كان وله لسان واحد لا ينطق إلا بما يرضي ربه عز وجل.
وينبغي لكل إنسان أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاما تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير وغالب في العادة وفي الحديث المتفق على صحته قال عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) ، ففي هذا الحديث نص صريح في أنه لا ينبغي أن يتكلم الشخص إلا إذا كان الكلام خيرا، وهو الذي ظهرت له مصلحته ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم.
قال الإمام الشافعي: إذا أراد الكلام فعليه أن يفكّر قبل كلامه فإن ظهرت المصلحة تكلم وإن شك لم يتكلم حتى يظهر.
والبهتان على البريء ونقل الكلام غير الصحيح عنه أثقل من السماوات وويل لمن سعى بوشاية برئ عند صاحب سلطان ونحوه، فصدقه فربما جنى على برئ بأمر يسوءه وهو منه براء وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك فعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة نمام)) متفق عليه.
وفي الحديث الآخر: ((ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى، قال: المشاؤن بالنميمة المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرءاء العنت)) ، ولنتأمل قول النبي : ((من أشاع على مسلم كلمة يشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة)).
هذا جزاؤه يوم القيامة وقبل ذلك عذاب القبر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله مر بقبرين فقال: (( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بين الناس بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)) قال العلماء في معنى قوله: ((وما يعذبان في كبير)) أي فيما يظن الناس أن هذا العمل بسيط ولكنه عند الله كبير.
ويقال: إن ثلث عذاب القبر من النميمة، وإذا كانت النميمة مما يوجب عذاب القبر أولا، ثم العذاب بعد الحشر ويوم القيامة، كان من الواجب علينا أن نحذر منها وأن نهيب بالذين لا يعلمون ما في ذلك من الضرر الكبير والخطر العظيم على المجتمع وعلى الإنسان نفسه أن يتجنب هذا الخلق المهين، فالنمام يفسد ذات المبين ويفعل بالناس فعل النار في الهشيم، يدخل بين الصديقين فيصيرهما عدوين، وينقل إلى كل منها عن أخيه ما يسوؤه ويكدّره.
وأما النميمة بين النساء في البيوت وبين العائلات فحدث ولا حرج ويا لهول ما تنمّ به المرأة عن صديقتها وجارتها وجليستها أو أقارب زوجها أو نساء أصدقائه أو زوجها إذا صدقت في شيء واحد فإنها كالكهان تضيف إلى كلمة الصدق تسعا وتسعين كذبة وكلامها مسموع وخبرها مقبول، وروايتها صحيحة عند زوجها الذي لا يخالف لها أمرا ولا يخيّب لا أملا، ولا يردّ لها شفاعة وكم أضرمت من نار الحقد والعداوة بين الأقارب والأصدقاء فينبغي أن لا يسترسل الرجل إلى كل ما ينقل إليه وليتثبت قبل أن يحكم قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ، وقد يدخل النمام بيوت الله ومساجده فيخرج مأزوراً غير مأجور يبدل ما سمع من الخطابة والتدريس بما شاءت له نفسه الخبيثة وأوحى به إليه إبليس فهو لا يسمع إلا غلطا ولا يرى إلا خطأ، سيئ الظن لا يحسن الظن بكلام الناس ولا يحمله على أحسن المحامل.
وأما حكم النميمة، فهي محرمة بإجماع المسلمين وقد تظاهرت على تحريمها الأدلة الصريحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهي كبيرة من كبائر الذنوب.
قال الحافظ المنذري: (أجمعت الأمة على تحريم النميمة وأنها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل)، وقد حرمت النميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين وأما أدلة التحريم فقوله تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم ، وأما الأدلة من السنة فقد ذكرناها قبل قليل.
وأما دوافع النميمة:
إن مما يدفع الناس إلى النميمة بواعث خفية منها:
أولا: جهل البعض بحرمة النميمة وأنها من كبائر الذنوب وأنها تؤدي إلى شر مستطير وتفرق بين الأحبة.
ثانيا: التشفي والتنفيس عما في النفس من غل وحسد.
ثالثا: مسايرة الجلساء ومجاملتهم والتقرب إليهم وإرادة إيقاع السوء على من ينم عليه.
رابعا: أراد التصنع ومعرفة الأسرار والتفرس في أحوال الناس فينم عن فلان ويهتك ستر فلان.
ومن صفات النمام: قال تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم.
فالصفة الأولى: أنه حلاف كثير الحلف ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به فيحلف ليداري كذبه ويستجلب ثقة الناس.
الثانية: أنه مهين لا يحترم نفسه ولا يحترم الناس في قوله، وآية مهانته حاجته إلى الحلف، والمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان ذا مال وجاه.
الثالثة: أنه هماز يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم على حد سواء.
الرابعة: أنه مشاء بنميم يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم ويقطع صلاتهم ويذهب بمودتهم وهو خلق ذميم لا يقدم عليه إلا من فسد طبعه وهانت نفسه.
الخامسة: أنه مناع للخير يمنع الخير عن نفسه وعن غيره.
السادس: أنه معتدٍ أي متجاوز للحق والعدل إطلاقاً.
السابعة: أنه أثيم يتناول المحرمات ويرتكب المعاصي حتى انطبق عليه الوصف الثابت والملازم له أثيم.
الثامنة: أنه عتل وهي صفة تجمع خصال القسوة والفضاضة فهو شخصية مكروهة غير مقبولة.
التاسعة: أنه زنيم وهذه خاتمة صفاته فهو شرير يحب الإيذاء ولا يسلم من شر لسانه أحد.
من نمّ في الناس لم تؤمن عقاربه
على الصديق ولم تؤمن أفاعيه
كالسيل بالليل لا يدري به أحد
والويل للودّ منه كيف ينعيه
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: لقد امتن الله تعالى على عباده بالتأليف بين قلوبهم وجمع شتاتهم فقال تعالى: واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وقال تعالى: إنما المؤمنون اخوة ، وكل من سعى إلى إشعال الفتنة والعداوة بين المؤمنين فإنه تجاوز حدود الله ووقع في معصيته قال تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء.
ومن أراد أن يعالج لسانه من النميمة فعليه أن يشغل لسانه ومجلسه بذكر الله وبما ينفع ويتذكر أمورا:
أولا: أنه متعرض لسخط الله ومقته وعقابه.
ثانيا: أن يستشعر عظيم إفساده للقلوب وخطر وشايته في تفّرق الأحبة وهدم البيوت.
ثالثا: أن يتذكر الآيات والأحاديث الواردة وعليه أن يحبس لسانه.
رابعا: عليه إشاعة المحبة بين المسلمين وذكر محاسنهم.
خامسا: أن يعلم أنه إن حفظ لسانه كان ذلك سببا في دخوله الجنة.
سادسا: أن من تتبع عورات الناس تتبع الله عورته وفضحه ولو في جوف بيته.
سابعا: عليه بالرفقة الصالحة التي تدله على الخير وتكون مجالسهم مجالس خير وذكر.
ثامنا: ليوقن أن من يتحدث فيهم وينمّ عنهم اليوم هم خصماؤه يوم القيامة.
تاسعا: أن يتذكر الموت وقصر الدنيا وقرب الأجل وسرعة الانتقال إلى الدار الآخرة.
ولو أنا إذا متنا تركنا
لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا
ونُسئل بعده عن كل شي
أيها المسلمون: لقد حرم الله جل وعلا النميمة وإن كان ما ينقله النمام من الكلام حقا لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، ورخًص في الكذب مع كونه كذبا في الإصلاح بين المتخاصمين وتأليف القلوب بين المسلمين وما ذاك إلا لمحبة الإسلام في رأب الصدع وإزالة الشحناء وتأليف القلوب في المجتمع المسلم ولهذا ورد عن النبي أنه قال: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)) رواه مسلم.
ونختم بهذه القصة أن رجلا باع غلاما عنده فقال للمشتري: ليس فيه عيب إلا أنه نمام، فاستخفّه المشتري فاشتراه على ذلك العيب فمكث الغلام عنده أياما ثم قال لزوجة مولاه: إن زوجك لا يحبك وهو يريد أن يتسرى عليك، أفتريدين أن يعطف عليك؟ قالت: نعم، قال لها: خذي الموس واحلقي شعرات من باطن لحيته إذا نام، ثم جاء إلى الزوج، وقال: إن امرأتك اتخذت صاحبا وهي قاتلتك أتريد أن يتبين لك ذلك. قال: نعم، قال: فتناوم لها، فتناوم الرجل، فجاءت امرأته بالموس لتحلق الشعرات، فظن الزوج أنها تريد قتله، فأخذ منها الموس فقتلها، فجاء أولياؤها فقتلوه، وجاء أولياء الرجل ووقع القتال بين الفريقين.
أرأيتم ما تصنع النميمة كيف أودت بحياة رجل وزوجته وأوقعت المقتلة بين أقاربهما هذا صنيع ذي الوجهين دائما.
يسعى عليك كما يسعى إليك فلا
تأمن غوائل ذي وجهين كيّاد
(1/168)
في التحذير من التهاون بالصلاة
فقه
الصلاة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية الصلاة ومكانتها , والتحذير من التهاون فيها – ميزان الصلاة عند الناس اليوم ومظاهر ذلك – خطورة التهاون في صلاة الفجر
_________
الخطبة الأولى
_________
اما بعد :
ايها المسلمون: اتقوا الله فيما أوجبه عليكم، تعلمون أن الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود الدين، واول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة. وتعلمون أن هذه الصلاة شرعت في أوقات معينة، لا يجوز تاخيرها عنها أو تقديمها عليها من غير عذر شرعي كسفر أو مرض يبيحان الجمع بين الصلاتين. قال تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب [مريم:59-60]. قال ابن مسعود: ليس معنى أضاعوها تركوها بالكلية. ولكن أخروها عن أوقاتها. وقال سعيد ابن المسيب إمام التابعين: هو أن لا يصلي الظهر حتى ياتي العصر، ولا يصلي العصر إلى المغرب. ولا يصلي المغرب إلى العشاء. ولا يصلي العشاء إلى الفجر. ولا يصلي الفجر إلى طلوع الشمس. فمن مات وهو مصرٌ على هذه الحالة ولم يتب اوعده الله بغيّ، وهو واد في جهنم بعيد قعره شديد عقابه. وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم اموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون. قال جماعة من المفسرين: المراد بذكر الله الصلوات الخمس. فمن اشتغل عن الصلاة في وقتها بماله كبيعه او صنعته او ولده كان من الخاسرين. ولهذا قال – - ((أول ما يحاسب العبد عنه يوم القيامة من عمله: صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن نقصت فقد خاب وخسر )). وقال تعالى: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [الماعون:4-5]. قال – -: ((هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها )) - وأخرج أ حمد بسند جيد والطبراني وابن حبان في صحيحه. أنه – - ذكر الصلاة يوما فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة. ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نور ولا برهان ولا نجاة. وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبّي بن خلف)) - قال بعض العلماء: إنما حشر مع هؤلاء لأنه إن اشتغل عن الصلاة بماله أشبه قارون فيحشر معه، او بملكه أشبه فرعون فيحشر معه، او بوزارته أشبه هامان فيحشر معه، او بتجارته أشبه أُبي بن خلف تاجر كفار مكة فيحشر معه. وروى الشيخان والأربعة: ((الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله)). زاد ابن خزيمة في صحيحه :قال مالك تفسيره يعني: ذهاب الوقت. وروى البخاري عن سمرة بن جندب - - قال: كان رسول الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: ((هل رأى أحد منكم من رؤيا؟)) ، فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، وانه قال لنا ذات غداة: ((انه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني. وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما ،وإنا أتينا على رجل مضطجع، واذا آخر قائم عليه بصخرة، واذا هو يهوي بالصخرة على رأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر – أي فيتدحرج – ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود إليه فيفعل به مثل ما فعل في المرة الاولى – قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذان؟ فاخبراه أنه الرجل ياخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة )). وفي حديث البزار قال: ثم اتى النبي - - على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء. قال: يا جبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين ثقلت رؤوسهم عن الصلاة.
عباد الله: إن الصلاة اليوم قد خف ميزانها عند كثير من الناس فتهاونوا بها، فمنهم من يتهاون بشروطها وأركانها وواجباتها؛ فلا يأتي بها كاملة ،ولا يتعلمها ويتفهمها حتى يأتي بها على وجهها؛ فربما يخل بشرط من شروطها، أو ركن من أركانها، فلا تصح صلاته ويستمر على هذه الحالة يظن أنه يصلي وهو لا يصلي، وقد رأى النبي – - رجلا في قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فامره أن يعيد. ورأى رجلا يصلي ولا يطمئن في صلاته ،فقال له: ((ارجع فصل فإنك لم تصل... )). ومنهم من يتهاون بالصلاة مع الجماعة. وهذا من علامات النفاق، ومن ترك الصلاة مع الجماعة من غير عذر شرعي فقد ارتكب جرما عظيما، واستحق عقوبة شديدة في الدنيا والاخرة، بل ذهب جمع من العلماء إلى عدم صحة صلاته التي صلاها وحده.
واليوم نرى من الناس تساهلا عظيما في الصلاة مع الجماعة. فمنهم من لا نراه في المسجد ابداً في جميع الصلوات، وهو يسكن بجوار المسجد. يخرج من بيته لأعماله الدنيوية ولا يخرج من بيته لأداء الصلاة في المسجد وهو يسمع النداء خمس مرات في اليوم والليلة. فيقول: سمعنا وعصينا، والعجيب في الأمر أن مثل هذا الشخص الذي عصى ربه وأبى أن يجيب دعوته ويحضر في المسجد لاداء فريضته. العجيب في الامر ان هذا يسكن معه في البيت رجال من أهله يصلون مع المسلمين، ولا ينكرون عليه بل يتركونه في البيت كأنه ما فعل شيئا، ويؤاكلونه ويشاربونه ويجالسونه!!، فأين الغيرة في الدين ؟! وأين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ إن الواجب على هؤلاء ان ينكروا على هذا العاصي أشد الانكار، فإن تاب إلى الله وصلى مع المسلمين، وإلا أخرجوه من مسكنهم، وإن كان المسكن له خرجوا هم من عنده وسكنوا في بيت بعيد عنه. فلا محاباة ولا مداهنة في دين الله. وإن كانوا يرجون من الشخص العاصي طمعا دنيويا – فما عند الله خير وابقى والله خير الرازقين [الجمعة:11] ، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب [الطلاق:2-3].
والبعض من الناس يصلي مع الجماعة بعض الصلوات ويترك الجماعة في البعض الآخر كصلاة الفجر، فإن الذين يتخلفون عن صلاة الفجر مع الجماعة كثير، وقد أخبر النبي أن ذلك من علامات النفاق. وسمعتم في الحديثين السابقين أن الذين تثاقلت رؤوسهم عن صلاة الفجر ترضخ رؤوسهم بالحجارة في قبورهم يوم نشورهم، وكلما رضخت عادت كما كانت، ولا يزال هذا دأبهم والعياذ بالله... ومما يسبب النوم عن صلاة الفجر في هذا الزمان أن كثيرا من الناس يسهرون الليل إما على قيل وقال، وإما على لهو ولعب واستماع أغان ومزامير، وإما على مشاهدة أفلام تعرض في التلفزيون أو الفيديو، وقد تكون أفلاما خليعة. فإذا أقبل طلوع الفجر ناموا عن الصلاة – فهؤلاء سهروا على محرم وناموا عن واجب؛ وهكذا المعاصي يجر بعضها بعضا. ولو أن إنسانا سهر على تلاوة القران ونام عن الصلاة لكان سهره حراما، فكيف بالذي يسهر على معصية الله وينام على طاعة الله؟ وقد يضيف إلى ترك الجماعة جريمة أخرى وهي إخراج الصلاة عن وقتها، فلا يصليها إلا بعد طلوع الشمس. فيكون من الذين هم عن صلاتهم ساهون.
أيها المسلمون: إن المسلم الذي تهمه صلاته لا ينام عن صلاة الفجر ولا يتخلف عن الجماعة، فالمسلم يعمل الاحتياطات التي توقظه للصلاة، ومن ذلك أن ينام مبكراً حتى يستيقظ مبكرا، ومن ذلك ان يوصي من يوقظه من أهله او جيرانه. ومن ذلك أن يجعل عنده ساعة تدق عند حلول الوقت، بل أن الانسان إذا نام على نية الاستيقاظ للصلاة فإن الله يهيئ له ما يوقظه، لكن إذا لم يبال بالصلاة ولم تخطر على باله، فإن الشيطان يستحوذ عليه ويثبطه.
فاتقوا الله عباد الله في امور دينكم عامة، وفي صلاتكم خاصة، فإنها اخر ما يفقد من الدين فليس بعدها دين.
فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا الا من تاب وامن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا [مريم:59-60].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/169)
في الخشوع في الصلاة
الإيمان, فقه
الصلاة, خصال الإيمان
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل الخشوع وأهميته , وأصله – الخشوع المذموم – أسباب حصول الخشوع في الصلاة
وأهمية التأمل في أسرار الصلاة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الخشوع في الصلاة هو روحها والمقصود منها، وقد وصف الله به رسله والصالحين من عباده فقال: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين [الأنبياء:90] ، قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون [المؤمنون:1-2]. ووصف اهل العلم بخشيته والخشوع عند سماع كلامه فقال: إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء [فاطر:28] ، وقال: إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً [الإسراء:108-109]. وأصل الخشوع : لين القلب وسكونه وخضوعه، فإذا خشع القلب تبعه خشوع الجوارح والاعضاء، كما قال النبي – -: (( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهي القلب )) متفق عليه.
ومتى تكلف الإنسان الخشوع في جوارحه وأطرافه مع عدم خشوع قلبه كان ذلك خشوع نفاق، فقد نظر عمر – - إلى شاب قد نكس رأسه فقال له : يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع ليس في الرقاب إن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، والخشوع الحاصل في القلب إنما يحصل من معرفة الله – عز وجل – ومعرفة عظمته، من كان بالله اعرف كان له اخشع، ومن أعظم الأسباب لحصول الخشوع تدبر كلام الله – عز وجل – فقد قال الله تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله [الحشر:21]. وقد وصف الله المؤمنين من علماء أهل الكتاب بالخشوع عند سماع هذا القرآن فقال تعالى: إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً [الإسراء:108-109]. وقد ذم الله من لا يخشع عند سماع كلامه، فقال سبحانه : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [الحديد:16]، بل قد توعد الله اصحاب القلوب القاسية بقوله: فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين [الزمر:22]، وقد كان النبي – - يستعيذ بالله من قلب لا يخشع كما في الحديث الذي رواه مسلم : ان النبي – - كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع. وقلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها )) وقد شرع الله لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع قلوبهم وأبدانهم. ومن أعظم ذلك الصلاة، وقد مدح الله الخاشعين فيها بقوله: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، قال مجاهد : كان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن – عز وجل – أن يشذ نظره، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه في أمر الدنيا إلا ناسيا ما دام في صلاته، وفي صحيح مسلم عن عثمان – - عن النبي – -قال : ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، مالم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله )).
عباد الله : وللخشوع في الصلاة أسباب من أعظمها: استحضار العبد عظمة ربه الذي هو واقف بين يديه، وأنه قريب منه يراه ويسمعه ويطلع على ما في قلبه وضميره، فيستحي من ربه عز وجل. ومن أسباب الخشوع في الصلاة وضع اليدين إحداهما على ال أخرى، بأن يضع اليمنى على اليسرى ويجعلهما فوق صدره، ومعنى ذلك الذل والانكسار بين يدي الله – عز وجل - فقد سئل الإمام أحمد – رحمه الله – عن المراد بذلك فقال : هو ذل بين يدي عزيز،...
ومن أسباب الخشوع في الصلاة : قطع الحركة والعبث وملازمة السكون، ولهذا لما رأى بعض السلف رجلا يعبث بيده في الصلاة قال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وروي ذلك مرفوعا إلى النبي – - وبعض الناس إذا قام في الصلاة يتململ ويحرك يديه ورجليه ويعبث بلحيته وأنفه، حتى أنه يؤذي من بجواره وهذا مما يدل على عدم الخشوع في الصلاة.
ومن أسباب الخشوع في الصلاة: إحضار القلب فيها وعدم انشغاله بهموم الدنيا واعمالها، وأن يقبل بقلبه على الله – عز وجل – ولا يشتغل بغير صلاته، وقد جاء النهي عن الالتفات في الصلاة – قال العلماء : والالتفات في الصلاة نوعان:
أحدهما: التفات القلب عن الله – عز وجل – بأن ينصرف إلى الدنيا وأشغالها ولا يتفرغ لربه، وفي صحيح مسلم عن النبي – - أنه قال في فضل الوضوء وثوابه قال : (( فإن هو قام وصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجّده بالذي هو أهله وفرغ قلبه انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه )).
النوع الثاني: الالتفاف بالنظر يميناً وشمالاً، والمشروع قصر النظر على موضع سجوده لأن ذلك من لوازم الخشوع ويقطع عنه الاشتغال بالمناظر التي حوله،وفي صحيح مسلم عن عائشة – رضي الله عنها - : ((سألت رسول الله – - عن الالتفات في الصلاة فقال : هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد )). وخرّج الإمام أحمد والترمذي من حديث.. الحارث الأشعري عن النبي – -: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا عليهما السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فذكر منها : وأمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا )) وروى الإمام أحمد أيضا من حديث أبي ذر – - عن النبي قال : ((لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه )).
عباد الله: إن الصلاة في كل ما يفعل خضوع لله عز وجل كالقيام والركوع والسجود، وما يقال في هذه الاحوال من الأذكار، قال الله تعالى : وقوموا لله قانتين ، وقال: واركعوا مع الراكعين ، لأن الركوع خضوع لله وذل بين يديه بظاهر الجسد، وقد أبى المتكبرون ان يركعوا فتوعدهم الله بقوله: واذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين [المرسلات:48-49].
ومن ذلك السجود وهو أعظم ما يظهر فيه ذل العبد لربه عز وجل حيث جعل العبد أشرف أعضائه وأعزها عليه وأعلاها عليه أوضع ما يكون بين يدي ربه، فيضعه في التراب متعفرا ويتبع ذلك انكسار القلب وتواضعه وخشوعه لله عز وجل، ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك أن يقربه الله إليه، (( فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )) كما صح عن النبي – -، وقد قال الله عز وجل لنبيه – -: واسجد واقترب وقد استكبر إبليس عن السجود فباء باللعنة والصغر، وابى المشركون والمنافقون عن السجود واستكبروا عنه، فتوعدهم الله عز وجل بأن يحرمهم من السجود يوم القيامة عند لقائه، لما أبوا أن يسجدوا له في الدنيا قال تعالى : يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون [القلم:42-43] ، وروى البخاري عن أبي سعيد الخذري – - قال : سمعت رسول الله – - يقول : ((يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا )) ، قال الامام ابن كثير : وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) وفي غيرهما من طرق وله ألفاظ وهو حديث طويل مشهور... ومن تمام خشوع العبد في ركوعه وسجوده أنه إذا ذل لربه بالركوع والسجود وصف ربه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وصفي، والعلو والعظمة والكبرياء وصفك ولهذا شرع للعبد في ركوعه أن يقول: (سبحان ربي العظيم )، وفي سجوده: ( سبحان ربي الاعلى ).
أيها المسلمون: إن التأمل في أسرار الصلاة وفوائدها مما يسهل على العبد أداءها ويجعله متلذذا بها، كما قال النبي – -: ((جُعِلت قرة عيني في الصلاة )) وقد قال الله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة الا على الخاشعين [البقرة:45]، وقال تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [العنكبوت:45]. لكن حينما يغفل العبد عن فوائد الصلاة واسرارها تصبح ثقيلة عليه. واذا دخل فيها كأنه في سجن حتى يخرج منها. ولهذا تكثر حركاته وهواجسه ويسابق الامام. ومن كان كذلك فإنه يخرج من صلاته بلا فائدة، ولا يجد رغبة في الدخول فيها وانما يصلي من باب العادة أو المجاملة.
فاتقوا الله – عباد الله – في صلاتكم فإنها عمود الإسلام، وتنهى عن الفحشاء والاثام، وهي آخر ما أوصى به النبي – - عند خروجه من الدنيا وآخر ما يفقد من الدين، فليس بعد فقد الصلاة دين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون [المؤمنون:1-10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/170)
تبرج النساء
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحميد التركستاني
الطائف
29/4/1414
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من التبرج. 2- معنى التبرج. 3- معالجة الإسلام لتبرج الجاهلية القديمة.
4- تبرج الجاهلية المعاصرة أشد من تبرج الجاهلية القديمة. 5- تحذير النبي من فتنة النساء.
6- مثالب التبرج وخطره على الدين. 7- مؤامرة أعداء الإسلام على المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون في نسائكم وبناتكم وأخواتكم وزوجاتكم ألزموهن الجلوس في البيوت وأرغموهن على الحشمة والحجاب وأبعدوهن عن التبرج والسفور فإن ذلك مما أمرنا الله به ومن أصدق من الله حديثا.
أيها الإخوة: لقد كان حديثي في الجمعة الماضية عن صفات المرأة المسلمة وحيث إن الموضوع لم يكتمل بعض منه فسوف نتكلم عن بعض الأخلاق المعلقة بالمرأة في هذه الجمعة ونكمل بقية الأخلاق في جمعة أخرى بمشيئة الله فأقول وبالله التوفيق.
لقد توقفنا عند قوله تعالى: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ولعلي أستعرض هذه الآية فقط في هذه الخطبة لعظم ما وصل إليه النساء من التبرج والسفور وقلة الحياء وانعدام البصيرة وضعف الخوف من الله.
والتبرج في اللغة: هو إبداء المرأة زينتها وإظهار وجهها ومحاسن جسدها للرجال تستدعي به شهوتهم، وقيل: تبرجت المرأة، أي تشبهت به في إظهار المحاسن وقيل التبرج: التكشف والظهور للعيون ومنه بروج مشيده وبروج السماء والأسوار أي لا حائل دونها يسترها.
وفي الشرع: هو كل زينة أو تجمل تقصد المرأة بإظهاره أن تحلو في أعين الأجانب حتى القناع الذي تستتر به المرأة إن انتخب من الألوان البراقة، والشكل الجذاب لكي تلذ به أعين الناظرين فهو من مظاهر تبرج الجاهلية الأولى.
ففي هذه الآية ينهى الله عز وجل المؤمنات عن التبرج بعد أن أمرهن بالقرار في البيوت، ولكن إن خرجن لحاجة فلا يجوز لهن أن يتبرجن أو يبدين شيئا من زينتهن أو أي شيء من محاسنهن للرجال الأجانب وذكر الله عز وجل النهي عن تبرج الجاهلية الأولى، فما هو تبرج الجاهلية الأولى؟
قال مجاهد: كانت المرأة تخرج بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية الأولى.
وقال قتادة: كانت لهن مشية تكسّر وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك.
وقال مقاتل بن حيان: التبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشدّه فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها فذلك هو تبرج الجاهلية الذي نهى الله عز وجل النساء المؤمنات أن يفعلنه.
فهذه الصور من تبرج الجاهلية تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج النساء في أيامنا هذه في الجاهلية الحاضرة، من ترك للعباءة وكشف للرأس والعنق واليدين إلى الكتف وكشف الظهر وكشف الساقين بل الفخذين ومع هذا كله ما يضعن على بشرتهن من المساحيق التي تحسّن صورة المرأة القبيحة في نظر الرجال هذا في غير بلاد الحرمين وإن كانت بعض هذه المظاهر بدأت تنتشر في بعض المدن، فبالله عليكم لو أننا قارنا الجاهلية الأولى بالجاهلية المعاصرة فأي الجاهليتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله، إنها ولا ريب الجاهلية التي نعيشها اليوم بكل صورها إننا نعيش اليوم في فترة جاهلية عمياء، غليظة الحس، حيوانية التصور، هابطة في درك الحيوانية للحضيض المهين جاهلية لا ترى للحشمة والعفاف مكانا وإنما همّها جمال اللحم العاري البعيد عن الشرف والفضيلة والعفاف، قال ابن جرير الطبري رحمه الله: فإن قال قال قائل: أفي الإسلام جاهلية؟ قيل: فيه أخلاق من أخلاق الجاهلية.
أيها المسلمون: إن من الملاحظ في هذه الأيام أنه قد توسع كثير من النساء في التبرج والسفور وإلقاء الحجاب والحشمة جانبا كأنه ليس عليهن رقيب من أحد وباتت المرأة تتشبه بالنساء الساقطات السافرات اللواتي خلعن برقع الحياء وانسللن من دينهن بدعوة تقولها الواحدة منهن أنها حرة.
أيها المسلمون: إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة التي يتهاون بها وليست بالمشكلة الجديدة إنها مشكلة عظيمة يجب الاعتناء بها ودراسة ما يقضي على أسباب الشر والفساد إنها مشكلة الوقت قديما وحديثا، لقد كانت مشكلة بني إسرائيل وهي مشكلة هذه الأمة كما ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) ، وكما هو معلوم أن أعز ما تملكه المرأة الشرف والحياء والعفاف، والمحافظة على هذه الفضائل محافظة على إنسانية المرأة في أسمى صورها وليس من صالح المرأة ولا من صالح المجتمع أن تتبرج المرأة وتتخلى عن الصيانة والاحتشام ولا سيما أن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز وأشدها على الإطلاق، والتبذل وإظهار الزينة مثير لهذه الغريزة ومطلق لها من عقالها.
والمرأة فتنة ليس أضر على الرجال منها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان)) وتجرد المرأة من ملابسها وتبرجها وإبداء مفاتنها يسلبها أخص خصائصها من الحياء والشرف ويهبط عن مستواها الإنساني ولا يطهرها مما التصق بها من رجس سوى جهنم والعياذ بالله.
وسبب هذه الانحراف هو الجهل والتقليد الأعمى للكافرات السافرات الساقطات فأصبح من المعتاد أن يرى المسلم المرأة المسلمة متبذلة، عارضة مفاتنها، خارجة في زينتها، كاشفة عن وجهها ونحرها وذراعها وساقها ولا تجد أي غضاضة في ذلك بل تجد من الضروري وضع الأصباغ والمساحيق والتطيب بالطيب واختيار الملابس المغرية وللمجلات مجال واسع في تشجيع هذه السخافات والتغرير بالمرأة للوصول إلى المستوى المتدني الرخيص.
أيها الإخوة: إنه كلما عظم الخطر عظمت المسؤولية وكلما كثرت أسباب الفتنة وجبت قوة الملاحظة وإننا في عصر عظم فيه الخطر وكثرت فيه أسباب الفتنة بما فتح علينا من زهرة الدنيا واتصالنا بالعالم الخارجي مباشرة أو بواسطة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية-وخاصة ما يبث عبر قنوات البث المباشر- والمقروءة وبسبب ضعف كثير من الرجال وتهاونهم للقيام بمسؤولياتهم تجاه نسائهم وترك الحبل لهن على الغارب حتى إنك لترى المرأة الشابة تذهب من بيتها إلى أي مكان تريد دون أن تسأل إلى أين؟ وتتكلم بالهاتف الساعات الطوال دون أن يعلم ولي أمرها من تكلم؟ وترى بعض النساء يخرجن إلى الأسواق بلا رقيب تطوف بها ليلا ونهارا صبحا ومساءا وما ذهابها إلى السوق من أجل شراء شيء تريده وإنما من أجل التسلي والتسكع ومن أجل تضييع الوقت ومن أجل أن تفتن الرجال بها ومن أجل البحث عن الجديد من الأزياء أو المكياج حتى تكون الزينة لها هدفا لذاته، حتى إن بعضهن يلبسن ألبسة مغرية مزركشة سواء كانت عباءة خفيفة أو طرحة شفافة يظهر لون جلد وجهها وقسماته من خلاله وبعضهن ينتقبن بنقاب ملفت للنظر وتبدو مكحلة العينين ملونة الوجنتين تزاحم الرجال وتكلمهم وربما تمازحهم إذا اشتدت شهوتها وقوي تمردها وقل حياؤها هذا إذا لم ترمِ له رقم التلفون أو تركب معه؟! وبعض النساء يكشفن الوجه في السيارة أو في الشارع أو أمام البائع وكأنه أحد محارمها نسأل الله السلامة والعافية، هذا غيض من فيض مما يفعله بعض النساء من أسباب الفتنة والخطر العظيم والسلوك الشاذ الخارج عن توجيهات الإسلام وطريق أمة الإسلام.
وفيما يلي أوضح لكم مثالب التبرج وخطره على الدين والدنيا:
فمن ذلك: التبرج معصية لله ورسوله، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا وكما في الحديث قال : ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، فقالوا: يا رسول الله من يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)) رواه البخاري.
ومن ذلك أن التبرج كبيرة من كبائر الذنوب الموبقة: فقد روى الإمام أحمد بسند صحيح، أن أميمة بنت رقيقة جاءت إلى رسول الله تبايعه على الإسلام، فقال: ((أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى)) ، فتأملوا كيف قرن النبي التبرج الجاهلي بأكبر الكبائر المهلكة كالشرك والزنا وغيره.
ومن مثالب التبرج: أنه يجلب اللعن والطرد من رحمة الله فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات)) وهو حديث صحيح.
ومن مثالب التبرج: أنه من صفات أهل النار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) رواه مسلم.
والتبرج أيضا سواد وظلمة يوم القيامة، والتبرج نفاق وكما ورد في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((شر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)).
والتبرج تهتك وفضيحة وقد ورد عن النبي : ((ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه فمات عاصيا، وأمة أو عبدا أبق من سيده فمات، وامرأة غاب عنها زوجها، وقد كفاها مؤنة الدنيا، فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم)) رواه البخاري في الأدب المفرد وهو حديث صحيح، وفي هذا الحديث أن هذه المرأة الخائنة احتاجت إلى غياب زوجها فتبرجت للآخرين ولم تكن تتزين لزوجها، فما عسانا أن نقول في نساء اليوم اللآئي لا يحتجن إلى ذلك، بل يرتكبن أقبح أنواع التبرج وأفحشه على مرآى ومسمع بل وإقرار ورضى من أزواجهن وأولياء أمورهن فإلى الله المشتكى.
وكما أن الحشمة والحجاب سنة نبوية فالتبرج والسفور سنة إبليسية فإبليس هو رائد الدعوة إلى كشف العورات وهو مؤسس الدعوة إلى التبرج بدرجاته المتفاوتة بل هو الزعيم الأول لشياطين الإنس الجن الداعين إلى سفور المرأة وخروجها من قيد الستر والصيانة والعفاف، وهو كما وصفه الله في قوله: قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين.
و قصة آدم وحواء مع إبليس تكشف لنا مدى حرص عدو الله على كشف السوءات وهتك الأستار وإشاعة الفاحشة وأن هذا هدف مقصود له ثم حذرنا الله من هذه الفتنة خاصة فقال جل وعلا: يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.
وأخير فالتبرج من سنن اليهود والنصارى وقد ذكر اليهود في بروتوكولاتهم أنه يجب أن تخضع لنا جميع شعوب العالم عن طريق حرب الأخلاق وتقويض نظام الأسرة بشتى الوسائل الممكنة، ووجدوا أن الأسباب المدمرة للأسرة تتركز في كل ألوان الإغراء بالفواحش وإثارة الشهوات، وبثوا سمومهم عن طريق الأفلام وعرض الأزياء الصهيونية وكذا المجلات والقصص وغيرها.
ولليهود باع كبير في هذا المجال، عرفوا به في كل عصرٍ ومصرٍ.
أيها المسلمون: وبعد ما سمعنا عن مثالب التبرج وأخطاره فهل يخرج أحد منا زوجته وابنته أو أخته وهي متبرجة سافرة كاشفة الوجه واليدين ومنقبة العينين بهذا الشكل الذي يلفت النظر أو تخرج بلا عباءة؟ لا أظن أن مثل هذا سيحدث بعد الآن إن شاء الله إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ، ومتى عرف الرجل مسؤوليته أمام أهله وخاف مقام ربه وحرص كل الحرص على إصلاح عائلته ومجتمعه يوفق حينئذ لمبتغاه قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: إن ترك الحبل على الغارب للنساء وإطلاق سراحهن يخرجن متى شئن وعلى أية كيفية أردن بدون مبالاة ولا حياء من الله ومراقبة له إنه لمن أكبر أسباب الشر والفساد وسقوط المروءة والأخلاق والسمعة السيئة للبلاد وحلول العذاب والعقاب قال تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، وقال أيضا: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب.
فاتقوا الله أيها المسلمون: ولا تنخدعوا بما يقدّمه لكم أعداؤكم من الموضات والأزياء لفتنة نساءكم وهدم أخلاقهن ومساعدتهن وترغيبهن على السقوط في شراك الرذيلة والحركات المشينة والتبرج الفاضح الذي تصبح به المرأة المسلمة مشابهة للكافرة ولابد، فإنكم اليوم على مفترق طرق فتحت عليكم الدنيا وانهال عليكم الأعداء من كل جانب وعبر قناة البث المباشر ليفسدوا عليكم نساءكم وشبابكم، فإما أن يكون في دينكم صلابة تتحطم عليها مكائد الأعداء وفيكم قوة الشخصية الإسلامية فلا تقتدون بهم ولا تغترون بهم وتتمسكون بما كان عليه أسلافكم الصالحون وإما أن يكون الأمر بالعكس لينٌ في الدين وضعف في الشخصية وانهيار أمام المثيرات فتبوؤون بالصفقة الخاسرة قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين.
أيها المسلمون: إن من نتائج هذا الانحراف أن كثر الفسق وانتشر الزنا وابتعد الناس عن الزواج، وانهدم كيان الأسرة، وأهملت الواجبات الدينية وانعدمت الغيرة واضمحل الحياء، وتركت العناية بالأطفال، وأصبح الحرام أيسر حصولا من الحلال، وكثرت الجرائم، وفسدت أخلاق الرجال خاصة الشباب المراهقين، وأصبحت المتاجرة بالمرأة كوسيلة دعاية أو ترفيه في مجالات التجارة وغيرها، وكثرت الأمراض التي لم تكن في السابق قال : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح.
ومن أعظم العقوبات التي هي قطعا أخطر من القنابل الذرية وغيرها، هي استحقاق نزول العقاب الإلهي وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيه فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعذاب)) ، وأكبر دليل على هذا ما نسمع ونشاهد من الزلازل والكوارث الطبيعية التي تجتاح الدول بالجملة، فقد أدى هذا التهتك إلى انحلال الأخلاق وتدمير الآداب التي اصطلح عليها الناس في جميع المذاهب والأديان وقد بلغ هذا الانحراف حدا لم يكن يخطر على بال مسلم، فاتقوا الله أيها المسلمون وتوبوا إليه واستغفروه وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير.
(1/171)
صفة الحج والعمرة ومحظورات الإحرام
فقه
الحج والعمرة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفة الحج وأعمال كل يوم من أيامه. 2- تعظيم شعائر الله. 3- اجتناب المحرمات التي
تخدش الحج. 4- محظورات الإحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: فإنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى بيت الله الحرام ترجون من ربكم مغفرة الذنوب والآثام، وتأملون الفوز بالنعيم المقيم في دار السلام، وتؤمنون بالخلف العاجل من ذي الجلال والإكرام.
أيها المسلمون: إنكم تتوجهون في زمان فاضل إلى أمكنة فاضلة ومشاعر معظمة تؤدون عبادة من أجل العبادات لا تريدون بذلك فخرا ولا رياء ولا نزهة ولا طربا، وإنما تريدون وجه الله والدار والآخرة، فأدوا هذه العبادة كما أُمرتم من غير غلو ولا تقصير ليحصل لكم ما أردتم من مغفرة الذنوب والفوز بالنعيم المقيم.
قوموا في سفركم وإقامتكم بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة وغيرهما من شعائر الدين.
إذا وجدتم الماء فتطهروا به للصلاة فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، أدوا الصلاة جماعة ولا تتشاغلوا عنها بأشغال يمكنكم قضاؤها بعد الصلاة.
صلوا الرباعية قصرا فصلوا الظهر والعصر والعشاء الآخرة على ركعتين من خروجكم من بلدكم إلى رجوعكم إليها إلا أن تصلوا خلف إمام يتم الصلاة فأتموها أربعا.
اجمعوا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير حسبما يتيسر لكم إن كنتم سائرين. أما إن كنتم مقيمين في مكة أو منى أو غيرهما فالسنة ألا تجمعوا، وإن جمعتم فلا بأس.
تخلقوا بالأخلاق الفاضلة من الصدق والسماحة وبشاشة الوجه والكرم بالمال والبدن والجاه وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، واصبروا على المشقة والأذى فإن الله مع الصابرين، وقد قيل إنما ُسمَِي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال.
فإذا وصلتم الميقات فاغتسلوا وتطيبوا في أبدانكم في الرأس واللحية والبسوا ثياب الإحرام غير مطيبة إزارا ورداء أبيضين للذكور، وللنساء ما شئن من الثياب غير متبرجات بزينة، ولا تجُاوزوا الميقات بدون إحرام.
أحرموا من أول ميقات تمرون به لأن النبي وقت المواقيت وقال: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) ومن كان من الطائرة فليتهيأ للإحرام من قبل ثم ينوي الإحرام إذا حاذي الميقات قبل مجاوزته.
سيروا بعد الإحرام إلى مكة ملبين بتلبية النبي e لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. يرفع الرجال أصواتهم بذلك.
فإذا بلغتم البيت فطوفوا به طواف العمرة سبعة أشواط، واعلموا أن جميع المسجد مكان للطواف القريب من الكعبة والبعيد حتى من وراء زمزم، لكن القرب أفضل إذا لم يكن زحام ومشقة، فإذا أكملتم الطواف فصلوا ركعتين خلف مقام إبراهيم قريبا منه إن تيسر أو بعيدا، ثم اسعوا بين الصفا والمروة سعي العمرة سبعة أشواط تبتدئون بالصفا وتختمون بالمروة، ومن سعى قبل الطواف فسعيه غير صحيح إلا أن يكون ناسيا أو جاهلا، فإذا أكملتم السعي فقصروا رؤوسكم من جميع جوانب الرأس لا من جانب منه كما يفعله بعض الناس، وتقصر المرأة من أطرافه بقدر أنملة، وبذلك تمت العمرة وحللتم الحل كله.
فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة فأحرموا بالحج من مكانكم الذي أنتم فيه، فاغتسلوا وتطيبوا والبسوا ثياب الإحرام، وأحرموا بالحج وسيروا ملبين إلى منى وصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصرا بلا جمع، تصلون الظهر والعصر والعشاء على ركعتين وتؤدون كل صلاة وحدها في وقتها اقتداء برسول الله.
فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع فسيروا ملبين إلى عرفة، وصلوا بها الظهر والعصر على ركعتين جمع تقديم، ثم تفرغوا لذكر الله ودعائه والتضرع إليه مستقبلي القبلة، ولو كان الجبل خلفكم رافعي قلوبكم وأيديكم إلى ربكم مؤملين منه إجابة دعائكم ومغفرة ذنوبكم، وتأكدوا من الوقوف داخل عرفة، فإن كثيرا من الحجاج ينزلون خارج حدودها ولا يقفون فيها، ومن لم يقف بعرفة فلا حج له، وعرفة كلها موقف كما قال النبي : ((وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف))، فكل نواحي عرفة موقف إلا بطن الوادي (وادي عرنة).
فإذا غربت الشمس فسيروا إلى مزدلفة وصلوا بها المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين وأوتروا وبيتوا بها حتى تصلوا الفجر ثم ادعوا الله سبحانه واستغفروه وكبروه ووحدوه إلى أن تسفروا جدا.
ثم سيروا إلى منى كما فعل النبي وقد رخص النبي للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة في آخر الليل، فإذا وصلتم إلى منى فابدؤوا برمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات، كل حصاة أكبر من الحمص قليلا، والقطوها من حيث شئتم، وكبروا مع كل حصاة.
واعلموا أن الحكمة من رمي الجمرات هي إقامة ذكر الله وتعظيمه، ولذلك يكبر الرامي عند رميه، ولستم ترمون شياطين كما يظن بعض الناس، وإنما ترمون هذه الأحجار في هذه الأماكن تعظيما لله عز وجل واقتداء برسول الله.
فإذا رميتم فاذبحوا الهدي إن تيسر، ولا يجزئ منه إلا ما يجزئ في الأضحية، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، ويجوز صيام الأيام الثلاثة قبل الطلوع، ويجوز في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، ويجوز صيام الأيام السبعة بعد رجوعكم متتابعة ومتفرقة.
وإذا ذبحتم الهدي المتيسر فاحلقوا رؤوسكم، والنساء يقُصَّرن، وإذا رميتم وحلقتم حل لكم كل شيء من محظورات الإحرام إلا النساء، فتلبسون ثيابكم وتطيبون ثم تنزلون إلى مكة فتطوفون بالبيت للحج، وتسعون له بين الصفا والمروة، وبذلك تحلون الحل كله فيحل لكم جميع المحظورات الإحرام حتى النساء.
أيها المسلمون: إن الحجاج يوم العيد يؤدون مناسك عظيمة، ولذلك سماه الله يوم الحج الأكبر، إنهم يرمون جمرة العقبة ثم يذبحون هديهم ثم يحلقون رؤوسهم أو يقصرون ثم يطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة، والأكمل أن يفعلوها يوم العيد على هذا الترتيب.
فإن قدموا بعضها على بعض فلا حرج فإن النبي ما سئل يوم العيد عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) تيسيرا على العباد ورحمة بهم، ولو أخرتم الطواف والسعي حتى تنزلوا من منى فلا حرج غير أنكم لا تتمتعون بالنساء قبل ذلك، وإن أخرتم ذبح الهدي إلى اليوم الثالث عشر وذبحتموه بمكة فلا حرج.
أيها الناس: بيتوا بمنى ليلتين: الحادية عشرة والثانية عشرة، وارموا الجمار الثلاث في اليومين بعد زوال الشمس، ابدؤوا برمي الجمرة الأولى الشرقية فارموها بسبع حصيات وكبروا مع كل حصاة ثم تقدموا من الزحام وقفوا مستقبلي القبلة رافعي أيديكم إلى ربكم تدعونه دعاء طويلا ثم ارموا الجمرة الوسطى بسبع حصيات، وكبروا مع كل حصاة ثم تقدموا عن الزحام وادعوا الله دعاء طويلا وأنتم إلى القبلة رافعي أيديكم ثم ارموا جمرة العقبة بسبع حصيات، وكبروا مع كل حصاة وانصرفوا بعد ذلك بدون وقوف للدعاء، فإن النبي وقف بعد رمي الجمرة الأولى والوسطى، ولم يقف بعد رمي جمرة العقبة.
ولا ترموا قبل زوال الشمس في الأيام التي بعد العيد لأن النبي كان لا يرمي فيها إلا بعد الزوال، ولكم الرمي إلى الغروب، وإذا كان الزحام شديدا جاز لكم أن تؤخروا الرمي إلى الليل لأن النبي وقت أول الرمي دون آخره وأذن للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة قبل الفجر خوفا عليهم من الزحام.
وارموا بأنفسكم ولا توكلوا أحدا يرمي عنكم لأن الرمي عبادة واجبة على الذكور والإناث، فيجب على المرء أن يؤديها بنفسه إلا عند الضرورة مثل أن يكون مريضا أو كبيرا أو امرأة حاملا تخاف على نفسها أو حملها من الزحام، فيجوز التوكيل حينئذ فيرمي الوكيل الجمرة الأولى عن نفسه ثم يرميها عن موكله ثم يرمي الثانية عن نفسه ثم عن موكله ثم يرمي الثالثة عن نفسه ثم عن موكله.
فإذا رميتم الجمار في اليوم الثاني عشر فقد تم الحج، فمن شاء تعجل فخرج من منى قبل غروب الشمس، ومن شاء تأخر فبات بمنى ليلة الثالث عشر ورمى الجمار من الغد بعد الزوال، وهذا أفضل لأنه فعل النبي ولأنه أكثر عملا حيث يحصل المبيت والرمي في الثالث عشر.
وطوفوا للوداع إذا أردتم ثم السفر إلى بلدكم بعد تمام أفعال الحج كلها لأن طواف الوداع ليس بعده شيء من أفعال الحج و،لقد سمعت أن بعض الناس ينزل فيطوف للوداع ثم يخرج إلى منى فيرمي الجمرات ثم يستمر في سفره، وهذا خطأ مخالف لأمر النبي وفعله، فإن النبي أمر أن يكون آخر عهد الناس بالبيت، ومن رمى بعد الوداع فقد جعل آخر عهده بالجمار لا بالبيت، ولأن النبي طاف بعد أن أتم جميع أفعال النسك، والوداع واجب على كل خارج من مكة من حاج أو معتمر إلا الحائض والنفساء فليس عليهما وداع.
وإذا رجعتم إلى بلادكم فاشكروا نعمة ربكم وأنيبوا إليه والزموا طاعته، ولا تعيدوا سيئاتكم لصفحاتكم بعد أن محيت بالحج أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب [البقرة:197].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/172)
اللحية وبعض الآداب
فقه
الطهارة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله ومتابعة رسوله. 2- من مظاهر مخالفة هديه هذه الأيام حلق اللحى.
3- حكم اللحية وبيان أنها من سنة المرسلين. 4- التحذير من مخالفة أمره ونهيه.
5- بعض الشبهات التي يثيرها من يحلقون لحاهم. 6- الأمر بتغيير الشيب بالحناء ونحوها
وتجنب السواد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واتبعوا نبيكم محمدا ، فإن هديه خير الهدى وسنته أقوم السنن وسبيله أهدى السبل، اتبعوه في عباداته وأخلاقه لتسعدوا في الدنيا والآخرة وتفوزوا بالتجارة الرابحة فإنه ما ترك خيرا إلا بينه لكم ورغّبكم فيه، ولا ترك شرا إلا بينه وحذركم عنه، ولقد أدرك ذلك أقوام فتبعوه ونجوا، وأعرض عن ذلك أقوام فخالفوه فهلكوا.
أيها الناس: لقد كان المسلمون خصوصا في هذه البلاد إلى زمن قريب يتمسكون تمسكا تاما بهدى النبي في خصال الفطرة التي فطر الله عباده عليها، فكانوا يبقون لحاهم ويحفون شواربهم اقتداء برسول الله وأصحابه وامتثالا لأمر نبيهم ومن يطع الرسول فقد أطاع الله.
كانوا على ذلك وكانوا يعيبون من خالف هذا الأمر ويهجرونه ويرونه مخالفا حتى دب فيهم داء المخالفة والعصيان في هذا الأمر فتجاسروا على مخالفة النبي في فعله وقوله في هذه الفطرة فبدؤوا قليلا يحلقون لحاهم حتى فشا ذلك فيهم وكثر وانقلبت الحال إلى أن يعاب من يستبقي لحيته، فعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، وصارت الأمة الإسلامية لا تمثل أمة الإسلام في مظهرها حين ظهور الإسلام وقوة أهله.
أيها المسلمون: ثبت في الكتاب والسنة أن اللحية من سنن المرسلين الأولين والآخرين فهذا هارون يقول لموسى : يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي [طه:94]. وهذا رسول الله ثبت عنه أنه كان كث اللحية أي كثيفها، وأمر أمته باعفائها وتوفيرها فقال : ((خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب)) [رواه البخاري ومسلم ].
فالمشروع في حق الرجل المؤمن بالله ورسوله، حق المريد لنجاته يوم القيامة وطهارة قلبه وكمال إيمانه أن يبادر إلى امتثال أمر رسول الله ويتوب من حلقها ليكون بذلك مقتديا برسول الله ممتثلا لأمره، وليجدن من حلاوة الإيمان ولذة المتابعة ما يفوق ارتياحه لحلقها إن كان فيها راحة بأضعاف مضاعف فإن حلاوة الإيمان لا يعادلها شيء.
أيها المؤمنون: لنمتثل أمر رسول الله ولنغلّب جانب الهدى على جانب الهوى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناًً [الأحزاب:36].
وفروا اللحى ولا تحلقوها وحفوا الشوارب بقصها ولا تبقوها، وإياكم والإصرار على مخالفة رسول الله فتكونوا من الفاسقين، فإن الإصرار على المعصية نقص في الدين وضرر على القلب، وربما يستهين المرء بالمعصية فتجره إلى معصية أخرى ثم الثانية إلى معصية ثالثة وهكذا حتى تتراكم عليه المعاصي فيهلك.
ولذلك حذر الله عباده مخالفة أمر رسوله فقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63]. فحذرهم الله بأحد أمرين: الفتنة في الدين، وهي الضلال والزيغ أو العذاب الأليم، كيف تطيب نفس المؤمن بالإصرار على معصية الله ورسوله؟!!
يعلم أن رسول الله يأمر بشيء ثم يخالفه!! ويستمر في هذه المخالفة بتعليلات غير صحيحة إما تأويلات فاسدة وإما استهانة بهذه المعصية وتحقير لها ولقد حذر النبي أمته من محقرات الذنوب وأخبر أن مثلها: ((كمثل قوم نزلوا أرضا فاحتطبوا، فجاء كل واحد بعود فاجتمع من ذلك حطب كثير، وأججوا به نارا كبيرة وقال: إن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه))، لأنه يقول: هذا هين وهذا هين حتى تتراكم عليه الذنوب فتهلكه.
أيها المسلمون: لقد أمر رسول الله بتغيير الشيب، وأمر بتجنب السواد، فثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي قال: ((غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد)) فلا تصبغوا بالسواد شيب الرأس ولا شيب اللحية، لا الرجال ولا النساء، ولكن غيروه بالحناء والكتم وبلون غير السواد الخالص، ولا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم ما من مسلم يشيب في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة ورفعه بها درجة وحط عنه بها خطيئة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون [الأعراف:2]. وفقني الله وإياكم لإخلاص النية وإصلاح العمل ورزقنا إيمانا نقوى به على مخالفة الهوى اتباع الهدى إنه جواد كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي فق من شاء من عباده لمكارم الأخلاق، وهداهم لما فيه فلاحهم وسعادتهم في الدنيا ويوم التلاق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكريم الخلاق، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الخلق على الإطلاق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتأدبوا بما أدبكم الله به على لسان رسوله فإن الله بعثه ليتمم مكارم الأخلاق، فتممها بقوله وفعله وترك الأمة على طريق بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك مرتاب.
إن الآداب التي شرعها الله على لسان رسول الله آداب شاملة عامة آداب في الأكل الشراب وآداب في اللباس والنوم وآداب في معاملة الناس وآداب في كل شيء.
أما الآداب في الأكل والشرب فقد علم رسول الله أمته أن يقولوا عند الأكل والشرب باسم الله، وأخبر أن من لم يسم الله شاركه الشيطان في أكله وشربه، وأمرهم أن يأكلوا باليمين ويشربوا باليمين ونهاهم عن الأكل بالشمال والشرب بالشمال وقال: ((إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله)).
وأمر الآكل مع غيره أن يأكل مما يليه وقال ((إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)).
وأما اللباس فالسنة فيه أن يبدأ عند اللبس باليمين، فيدخل يده اليمنى قبل اليسرى ورجله اليمنى في النعال والسراويل قبل اليسرى، وأما عند الخلع فيبدأ باليسرى قبل اليمنى.
وإذا لبس شيئا جديدا فليحمد الله الذي رزقه إياه من غير حول منه ولا قوة.
ورغب النبي أمته في لباس الثوب الجميل فقال: ((إن الله جميل يحب الجمال)) ، وحرم على ذكور أمته لباس الحرير والذهب وأن يكون لبس الرجل نازلا عن كعبيه وقال: ((ما أسفل من الكعبين ففي النار))، وقال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
وأما النوم فالسنة فيه أن ينام على الجنب الأيمن، وأن ينام على طهارة، ويذكر الله حتى يغلبه النوم ويقرأ آية الكرسي، فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح: كان إذا استيقظ من منامه يقول: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور))، وقال: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فليقل: الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره)).
وأما الآداب في معاملة الناس فقد جاء بأكملها فحث على حسن الخلق وقال: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)). وقال: ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)).
وأمر بكل ما يجلب المودة والمحبة بين المؤمنين وجعل في ذلك أجرا وخيرا فقال : ((والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)). وقال: ((إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام)).
وأمر بالصدق في كل شيء وقال: ((إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عن الله صديقا)).
وشملت الآداب الإسلامية كل شيء حتى الرجل عندما يريد أن يقضي حاجة بول أو غائط فقد جعل له آدابا فعندما يريد الدخول إلى محل قضاء الحاجة يقول: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث. ويقدم رجله اليسرى.
وإذا خرج قدم رجله اليمنى وقال :غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني.
ومن الآداب الإسلامية أن يستعمل الإنسان يده اليمنى عند الأخذ والعطاء فيأخذ بيمينه ويعطي بيمينه، ولا يستعمل اليسار إلا عند الحاجة.
فاتقوا الله أيها المسلمون وتأدبوا بما بلغكم من الآداب الإسلامية لترتقوا إلى الكمال الخلقي والتعاملي وتفوزوا بخير الدنيا والآخرة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً [النساء:26-28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
(1/173)
في بيان مكانة المساجد في الإسلام
فقه, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, المساجد
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
مكانة المساجد وحرمتها – الفرق بين مساجد الأمس ومساجد اليوم – اتخاذ المساجد على القبور
وخطورة ذلك – شروط اختيار الأئمة والمؤذنين والقائمين على المساجد – الاهتمام بتخطيط
المساجد وتصميمها , وحكم زخرفتها – حكم تخصيص وقت معين في العام يسمى أسبوع
المسجد – التحذير من امتهان المساجد , وجعلها مجالس للدنيا , والتهاون في توزيع الكتب
والنشرات فيها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واعرفوا ما للمساجد من مكانة وحرمة وقوموا بحقها من واجب الخدمة. فإنها بيوت الله ومهابط رحمته وملتقى ملائكته والصالحين من عباده، وقد أضافها الرب إلى نفسه إضافة تشريف وإجلال. وتوعد من يمنع عباده من ذكره فيها أو خربها أو تسبب في خرابها. فقال تعالى: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [البقرة:114].
عباد الله: إن من ينظر في حالة المساجد اليوم ويقارنها بما كانت عليه في صدر الاسلام وعهد القرون المفضلة يجد الفرق كبيرا، فقد كانت المساجد في العهد الأول مواطن العبادة ومعاهد العلم ومنطلق المجاهدين والرابطة القوية بين المؤمنين. كانت في غير أوقات الصلوات لا تخلو من المتعبدين والمعتكفين، ولا من الدارسين المتفقهين ؛ وفي أوقات الصلوات تغص بالمصلين، بحيث لا يتخلف عنها إلا معذور عن الحضور أو منافق معلوم النفاق، وفي العهد الحاضر تغير حالها وساء تعامل الناس معها وأحدث فيها ما يتنافى مع مكانتها وقدسيتها، وما لا يليق بكرامتها، ففي بعض البلاد صار يدفن فيها الاموات ممن يعتقد فيهم الولاية. وتمارس حول قبورهم فيها جميع أنواع الشرك الأكبر من دعاء هؤلاء الأموات والإستغاثة بهم وطلب المدد منهم، وأول من أحدث ذلك في بلاد المسلمين الشيعة الفاطميون يريدون بذلك القضاء على الإسلام وبث الوثنية. لأنهم منظمة يهودية ادعت الإسلام خديعة ومكرا، وقلدهم الصوفية الخرافيون في بناء هذه المساجد في بلدان أخرى. فأصبحت هذه المساجد المبنية على القبور مصادر للوثنية. بعد أن كانت المساجد السنية مصادر للتوحيد، وقد لعن النبي – - هؤلاء الذين يبنون المساجد على القبور وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله، ثم إن غالب المساجد التي ليس فيها قبور في بعض البلاد تمارس فيها البدع والخرافات المتمثلة بالطرق الصوفية. والأذكار والأوراد الجماعية المبتدعة. وفي بلادنا ساء وضع غالب المساجد. من حيث علاقة الناس بها، ومن حيث وضع القائمين عليها، ومن حيث تخطيطها وتصميمها، ومن حيث نظافتها وصيانتها.
فأما من حيث علاقة الناس بها وارتيادها، فالمساجد في غالب وقتها مهجورة مغَلقّة الأبواب، لا تفتح الا في وقت الصلاة، ولا يحضر غالب من يريدون الصلاة إلا متأخرين إما عند الإقامة أو بعد ما يفوت معظم الصلاة أو كلها، والكثير لا يعرف المساجد ولا يحضر جمعة ولا جماعة كانه يعيش في بلاد أوروبا وأمريكا. ولا من ينكر ولا من يغار لا من أولياء أمورهم ولا من جيرانهم ولا من عموم المسلمين إلا من شاء الله وقليل ما هم [ص:24].
وأما من حيث وضع القائمين على المساجد: (وهم الائمة والمؤذنون والملاحظون)، فمعلوم ان الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن كما في الحديث وعليهما مسؤولية عظيمة فيجب اختيار الإمام من أفضل الموجودين علما ودينا لأنه قدوة، فيجب أن يكون الإمام سليم العقيدة. حسن السلوك والخلق. محافظا على إقامة الصلاة في أوقاتها. متمما لأحكامها وأركانها وواجباتها وسننها. من غير ان يشق على المأمومين، ولا يجوز ان يتولى الإمامة من لا تعرف عقيدته. خصوصا في هذا الزمان الذي كثر فيه الوافدون الينا من بلاد اخرى بعقائد غير سليمة كالأشاعرة والمعتزلة والجهمية. أو أصحاب النحل الضالة والافكار المسمومة كالصوفية والمبتدعة والقبورية، إنه يجب أن يتولى اختيار الامام جهة علمية موثوقة تعرف أين درس ومن أي مكان تخرج وتختبره في عقيدته اختبارا دقيقا. ولا يكتفى باختيار جماعة المسجد أو بعضهم لأن أغلبهم يجهلون هذه الامور.
وأما المؤذن: فيجب عليه مراقبة الوقت بدقة فلا يؤذن إلا عند دخول الوقت، وإذا غاب وجب عليه أن يستخلف من ينوب عنه، وبعض المؤذنين يتساهل في أمر الوقت. فربما أذّن قبل دخوله فيصلي من يسمعه من النساء. وبعض أئمة المساجد يؤذن قبل دخول وقت الصلاة، وبعضهم يتأخر في الاذان فيسمعه الكسالى فيتاخرون حتى تفوتهم صلاة الجماعة وهذا خلل عظيم يجب التنبه له وتجنبه.
واما الملاحظون لنظافة المساجد فغالبهم لا يقوم بعمله مع أنه يتقاضى المكافأة المالية وهي حرام عليه مادام لا يقوم بواجبه، وربما يقول بعضهم إن المكافأة قليلة فيتساهل باداء العمل. وهذا عذر باطل.لأن المكافأة وان كانت قليلة فإنه لا يحل له أخذها إلا بأداء العمل الذي خُصّصت من اجله.
وأما من حيث تخطيط المساجد: فالوضع الذي عليه غالب المساجد غير مناسب لمتطلبات الوقت الحاضر. فتوزيع المساجد على الحارات غير مناسب لأن بعض الحارات تقل فيها المساجد جدا، والبعض الآخر تكثير فيها المساجد جدا من غير حاجة، والواجب أن تنشأ المساجد على قدر الحاجة، لأن كثرة المساجد في موضع واحد مما يسبب تفرق المسلمين وتقليل عدد المصلين فيها، والنبي – - يقول : ((صلاة الرجل مع الرجل ازكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان اكثر فهي احب إلى الله تعالى )). فدل هذا الحديث على أن كثرة العدد مطلوبة وكثرة المساجد مع تقاربها فيه تشتيت للمصلين وهو أيضا يسبب العجز عن توفير الأئمة الأكفاء لها، إضافة إلى أن المساجد المتقاربة يشوش بعضها على بعض، فإن بعض الائمة – هداهم الله – يخرج صوت ( المكرفون ) خارج المسجد فيمتد صوته إلى من حوله من المساجد. وهذا لا مبرر له لأن المطلوب من الامام أن يُسْمع من خلفه فقط، أما إذا تجأوز صوته خارج المسجد فهذا فيه محذوران :
المحذور الأول: التشويش على من حوله. ومعلوم أن الجهر بالقرآن إذا كان يتأذى به مصل أو قاريء اخر فإنه لا يجوز، كما نص على ذلك العلماء، وقد قال الله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا [الإسراء:110].
والمحذور الثاني: أن الإمام إذا قصد أن يُسْمع صوته خارج المسجد دخل في الرياء والسمعة المذموميْن فيجب الانتباه لهذا.
وأما تصميم المساجد: فغالب المساجد لا يفي تصميمها بالحاجة فقد تكون ضيقة، ولا يكون لها مرافق كافية كإعداد مساكن للقائمين عليها ودورات المياه. ولا تكون مكيفة بما يخفف عن المصلين الحر والبرد.
وبعض المساجد تزخرف وتفخم عمارتها بما لا يتناسب مع قدسية المساجد، وقد نهى النبي عن زخرفة المساجد فقد روى ابن خزيمة في صحيحه عن النبي – - انه قال : ((يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها الا قليلا )) ، وفي رواية لابن حبان : ((نهى رسول الله – - ان يتباهى الناس في المساجد )). وما يُنفق في هذا المسجد المزخرف من الأموال الكثيرة لو وزع لأقام عدة مساجد على الوجه الشرعي.
واما من حيث صيانة المساجد وتنظيفها: فالتقصير في ذلك ظاهر بحيث ان بعض المساجد يتراكم فيها الغبار والقمامات بسبب الاهمال وعدم العناية. لأن الاحتساب اليوم قد قل،والمكلفون بهذا العمل من قبل الوزارة اغلبهم لا يقوم بالعمل. لأنه لا يخاف من الله وليس هناك رقابة من الجهة المسؤولة، وقد احدث في زماننا هذا ما يسمى باسبوع المساجد ينشط الناس في وقته بنظافة بعض المساجد ثم ينتهي ذلك بإنتهاء هذا الأسبوع الذي ليس لوجوده مبرر سوى التشبه والتقليد الأعمى للدول الأخرى التي أحدثت هذه الأسابيع لمقاصد وأهداف، كأسبوع النظافة واسبوع الشجرة فاحدث هؤلاء اسبوع المساجد تقليدا لهم. فجعلوا المساجد كالشجرة والأمور الأخرى الدنيوية، مع أن ديننا يأمرنا بتنظيف المساجد دائما لا في أسبوع فقط، وتنظيفها عبادة إذا خُصّصت بوقت لم يخصصه الشارع صار بدعة في الدين. والدليل على أنه عبادة من الكتاب والسنة. فعن سمرة بن جندب – - قال : ( أمرنا رسول الله – - أن نتخذ المساجد في ديارنا وأمرنا أن ننظفها )، رواه احمد والترمذي وقال : حديث صحيح، وعن انس – - قال : قال رسول الله – -: ((عُرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد )) الحديث. رواه ابو دأود والترمذي وغيرهما، وعن أبي هريرة – -: أن امراة سوداء كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله – - فسأل عنها بعد أيام فقيل له إنها ماتت فقال : ((فهلا اذنتموني؟ فأتى قبرها فصلى عليها )) ، رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فقد شرع لنا رسول الله – - تنظيف المساجد كل وقت ولم يقصرها على أسبوع. فمن خصص اسبوعا لذلك فقد ابتدع، وكل بدعة ضلالة، علأوة على ما في ذلك من التشبه بالكفار. فإن هذه الاسابيع لم تعرف إلا من قبلهم.
فالواجب على المسلمين ان ينتبهوا لمسؤوليتهم أمام بيوت الله ويتركوا التقليد الاعمى والتشبه الفاسد، الذي قد يكون وراءه ما وراءه.
نسأل الله ان يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً [الجن:18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه كما يُشرع تنظيف المساجد على الدوام وتطييبها، فإنه يَحْرم امتهانها بإلقاء القاذورات كالبصاق والمخاط والأوراق المهملة ومخلفات الطعام ونحو ذلك، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ((بينما رسول الله – - يخطب يوما إذ رأى نخامة في قِبلة المسجد فتغيظ على الناس ثم حكها، قال واحسبه قال : فدعا بزعفران فلطخه به، وقال : ان الله عز وجل قبل وجه أحدكم إذا صلى فلا يبصق بين يديه )) رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس – - عن النبي قال: (( البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها )) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة – - أنه سمع رسول الله – - يقول : ((من سمع رجلا يُنشد ضالة في المسجد فليقل : لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا )) ، رواه مسلم وأبو داود.
وعن عبد الله بن مسعود – - قال: قال رسول الله – -: ((سيكون في اخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة )) رواه ابن حبان في صحيحه.
أها المسلمون : من هذه الاحاديث الشريفة يتبين لنا حرمة المساجد والنهي عن امتهانها بالقاء القاذورات فيها وجعلها محلا للسؤال عن الأموال الضائعة ونحو ذلك، وجعلها مجالس للتحدث بامور الدنيا. وقد اعتاد بعض الشبان المتدينين في وقتنا الحاضر الصاق الأوراق على جدران المساجد وعلى ابوابها. وتكتب فيها بعض الإعلانات أو تكتب فيها بعض الايات أو الاحاديث أو النصائح، حتى اصبحت بعض المساجد كانها معارض أو متاحف، وهذا العمل محدث لم يكن من عمل السلف الصالح. إضافة إلى انه يشغل المصلين والداخلين إلى المسجد عن ذكر الله وقد يكون المكتوب أيضا مما لا يجوز نشره كأن يكون حديثا مكذوبا أو دعاية لمذهب باطل. وبعض الجهال يأتون بكتب ونشرات ويضعونها في المساجد للتوزيع، وقد تكون هذه الكتب والنشرات غير مسموح بتوزيعها لما تشتمل عليه من اباطيل أو فتاوى غير صحيحة أو أوراد وأذكار بدعية، فالواجب منع هذه الأعمال والأخذ على أيدي من يقوم به. لئلا يتطور الامر إلى ما هو اشد كجعل المساجد محلا لبث الدعايات والاعلانات والخرافات.
ويجب ان لا يوزع أي كتاب أو نشره أو فتوى إلا بإذن من دار الإفتاء والأشراف على المطبوعات لئلا يجد المخرفون سبيلا إلى نشر خرافاتهم بيننا، إنه يجب على أئمة المساجد والمؤذنين الانتباه لهذا، ويجب أن لا يوضع في المساجد إلا المصاحف فقط. كما كانت في عهد السلف الصالح والتابعين لهم باحسان.
فاتقوا الله – عباد الله – واحذروا من الدسائس الماكرة ولا تقبلوا أي كتاب أو نشرة أو فتوى إلا بعد عرضها على أهل العلم الموثوقين في علمهم وعقيدتهم.
وفق الله الجميع.. واعلموا أن خير الحديث كتاب الله....
(1/174)
بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله والقيام بحقوق عباده وأعظمها حق الوالدين. 2- بر الوالدين مقدم على
الجهاد. 3- الأمر بصحبة الوالدين بالمعروف ولو كانا كافرين. 4- كيفية بر الوالدين والإحسان
إليهما في حياتهما وبعد مماتهما. 5- منزلة البر وثوابه وفضله وحديث الثلاثة الذين انطبقت
عليهم الصخرة. 6- التحذير من العقوق وإساءة الأدب مع الوالدين خاصة حال كبرهما.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من حقه وحقوق عباده.
ألا وأن أعظم حقوق العباد عليكم حق الوالدين، وحق الأقارب، فقد جعل الله ذلك في المرتبة التي تلي حق الله المتضمن لحقه وحق رسوله ، فقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى [النساء:36]. وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه [العنكبوت:8].
وبين العلة في ذلك إغراء للأولاد وحثا لهم على الاعتناء بهذه الوصية فقال: حملته أمه وهناً على وهن [لقمان:14]. أي ضعفا على ضعف، ومشقة على مشقة، في الحمل وعند الولادة ثم في حضنه في حجرتها وإرضاعه قبل انفصاله فقال تعالى: وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير.
ولقد جعل النبي بر الوالدين مقدما على الجهاد في سبيل الله. ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي أي العمل أحب إلى الله تعالى قال: ((الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)).
وفي صحيح مسلم: ((أن رجلا أتى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحد حي قال: نعم بل كلاهما. قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)).
وفي حديث إسناده جيد أن رجلا قال يا رسول الله إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه قال: ((هل بقي من والديك أحد؟ قال: نعم أمي. قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج معتمر ومجاهد)).
وقد أوصى الله تعالى بصحبة المعروف للوالدين في الدنيا وإن كانا كافرين بل وإن كان يأمران ولدهما المسلم أن يكفر بالله، لكن لا يطيعهما في الكفر فقال تعالى: وإن جاهداك (أي بذلا جهدهما) على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي [لقمان:15].
وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت قدمت علي أمي وهي مشركة وكان أبو بكر قد طلقها في الجاهلية فقدمت على ابنتها أسماء في المدينة بعد صلح الحديبية قالت أسماء: ((فاستفتيت رسول الله فقلت يا رسول الله قَدِمَتْ عليّ أمي وهي راغبة أي راغبة في أن تصلها ابنتها أسماء بشيء. أفأصل أمي يا رسول الله؟ قال: نعم صِلي أمك)).
أيها المسلمون: إن بر الوالدين يكون ببذل المعروف والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال.
أما الإحسان بالقول فأن تخاطبهما باللين واللطف مستصحبا كل لفظ طيب يدل على اللين والتكريم.
وأما الإحسان بالفعل فأن تخدمهما ببدنك ما استطعت من قضاء الحوائج والمساعدة على شؤونهما وتيسير أمورهما وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك أو دنياك، والله أعلم بما يضرك في ذلك فلا تفت نفسك في شيء لا يضرك بأنه يضرك ثم تعصهما في ذلك.
وأما الإحسان بالمال فأن تبذل لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه طيبة به نفسك منشرحا به صدرك غير متبع له بمنة ولا أذى بل تبذله وأنت ترى أن المنة لهما في ذلك في قبوله والانتفاع به.
وإن بر الوالدين كما يكون في حياتهما يكون أيضا بعد مماتهما فقد: ((أتى رجل من بني سلمة إلى النبي فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما، (يعني الدعاء لهما) والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما (أي وصيتهما من بعدهما) وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما)) [رواه أبو داود].
الله أكبر ما أعظم بر الوالدين وأشمله حتى إكرام صديقهما وصلته من برهما.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه كان يسير في طريق مكة راكبا على حمار يتروح عليه إذا مل الركوب على الراحلة، فمر به أعرابي فقال أنت فلان بن فلان؟ قال: بلى. فأعطاه الحمار. وقال: اركب هذا وأعطاه عمامة كانت عليه وقال: اشدد بها رأسك. فقالوا لابن عمر: غفر الله لك أعطيته حمارا كنت تروح عليه وعمامة تشد بها رأسك. فقال ابن عمر: إن هذا كان صديقا لعمر وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه)).
أيها المسلمون: هذا بيان منزلة البر وعظم مرتبته.
أما آثاره فهي الثواب الجزيل في الآخرة والجزاء بمثله في الدنيا، فإن من بر بوالديه بر به أولاده، وتفريج الكربات، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في قصة: ((الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فدخلوه فانطبقت عليهم صخرة فسدته عليهم، فتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم أن يفرج عنهم فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت غبوقهما فوجدتهما نائمين، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت قليلا)).
وتوسل صاحباه بصالح من أعمالهما فانفرجت كلها وخرجوا يمشون.
وإن في بر الوالدين سعة الرزق وطول العمر وحسن الخاتم فعن علي بن أبي طالب أن النبي قال: ((من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)) [إسناده جيد].
وبر الوالدين أعلى صلة الرحم لأنهم أقرب الناس إليك رحما.
أيها المسلمون: إنه لا يليق بعاقل مؤمن أن يعلم فضل بر الوالدين وآثاره الحميدة في الدنيا والآخرة ثم يعرض عنه ولا يقوم به أو يقوم بالعقوق والقطيعة، فلقد نهى الله تعالى عن عقوق الوالدين في أعظم حال يشق على الولد برهما فيها فقال تعالى: إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً [الإسراء:23-24].
ففي حال بلوغ الوالدين الكبر يكون الضعف البدني والعقلي منهما، وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما، وفي حال كهذه نهى الله الولد أن يتضجر أقل تضجر من والديه، وأمره أن يقول لهما قولا كريما وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة فيخاطبهما مخاطبة من يستصغر نفسه أمامهما ويعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده رحمة بهما وإحسانا إليهما ويدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في صغره ووقت حاجته فربياه صغيرا.
إن على المؤمن أن يقوم ببر والديه وأن لا ينسى إحسانهما إليه حين كان صغيرا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وأمه تسهر الليالي من أجل نومه وترهق بدنها من أجل راحته، وأبوه يجوب الفيافي ويتعب فكره وعقله وجسمه من أجل حصوله على معاشه والإنفاق عليه، ولكل منهما بر بجزاء عمله، ففي الصحيحين عن أبي هريرة : ((أن رجلا قال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك)).
وفقنا الله جميعا لبر أمهاتنا وآبائنا ورزقنا في ذلك الإخلاص وحسن القصد والسداد إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/175)
حديث اختصام الملأ الأعلى (الكفّارات)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, فضائل الأعمال
عبد الحميد التركستاني
الطائف
24/4/1420
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إطعام الطعام موجب للجنة. 2- أفضل الإطعام الايثار مع الحاجة. 3- إفشاء السلام من
موجبات الجنة. 4- منزلة حسن الخلق في الآخرة. 5- احتمال الأذى والعفو من المسيء.
6- ذم حال المشاحنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد تكلمت في الأسبوع الماضي عن حديث اختصام الملأ الأعلى وذكرت لكم الكفارات التي من فعلها كفّرت عنه ذنوبه وخطاياه وهي إسباغ الوضوء على المكاره، ونقل الأقدام إلى الجمعات أو الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، واليوم سوف أتكلم عن الدرجات وهي: إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام، فأقول وبالله التوفيق:
الأول: إطعام الطعام وقد جعله الله في كتابه من الأسباب الموجبة للجنة ونعيمها، قال تعالى: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا إلى قوله: وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاءا وكان سعيكم مشكورا. فوصف الله عز وجل فاكهة المؤمنين وشرابهم في الجنة جزاءا لإطعامهم الطعام في الدنيا، روى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال: ((أيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطمعه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمنا على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم)) إسناده حسن.
وفي المسند وسنن الترمذي عن علي عن النبي أنه قال: ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها)) قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطعم الطعام وأطاب الكلام وصلى بالليل والناس نيام)) حديث حسن.
وفي حديث عبد الله بن سلام الذي خرّجه أهل السنن بإسناد صحيح، أنه سمع النبي أول مقدمه إلى المدينة يقول: ((أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي : ((أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) متفق عليه.
ففي الأحاديث التي ذكرتها فوائد عظيمة ينبغي للمؤمن أن يعيها ويتصف بها، لأنها من مكارم الأخلاق ومن حميد العادات فالحث على إطعام الطعام هو أمارة الجود والسخاء ومكارم الأخلاق وفيه نفع للمحتاجين وسد الجوع الذي استعاذ منه النبي فإطعام الطعام يوجب دخول الجنة والنجاة من النار، كما قال عليه السلام: ((اتقوا النار ولو بشق تمره)) متفق عليه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من أصبح منكم اليوم صائما)) ؟ فقال أبو بكر: أنا! فقال: ((من أطعم منكم اليوم مسكينا))؟ فقال أبو بكر: أنا، فقال: ((من تبع منكم جنازة))؟ فقال أبو بكر: أنا، فقال: ((من عاد منكم اليوم مريضا))؟ فقال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله : ((ما اجتمعت هذه الخصال قط في رجل إلا دخل الجنة)).
ويتأكد إطعام الطعام للجائع وللجيران خصوصا ففي الصحيح عن أبي موسى الأشعري عن النبي قال: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني)) وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي قال له: ((يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) ، وأفضل أنواع إطعام الطعام: الإيثار مع الحاجة كما وصف الله بذلك الأنصار رضي الله عنهم فقال: ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)) ، وقد يصل الحال ببعضهم حتى أنهم عند مفارقتهم للدنيا يؤثرون على أنفسهم فمن المواقف الطريفة في الإيثار التي لا يمكن أن يصل إليها إلا أقوياء الإيمان أشداء اليقين، نستنشق من هذه المواقف روائح الإنسانية الكريمة وعبق الإيثار الطيب وأريج الكرم الأصيل الذي غطته مطامع الأهواء والشهوات وطمسته حياة المادة واللذة في عصرنا الحاضر من خلال هذه الحادثة التي تبين لكم كم كان أصحاب رسول الله عظماء وكبارا يحبون الخير ويقدمون الغير على أنفسهم، قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنابه، فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه نعم فإذا أنا برجل يقول: آه آه، فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، ورجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات، رحمه الله تعالى فهذا الإيثار هو أعلى مراتب الإيثار وهو الإيثار بالنفس ذلك أنه فوق الإيثار بالمال وكما قال الأول:
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وكان ابن المبارك رحمه الله ربما يشتهي الشيء فلا يصنعه إلا لضيف ينزل به فيأكله مع ضيفه، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، فهذه الأخبار والحوادث لا تحتاج إلى مقدمة أو تعليق لتبقى على جوهرها وروعتها، ولتترك أثرها في النفوس وفعلها في القلوب.
الثاني من الدرجات: لين الكلام وفي رواية: ((إفشاء السلام)) وهو داخل في لين الكلام وقد قال الله عز وجل: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((والكلمة الطيبة صدقة)) متفق عليه.
وعنه أيضا: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) ويدخل في لين الكلام لزوم الصمت وعدم الإكثار من الكلام ففي الحديث عن النبي أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) وقال أيضا: ((من صمت نجا)).
ولقد أحسن الذي يقول:
إن كان يعجبك السكوت فإنه
قد كان يعجب قبلك الأخيارا
ولئن ندمت على سكوت مرة
فلقد ندمت على الكلام مرارا
إن السكوت سلامة ولربمـ ا
زرع الكلام عداوة وضرارا
والصمت يكسب المحبة والوقار ومن حفظ لسانه أراح نفسه وقد ورد عن عمر بن الخطاب وهو يخاطب الأحنف بن قيس: (يا أحنف من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه).
وأما إفشاء السلام فمن موجبات الجنة فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم، وروى الترمذي بإسناد صحيح من حديث عمران بن حصين وغيره أن رجلا دخل على النبي فقال: السلام عليكم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((عشر)) ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، قال: ((عشرون)) ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال رسول الله : ((ثلاثون)).
وإنما جمع بين إطعام الطعام ولين الكلام ليكمل بذلك الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل فلا يتم الإحسان بإطعام الطعام إلا بلين الكلام وإفشاء السلام فإن أساء بالقول بطل الإحسان بالفعل من الإطعام وغيره كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ، وربما تكون معاملة الناس بالقول الحسن أحب إليهم من الإحسان بإعطاء المال، كما قال لقمان لابنه: يا بني لتكن كلمتك طيبة ووجهك منبسطا تكن أحب الناس إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة، وقد كان النبي يلين القول لمن يشهد له بالشر فينتفي بذلك شره وكان لا يواجه أحدا بما يكره في وجهه ولم يكن فاحشا ولا متفحشا.
يقول جرير بن عبد الله البجلي : ما حجبني رسول الله منذ أن أسلمت ولا رآني إلا تبسم.
لما عفوت ولم أحقد على أحد
أرحت نفسي من همّ العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته
لأدفع الشر عني بالتحيات
وأحسن البشر للإنسان أبغضه
كأنه قد ملا قلبي محبات
وكان ابن عمر بنشد:
بني إن البر شيء هين
وجه طليق وكلام لين
ومن هذا قول بعضهم وقد سئل عن حسن الخلق فقال: بذل الندى (السخاء والكرم) وكفّ الأذى، وحسن الخلق، يبلغ به العبد درجات المجتهدين في العبادة، كما قال النبي : ((إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة صائم النهار وقائم الليل)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
ورؤي بعض السلف في المنام فسئل عن بعض إخوانه الصالحين، فقال: ((وأين ذلك؟ رفع في الجنة بحسن خلقه)) وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ما أفضل ما أعطي المرء المسلم؟ قال: ((الخلق الحسن)) ، فلين الكلام وإفشاء السلام دليل على حسن خلق فاعله ودليل على علو درجة إيمانه، فأحسن الناس خلقا أكملهم إيمانا، وليست هذه الأخلاق بالأخلاق الرياضية أو الدوبلوماسية وإنما هي الأخلاق الإسلامية من هذا الدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزع بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون وإن من أعظم أوصاف حسن الخلق احتمال الأذى والحلم والعفو والصفح فهذا من سمة المؤمنين الصادقين فهذا نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام بلغ الذروة في احتمال الأذى والعفو عند المقدرة كما فعل بأهل مكة عام الفتح عندما قال لهم: لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء، وقد ذكر الله في كتابه وصف أهل الجنة بمعاملة الخلق بالإحسان بالمال واحتمال الأذى،: فقال تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ، فالإنفاق في السراء والضراء يقتضي غاية الإحسان بالمال من الكثرة والقلة، وكظم الغيظ والعفو عن الناس يقتضي عدم مقابلة السيئة من قول أو فعل بالسيئة، وذلك يتضمن إلانة القول، واجتناب الفحش والإغلاظ في المقال ،ولو كان مباحا وهذا نهاية الإحسان، فلهذا قال سبحانه: والله يحب المحسنين ، وقال في آية أخرى: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم فحسن الخلق إذًا: أن يكون المرء لين الجانب طلق الوجه، قليل النفور، طيب الكلمة، تدوم بين الناس محبته، وتتأكد مودته وتقال عثرته وتهون زلته وتغتفر ذنوبه وتستر عيوبه، فإن حسنت أخلاقه كثر مصافوه ،وقل معادوه، وتسهلت له الأمور الصعاب، ولانت له الأفئدة الغضاب، ومن ساءت أخلاقه، ضاقت أرزاقه، والناس منه في شؤم وبلاء وهو من نفسه في تعب وعناء.
وأما من ألان للخلق جانبه، واحتمل صاحبه، ولطفت معاشرته وحسنت محادثته، مال إليه الخلق واتسع له الرزق وهو من نفسه في راحة والناس منه في سلامة وأدرك المطلوب وقال كل أمر محبوب وارتفعت بذلك عند الله درجته وأدرك درجة قائم الليل وصائم النهار ومما يؤكد فضيلة العفو والصفح وعدم الحقد والشحناء ما ورد في فضل ذلك من مغفرة الذنوب ولا سيما في هذه الأيام وبالذات ليلة النصف من شعبان فقد خرّج ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري عن النبي أنه قال: ((إن الله ليطّلع ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)) ، وعن أبي ثعلبة عن النبي أنه قال: ((إذا كان ليلة النصف من شعبان يطلع الله إلى خلقه فيغفر للمؤمنين ويترك أهل الضغائن وأهل الحقد بحقدهم)) رواه ابن أبي عاصم، واللالكائي، وعن عطاء بن يسار قال: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من شعبان. ولهذا يتعين على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة وقبول الدعاء في تلك الليلة وهي الشرك بالله والشحناء وهي ترك أداء حق المسلم على أخيه المسلم بغضا له لهوى في نفسه وذلك يمنع أيضا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة كما في صحيح مسلم أن النبي قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا)) ، وقد فسر الأوزاعي هذه الشحناء المانعة من المغفرة بالذي في قلبه شحناء على أصحاب النبي أو كالذي يسب معاوية أو عليا وغيرهم ولا ريب أن هذه الشحناء أعظم جرما من مشاحنة الإخوة بعضهم بعضا وقال ثوبان: المشاحن هو التارك لسنة نبيه الطاعن على أمته السافك لدمائهم وهذه شحناء أهل البدعة توجب الطعن على جماعة المسلمين واستحلال دمائهم.
فأفضل الأعمال إذاً سلامة الصدر من الشحناء كلها، وأفضلها السلامة من شحناء أهل البدع التي تقتضي الطعن على سلف هذه الأمة وبغضهم والحقد عليهم واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم أو تضليلهم ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين وإرادة الخير لهم ونصيحتهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان)) قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد)) ، فطهروا قلوبكم وصفوها من الغش والحقد والحسد تستقيم لكم الحياة وتستلذوا بطيب العيش في الدنيا وبعلو الدرجات في الآخرة.
(1/176)
في الحديث عن صلة الأرحام
الأسرة والمجتمع
الأرحام
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المقصود بالأرحام والأنساب. 2- كيفية صلة الأرحام. 3- فضل صلة الأرحام.
4- التحذير من قطيعة الرحم. 5- دعوة لصلة الرحم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده صلوا أرحامكم، والأرحام والأنساب هم الأقارب، وليسوا كما يفهم بعض الناس أقارب الزوج أو الزوجة فإن أقارب الزوج أو الزوجة هم الأصهار، فأقارب زوج المرأة أصهار لها وليسوا أنسابا لها ولا أرحاما، وأقارب زوجة المرء أصهار له وليسوا أرحاما له ولا أنسابا.
إنما الأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وبنته، وكل من كان من بينه وبينه صلة من قِبَل أبيه أو من قبل أمه أو قبل ابنه أو من قبل ابنته.
صلوا أرحامكم بالزيارات والهدايا والنفقات، صلوهم بالعطف والحنان ولين الجانب وبشاشة الوجه والإكرام والاحترام وكل ما يتعارف الناس من صلة، إن صلة الرحم ذِكْرى حسنة وأجر كبير إنها سبب لدخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار [الرعد:19-24]. وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري : أن رجلا قال: يا رسول الله أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار فقال: النبي : ((لقد وفق أو قال لقد هدي. كيف قلت؟ فأعاد الرجل فقال النبي : تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل ذا رحمك فلما أدبر قال النبي : إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة)).
صلة الرحم سبب لطول العمر وكثرة الرزق قال النبي : ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)) [متفق عليه]. وقال : (( إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال الله: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذلك لك)).
وقال : ((الرحم متعلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)) [متفق عليه].
ولقد بين رسول الله أن صلة الرحم أعظم أجرا من العتق، ففي الصحيحين عن ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها: ((أنها قالت يا رسول الله أشعرت أني أعتقت وليدتي؟ قال: أوفعلت؟ قالت: نعم. قال: أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)).
أيها الناس: إن بعض الناس لا يصل أقاربه إلا إذا وصلوه، وهذا في الحقيقة ليس بصلة فإنه مكافأة إذ أن المروءة والفطرة السليمة تقتضي مكافأة من أحسن إليك قريبا كان أم بعيدا يقول النبي : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها)) [متفق عليه]. فصلوا أرحامكم وإن قطعوكم، وستكون العاقبة لكم عليهم فقد جاء رجل إلى النبي : ((فقال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهلون علي فقال: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ – أي الرماد الحار - ولا يزال معك من الله ظهير عليهم أي معين عليهم ما دمت على ذلك)) [رواه مسلم].
واحذروا أيها المؤمنون من قطيعة الرحم فإنها سبب للعنة الله وعقابه يقول الله عز وجل: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ويقول تعالى: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار.
وقد تكفل الله سبحانه للرحم بأن يقطع من قطعها حتى رضيت بذلك وأعلنته فهي متعلقة بالعرش تقول: من قطعني قطعه الله.
وعن جبير بن مطعم أن النبي قال: ((لا يدخل الجنة قاطع يعني قاطع رحم)) [متفق عليه]. وأعظم القطيعة قطيعة الوالدين ثم من كان أقرب فأقرب من القرابة، ولهذا قال النبي : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاث مرات) قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين)).
سبحان الله ما أعظم عقوق الوالدين ما أشد إثمه يلي الإشراك بالله تعالى.
إن عقوق الوالدين قطع برهما وعدم الإحسان إليهما، وأعظم من ذلك أن يتبع قطع البر والإحسان بالإساءة والعدوان، سواء بطريق مباشر أم غير مباشر. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)).
استبعد الصحابة رضي الله عنهم أن يشتم الرجل والديه مباشرة، ولعمر الله إنه لبعيد لأنه ينافي المروءة والذوق السليم، فبين النبي أن ذلك قد لا يكون مباشرة، ولكن يكون عن طريق التسبب بأن يشتم الرجل والدي شخص فيقابله بالمثل ويشتم والديه.
وعن علي بن أبي طالب قال: ((حدثني رسول الله بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض)) [رواه مسلم].
فيا عباد الله يا من آمنوا بالله ورسوله في حالكم انظروا في أقاربكم هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟ هل ألنتم لهم الجانب؟ هل أطلقتم الوجوه لهم؟ وهل شرحتم الصدور عند لقائهم؟ هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟ هل زرتموهم في صحتهم توددا؟ وهل عدتموهم في مرضهم احتفاء وسؤالا؟ هل بذلتم ما يجب بذله لهم من نفقة وسداد حاجة؟
فلننظر إن من الناس من لا ينظر إلى والديه اللذين أنجباه وربياه إلا نظرة احتقار وسخرية وازدراء، يكرم امرأته ويهين أمه، ويقرب صديقه ويبعد أباه، إذا جلس عند والديه فكأنه على جمر يستثقل الجلوس ويستطيل الزمن اللحظة عندهما كالساعة أو أكثر لا يخاطبهما إلا ببطء وتثاقل، ولا يفضي إليهما بسر ولا أمر مهم، قد حرم نفسه لذة البر وعاقبته الحميدة.
وإن من الناس من لا ينظر إلى أقاربه نظرة قريب لقريبه، ولا يعاملهم معاملة تليق بهم، يخاصمهم في أقل الأمور ويعاديهم في أتفه الأشياء، ولا يقوم بواجب الصلة، لا في الكلام ولا في الفعال ولا في بذل المال تجده مثريا وأقاربه محاويج، فلا يقوم بصلتهم بل قد يكونون ممن تجب نفقتهم عليه لعجزهم عن التكسب وقدرته على الإنفاق عليهم فلا ينفق.
وقد قال أهل العلم كل من يرث شخصا من أقاربه فإنه يجب عليه نفقته إذا كان محتاجا عاجزا عن التكسب وكان الوارث قادرا على الإنفاق لأن الله تعالى يقول: وعلى الوارث مثل ذلك [البقرة:233]. أي مثل ما على الوالد من الإنفاق، فمن بخل بما يجب عليه من هذا الإنفاق فهو آثم محاسب عليه يوم القيامة سواء طلبه المستحق منه أم استحيا وسكت.
عباد الله: اتقوا الله تعالى وصلوا أرحامكم واحذروا من قطيعتهم واستحضروا دائما ما أعد الله تعالى للواصلين من الثواب وللقاطعين من العقاب واستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/177)
تنبيه على أخطاء يرتكبها الحاج
فقه
الحج والعمرة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تطهير الأعمال من البدع لتُقبل – أخطاء يقع فيها الحجاج : 1- أخطاء عقدية : دعاء
الموتى والتبرك بهم – زيارة المزارات المزعومة 2- أخطاء عملية تتعلق بالحج في الإحرام
والطواف , والحلق أو التقصير , والوقوف بعرفة ومزدلفة والرمي
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله ، واحرصوا على أن يكون حجكم وسائر أعمالكم خالصا لوجه الله من جميع البدع والخرافات ، حتى يكون عملكم متقبلا ، وحجكم مبرورا ، وسعيكم مشكورا. لأن من الحجاج من يرتكب أخطاء كثيرة في حجه.
وهذه الأخطاء منها ما يتعلق بالعقيدة ، ومنها ما يتعلق بأحكام الحج العملية.
فالذي يتعلق بالعقيدة: هو أن بعض الحجاج ، سواء في مكة أو في المدينة ، يذهبون إلى المقابر ليتوسلوا بالموتى ويتبركون بقبورهم أو يسألوا الله بجاههم وما أشبه ذلك من الأعمال الشركية، أو البدعية المخالفة لسنة رسول الله – - في زيارة القبور ،لأن سنة الرسول أن تُزار القبور اللاعتبار وتذكر الآخرة ، والدعاء لأموات المسلمين بالمغفرة والرحمة ، وأن يكون ذلك بدون سفر وشد رحال. وأن تكون الزيارة للرجال دون النساء، كما قال – -: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر بالآخرة)) وهذا خطاب للرجال, خاصة لأن الرسول – - لعن زوارات القبور، وكان إذا زار القبور دعا لأصحابها بالمغفرة والرحمة. هذا هَدْيه – - في زيارتها , أنه لأجل اعتبار الزائر واتعاظه. والدعاء للميت المزور بالمغفرة والرحمة.
أما أن تُزار القبور بقصد الدعاء عندها ، أو التبرك والتوسل بأصحابها ، أو الاستشفاع بهم ، فهذا مخالف لهدي النبي – - وهو إما شرك بالله أو وسيلة للشرك يتنافى مع أعمال الحج ومقاصده.
ومن الحجاج من يتعب بدنه، ويضيع وقته وماله في الذهاب إلى المزارات المزعومة في مكة والمدينة ، ففي مكة يذهب إلى غار حراء وغار ثورٍ وغيرهما, مما لا تشرع زيارته ، وفي المدينة يذهب إلى المساجد السبعة ومسجد القبلتين وأماكن معينة للصلاة فيها والدعاء عندها والتبرك بها ، وزيارة هذه الأماكن في مكة أو المدينة والتعبد فيها هو من البدع المحدثة في دين الاسلام ، فليس هناك مساجد في الأرض تقصد للصلاة فيها إلا المساجد الثلاثة : ( المسجد الحرام ، ومسجد الرسول – - والمسجد الأقصى ) ، ومسجد قباء لمن كان بالمدينة. وليس هناك مغارات ولا أمكنة تزار في دين الاسلام لا في مكة ولا في المدينة ولا غيرهما لأنه لا دليل على ذلك ، والحاج إنما جاء يطلب الاجر والثواب من الله ، فليقتصر على ما شرعه الله ورسوله.
ولو أن الحاج وفر وقته للصلاة في المسجد الحرام إذا كان في مكة ، وفي مسجد الرسول إذا كان في المدينة. ووفر ماله للانفاق في سبيل الله والصدقة على المحتاجين ، لحصل على الأجر والثواب ، أما إذا أضاع هذه الإمكانيات في البدع والخرافات ،فإنه يحصل على إلاثم والعقاب ، فالواجب على الحاج أن يتنبه لهذا ، ولا يغتر بالجهال والمبتدعة. أو بما كتب في بعض المناسك من الترويج لهذه المبتدعات والدعاية لها. وعليه أن يُراجع المناسك الموثوقة التي أُلّفَتْ علي ضوء الكتاب والسنة لأجل المحافظة على سلامة عقيدته وحجه ، ويستشير هل أهل العلم فيما أشكل عليه.
وأما الأخطاء التي تتعلق بأعمال الحج فمنها :-
أولا :في الإحرام :
بعض الحجاجٍ القادمين عن طريق الجو يؤخرون الإحرام حتى ينزلوا في مطار جدة، فيحرموا منها أو دونها مما يلي مكة وقد تجوزوا المقيات الذي مروا به في طريقهم ، وقد قال في المواقيت : (( هي لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) ، فمن مر بالميقات الذي في طريقه أو حاذاه في الجو أو في الأرض وهو يريد الحج أو العمرة ، وجب عليه أن يُحْرم منه أو من محاذاته ، فإن تجاوزه وأحْرم من دونه أثِمَ وترك واجبا من واجبات النسك يجبره بدم ،لأن جدة ليست ميقاتا لغير أهلها ومن نوى النسك منها.
بعض الحجاج إذا أحرموا أخذوا لهم صورة تذكارية يحتفظون بها ويطلعون عليها أصدقاءهم ومعارفهم ، وهذا خطأ من ناحيتين :
أولا : أن التصوير في حد ذاته حرام ومعصية للأحاديث الواردة في تحريمه والوعيد عليه ، والحاج في عبادة فلا يليق به أن يفتتح هذه العبادة بالمعصية.
ثانيا : أن هذا يدخل في الرياء ،لأن الحاج إذا أحب أن يطلع الناس عليه وعلى صورته وهو محرم فإن هذا رياء ، والرياء يحبط العمل ، وهو شرك أصغر ، وهو من صفات المنافقين.
يظن بعض الحجاج أنه يجب على إلانسان إذا أراد أن يحرم أن يحضر عنده كل ما يحتاجه من الحذاء والدراهم وسائر الأغراض وأنه لا يجوز له أن يستعمل الأشياء التي لم يحضرها عند الإحرام ، وهذا خطأ كبير وجهل فظيع ،لأنه لا يلزمه شيء في ذلك ، ولا يَحْرُم عليه أن يستعمل الحوائج التي لم يحضرها عند الإلحرام. بل له أن يشتري ما يحتاج إلى شرائه ، ويستعمل ما يحتاج استعماله ، وأن يغير ملابس الإحرام بمثلها ، وأن يغير حذاءه بحذاء آخر ، ولا يتجنب إلا محظورات إلاحرام المعروفة.
بعض الرجال إذا أحرموا كشفوا أكتافهم على هيئة الاضطباع ، وهذا غير مشروع إلا في حال الطواف ( طواف القدوم ، أو طواف العمرة ) وما عدا ذلك يكون الكتف مستورا بالرداء في كل الحالات.
بعض النساء يعتقدن أن الإحرام يتخذ له لون خاص ، كالأخضر مثلاً ، وهذا خطأ ، لأنه لا يتعين لون خاص للثوب الذي تلبسه المرأة في الإحرام. إنما تُحِْرم بثيابها العادية. إلا ثياب الزينة ، أو الثياب الضيقة أو الشفافة ، فلا يجوز لبسها لا في إلاحرام ولا في غيره.
بعض النساء إذا أحرمن يضعن على رؤوسهن ما يشبه العمائم أو الرافعات لأجل غطاء الوجه حتى لا يلامس الوجه. وهذا خطأ وتكلف لا داعي له ولا دليل عليه ، لأن في حديث عائشة رضي الله عنها أن النساء كن يُغَّطيَن وجوههن عن الرجال وهن محرمات, ولم تذكر وضع عمامة أو رافع.
بعض النساء إذا مرت بالميقات تريد الحج أو العمرة وأصابها الحيض قد لا تحرم ظنا منها أو من وليها أن الإحرام تشترط له الطهارة من الحيض. فتتجاوز الميقات بدون إحرام ، وهذا خطأ واضح لأن الحيض لا يمنع الإحرام. فالحائض تحرم وتفعل ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت فإنها تؤخره إلى أن تطهر. كما وردت به السنة. وإذا أخرت إلاحرام وتجاوزت الميقات بدونه ، فإنها إن رجعت إلى ذلك الميقات وأحرمت منه فلا شيء عليها، وإن أحرمت من دونه فعليها دم لترك الواجب عليها.
ثانيا : الطواف :-
كثير من الحجاج يلتزم أدعية خاصة في الطواف يقرؤها من مناسك ، وقد يكون مجموعات منهم يتلقونها من قارئ يلقنهم إياها ويرددونها بصوت جماعي ، وهذا خطأ من ناحيتين :
الأولى : أنه التزم دعاء لم يرد التزامه في هذا الموطن ،لأنه لم يرد عن النبي – - في الطواف دعاء خاص.
الثانية : أن الدعاء الجماعي بدعة وفيه تشويش على الطائفين ، والمشروع أن يدعو كل شخص لنفسه وبدون رفع صوته.
بعض الحجاج ُيقََبَل الركن اليماني ، وهذا خطأ. لأن الركن اليماني يُسْتَلم باليد فقط ولا ُيَقَّبل. وإنما يُقَبل الحجر الأسود. فالحجر الأسود يستلم ويقبل إن أمكن ، أو يشار مع الزحمة إليه وبقية الاركان لا تستلم ولا تقبل.
بعض الناس يزاحم لاستلام الحجر الأسود وتقبيله ، وهذا غير مشروع ،لأن الزحام فيه مشقة شديدة وخطر على الإنسان وعلى غيره. وفيه فتنة مزاحمة الرجال للنساء. والمشروع تقبيل الحجر واستلامه مع إلامكان ، وإذا لم يتمكن أشار إليه بدون مزاحمة وخاطرة وافتتان ، والعبادات مبناها على اليسر والسهولة. لا سيما وأن استلام الحجر وتقبيله مستحب مع إلامكان... ومع عدم إلامكان تكفي الإشارة إليه. والمزاحمة قد يكون فيها ارتكاب محرمات، فكيف ترتكب محرمات لتحصيل سنة ؟.
ثالثا: في التقصير من الرأس للحج أو العمرة :
بعض الحجاج يكتفي بقص شعرات من رأسه وهذا لا يكفي ولا يحصل به أداء النسك ، لأن المطلوب التقصير من جميع الرأس لأن التقصير يقوم مقام الحلق ، والحلقْ لجميع الرأس ، فكذا التقصير يكون لجميع الرأس قال تعالى : مُحَلَِّقيَن رؤوسكم وُمقَصَّرين لا تخَافوَن والذي يقصر بعض رأسه لا يقال : إنه قصر رأسه ، وإنما يقال قصر بعضه.
رابعا : في الوقوف بعرفة :
بعض الحجاج لا يتاكد من مكان الوقوف ولا ينظر إلى اللوحات الإرشادية المكتوب عليها بيان حدود عرفة فينزل خارج عرفة ، وهذا إن استمر في مكانه ولم يدخل عرفة أبدا وقت الوقوف لم يصح حجه. فيجب على الحجاج الاهتمام بهذا الأمر والتأكد من حدود عرفة ليكونوا داخلها وقت الوقوف.
يعتقد بعض الحجاج أنه لابد في الوقوف بعرفة من رؤية جبل الرحمة أو الذهاب إليه والصعود عليه ، فيكلفون أنفسهم عنتا ومشقة شديدة ، ويتعرضون لأخطار عظيمة من أجل الحصول على ذلك. وهذا كله غير مطلوب منهم ، وإنما المطلوب حصولهم في عرفة في أي مكان منها لقوله – - : ((وعرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة )) سواء رأوا الجبل أو لم يروه ، ومنهم من يستقبل الجبل في الدعاء والمشروع استقبال الكعبة.
بعض الحجاج ينصرفون ويخرجون من عرفة قبل غروب الشمس وهذا لا يجوز لهم ، لأن وقت الانصراف محدد بغروب الشمس ،فمن خرج من عرفة قبله ولم يرجع إليها فقد ترك واجبا من واجبات الحج ويلزمه به دم مع التوبة إلى الله ، لأن الرسول ما زال واقفا بعرفة حتى غروب الشمس ، وقد قال : ((خذوا عني مناسككم )).
خامسا : في مزدلفة :
المطلوب من الحاج إذا وصل إلى مزدلفة أن يصلي المغرب والعشاء جمعا ويبيت فيها فيصلي بها الفجر ويدعو إلى قبيل طلوع الشمس. ثم ينصرف إلى منى. ويجوز لأهل الأعذار خاصة النساء وكبار السن والأطفال ومن يقوم بتولي شؤونهم الانصراف بعد منتصف الليل ، ولكن يحصل من بعض الحجاج أخطاء في هذا النسك ، فبعضهم لا يتأكد من حدود مزدلفة ويبيت خارجها. وبعضهم يخرج منها قبل منتصف الليل ولا يبيت فيها ، ومن لم يبت بمزدلفة من غير عذر فقد ترك واجبا من واجبات الحج يلزمه به دم جبرا مع التوبة والاستغفار.
سادسا: في رمي الجمرات :
رمي الجمرات واجب من واجبات الحج وذلك بأن يرمي الحاج جمرة العقبة يوم العيد ، ويجوز بعد منتصف الليل من ليلة العيد ويرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد زوال الشمس ، لكن يحصل من بعض الحجاج في هذا النسك أخطاء.
فمنهم: من يرمي في غير وقت الرمي ، بأن يرمي جمرة العقبة قبل منتصف الليل في ليلة العيد ، أو يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق قبل زوال الشمس. وهذا الرمي لا يجزئ لأنه في غير وقته المحدد له ، فهو كما لو صلى قبل دخول وقت الصلاة المحدد لها.
ومنهم: من يخل بترتيب الجمرات الثلاث فيبدأ من الوسطى أو الأخيرة. والواجب أن يبدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم بالكبرى وهي الأخيرة.
ومنهم: من يرمي في غير محل الرمي وهو حوض الجمرة ، وذلك بأن يرمي الحصى من بعد فلا تقع في الحوض. أو يضرب بها العمود فتطير ولا تقع في الحوض. وهذا رمي لا يجزئ ، لأنه لم يقع في الحوض. والسبب في ذلك الجهل أو العجلة أو عدم المبالاة.
ومنهم: من يقدم رمي الأيام الأخيرة مع رمي اليوم الأول من أيام التشريق ، ثم يسافر قبل تمام الحج ، وبعضهم إذا رمى لليوم الأول يوكل من يرمي عنه البقية ويسافر إلى وطنه. وهذا تلاعب بأعمال الحج وغرور من الشيطان ، فهذا الإنسان تحمل المشاق وبذل الأموال لأداء الحج ، فلما بقي عليه القليل من اعماله تلاعب به الشيطان فأخل بها وترك عدة واجبات من واجبات الحج ، وهي رمي الجمرات الباقية ن وترك المبيت بمنى ليلة أيام التشريق ، وطوافه للوداع في غير وقته ،لأن وقته بعد نهاية أيام الحج وأعماله. فهذا لو لم يحج أصلا وسلم من التعب وإضاعة المال لكان أحسن. لأن الله تعالى يقول: وأتموا الحج والعمرة لله ومعنى إتمام الحج والعمرة : إكمال أعمالهما لمن أحرم بهما على الوجه المشروع ، وأن يكون القصد خالصا لوجه الله تعالى.
من الحجاج من يفهم خطأ في معنى التعجل الذي قال الله تعالى فيه: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه فيظن أن المراد باليومين يوم العيد ويوم بعده ، وهو اليوم الحادي عشر ويقول: أنا متعجل. وهذا خطأ فاحش سببه الجهل ،لأن المراد يومان بعد العيد. هما اليوم الحادي عشر والثاني عشر. من تعجل فيهما فنفر بعد أن يرمي الجمار بعد زوال الشمس من اليوم الثاني فلا إثم عليه ، ومن تأخر إلى اليوم الثالث فرمى الجمار بعد زوال الشمس فيه ثم نفر فهذا أفضل وأكمل. فاتقوا الله عباد الله ، وأدوا حجكم على وفق ما شرع الله خالصا لوجهه تفوزوا بثوابه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون [البقرة:230]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/178)
في الحث على الصدق وقصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم
سيرة وتاريخ
القصص, غزوات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله والصدق. 2- فضل الصدق ومكانته. 3- قصة كعب وصدقه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين. اصدقوا مع الله واصدقوا مع عباد الله، ((فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)).
أيها المسلمون: إن الصدق بجميع أنواعه محمود. إن الصادق محبوب إلى الله وإلى الخلق. إن الله يرفع ذكره، ويزيد أجره.
وإن أبين دليل على ذلك ما يحصل من ثناء الناس على الصادقين في حياتهم وبعد مماتهم، أخبارهم مقبولة وأمانتهم موثوقة، قد أفلح الصادقون وخاب الكاذبون.
هذا كعب بن مالك صدق الله ورسوله فرفع الله ذكره، وأنزل في شأنه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، تخلف عن غزوة تبوك فلم يخرج مع النبي بلا عذر فلما رجع النبي جاء المتخلفون من أهل النفاق يعتذرون كذباً فيعذرهم ويكل سرائرهم إلى الله، ثم جاء كعب فتبسم النبي في وجهه تبسم المغضب وقال له: ((ما خلّفك؟)) فقال: والله لقد علمت لو حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل، والله ما كان لي من عذر قال النبي : ((أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك)) ، وكان معه رجلان من المؤمنين تخلفا بدون عذر فنهى النبي الناس عن كلامهم قال كعب فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، ولقد كنت أطوف في الأسواق فما يكلمني أحد وآتي رسول الله وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه أقول في نفسي: أَحرّك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ حتى إذا طال ذلك علي من هجر المسلمين تسلقت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فوالله ما رد علي السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت فأعدت عليه فسكت ثم أعدت فسكت فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت.
فبينما أنا أمشي في أسواق المدينة إذا بنبطي معه كتاب من ملك غسان فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك فالحق بنا نواسك، أي نجعلك مثلنا، فقلت: وهذا من البلاء، فقصدت به التنور فسجرته به.
وصدق كعب إن هذا من البلاء والامتحان، ولكن الإيمان الراسخ في قلب كعب والصدق الثابت في عقيدته منعاه أن يستجيب لهذه الدعوة المغرية التي جاءت في وقت مناسب لولا تثبيت الله لكعب بن مالك على أنه كان في ذلك الوقت في أعز شبابه ابن ثلاث وثلاثين سنة قال كعب: فلما مضت أربعون ليلة إذا برسول رسول الله يأتيني يقول إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: اعتزلها ولا تقربها، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمرما يشاء، فلبثنا عشر ليال حتى كمل لنا خمسون ليلة.
فبينما أنا جالس على ظهر بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخاً على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك. فخررت ساجداً لله وعرفت أن الله قد جاء بالفرج بالتوبة علينا. وانطلقت أقصد رسول الله وتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بتوبة الله حتى دخلت المسجد فسلمت على النبي والناس حوله فقال وهو يبرق وجهه من السرور: ((أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك)) قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال : ((من عند الله)) قلت: يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، فوالله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي.
أيها المسلمون: هذه والله هي الغبطة والنعمة والفائدة الكبيرة انظروا إلى هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا فأدبهم الله بهذا الهجر من رسوله وأصحابه، وانظروا إلى هذا الإيمان التام من الصحابة، هجروا أقاربهم وبني عمهم امتثالاً لأمر رسول الله حتى إذا ضاقت الحال وتراكمت الكربات جاء الفرج من الله فتاب عليهم وأعلنت توبتهم في كتاب الله تتلوها الأمة إلى يوم القيامة أما الذين نافقوا وكذبوا فأنزل الله فيهم: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين [التوبة:95-96].
أيها المسلمون: اعتبروا بهذه الآيات وانظروا ما تختارون لأنفسكم فلن يرضى المؤمن إلا أن يكون من الصادقين المتقين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/179)
الحث على المسارعة إلى الخيرات
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب المبادرة بالطاعة قبل الموت , والأمر بذلك – حرص الشيطان على تعويق المرء عن
الطاعة , ومن ذلك التأخر عن الجمعة ,
والجماعة , وخطورة ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:-
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وبادروا حياتكم قبل فنائها، وأعماركم قبل انقضائها بفعل الخيرات والاكثار من الطاعات، فإن الفرص لا تدوم، والعوارض التي تحول بين الانسان وبين العمل غير مامونة، وأنت أيها العبد بين زمان مضى لا تستطيع رده، وزمان مستقبل لا تدري: هل تدركه أو لا؟ وزمان حاضر إن استفدت منه، وإلا ذهب منك وأنت لا تشعر، فاستدرك ما مضى بالتوبة مما فرطت فيه، واستغل حاضرك بإغتنام أيامه ولياليه، واعزم على الاستمرار في الطاعة فيما تدرك من مستقبلك يكتب لك ثواب نيتك إن لم تدركه، وتوفق إن أدركته لعمل ما نويته فيه.
عباد الله: إن الله سبحانه قد أمرنا بالمسارعة والمسابقة إلى الخيرات قبل فواتها قال تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين ، قال تعالى: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [الحديد:21].
والمسارعة والمسابقة تعنيان المبادرة إلى تحصيل شيء يفوت بالتاخير عن طلبه ويندم على فواته. لا سيما إذا كان ذلك الفائت شيئا عظيما تتعلق به النفوس، ولا شيء أعظم من الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض. ومن فاتته فليس له بديل عنها إلا النار، فما أعظم الحسرة، وما أفدح الخسارة، ويا هول المصيبة. لقد وصف الله رسله وصفوة خلقه ومن اتبعوهم بأنهم يسارعون في الخيرات. فقال تعالى: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين [الأنبياء:90]، وقال تعالى: أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [المؤمنون:61].
وهؤلاء هم القدوة لأنهم اصحاب العقول النيرة، والبصائر التي تدرك العواقب، وتعرف المصالح والمضار، بما أعطاهم الله من نور الايمان، وفهم القران، وبما عرفوا قدر المطلوب وقيمته وهو الجنة وسرعة زوال الوقت وفواته، وبادروا بالطلب قبل فوات الأوان، ومدحهم الله واثنى عليهم في محكم القران، ليكونوا قدوة صالحة لبني الانسان.
إن الإنسان قد أعطي إمكانات يستطيع بها المسارعة إلى الخيرات إذا استغلها لذلك، أعطي صحة في جسمه، ووقتا للعمل، وفراغا له، وكل واحدة من هذه الامكانات لها مضاد يبطلها إن لم تستغل قبل حصوله، فالصحة يعرض لها المرض، والوقت ينقضي ويزول، والفراغ يشغل بأمور أخرى، فالواجب على الانسان استغلال هذه الطاقات بالخير، قبل أن تعطل بالعوارض.
عباد الله: إن الشيطان يحرص على تفويت الخير على ابن ادم ويحاول حبسه عنه مهما استطاع، فإن استطاع منع ابن آدم من فعل الخير بالكلية وشغله بالشر فإنه لا يالوا جهدا في ذلك، كما فعل بالكفار والمنافقين، وإن لم يستطع منع ابن ادم من الخير فإنه يكسله عنه ويشغله عنه حتى يفوته عليه، كما يكسل عن الصلاة وإخراج الزكاة، وكما يفعل مع كثير من الناس اليوم ممن يرتادون المساجد للجمعة والجماعة، فإنه في صلاة الجمعة يكسلهم عن التبكير بالحضور إليها، فبعضهم لا ياتي الا عند دخول الخطيب، وبعضهم لا ياتي إلا عند الاقامة، وبعضهم لا ياتي إلا في آخر الصلاة، فيفوت عليهم ثواب التبكير إلى الجمعة، وقد ورد في حديث ابي هريرة – - أن رسول الله قال : (( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى فكانما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكانما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر )) ، متفق عليه.
ومن الناس من يفوته هذا الاجر ويفوته استماع الخطبة ايضا فلا يحضر إلا عند الاقامة أو في آخر الصلاة.
وإستماع الخطبة أمر مطلوب من المسلم؛ لأن النبي – - حث على إستماعها، ونهى عن الكلام والامام يخطب؛ لأنه يشغل عن ذلك، عن علي بن ابي طالب – - قال : إذا كان يوم الجمعة خرجت الشياطين يرّيثون الناس إلى اسواقهم – أي: يؤخرونهم – وتقعد الملائكة على ابواب المساجد يكتبون الناس على قدر منازلهم، السابق والمصلي والذي يليه حتى يخرج الامام، فمن دنا من الامام فأنصت واستمع ولم يلغ كان له كِفْلان من الأجر، ومن نأى، أي : بعد عن الامام، فاستمع وانصت ولم يلغ كان له كِفْل من الاجر، ومن دنا من الامام فلغا ولم ينصت ولم يستمع كان عليه كِفْلان من الوزر... الحديث، قال علي بن ابي طالب – - : سمعته من نبيكم – - ورواه احمد وأبو داود بلفظ آخر.
وعن أبي هريرة – - قال: قال رسول الله – - : ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام )) ، رواه مسلم وغيره، ومعنى : غُفر له، أي : غُفرت ذنوبه الصغائر وذلك بشرط اجتناب الكبائر.
وفي هذين الحديثين أن استماع الخطبة أمر مقصود ومطلوب من المسلم يؤجر عليه إذا فعله. ويأثم إذا تركه. ويفوته الانتفاع بما يرد في الخطبة من الوعظ والتذكير والارشاد إلى ما فيه الخير والتنبيه على الأخطاء التي قد يكون مرتكبا له وهو لا يدري.
وبعض الناس يستهين بشأن الخطبة ولا يلقي لها بالا، بل يعتبرها أمرا عاديا، فلذلك يحرمون من فوائدها وأجر الاستماع لها، والله سبحانه قد أمر بالسعي إليها وحضورها في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ، وذكر الله: هو الخطبة في قول كثير من المفسرين. مما يدل على أهمية الخطبة وتأكد حضورها واستماعها. ومما يفوت على الذي يتأخر في حضوره لصلاة الجمعة: حصوله على مكان في الأول والتنفل بالصلاة وقراءة القرآن قبل الخطبة وذلك نقص عظيم لما روي عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله – - يقول : ((من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الامام فاستمع ولم يلغ؛ كان له بكل خطوة عمل سَنة أجر صيامها وقيامها )). رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما.
فاتقوا الله – عباد الله – ولا تفوتوا على أنفسكم هذه الخيرات، والذي يطلب منكم إنما هو زمن يسير تتقدمون فيه إلى الجمعة وتحصلون فيه على هذه الخيرات العظيمة. والوعود الكريمة، ولو ذكر لأحدكم طمع دنيوي - ولو كان يسيرا - لبادر إلى طلبه وصبر على ما يعترضه من المشاق ولم يتأخر عنه. فهل أنتم ممن يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة، وهل ترضون لأنفسكم بالصفقة الخاسرة ؟.
فاتقوا الله – عباد الله – وامتثلوا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إلى آخر السورة [الجمعة:9-11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، شهد لِعُمَّار بيوته بالايمان، فقال : إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله واصحابه ومن اهتدى بهداه، وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واستبقوا الخيرات قبل فواتها، وحاسبوا أنفسكم على زلتها وهفواتها، وكفوها عن الإغراق في شهواتها، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الاماني.
عباد الله : من الناس من يتأخر عن حضوره صلاة الجماعة، فلا يأتي الا عند الإقامة، أو بعد ما يفوت بعض الصلاة أو كلها، فهو يقوم إلى الصلاة ويأتي إليها، ولكنه كقيام واتيان الذين قال الله فيهم: واذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى [النساء:142]، وقال فيهم: ولا ياتون الصلاة إلا وهم كسالى [التوبة:54].
والبعض الاخر يتأخر نهائيا عن الحضور ويصلي في بيته منفردا، وبعدما يخرج وقت الصلاة، فيكون من المضيعين للجماعة والمضيعين للوقت، وذلك في الحقيقة تضييع للصلاة. كما قال تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً [مريم:59]. وقال فيهم: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [طاعون:4-5]. وذلك بسبب تلاعب الشيطان بهم وشغله إياهم بأنواع من الملهيات عن ذكر الله وعن الصلاة، بعضهم يشغله بلهو الحديث الذي هو استماع الملاهي والأغاني ومشاهدة الأفلام والمسلسلات حتى يضيع عليه الجماعة أو وقت الصلاة وقد يسهر على ذلك وينام عن صلاة الفجر، فيكون من الذين قال الله تعالى فيهم: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين ، ولهو الحديث هو الأغاني وما يصحبها من الات اللهو كالمعازف والمزامير. وما جد في هذا الزمان من الافلام والمسلسلات،فإنه يدخل في لهو الحديث، ومن الناس من يصده الشيطان عن ذكر الله وعن الصلاة بشرب المسكرات، وتناول المخدرات ولعب القمار، وقد قال الله تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذلك الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [المائدة:91]، فيجمعون بين ترك الصلاة وفعل المحرمات.
ومن الناس من يصده الشيطان عن ذكر الله وعن الصلاة بطلب الدنيا والبيع والشراء، ومزاولة الاعمال الدنيوية وقت الصلاة، وقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون.
وقد مدح الله الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة، ووعدهم بالثواب الجزيل فقال تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب [النور:36-38].
ومن الناس من يحضر الصلاة في الجمعة والجماعة، ولكنه يترك في بيته رجالا لا يحضرون الصلاة من أبنائه أو إخوانه، أو من يسكنون معه لا يأمرهم ويلزمهم بالحضور معه، وهذا يعتبر قد أدى واجبا بحضوره، لكنه ترك واجبا بترك من خلفه ممن مكلف بأمرهم وإلزامهم والقيام عليهم.
فاتقوا الله – عباد الله – بأداء ما أوجب الله عليكم في خاصة انفسكم، وما أوجب الله عليكم نحوا أولادكم ومن تحت ولايتكم (( كلكم راع ومسؤول عن رعيته )).
واعلموا ان خير الحديث كتاب الله...
(1/180)
حفظ اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد الحميد التركستاني
الطائف
24/4/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بحفظ اللسان. 2- فضيلة الصمت. 3- خطورة ما يصدر عن اللسان. 4- الدعوة
لحبس اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وامتثلوا ما أمركم به على لسان نبيه من حفظ اللسان وكف الأذى عن الجيران وعدم الكلام إلا بما يرضي الرحمن فقد روى أبو هريرة أن رسول الله قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) متفق عليه.
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى
إن البلاء موكل بالمنطق
سوف يكون حديثي في هذا اليوم عن فضل الصمت والسكوت وذم الكلام والثرثرة والتشدّق والكلام فيما لا يعني ولا يفيد، وما يفضي إليه كثرت الكلام من الإثم والخطأ والزلل.
ولهذا قال الأحنف بن قيس (الصمت أمان من تحريف اللفظ وعصمة من زيغ المنطق، وسلامة من فضول القول وهيبة لصاحبه).
فالكلمة الطيبة صدقة فعليك يا أخي المسلم ألا تتكلم إلا بخير وبما يعود بالنفع ولهذا كان الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم فإنه أكثر ما يندم إذا نطق، وأقل ما يندم إذا سكت، وأطول الناس شقاءا وأعظمه بلاءا من ابتلي بلسان مطلقٍ لا يسكت ولا يكِلّ ولا يتعب ولقد أحسن الذي يقول:
إن كان يعجبك السكوت فإنه قد كان يعجب قبلك الأخيار
ولئن ندمت على سكوت مرة فلقد ندمت على الكلام مرارا
إن السكوت سلامة ولربما زرع الكلام عداوة وضرارا
أيها الإخوة:
إن الصمت خصلة من خصال الإيمان وسبب موجب لصاحبه إن كان مؤمنا لدخول الجنان فقد ورد عن النبي العدنان عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال: ((من صمت نجا)) وقال أيضا: ((من يضمن لي ما بين لحييه – يعني اللسان وما بين فخذيه أضمن له الجنة)).
ولهذا يقول ابن مسعود : (ما شيء أحوج إلى طول حبس من لسان) وقد كان أبوبكر الصديق يمسك بلسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد).
فحفظ اللسان من كثرة الكلام ولزوم الصمت سلامة من الشر، ومنجاة من الهلكة، والمرء مخبوءٌ تحت لسانه فإذا تكلم بان وظهر، ورحم الله امراء قال فغنم وسكت فسلم: ((ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ، ولهذا عندما أوصى النبي عليه الصلاة والسلام معاذ بن جبل بوصايا كثيرة فقال يا رسول الله أوصني بملاك هذا كله فقال له: - وأشار إلى لسانه – ((أمسك عليك هذا)) فقال معاذ: أو إنّا مؤاخذون بما نتكلم؟ فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)) وقد أكثر العلماء والحكماء وغيرهم في الأمر بحفظ اللسان وترك الكلام فيما لا خير فيه، وقد رأى النبي ثقبا صغيرا يخرج منه ثور كبير ويحاول الرجوع إليه فلا يستطيع فسأل عنه فقيل له: هذا مثل الكلمة تخرج من فم الإنسان يستطيع ردّها، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا تكون عليه حسرة وندامة يوم القيامة وكما قيل: إن اللسان صغير جِرمه كبير جُرمه كما قد قيل في المثل.
وما خلق الله للإنسان لسانا وأذنين إلا ليسمع أكثر مما يقول وقد عدّ بعض العلماء للسان عشرين آفة كلها من الكبائر ولهذا يقول الأوزاعي: (ما بلي أحد في دينه ببلاء أضر عليه من طلاقة لسانه).
أيها الإخوة: إن قلة الكلام ولزوم الصمت أدب من الآداب التي ينبغي لكل فرد منا ولكل مسلم أن يتحلى بهذا الأدب الرفيع ولذلك فإن العلوم التي لها صلة بأدب اللسان وأدب الكلام تعتبر مفروضة فرض عين لما يترتب على ذلك من آثار بنّاءة أو مدمرة في قضية الفرد أو الأسرة أو المجتمع.
وإذا نسي المسلم أدب الكتمان ولزوم الصمت فكم يترتب على ذلك من مآسي قد تبلغ التدمير للأمة فضلا عن الفرد، وكما قيل: رب كلمة قالت لصاحبها دعني، وإذا نسي المسلم تحريم الغيبة أو النميمة فكم يترتب على ذلك من فساد وإفساد في أكثر من محيط وعلى أكثر من مستوى.
وإذا فات المسلم أن يزن كلمته التي ينطق بها فكم يترتب على ذلك من أخطاء وآثار وجراح ومشاكل قد لا تنتهي فينبغي للمسلم أن يزن كلمته وأن يحذر الاسترسال في الكلام فإن للكلام سقطات وكما قال عمر بن الخطاب : (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلّ حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه)، وكما قيل:
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
وقال ابن المبارك رحمه الله:
جربت نفسي فما وجدت لها من بعد تقوى الإله كالأدب
في كل حالاتها إن كرهت أفضل من صمتها عن الكذب
أو غيبة الناس إن غيبتهم حرمها ذو الجلال في الكتب
قلت لها طائعا وأكرهها الحلم والعلم زين ذي الحسب
إن كان من فضة كلامك يا نفس فإن السكوت من ذهب
وقد ورد عن النبي أحاديث كثيرة في حفظ اللسان وفضل الصمت وقد سئل مرة: ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال: ((الأجوفان الفم والفرج)) ، وقال في حديث آخر: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) رواه أحمد. فاللسان بريد القلب وترجمانه والمعبر عنه وهو الجارحة التي تخضع لها بقية جوارح البدن وكما ورد في الحديث أن النبي قال: ((إذا أصبح ابن آدم، أصبحت الأعضاء كلها تكفر اللسان - أي تذل وتخضع له- وتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا)) وفي الترمذي من حديث ابن عمر أن النبي قال: ((لا تكثر الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي)) وقيل: إن اللسان يقول كل يوم للجوارح: كيف أنتن؟ فيقلن له: نحن بخير ما تركتنا، وإذا كان من الخير ومن تمام الإيمان أن تقول خيرا أو تصمت فالنطق بالخير أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، وتعلّم الجاهل، وتذكر الغافل وتنذره من عقاب الله، وترشد الضال إلى طريق الهداية ومن ذلك تلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل، والإصلاح بين المتخاصمين، وإفشاء السلام ومخاطبة الناس بطيب الكلام لا سيما أهل الإسلام وقولوا للناس حسنا ، والدعاء بما تريد من الصالحات وبما تريد من خيري الدنيا والآخرة والصلاة على سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وغير ذلك من الأمور التعبدية المرغب في العمل بها بما يوافق الشرع.
وأما كف اللسان ولزوم الصمت وحفظه عن الشر فمن ذلك الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور والسب والشتم واللعن وقذف المحصنات والسخرية من الآخرين والهمز واللمز وإفشاء السر وبذاءة اللسان والخصومة والجدال بغير الحق وكثرة المزاح باللسان فإنه ثقيل على القلب ويجرح مشاعر الآخرين ويورّث الحقود الكمينة، ويحرك الضغينة وكذا فضول الكلام، الذي لا حاجة إليه والكلام بما لا يعنيه، والتشدق في الكلام والتقعر فيه، لا ليأتي صاحبه بالحكمة البالغة، والموعظة المؤثرة، ولكن ليظهر فضله على الناس ويتعالى عليهم ويحب المدح منهم بما ليس فيه وفي الحديث الحسن: ((شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون بالكلام)) وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((يأتي على الناس زمان يتخللون الكلام بألسنتهم كما تتخلل البقرة الكلأ بلسانها)) ، ومن الناس من يعجبه كثرة الكلام ولو كان فيه حتفه، قوال، وثرثار مكثار، إذا جلس معك أقحمك بالخوض في الباطل، والحديث فيما لا يعنيه، قد جرد لسانه مقراضا لتمزيق الأعراض والاستثمار بالآخرين والطعن في الصالحين أو الاستطالة على من هم دونه في العلم والجسم، وربما حرص أن يتكلم في جمعٍ من الناس، فكذب ولحن في القول والفعل، وجعل الصواب خطأ، والخطأ صوابا، والحق باطلا، والباطل حقا ومع ذلك يحب أن يتكلم في كل مجلس بنوع مشاركة سواء كان الحديث مناسبا أم لا؟ فهو يهرف بما يعرف وما لا يعرف.
ولا شيء أخطر على أحد من لسانه كالمرأة التي تتكلم بلا حساب، ولا تسكت عن ذكر جاراتها وما فعلن، وكيف كان الاجتماع يوم أمس واليوم في بيت فلانة وما يقول النساء هناك وما يصنعن، وبعضهن يذكرن ما يقع بينها وبين زوجها من المعاشرة، وبعضهن يحتقرن الأخريات من النساء فهذه في نظرها قصيرة وهذه سمينة، وهذه قبيحة وهذه لا تعجبني وهذه متكبرة وهذه كيت كات وهكذا فنجد مثلا مجالس النساء كلها إلا ما ندر بمثل الحال التي ذكرنا والسبب في ذلك عدم الوعي وقلة المعرفة وضعف الدين وانطماس البصيرة والركون إلى الدنيا ومسايرة الركب حتى لا يقال عنها أنها لا تحسن معاشرة الناس وليست لديها أي اهتمام بما يحدث ويصير فتضطر أن تركب الصعب وتترك الخير ولا تلزم الصمت فتقع في المحظور.
وبعض من ليس له حظ من العلم يغتاب الأحياء والأموات بحجة تحذير الناس وتيين الخطأ من الصواب، ولا يترك حيا ولا ميتا من أهل الفضل إلا ويقول فيه شرا أو ينسب إليه ما هو منه بريء أو يحمل عليه حملة منكرة لزلة قلم أو سبق لسان وسبحان من لا عيب فيه، ولا تخفى عليه نيات عباده وكما قيل:
شر الورى من بعيب الناس مشتغل
مثل الذباب يراعي موضع العلل
وكثرة الجدال والمراء ومجاراة السفهاء من آفات اللسان والحكيم الرشيد من حفظ نفسه، وكف لسانه إلا عن حق ينصره، أو باطل ينكره أو غيبة يردها عن أخيه المسلم الغائب وقد ورد في الحديث: ((من حمى مؤمنا من منافق يعيبه، بعث الله ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم)) رواه أبو داود وهو حديث حسن.
معشر المسلمين: يا من تريدون النجاة في الآخرة إن النجاة لا تكون إلا بحفظ اللسان كما ذكرنا، وقد ورد في الحديث الصحيح أن عقبة بن عامر لحق النبي فقال له: ((ما النجاة؟ فقال: أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك)) رواه الترمذي وأحمد.
فاتقوا الله أيها المسلمون واحرصوا كل الحرص على الكلام وليكن صمت الواحد منا فكراً أو نطقه ذكرا ونظره عبرا حتى نسلم من غضب الله وعقوبته وبطشه فالصمت تفكر وذكر ودعاء ومناجاة والكلام لخير في الدين أو الدنيا وما سوى ذلك فهو من اللغو الذي نهانا الله عنه، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بلغني أن العبد ليس على شيء من جسده بأحسن منه على لسانه يوم القيامة، إلا أن يكون قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم).
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا.
والكلام أربعة أقسام:
ضرر محض كالكذب والنميمة وغيرها من الصفات التي ذكرنا آنفا، وقسم نفع محض وهذا كله خير كالذكر والأمر والنهي، وغير ذلك، وقسم فيه نفع وفيه ضرر فالمصلحة والامتناع منه خشية أن يزيد ضرره على نفعه ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقسم لا ضرر فيه ولا منفعة وهو الكلام الفاضي الذي أكثر الناس عليه من قصص ومغامرات ونكت فهذا ينبغي تركه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: بعد الذي ذكرنا من آفات اللسان والترغيب في لزوم الصمت نذكر الآن بعض ما ورد من الأحاديث التي ذكر فيها الوعيد الشديد لمن ألقى الكلام جزافا دون التفكر في عاقبته فمن ذلك ذكر للنبي امرأة كانت تكثر من صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال عليه الصلاة والسلام: ((هي في النار)) ، رواه أحمد والبيهقي.
وورد أيضا في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) ، وفي مسند الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة بسند صحيح عن بلال بن الحارث المزني قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له من رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه)) ، فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث.
وقال سلمان : (أكثر الناس ذنوبا يوم القيامة، أكثرهم كلاما في معصية الله)، فبالله عليكم كيف يكون حال المغنيين الذين يصدون الناس بالباطل عن الله، فمن تكلم بالباطل فهو شيطان ناطق.
ولهذا قال عبد الله : (أكثر الناس خطايا يوم القيامة، أكثرهم خوضا في الباطل)، وقال إبراهيم: (المؤمن إذا أراد أن يتكلم نظر، فإن كان كلامه له تكلم، وإلا أمسك عنه، والفاجر إنما لسانه رسلا رسلا).
وذكر ابن كثير رحمه الله عن ابن عباس في قوله تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت، وذكر أيضا عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه الذي مات فيه، فبلغه عن طاووس أنه قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين، فلم يئن الإمام أحمد رحمه الله حتى مات.
وكان طاووس رحمه الله، يعتذر من طول السكوت، ويقول: إني جربت لساني، فوجدته لئيما وضيعا. وقال أحد السلف: إن ترك فضول الكلام والطعن في الناس أشق على النفس من قيام الليل: وقال آخر: كثرة الكلام تذهب بالوقار، وقال عمر بن قيس: أن رجلا مر بلقمان الحكيم والناس مجتمعون حوله، فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال :بلى، قال: ألست الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فما الذي بلغ بك ما أرى؟ قال: (بصدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني)، وأما ما ورد عن السلف في حفظهم لمنطقهم وكلامهم فمن ذلك يقول ميمون بن سياه: ما تكلمت بكلمة منذ عشرين سنة، لم أتدبرها قبل أن أتكلم به، إلا ندمت عليها، إلا ما كان من ذكر الله)، وعن أبي عبيد قال: (ما رأيت رجلا قط أشد تحفظا في منطقه من عمر بن عبد العزيز ))، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله (كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة).
وعن أرطأة بن المنذر قال: (تعلم رجل الصمت أربعين سنة، بحصاة يضعها في فمه، لا ينزعها إلا عند طعام أو شراب أو ذكر أو نوم).
وقال شداد بن أوس مرة لغلامه (إئتنا بسفرتنا فنعبث ببعض ما فيه فقال له بعض أصحابه: ما سمعت منك كلمة منذ صاحبتك، أرى أن يكون فيها شيء من هذه؟ قال: صدقت ما تكلمت بكلمة مذ بايعت رسول الله إلا ألزمها وأخطمها إلا هذه، وأيم الله لا تذهب مني هكذا، فجعل يسبح ويكبر ويحمد الله عز وجل) وقال سفيان الثوري رحمه الله (طول الصمت مفتاح العبادة)، وقال كعب (قلة المنطق حكم عظيم فعليكم بالصمت فإنه خلق حسن وقلة وزر، وخفة من الذنوب) وفي الحديث: ((المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه)).
أيها الأخ المسلم: اعلم أنه قد وكل بك ملك عن اليمين وعن الشمال فأما الذي عن يمين فيحفظ الحسنات وأما الذي عن الشمال فيحفظ السيئات، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، وحسبك أن تستشعر وأنت تهم بأية حركة أو بأية كلمة أن عن يمينك وعن شمالك من يسجل عليك الحركة والكلمة، لتكون في سجل حسابك بين يدي الله الذي لا يضيع عنده فتيل ولا قطمير، ولذلك فإن الإنسان منا يجد كتابه قد حوى كل شيء صدر منه، وعندما يرى الكل كتب أعمالهم يوم القيامة فإنهم يقولون: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ، فقل خيرا تغنم وإلا فاعلم أنك ستندم فهل بعد الذي سمعنا يكون هناك مطمع في كلام أو رغبة في ملام؟ فاحذروا رحمكم الله من ألسنتكم واعلموا أن قبل اللسان شفتان وأسنان فهل يحجزاكم عن الكلام؟ أرجو أن يكون كذلك اللهم انفعنا بما سمعنا ووفقنا لحسن القول ولزوم الصمت إنك على كل شيء قدير.
(1/181)
الكذب وشؤمه
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, مساوئ الأخلاق
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله والصدق في عبادته ومع عباده وكيفية ذلك. 2- فضل الصدق وغايته
ومرتبة الصادق. 3- التحذير من الكذب في عبادة الله وكيفية ذلك. 4- خطورة الكذب ومرتبة
صاحبه ، والتحذير من التهاون فيه. 5- التحذير من الكذب لإضحاك الآخرين ، وعلى الأطفال.
6- أثر الكذب والتفريط في تعاليم الإسلام في الصد عن سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين في عبادة الله ومع الصادقين في عباد الله، اصدقوا الله تعالى في عبادته اعبدوه مخلصين له غير مرائين في عبادته ولا مسمعين.
امتثلوا أمره طلبا للقرب منه الحصول على ثوابه. اجتنبوا نهيه خوفا من البعد عنه والوقوع في عقابه لا تبتغوا في عبادته أن يراكم الناس أو يسمعوكم فيمدحوكم عليها، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معه غيره تركه وشركه.
اصدقوا النبي في اتباعه ظاهرا وباطنا غير مقصرين في سنته ولا زائدين عليها اصدقوا الناس في معاملتهم أخبروهم بالواقع فيما تخبرونهم به وبينوا لهم الحقيقة فيما تعاملونهم به ذلك هو الصدق الذي أمركم الله به ورسوله يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:119].
ويقول النبي : ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا))، لقد بين رسول الله في هذا الحديث أن للصدق غاية للصادق ومرتبة، أما غاية الصدق فهي البر والخير ثم الجنة وأما مرتبة الصادق فهي الصديقية وهي المرتبة التي تلي مرتبة النبوة: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً [النساء:69]. وإن الصادق لمعتبر بين الناس في حياته ومماته فهو موضع ثقة فيهم في أخباره ومعاملته وموضع ثناء حسن وترحم عليه بعد وفاته.
واحذروا أيها المسلمون من الكذب احذروا من الكذب في عبادة الله لا تبعدوا الله رياء وسمعة وخداعا ونفاقا، واحذروا من الكذب في اتباع رسول الله، لا تبتدعوا في شريعته ولا تخالفوه في هديه، واحذروا من الكذب مع الناس، لا تخبروهم بخلاف الواقع ولا تعاملوهم بخلاف الحقيقة، إن المؤمن لا يمكن أن يكذب لأن الكذب من خصال المنافقين: والله يشهد إن المنافقين لكاذبون [المنافقون:1]. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون [البقرة:10]. إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [النحل:105].
إن المؤمن لا يمكن أن يكذب لأنه يؤمن بآيات الله يؤمن برسوله يؤمن بقول النبي : ((إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) ، ما أقبح غاية الكذب وما أسفل مرتبة الكاذب، الكذب يفضي إلى الفجور وهو الميل والانحراف عن الصراط السوي ثم إلى النار، ويا ويل أهل النار.
والكاذب سافل لأنه مكتوب عند الله كذابا، وبئس هذا الوصف لمن اتصف به. إن الإنسان لينفر أن يقال له بين الناس: يا كذاب. فيكفي يقر أن يكتب عند خالقه كذابا، وإن الكاذب لمحذور في حياته لا يوثق به في خبر ولا معاملة، وإنه لموضع الثناء القبيح بعد وفاته.
ولقد قرن الله تعالى الكذب بعبادة الأوثان فقال تعالى: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور [الحج:30]. فهل بعد ذلك سبيل إلى أن يتخذ المؤمن الكذب مطية لسلوكه أو منهجا لحياته.
لقد كان الكفار في كفرهم وأهل الجاهلية في جاهليتهم لا يمتطون الكذب ولا يتخذونه منهجا لحياته أو بلوغ مآربهم، هذا أبو سفيان ذهب قبل أن يسلم في ركب من قريش تجاراً إلى الشام فلما سمع به هرقل ملك الروم بعث إليهم ليسألهم عن النبي قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه أو عليه.
هكذا أيها المؤمنون، الكفار في كفرهم وأهل الجاهلية في جاهليتهم يترفعون عن الكذب ويستحيون من أن يؤثر عليهم وينسب إليهم، فكيف بكم أنتم أيها المؤمنون وقد حباكم الله تعالى بهذا الدين الكامل الذي يأمركم بالصدق ويرغبكم فيه ويبين لكم نتائجه وثمراته الطيبة وينهاكم عن الكذب ويحذركم منه ويبين لكم نتائجه وثمراته الخبيثة.
إن أبا سفيان في حال كفره تنزه أن يوصف بالكذب ولو مرة واحدة مع أنه كان يرى أن له مصلحة في كذبه عما يخبر به عن رسول الله ، وإن بعض المنخدعين من هذه الأمة ليستمرئ الكذب ويفتي نفسه بحله إما لتهاون بالكذب، وإما لاعتقاد فاسد، يظن أن الكذب لا يحرم إلا إذا تضمن أكل مال، وإما لطمع مادي يتمتع به في دنياه، وإما لتقليد أعمى لا هداية فيه، وكل ذلك خداع لنفسه وتضليل لفكره فالتهاون بالكذب عنوان الرذيلة فالكذبة والواحدة تخرق السياج الحائل بينك وبين الكذب حتى لا يبقى دونه حائل، فالكذب كغيره من المعاصي تستوحش منه النفس المطمئنة الراضية المرضية، فإذا وقعت فيه مرة هان عليها شأنه ثم تقع منه ثانية فيهون عليها أكثر حتى يصبح كأنه سجية وطبيعة، فيكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
والكذب حرام وإن لم يكن فيه أكل لمال الغير بالباطل، إذ لم يكن في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله أن تحريمه مشروط بذلك، ولكنه إذا تضمن أكل مال بالباطل كان أعظم جرما وأشد عقوبة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي عد الكبائر وفيها اليمين الغموس قيل ما اليمين الغموس قال: ((التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب)) [رواه مسلم]. وقال : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال: رجل وإن كان شيئا يسيرا قال وإن كان قضيبا من أراك)) [رواه أحمد ومسلم].
إن بعض الناس يكذب ليضحك به القوم فيألف ذلك لما يرى من ضحك الناس ويستمر على عمله فيهون عليه وقد جاء في الحديث: ((ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له)) [أخرجه الثلاثة وإسناده قوي].
وإن بعض الناس يكذب على الصبيان لأنهم لا يوجهون إليه النقد، ولكنه في الحقيقة أوقع نفسه في الكذب وفتح لهم باب التهاون به والتربي عليه، وعن عبد الله بن عامر أن أمه دعته فقالت: تعال أعطك فقال النبي : ((ما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرا فقال لها رسول الله : أما إنك لو لم تعطه شيئا لكتبت عليك كذبة)) [رواه أبو داود والبيهقي].
فاتق الله: أيها المسلم اتق الله في نفسك واتق الله في مجتمعك واتق الله في دينك. ألم تعلم أن الدين يظهر في أهله فإذا كان مظهر الأمة الإسلامية مظهر كذب وتقليد أعمى وأكل مال الغير بغير حق فأين المظهر الإسلامي أرأيت إذا ظهر المسلمون بهذا المظهر المشين أفلا يكونون سببا للتنفير عن دين الإسلام، ألا يكونون فريسة لأراذل الأنام؟
إن أعدائهم ليسخرون بهم ويضحكون إذا رأوهم على تلك الحال، كذب في المقال وخيانة في الأمانة، وغدر في العهد وفجور في الخصومة.
وإن أعدائهم ليفخرون عليهم إذا رأوهم يقلدونهم حتى في رذائل الأخلاق التي يحذرهم الإسلام منها.
فعجبا وأسفا لأمثال هؤلاء القوم الذين ألبسوا أنفسهم ما تعروا به أمام أعدائهم واتبعوا سبيل الهالكين وابتعدوا عن سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء واهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/182)
في التحذير من الذنوب وعقوباتها
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
آثار المعاصي , وكونها من الإفساد في الأرض – تفاوت الذنوب وتفاوت مفاسدها , وأقسامها
التحذير من كبائر الذنوب , وبيان لبعض الكبائر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :-
أيها الناس : اتقوا الله تعالى واحذروا المعاصي فإن لها أثرا سيئا على العاصي وعلى المكان والسكان، قال تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها [الأعراف: 56] أي: لا تفسدوا فيها بالشرك والمعاصي والظلم بعد إصلاحها بالتوحيد والعدل والطاعة وإرسال الرسل.
فالمعاصي تضر بالقلوب كضرر السموم في الأبدان. وهل ما في الدنيا والآخرة من شرور وعقوبات إلا وسببه الذنوب والمعاصي ، فما الذي أهلك الأمم الماضية الا الذنوب والمعاصي.
قال تعالى: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [العنكبوت: 40].
والذنوب تتفاوت وتنقسم إلى كبائر وصغائر وتتفاوت مفاسدها وعقوباتها في الدنيا والآخرة، قال الإمام العلامة ابن القيم – رحمه الله : ثم هذه الذنوب تنقسم إلى أربعة اقسام : ((مَلكِية، وشيطانية ، وسَبْعية ، وبهيمية )) لا يخرج عن ذلك.
فالذنوب الملكية : أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية ، كالعظمة والكبرياء والجبروت والقهر والعلو بغير الحق واستعباد الخلق ونحو ذلك ، ويدخل في هذا الشرك بالرب تبارك وتعالى ، وهذا القسم أعظم انواع الذنوب. ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وامره ، فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه في ربوبيته وملكه وجعل نفسه له ندا. وهذا أعظم الذنوب عند الله ولا ينفع معه عمل.
وأما الشيطانية : فالتشبه بالشيطان في الحسد والبغي والغش والغل والخداع والمكر والأمر بمعاصي الله وتحسينها ، والنهي عن طاعة الله وتهجينها ، والابتداع في دينه والدعوة إلى البدع والضلال ، وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة وإن كانت مفسدته دونه.
وأما السبعية :فذنوب العدوان والغضب وسفك الدماء والتوثب على الضعفاء والعاجزين.
وأما الذنوب البهيمية : فمثل الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج. ومنها يتولد الزنى والسرقة وأكل أموال اليتامى والبخل والشح والجبن والهلع والجزع وغير ذلك.
وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية ومنه يدخلون سائر الاقسام.
عباد الله : لقد حذر النبي - - من المعاصي وعقوباتها عموما. وحذر من كبائر الذنوب خصوصا لأن خطرها أشد ، ففي الصحيح عنه – - أنه قال : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله. فقال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور)) وفي الصحيح أيضا عنه – - : ((اجتنبوا السبع الموبقات. قيل : وما هن يارسول الله ؟ قال : الإشراك بالله والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله ألا بالحق، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )). وفي الصحيح أيضا عنه – - أنه سئل : أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : ((أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك )) ، فأنزل الله تعالى تصديقها : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [الفرقان: 68].
ولما كان الشرك أكبر الكبائر ، لأنه ضد التوحيد الذي خلق الله الخلق من أجله... حرم الله الجنة على كل مشرك وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد. وأن يتخذوهم عبيدا لهم لما تركوا القيام بعبوديته ، وأبي الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا ، ويقبل فيه شفاعة ، أو يستجيب له في الآخرة دعوة أو يقبل له فيها رجاء. ولما كان السحر من عمل الشيطان كما قال تعالى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [البقرة : 102].
لأن الساحر في الغالب يتعامل مع الشياطين يخضع لهم ويتقرب إليهم ؛ صار مفسدا للعقيدة ومفسدا للمجتمع ، لما يحدثه من الأضرار بإحداث التباغض بين المتحابين ، كما قال تعالى: فيتعلمون منها ما يفرقون به بين المرء وزوجه [البقرة : 102 ] ، ويحدث أمراضا وقتلا ، لما كان يشتمل على هذه الأضرار وغيرها صار قرينا للشرك ويليه في المرتبة ، وحكم الشارع بكفر السحرة وثبت الأمر بقتلهم عن جماعة من الصحابة لإراحة المجتمع من شرهم ، ونهى النبي – - عن الاتصال بهم والذهاب إليهم.
ويلي الشرك في كبر المفسدة القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وفي عبادته وتحليله وتحريمه من وصفه بما لم يصف به نفسه ، أو نفي ما وصف به نفسه أو إحداث عبادة لم يشرعها ، أو تحليل ما حرمه أو تحريم ما أحله. فإن ذلك كله ابتداع في دين الله وتنقص لجلال الله.
والبدعة أحب إلى إبليس من كبار الذنوب كما قال بعض السلف الصالح : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها وهي اتباع للهوى. قال إبليس – لعنه الله - : أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني ب لا إله إلا الله وبالاستغفار. فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الاهواء ، فهم يذنبون ولا يتوبون. لأنهم يَحَسبون أنهم يحسنون صنعا ، والمذنب ضرره على نفسه فقط. والمبتدع ضرره على الناس. وفتنة المبتدع في أصل الدين. وفتنة المذنب في الشهوة... والمبتدع يصد الناس عن الدين الصحيح إلى البدع المحدثة والدين الباطل.
ومن الكبائر الموبقة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وقد قال الله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً [النساء : 93]، وقال تعالى: من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكانما أحيا الناس جميعاً [ المائدة : 32].
وإنما صار قاتل النفس الواحدة ظلما وعدوانا كالقاتل للناس جميعا ،لأنه لما تجرأ على سفك الدم الحرام فإن من قتل نفسا بغير استحقاق بل لمجرد الفساد في الارض ، أو لأخذ مال المقتول ، فإنه يتجرأ على قتل كل من ظفر به وأمكنه قتله ، فهو معاد للنوع الإنساني ، لأن الله جعل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، فإذا أتلف القاتل عضوا من ذلك الجسد فكانما أتلف سائر الجسد وآلم جميع أعضائه ،فمن آذى مؤمنا واحدا فقد آذى جميع المؤمنين ، وفي أذى جميع المؤمنين أذى لجميع الناس ،فإن الله إنما يدافع عن الناس بالمؤمنين الذين هم بينهم ،لأن من قتل نفسا بغير حق فقد جرأ غيره على القتل ، وسن سنة سيئة لغيره من الاعتداء على الناس جميعا ، وقد قال النبي – - : ((لا تقتل نفس ظلما بغير حق إلا كان على ابن آدم الاول كفل من دمها ، لأنه أول من سنّ القتل )) ، وقتل النفس بغير حق يتفاوت إثمه وضرره بحسب مفسدته ، فقتل الانسان ولده الصغير الذي لا ذنب له خشية أن يطعم معه أو يشاركه في ماله من أعظم أنواع الظلم وأكبر الكبائر ، وكذا قتله لوالديه تجتمع فيه جريمة القتل وجريمة العقوق وجريمة قطيعة الرحم. وكذلك قتله لبقية قرابته فيه جريمة القتل وجريمة القطيعة ، وهكذا تتفاوت درجات القتل بحسب قبحه وسوء أثره ، ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي. ويليه من قتل إماما عادلا أو عالما يأمر الناس بالقسط.
ومن الكبائر الموبقة جريمة الزنا ، فهو من أعظم المفاسد لأنه يترتب عليه فساد نظام العالم في حفظ الأنساب وحماية الفروج وصيانة الحرمات ، وهو يوقع العداوة والبغضاء بين الناس ، ويسبب حدوث الأمراض الخطيرة ، وكل من الزناة يفسد زوجة الآخر وأخته وبنته وأمه، وفي ذلك خراب العالم ، ولهذا كانت جريمة الزنا تلي جريمة القتل في الكبر ، ولهذا نهى الله عن قربه، وأخبر أنه فاحشة وساء سبيلا في قوله تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً [ الاسراء : 32 ].
والنهي عن قربه أبلغ من النهي عن فعله ، لأنه نهي عنه وعن الوسائل المفضية إليه. كالنظر المحرم والخلوة بالمراة الأجنبية ، واختلاط المراة بالرجال ، وحرم التبرج والسفور وسفر المراة بدون محرم ، كل ذلك من أجل الابتعاد عن الزنا. وقال الإمام ابن القيم : ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم ،فإن المراة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها ونكست رؤوسهم بين الناس ، وإن حملت من الزنا ، فإما أن تقتل ولدها فتجمع بين الزنى والقتل ، وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبيا ليس منهم ، فورثهم وليس منهم ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم. وأما زنى الرجل فإنه يوجد اختلاط الأنساب وإفساد المراة المصونة وتعريضها للتلف والفساد. ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين ؛ فكم في الزنا من استحلال محرمات وفوات حقوق ووقوع مظالم ، ومن خاصيته أنه يوجب الفقر ويقصر العمر ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس. ومن خاصيته أيضا أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته.
ويجلب الهم والحزن والخوف ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان ، فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدة الزنا. ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ( يعني أن الزاني يجب رجمه بالحجارة حتى يموت ) ولو بلغ الرجل أن امراته أو حرمته قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت.
وخص سبحانه حد الزنى بثلاث خصائص من بين سائر الحدود ، أحدهما : القتل فيه باشنع القتلات ، والثاني : أنه نهى عباده أن تاخذهم بالزناة رأفة في دينه ، بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم.
الثالث : أنه أمر سبحانه أن يقام حد الزنا بمشهد من المؤمنين ، فلا يكون في خلوة حيث لا يراه احد.
فاتقوا الله – عباد الله – واجتنبوا الذنوب والمعاصي ما ظهر منها وما بطن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً [ الفرقان : 68-70 ].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ، حرَّم الفواحش ما ظهر منا وما بطن ، وأمر بتقواه في السر والعلن. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله – - وسلم تسليما كثيرا... أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى واجتنبوا الإثم والفواحش لعلكم تفلحون.
عباد الله : ومن الكبائر الموبقة جريمتان عظيمتان مهلكتان كثر وقوعهما اليوم وتساهل الناس فيهما. وهما ترك الصلاة وأكل الربا.
فأما ترك الصلاة فإنه كفر مخرج من الملة – على الصحيح – وإن لم يجحد وجوبها ، قال تعالى: فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [القيامة: 31-32]، وقال تعالى عن أصحاب النار: ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين [المدثر: 42-43] ، وقال النبي – - : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر )) رواه الامام أحمد وأهل السنن.
وقال الترمذي حديث صحيح إسناده على شرط مسلم ، قال الإمام ابن القيم : لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدا من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ، وأن إثمه أعظم عند الله من إثم قتل النفس وأخذ الأموال ، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر ،وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والاخرة...
فاتقوا الله – يا من تهاونتم بالصلاة – فإنكم ضيعتم أعظم أركان دينكم بعد الشهادتين ، وضيعتم عمود الإسلام فماذا بقي عندكم من الدين؟ وما هي حجتكم عند رب العالمين اتقوا الله يا من تتركون في بيوتكم رجالا لا يصلون ولا يدخلون المساجد ليلا ولا نهارا كأنهم يهود أو نصارى. لقد آويتم أعظم العصاة والمجرمين وعرضتم أنفسكم ومن في بيوتكم لأعظم العقوبات.
وأما أكل الربا فقد أصبح متفشيا بين أصحاب الأموال والمستثمرين ، غير مبالين بوعيد الله وعقوبته ، وقد أعلن الله الحرب منه ومن رسوله على أَكَلَةِ الربا ، فليلبسوا سلاحهم لمحاربة الله ورسوله وليستعدوا للقدوم على النار وسوء القرار ، إن لم يتوبوا إلى ربهم...
عباد الله : إن باب التوبة مفتوح أمام كل تائب ، فبادروا بالتوبة إلى الله قبل غلق هذا الباب ، قال تعالى: إ نما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً اليماً.
وعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
(1/183)
زلات اللسان والغيبة والنميمة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة اللسان. 2- ذكر بعض زلات اللسان. 3- الكذب قبحه وعاقبته في الآخرة.
4- وجوب التثبت في الأخبار قبل نقلها. 5- الغيبة وعقوبتها في الآخرة وتحذير الإسلام منها.
6- النميمة وعقوبتها في القبر ، وواجب المسلم تجاهها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس اتقوا الله تعالى واحفظوا ألسنتكم فإن حصائد اللسان هلاك الإنسان فعن معاذ بن جبل قال: ((قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تَعبُد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماءُ النارَ وصلاة الرجل في جوف الليل ، يعني تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ثم تلا : تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ: يعملون ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)).
أيها الناس: إن حصائد اللسان هي أقواله المحرمة وهي أنواع كثيرة منها ما يوصل إلى الكفر ومنها دون ذلك فالاستهزاء بالله ودينه وكتابه ورسله وآياته وعباده الصالحين فيما فعلوا من عبادة ربهم كل هذا كفر بالله ومخرج عن الإيمان وهو من حصائد اللسان. والكذب والغيبة والنميمة والفحش والسب واللعن كل هذا من حصائد اللسان. وفي الحديث: ((إن الله ليبغض الفاحش البذيء)).
أيها الناس: لقد شاع في كثير من الناس أخلاق سيئة من حصائد اللسان فكثير من الناس لا يبالون بالكذب ولا يهتمون به ولم يحذرون من قول النبي : ((إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)). كثير من الناس يظنون ظنونا كاذبة فيشيعها في الناس من غير مبالاة بها وربما كانت تسيء إلى أحد المسلمين وتشوه سمعته وليس لها حقيقة فيبوء بإثم الكذب وإثم العدوان على أخيه المسلم ويخشى أن يكون ممن قال فيهم النبي : إن الرجل يتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار ، وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب في رؤيا النبي : ((أتاه ملكان فمروا على رجل مستلق على قفاه وآخر قائم عليه بكلوب من حديد فإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه ومنخره وعينيه إلى قفاه ثم يفعل بالشق الآخر كذلك فما يفرغ منه حتى يعود الجانب الأول صحيحا فيرجع إليه في شرشره كما فعل في المرة الأولى فقال الملكان للنبي : هذا كذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة)).
هؤلاء الذين ينقلون للناس ما يفكرون به من أوهام لا حقيقة لها ربما يكون في كلامهم إلقاء للعداوة والبغضاء بين المسلمين فيتفكك المجتمع وتتفرق الجماعة من أجل أمور وهمية وظنون كاذبة. كثير من الناس ينقلون الكلام عن غيرهم بمجرد الإشاعات وربما لو بحثت عن هذا النقل لوجدته كذبا لا أصل له أو محرفا أو مزيدا أو منقوصا والمؤمن العاقل هو الذي يتثبت في الأخبار ويتحرى في نقلها حتى لا ينقل إثما ولا كذبا وفي الحديث الصحيح عن النبي : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها أي ما يتثبت ولا يعلم هل هي خير أو شر صدق أو كذب؟ يزل لها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)). وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((كفى بالمرء إثما وفي رواية كذبا أن يحدث بكل ما سمع)).
فيا أيها المسلمون احفظوا ألسنتكم لا تطلقوا عنانها فتهلككم إذا أردتم الكلام في شيء فتذكروا قول الله تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وقوله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) واعلموا أنكم محاسبون على كل كلمة تخرج من أفواهكم فما جوابكم يوم القيامة إذا سئلتم ألم تتكلم بكذا وكذا؟ فمن أين وجدت ذلك؟ وكيف تكلمت ولم تتبين الأمر؟ أيها المسلم لا تطلق لسانك بالقول لمجرد ظن توهمته أو خبر سمعته فلعلك أن يكون ظنك كاذبا ولعل الخبر أن يكون كاذبا وحينئذ تكون خاسرا خائبا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم.. [الأحزاب:70-71]. إلى آخر السورة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وحماني وإياكم من الزلل في الأقوال والأفعال إنه جواد كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جعل المؤمنين إخوة يتعاونون بينهم على البر والتقوى ويحترم كل واحد منهم الآخر في نفسه وماله وعرضه فكل المسلم على المسلم حرام، كما قال ذلك النبي المصطفى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل البر والوفاء، وعلى التابعين لهم بإحسان ما تتابع القطر والندى، وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واحترموا حقوق إخوانكم المسلمين وذبوا عن أعراضهم كما تذبون عن دمائهم وأموالهم.
أيها المسلمون لقد شاع بين كثير من المسلمين داءان عظيمان لكن السلامة منهما يسيرة على من يسرها الله عليه، أيها المسلمون فشا فينا داء الغيبة وداء النميمة، أما الغيبة: فهي ذكر الإنسان الغائب بما يكره أن يذكر ما فيه من عمل أو صفة، فإن كثيرا من الناس صار همه في المجالس أن يأكل لحم فلان وفلان ، فلان فيه كذا وفيه كذا ومع ذلك لو فتشت لرأيته هو أكثر الناس عيبا وأسوأهم خلقا وأضعفهم أمانة وإن مثل هذا الرجل يكون مشؤوما على نفسه ومشؤوما على جلسائه لأن جلساءه إذا لم ينكروا عليه صاروا شركاء له في الإثم وإن لم يقولوا شيئا.
أيها المسلمون لقد صور الله الإنسان الذي يغتاب إخوانه المسلمين بأبشع صورة، مثّله بمن يأكل لحم أخيه ميتا ويكفي قبحا أن يجلس الإنسان على جيفه أخيه من لحمه ويأكله.
أيها المسلمون إن الواجب عليكم إذا سمعتم من يغتاب إخوانه المسلمين أن تمنعوه وتذبوا عن أعراض إخوانكم؛ ألستم لو رأيتم أحدا قائما على جنازة رجل من المسلمين يأكل لحمه ، ألستم تقومون عليه جميعا وتنكرون عليه؟ إن الغيبة كذلك تماما كما قال الله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه [الحجرات:12]. ولا يبعد أن يعاقب من يغتاب إخوانه يوم القيامة فيقربون إليه بصورة أموات ويرغم على الأكل منهم كما روي في ذلك حديث عن النبي ولقد مر النبي ليلة المعراج بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم وقال عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)).
أيها المسلمون إن كثيرا من أهل الغيبة إذا نصحوا قالوا: نحن لا نكذب عليه هو يعمل كذا ولقد قيل للنبي : ((أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه)). فبين لأمته أن الغيبة أن تعيب أخاك بما فيه أما إذا عبته بما ليس فيه فإن ذلك جامع لمفسدتين البهتان والغيبة ، ولقد نص الإمام أحمد بن حنبل وفقهاء مذهبه على أن الغيبة من كبائر الذنوب فاحذر أيها المسلم منها واشتغل بعيبك عن عيب غيرك وفتش نفسك هل أنت سالم؟ فربما تعيب الناس وأنت أكثرهم عيبا وإن كنت صادقا في قولك مخلصا في نصحك فوجدت في أخيك عيبا فإن الواجب عليك أن تتصل به وتناصحه، هذا هو مقتضى الأخوة الإيمانية والطريقة الإسلامية.
أما الداء الثاني الذي انتشر بين بعض الناس فهو داء النميمة وهي أن ينقل الكلام بين الناس فيذهب إلى الشخص ويقول قال فيك فلان كذا وكذا لقصد الإفساد وإلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين وهذه هي النميمة التي هي من كبائر الذنوب ومن أسباب عذاب القبر وعذاب النار قال النبي : ((لا يدخل الجنة نمام)) ومر بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أي في أمر شاق تركه عليهما أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)).
أيها المسلمون إن الواجب على من نقل إليه أحد أن فلانا يقول فيه كذا أن ينكر عليه وينهاه عن ذلك وليحذر منه فإن من نقل إليك كلام الناس فيك نقل عنك ما لم تقله قال الله تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشّاء بنميم [القلم:10-11].
وفقني الله وإياكم لمحاسن الأخلاق وصالح الأعمال وجنبنا مساوئ الأخلاق ومنكرات الأعمال وهدانا صراطه المستقيم إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
(1/184)
في أكل المال بغير حق
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضعف الإنسان وقصور علمه. 2- رحمة الله بالإنسان وإرساله الرسل وإنزاله الكتب وسن
الشرائع الملائمة والشاملة لحياته. 3- جهل من ظن عدم شمول الشرائع للمعاملات وحكم ذلك.
4- تقسيم الأرزاق والأخلاق بين الخلائق ودلالة ذلك. 5- التحذير من الكسب الحرام ومغبة
ذلك. 6- معنى أخذ المال بحقه وميزان ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [النساء:27-28]. هكذا يقرر الله هذه الكلية العامة الشاملة لكل إنسان أن كل إنسان خلق ضعيفا، فهو ضعيف في نشأته فقد خلقه الله من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين وهو ضعيف في علمه: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [الإسراء:85]. لا يعلم الغيب ولا يعلم المستقبل حتى في تصرفاته الخاصة: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [لقمان:34]. وهو ضعيف في تصوره وإدراكه قد يتصور القريب بعيدا والبعيد قريبا والضار نفعا والنافع ضارا ولا يدرك النتائج التي قد تنتج عن تصرفاته وأعماله.
ومن أجل هذا الضعف أرسل الله الرسل وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فيسيروا على صراط الله المستقيم وتثبت شرائع الله بين الناس فلا يحتاجوا إلى تشريعات من عند أنفسهم يسلكون بها مسالك المتاهات في الظلم والجور والنزاع والخلاف، فجاءت شرائع الله منظمة للناس ليس في العبادة فحسب ولكن في العبادة والمعاملة والآداب والأخلاق وكان أكمل تلك الشرائع وأشملها وأرعاها لمصالح العباد في كل زمان ومكان هذه الشريعة التي ختم الله بها الشرائع لتكون شريعة للخلق كافة ومنهج حياة شاملا إلى يوم القيامة وهي الشريعة التي جاء بها محمد خاتم النبيين والرسول من الله إلى الخلق أجمعين فجاءت تنظم للناس العبادات والمعاملات والآداب والأخلاق، ولقد ضل قوم عموا أو تعاموا عن الحق حيث زعموا أن هذه الشريعة إنما تنظم للناس العبادات والأخلاق دون جانب المعاملة وتنظيم الحياة فاتبعوا أهواءهم في معاملاتهم واتبعوا القوانين التي وضعها شياطين الخلق ليضلوا بها الناس عن شريعة ربهم، أفلم يعلم هؤلاء الذين عموا أو تعاموا أن في الشريعة الإسلامية نصوصا كثيرة وافية في تنظيم المعاملات في كتاب الله وفي سنة رسوله ، بل إن أطول آية في القرآن كانت في المعاملة بين الناس في بيعهم وشرائهم الحاضر والمؤجل وبيان وسائل حفظ ذلك من كتابة وإشهاد ورهن واقرأوها إن شئتم في آخر سورة البقرة: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه [البقرة:282]، أفليس هذا أكبر دليل على أن الشريعة تنظيم للعبادة وتنظيم للمعاملة ففي العبادات أمر ونهي وفي المعاملات أمر ونهي وفي العبادات ترغب وترهيب ووعد ووعيد وفي المعاملات كذلك ترغيب وترهيب ووعد ووعيد: وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا [الإسراء:35] ، ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون [المطففين:1-3].
فكما أن على المؤمن أن يسير في عبادته على الحدود الشرعية من غير تجاوز ولا تقصير فكذلك يجب عليه أن يسير على الحدود الشرعية في معاملة الناس من بيع وشراء وتأجير واستئجار وارهان وارتهان وبذل وأخذ وغير ذلك لأن الكل شريعة الله تعالى فهو مسؤول عن معاملته كما هو مسؤول عن عبادته، قال الله تعالى: فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ الأعراف:6-7].
فاتقوا الله عباد الله وأجملوا في طلب المال، سيروا في طلبه على هدى ربكم لا على أهواء أنفسكم: أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم [الملك:22]. وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من يحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ولا والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه. قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيه فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحوالسيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث)). إن في هذا الحديث لعبرة لمن كان له قلب إنه يدل بوضوح على أن كثرة الدنيا وتنعيم العبد بها ليس علامة على أن الله يحبه فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب وهاهم الكفار يتمتعون بما يتنعمون به من الدنيا وهم أعداء الله وموضع سخطه وبغضه ولكن العلامة على محبة الله للعبد هو الدين الذي يلتزم به العبد شرائع الله في عباداته ومعاملاته وآدابه وأخلاقه فإذا رأيت الرجل ذا دين فإن الله يحبه لأن الله لا يعطي الدين إلا من يحب: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.
وهذا الحديث يدل بوضوح على أن من كسب مالا على وجه محرم فهو خاسر مهما ربح لأنه إما أن ينفق هذا المال في حاجاته الدنيوية وإما أن يتصدق به لطلب الثواب في الآخرة وإما أن يبقى بعده بدون إنفاق ولا صدقة وقد بين النبي حكم هذه الثلاث بأنه إن أنفقه لم يبارك له فيه وإن تصدق به لم يقبل منه وإن بقي بعده كان زاده إلى النار، هذه نتائج من اكتسب المال بطريق محرم أضف إلى هذه النتائج نتيجة الطمع وإغراق القلب في طلب المال استمع إلى قول النبي الثابت عنه في الصحيحين يقول: ((إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض. قيل: وما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا ثم قال : إن هذا المال خضرة حلوة من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو وإن أخذه بغير حقه - أو قال - ومن لم يأخذه بحقه كان كالذي يأكل ولا يشبع يكون شهيدا يوم القيامة)). أخذ المال بحقه: أن يكسبه بطريق مباح، وأخذ المال بغير حقه: أن يأخذه بطريق غير مباح والميزان لكون الطريق مباحا أو غير مباح ليس هو الهوى النفسي ولا القانون الوضعي وإنما هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله فما أحله الله ورسوله فهو الحق وما حرمه الله ورسوله فهو غير الحق. وصدق رسول الله وبرهنت الوقائع على صدقه فإن الناس يشاهدون من يكتسب المال بالطرق المحرمة قد ملأ صدره الطمع وأحرق نفسه الشح أيديهم مملوءة من المال وقلوبهم خالية منه يقول الناس إنهم أغنياء وهم أشد في طلب المال من الفقراء لأنهم كما قال النبي : ((كالذي يأكل ولا يشبع)).
يشاهدون من يأكل الربا لا يقلع عنه ولا يفتر ولا يفتر في طلبه. يشاهدون من يتحيل على أكل الربا وقد زين له سوء عمله فرآه حسنا لا يرعوي عن تحيله ولا يتوانى في ذلك. يشاهدون من يكذب في السلعة أو ثمنها منهمكا في عادته السيئة لا يقلع عنها. يشاهدون من يعامل بالغش والتغرير والتمويه على الناس لا يزال مستمرا في عمله. يشاهدون من يأخذ الرشوة على أعماله الملزم بها من قبل الوظيفة فيتوانى في القيام بعمله حتى يضطر الناس إلى بذل الرشوة له، يشاهدونه مشغوفا بهذا العمل ومنهمكا فيه. يشاهدون من يربحون من وراء المناجشات في المساهمات العقارية في الأراضي أو غيرها لا يتورعون عن الكسب بهذه الطريقة المحرمة، يرى الواحد منهم يزيد في قطع الأراضي من الأرض التي له فيها شركة لا لغرض في القطعة ولكن من أجل رفع ثمنها ليزيد ربحه الذي هو في الحقيقة خسران، فكيف يليق بالمؤمن وهو يعلم بهذه العقوبات ويشاهد تلك النتائج أن يسعى لكسب المال من طريق محرم؟ كيف يرضى أن يخسر دينه من أجل الكسب الظاهري في دنياه؟ كيف يليق به أن يجعل الوسيلة غاية والغاية وسيلة؟ ألم يعلم أن المال وسيلة لقيام الدين والدنيا وأن اكتسابه بطريق محرم هدم للدين والدنيا؟!!.
فاتقوا الله أيها المؤمنون وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون وفقني الله وإياكم للبصيرة في دينه والعمل بما يرضيه وحمانا من أسباب سخطه ومعاصيه وغفر لنا وللمسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/185)
حقيقة الصيام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
عبد الحميد التركستاني
الطائف
5/9/1413
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة لاغتنام الأوقات في طاعة الله. 2- ضرورة التغيير في أحوالنا مع مقدم رمضان.
3- الصيام الحقيقي صيام الجوارح. 4- دور عبادة الصيام في التربية وإلجام الشهوات.
5- من حكم الصيام معرفة نعم الله والتذكير بالفقراء. 6- دعوة للاقبال على بعض الطاعات في
رمضان. 7- ليلة القدر وفضلها. 8- تلاوة القرآن فضلها وآدابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا ربكم العظيم واشكروه إذ بلغكم هذا الشهر الكريم وسلوه سبحانه أن يحبب إليكم فعل الخيرات وأن يعينكم على أداء ما شرع لكم من الطاعات والواجبات والمستحبات وعلى ترك المحرمات والمشتبهات لتكونوا من المؤمنين حقا والمتقين صدقا، اعمروا أوقاتكم بالأعمال الصالحة فإنها هي التجارة الرابحة وفرصتها اليوم سانحة فقد أعطاكم الله المهلة من الزمان ومكنكم من العمل وبلغكم رمضان ورغبكم في خصال الإيمان فلا تضيعوا هذا الشهر الشريف وهذا الموسم العظيم في غير طائل أو فيما يمكن استدراكه في غيره وتفويت خير النهار بالنوم والكسل والغفلة عن صالح العمل، احفظوا صيامكم فلا تعرضوه لما يفسده أو يخل به أو يذهب أجره من الأعمال المحرمة والأقوال الآثمة فإن الكثير من الناس يضيعون أوقاته وشريف لحظاته بمشاهدة سيئ الأفلام وسماع الأغاني وغيرها من محرم الكلام، ومن تأمل حال الكثير من الناس يجد أن حالهم لم يتغير في رمضان وكأن شهر رمضان هو الإمساك عن الأكل والشرب فقط، وما علموا أن شهر رمضان هو ترويض للنفس لفعل الطاعات من صلاة مع الجماعة في المسجد ومن صيام وقيام وتلاوة قرآن واجتناب كل ما يخدش الصيام من غيبة ونميمة وغش وسماع لآلات الموسيقى والنظر فيما حرم الله وغير ذلك من الآداب الواجبة على الصائم.
فالصائم الحقيقي هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش والغيبة والنميمة وقول الزور وبطنه عن الأكل والشرب وفرجه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه نافعا صالحا، وكذلك أعماله، فهي بمنزلة الرائحة التي يشمّها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته وأمن من الزور والكذب والفجور والظلم، هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، وقد ورد في الحديث عن النبي : ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري، وفي الحديث الآخر: ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.
فالصوم الحقيقي إذن: هو صوم الجوارح من الآثام وصوم البطن عن الطعام والشراب، فكما أن الطعام والشراب يقطعه فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتصيره بمنزلة من لم يصم، قال جابر بن عبد الله : (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء).
لهذا كان لابد للصائم من آداب تجب مراعاتها والعمل بها في الصوم والإفطار وإلا لم يكن له من حظ صومه إلا الجوع والعطش.
فمنها غض البصر عما حرم الله من النظر المحرم إلى العورات وإلى النساء سواء كان ذلك في مجلة أو تلفاز أو فيديو لا يجوز للمسلم أن ينظر إلى هذه الصور قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ، ومنها صون السمع عن الإصغاء إلى كل محرم كالغناء والموسيقى لأن الإنسان مسؤول عن سمعه كما هو مسؤول عن بصره فقائل القبيح والمستمع إليه شريكان في الإثم، ومنها حفظ اللسان عن النطق بالفحش والبهتان وقول الزور والخصومة والسب والشتم وأن يلزم الصمت إذا شتمه أحد ليس عجزا عن الأخذ بالثأر ولكن بتبين حاله أنه صائم إشارة إلى أنه لن يقابل من شتمه بالمثل قال : ((الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم)) وغير ذلك من الآداب.
أيها المسلمون: إن في الصيام تتجلى عند الصائمين القوى الإيمانية والعزائم التعبدية يدعون ما يشتهون ويصبرون على طاعة ربهم، وفي الصيام يتجلى في نفوس أهل الإيمان الانقياد لأوامر الله، وهجر الرغائب، والمشتهيات، يدعون رغائب حاضره لموعد مغيب لم يروه إنه قياد للشهوات وليس انقيادا لها، وفي النفوس نوازع شهوة وهوى، وفي الصدور دوافع غضب وانتقام، وفي الحياة تقلب في السراء والضراء، وفي دروب العمر خطوب ومشاق ولا يدافع ذلك إلا بالصبر والمصابرة ولا يحتمل العناء إلا بصدق المنهج وحسن المراقبة، وما الصوم إلا ترويض للغرائز وضبط النوازع، والناجحون عند العقلاء هم الذين يتجاوزون الصعاب ويتحملون التكاليف ويصبرون، وفي الشدائد تعظم النفوس ويعلو أصحابها حين تترك كثير من الملذات وتنفطم عن كثير من الرغائب.
ومتى كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
أيها الإخوة: إن من حكم الصيام أن يعرف المرء مقدار نعم الله عليه فالإنسان إذا تكررت عليه النعم، قل شعوره بها، فالنعم لا تعرف إلا بفقدانها فالحلو لا تعرف قيمته إلا إذا ذقت المر، والنهار لا تعرف قيمته إلا ذا جن الليل وبضدها تتميز الأشياء، ففي الصوم معرفة لقيمة الطعام والشراب والشبع والري، ولا يعرف ذلك إلا إذا ذاق الجسم مرارة العطش ومرارة الجوع، ومن أجل ذلك ورد عن النبي أنه قال: ((عرض علي ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك)) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
ومن أسرار الصيام الاجتماعية أنه تذكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين تذكير بغير خطبة بليغة ولا لسان فصيح، لأن الذي نبت في أحضان النعمة ولم يعرف طعم الجوع، ولم يذق مرارة العطش، لعله يظن أن الناس كلهم مثله وأنه مادام يجد فالناس يجدون ومادام يطعم لحم طير مما يشتهي وفاكهة مما يتخير فلن يحرم الناس الخبز والطعام، ولكن الصوم يجعل الغني يشعر أن هناك معدات خاوية وبطونا خالية وأحشاءا لا تجد ما يسد الرمق ويطفئ الحرق، فحري بإنسانية الإنسان وإسلام المسلم، وإيمان المؤمن أن يرق قلبه وأن يعطى المحتاجين وأن يمد يده بالعون إلى المساكين، فإن الله رحيم وإنما يرحم من عباده الرحماء فكما يكون الإنسان لعباد الله يكن الله له.
أيها الإخوة: جدير بشهر هذه بعض فضائله وأسراره وتلك بعض خصاله أن يفرح به المتعبدون ويتنافس في خيراته المتنافسون.
واعلموا أن حصيلة المؤمن في دنياه غير محدودة بالساعات والثواني وكسبه المبذول رصيد مدخر بالأعمال المنجزات من غير كسل ولا تواني، يتقلب في عمر الحياة بقدر ما كتب له من فسحه، ويكدح فيها لينال أكبر المغانم، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل فمن كانت حصيلته ملأى بالخير من مختلف صنوفه فليهنأ وليتمسك بالعروة الوثقى ثم ليفرح بفضل الله عليه وأما من كان غارقا في الشهوات والنزوات ولا يستغل المواسم المباركة في الطاعات فهذا قد طال عناؤه وعظم شقاؤه وكان في حياته كالأنعام بل هو أضل سبيلا.
أمة الصيام والقيام والقرآن: لقد دخل علينا شهر رمضان وهو شهر مليء بالفضائل والأعمال الصالحة فينبغي لنا اغتنام هذا الشهر قبل أن يفوت وقد يكون آخر رمضان تعيشه فبادروا بعمارة أيامه ولياليه بالأعمال الصالحة التي تتأكد فيه ومن هذه الأعمال: صلاة التراويح وهي صلاة القيام ولكنها في رمضان تتأكد لأن لها مزية وفضيلة على غيرها لقول النبي : ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ومعنى قوله: (إيمانا) أي إيمانا بما أعده الله من الثواب للقائمين، ومعنى قوله: (احتسابا)، أي طلبا لثواب الله لم يحمله على ذلك رياء ولا سمعه ولا طلب مال ولا جاه وإنما سميت تراويح لأن الناس كانوا يطيلونها جدا فكلما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلا، وكان النبي أول من سن الجماعة في صلاة التراويح في المسجد ثم تركها خوفا من أن تفرض على أمته، ولما انقطع التشريع بموته أحيا عمر بن الخطاب هذه السنة وأمر بصلاتها جماعة خوفا من أن تنسى بعد ذلك، ولهذا لا ينبغي للرجل أن يتخلف عن صلاة التراويح في الشهر كله لينال ثوابها وأجرها ولا ينصرف منها حتى ينتهي الإمام من صلاة الوتر ليحصل له أجر قيام الليل كله، لما ورد عن النبي أنه قال: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) بسند صحيح.
وأحب أن أنبه كل مصل ألا يستعجل وينصرف من صلاة التراويح لأني أرى الكثير من الناس يصلي حتى إذا لم يبق إلا الوتر خرج وضيع على نفسه أجر قيام ليلة، فانتبهوا لهذا الأمر. ومن الأعمال التي تتأكد في هذا الشهر، العمرة، فقد ثبت عن النبي أنه قال: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) رواه البخاري ومسلم وفي رواية قال: ((عمرة في رمضان تعدل حجة معي)) فهنيئا لك يا مسلم بحجة مع النبي تؤديها بسهولة ويسر وترجع منها مغفور الذنب لقول النبي : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)) رواه الجماعة. وقال أيضا: ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)) رواه النسائي وهو حديث صحيح.
ومن الأعمال التي تتأكد في هذا الشهر تحري ليلة القدر، وقد روي في فضلها أن من قامها ابتغاءا لها غفر له ما تقدم من ذنبه قال : ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه، وقال تعالى: ليلة القدر خير من ألف شهر فقال مجاهد في تفسيرها: أي خير من ألف شهر عملها وصيامها وقيامها.
وقد ذكر ابن جرير بسنده: عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي ففعل ذلك ألف شهر يعني ثلاثة وثمانين سنة وثلاثة أشهر، فأنزل الله هذه الآية: ليلة القدر خير من ألف شهر فقيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل، فعمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وهذه الليلة العظيمة كان النبي يتحراها ويأمر أصحابه بتحريها وكان يشد مئزره ويوقظ أهله رجاء أن يدركها ويوافقها.
وفي المسند بإسناد صحيح: ((من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) ، ومن حرم خير هذه الليلة فهو الشقي المحروم أي وربي، كيف وقد عرف هذه الفضائل ثم ضيعها ولم يجتهد فيها ولم يتحراها فنسأل الله عز وجل أن يبلغنا إياها وأن يوفقنا لقيامها وأن يتقبلها منا فيغفر لنا فيها ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا إنه ولي ذلك والقادر عليه. ومن الأعمال التي تتأكد أيضا: الصدقة وقد كان النبي أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وقد قال : ((أفضل الصدقة صدقة رمضان)) ، رواه الترمذي، فلا تبخلوا تصدقوا وأنفقوا فإنه ما نقصت صدقة من مال بل تزيده ولا تنسوا إخوانكم في البوسنة والصومال وكشمير وغيرهم ممن أنهكهم الجوع والمرض والحروب والتقتيل والتشريد.
فيا من أضاع عمره في اللهو واللعب والغفلة، هذه الفضائل خذ بها كلها في شهر الرضا والمزيد ولا تزهد في الأجر واستدرك ما فاتك وتحر ليلة القدر فإنها تحسب من العمر والمحروم والله من فاته الشهر ولم يفز بشيء من فضائله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
ومن الأعمال التي تتأكد في شهر الرضا والمزيد قراءة القرآن، فشهر رمضان هو شهر القرآن فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءته، والقرآن الكريم له في رمضان طعم ومذاق، يعيد ذكرى نزوله، وأيام تدارسه وأوقات اهتمام السلف به.
ورد عن النبي أنه قال: ((كان جبريل يعارضني القرآن في كل عام من رمضان مرة وقد عارضني القرآن في هذا العام مرتين)).
وقد كان سلفنا الصالح إذا قدم شهر رمضان فتحوا المصاحف وقضوا أوقاتهم مع القرآن ثبت عن الإمام مالك أنه إذا دخل عليه رمضان، ترك قراءة الحديث ومجالس العلم وأقبل على القرآن. وكان الإمام الزهري إذا دخل رمضان يقول: إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام، وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال دائما وفي رمضان في ثلاث، وكان النخعي يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث، وينبغي لمن يقرأ القرآن أن يتدبر معانيه وأن يتفكر في ألفاظه قال تعالى: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها.
ولا يكون التدبر إلا إذا كانت القراءة بتأن وترتيل قال ابن عباس: لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أقرأ القرآن كله، وقد نهي عن الإفراط في الإسراع في قراءة القرآن وقد ذكر الزهري أن قراءة النبي كانت آية آية وهذا هو الأفضل وكان يرتل السورة حتى تكون أطول منها قال ابن مسعود: (لا تهذوه هذ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة)، ومن كانت هذه صفته عند تلاوة القرآن كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وأنسَ بما يستوحش غيره وكان همّه عند قراءته: متى أتعظ بما أتلوه؟ كيف يرق قلبي ومتى تذرف عيناي؟ ولم يكن مراده متى أختم السورة؟ وإنما مراده متى أعقل عن الله الخطاب؟ متى ازدجر؟ متى اعتبر؟ لأن تلاوة القرآن عبادة والعبادة لا تكون بغفلة وشرود ذهن وملل.
ولذلك يستحب لمن يقرأ القرآن أن يبكي فإن لم يستطع فليتباكى، وكان من هدي النبي البكاء عند تلاوته أو سماعه، فعند تلاوته كان لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء وعند سماعه قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء فلما بلغ إلى قوله: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال لابن مسعود: حسبك، قال: فالتفت فإذا عيناه تذرفان.
ولقد كان من هدي الصحابة والتابعين من بعدهم البكاء من قراءة القرآن ولسان حالهم:
وإني ليبكيني سماع كلامه فكيف بعيني لو رأت شخصه بدا
تلا ذكر قولاه فحن حنينه ومشوق قلوب العارفين تجددا
وأما الأجر المترتب على تلاوته فعن عبد الله بن مسعود عن النبي أنه قال: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف وميم حرف)) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
وأما القارئ للقرآن والمتعاهد له والقائم به فهو في المقام الرفيع والمنزلة العالية فقد قال : ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق فله أجران)) متفق عليه.
وأما ما ورد في فضل تعليمه وتعلمه، قال : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) وغير ذلك من الفضائل والآداب المتعلقة بكتاب الله وقد فصلت القول فيها في خطبة مضت وأقتصر هنا على ذكر بعضهاخشية الإطالة.
أيها الأحبة: إنه لثواب عظيم وأجر موفور يناله المسلم بسبب حبه لكتاب الله وعنايته به وإقباله عليه، فيا ليت شعري ما لقاريء القرآن من الأجر؟ هل نواظب على قراءة القرآن فلا يمر بنا يوم إلا وقد قرأنا جزءا وتمعّنا بما فيه فانزجرنا بزواجره وأتمرنا بأوامره وابتغينا ما فيه من الأجر والمثوبة؟
وهل لنا أن نعيش مع القرآن في رمضان وغير رمضان؟ وهل لنا أن نعرف عظمة القرآن الكريم فنملأ حياتنا نورا بالقرآن الكريم، وإشراقا مع القرآن الكريم؟ هل لنا أن نفعل ذلك؟
أسأل الله عز وجل أن يسهل علينا ذلك.
اللهم ارزقنا تلاوة كتابك على الوجه الذي يرضيك عنا، واهدنا به سبل السلام وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، واجعله حجة لنا لا علينا يا رب العالمين، اللهم ارفع لنا به الدرجات وأنقذنا به من الدركات وكفر عنا به السيئات واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/186)
بعض حيل الربا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بتقوى الله والحذر من أسباب سخطه ولعنه ومنها الربا. 2- خطورة الربا والتحذير
منه والنصوص في ذلك. 3- صور الربا وفيما يكون. 4- صور التحايل على الربا والتحذير
من ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس اتقوا الله تعالى واحذروا أسباب سخطه وعقابه احذروا ما حذركم الله منه إن كنتم مؤمنين واحذروا الربا فإنه من أسباب لعنة الله تعالى ومقته إن الربا من أكبر الكبائر التي حذر الله تعالى عنها في كتابه وحذر رسول الله عنها في سنته وأجمع المسلمون على تحريمها ، اسمعوا قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله [البقرة:278-279]. اسمعوا قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعفا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [آل عمران:130-132]. واسمعوا قول الله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم [البقرة:275-276]. اسمعوا هذه الآيات وافهموها وعوها ونفذوها فإن لم تفهموها فاسألوا أهل اذكر إن كنتم لا تعلمون أو طالعوا ما قاله المفسرون فيها إن كنتم تقدرون لقد قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله تفسير الآية الثالثة : ذكر الظالمين أهل الربا والمعاملات الخبيثة وأخبر أنهم يجازون بحسب أعمالهم فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين عوقبوا في البرزخ والقيامة بأنهم لا يقومون من قبورهم أو يوم بعثهم ونشورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس أي من الجنون والصرع ، ولقد صدق رحمه الله تعالى فإن المرابين كالمجانين لا يعون موعظة ولا يرعون عن معصية نسأل الله لنا ولهم الهداية.
أيها الناس اسمعوا ما صح عن رسول الله من حديث جابر أن النبي : ((لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء)) ، رواه مسلم ، اسمعوا ما صح عنه من حديث سمرة بن جندب أن النبي : ((رأى في منامه نهرا من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رماه الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فرده حيث كان فجعل الرجل في نهر الدم كلما جاء ليخرج رماه الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فيرجع كما كان فسأل النبي عن هذا الرجل الذي رآه في نهر الدم فقيل هذا آكل الربا)) رواه البخاري ، اسمعوا ما رواه أحمد من حديث أبي هريرة أن النبي : ((أتى ليلة أسري به على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا)) ، واسمعوا ما جاء في الحديث: ((الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه)) رواه الحاكم وله شواهد.
أيها المسلمون : لقد بين رسول الله لأمته الربا أين يكون وكيف يكون بيانا شافيا واضحا إلا لمن به مرض أو عمى لقد قال رسول الله : ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء)) رواه مسلم. وفي لفظ له فإذا اختلفت هذه الأصناف الستة إذا بيع الشيء منه بجنسه مثل أن يباع الذهب بالذهب فلا بد فيه من شرطين اثنين أحدهما أن يتساويا في الوزن والثاني أن يتقابض الطرفان في مجلس العقد فلا يتفرقا وفي ذمة أحدهما شيء للآخر فلو باع شخص ذهبا بذهب يزيد عليه وزنا ولو زيادة يسيرة فهو ربا حرام والبيع باطل. ولو باع ذهبا بذهب مثله في الوزن ولكن تفرقا قبل القبض فهو ربا حرام والبيع باطل. وبين رسول الله أن هذه الأصناف الستة إذا بيع أحدها بجنس آخر فلا بأس أن يكون أحدهما أكثر من الآخر ولكن لا بد من التقابض من الطرفين في مجلس العقد بحيث لا يتفرقان وفي ذمة أحدهما للآخر شيء. فلو باع ذهبا بفضة وتفرقا قبل القبض فهو ربا حرام والبيع باطل.
أيها الناس لقد كان التعامل سابقا بالذهب والفضة وأصبح التعامل الآن بالأوراق النقدية بدلا عنها والبدل له حكم المبدل فلا يجوز التفرق قبل القبض إذا أبدلت أوراقا نقدية بجنسها أو بغير جنسها فلو قلت لشخص خذ هذه الورقة ذات المائة اصرفها لي بورقتين ذواتى خمسين فإنه يجب أن تسلم وتستلم قبل التفرق فإن تأخر القبض من الطرفين أو أحدهما فقد وقعا في الربا، ولقد صار من المعلوم عند الناس أنك لو أخذت من شخص مائة ريال من النقد الورقي بمائة وعشرة مؤجلة إلى سنة أو أقل أو أكثر لكان ذلك ربا وهذا حق فإن هذه المعاملة من الربا الجامع بين ربا الفضل وربا النسيئة بين الربا المقصود والذريعة ولكن من المؤسف أن كثيرا من المسلمين صاروا يتحيلون على هذا الربا بأنواع من الحيل، والحيلة أن يتوصل الشخص إلى الشيء المحرم بشيء ظاهره الحل فيستحل محارم الله بأدنى الحيل.
وإن الحيلة على محارم الله تعالى خداع ومكر إنها خداع ومكر يخادع بها العبد ربه يخادع بها من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور أفيظن هذا المخادع الذي لاذ بخديعته أن أمره سيخفى على الله أفلا يقرأ قول الله تعالى: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه [البقرة:235]. أليس في نيته وقرارة نفسه أنه يريد ما حرم الله ولكن يكسوه بثوب من الخداع والمكر لا ينطلي إلا على مثله ممن جعل الله على بصره غشاوة.
إن الحيل على الربا كثيرة ولكن أكثرها شيوعا أن يجيء الرجل لشخص فيقول له إني أريد كذا وكذا من الدراهم فهل لك أن تدينني العشر أحد عشر أو إثنى عشر أو أقل أو أكثر حسب ما يتفقان عليه ثم يذهب الطرفان إلى صاحب دكان عنده بضاعة مرصوصة معدة لتحليل الربا قد يكون لها عدة سنوات إما خام أو سكر أو رز أو هيل أو غيرها مما يتفق عند صاحب الدكان أظن أن لو وجدا عنده أكياس سماد يقضيان بها غرضهما لفعلا فيشتريها الدائن من صاحب الدكان شراء صوريا لا حقيقيا أقول شراء صوريا لا حقيقيا لأنه لم يقصد السلعة من الأصل بل لو وجد أي سلعة يقضي بها غرضه لاشتراها ثم هو لا يقلب السلعة ولا يمحصها ولا يكاسر في الثمن وربما كانت السلعة معيبة أفسدها طول الزمن أو أكلتها الأَرَضَةُ وهو لا يعلم ثم بعد هذا الشراء الصوري يتصدى لقبضها الصوري أيضا فيعدها وهو بعيد عنها وربما أدرج يده عليها تحقيقا للقبض كما يقولون ثم يبيعها على المدين بالربح الذي اتفقا عليه ولا أدري هل يتصدى المدين لقبضها ذلك القبض الصوري قبل بيعها على صاحب الدكان فإذا اشتراها صاحب الدكان سلم للمدين الدراهم وخرج بها قال شيخ الإسلام ابن تيميه من 109من كتاب إبطال الحِيَل لقد بلغني أن من الباعة من أعد بزا لتحليل الربا فإذا جاء الرجل إلى من يريد أن يأخذ منه ألف بألف ومائتين ذهب إلى ذلك المحلل فاشترى منه المعطي ذلك البز ثم يعيده للآخذ ثم يعيده الآخذ إلى صاحبه وقال فيه أيضا فيا سبحان الله العظيم أيعود الربا الذي قد عظم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيرها إلى أن يستحل بأدنى سعي من غير كلفة أصلا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب وقد ذكر شيخ الإسلام هذه المسألة أيضا في الفتاوي (جمْع ابن قاسم ص441ج29) وقال هي من الربا الذي لا ريب فيه مع أن هذه الحيلة الربوية التي شاعت بين الناس تتضمن محاذير:
الأول: أنها خداع ومكر وتحيل على محارم الله والحيلة لا تحلل الحرام ولا تسقط الواجب ولقد قال بعض السلف في أهل الحيل يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون.
المحذور الثاني: أنها توجب التمادي في الباطل فإن هذا المتحيل يرى أن عمله صحيح فيتمادى فيه أما من أتى الأمر الصريح فإنه يشعر أنه وقع في هلكة فيخجل ويستحي من ربه ويحاول أن ينزع من ذهبه ويتوب إلى ربه.
المحذور الثالث : أن السلعة تباع في محلها بدون قبض ولا نقل وهذا معصية لرسول الله فعن زيد بن ثابت أن النبي : ((نهى أن تباع السلع حيث تبتاع)) يعني في المكان الذي اشتريت فيه حتى يحوزها التجار إلى رحالهم رواه أبو داود والدارقطني ويشهد له حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان الناس يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق فنهاهم النبي أن يبيعوه حتى ينقلوه)) رواه البخاري.
وقد يتعلل بعض الناس فيقول إن عد هذه الأكياس قبض لها فنقول إذا قدرنا أنه قبض فهل هو نقل وحيازة والنبي : ((نهى عن بيع السلع حتى تحاز إلى الرحال)) ثم هل جاء في السنة أن مجرد العد قبض إن القبض هو أن يكون الشيء في قبضتك وذلك بحيازته إلى محلك بالإضافة إلى عده أو كيله أو وزنه إن كان يحتاج إلى ذلك.
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى واحذروا التحيل على محارمه واعدلوا عن المعاملات الحرام إلى المعاملات الحلال إما بطريق الإحسان إلى المحتاجين بإقراضهم وإما بالسلم الذي تسمونه الكتب تعطونه دراهم بسلعة في ذمته يسلمها لكم وقت حلولها وإما ببيع السلعة التي يحتاجها بعينها إذا كان يحتاج لسلعة معينة كفلاح يحتاج لمكينة وهي عندك فتبيعها عليه بثمن مؤجل أكثر من ثمنها حاضرا وكشخص محتاج لسيارة فتبيعها عليه بثمن مؤجل أكثر من ثمنها حاضرا.
والمعاملات البديلة عن تلك المعاملة المحرمة كثيرة ومن أراد استيضاحها فليسأل عنها أهل العلم ، وفقني الله وإياكم للهدى والتقى والعفاف والغنى وحمانا مما يغضبه إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/187)
الربا في الذهب
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضعف الإنسان في خلقه وعلمه وإدراكه. 2- رحمة الله بالإنسان وضعفه بإرساله الرسل
وإنزال الكتب. 3- خطورة عدم التحاكم إلى شرع الله في المعاملات وغيرها وأن ذلك من
الشرك.4- حكم الربا والتحذير منه. 5- الأجناس التي يكون فيها الربا وشروط بيع بعضهم
ببعض. 6- أخطاء في بيع الحلي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد قال الله عز وجل: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [النساء:27-28]. هكذا يقرر الله تعالى هذه الكلية العاملة الشاملة لكل إنسان، إن كل إنسان خلق ضعيفا، خلق ضعيفا في نشأته: من أي شيء خلقه من نطفة خلقه نطفة صبابة من الماء المهين.
وخلق ضعيفا في علمه: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [الإسراء:85]. فعلمه قليل ومحفوف بآفتين جهل قبل العلم ونسيان بعده فهو لا يعلم المستقبل حتى في تصرفات الخاصة: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [لقمان:34]. خلق ضعيفا في تصرفه وإدراكه قد يتصور البعيد قريبا والقريب بعيدا والنافع ضارا والضار نافعا ولا يدرك النتائج التي تتمخض عن تصرفاته.
ومن أجل هذا الضعف وهذا القصور رحم الله الخلق بإرسال الرسل وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فيسيروا على صراط الله المستقيم ويستنيروا بهدى الله العليم الحكيم ولئلا يبتدعوا تشريعات من عند أنفسهم يسلكون بها المتاهات في الظلم والجور والنزاع والخلاف أو يسنوا أنظمة متناقضة فوضوية إن أصلحت جانبا من الحياة أفسدت جوانب، أو يتبعوا أهواءهم ويطلقوا حرياتهم في تصرفاتهم وفي معاملاتهم ولا يمكن لشخص أن يطلق حريته بدون قيود إلا كان ذلك على حساب حرية الآخرين.
ولقد عمي قوم أو تعاموا عن الحق حيث ظنوا أو عموا أن شرائع الله تعالى إنما جاءت لإصلاح العبادات والأخلاق دون المعاملات فاتبعوا أهواءهم في معاملاتهم فشرعوا القوانين وتصرفوا كما يشاءون فشاركوا الله تعالى في شرعه وعتوا عن أمره في شريعته: ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين. أفلا يرجع هؤلاء إلى رشدهم ويتبعون سبيل ربهم ويلتزمون بشريعته ويقفون عند حدوده ويقولون سمعنا وأطعنا ولا يكونون كالذين قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون أو كالذين قالوا: سمعنا وعصينا.
أيها الناس إن شريعة الله نظمت للناس طرق معاملاتهم فيها بينهم كما نظمت طرق أخلاقهم ومعاملاتهم مع ربهم فالواجب على كل مؤمن بالله واليوم الآخر أن يدين لله بالطاعة في عباداته وأخلاقه ومعاملاته ولا يكون كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، يدين لله في عباداته وأخلاقه ويتبع هواه في معاملاته فإنه مسؤول عن ذلك كله، وكم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله من وعد لمن استقام في معاملاته على أمر الله ووعيد على من تعدى فيها حدود الله.
أيها الناس لقد جرم الله تعالى الربا في كتابه وفي سنة رسوله وأجمع على ذلك علماء المسلمين في كل عصر وفي كل مصر لم يختلف منهم في تحريمه اثنان قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله [البقرة:278-279]. وأي جرم في المعاملة أبلغ من معاملة يكون فيها الإنسان معلنا بحرب الله رسوله. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء)) رواه مسلم. ولقد بين رسول الله ما يكون فيه الربا وكيف يكون ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت أن النبي قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مِثْلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)). وله من حديث أبي سعيد أن النبي قال : ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء)).
فبين رسول الله في هذا الحديث أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا بشرطين، الأول: أن يكونا سواء في الوزن لا يزيد أحدهما على الآخر، والثاني: أن يكون ذلك يدا بيد بمعنى أن يسلم كل واحد من الطرفين لصاحبه ما بادله به قبل أن يتفرقا فإن زاد أحدهما على الآخر فهو ربا والعقد باطل، وإن تفرقا قبل القبض من الطرفين فالعقد باطل، وهو من الربا أيضا، وهكذا إذا بيعت الفضة بالفضة أو البر بالبر أو الشعير بالشعير أو التمر بالتمر أو الملح بالملح فلا بد من هذين الشرطين: التساوي والقبض من الطرفين فلو باع صاعا من بر بصاع منه وزيادة فهو ربا ولو كانت القيمة واحدة، وعلى هذا فإذا كان عند امرأتين حلي وأحبت إحداهما أن تبادل الأخرى فلا يجوز إلا أن يوزن حلي كل واحدة منهما فيكونا سواء وأن تتقابضا قبل التفرق، وأجاز بعض العلماء التبادل مع زيادة أحدهما على الآخر إذا كان مع الناقص شيء يقابل الزيادة أما إذا بيع الذهب بالفضة فإنه لا يشترط التساوي وإنما تشترط التقابض قبل التفرق بحيث يقبض البائع الثمن كاملا ويقبض المشتري ما اشتراه كاملا، فلو باع شخص سوارين من ذهب بمائتي ريال وكل واحد يساوي مائة فأعطاه المشتري مائة ريال وأخذ السوارين وقال آتي لك بعد قليل ببقية الثمن فهذا حرام عليهما ولا يصح البيع إلا في سوار واحد فقط أما السوار الثاني فبيعه باطل لأن ما يقابله من الثمن لم يقبض.
ولقد بلغني أن الصواغ وتجار الحلي يبيعون الحلي بالدراهم ولا يقبضون الثمن من المشتري وهذا حرام عليهم وحرام على المشتري وهو من الربا الملعون فاعله على لسان محمد وفي ظني أن بعضهم لا يدري على حكم هذا المسألة وإلا فلا أظن أن مؤمنا بالله واليوم الآخر يعلم أن هذا ربا ثم يتعامل به لا سيما وأن في التقابض سلامة من الربا ومصلحة للطرفين فالبائع ينتفع بنقد الثمن ويسلم من مماطلة المشتري أو نسيانه أو إعساره المشتري يفك ذمته بتسليم الثمن وخلو ذمته من الطلب. وقد يفتي بعض المتعاملين بهذا نفسه فيقول: أنا لم أبع ذهبا بفضة وإنما بعت ذهبا بقرطاس فنقول هذه الفتوى غلط فإن هذه الأوراق جعلت نقدا وعملة بين الناس بمقتضى قرار الحكومة فلها حكم ما جعلت بدلا عنه فإذا جعلت بدلا عن الريالات الفضية كان لها حكم الفضة وكل أحد يعلم بأن هذه الأوراق النقدية ليس لها قيمة باعتبار كونها ورقا فالأسواق مملوءة من قصاصات الورق التي بقدر ورقة النقد وليس لها قيمة أصلا بل هي ملقاة في الزبل للإتلاف والإحراق. فاتقوا الله عباد الله وسيروا في عباداتكم ومعاملاتكم وجميع تصرفاتكم على شريعة الله ولا تتبعوا أهواءكم فإن الله يقول: ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [القصص:50].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/188)
في الحث على تعلُّم العلم النافع
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية العلم وفضله , والحث على طلبه – لا يدرك المرء طريقه إلى الجنة إلا بالعلم – العلم
المقصود في الآيات والأحاديث – منزلة العلماء , وذهاب العلماء – خطأ قَصْر لفظ العلم اليوم
على أصحاب النظريات والمخترعات الدنيوية , وخطورة الاعتماد على النظريات العلمية
في تفسير القرآن – العلم الواجب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتعلموا من العلم ما تعرفون به ربكم، ويستقيم به دينكم، وتستنير به قلوبكم، وتصلح به دنياكم وآخرتكم؛ لأن العلم نور يخرج من الظلمات، وتزول به الشبهات، وتستقيم به الأعمال، فإن العمل بلا علم ضلال ووبال، وفضائل العلم كثيرة:
أعظمها: معرفة الرب سبحانه بأسمائه وصفاته، ومنها أن العلم طريق إلى الله وإلى جنته. كما قال النبي : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب، وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم. فمن أخذ به أخذ بحظ وافر )) ، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي الدرداء.
وفيه الحث على السعي في طلب العلم وذلك بالسفر إلى أهله حيث كانوا وبحفظه وكتابته وتدوينه، فقد كان السلف يرحلون المسافات الطويلة لطلب حديث واحد. فقد رحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر للقاء رجل من الصحابة يروي عنه حديثاً عن النبي لم يكن عنده. ورحل جابر بن عبد الله الأنصاري كذلك. وكان أحدهم يرحل إلى من دونه في العلم والفضل لطلب شيء من العلم عنده لم يبلغه، ويكفي في هذا ما قصه الله تعالى من خبر موسى عليه الصلاة والسلام ورحيله مع فتاه لطلب العلم مع ما أعطاه الله من العلم واختصَّه من التكليم وكتب له في التوراة من كل شيء، ولما أخبره الله عن الخضر وأن عنده علماً يختص به سأل السبيل إلى لقائه ورحل في طلبه، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60].
يعني: سنين عديدة. ثم إنه لما لقيه قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66].
فلو استغنى أحد عن الرحلة في طلب العلم لاستغنى موسى عليه السلام وقد أمر الله نبيه محمداً أن يسأله المزيد من العلم، قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114] فلم يسأل ربه الزيادة من شيء إلا من العلم.
ومهما بلغ الإنسان من العلم فهناك من هو أعلم منه، قال تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].
قال الحسن البصري رحمه الله: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عز وجل... وفي حديث أبي الدرداء دليل على أن الجنة لا يوصل إليها إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، فمن طلب الجنة بذلك فقد طلبها من أيسر الطرق وأسهلها.
ومن سلك طريقاً يظنه طريق الجنة بغير علم، فقد سلك أعسر الطرق وأشقها، ولا يصل إلى مقصوده مع تحمله المشاق، فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يهتدي في ظلمات الجهل والشبهات والشكوك. وقد سمى الله كتابه نوراً يهتدي به في الظلمات، قال الله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15-16].
وفي حديث أبي الدرداء أيضاً: أن العلم الذي يُمدح أهله ويسمون العلماء حقيقة هو العلم الشرعي الذي جاءت به الرسل. حيث قال : (( وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر )).
فكل مدح وثناء جاء في الكتاب والسنة للعلم والعلماء فالمراد به علم الأنبياء وحملته من المؤمنين العاملين به، قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] وقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]. وقال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
وقد شبه النبي من حمل العلم الذي جاء به بالنجوم اللتي يهتدي بها في الظلمات، فقال: (( إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا طمست النجوم أوشك أن تضل الهداة )) رواه أحمد في المسند.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وهذا مثل في غاية المطابقة لأن طريق التوحيد العلم بالله وأحكامه وثوابه وعقابه لا يدرك بالحس، إنما يعرف بالدليل وقد بين الله ذلك كله في كتابه وعلى لسان رسوله، فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الأدلاء الذين يهتدون بهم في ظلمات الجهل والشبه والضلال، فإذا فُقِدوا ضل السالك، وقد شبه العلماء بالنجوم. والنجوم فيها ثلاث فوائد: يهتدى بها في الظلمات، وهي زينة للسماء، ورجوم للشياطين الذين يسترقون السمع.
والعلماء في الأرض تجتمع فيهم هذه الأوصاف الثلاثة: بهم يهتدى في الظلمات، وهم زينة للأرض، وهم رجوم للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل ويدخلون في الدين ما ليس منه.
وما دام العلم باقياً في الأرض فالناس في هدى، وبقاء العلم ببقاء حملته، فإذا ذهب حملته وقع الناس في الضلال. كما في الحديث الصحيح عن النبي : (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يذهب العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )).
فتبين بهذا أن الذين يستحقون أن يسموا بالعلماء هم علماء الشريعة، لأن العلم الحقيقي هو العلم الذي جاءت به الرسل. لقوله : (( العلماء هم ورثة الأنبياء )).
فهم الذين في بقائهم في الأرض مصلحة العباد والبلاد، وبفقدهم تفقد الأرض زينتها، ويفقد أهل الأرض من يهتدون به في ظلماء الجهل والشبه والشكوك، ويتسلط شياطين الإنس والجن على إغواء الناس، ولايجدون من يرجمهم بثواقب الحجج العلمية التي تبطل كيدهم وتدحض حجتهم، وقد صار اليوم كثير من الناس يطلقون العلم على النظريات الحديثة في الطب والاختراعات والصناعات، ويسمون المخترعين والمفكرين في النظريات الحديثة بالعلماء حتى صار لفظ العلم والعلماء لا ينصرف عند هؤلاء إلا إلى هذه الأشياء وأصحابها. وأما العلم الشرعي فلا يسمونه علماً، ولا يسمون أصحابه بالعلماء، حتى لقد سمعنا أن منهم من يستنكر تسمية المعاهد التي تُدرس فيها علوم الشريعة واللغة بالمعاهد العلمية، لأن لفظ العلم يراد به عندهم نظريات العصر وتقنياته، حتى إن أحدهم إذا أراد أن يمدح الإسلام أو القرآن قال: إنه لا يتعارض مع العلم. وكأن الإسلام شيء والعلم شيء آخر، بل بلغ الأمر ببعضهم أن يفسر القرآن بالنظريات الحديثة ومنجزات التقنية المعاصرة، ويعتبر هذا فخراً للقرآن حيث وافق في رأيه هذه النظريات، ويسمي هذا بالإعجاز العلمي. وهذا خطأ كبير، لأنه لا يجوز تفسير القرآن بمثل هذه النظريات والأفكار، لأنها تتغير وتتناقض ويكذب بعضها بعضاً، والقرآن حق ومعانيه حق لا تناقض فيه، ولا تغير في معانيه مع مرور الزمن. أما أفكار البشر ومعلوماتهم فهي قابلة للخطأ والصواب وخطؤها أكثر من صوابها، وكم من نظرية مسلَّمة اليوم، تحدث نظرية تكذبها غداً، فلا يجوز أن تربط القرآن بنظريات البشر وعلومهم الظنية والوهمية المتضاربة المتناقضة.
وتفسير القرآن الكريم له قواعد معروفة لدى علماء الشريعة، لا يجوز تجاوزها، وتفسير القرآن بغير مقتضاها، وهذه القواعد هي:
أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في موضع منه فصل في موضع آخر، وما أطلق في موضع قيد في موضع، وما لم يوجد في القرآن تفسيره فإنه يفسر بسنة الرسول ، لأن السنة شارحة للقرآن ومبينة له، قال تعالى لرسوله : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44].
وما لم يوجد تفسيره في السنة فإنه يرجع فيه إلى تفسير الصحابة، لأنهم أدرى بذلك لمصاحبتهم رسول الله ، وتعلمهم على يديه، وتلقيهم القرآن وتفسيره منه. حتى قال أحدهم: ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعرف معانيهن والعمل بهن.
وما لم يوجد له تفسير عن الصحابة فكثير من الأئمة يرجع فيه إلى أقوال التابعين لتلقيهم العلم عن صحابة رسول الله وتعلمهم القرآن ومعانيه على أيديهم، فما أجمعوا عليه فهو حجة، وما اختلفوا فيه فإنه يرجع فيه إلى لغة العرب التي نزل بها القرآن.
وتفسير القرآن بغير هذه الأنواع الأربعة لا يجوز، فتفسيره بالنظريات الحديثة من أقوال الأطباء والجغرافيين والفلكيين وأصحاب المركبات الفضائية باطل لا يجوز، لأن هذا تفسير للقرآن بالرأي، وهو حرام شديد التحريم لقوله : (( من قال في القرآن برأيه وبما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار )) ، رواه ابن جرير والترمذي والنسائي، وفي لفظ: (( من قال في كتاب الله فأصاب فقد أخطأ )).
قال ابن كثير: لأنه قد تكلف ما لا علم له به وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأت الأمر من بابه والله أعلم. هذا مع أن النظريات تتغير من حين لآخر، لأنها اجتهاد بشري يخطئ كثيراً، والقرآن حق لا يتغير.
فلنحذر يا عباد الله من هذا العمل ولا نتجرأ على تفسير كلام الله بغير علم.
قال أبو بكر الصديق: أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم، وقال تعالى: ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36].
فلنتق الله عز وجل ولا نفسر كلامه العظيم بما لا علم لنا به، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى، وأنزل عليه آيات بينات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وما له من الأسماء والصفات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات الباهرات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي المناقب الظاهرة والكرامات، وسلم تسليماً كثيراً... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتعلموا من العلم ما يستقيم به دينكم، قال : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )).
فقد دل هذا الحديث على أن الذي لا يفقه أمور دينه فإن ذلك دليل على أن الله لم يرد به خيراً، ولو تعلم العلوم الدنيوية وتبحر فيها، لأنها علوم معاشية فقط لا تستحق مدحاً ولا ذماً. وقد وصف الله سبحانه أصحابها بأنهم لا يعلمون فقال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6-7].
فأكثرهم ليس لهم علم إلا بالدنيا وشؤونها، فهم فيها حذاق أذكياء، وهم غافلون عن أمور الدين وما ينفعهم في الآخرة.
قال الحسن البصري: والله ليبلغ أحدهم بدنياه أنه يقلب الدينار على ظفره، فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقد نفى الله عنهم العلم، مع أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فدل على أن ذلك لا يستحق اسم العلم ولا يستحق صاحبه أن يسمى عالماً، لأن العلم إذا أطلق فالمراد علم الشرع، وإذا مدح العلم فالمراد به علم الشرع. فأين هذا من الذين عكسوا الأمر وجعلوا العلم الدنيوي هو العلم عند الإطلاق، وخلعوا على أصحابه ألقاب المديح والإكبار؟ مع أنهم في الغالب أجهل الخلق بأمور دينهم وآخرتهم، وقد حملهم علمهم هذا على الغرور والاستكبار في الأرض وإنكار وجود الخالق، فها هي الشيوعية والعلمانية اليوم تنكر وجود الله وتستكبر بعلومها على عباد الله، وتخترع آلات الدمار. ومن الأمم الكافرة من أنكر علم الرسل واغتر بما عندهم من علم الدنيا، كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [غافر:83].
قال ابن كثير: وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات، والحجج القاطعة، والبراهين الدامغات، لم يلتفتوا إليهم ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل.
إن العلم الشرعي الذي جاءت به الرسل فيه صلاح العباد والبلاد أما علوم البشر ومخترعاتهم فالغالب أن فيها الدمار وإهلاك الحرث والنسل، كما هو الواقع اليوم من الأسلحة الفتاكة والقنابل المدمرة، وعلوم الشرع تعرف بالله واليوم الآخر، وعلوم البشر وتقنياتهم يغلب أنها تبعث على الغرور والجهل بالله وسننه الكونية وتنسى الآخرة.
ونحن لا ننكر ما فيها من نفع إذا استُغِلّت في الخير، وكانت بأيد مؤمنة، ولكن ننكر أن تحاط بهالة التقديس والإكبار، ويطلق عليها وعلى أصحابها العلم والعلماء، ويفسر بها كتاب الله وسنة رسوله.
حتى لقد بلغ الأمر ببعضهم أن يخضع لها نصوص الشرع فلا يقبل من نصوص الشرع إلا ما يؤيده العلم الحديث بزعمه، كما فعل علماء الكلام من قبل، حيث أخضعوا الشرع لقضايا العقل. وقالوا قضايا العقل يقينية، ونصوص الشرع ظنية كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118].
فالواجب على المسلم ألا ينخدع بهذه الدعايات وأن يعظم كتاب الله وسنة رسوله، كما قال : ((إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد...)).
(1/189)
حكم بيع المرهون
فقه
البيوع
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صورة للتحايل على بيع المرهون وحكم ذلك. 2- التحذير من مغبة مخالفة الشرع في
المعاملات. 3- مفاسد بيع المرهون بدون إذن المرتهن. 4- البديل لبيع المرهون.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
أيها الناس فإن مما أسسته الحكومة وفقها الله تعالى صندوق بنك التنمية العقاري تريد من جملة ما تريد من ذلك توفير المساكن الحديثة لشعبها ولكن من الأسف الشديد أن بعض الناس استغل ذلك استغلالا سيئا يتضمن الكذب والخداع وأكل المال بالباطل ومخالفة مقتضى التعاقد مع هذا الصندوق بطرق ملتوية لا يجدر بالمؤمن بالله واليوم الآخر أن تصدر منه، وسبق أن بيَّنا صورة من هذه الإستغلالات السيئة مثل الذين يقدمون طلبات بأسماء مزورة، يجعل الطلب باسم زوجته وهو له أو باسم ولده وليس لولده لكن يفعل ذلك تزويرا وقد ارتدع عن ذلك من شاء الله هدايته وفتح بصيرته وأزال عنه غشاوة الطمع ثم وفق الله الحكومة إلى إلغاء هذه الصورة فيما نسمع.
ثم أحدث الناس قضية أخرى وهي بيع البيوت التي استقرضوا لها من البنك ورهنوها إياه سمعت بهذا من عدة أشهر وكنت أقُِدَمُ رِجْلا وأؤخر أخرى في الكلام فيه نظرا لقلة وجوده من جهة وتمعنا في تصوره وتطبيقه على القواعد الشرعية من جهة أخرى حتى علمت الآن أنه شائع كثير في بلدنا وغيرها يبيع المستقرض هذا البيت الذي رهن أرضه وما عليها للبنك والتزم بالقرض في ذمته وحيث علم هؤلاء أن بيع المرهون لا يصح إلا بإذن من المرتهن صاحب الحق وأن البنك لا يسمح ببيعه وكّتاب العدل لا يفرغون للمشتري صاروا يكذبون على كّتاب العدل ويخادعونهم فيذهب البائع والمشتري إلى كاتب العدل ويدعي البائع أنه أجره البيت أو وكله عليه بقدر المدة التي يستوفي بها البنك قرضه ووكله أيضا بدفع قسط القرض إلى البنك كل سنة.والله تعالى يعلم أنه لا تأجير ولا وكالة وإنما هو بيع مغلف بكذب وخداع. ألم يعلم هؤلاء أن الله سيسألهم عما نطقوا به: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:18] هكذا يقول الله عز وجل ويقول بعدها: وجاءت سكرت الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد [ق:19] أفلا يذكر هؤلاء سكرة الموت لعلها توقظهم من سكرة الطمع والجشع المفضية إلى التلاعب بالعقود وخداع المسؤولين ألم يعلم هؤلاء أنهم سيسألون يوم القيامة أين عقد التأجير وأين عقد الوكالة الذين خدعتم به عباد الله حتى كتبوه في الصكوك الشرعية وأنتم كاذبون عليهم ألم يعلم هؤلاء أنهم سيسألون عن ذلك فلا يستطيعون الجواب: فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون [القصص:66] لماذا لم يكن عند هؤلاء شجاعة وجراءة وصراحة فيقولوا بعنا ويقول المشترون اشترينا إنهم لا يستطيعون ذلك لأنه يعلمون أنه مخالف لمقتضى العقد الصادر بينهم وبين صندوق بنك التنمية وأنهم سيمنعون وأن الأمناء ذوي العلم من كتاب العدل لن يفرغوا لهم فلجئوا إلى تلك الطرق الملتوية ومن يخادع فإنما يخدع نفسه.
أيها الناس إن هذا التصرف أعني بيع البيوت المرهونة لصندوق بنك التنمية يتضمن مفاسد منها :
1) عدم الوفاء بالعقد الجاري بين الصندوق والمستقرض فإن عقد الرهن – كما هو معلوم عند أهل العلم – يستلزم منع بيع المرهون إلا برضا المرتهن صاحب الحق حتى ولو باعه بشرط البقاء على الرهن. وعدم الوفاء بالعقد معصية لله تعالى لا ينبغي أن يقع من مؤمن قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [المائدة:1] وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا [الاسراء:34].
2) الكذب بإظهار عقود غير صادقة فهو يكتب للمشتري أنه أجره أو وكله وليس ثم تأجير ولا توكيل.
3) خداع المسؤولين من كتاب العدل وغيرهم والسخرية الفعلية بهم.
4) ما قد يترتب على ذلك من الخصومات والنزاع في المستقبل فقد يعتري البيت تلف أو يحصل كساد في العقار فلا يتمكن المشتري من تسديد القرض للصندوق. والصندوق سيرجع على البائع الذي كان القرض باسمه كما هو مقتضى البند السادس في وثيقة عقد القرض فإذا كان الصندوق سيرجع على البائع بالنقص وقد باعه فإن كان قد التزم به للمشتري صار الثمن مجهولا لأنه لا يدري ماذا يكون النقص الذي سيغرمه البائع وإن لم يلتزم به المشتري أفضى إلى المنازعات والخصومات بين البائع والمشتري أو بين ورثتهما إن ماتا أو بين أحدهما وورثة الآخر أو بين البائع والصندوق. وكل عقد فيه جهالة أو يفضي إلى النزاع والخصومات فإن الشرع ينهى عنه.
أيها الاخوة قد تقولون إني ضيقت عليكم والله سبحانه يعلم أني ما أردت التضييق عليكم وإنما أردت أن تتمشى معاملاتكم على النهج المستقيم والتقيد بالشرع القويم وأن تبنى على الصراحة والصدق والبيان فقد قال النبي في المتبايعين: ((إن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) وليس في هذا تضييق وأمامنا هنا طريقان للمعاملة الحلال ولله الحمد.
1) فإما أن يعجل صاحب البيت تسديد الأقساط ليفك رهنه ويبيعه بعد ذلك.
2) وإما أن يستأذن في بيعه من له حق الإذن في الصندوق فإذا أذن له في بيعه جاء بيعه وحينئذ تكون المعاملة واضحة صريحة لا التواء فيها ولا خداع.
وإني لأرجو الله تعالى أن يوفق المسؤولين في الصندوق أن يفسحوا للناس في البيع إذا كان في ذلك مصلحة للناس بلا مضرة إنه هو الجواد الكريم.
فاتقوا الله تعالى عباد الله واستقيموا في عباداتكم وآدابكم ومعاملاتكم على شريعة الله واحذروا المعاصي فإنها بها زيغ القلوب وحلول النكبات وفوات المطلوب.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/190)
خشية الله والخوف منه
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جرأة الناس على معاصي الله. 2- الخوف من الله صفة المؤمنين ، وتتافوة هذه الصفة بقدر
إيمانهم. 3- مراتب الخوف. 4- أقوال السلف في الخوف. 5- أحوال السلف في الخوف.
6- ضعف جانب الخوف عند آخرين. 7- مم خاف السلف وبكوا؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وخافوه واخشوه وحده ولا تخشوا أحدا غيره وكما قال الفضيل: من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد قال تعالى: فلا تخشوا الناس واخشون ، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين.
أيها الإخوة: سوف يكون حديثي في هذه الخطبة عن مقام الخوف من الله عز وجل وسبب اختياري لهذا الموضوع هو ما أراه وأشاهده من بعد الناس عن الله وتجرؤهم عليه بأنواع المعاصي والذنوب التي ما ارتكبها هؤلاء الناس إلا بسبب ضعف جانب الخوف من الله في قلوبهم وبسبب غفلتهم عن الله ونسيان الدار الآخرة، فالخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة وقلّ أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى والشهوة والغفلة فالخوف هو الذي يهيج في القلب نار الخشية التي تدفع الإنسان المسلم إلى عمل الطاعة والابتعاد عن المعصية.
ولهذا إذا زاد الإيمان في قلب المؤمن لم يعد يستحضر في قلبه إلا الخوف من الله، والناس في خوفهم من الله متفاوتون ولهذا كان خوف العلماء في أعلى الدرجات وذلك لأن خوفهم مقرون بمعرفة الله مما جعل خوفهم مقرون بالخشية كما قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء والخشية درجة أعلى وهي أخص من الخوف، فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء العارفين وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية، كما قال النبي : ((إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) وقال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)) قال الإمام أحمد: هذا يدل على أن كل من كان بالله أعرف كان منه أخوف. والخوف: هو اضطراب القلب ووجله من تذكر عقاب الله وناره ووعيده الشديد لمن عصاه والخائف دائما يلجأ إلى الهرب مما يخافه إلا من يخاف من الله فإنه يهرب إليه كما قال أبو حفص: الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل، فإنك إذا خفته هربت إليه. فالخائف هارب من ربه إلى ربه قال تعالى: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ، قال أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلبا إلا خرب. وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها.
وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق. وقال أبو حفص: الخوف سوط الله، يقّوم به الشاردين عن بابه.
والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه ويبن محارم الله عز وجل فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيميه: الخوف المحمود: هو ما حجزك عن محارم الله وهذا الخوف من أجلّ منازل السير إلى الله وأنفعها للقلب وهو فرض على كل أحد.
ومن كان الخوف منه بهذه المنزلة سوف يحجزه خوفه عن المعاصي والمحرمات فلا يأكل مالا حراما ولا يشهد زورا، ولا يحلف كاذبا، ولا يخلف وعدا ولا يخون عهدا ولا يغش في المعاملة ولا يخون شريكه ولا يمشي بالنميمة، ولا يغتاب الناس ولا يترك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يزني ولا يلوط ولا يتشبه بالنساء ولا يتشبه بالكفرة أعداء الدين ولا يتعاطى محرما ولا يشرب المسكرات ولا المخدرات ولا الدخان ولا الشيشة ولا يهجر مساجد الله ولا يترك الصلاة في الجماعة ولا يضيع أوقاته في اللهو والغفلة بل تجده يشمر عن ساعد الجد يستغل وقته كله في طاعة الله ولهذا قال : ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله هي الجنة)) رواه الترمذي وهو حديث حسن والمراد بهذا الحديث التشمير في الطاعة والاجتهاد من بداية العمر لأن الجنة غالية تحتاج إلى ثمن باهظ ومن سعى لها وعمل صالحا وسار من أول الطريق نال بغيته إن شاء الله.
ولهذا كان السلف الصالح يغلّبون جانب الخوف في حال الصحة والقوة حتى يزدادوا من طاعة الله ويكثروا من ذكره ويتقربوا إليه بالنوافل والعمل الصالح.
أيها الإخوة: إن رجحان جانب الخوف من الله في قلب المؤمن هو وحده الذي يرجح الكفة وهو وحده الذي يعصم من فتنة هذه الدنيا وبدون الخوف لا يصلح قلب ولا تصلح حياة ولا تستقيم نفس ولا يهذب سلوك وإلا فما الذي يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات من زنى وبغى وظلم وركون إلى الدنيا غير الخوف من الله، وما الذي يهدئ فيها هيجان الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع؟ وما الذي يثبت النفس في المعركة بين الحق والباطل وبين الخير والشر؟ وما الذي يدفع الإنسان إلى تقوى الله في السر والعلن سوى خوف الله، فلا شيء يثبت الإيمان عند العبد رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج إلا اليقين في الآخرة والإيمان بها والخشية والخوف مما أعده الله من العذاب المقيم لمن خالف أمره وعصاه. فتذكر الآخرة في جميع الأحوال والمناسبات والظروف يجعل عند الإنسان حسا مرهفا يجعله دائم اليقظة جاد العزيمة دائم الفكر فيما يصلحه في معاشِه ومعادِه كثير الوجل والخوف مما سيؤول إليه في الآخرة، ففي كتاب الزهد للإمام أحمد عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قلت ليزيد! ما لي أرى عينيك لا تجفّ؟ قال: يا أخي إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو توعدني أن يسجنني في الحمام لكان حريا أن لا يجف لي دمع.
وروى ضمرة عن حفص بن عمر قال: بكى الحسن البصري فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني في النار غدا ولا يبالي. ولهذا من خاف واشتد وجله من ربه في هذه الدنيا يأمن يوم الفزع الأكبر فعن أبي هريرة عن النبي فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: ((وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين: إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة)) رواه أبن حبان في صحيحه.
أيها الأخوة: لقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة عاشوا مشاهد الآخرة فعلا وواقعا كأنهم يرونها حقيقة ولم يكن في نفوسهم استبعاد لذلك اليوم بل كان يقينهم بذلك اليوم واقعا تشهده قلوبهم وتحسّه وتراه وتتأثر وترتعش وتستجيب لمرآه ومن ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول وتكيفت حياتهم على هذه الأرض بطاعة الله وكأن النار إنما خلقت لهم قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما. وحق لهما أيها الإخوة ولكل مؤمن أن يخاف من النار وأن يستعيذ بالله منها لأن الخبر ليس كالمعاينة يقول : ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد)) رواه مسلم وقال في وصف النار محذرا منها: ((نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم)) ولهذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم إذا رأى أحدهم نارا اضطرب وتغير حاله فهذا عبد الله بن مسعود مر على الذين ينفخون على الكير فسقط مغشيا عليه وهذا الربيع بن خثيم رحمه الله مر بالحداد فنظر إلى الكير فخر مغشيا عليه، وكان عمر بن الخطاب ربما توقد له نار ثم يدني يديه منها ويقول: (يا ابن الخطاب هل لك صبر على هذا). وكان الأحنف رضي الله عنه: يجئ إلى المصباح بالليل فيضع إصبعه فيه ثم يقول: (حس، حس ثم يقول يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا وكذا يحاسب نفسه) وفي الحديث: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم)).
أيها الاخوة :إن أمر القيامة أمر عظيم رهيب، يرجّ القلب ويرعب الحس رعبا مشاهده يرجف لها القلوب والله سبحانه أقسم على وقوع هذا الحادث لا محالة فقال في سورة الطور إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع فهو واقع حتما، لا يملك دفعه أحد أبدا والأمر داهم قاصم ليس منه دافع ولا عاصم كما أن دون غد الليلة، فما أعددنا لذلك اليوم، وما قدمنا له وهل جلس كل منا يحاسب نفسه ما عمل بكذا وما أراد بكذا بل الكل ساهٍ لاه، والكل في سكرته يعمهون ويلعبون ويضحكون ويفسقون ويفجرون وكأن أحدهم بمنأى من العذاب وكأنهم ليس وراءهم موتا ولا نشورا ولا جنة ولا نارا ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين يقول الحسن البصري رحمه الله: (إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي ما أردت بحديثي، وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاقب نفسه). فحقيق بالمرء أن يكون له مجالس يخلو فيها يحاسب نفسه ويتذكر ذنوبه ويستغفر منها.
أيها الأحبة: لقد كان المسلمون يعيشون مع القرآن فعلا وواقعا عاشوا مع الآخرة واقعا محسوسا، لقد كانوا يشعرون بالقرآن ينقل إليهم صوت النار وهي تسري وتحرق وإنه لصوت تقشعر منه القلوب والأبدان كما أحس عليه الصلاة والسلام برهبة هذا الأمر وقوته حتى أنه وعظ أصحابه يوما فقال: ((إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله عز وجل، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله والله لوددت أني شجرة تعضد)) رواه البخاري وفي رواية قال: ((عرضت علي الجنة والنار فلم أرى كاليوم في الخير والشر)) ثم ذكر الحديث فما أتى على أصحاب رسول الله يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين والخنين هو البكاء مع غنّه، ولطول المطلع وشدة الحساب وتمكن العلم والمعرفة لدى رسول الله تمنى أن يكون شجرة تقطع وينتهي أمرها فكيف بنا نحن؟ عجبا لنا نتمنى على الله الأماني مع استهتارنا بالدين وبالصلاة وبكل شيء فماذا نرجو في الآخرة؟ وكما قيل:
يا آمنا مع قبح الفعل منه هل
أتاك توقيع أمن أنت تملكه
جمعت شيئين أمنا واتباع هوى
هذا وإحداهما في المرء تهلكه
والمحسنون على درب الخوف قد ساروا
و ذلك درب لست تسلكه
فرطت في الزرع وقت البذر من سفه
فكيف عند حصاد الناس تدركه
هذا وأعجب شيء فيك زهدك في
دار البقاء بعيش سوف تتركه
نعم والله هذا حال الكثير من الناس اليوم لا يريدون أن يعملوا ولا يريدون أن يتذكروا فإذا ذكرت لهم النار قالوا: لا تقنط الناس، وهذا والله هو العجب العجاب يريدون أن يبشروا بالجنة ولا يذكروا بالقيامة وأهوالها ولا بالنار وسمومها وعذابها وهم على ما هم فيه من سيئ الأعمال وقبيح الصفات، قال: الحسن البصري: لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى، لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم، وقد ورد في الترمذي عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها)) والسبب في ذلك ضعف جانب الخوف عند هؤلاء، لقد كان بعض السلف من شدة خوفه ووجله وكثرة تفكيره في أحواله الآخرة لا يستطيع النوم ولا الضحك ولا اللهو حتى يعلم أهو من الناجين أم لا، فهذا شداد بن أوس كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم ويقول (الله إن النار أذهبت مني النوم فيقوم يصلي حتى يصبح)، وهذا منصور بن المعتمر كان كثير الخوف والوجل كثير البكاء من خشية الله قال عنه زائدة بن قدامة: إذا رأيته قلت: هذا رجل أصيب بمصيبة ولقد قالت له أمه: ما هذا الذي تصنع بنفسك تبكى عامة الليل، لا تكاد أن تسكت لعلك يا بنيّ أصبت نفسا، أو قتلت قتيلا؟ فقال: يا أمه أنا أعلم بما صنعت نفسي، وهذا معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله وأنت وأنت؟ فقال: ما أبكي جزعاً من الموت أن حل بي ولا دنيا تركتها بعدي، ولكن هما القبضتان، قبضة في النار وقبضة في الجنة فلا أدري في أي القبضتين أنا. يقول الحسن بن عرفه: رأيت يزيد بين هارون بواسط وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعد ذلك بعين واحدة ثم رأيته بعد ذلك وقد ذهبت عيناه فقلت له: يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان، فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار.
والبكاء من خشية الله سمة العارفين قال عبد الله بن عمرو بن العاص : لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بمئة ألف درهم.
ولما جاء عقبة بن عامر إلى النبي يسأله: ما النجاة؟ نعم والله ما النجاة كيف ننجو من عذاب الله؟ فقال له: ((أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك)) وفي رواية قال: ((طوبى لمن ملك نفسه ووسعه بيته وبكى على خطيئته)).
وقد بين أن من بكى من خشية الله فأن الله يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله فقال ((...ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) بل حرم الله النار على من بكى من خشيته قال : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع)) ، وفي رواية قال: ((حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله)) وكلا الحديثين صحيح.
وفي الأثر الإلهي: (( ولم يتعبد إلي المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي)).
أيها المسلمون :إن سلفنا الصالح كانوا يتوجهون إلى الله في خشية وبكاء ووجل وطمع الخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته والخوف من غضبه والطمع في رضاه والخوف من معصيته والطمع في توفيقه يدعون ربهم خوفا وطمعا والتعبير القرآني يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة حتى لكأنها مجسّمة ملموسة إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين إنها الصورة المشرقة المضيئة لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم كانوا يخافون ويرجون وكانوا يبكون حتى يؤثر فيهم البكاء فبكاؤهم ثمرة خشيتهم لله قال تعالى عنهم: ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا وقال أيضا: والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ، فبالخوف والخشية تحترق الشهوات وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذلة والاستكانة والتواضع والخضوع، ويفارق الكبر والحسد، بل يصير مستوعب الهم يخوفه والنظر في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمحافظة على الأوقات واللحظات ومؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات، ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أنه يغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلك، فيكون ظاهره وباطنه مشغولا بما هو خائف منه لا متسع فيه لغيره. هذا حال من غلبه الخوف واستولى عليه وهكذا كان حال جماعة من الصحابة والتابعين يقول بلال بن سعد: عباد الرحمن، هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من أعمالكم تقبلت منكم أو شيء من خطاياكم غفرت لكم والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم من العبادة، وتنافسون في جنة أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ، ويقول أيضا: رب مسرور مغبون، ورب مغبون لا يشعر، فويل لمن بان له الدليل ولا يشعر يأكل ويشرب ويضحك، وقد حق عليه في قضاء الله عز وجل أنه من أهل النار فيا ويل لك روحا والويل لك جسدا فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الأبد. فبمثل هذه العبارات كان الرسول وكان السلف يجاهدون أنفسهم ويعظون غيرهم حتى ينتبه الناس من غفلتهم ويصحوا من رقدتهم ويفيقوا من سكرتهم رجاء أن يدركوا من سبقهم إلى الطريق المستقيم ويكون الخوف دافعا لهم على الاستقامة ما كانوا على وجه الأرض أحياء مكلّفين.
وفي الختام أحب أن أذكر نماذج من خوف بعض الصحابة والتابعين:
فهذا أبو بكر أفضل رجل في هذه الأمة بعد رسول الله نظر إلى طير وقع على شجرة فقال: ما أنعمك يا طير، تأكل وتشرب وليس عليك حساب وتطير ليتني كنت مثلك، وكان كثير البكاء وكان يمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد) وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله، وهذا عمر الرجل الثاني بعد أبي بكر قال لابنه عبد الله وهو في الموت: (ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني ثم قال: بل ويل أمي إن لم يغفر لي ويل أمي إن لم يغفر لي)، وأخذ مرة تبنة من الأرض فقال: (ليتني هذه التبنة ليتني لم أكن شيئا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت منسيا)، وكان يمر بالآية من ورده بالليل فتخيفه، فيبقى في البيت أياما معاد يحسبونه مريضا، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء، وهذا عثمان كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته وقال: (لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصيرُ)، وهذا علي كما وصفه ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية يقول: كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، ويتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يميل في محرابه قابضا على لحيته يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه يقول للدنيا: إلي تعرضت، إلي تشوفت، هيهات هيهات غري غيري قد طلقتك ثلاثا فعمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن.
وهذا ابن عباس كان أسفل عينيه مثل الشّراك البالي من البكاء.
وهذا أبو عبيدة يقول عن نفسه: وددت أني كنت كبشا فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويشربون مرقي، وهكذا كان حال صحابة رسول الله مع أنهم كانوا مبشرين بالجنة فهذا علي رضي الله عنه يصفهم ويقول: لقد رأيت أصحاب محمد فلم أرَ أحدا يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا وقد باتوا سجدا أو قياما، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقعون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب العزي من طول سجودهم إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبتل جيوبهم ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء للثواب. وهذا سفيان الثوري رحمه الله يقول: والله لقد خفت من الله خوفا أخاف أن يطير عقلي منه وإني لا أسأل الله في صلاتي أن يخفف من خوفي منه.
أيها الإخوة: هل من مشمر؟ هل من خائف؟ هل من سائر إلى الله؟ بعد هذا الذي سمعناه أرجو أن نكون مثل سلفنا علما وعملا خوفا ورجاء ومحبة فإن فعلنا ذلك كنا صادقين وكنا نحن المشمرين إن شاء الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
ثم أما بعد:
أيها الإخوة: لم يكن سلفنا الصالح يخافون ويبكون ويتضرعون نتيجة تقصيرهم أو نتيجة عصيانهم وكثرة ذنوبهم، كلا بل كانوا يخافون أن لا يتقبل الله منهم ولهذا لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله عن قوله تعالى: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه)) ، قال الحسن: عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية وإن المنافق جمع إساءة وأمنا.
وكان خوفهم أيضا من أن يسلب أحدهم الإيمان عند قوته يقول ابن المبارك: إن البصراء لا يأمنون من أربع خصال: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع الرب فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكات، وفضل قد أعطي لعله مكر واستدراج وضلالة قد زينت له فيراها هدى ومن زيغ القلب ساعة ساعة أسرع من طرفة عين قد يسلب دينه وهو لا يشعر.
وهذا سفيان الثوري رحمه الله كان يكثر البكاء فقيل له: يا أبا عبد الله بكاؤك هذا خوفا من الذنوب، فأخذ سفيان تبناً وقال: والله للذنوب أهون على الله من هذا ولكن أخاف أن أسلب التوحيد. وهذا أبو هريرة كان يقول في آخر حياته: (اللهم إني أعوذ بك أن أزني أو أعمل كبيرة في الإسلام)، فقال له بعض أصحابه: يا أبا هريرة ومثلك يقول هذا أو يخافه وقد بلغت من السن ما بلغت وانقطعت عنك الشهوات، وقد شافهت النبي وبايعته وأخذت عنه، قال: (ويحك، وما يؤمنني وإبليس حي).
وكان بلال بن سعد يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من زيغ القلوب، وتبعات الذنوب ومن مرديات الأعمال ومضلات الفتن، قال أبو الدرداء : (مالي لا أرى حلاوة الإيمان تظهر عليكم، والله لو أن دب الغابة وجد طعم الإيمان لظهر عليه حلاوته، ما خاف عبد على إيمانه إلا منحه وما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه) وكان من دعائه : (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ويا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك وطاعة رسولك)، ولما احتضر عمر بن قيس، الملائي بكى فقال له أصحابه: على ما تبكي من الدنيا فوالله لقد كنت غضيض العيش أيام حياتك فقال: والله ما أبكي على الدنيا وإنما أبكي خوفا من أن أحرم الآخرة.
يقول الإمام الغزالي: ولا يسلم من أهوال يوم القيامة إلا من أطال فكره في الدنيا فإن الله لا يجمع بين خوفين على عبد فمن خاف هذه الأهوال في الدنيا أمنها في الآخرة وليست أعني بالخوف رقة كرقة النساء تدمع عينيك ويرق قلبك حال الموعظة ثم تنساه على القرب، وتعود إلى لهوك ولعبك، فما هذا من الخوف في شيء فمن خاف شيئا هرب منه، ومن رجا شيئا طلبه، فلا ينجيك إلا خوف يمنعك من المعاصي ويحثك على الطاعة، وأبعد من رقة النساء خوف الحمقى إذا سمعوا الأهوال سبق إلى ألسنتهم الاستعاذة فقال أحدهم: استعنت بالله اللهم سلم سلم، وهم مع ذلك مصرون على المعاصي التي هي سبب هلاكهم، فالشيطان يضحك من استعاذته كما يضحك على من يقصده سبع ضار في صحراء ووراءه حصن فإذا رأى أنياب السبع وصرلته من بعد قال بلسانه: أعوذ بهذا الحصن الحصين وأستعين بشدة بنيانه وإحكام أركانه، فيقول ذلك بلسانه وهو قاعد في مكانه فأني يغني عنه ذلك من السبع وكذلك أهوال الآخرة ليس لها حصن إلا قول: لا إله إلا الله صادقا ومعنى صدقه أن لا يكون له مقصود سوى الله تعالى ولا معبود غيره)، فالله أسأل أن يجعلنا ممن إذا خافه أطاعه وابتعد عن معاصيه.
(1/191)
تلاوة القرآن
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
الآيات والأحاديث في فضل تعلم القرآن – انشغال الناس اليوم عن القرآن وخطورة ذلك -
أنواع هجر القرآن : 1- هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه 2- هجر العمل به
3- هجر تحكيمه والتحاكم إليه 4- هجر تدبره وتفهُّمه 5- هجر الاستشفاء والتداوي به -
فضل التلاوة في رمضان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واهتموا بكتاب الله، قال الله – عز وجل -: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور ، وروى البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه )) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران )) ، رواه البخاري ومسلم. وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله يقول: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه )) ، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )) رواه مسلم.
عباد الله: هذه نصوص سمعتموها من كتاب ربكم، وسنة نبيكم، تحثكم على تعلم كتاب الله وتلاوته والعمل به؛ لأنه مناط سعادتكم، وهو المخرج من الفتن، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم. فأقبلوا على تعلمه وتلاوته والتفكر فيه، وعلموه أولادكم ونشؤهم على تلاوته وحبه، حتى يألفوه ويتصلوا به فيطهّر أخلاقهم، ويزكي نفوسهم، ويكونوا من حملة القرآن وأهله؛ لأن الصبي إذا تعلم القرآن بلغ وهو يعرف ما يقرأ في صلاته، وحفظ القرآن في الصغر أولى من حِفظه في الكبر، وأشد علوقا بالذاكرة، وأرسخ وأثبت؛ لأن التعلم في الصغر كالنقش على الحجر.
عباد الله: إن أكثر الناس اليوم انشغلوا عن تعلم القرآن، فالكبار انشغلوا بالدنيا، والصغار انشغلوا بالدراسة النظامية في المدارس التي لا تعطي لتعليم القرآن وقتا كافيا، ولا عناية لائقة، ولا مدرسين يقومون بالواجب نحوه، وبقية وقت الأولاد مضيع في اللعب في الشوارع، مما أدى إلى جهلهم بالقرآن، وابتعادهم عنه حتى تجد أحدهم يحمل أكبر الشهادات الدراسية وهو لا يحسن أن يقرأ آية من كتاب الله على الوجه الصحيح، وحتى آل الأمر إلى خلو كثير من المساجد من الأئمة لثقل تلاوة القرآن على غالب الناس، والسبب في كل ذلك بالدرجة الأولى إهمال الآباء لأبنائهم، وعدم اهتمامهم بهذه الناحية، فلا يدري أحدهم ما حال ابنه مع القرآن، وحتى صار القرآن مهجورا بين غالب المسلمين، وهذا ما شكا أو يشكو منه الرسول بقوله: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً [الفرقان:30]. قال ابن كثير – رحمه الله: وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال – أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدل عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام، أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه.
وقال ابن القيم – رحمه الله -: هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به، والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين.
والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله: وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. ا هـ.
وقد ورد في الحديث: ((يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه )).
عباد الله: إنه لا بد من تلقي القرآن وتعلمه عن معلمين يجيدون قراءته، ولا يكفي أن يتهجاه الإنسان من المصحف، فإن تلَقِي القرآن من فم الملقن أحسن وأضبط؛ لأن الكتابة لا تدل على الأداء، كما أن المشاهد من كثير ممن تلقاه من الكتابة فقط أنه يكثر تصحيفه وغلطه، فلا بد من معلم متقن يوقفه على ألفاظ القرآن، فيجب على من أراد أن يتعلم القرآن أو يعلمه أولاده أن يختار المقرئ المجيد؛ ليأخذوا القرآن عن إتقان، ويتعلموه عن جودة؛ فإن الاهتمام بكتاب الله من أهم المهمات.
عباد الله: ومن تعلم كتاب الله فليحافظ عليه، وليكثر من تلاوته بتدبر وتفهم وخشوع وحضور قلب، قال : ((من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ا لم حرف، ولكن: ألف حرف ولام حرف وميم حرف )) رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
قال ابن القيم – رحمه الله – : تأمل خطاب القرآن تجدَ مَلِكاً له الملك كله، وله الحمد كله، أزمَّة الأمور كلها بيده، ينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه، فيذكرهم بنعمه عليهم، ويأمره بما يستوجبون به تمامها، ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه. وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، يدعو إلى دار السلام ويذكر أوصافها وحسنها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها، ويذكر عباده فقرهم إليه وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، فإذا شهدت القلوب من القرآن مَلِكا عظيما رحيما جوادا جميلا هذا شأنه فكيف لا تحبه؟ فالقرآن مذكر بالله مقرب إليه. فينبغي للمسلم أن يعني بتعلمه ويكثر من تلاوته؛ لأنه النور والشفاء والرحمة والروح والهدى والفرقان والذكر الحكيم والبرهان.
عباد الله: وأكثروا من تلاوة القرآن في شهر رمضان المبارك، فإن تلاوته في هذا الشهر لها مزية وفضيلة على تلاوته في غيره من الأوقات؛ لأنه أنزل فيه كما قال تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [البقرة:185] ، وقال: إنا أنزلناه في ليلة القدر [القدر:1] ، ولأن الحسنات في هذا الشهر تضاعف أكثر من مضاعفتها في غيره، ولأن القلب يقبل على تدبر القرآن في هذا الشهر أكثر من غيره، ولذلك كان جبريل عليه السلام يدارس نبينا محمدا القرآن في هذا الشهر كل ليلة، وكان السلف يقبلون على تلاوة القرآن فيه ويتفرغون في دراسة الحديث وطلب العلم ليقبلوا على تلاوته.
عباد الله: ومطلوب من المسلم أن يتلو القرآن على حسب حاله وفي حدود استطاعته، فإن كان يجيد القراءة فهذا أفضل وأكمل، وإن كان لا يجيدها فإنه يقرأه على حسب حاله، فقد ورد في الحديث: (( الذي يقرأ وهو ماهر فيه مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران )) متفق عليه. وينبغي لهذا أن يجتهد في إصلاح قراءته على يد من هو أحسن منه قراءة. كما أن المسلم يتلو ما تيسر له من القرآن، فإن كان يقرأه كله فهذا أكمل وأحسن. وإلا قرأ ما يمكنه من سوَرِه ليحوز الأجر والفضيلة، ولا يتوقف عن التلاوة بحجة أنه لا يحسن قراءة القرآن كله، فيحرم نفسه الأجر ويفوت عليها الفرصة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الذين يتلون كتب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم الآيات إلى قوله: إنه غفور شكور.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/192)
في فضل الاستغفار
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأنبياء يستغفرون الله 2- فوائد الاستغفار 3- أوقات يُندب فيها الاستغفار 4- معنى
الاستغفار 5- صيغ الاستغفار
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله قد أمرنا بالتوبة إليه، والاستغفار من ذنوبنا، في آيات كثيرة من كتابه الكريم، وسمى ووصف نفسه بالغفار وغافر الذنب وذي المغفرة، وأثنى على المستغفرين ووعدهم بجزيل الثواب، وكل ذلك يدلنا على أهمية الاستغفار، وفضيلته، وحاجتنا إليه. وقد قص الله علينا عن أنبيائه أنهم يستغفرون ربهم، ويتوبون إليه، فذكر عن الأبوين عليهما السلام أنهما قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [الأعراف:23] ، وذكر لنا عن نوح - عليه السلام – أنه قال: وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين [هود:47] ، وقال أيضا: رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات [نوح:28] ، وذكر عن موسى – عليه السلام – أنه قال: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي [القصص:16] ، وذكر عن نبيه داود – عليه السلام – أنه قال: فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب [ص:24] ، وذكر عن نبيه سليمان – عليه السلام – أنه قال: رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ، وأمر خاتم رسله نبينا محمداً بقوله: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ، وأمرنا بالاستغفار فقال: فاستقيموا إليه واستغفروه [فصلت:6] ، وفي الحديث القدسي يقول سبحانه: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم)).
عباد الله: وللاستغفار فوائد عظيمة، منها: أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات، كما في الحديث: ((فاستغفروني أغفر لكم )) ، وكما قال تعالى: ومن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً [النساء:110]. وفي الحديث: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك)).
ومن فوائد الاستغفار: أنه يدفع العقوبة ويدفع العذاب قال الله تعالى: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.
ومن فوائد الاستغفار: أنه سبب لتفريج الهموم، وجلب الأرزاق والخروج من المضائق ففي سنن أبي داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب )).
ومن فوائد الاستغفار: أنه سبب لنزول الغيث والإمداد بالأموال والبنين ونبات الأشجار وتوفر المياه، قال تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً [نوح:10-12] ، وقال عن هود عليه السلام أنه قال لقومه: ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم [هود:52].
عباد الله: والاستغفار مشروع في كل وقت، وهناك أوقات وأحوال مخصوصة يكون للاستغفار فيها مزيد فضل، فيستحب الاستغفار بعد الفراغ من أداء العبادات؛ ليكون كفارة لما يقع فيها من خلل أو تقصير، كما شرع بعد الفراغ من الصلوات الخمس، فقد كان النبي إذا سلم من الصلاة المفروضة يستغفر الله ثلاثا؛ لأن العبد عرضة لأن يقع منه نقص في صلاته بسبب غفلة أو سهو.
كما شرع الاستغفار في ختام صلاة الليل، قال تعالى عن المتقين: كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:17-18]. وقال تعالى: والمستغفرين بالأسحار.
وشرع الاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والفراغ من الوقوف بها قال تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم [البقرة:199].
وشرع الاستغفار في ختم المجالس حيث أمر النبي عندما يقوم الإنسان من المجلس أن يقول: (( سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك )) ، فإن كان مجلس خير كان كالطابع عليه، وإن كان غير ذلك كان كفارة له.
وشرع الاستغفار في ختام العمر، وفي حالة الكبر، فقد قال الله تعالى لنبيه عند اقتراب أجله: بسم الله الرحمن الرحيم: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً [سورة النصر]. فقد جعل الله فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا، علامة على قرب نهاية أجل النبي ، وأمره عند ذلك بالاستغفار، فينبغي لكم أيها المسلمون ملازمة الاستغفار في كل وقت، والإكثار منه في هذه الأوقات والأحوال المذكورة، لتحوزوا هذه الفضائل، وتنالوا هذه الخيرات، فقد كان نبينا يكثر من الاستغفار.
فقد روى الإمام أحمد وأصحاب السنن من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((إننا لنعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك التواب الرحيم )) ، وفي سنن ابن ماجه بسند جيد عن النبي أنه قال: ((طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا )).
عباد الله: والاستغفار معناه طلب المغفرة من الله بمحو الذنوب، وستر العيوب، ولا بد أن يصحبه إقلاع عن الذنوب والمعاصي. وأما الذي يقول: أستغفر الله بلسانه، وهو مقيم على المعاصي بأفعاله فهو كذاب لا ينفعه الاستغفار. قال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين، وقال آخر: استغفارنا ذنب يحتاج إلى استغفار ! يعني: أن من استغفر ولم يترك المعصية، فاستغفاره ذنب يحتاج إلى استغفار. فلننظر في حقيقة استغفارنا، لئلا نكون من الكذابين الذين يستغفرون بألسنتهم، وهم مقيمون على معاصيهم.
عباد الله: هناك ألفاظ للاستغفار وردت عن النبي ينبغي للمسلم أن يقولها، منها: قوله : (( رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم )) ، وقوله: (( أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه )) ، وقال : (( سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة. ومن قالها من الليل وهو موقن به فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة )) رواه البخاري.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، إلى قوله: ونعم أجر العاملين [آل عمران:133-136].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/193)
آداب تلاوة القرآن الكريم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
محمد بن صالح المنجد
الخبر
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث الشرع على تلاوة القرآن الكريم وتدبره 2- آداب تلاوة القرآن الكريم
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
لاشك أن هذا الكتاب هو حبل الله الممدود من ربنا إلينا، من تمسك به هُدي ومن اعتصم به فاز، والفوز هو الجنَّة.
والله عز وجل قد أوصانا بكتابه في كتابه بوصايا كثيرة فيها الأمر بتلاوة القرآن وترتيله: ورتّل القرآن ترتيلا [المزمل:4]. من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون كتاب الله آناء الليل وهم يسجدون [آل عمران:113]. والذين يذكرون الّله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم [آل عمران:191]. أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه [الزمر:9]. ويقرأ كتاب الله عزوجل لاشك أنه هو الفائز يوم القيامة.
وهذ الكتاب العزيز تلاوته لها آداب، ومن آداب هذه التلاوة: ((ويجيء القرآن يوم القيامة فيقول : يارب حلّه، فيُلْبس تاج الكرامة، ثم يقول : يارب زدهُ، فيُلبس حلة الكرامة، ثم يقول : يارب ارض عنه فيرضى عنه، فيقول إقرأ وارق، ويُزاد بكل آيةٍ حسنة)). رواه الترمذي وهو حديث حسن.هذا شيء من فضل تلاوة القرآن وما لقارئ القرآن من الأجر، وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي أوصانا بها كما روى الإمام أحمد - رحمه الله تعالى _ في مسنده عن أبي سعيد أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((أوصيك بتقوى الله تعالى فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض)).
1- الإخلاص لله سبحانه وتعالى:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا يوم القيامة عمَّن تُسعربهم النار، وهم ثلاثة: فمنهم قارئ للقرآن والسبب ولاشك في تسعير النار به يوم القيامة هو أنه لم يكن من الذين أخلصوا لله سبحانه وتعالى في ذلك وكذلك هؤلاء الثلاثة الذين هم أول من تُسعر بهم النار قال النبي عليه الصلاة والسلام فيهم : ((إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعوا به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلتُ على رسولي؟! قال: بلى يارب. قال: فماذا عملت بما علمت؟! قال: كنت أقومُ به آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله له: بل أردت أن يقال فلان قارئ، فقد قيل ذلك - أخذت أجرك في الدنيا. أخذت أجرك في الدنيا ثم يُسحب به إلى النار)) والعياذ بالله.
فأولاً لا بُدَّ من الإخلاص لله سبحانه وتعالى في التلاوة.
2-أن يتلوَه على طهارة:
ولاشك أن تِلاوته على طهارة أفضل من تلاوته على غير طهر.
3-التسوك:
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: ((إن أفواهكم طرق للقرآن فطيّبوها بالسواك)). وقد جاء عدد من الأحاديث في هذا الموضوع فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا تسوّك أحدُكم ثم قام يقرأ طاف به الملك يستمع القرآن حتى يجعل فاه على فيه فلا تخرج آية من فيه إلاّ في فيّ الملك)) ، وهذا الحديث صححه الشيخ ناصر وغيره، فمن فوائد السواك لقاريء القرآن أنه لايخرج من فمه أذى يؤذي الملك، فلا يقرأ آيةً إلا دخلت في فم الملك، وأن الملك يضع فاه على فم قارئ القرآن القائم بالليل.
4-الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:
لأن الله تعالى قال: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [النحل:98]. والمعنى: إذا أردت القراءة.
قال بعض أهل العلم: يجب التعوّذ عند قراءة القرآن لظاهر الأمر، وجمهور العلماء على استحباب ذلك.
ومن أفضل الصيغ: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه. كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
5-البسملة:
على القاريء أن يحافظ على قراءة البسملة أولَ كلِ سورة غير سورة "براءة " فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرفُ انقضاء السورة بابتداء السورة التي تليها بالبسملة، إلا في موضع واحد وهو ما بين الأنفال وبراءة.
6- ترتيل القرآن:
لأن الله قال: ورتل القرآن ترتيلاً. ونعتَت أم سلمة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها قراءة مفصّلةً حرفاً حرفاً.
وفي البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مداً. ثم قراً: " بسم الله الرحمن الرحيم "، يمدّ " اللّه "- يعني المدّ الطبيعي حركتين - ويمد "الرحمن " ويمد " الرحيم " وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلا قال له: إني أقرأ المفصّل في ركعة واحدة، فقال عبدالله: هذاً كهذ الشعر؟! - ينكر عليه يعني الإسراع في القراءة - إن قوماً يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع. وقال ابن مسعود كما أخرج الآجوري: لا تنثروه نثر الدقل - يعني التمرالرديء- ولا تهذوه كهذّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
والترتيل لا شك أنه مما يعين على تدبر القرآن والتأثر به.
8 - الإجتماع لتلاوته:
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاّ نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)) ، فإذاً الاجتماع لتلاوة القرآن ومدارسته من السنن والمستحبات العظيمة.
9- تحسين الصوت بالقرآن:
الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فِي الْعِشَاءِ وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ أَوْ قِرَاءَةً بخ.
لقوله صلى الله عليه وسلم : ((حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً)) وفي رواية : ((حسنُ الصوت زينة القرآن)) وكلاهما حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم. فتحسين الصوت: يعني تجميلهُ وتزينهُ والإعتناءُ به والإبداعُ فيه.
10 - أن يتغنى بالقرآن:
وهذا تابع لما ذكر من تحسين الصوت به. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن))، وكذلك حديث : ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يتغنى به)) فالتغني بالقرآن من آداب التلاوة ومستحباتها، فمعنى التغني: تحسين الصوت.
7- تفخيم التلاوة:
التفخيم يعني ألاّ يقرأه بصوت كصوت النساء إذا كان القاريء رجلاً، وألاّ تقرأ المرأة بصوت كصوت الرجال، وإنما يقرأ كل شخصٍ بطبيعته، الرجل بطبيعته والمرأه بطبيعتها، فلا تشبّه ولا ميوعة عند تلاوة كلام الله.
11- أن لا يجهر شخص على شخص بالقراءة فيرفع صوته:
لأن في رفع الصوت في هذه الحال إيذاء لمن جاوره جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ((ألا كلكم مناجٍ لربه فلا يؤذينّ بعضكم بعضا، ولايرفع بعضكم على بعض في القراءة)).
12-إذا نعس كفّ عن القراءة:
فقد روى أحمد ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إذا قام أحدكم من الليل، فاستُعجِم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول، فليضطجع)) ، يعني: يذهب وينام لئلا يخلط القرآن بغيره، أوتلتبس عليه الآيات، فيقدم ويؤخر، أويهذي ويذكر حروفاً ليست فيه، ونحو ذلك مما يفعله النعسان، فإذا جاءه شيء من ذلك فإن عليه أن يذهبَ وينام.
13- الاعتناء بالسور التي لها فضل والإكثار من قراءتها:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة فإنه من قرأ قل هو الله أحد الله الصمد في ليلة فقد قرأ ليلته ثُلث القرآن)) وفي رواية أنه قال : ((أحشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ثم قرأ عليهم سورة قل هو الله أحد)) فإذاً المتابعة والإعتناء بالآيات أو السور التي فيها فضل عظيم وأجر مضاعف مما ينبغي لتالي القرآن الكريم أن يحرص عليه. الكهف في الجمعة، والسجدة في صلاة فجرها، وتبارك قبل النوم والمعوذات كذلك وفي أدبار الصلوات، وآية الكرسي كذلك.
14- أن لا يقرأ القرآن في الركوع والسجود:
لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ((أيهاالناس: إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أوترى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أوساجداً، فأماالركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم)) وعلة هذا ما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - أنَّ الركوع والسجود من مواضِع الذل، فلا ينبغي أن يقرأ القرآن في مواضع الذل، وإنما فيه تسبيح، تسبيح الله سبحانه وتعالى.
15- أن يصبر الشخص الذي يجد صعوبة في التلاوة عليها:
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران)) فإذاً لو صبر على هذه المشقة وحاول أن يتعلم ما استطاع فلاشك أنه يؤجر أجراً عظيماً.
17- البكاء عند تلاوة القرآن الكريم:
لقوله تعالى ممتدحاً المؤمنين: ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن مسعود قَالَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا قَال:َ أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ)) رواه البخاري.
وقال أحد الصحابة: ((أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَل))ِ يَعْنِي يَبْكِي. رواه النسائي.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ((قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ بِسُورَةِ النِّسَاءِ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ)).
ومعلوم قصة أبي بكر في مرض وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، حيث قالت عائشة رضي الله عنها: (( إنّهُ رجلٌ رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء)). وفي رواية: ((إن أبا بكر رجلُ أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس)).
وسمع نشيج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وراء الصفوف لما قرأ في سورة يوسف قوله تعالى: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله حتى سالت دموعهُ على ترقوته.
وعائشة رضي الله عنها مرّ عليها القاسم وهي تقرأ: فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم ترددها وتبكي وتدعو.
وعبد الله بن عباس رضي الله عنه لمّا قرأ: وجاءت سكرة الموتِ بالحق ذلك ما كنت منه تحيد [ق:19] جعل يرتل ويكثر النشيج. وعبد الله بن عمر ما قرأ قول الله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [البقرة:284] إلا كان يبكي.
والبكاء عند قراءة القرآن دليل خشوع إذا كان بكاءً صادقاً. فإن البكاء على أنواع: منه مايكون بكاء رحمة ورقّة، ومنه مايكون بكاء خوفٍ وخشية، منه مايكون بكاء محبة وشوق، منه ما يكون بكاءً من الفرح والسرور، ومنه مايكون بكاء حزن، وبكاء جزع.
فالبكاء المطلوب عند تلاوة القرآن هو بكاء الخشوع، وليس بكاء النفاق، ولا البكاء المستعار كالتظاهر بالبكاء لأجل أن يقول الناس عنه خاشع.
وبكاء خشوع هو البكاء الذي إذا سمعه الشخص إرتاح إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ((إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعتهُ يقرأ رأيتَ أنه يخشى الله)) رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح.
أما التباكي فهو تكلف البكاء والتباكي منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم. فالتباكي المحمود هو الذي يستجلب رقة القلب وخشية الله، وليس تباكي رياء وسمعه. مثل ما قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبوبكر في شأن أسرى بدر: أخبرني مايبكيك يارسول الله، فإن وجدتُ بكاءً بكيت وإن لم أجد تباكيتُ لبكائكما، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. كما أنه جاء عن بعض السلف قوله: أبكوا من خشية الله، فإن لم تبكوا فتباكوا. أما التباكي المذموم الذي يستجلب به حمد الخلق وثناءهم عليه، فيتظاهر بالبكاء أمام الناس فهذا تباكي نفاق. فكما أن هناك بكاء نفاق، هناك تباكي نفاق.
وقد سُئل الشيخ عبدالعزيز ابن باز - نفع الله بعلمه - عن ظاهرة إرتفاع الأصوات بالبكاء.. فأجاب: لقد نصحتُ كثيراً ممن اتصل بي بالحذر من هذا الشيء، وأنه لا ينبغي، لأن هذا يؤذي الناس ويشقُ عليهم، ويُشوش على المصلين وعلى القارئ، وهذا ما يلاحظ في بعض المساجد في رمضان حيث يكون الوضع مزعجاً جداً، وكثير من الناس لايستطيع أن يفهم قراءة الإمام ولا يسمع صوته وسط زعيق وصياح بعض الناس، وهذا ليس من الخشوع في شيء.. ولاهو طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة. لقد كان بكاؤه عليه الصلاة والسلام بكاءً مكتوماً، وما كان صياحاً ولا زعيقاً. فالذي ينبغي للمؤمن أن يحرص على أن لا يُسمع صوته بالبكاء، وليحذر من الرياء، فإن الشيطان قد يجره إلى الرياء، فينبغي له أن لا يؤذي أحداً بصوته. ومعلوم أن بعض الناس ليس ذلك باختياره بل يغلب عليه من غير قصد وهذا معفوٌّ عنه إذا كان بغير اختياره. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا قرأ يكون لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وجاء في قصة أبي بكر أنه إذا قرأ لايُسمع الناس من البكاء إلى آخره. ولكن ليس معنى هذا أن يتعمد رفع صوته بالبكاء. وإنما شيء يغلب عليه من خشية الله عزوجل.
كذلك سئل الشيخ عن التباكي فأجاب: ورد في بعض الأحاديث: ((إن لم تبكوا فتباكوا)) ، ولكن لا أعلم صحته وقد رواه أحمد. إلا أنه مشهور على ألسنة العلماء، لكن يحتاج إلى مزيد عناية، والأظهر أنه لا يتكلف، بل إذا حصل بُكاء فليجاهد نفسه على أن لايزعج الناس، بل يكون بكاء خفيفاً ليس فيه إزعاج لأحد،حسب الطاقه والإمكان.
والمهم أن يحضر الانسان قلبه عند التلاوة ولا يذهب يمينا وشمالا: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ مِنْ أَفَاضِلِ النَّاسِ وَكَانَ يَقُولُ لَوْ أَنِّي أَكُونُ كَمَا أَكُونُ عَلَى أَحْوَالٍ ثَلاثٍ مِنْ أَحْوَالِي لَكُنْتُ، حِينَ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَحِينَ أَسْمَعُهُ يُقْرَأ،ُ وَإِذَا سَمِعْتُ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم،َ وَإِذَا شَهِدْتُ جِنَازَةً وَمَا شَهِدْتُ جِنَازَةً قَطُّ فَحَدَّثْتُ نَفْسِي بِسِوَى مَا هُوَ مَفْعُولٌ بِهَا وَمَا هِيَ صَائِرَةٌ إِلَيْهِ.
27- أنه يتدبر عند تلاوته:
وهذا الأمر يكاد أن يكون أهم آداب التلاوة على الإطلاق وهو الثمرة الحقيقية للتلاوة.. التدبر عند تلاوة القرآن الكريم, وقد قال الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب وهو لا يحصل إلا لمن تفكر في كلام الله عز وجل واستحضر عظمته سبحانه وتعالى وتأمل في مخاطبات القرآن واستحضر أنه يقرأ مريدا التفهم والعمل بالمتلو. أما أن يقرأ القرآن بلسانه وقلبه في واد آخر فلا تحصل له الثمرة المرجوة من تلاوة القرآن.
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها. ((عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْت:ُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. فَمَضَى فَقُلْت:ُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَتَيْن.ِ فَمَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَة.ٍ فَمَضَى فَافْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ..)) الحديث النسائي.
قُلْتُ لِعَائِشَةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ نَاسًا يَقْرَأُ أَحَدُهُمْ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً فَقَالَتْ أُولَئِكَ قرؤوا وَلَمْ يقرؤوا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ اللَّيْلَةَ التَّمَامَ فَيَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ وَسُورَةَ النِّسَاءِ ثُمَّ لا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا اسْتِبْشَارٌ إِلا دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَغِبَ وَلا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ إِلا دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَعَاذَ.
لقد حدّثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج بأنهم قوم يقرؤون القرآن لا يُجاوز حناجرهم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاثٍ))
وعَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ جَالِسَيْنِ فَدَعَا مُحَمَّدٌ رَجُلاً فَقَال:َ أَخْبِرْنِي بِالَّذِي سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ فَقَالَ الرَّجُل:ُ أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ أَتَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ لَهُ كَيْفَ تَرَى فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي سَبْعٍ فَقَالَ زَيد: حَسَنٌ وَلأنْ أَقْرَأَهُ فِي نِصْفٍ أَوْ عَشْرٍ أَحَبُّ إِلَي:َّ وَسَلْنِي لِمَ ذَاك؟َ قَال:َ فَإِنِّي أَسْأَلُك.َ قَالَ زَيْدٌ: لِكَيْ أَتَدَبَّرَهُ وَأَقِفَ عَلَيْه ,أخرجه مالك في الموطّأ وإنما يُتدبّر للعمل عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الأخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.
18- التلاوة بين الجهر والإسرار:
أما قضية الجهر بالقرآن فقد وردت فيها أحاديث مثل قوله صلىالله عليه وسلم في الصحيحين: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهرُ به)) ، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)).
فيجمع بينهما بما ذكره الإمام النووي قال: الجمع بينهما أن: الإخفاء أفضل حيثُ خاف الرياء، أوتأذّى المصلون، -حيث أنه يلبّس على المصلين صلواتهم أو القارئين قراءتهم أو يوقظ النائم - فعند ذلك يكون الإسرار أفضل. والجهر أفضل في غير ذلك لأن العمل فيه أكثر من رفع صوت وبذل طاقة وجهد، ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمعُ همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه - فيستفيد القارئ ذاته ويكون أكثر تركيزاً، وأطردَ للشيطان وأبعد للنوم وأدعى للنشاط. وكان ـ أبو بكر يُسر وعمر يجهر فسئل عمر فقال : أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان فأمر أبوبكر أن يرفع شيئا ما، وأمر عمرأن يخفض شيئاً ما. ولاحرج في أن يجهر القاريء بالقرآن فترةً فإذا تعب خفض صوته ثم يجهر مرّةً أخرى إذا تنشّط.
19- القراءة في المصحف والقراءة من الحفظ :
جاء مدح القراءة من المصحف في حديث صحيحٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف)) صححه الشيخ ناصر. فهذا دليل على فضل القراءة في المصحف، فالقراءة في المصحف مشروعة.
20 ـ حكم القراءة عند التثاؤب أوخروج الريح:
إذا كان يقرأ فخرجت منه ريح أمسك عن القراءة حتى تنقضي الريح ـ ثم الأفضل أن يتوضأ لمواصلة القراءة وكذلك لو عُرض له تثاؤب فإنه يُمسك عن القراءة لأجل التثاؤب حتى لا يتغير الصوت وتخرج الكلمات غير كلمات القرآن.
21ـ سجود التلاوة:
فإذا مرّ بسجدة للتلاوه سجد، وقال أبو حنيفة بالوجوب والراجح قول عمر رضي الله عنه: أن سجود التلاوة مستحب وليس بواجب وهو قول جمهور العلماء. وصفة السجود أن يكبّر ويسجد.
وذكر شيخ الاسلام - رحمه الله - أن الأفضل أن نكون في حال القيام، لأن قول الله تعالى: ويخرون للأذقان الخرُّ يكون من الوقوف أو القيام.
فإذا سجد يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى قياساً على الصلاة، وقد ورد أيضاً دعاء صحيح ثابت في الترمذي وابن خزيمة أن رجلاً قال : ((يارسول الله إني رأيتني الليلة أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة، فسجدت الشجرة بسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها أجرا، وضع عنّي بها وزرا، واجعلها لي عندك ذُخرا، وتقبّلها مني كما تقبلت من عبدك داود، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم السجدة بعد ذلك ثم سجد قال ابن عباس: فسمعتهُ يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة)). وجاء في روية أخرى: ((وارفعني بها درجة)).
23- استقبال القبلة:
24- أن يكون حال القراءة على هيئة الأدب ما أمكنه:
يجوز للقارئ أن يقرأ القرآن قاعداً أو واقفاً أو ماشياً أو مضطجعاً، كل ذلك جائز، لأن الله تعالى قال: الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض [آل عمران:191] لكن لو جلس متخشعاً كان أفضل من أن يجلس متكئاً على جنبه مثلاُ، فمن ناحية الجواز لا بأس بذلك، لكن الأفضل أن يجلس جلسة المتخشع المتذلل. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتربّع بعد صلاة الفجر ويستقبل القبلة يذكر الله حتى تطلع الشمس. ومن آداب التلاوة كذلك.
25- أن لايُطيل العهد بالقرآن:
فتمر عليه سنوات لا يختم القرآن، والقرآن لا يُقرأ في أقل من ثلاث ولكن لا يُطال عنه العهد. وقد جاءت عدة أحاديث في ذلك. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لشخص : ((اقرأ القرآن في أربعين)) ، وقال: ((إقرأ القرآن في خمس)) ، وقال: ((إقرأ القرآن في ثلاث إن استطعت)) ، وقال: ((كل شهر إقرأه في عشرين ليلة، إقرأه في عشر، إقرأه في سبع، ولاتزد عن ذلك )). هذه الروايات المختلفة تدل على أن الناس طاقات، أشغالهم مختلفة، وجودة تلاوتهم وسرعتها وتمكنهم. كل ذلك يختلف. إذاً كلٌ يقرأ بحسب طاقته وأشغاله، لكن أكثر شي كما ورد: ((أقرأ القرآن في أربعين)). ولعل أفضل مايكون قراءته في أسبوع كما ورد عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأنهم كانوا يختمونه في أسبوع بحيث يقسّمون القرآن سبعة أحزاب.
16- أن لايقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام:
لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يفقهُ من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)) ، كما روى ذلك أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر مرفوعاً.
26- الوقوف عند رؤوس الآي:
من أدب التلاوة الوقوف عند رؤوس الآي وإن تعلقت في المعنى بما بعدها، لأنه قد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان يُقطِّع قراءته آية آية. الحمد لله رب العالمين ، ثم يقف، الرحمن الرحيم ثم يقف)).
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (1/194)
في الأخوة الإيمانية وثمراتها
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الولاء والبراء
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أخوة الدين تعلو أخوة النسب 2- من حقوق الأخوة الإصلاح بين المسلمين 3- من حقوق
الأخوة عدم الاعتداء على حُرُماتهم 4- من حقوق الأخوة محبة الخير للمؤمنين 5- من حقوق
الأخوة النصيحة للمسلمين 6- حقوق المسلم الست
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الأخوة في الدين تعلو الأخوة في النسب، فالله أمر بالمؤاخاة بين المؤمنين والمسلمين، ولو اختلفت أنسابهم وتباعدت أوطانهم، فقال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
وأمر بمعاداة الكافرين ولو تقاربت أنسابهم، فقال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْو?نَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ ?سْتَحَبُّواْ ?لْكُفْرَ عَلَى ?لإِيمَـ?نِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [التوبة:23].
ولهذه الأخوة بين المسلمين والمؤمنين حقوق عظيمة وثمرات كريمة قد بينها الله ورسوله في الكتاب والسنة، تجب مراعاتها والقيام بها، ولا يجوز إهمالها والتهاون بها.
ومن هذه الحقوق والثمرات وجوب الإصلاح بين المسلمين عندما يحصل بينهم اختلاف ونزاع، أو تظهر بينهم عداوة وقطيعة، قال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ ?قْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى? ?لأُخْرَى? فَقَـ?تِلُواْ ?لَّتِى تَبْغِى حَتَّى? تَفِىء إِلَى? أَمْرِ ?للَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِ?لْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9-10].
ومن حقوق الأخوة بين المسلمين والمؤمنين: تعظيم بعضهم لحرمات بعض، وعدم تنقص بعضهم لبعض، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِ?لأَلْقَـ?بِ بِئْسَ ?لاسْمُ ?لْفُسُوقُ بَعْدَ ?لإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الحجرات:11].
ينهى سبحانه المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن سخرية بعضهم من بعض رجالا ونساء، فربما يكون المسخور منه خيراً من الساخر في الدنيا والآخرة، والسخرية لا تصدر إلا من ناقص. ونهى سبحانه عن اللمز، وهو الطعن في حق المسلم، وعن التنابز بالألقاب، وهو أن يدعى الإنسان بغير ما سمي به، واللقب ما يسوء الشخص سماعه.
قال بعض المفسرين، ومنه قول: يا فاسق، يا كلب، يا حمار،.. وقد سمى الله السخرية واللمز، والتنابز بالألقاب فسوقاً، مما يدل على قبح ذلك وشناعته ووجوب الابتعاد عنه.
ومن حقوق الأخوة بين المسلمين والمؤمنين: تجنب إساءة الظن فيما بينهم، والتجسس من بعضهم على بعض، واغتياب بعضهم لبعض، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وذلك بأن يظن بأهل الخير شراً وَلاَ تَجَسَّسُواْ [الحجرات:12]. والتجسس هو البحث عن عيوب الناس، نهى الله عن البحث عن المستور من عيوب الناس وتتبع عوراتهم: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً [الحجرات:12].
وفسر النبي الغيبة بأنها ذكرك أخاك بما يكره، والغيبة محرمة بالإجماع تحريما شديدا. وقد شبهها الله بأكل اللحم من الإنسان الميت، فقال سبحانه: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12].
أي: كما تكرهون هذا طبعا فاكرهوا ذاك شرعا، فإن عقوبته أشد من هذا ومن حقوق الأخوة الإيمانية والإسلامية: التعاون بين المسلمين على البر والتقوى، والتعاون على تحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم. قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2].
وقال النبي : ((مثل المسلمين في توادهم، وتعاطفهم، وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
فالمسلم يفرح لفرح أخيه المسلم ويسره ما يسره، ويتألم لألم أخيه...
ومن حقوق الأخوة الإيمانية والإسلامية: التناصح بين المسلمين والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، قال تعالى: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
وقال النبي : ((الدين النصيحة)) ثلاث مرات، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)).
ومن حقوق الأخوة الإسلامية والإيمانية: أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه. كما قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، والمراد المحبة الدينية لا المحبة البشرية، فإن بعض النفوس البشرية قد تحب الشر.
فالواجب على المؤمن أن يحب لأخيه ما يحب من الخير والنفع لنفسه، ومن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه كان حسودا، والحسد مذموم.
ومن حقوق الأخوة في الإيمان والإسلام: عدم الغش والخديعة للمسلمين قال : ((من غشنا فليس منا)) ، ومن ذلك الغش في البيع والشراء.
فإن كثيرا من الناس اليوم اتخذوا البيع والشراء وسيلة احتيال يحتالون بهما للاستيلاء على أموال الناس بالكذب والخداع والغش.
عن حكيم بن حزام : أن رسول الله قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ويمحقا بركة بيعهما، واليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وعن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أنه خرج مع رسول الله إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون فقال: ((يا معشر التجار)) ، فاستجابوا لرسول الله ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه. فقال: ((إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق)) ، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجة، وابن حبان في (صحيحه)، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وعن أبي ذر عن النبي قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) ، قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرا ت، فقلت: خابوا وخسروا يا رسول الله، ومن هم؟ قال: ((المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) رواه مسلم وغيره.
ومن حقوق المسلمين والمؤمنين بعضهم على بعض: احترام حقوقهم التي سبقوا إليها، فلا يبع بعضهم على بيع بعض، بأن يقول لمن اشترى سلعة بثمن: أنا أعطيك مثلها أو أحسن منها بأقل من ذلك الثمن. ولا يسُم بعضهم على سوم بعض، وذلك إذا سام سلعة وأراد صاحبها أن يبيع عليه جاء آخر وقال له: لا تبع، أنا أزيد في السّوم.
ولا يخطب على خطبة أخيه، وذلك إذا خطب امرأة رضيت به جاء آخر يخطبها، فقد نهى النبي عن هذه الأشياء كلها فقال: ((لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته)) ، وفي رواية: ((لا يسم على سومه)).
ومما نهى عنه الرسول : التناجش يبن المسلمين، وهو أن يزيد في السلعة المعروضة للبيع من لا يريد شراءها، وإنما يريد رفع قيمتها على المشتري، قال : ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض)).
والتدابر: أن يعرض عن الإنسان ويهجره ويجعله كالشيء الذي وراء الظهر والدبر.
ومن حقوق المسلمين بعضهم على بعض: التزاور فيما بينهم، وإفشاء السلام، وقضاء حوائجهم، والرفق بضعفائهم، وتوقير كبارهم ورحمة صغارهم وعيادة مرضاهم واتباع جنائزهم، قال : ((حق المسلم على المسلم خمس: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) متفق عليه.
ومن حقوق المسلمين: دعاء بعضهم لبعض. قال تعالى لما ذكر المهاجرين والأنصار: وَ?لَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
وقال تعالى: وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ [محمد:19].
فالمؤمنون أخوة في جميع الأزمان من أول الخليقة إلى آخرها، وفي جميع أقطار الأرض وإن تباعدت ديارهم يدعو بعضهم لبعض، ويستغفر بعضهم لبعض، ويحب بعضهم بعضا، ويعين بعضهم بعضا على البر والتقوى، وينصح بعضهم لبعض، ويصدقون في تعاملهم فيما بينهم، ويحترم بعضهم حقوق بعض، لأن الله ربط بينهم برابطة الإيمان التي هي أقوى من رابطة النسب والوطن واللغة.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وراعوا حقوق هذه الأخوة، ولا تضيعوها فتكونوا من الخاسرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ?لنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذ?لِكَ يُبَيّنُ ?للَّهُ لَكُمْ ءايَـ?تِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:102-105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن ِمن الناس مَن يدعي الإيمان مكرا وخداعا لأذية المؤمنين، وهو في باطن الأمر مع الكافرين، قال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِ?للَّهِ وَبِ?لْيَوْمِ ?لأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَ?لَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ?للَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ ?لنَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ?لسُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لسُّفَهَاء وَلَـ?كِن لاَّ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى? شَيَـ?طِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ?للَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـ?نِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:8-15].
همهم تتبع عورات المسلمين ومحاولة تفريق كلمتهم، وفيهم قال رسول الله : ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتتبع عوراتهم يتتبع الله عورته ومن يتتبع الله عورته يفضحه في بيته)) رواه أبو داود.
ومن الناس من يكون مؤمنا ضعيف الإيمان، فيتصف ببعض صفات المنافقين، فيكذب في الحديث ويخون في الأمانة، ويفجر في الخصومة، وفي مثل هؤلاء قال النبي : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) وفي رواية: ((وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وكونوا مؤمنين حقاً كما أمركم الله بذلك، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
(1/195)
الإصلاح بين الناس
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
محمد بن صالح المنجد
الخبر
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث الشارع وترغيبه في الإصلاح بين الناس 2- أن الإنسان لو حلف على ما فيه إفساد
ذات البين فعليه أن يُكَفّر عن يمينه ويأت الذي هو خير 3- ذِكر ما يدل على التعامل بحكمة
مع الخلافات الزوجية وغيرها من الخلافات بين الناس 4- ما يدل على جواز الكذب للإصلاح
_________
الخطبة الأولى
_________
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
فقوله تعالى: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم أي واتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه وأطيعوا الله ورسوله أي في قسمه بينكم على ما أراده الله فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف وقال ابن عباس هذا تحريض من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم وكذا قال مجاهد وقال السدي فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم أي لا تستبوا.
ولنذكر ههنا حديثا أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي رحمه الله في مسنده فإنه قال: حدثنا مجاهد بن موسى حدثنا عبدالله بن بكير حدثنا عباد بن شيبة الحبطي عن سعيد بن أنس عن أنس رضي الله عنه "قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: ((رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى:أعط أخاك مظلمته قال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء قال: رب فليحمل عني أوزاري قال: ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ. لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى ثمنه قال: يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت تملكه قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك قال: يا رب فإنى قد عفوت عنه قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فادخلا الجنة". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة)).
قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.
فقوله تعالى: لا خير في كثير من نجواهم يعني كلام الناس إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس أي إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث حدثنا محمد بن زيد بن حنيش قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده فدخل علينا سعيد بن حسان فقال له الثوري الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح ردده علي فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر)) فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهو هذا بعينه أو ما سمعت الله يقول: يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا فهو هذا بعينه أو ما سمعت الله يقول في كتابه: والعصر إن الإنسان لفي خسر الخ فهو هذا بعينه.
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين قال: وفساد ذات البين هى الحالقة)) ورواه أبو داود والترمذي من حديث أبي معاوية وقال الترمذي حسن صحيح.
ولهذا قال: ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله أي مخلصا إلى ذلك محتسبا ثواب ذلك عندالله عز وجل: فسوف نؤتيه أجراً عظيماً أي ثوابا جزيلا كثيرا واسعا.
قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي الجنف الخطأ وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثا بواسطة أو وسيلة كما إذا أوصى ببيعة الشيء الفلاني محاباة أو أوصى لابن ابنته ليزيد أو نحو ذلك من الوسائل إما مخطئا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو متعمداً آثما في ذلك، فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل والله أعلم.
قال تعالى: ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
المعنى: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها كقوله تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم. فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:- ((والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه)) وهكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به. ورواه أحمد عنه به ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية هو ابن سلام عن يحيى وهو ابن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:– ((من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة)). وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم قال: لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير.
ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:– ((إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها)) وثبت فيهما أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لعبدالرحمن بن سمرة: ((يا عبدالرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك)) وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير)).
التدخل الحكيم من أهل الزوجين:
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ((جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عَمِّك؟ِ قَالَت:ْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِنْسَان:ٍ انْظُرْ أَيْنَ هُوَ فَجَاءَ فَقَال:َ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ. قُمْ أَبَا تُرَابٍ)).
قوله: (أين ابن عمك) فيه إطلاق ابن العم على أقارب الأب لأنه ابن عم أبيها لا ابن عمها, وفيه إرشادها إلى أن تخاطبه بذلك لما فيه من الاستعطاف بذكر القرابة, وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم ما وقع بينهما فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة القريبة التي بينهما. قوله: (فلم يقل عندي) بفتح الياء التحتانية وكسر القاف, من القيلولة وهو نوم نصف النهار, وفي حديث سهل هذا من الفوائد أيضا جواز القائلة في المسجد, وممازحة المغضب بما لا يغضب منه بل يحصل به تأنيسه, وفيه التكنية بغير الولد وتكنية من له كنية, والتلقيب بالكنية لمن لا يغضب, وفيه مدارة الصهر وتسكينه من غضبه, ودخول الوالد بيت ابنته بغير إذن زوجها حيث يعلم رضاه.
أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَقَال:َ هَذَا فُلانٌ لأَمِيرِ الْمَدِينَةِ يَدْعُو عَلِيًّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ قَالَ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ يَقُولُ لَهُ: أَبُو تُرَابٍ فَضَحِكَ قَال:َ وَاللَّهِ مَا سَمَّاهُ إلا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ لَهُ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ فَاسْتَطْعَمْتُ الْحَدِيثَ سَهْلا وَقُلْتُ يَا أَبَا عَبَّاسٍ كَيْفَ ذَلِكَ قَالَ دَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى فَاطِمَةَ ثُمَّ خَرَجَ فَاضْطَجَعَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ ((أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ قَالَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَوَجَدَ رِدَاءَهُ قَدْ سَقَطَ عَنْ ظَهْرِهِ وَخَلَصَ التُّرَابُ إِلَى ظَهْرِهِ فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ فَيَقُولُ اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ مَرَّتَيْنِ)).
قوله: (فاستطعمت الحديث سهلا) أي سألته أن يحدثني, واستعار الاستطعام للكلام لجامع ما بينهما من الذوق للطعام الذوق الحسي وللكلام الذوق المعنوي, وفي رواية الإسماعيلي " فقلت يا أبا عباس كيف كان أمره".
قوله : (أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد) في رواية الطبراني كان بيني وبينه شيء فغاضبني. قوله: ( وخلص التراب إلى ظهره ) أي وصل, في رواية الإسماعيلي "حتى تخلص ظهره إلى التراب" وكان نام أولا على مكان لا تراب فيه ثم تقلب فصار ظهره على التراب أو سفى عليه التراب.
قوله: (اجلس يا أبا تراب. مرتين) ظاهره أن ذلك أول ما قال له ذلك.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَيْهِ لأبو تُرَابٍ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إلا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضَبَ يَوْمًا مِنْ فَاطِمَةَ فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ في الْمَسْجِدِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُهُ فَقَالَ هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الْجِدَارِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامتلأ ظَهْرُهُ تُرَابًا فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُول: ((اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ)).
قال ابن بطال: وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طبع عليه البشر من الغضب, وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه. قلت: ويحتمل أن يكون سبب خروج علي خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله عنهما فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما. وفيه كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توجه نحو علي ليترضاه, ومسح التراب عن ظهره ليبسطه, وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته, ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده, فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم, لأن العتاب إنما يخشى ممن يخشى منه الحقد لا ممن هو منزه عن ذلك.
وقد ذكر ابن إسحاق عقب القصة المذكورة قال: "حدثني بعض أهل العلم أن عليا كان إذا غضب على فاطمة في شيء لم يكلمها, بل كان يأخذ ترابا فيضعه على رأسه, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ذلك عرف فيقول: مالك يا أبا تراب؟" فهذا سبب آخر يقوي التعدد, والمعتمد في ذلك كله حديث سهل في الباب والله أعلم.
فضّ الخصومة بين المتنازعين المتداينين.
عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ: ((يَا كَعْبُ فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه.ِ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ فَقَالَ كَعْب:ٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ فَاقْضِه))ِ.
قوله: (عن كعب) هو ابن مالك, أبوه. قوله: (دينا) وقع في رواية زمعة بن صالح عن الزهري أنه كان أوقيتين أخرجه الطبراني. قوله: (في المسجد) متعلق بتقاضى. قوله: (سجف) بكسر المهملة وسكون الجيم وحكى فتح أوله وهو الستر.
قوله: (أي الشطر) بالنصب أي ضع الشطر, لأنه تفسير لقوله: "هذا " والمراد بالشطر النصف وصرح به في رواية الأعرج. قوله: (لقد فعلت) مبالغة في امتثال الأمر. وقوله: "قم" خطاب لابن أبي حدرد, وفيه إشارة إلى أنه لا يجتمع الوضيعة والتأجيل.
وفيه الاعتماد على الإشارة إذا فهمت, والشفاعة إلى صاحب الحق, وإشارة الحاكم بالصلح وقبول الشفاعة, وجواز إرخاء الستر على الباب.
قوله: (تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد, فارتفعت أصواتهما) معنى تقاضاه طالبه به, وأراد قضاءه. وحدرد بفتح الحاء والراء. وفي هذا الحديث جواز المطالبة بالدين في المسجد, والشفاعة إلى صاحب الحق, والإصلاح بين الخصوم, وحسن التوسط بينهم , وقبول الشفاعة في غير معصية, وجواز الإشارة واعتمادها قوله: (فأشار إليه بيده أن ضع الشطر).
ومن الإصلاح ما يكون بالموعظة:
عن عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وَهُوَ يَقُول:ُ وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَقَالَ أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ)).
اقتراح ما فيه مصلحة الطّرفين مشكلتنا أننا إذا تدخّلنا أحيانا نضرّ أكثر مما ننفع:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأرْضُ إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ أَلَكُمَا وَلَدٌ قَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلامٌ وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ قَالَ أَنْكِحُوا الْغُلامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا)).
صنيع البخاري يقتضي ترجيح ما وقع عند وهب لكونه أورده في ذكر بني إسرائيل. قوله: (عقارا) قال عياض: العقار الأصل من المال, وقيل المنزل والضيعة, وقيل متاع البيت فجعله خلافا. والمعروف في اللغة أنه مقول بالاشتراك على الجميع والمراد به هنا الدار, قوله: (فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب, فقال له: خذ ذهبك فإنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع الذهب) وهذا صريح في أن العقد إنما وقع بينهما على الأرض خاصة, فاعتقد البائع دخول ما فيها ضمنا, واعتقد المشتري أنه لا يدخل. وأما صورة الدعوى بينهما فوقعت على هذه الصورة وأنهما لم يختلفا في صورة العقد التي وقعت, والحكم في شرعنا على هذا في مثل ذلك أن القول قول المشتري وأن الذهب باق على ملك البائع, ويحتمل أنهما اختلفا في صورة العقد بأن يقول المشتري لم يقع تصريح ببيع الأرض وما فيها بل ببيع الأرض خاصة, والبائع يقول وقع التصريح بذلك, والحكم في هذه الصورة أن يتحالفا ويستردا المبيع، وهذا كله بناء على ظاهر اللفظ أنه وجد فيه جرة من ذهب, لكن في رواية إسحاق بن بشر أن المشتري قال إنه اشترى دارا فعمرها فوجد فيها كنزا, وأن البائع قال له لما دعاه إلى أخذه ما دفنت ولا علمت, وأنهما قالا للقاضي: ابعث من يقبضه وتضعه حيث رأيت, فامتنع, وعلى هذا فحكم هذا المال حكم الركاز في هذه الشريعة إن عرف أنه من دفين الجاهلية, وإلا فإن عرف أنه من دفين المسلمين فهو لقطة, وإن جهل فحكمه حكم المال الضائع يوضع في بيت المال, ولعلهم لم يكن في شرعهم هذا التفصيل فلهذا حكم القاضي بما حكم به. قوله: (وقال الذي له الأرض) أي الذي كانت له, ووقع في رواية أحمد عن عبد الرزاق بيان المراد من ذلك ولفظه: "فقال الذي باع الأرض: إنما بعتك الأرض".
وقوله: "فتحاكما" ظاهره أنهما حكماه في ذلك , لكن في حديث إسحاق بن بشر التصريح بأنه كان حاكما منصوبا للناس, فإن ثبت ذلك فلا حجة فيه لمن جوز للمتداعيين أن يحكما بينهما رجلا وينفذ حكمه, وهي مسألة مختلف فيها: فأجاز ذلك مالك والشافعي بشرط أن يكون فيه أهلية الحكم وأن يحكم بينهما بالحق سواء وافق ذلك رأي قاضي البلد أم لا واستثنى الشافعي الحدود, وشرط أبو حنيفة أن لا يخالف ذلك رأي قاضي البلد, وجزم القرطبي بأنه لم يصدر منه حكم على أحد منهما, وإنما أصلح بينهما لما ظهر له أن حكم المال المذكور حكم المال الضائع, فرأى أنهما أحق بذلك من غيرهما لما ظهر له من ورعهما وحسن حالهما وارتجى من طيب نسلهما وصلاح ذريتهما.
ووقع في روايته عن أبي هريرة: "لقد رأيتنا يكثر تمارينا ومنازعتنا عند النبي صلى الله عليه وسلم أيهما أكثر أمانة". قوله : (ألكما ولد)؟ بفتح الواو واللام, والمراد الجنس, لأنه يستحيل أن يكون للرجلين جميعا ولد واحد, والمعنى ألكل منكما ولد؟
قوله: ((أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا)).
وقد وقع في رواية إسحاق بن بشر ما يشعر بذلك ولفظه: "اذهبا فزوج ابنتك من ابن هذا وجهزوهما من هذا المال وادفعا إليهما ما بقي يعيشان به".
فيه: فضل الإصلاح بين المتنازعين, وأن القاضي يستحب له الإصلاح بين المتنازعين كما يستحب لغيره.
التدخل لإزالة القطيعة بين الأقارب:
عن عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمِّهَا أَنَّ(( عَائِشَةَ حُدِّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لأحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَقَالَتْ أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَم.ْ قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ فَقَالَتْ: لا وَاللَّهِ لا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا وَلا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَقَالَ لَهُمَا أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَال:ا السَّلامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ أَنَدْخُل؟ُ قَالَتْ عَائِشَة:ُ ادْخُلُوا. قَالُوا كُلُّنَا. قَالَت:ْ نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ. وَلا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إلاَّ مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ وَيَقُولانِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنْ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِي وَتَقُول:ُ إِنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ فَلَمْ يَزَالا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا)).
ففي رواية الأوزاعي عنه: "حدثني الطفيل بن الحارث وكان من أزد شنوءة وكان أخا لها من أمها أم رومان".
قوله: (أن عائشة حُدّثت) كذا للأكثر بضم أوله وبحذف المفعول, ووقع في رواية الأصيلي: "حدثته" والأول أصح, ويؤيده أن في رواية الأوزاعي: "أن عائشة بلغها", ووقع في رواية معمر على الوجهين, ووقع في رواية صالح أيضا: "حدثته". قوله: (في بيع أو عطاء أعطته عائشة) في رواية الأوزاعي: "في دار لها باعتها, فسخط عبد الله ابن الزبير بيع تلك الدار". قوله: (لتنتهين عائشة) زاد في رواية الأوزاعي: "فقال: أما والله لتنتهين عائشة عن بيع رباعها" وهذا مفسر لما أبهم في رواية غيره, وكذا لما تقدم في مناقب قريش من طريق عروة قال: "كانت عائشة لا تمسك شيئا, فما جاءها من رزق الله تصدقت به" وهذا لا يخالف الذي هنا لأنه يحتمل أن تكون باعت الرباع لتتصدق بثمنها, وقوله: "لتنتهين أو لأحجرن عليها " هذا أيضا يفسر قوله في رواية عروة " ينبغي أن يؤخذ على يدها".
قوله: (لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا) في رواية عبد الرحمن بن خالد "كلمة أبدا" وفي رواية معمر "بكلمة" وفي رواية الإسماعيلي من طريق الأوزاعي بدل قوله أبدا "حتى يفرق الموت بيني وبينه".
قوله: (فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة).
زاد في رواية الأوزاعي: "فطالت هجرتها إياه فنقصه الله بذلك في أمره كله, فاستشفع بكل جدير أنها تُقبل عليه" في الرواية الأخرى عنه: "فاستشفع عليها بالناس فلم تقبل" وفي رواية عبد الرحمن بن خالد "فاستشفع ابن الزبير بالمهاجرين" وقد أخرج إبراهيم الحربي من طريق حميد بن قيس بن عبد الله بن الزبير قال فذكر نحو هذه القصة قال: "فاستشفع إليها بعبيد بن عمير فقال لها: أين حديث أخبرتنيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الهجر فوق ثلاث". قوله: (فقالت لا ولله لا أشفع) بكسر الفاء الثقيلة. قوله: (فيه أحدا) في رواية الكشميهني: "أبدا ".
قوله: (ولا أتحنث إلى نذري) في رواية معمر: "ولا أحنث في نذري" وفي رواية الأوزاعي: "فقالت والله لا آثم فيه" أي في نذرها.
قوله: (فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة).
"فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة" وقد بينت هناك معنى هذه الخؤولة وصفة قرابة بني زهرة برسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه وأمه. قوله: (أنشدكما بالله لما) بالتخفيف و"ما" زائدة ويجوز التشديد حكاه عياض, يعني ألا, أي لا أطلب إلا الإدخال عليها.
وفي رواية الكشميهني: "ألا أدخلتماني" زاد الأوزاعي فسألهما أن يشتملا عليه بأرديتهما.
قوله: (لا يحل لها أن تنذر قطيعتي) لأنه كان ابن أختها وهي التي كانت تتولى تربيته غالبا. قوله: (فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته) في رواية معمر: "فقالا السلام على النبي ورحمة الله" فيحتمل أن تكون الكاف في الأول مفتوحة. قوله: ( أندخل؟ قالت: نعم. قالوا: كلنا؟ قالت: نعم) في رواية الأوزاعي: "قالا: ومن معنا؟ قالت: ومن معكما".
قوله: (فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي) في رواية الأوزاعي: "فبكى إليها وبكت إليه وقبلها" وفي روايته الأخرى عند الإسماعيلي: "وناشدها ابن الزبير الله والرحم". قوله: (ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عما قد علمت من الهجرة وإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال).
(تنبيه): ادعى المحب الطبري أن الهجران المنهي عنه ترك السلام إذا التقيا, ولم يقع ذلك من عائشة في حق ابن الزبير.
ولا يخفى ما فيه, فإنها حلفت أن لا تكلمه والحالف يحرص على أن لا يحنث, وترك السلام داخل في ترك الكلام, وقد ندمت على سلامها عليه فدل على أنها اعتقدت أنها حنثت, ويؤيده ما كانت تعتقه في نذرها ذلك.
قوله: (فلما أكثروا على عائشة من التذكرة) أي التذكير بما جاء في فضل صلة الرحم والعفو وكظم الغيظ.
قوله: (والتحريج) بحاء مهملة ثم الجيم أي الوقوع في الحرج وهو الضيق لما ورد في القطيعة من النهي, وفي رواية معمر "التخويف".
قوله: (فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير) في رواية الأوزاعي "فكلمته بعدما خشي أن لا تكلمه, وقبلت منه بعد أن كادت أن لا تقبل منه".
قوله: (وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة) في رواية الأوزاعي "ثم بعثت إلى اليمن بمال فابتيع لها به أربعون رقبة فأعتقتها كفارة لنذرها" ووقع في رواية عروة المتقدمة "فأرسل إليها بعشر رقاب فأعتقتهم" وظاهره أن عبد الله بن الزبير أرسل إليها بالعشرة أولا, ولا ينافي رواية الباب أن تكون هي اشترت بعد ذلك تمام الأربعين فأعتقتهم , وقد وقع في الرواية الماضية "ثم لم تزل حتى بلغت أربعين".
قوله: (وكانت تذكر نذرها) في رواية الأوزاعي: "قال عوف بن الحارث ثم سمعتها بعد ذلك تذكر نذرها ذلك". ووقع في رواية عروة أنها قالت: "وددت أني جعلت حين حلفت عملا فأعمله فأفرغ منه", وبينت هناك ما يحتمله كلامها هذا.
الإصلاح بين الجماعات والقبائل:
عن أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((إِلَيْكَ عَنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِك.َ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ مِنْهُم:ْ وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْك.َ فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَشَتَمَه،ُ فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأيْدِي وَالنِّعَالِ فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا )).
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: ((اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ)).
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ بِلال،ٌ فَأَذَّنَ بِلالٌ بِالصَّلاة،ِ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَال:َ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِسَ وَقَدْ حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ فَقَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ الصَّلاةَ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الأوَّلِ.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: ((اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ)).
بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ((إن ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)).
جواز الكذب للإصلاح:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: ((لَيْسَ الْكَذابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا)).
قوله: (فينمي) بفتح أوله وكسر الميم أي يبلغ, تقول نميت الحديث أنميه إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير, فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت نميته بالتشديد كذا قاله الجمهور.
قال العلماء: المراد هنا أنه يخبر بما علمه من الخير ويسكت عما علمه من الشر ولا يكون ذلك كذبا لأن الكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به, وهذا ساكت, ولا ينسب لساكت قول.
وما زاده مسلم والنسائي من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه في آخره "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث" فذكرها, وهي الحرب وحديث الرجل لامرأته والإصلاح بين الناس.
قال الطبري: ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح وقالوا: إن الثلاث المذكورة كالمثال, وقالوا: الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة, أو ما ليس فيه مصلحة. وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء مطلقا، وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض كمن يقول للظالم: دعوت لك أمس, وهو يريد قوله اللهم اغفر للمسلمين. ويعد امرأته بعطية شيء ويريد إن قدر الله ذلك.
واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها, وكذا في الحرب في غير التأمين. واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار, كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم. والله أعلم.
قال ابن القيم رحمه الله: فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله سبحانه ورضى الخصمين فهذا أعدل الصلح وأحقّه وهو يعتمد العلم والعدل فيكون المصلح عالما بالوقائع عارفا بالواجب قاصدا للعدل فدرجة هذا المصلح من درجة الصائم القائم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/196)
زلزال مصر
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
عبد الحميد التركستاني
الطائف
2/7/1416
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تنوع صور البلاء في المجتمعات. 2- عقوبة الأمم السابقة.. 3- ما ينزل بالناس من
مصائب قد يكون عقوبة وقد يكون بلاءً. 4- فشو المنكرات وحرب الدعاة في بلاد المسلمين.
5- من رحمته تعالى أنه لا يعاملنا بعدله. 6- فشو المنكرات سبب في عموم العذاب. 7- من
الغفلة نسبة الأحداث إلى أسبابها الكونية فقط. 8- من علامات الساعة كثرة الزلازل.
9- دعوة للتوبة والتضرع إلى الله وأخذ العبرة مما وقع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: إن في هذه الدنيا مصائب وفتن ومحن وزلازل مدمرة وأعاصير مهلكة وفيضانات مفرقة آلام تضيق بها النفوس ومزعجات تورث الخوف والجزع، كم ترى من شاكي وكم تسمع من لوام وكم تبصر من مبتلى، تتنوع الابتلاءات وألوان الفتن يبين الناس أفرادا ومجتمعات حسب ابتعاد الناس عن المنهج الإلهي وبحسب قربهم من هذا المنهج وهو التزام كتاب الله وسنة نبيه يكون التخفيف من البلاء والمحنة، والمعصية عندما تكون جماعية يفعلها القاصي والداني في المجتمع المسلم يكون لها أثر مدمر ومخيف لاتساع المساحة التي يظهر فيها شؤم هذا الأثر، فهي تعرض المجتمع الذي فشت فيه بأسره لغضب الله وانتقامه، وتجعله فاقد المناعة، يهوي ويندثر عند تعرضه لأدنى هزة.
أيها الإخوة:
لقد قصّ الله علينا في القرآن الكريم خبر كثير من الأمم التي أهلكها بسبب المعاصي الجماعية وذكرنا جريمتهم التي استحقوا بها ذلك العقاب مثل قوم عاد وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ، ومثل قوم لوط فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد ، ومثل قوم شعيب ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود ثم يبين الله تعالى سنته المطّردة في عقوبة المجتمعات التي تفشو فيها المعاصي التي يتواطأ عليها المجتمع ويقرها أهله فيقول عز من قائل: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، والعذاب والبأس الذي ينزله الله بمن يتعارفون ويتميزون بهذه المعاصي والمنكرات ويفتخرون بها ويبذلون الأموال الطائلة في استنباتها وترسيخها بين الناس، قد يكون من الكوارث والزلازل والأعاصير والجوائح التي تجعلها نكالا لمن يأتي من بعدهم كما عذب القرون السابقة وقد يكون غير ذلك من البلاء والفتن التي تسلبهم نعمة الأمن والاستقرار وتضر بهم بالخوف والجوع والذلة والمسكنة كما قال تعالى: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض وكما فعل الله بقارون فقال عز من قائل: فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وكما فعل أيضا بالذي جرّ إزاره كبرا وفخرا وتيها فقد قال : ((بينما رجل يجرّ إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) رواه البخاري والإمام أحمد والنسائي.
والإنسان عندما يتصور العذاب الذي يأتيه من فوق أو يأتيه من تحت يكون أشد وقعا في النفس من تصوره آتياً عن يمين أو شمال، فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال أما العذاب الذي يصب عليه من فوق أو يأتيه من تحت فهو عذاب غامر قاهر ولا يدبر أمره إلا الله اللطيف الخبير.
أيها المسلمون: لقد فشا في كثير من المجتمعات الربا والزنا وشربت الخمور والمسكرات وأدمنت المخدرات، كثر أكل الحرام وتنوعت الحيل شهادات باطلة وأيمان فاجرة وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير وفشت رذائل الأخلاق ومستقبح العادات في البنين والبنات، حورب الدين وأهله وسيم الدعاة والمصلحون أشد العذاب والنكال سخر منهم واستهزيء بهم ونال سفلة القوم الترحيب والرفعة وصدروا في المجالس وأصبح قدوة الشباب الفنان فلان والمطرب فلان حين ابتعد الناس عن الطريق المستقيم كثر الكفر والفسوق وقل الشكر وإرجاع الحقوق، كذب وتزوير للحقائق غيبة ومراودة، استبشار بالذنوب، خيانة خداع، أمر بالمنكر ونهي عن المعروف، وإصرار على الذنوب وعدم التوبة، عدم ذكر الله تبرج وسفور، زنا ولواط، الإشمئزاز من ذكر الله التجسس، النميمة، منع الخير، الجدال في الله، ترك الصلاة إلى غير ذلك من الذنوب والآثام التي تؤذن بعذاب الله وعقابه وكان حقا على الله أن يعاقب من فعل بعض هذه المنكرات فكيف بها جميعا.
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.
وقال: ولو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.
فمن فضل الله ورحمته أنه لا يؤاخذ الناس بكل ذنب ولكن إذا نسوا تذكير الله لهم خوفهم بالآيات التي تهتز لها المشاعر والأبدان كالزلازل والبراكين وسيلان الأودية بالنيران وما يقع في بعض البلدان من الفيضانات وما ذاك إلا ليخوف الله به الإنسان إذا تمادى في الطغيان ولعذاب الآخرة أكبر ولأمر الله أعظم.
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ، ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم إن الأمة حين تغفل عن سنن الله تغرق في شهواتها وتضل طريقها حتى تقع في مصارع السوء، إنها سنة الله حين تفشوا المنكرات وتقوم الحياة على الذنوب والآثام، والانحلال الخلقي وفشو الدعارة وسلوك مسالك اللهو والترف حينها ينزل الله العذاب والعقاب، والعذاب يعم الصالح والفاسد كما ورد في الحديث ((...أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)).
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون.
أيها الإخوة: لقد طغت النظرة المادية على كثير من أبناء هذا العصر فضعف عندهم الربط بين الأسباب ومسبباتها، ولم يدركوا العلاقة بين الأعمال وآثارها لهذا عندما زلزلت المدينة في عهد عمر بن الخطاب سأل عائشة عن سبب هذا فقالت له: (كثرت الذنوب) فقال عمر: (والله لئن عادت فزلزلت لا أساكنكم فيها). قد يقول قائل ممن يدرس الجيولوجيا إن سبب هذه الظاهرة الطبيعية هو تقلص القشرة الأرضية وما إلى ذلك، ونحن نقر بهذا التحليل العلمي النظري ولكن ما وراء ذلك من الأسباب، وما السبب في تقلص القشرة الأرضية وحدوث الزلزال إنها الذنوب والمعاصي.
ولقد ورد في علامات آخر الزمان أنه تكثر الزلازل والخسف فقال : ((لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل)) رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يكون في آخر الزمان خسف ومسخ وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)) رواه الترمذي، وهو حديث صحيح.
وقد جاء الوعيد للعصاة من أهل المعازف وشاربي الخمور بالخسف والمسخ والقذف، روى الترمذي عن عمران بن حصين أن رسول الله قال: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)). وهو حديث صحيح.
لولا الذين له ورد يصلونا وآخرون له سرا يصومونا
لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا لأنكم قوم سوء ما تطيعونا
والخسف قد وجد في مواضع في الشرق والغرب قبل عصرنا هذا ووقع في هذا الزمن كثير من الخسوفات والزلازل في أماكن متفرقة من الأرض والسبب في كثرة الزلازل في هذه الأيام هو أن فساد الناس في هذا الزمن قد فاق أضعاف أضعاف فساد الناس في الأزمان السابقة ففي هذا العصر تفنن الناس في الفساد وأنواعه ولهذا كان وقوع الزلازل في هذا العصر كثير جداً، بالمعصية بدل إبليس بالإيمان كفرا وبالقرب بعدا وبالجنة نارا تلظى وبالمعصية عم قوم نوح الغرق وأهلكت عادا الريح العقيم وأخذت ثمود الصيحة.
إنها الحقيقة المرة الصارخة فكلا أخذنا بذنبه تلكم الذنوب وتلكم عواقبها وما هي من الظالمين ببعيد، ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ، وكما هو معلوم أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ولهذا عندما استغرب الصحابة هزيمتهم في يوم أحد أنزل الله تعالى قوله: أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ، أنفسكم هي التي عصت أمر الله وابتعدت عن منهجه فكان جزاؤها العقاب والهزيمة، فمن مقتضى قدرة الله أن تنفذ سنته وأن يحكم ناموسه، وأن تمضي الأمور وفق حكمته وإرادته، وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث، فالإنسان حين يعرض نفسه لسنة الله لابد أن تنطبق عليه مسلما كان أو مشركا ولن نجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا.
أيها الإخوة: لقد سمعنا عن الزلزال الذي تعرضت له مصر الأسبوع الماضي لقد سمعنا بالزلزال الذي ضرب مناطق عدة من دول المنطقة وشمال المملكة وتجمدت قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها قد تابع الجميع بقلق بالغ هذا ونحمد الله عز وجل أنه كان خفيفا ولم ينتج عنه أي أضرار في الأرواح والممتلكات سوي أخبار الحادث المؤلم ونحن نتوجه إلى الله العلي القدير أن يلطف بمصر وأرضها وشعبها وأن يحفظه دائما لأمته الإسلامية وأن يلهم المصابين وذويهم الصبر والسلوان إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأنا أنبه من ابتلي ومن لم يبتلى أن يستدرك أمره وأن يصلح ما فسد من حاله وأن يرجع إلى الله وأن يتوب إليه وأن يعلم أن ما أصابه إنما هو بسبب ما اقترفت يداه وجنته نفسه فالرجوع إلى الله في وقت الشدة بالذات أمر مطلوب ومحبوب إلى الله أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
وقال: فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ، أي رجعوا إلى الله ولجؤا إليه في وقت الشدة وتذللوا له ونزلوا عن عنادهم واستكبارهم ومعاصيهم ودعوا الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة حينئذ يرفع الله عنهم البلاء ويفتح لهم أبواب الرحمة ويخفف عنهم الوطأة.
فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إليه واستغفروه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون (1/197)
في التحذير من آفات اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم أمر اللسان وما يصدر منه من أقوال 2- من آفات اللسان : أ- الكلام فيما لا يعنى
ب- الخوض في الباطل ج- الفحش والبذاءة د- كثرة المزاح هـ - السخرية والاستهزاء
و- الغيبة والنميمة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتحفظوا من ألسنتكم فإن كلامكم محفوظ عليكم، قال تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:18] ، وقال تعالى: سنكتب ما قالوا [آل عمران:151] ، وقال تعالى: وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم [النور:15]. وقد أمر النبي بالصمت، إلا إذا كان الكلام خيرا، قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت )) ، وقال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ، وقال رجل للنبي : ((دلني على عمل يدخلني الجنة، قال : أمسك عليك هذا، وأشار إلى لسانه فأعاد عليه، فقال: ثكلتك أمك هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم )) ، والمراد بحصائد الألسنة جزاء الكلام المحرم وعقوباته، فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يحصد يوم القيامة ما رزع، فمن زرع خيرا من قول أو عمل حصد الكرامة، ومن زرع شرا من قول أو عمل حصد الندامة.
ومعصية القول باللسان يدخل فيها الشرك، وهو أعظم الذنوب عند الله، ويدخل فيها القول على الله بلا علم وهو قرين الشرك، ويدخل فيها شهادة الزور التي عدلت الإشراك بالله، ويدخل فيها السحر والقذف، ويدخل فيها الكذب والغيبة والنميمة، وفي: (الصحيحين) عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب )) ، وأخرجه الترمذي ولفظه: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار )).
أيها المسلمون: لقد كان خوف السلف الصالح من آفات اللسان عظيما كان أبو بكر يمسك لسانه يقول: هذا الذي أوردني الموارد، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيرا تغنم، أو اسكت عن سوء تسلم، وإلا أنك ستندم. فقيل له: يا ابن عباس ! لم تقول هذا؟ قال: إنه بلغني أن الإنسان ليس على شيء من جسده أشد حنقا أو غيظا منه على لسانه، إلا من قال به خيراً، أو أملى به خيراً. وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. وقال الحسن: اللسان أمير البدن، فإذا جنى على الأعضاء شيئا جنت، وإذا عف عفت.
أيها المسلمون: إن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب، كما روى الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا: ((لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغر ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي )).
وقال عمر : من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به. وقال محمد بن عجلان: إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وتقرأ القرآن، وتسأل عن علم فتخبر به، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك. فليس الكلام مأمورا به على الإطلاق ولا السكوت مأموراً به على الإطلاق، بل لا بد من الكلام في الخير العاجل والآجل، والسكوت عن الشر الآجل والعاجل، واللسان ترجمان القلب والمعبر عنه وقد أمرنا باستقامة القلب واللسان، قال : ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه )) ، رواه الإمام أحمد في مسنده. وروى الترمذي: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا )).
أيها المسلمون: إن آفات اللسان كثيرة ومتنوعة:
فالآفة الأولى: الكلام فيما لا يعني، وفي الحديث الصحيح: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )).
الآفة الثانية: الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي، والتحدث عنها بما يروجها بين الناس، ويشيع الفاحشة بينهم، ومن ذلك ما يقع في المجتمع من المخالفات التي يرتكبها بعض الأفراد، فإن التحدث عنها في المجالس يفرح الأشرار والمنافقين، ويشيع الفاحشة في المؤمنين وقد قال الله تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
والواجب على من علم من أخيه زلة أن يستر عليه ويناصحه، أو يرفع أمره إلى ولي الأمر إذا اقتضت المصلحة ذلك، أما أن يتخذ من زلته موضوعا يتحدث عنه المجالس فإن ذلك من أقبح الخصال، وذميم الفعال قال النبي : (( لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته)) ، رواه الإمام أحمد.
الآفة الثالثة: التكلم بالفحش والسب والبذاءة والشتم، فإن بعض الناس يعتاد النطق بلعن الأشخاص والأماكن والدواب، فيكون النطق باللعنة أسهل الألفاظ عليه، وربما يواجه بها صديقه وصاحبه والعزيز عليه، وقد قال النبي : (( لعن المسلم كقتله )) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (( ليس المؤمن بالطعان واللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) ، وقد لعنت امرأة ناقة لها فأمر النبي بأخذ ما عليها وتركها، وقال: (( لا تصحبنا ناقة ملعونة )) ، وبعض الناس حينما يكون بينه وبين أخيه المسلم منازعة أو مشادة، فإنه يطلق لسانه عليه بالسب والشتم والتعيير، ورميه بما ليس فيه من قبيح الخصال، ولا يدري هذا المسكين أنه إنما يجني على نفسه ويحملها أوزار ما يقول، والله تعالى قد أمر من وجه إليه شيء من الشتائم والسباب أن يدفع ذلك الكلام بالكلام الحسن، قال تعالى: ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا كان المعتدي عليه بالكلام السيئ مأمورا بدفعه بكلام حسن ابتعادا عن النطق بالفحش ولو قصاصا، فكيف الذي يبدأ بالفحش ويتفوه بالإثم؟!.
الآفة الرابعة: من آفات اللسان: كثرة المزاح فإن الإفراط في المزاح والمداومة عليه منهي عنهما، لأنه يسقط الوقار، ويوجب الضغائن والأحقاد، أما المزاح اليسير النزيه فإنه لا بأس به، لأن فيه انبساطا وطيب نفس، وكان النبي يمزح ولا يقول إلا حقا.
الآفة الخامسة: الاستهزاء والسخرية بالناس، وتتبع عثراتهم، والبحث عن عوراتهم، والتندر بذلك، وانتقاصهم، والضحك منهم، قال تعالى: ويل لكل همزة لمزة [الهمزة:1] ، يعني الذي يزدري الناس وينقصهم قيل: الهمز بالقول، واللمز بالفعل، توعده الله بالويل وهو كلمة عذاب، أو واد في جهنم نعوذ بالله من ذلك.
الآفة السادسة والسابعة: الغيبة والنميمة، هما من كبائر الذنوب، والغيبة: ذكرك أخاك حال غيبته بما كره، والنميمة: نقل الحديث بين الناس على وجه الإفساد، وقد شبه الله المغتاب بآكل الميتة، وفي الحديث: ((إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، إن الرجل قد يزني ويتوب، ويتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه )) ، وأخبر النبي أن النمام يعذب في قبره. وأخبر أن النمام لا يدخل الجنة يوم القيامة، فقد روى البخاري ومسلم: أن النبي قال: ((لا يدخل الجنة نمام)) ، والنمام يفسد بين الناس، ويزرع في القلوب الأحقاد والأضغان، ويهدم البيوت، ويخرب الأوطان، وقد قال تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم [الظلم:10-12].
أيها المسلمون: تحفظوا من ألسنتكم، وزنوا أقوالكم، فإن الإنسان قبل أن يتكلم يملك كلامه، لكنه إذا تكلم ملكه كلامه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:16-18] ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [الأحزاب:70-71].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/198)
في الحث على الإحسان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جزاء الإحسان في الآخرة 2- الإحسان في العلاقة مع الله 3-الإحسان في العلاقة
مع الخلق 4- وجه من وجوه الإحسان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإن ذلك هو طريق النجاة، واعلموا أن الله سبحانه أمر بالإحسان في آيات كثيرة، وأخبر أنه يحب المحسنين، ولا يضيع أجر من أحسن عملا.
وقال تعالى: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، قال ابن عباس وغيره في معنى الآية: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة؟.
وقال تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون [يونس:26].
وقد ثبت عن النبي في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة.
قال ابن رجب رحمه الله: وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان، لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه المراقبة لله وحضور القلب كأنه يراه وينظر إليه، فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عيانا في الآخرة، وعكس هذا ما أخبر الله به عن الكفار في الآخرة بقوله: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [المطففين:15] ، فإن ذلك جزاء لحالهم في الدنيا لما تراكم من الذنوب على قلوبهم، فحجبهم عن معرفة الله ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم أن حجبوا عن رؤية الله في الآخرة.
عباد الله: والإحسان ضد الإساءة، قال تعالى: ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [النجم:31].
وهو أنواع كثيرة: منهما ما يكون في عبادة العبد لربه، كما بينه الرسول لما قال له جبريل عليه السلام: أخبرني عن الإحسان، قال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )).
ومعناه بأن يعبد ربه مستحضرا لقربه منه واطلاعه عليه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، ويوجب أيضا إخلاص العبادة لله وتحسينها وإكمالها، ومن بلغ هذه المرتبة فقد بلغ أعلى مراتب الدين.
ومن أنواع الإحسان: الإحسان في العمل بأن يكون موافقا لما شرعه الله على لسان رسوله خاليا من البدع والمخالفات، قال تعالى: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة:112] ، وقال تعالى: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [لقمان:22].
وإسلام الوجه لله، وإلى الله، معناه: إخلاص العمل من الشرك.
والإحسان للعمل معناه: متابعة السنة فيه ومجانبة البدعة، وأي عمل لا يتوفر فيه هذان الشرطان يكون هباءً منثورا ووبالا على صاحبه.
ومن أنواع الإحسان: الإحسان إلى الخلق من الآدميين والبهائم، بإغاثة الملهوف وإطعام الجائع والتصدق على المحتاج وإعانة العاجز، والتيسير على المعسر والإصلاح بين الناس، قال الله تعالى: وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ، وقال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان ، وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [النساء:36] ، فقد أمر الله سبحانه بالإحسان إلى هذه الأصناف بإيصال الخير إليهم ودفع الشر عنهم، وقال تعالى: إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم [الذاريات:15-19]. فبين الله سبحانه سبب حصولهم على هذه الكرامة العظيمة وأن ذلك بما أسلفوه من الإحسان في الدنيا من صلاة الليل والاستغفار بالأسحار والتصدق على المحتاجين، وقال تعالى: إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين [المرسلات:41-44].
والآيات في ذلك كثيرة تبين ما للإحسان من عاقبة حميدة، وثواب عظيم.
ومن أنواع الإحسان: الإحسان إلى البهائم، عن أبي هريرة ، عن رسول الله قال: (( دنا رجل إلى بئر فنزل فشرب منها، وعلى البئر كلب يلهث فرحمه فنزع أحد خفيه فسقاه، فشكر الله له ذلك فأدخله الجنة )) ، رواه ابن حبان في صحيحه، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء النبي فقال: إني أنزع في حوضي حتى إذا ملأته لإبلي ورد علي البعير لغيري فسقيته، فهل في ذلك أجر؟ فقال رسول الله : ((إن في كل ذات كبد أجرا)) ، رواه أحمد ورواته ثقاة مشهورون.
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه الحر، فوجد بئرا فنزل فيه فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له )) ، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: ((في كل كبد رطبة أجر )) ، رواه مالك، والبخاري، ومسلم.
ففي هذه الأحاديث فضل الإحسان إلى البهائم بما يُبْقي عليها حياتها، ويدفع عنها الضرر، سواء كانت مملوكة أو غير مملوكة، مأكولة أو غير مأكولة، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن رسول الله قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، ولْيَحد أحدكم شفرته ولْيُرح ذبيحته )) ، فيه فضيلة الإحسان إلى البهائم المأكولة في حال ذبحها، وهذا شيء يغفل عنه بعض الناس، فيسيؤن إلى البهائم في كيفية ذبحها.
والإحسان قد أمر الله به في مواضع من كتابه، منه ما هو واجب ومنه ما هو مستحب، فهو في كل شيء بحسبه.
فالإحسان في معاملة الخالق بفعل الواجبات وترك المحرمات واجب، وفي فعل المستحبات وترك المكروهات متسحب، والإحسان في معاملة الخلق، منه ما هو واجب كالإحسان إلى الوالدين والأقارب بالبر والصلة، ومنه ما هو مستحب كصدقة التطوع، وإعانة المحتاج، والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب بإزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها، من غير زيادة في التعذيب، وهكذا مطلوب من المسلم أن يكون محسنا في كل شيء مما يأتي وما يذر، محسن في عمله، محسن في تعامله مع الله ومع خلقه، ومحسن في نيته وقصده، قال الله تعالى: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم [التوبة:91] ، فهؤلاء الذين لا يستطيعون القتال لعجزهم الجسمي والمالي مع سلامة نياتهم وحسن مقاصدهم، قد عذرهم الله لأنهم محسنون في نياتهم، لم يتركوا الجهاد لعدم رغبتهم فيه، وإنما تركوه لعجزهم عنه، ولو تمكنوا منه لفعلوه، فهم يشاركون المجاهدين في الأجر لنياتهم الصالحة وحسن قصدهم، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود، وأصله في الصحيحين أن رسول الله قال: ((لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم )).
وكما يكون الإحسان في الأعمال والنيات يكون في الأقوال أيضا، قال تعالى: وقولوا للناس حسنا [البقرة:83] ، أي: قولوا لهم قولا حسنا، بأن تخاطبوهم بالكلام الطيب، الذي يجلب المودة، ويرغب في الخير، ويؤلف القلوب.
وهذا يشمل الصدق في الحديث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وقد جاء في الحديث: (( والكلمة الطيبة صدقة )) ، فاتقوا الله – عباد الله – وكونوا من أهل الإحسان لتنالوا من الله الأجر والرضوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين [العنبكوت:69].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، على فضله وإحسانه، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن وجوه الإحسان كثيرة، ينبغي للمسلم أن يسهم فيما يستطيع منها، ولا سيما منْ منّ الله عليهم بوفرة المال، فإن المجالات الخيرية أمامهم واسعة، من بناء المساجد، وتوفير المياه للشرب، وطباعة الكتب الدينية، وتوزيع المصاحف، ومساعدة مشاريع تعليم القرآن الكريم، ومساعدة المراكز الإسلامية في الخارج، وإعانة المجاهدين في سبيل الله، ومواساة المنكوبين والمشردين من المسلمين والمصابين بالمجاعة.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : (( سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره، من علم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته )) ، رواه البزار، وأبو نعيم في الحلية. ومعنى كرى نهرا: أي حفره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال أتى النبي رجل فقال: ما عملٌ إن عملت به دخلت الجنة؟ قال: ((أنت ببلد يجلب به الماء؟ )) ، قال: نعم، قال: ((فاشتر سقاء جديدا، ثم اسق فيها حتى تخرقها، فإنك لن تخرقها حتى تبلغ بها الجنة )) رواه الطبراني في الكبير.
وفي (الصحيحين) عن أنس عن النبي قال: ((ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة )) ، وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي قال: ((ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما شرق منه له صدقة، وما أكل السبع مه فهو له صدقة، ولا ينقصه أحد إلا كان له صدقة )) ، وفي رواية له أيضا: ((فلا يأكل منه إنسان ولا دابة ولا طائر إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة )) ، وظاهر هذه الأحاديث يدل على أن هذه الأشياء تكون صدقة يثاب عليها الزارع والغارس ونحوهما، إذا نوى واحتسب الأجر عند الله سبحانه، ولكن المؤسف أن كثيرا من الأثرياء يحبسون أموالهم عن الإسهام في الخير، ويحرمون أنفسهم من الثواب، وهم قادرون على ذلك، فكانوا ممن جمع فأوعى، فيا حسرة من كان جمّاعا للمال منّاعا للخير لا يقدم لنفسه ما يجده عند الله خيرا وأعظم أجرا، يتعب في جمع المال وحفظه ويتركه لغيره ولا يقدم منه لنفسه.
فاتقوا الله – عباد الله – وقدموا لأنفسكم: واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
(1/199)
سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لماذا نتحدث عن سيرةمصعب أو غيره. 2- حال مصعب قبل الإسلام. 3- التغير التام
لحياة مصعب بعد الإسلام. 4- هجرة مصعب إلى الحبشة. 5- مصعب في المدينة يدعو إلى
الإسلام وينجو فيها. 6- إسلام سعد بن معاذ على يديه. 7- ولاء وبراء في قصة لمصعب يوم
بدر. 8- شهادته يوم أحد.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله واقتدوا بسلف هذه الأمة من صحابة رسول الله فهم القدوة الصالحة لشبابنا التائهين المقتدين بفساق اليوم من مطربين وممثلين وغيرهم ممن لا يصلحون لأن يكونوا قدوة للأنعام فضلا عن بني الإنسان.
أيها الإخوة: إنني سأتكلم في هذه الخطبة عن سيرة صحابي جليل من صحابة رسول الله كان شابا غنيا مترفا منعما حسن الوجه لطيف المعاملة والمعاشرة، وكلما تعمق القاريء في ترجمته ازداد له هيبة وامتلأ إعجابا وإكبارا له، فهو ممن وضعوا البُني الأساسية لمجد الإسلام وعزته ومكانته ورفعته في مدينة رسول الله بين الأنصار أوسهم وخزرجهم، ولا أقصد بكلامي عن هذه الشخصية الكريمة مجرد التفاخر والتواكل والاعتماد في الحاضر على الأحساب والأمجاد الأولى، فهذا لا يفيدنا شيئا في مجال البناء والنهضة بشبابنا الضائع وأمتنا التائهة.
وإنما أقصد بحديثي استلهام روح البطولات الرائدة لدى سلفنا الصالح ليصبح الحديث عنهم عنوانا طيبا صالحا لبعث الحياة فيهم من جديد، وتجديد الأمل، واستعذاب المنى وتفجير الطاقات والقوى، وإحداث التغيرات الفورية في جيل الإسلام وأمة الحاضر للاتجاه نحو الأفضل والعمل من أجل غد مشرق ومستقبل باسم مليء بالأمجاد لا مجال فيه لمتخاذل أو مستضعف أو متردد أو مبتدع مارق، فليس الكلام الشيق المفصل عن حياة أي صحابي مجرد قصة أو ترجمة عابرة للتسلية وشغل الوقت كأغلب قصص وثقافات السوق الرائجة وإنما لتبيين موطن العبرة وموضع العظة ومعرفة طريق الأمل والنور.
لهذا قال مؤرخو السير والتراجم: القصد من ذكر أخبار الأخيار شرح أحوالهم وأخلاقهم ليقتدي بهم السالك أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده.
هذا الصحابي هو السيد الشهيد السابق البدري القرشي العبدري: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي أحد السابقين إلى الإسلام أسلم قديما والنبي في دار الأرقم وكان محببا إلى والديه يغدقان عليه بما يشاء من أسباب الراحة والترف والنعيم ولهذا كان من أنعم فتيان مكة وكان فتى مكة شبابا وجمالا وتيها، وكانت أمه غنية كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة، وكان رسول الله يذكره ويقول: ما رأيت بمكة أحسن لِمّة ولا أرق حُلّة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير، ولكن هل منع مصعب ما كان فيه من الراحة والنعمة ألا يدخل في الإسلام بعد أن سمع به؟ كلا لم يحدث شيء من هذا بل لما سمع بالإسلام دخل فيه مباشرة وكان يعلم أنه سيسلب النعيم الذي هو فيه وسوف يتبدل حاله من العز إلى الذل ومن السعة إلى الضيق، ومن النعيم إلى الجحيم ومن الراحة إلى التعب، ومن الغنى إلى الفقر، ولكنه آثر الآخرة على الدنيا، نعم لم يفعل كما يفعل المترفون اليوم من عدائهم للمتمسكين بهذا الدين والاستهزاء بهم، ولم يقل: إن هذا الدين كبت وجرح للمشاعر ولم يجمع حوله الشباب الضائع المائع المتكسّر البعيد عن الرجولة لينشغل بمغازلة النساء، ولم يقل: أنا شاب الآن عندما أكبر أتوب وأرجع إلى الله كلا لم يفعل ولم يقل شيئا من ذلك الهراء كما يفعله شباب اليوم.
بل دخل في دين الله متحديا بذلك قريشا بعتادها وقوتها لما كان يرى من تعذيبهم للمستضعفين في رمضاء مكة.
أسلم مصعب فعلمت به أمه وكانت تحبه حبا شديدا فحاولت أن تثنيه عن الإسلام ولسان حالها ومقالها: لا تتشدد يا بني ماذا تريد من هذا الدين أتريد أن تمنع نفسك من الغناء ومن النساء ومن الشهوات إن الدين يبعد عنها ويمنعك منها وأنت تعلم أن الحياة لا تصفوا إلا بهذه الأمور، ولكن مصعبا يعلم أن ما حرمه الله عليه في الدنيا سوف يجده عند الله في الجنة أما الغناء فسوف يسمع الحور العين يغنين له في الجنة أما النساء ففي الجنة ما يروي عطش الظمآن ويطفئ سعار شهوة اللهفان من حور عين لو اطلعت إحداهن على أهل الدنيا لأضاءت لها الأرض ولافتتن أهل الدنيا بها ولخمارها خير من الدنيا وما فيها، وأما الخمر ففي الجنة، فهو من خمر لذة للشاربين لا تزيل العقل ولا تضعف البدن، فليست هناك مقارنة في الأصل بين الدنيا والآخرة ومع هذا كله فللمؤمن مغفرة من الله وله من كل الثمرات ومن كل ما تشتهي نفسه وتلذّ عينه مع خلود أبدي لا موت ولا فوت هل هذا كمن هو خالد في النار وسقوا ماءا حميما فقطع أمعاءهم؟ كلا ليست هناك مقارنة وليس هناك أي تنازل عند مصعب أمام والدته وليس لديه خيار آخر غير الإسلام فضيقت عليه ومنعته من كل نعيم كان فيه ووصل الحال إلى سجنه وهو مع هذا كله لم يزدَدْ إلا ثباتا ورسوخا ولسان حاله، ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي فلن أترك ديني مهما حل بي من ضيق وشدة، ولقد عانى معاناة شديدة وهو يعذب والسبب في ذلك أنه عاش حياة الرفاهية تصوروا عندما تغير به الحال وهو الشاب الناعم الطري الذي نشأ في أحضان النعمة والترف لم يثنه شيء من ذلك عن دينه يقول عنه سعد بن أبي وقاص : (وأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا من شظف العيش، لم يقو على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسيّ ثم نحمله على عواتقنا) أ.هـ.
ومع هذا الألم صبر وصابر محتسبا الأجر عند الله سبحانه، كيف لو حدث مثل هذا لبعض شبابنا اليوم هل تظنون أنه سوف يثبت على دينه أو يتركه بالكلية؟ إننا نرى في بعض من لم يلتزم بهذا الدين يخاف من كل شيء من الوهم من الخيال، فهو يظن الهمس وعده، فينبغي للمؤمن ألا يخاف إلا من ربه وأن يعلم أن الحياة فانية وأنها دار اختبار تحتاج إلى مجاهدة ومصابرة ولنجتهد حتى ينجح الواحد منا في الدار الآخرة حيث يقول: هاؤم اقرؤوا كتابيه يفرح ويفتخر بشهادة الله له بالفوز في دار النعيم المقيم والخلود الأبدي، وما قيمة شهادات الدنيا أمام الشهادة الأخروية.
ولما اشتد أذى المشركين بمصعب وإخوته من صحابة رسول الله وضاقت بهم مكة ذرعا أذن لهم رسول الله بالهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الأولى وقال لهم: ((إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحدا)) فهاجر مصعب الهجرة الأولى إلى الحبشة مع من هاجر وكان عددهم اثني عشر رجلا وأربع نسوة وأمروا عليهم عثمان بن مظعون.
ولكن مصعبا لم يستمر طويلا في الحبشة إذ رجع بعد هجرته بعدة أشهر عندما أشيع في الحبشة أن قريشا قد أسلمت وكان الأمر غير ذلك. وتمرّ الأيام العصيبة على المسلمين في مكة ويأتي عام الحزن وينتهي وتأتي في موسم الحج طلائع من أهل يثرب سنة إحدى عشرة من النبوة وأسلم منهم ستة نفر وواعدوا رسول الله إبلاغ رسالته الى قومهم وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي اثنا عشر رجلا اجتمع هؤلاء مع النبي عند العقبة بمنى، فبايعوه بيعة العقبة الأولى، وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي مع هؤلاء المبايعين أول سفير في الإسلام، ليعلّم المسلمين هناك شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار لهذه المهمة الشاقة شابا من شباب الإسلام من السابقين الأولين ألا وهو مصعب بن عمير.
قال البراء بن عازب: أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير، فهو أول مهاجر إلى المدينة حرسها الله.
كان مصعب يقدر المسؤولية التي أنيطت به ويعلم أنه يجب عليه أن ينهي مهامّه خلال سنة حتى يوافي رسول الله في الموسم القادم ومعه فلول الأوس والخزرج لكي تبايعه على نصرة الإسلام فعليه إذا أن يجتهد في الدعوة وأن لا يهنأ بطعام ولا يغمض له جفن حتى يدخل الناس في دين الله أفواجا، نزل في المدينة عند رجل من أوائل من أسلم من الأنصار ويسمى أسعد بن زرارة ولعلنا لا نجد لهذا الصحابي ذكرا كثيرا في كتب السيرة والسبب في ذلك أنه توفي بعد هجرة الرسول بقليل، وأخذ مصعب وأسعد بن زرارة رضي الله عنهما يبثان الإسلام في أهل يثرب بجدّ وحماس حتى صار يدعى مصعبا بالقاري والمقري.
ولقد أثبت الشاب الصالح مصعب بن عمير أنه خير سفير للإسلام اعتمده النبي لدى أهل يثرب، فقد قام بمهمته خير قيام إذ استطاع بدماثة خلقه وصفاء نفسه أن يجمع كثيرا من أهل يثرب على الإسلام حتى أن قبيلة من أكبر قبائل يثرب وهي قبيلة بني عبد الأشهل، قد أسلمت جميعها على يده بقيادة رئيسها سعد بن معاذ.
ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب يريد دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر وجلسا على بئر يقال لها: بئر مرق، واجتمع إليهما رجالا من المسلمين – وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك – فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما عن أن يأتيا ديارنا، فإن أسعد ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.
فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما: فلما رآه أسعد قال لمصعب، هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، وجاء أسيد فوقف عليهما متشمتا، وقال: ما جاء بكما إلينا تسفها ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته نكفّ عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس فكلمه مصعب عن الإسلام، وتلا عليه القرآن قال: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ فقالا له: كيف يفعل فاغتسل، وطهر ثوبه، وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائي رجلا إن أسلم لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن، ثم ذهب إلى سعد بن معاذ فلما رآه سعد قال لقومه: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما وقف أسيد على النادي قال لسعد: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، ثم حث سعدا على الذهاب فلما ذهب سعد ورآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: جاءك والله من وراءه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد وجاء سعد فوقف عليهما متشمتا، فقال مصعب لسعد بن معاذ: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال: أنصفت، ثم ركز حربته فجلس، ولي وقفة هنا وأقول يا إخوة ألا ليت الذين يعادون الدين وأهله يسمعون كلام دعاته فإن هم رضوا انضموا إلى ركب الدعاة إلى الله والسائرين إليه وإن لم يرضوا وحاشاهم كانوا من المنافقين أعداء الدين كأمثال أبي بن سلول وأبي عامر الفاسق وأبي جهل وأبي لهب الذين عادوا الإسلام وحاربوه، الشاهد أن مصعبا عرض الإسلام على سعد وقرأ عليه القرآن فانشرح صدره لأنه صاحب ضالة وجدها في هذا الدين، ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم فقال: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، ففعل ذلك، ثم أخذ حربته فأفقبل إلى نادي قومه فلما رأوه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به.
ثم بدأ هنا سعد بن معاذ يدعوا إلى دين الله الذي اعتنقه وصدّق به، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيمنُنا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة إلا رجلا واحدا، الأصيرم وتأخر إسلامه إلى يوم أحد.
وأقام مصعب يدعو إلى الله حتى لم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون منها. هذا هو مصعب قد قام بمهمته خير قيام وقبل حلول موسم الحج عاد مصعب إلى مكة يحمل إلى رسول الله بشائر النصر والفوز ويقصّ عليه خبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير وما لها من قوة ومنعة لنصرة هذا الدين، فسر النبي وبايع الأنصار في هذا الموسم في السنة الثالثة عشرة من النبوة وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، وبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم وأولادهم وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى نصرة رسول الله النصرة التامة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال قائل منهم: فما لنا يا رسول الله، قال: ((لكم الجنة)) ، قالوا: رضينا، ثم انتهت البيعة وأذن الرسول لأصحابه بالهجرة إلى يثرب وسماها بعد ذلك المدينة النبوية.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
أيها الأحبة: وبعد بيعة العقبة الثانية هاجر الصحابة إلى المدينة وهاجر رسول الله مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق وهنا بدأ العمل الجاد لنشر الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية وكانت معركة بدر حمل فيها راية المسلمين مصعب بن عمير ودافع عنها وقاتل قتال الأبطال حتى انتصر المسلمون انتصارا ساحقا كما هو معروف، وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين وهو أسير لدى أحد الأنصار فقال له: أشدد عليه وثاقه فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك؟ فقال أبو عزيز لمصعب: أهذه وصاتك بأخيك؟ قال مصعب: إن هذا الأنصاري هو أخي دونك.
نعم إن أخوة الدين أقوى وأسمى من أخوة النسب، ثم كانت بعد غزوة أحد وكانت راية المسلمين أيضا بيد مصعب بن عمير فقاتل قتال الأبطال حتى قتل قتله ابن قمئة الليثي يظنه رسول الله، وفي مصعب وإخوانه الذين قتلوا في أحد نزل قوله تعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
لك الله يا مصعب يا من ذكرك عطر للحياة تلك هي الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين الصادقين الذين قدموا كل ما يملكون من راحة نفس ونعمة ومال وغال ونفيس في سبيل هذا الدين ولم يعقهم أي عائق فصدقوا ما عاهدوا الله عليه فكان لهم من الله الرضا والمغفرة والفوز بجنات عدن تجري من تحتها الأنهار مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وهكذا مضى مصعب الصحابي الشاب الأسد كما يمضي كل الناس ولكنه مضى عزيزا وكبيرا قد أعذر إلى الله بعمله الدؤوب وجهده المضيء فكانت فرحته عند ربه حينما قال فيه وفي من قتل معه ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون نعم أحياء ولكن ليس كحياتنا ينعمون في الجنة ويسرحون فيها حيث شاءوا، مضى مصعب ذلك الشاب الغني المترف الذي كان يلبس أحسن الثياب وينتعل أفضل النعال مضى من الدنيا ولا يملك شيئا سوى ثوبه الذي عليه إن غطوا رأسه بدت رجلاه وإن غطوا رجليه بدا رأسه.
يقول خباب بن الأرت : هاجرنا مع رسول الله ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى لسبيله لم يأكل من أجره شيئا منهم: مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله : ((غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر)) ، وهو نبات معروف طيب الريح، متفق عليه.
قتل مصعب ولم يطلب في يوم من الأيام نعمة ولا ثراء، ولا سلطة ولا وجاهة ولم يكن يفكر يوما بمنصب أو رئاسة ولم يكن له هم سوى انتصار دين الله على الكفر وأهله فآتاه الله أجره وأعطاه هو وإخوانه من كل شيء، أعطاه من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة، وأعطاه هو وإخوانه كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وشهد لهم سبحانه بالإحسان، فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد، وأعلن حبه لهم، وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب فقال: والله يحب المحسنين تلك هي سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير ، فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة لهم ويكونوا مثله على الأقل في مجال الدعوة إلى الله والعبادة والعمل الصالح؟ وهل لشبابنا أن يتغنّوا ببطولات هؤلاء الرجال من صحابة رسول الله بدل بطولات لاعبي الكرة ومغامرات الزناة ومدمني المخدرات؟
إلى متى يظل مستوى شبابنا يتدنى إلى الحضيض والسفالة؟ إلى متى؟
أيها الإخوة: إذا أردنا أن ننهض بشباب الأمة فيجب علينا أن نربيهم على سيرة رسول الله وعلى سيرة الرعيل الأول كأمثال حمزة ومصعب وجعفر وابن رواحة وابن عمر وابن عباس وأسامة بن يزيد وغيرهم وهم كثير ولله الحمد ونغرس فيهم التفاني من أجل الدين ونرتفع بهم من ثقلة الأرض إلى علو السماء ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة وأن نؤدبهم على ذلك من الصغر حتى تصبح عزة أحدهم بدينه طابعا لا تطبعا وخلقا لا تخلقا، فحينئذ نجني الثمرة المرجوة من شبابنا اللهم إنا أحببنا صحابة نبيك محمد أصدق الحب وأعمقه، فهبنا يوم الفزع الأكبر لأي منهم فإنك تعلم أننا ما أحببناهم إلا فيك يا أرحم الراحمين.
(1/200)
العدل بين الأولاد
الأسرة والمجتمع
الأبناء
محمد بن صالح المنجد
الخبر
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أوصى الله تعالى الأبناء ببرّ الآباء وأوصى الآباء بالعدل بين الأبناء
2- من المظاهر السيئة في بعض الأُسَر تفضيل بعض الأولاد على بعض بغير مُسوِّغ شرعي
3- بعض الصور التي يتجلى فيها عدم العدل بين الأولاد
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فإن الله قد أوصى الأبناء ببرّ الآباء وجعل حقّهم عظيما عليهم وقرنه بحقّه وتوحيده سبحانه فقال: واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً كما جعل على الآباء حقوقا للأبناء مثل التربية والنفقة والعدل بينهم.
ومن الظواهر الاجتماعية السيئة الموجودة في بعض الأسر عدم العدل بين الأولاد، فيعمد بعض الآباء أو الأمهات إلى تخصيص بعض أولادهم بهبات وأعطيات دون الآخرين، وهذا على الراجح عمل محرم إذا لم يكن له مسوغ شرعي، كأن تقوم حاجة بأحد الأولاد لم تقم بالآخرين كمرض أو دين عليه أو مكافأة له على حفظه للقرآن مثلا أو أنه لا يجد عملا أو صاحب أسرة كبيرة أو طالب علم متفرغ ونحو ذلك.
وعلى الوالد أن ينوي إذا أعطى أحدا من أولاده لسبب شرعي أنه لو قام بولد آخر مثل حاجة الذي أعطاه أنه سيعطيه كما أعطى الأول.
والدليل العام قوله تعالى: اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله والدليل الخاص ما جاء عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني نحلت ابني هذا غلاما (أي وهبته عبدا كان عندي) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثله؟ فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه)) [رواه البخاري انظر الفتح 5/211]، وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) قال فرجع فرد عطيته [الفتح 5/211]، وفي رواية ((لا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور)) [صحيح مسلم 3/1243]. ويعطى الذكر مثل حظ الأنثيين كالميراث، وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله [مسائل الإمام أحمد لأبي داود 204 وقد حقق الإمام ابن القيم في حاشيته على أبي داود المسألة تحقيقا بيِّنا].
والناظر في أحوال بعض الأسر يجد من الآباء من لا يخاف الله في تفضيل بعض أولاده بأعطيات، فيوغر صدور بعضهم على بعض، ويزرع بينهم العداوة والبغضاء. وقد يعطي واحدا لأنه يشبه أعمامه، ويحرم الآخر لأن فيه شبها من أخواله، أو يعطي أولاد إحدى زوجتيه مالا يعطي أولاد الأخرى، وربما أدخل أولاد إحداهما مدارس خاصة دون أولاد الأخرى، وهذا سيرتد عليه فإن المحروم في كثير من الأحيان لا يبر بأبيه مستقبلا، وقد قال عليه الصلاة والسلام لمن فاضل بين أولاده في العطية: ((أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء)) [رواه الإمام أحمد 4/269 وهو في صحيح مسلم رقم 1623].
وقال بعض السلف: إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَبَرُّوكَ.
ومن وجوه عدم العدل بين الأولاد كذلك الوصية لبعض الأولاد أو زيادتهم فوق نصيبهم الشرعي أو حرمان بعضهم، وتعمد بعض النساء إلى الوصية بذهبها لبناتها دون أبنائها مع أنه جزء من التركة، أو توصي بشيء وهبه لها بعض أولادها بأن يرجع إليه بعد مماتها إحسانا إليه بزعمها كما أحسن إليها، وهذا كله لا يجوز فإنه لا وصية لوارث، وكذلك فإن ما دخل في مُلك الأم أو الأب ومات عنه، فهو لجميع الورثة حسب أنصبتهم التي فرضها الله تعالى.
وعلى كلّ من الأبوين أن يذكّر الآخر إذا لم يعدل ويقف الموقف الحازم حتى يتحقّق العدل، ومن ذلك المطالبة بردّ الأمر إلى أهل العلم كما تدلّ على ذلك الرواية التالية.
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ. قَالَ: لا. قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَولادِكُمْ. فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ)) [رواه مسلم 1623.]
نسأل الله تعالى أن يرزقنا البرّ بآبائنا والعدل في أولادنا والثبات على ديننا.
وصلى الله على نبينا محمد.... الخ.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/201)
المطاعم العائلية
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
محمد بن صالح المنجد
الخبر
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة انتشار المطاعم العائلية 2- المحاذير الشرعية والأخطاء التي تقع فيها هذه الظاهرة
3- بعض حُجج من يفعلون ذلك والتنبيه إلى عدم التساهل في الذهاب إليها والبديل عن ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فقد انتشرت في هذه الأيام بين عدد من الأسر المسلمة والنساء المسلمات ظاهرة غريبة عن المجتمع الإسلامي المحافظ على صيانة المرأة وسترها وحيائها. ألا وهي ظاهرة غشيان المطاعم العائلية أو ذات الأقسام العائلية.
والناظر بعين الشرع والبصيرة بالواقع يرى في ذلك عددا من الأخطار والمحذورات الشرعية.
فمن ذلك:
أولا: أن الحواجز الموجودة في كثير من تلك المطاعم لا تحجب المرأة حجبا شرعيا كاملا عن الرجال الأجانب وذلك إما لقصر الحاجز أو ارتفاعه من الأسفل بحيث تُرى القدم أو الساق أو شفافية هذا الحاجز بحيث يمكن تمييز شيء من بدن المرأة أو أن يكون في هذا الحاجز نقوش مفرّغة بحيث تمكن رؤية من وراءه من خلال هذه الفراغات.
وفي عدد من الأقسام العائلية في كثير من هذه المطاعم لا يوجد أصلا حواجز بين طاولات العوائل وإنما الحواجز فقط بين أماكن جلوس الرجال وبين أماكن العوائل. ولا شكّ أن هذه الطريقة تجعل من الممكن لكل فرد من أفراد العائلة الواحدة رؤية أيّ فرد من أفراد العائلة الأخرى.
ثانيا: من المعلوم أنّ كثيرا من النساء الجالسات في هذه الأقسام متهاونات بالحجاب الشرعي بحيث تبدو وجوههن أو شعورهن أو أقدامهن فما فوق عبر الثياب المشقوقة التي يرتدينها، وحتى النساء المحجّبات يكشف معظمهن وجوههنّ عند تناول الطعام فإذا كانت الحواجز على الطريقة التي سبق وصفها فإنّ رؤية ما حرّم الله كشفه أمر حاصل وواقع.
ثالثا: إن أكثر هذه المطاعم يدخل خدم المطعم - وهم رجال - إلى أماكن جلوس النساء لكتابة الطلب أو إحضار أطباق الطعام، وليس كلّ هؤلاء من الذين يستأذنون، ولا كلّ النساء من اللاتي يحتجبن عند دخول الخدم بشكل متكرر، بل إنّ عددا من النّساء لا يبالين بالحجاب أمام بعض الجنسيات التي منها خدم المطاعم في الغالب.
رابعا: أنّ هذه الأماكن صارت مرتادة من قِبَل عدد من أصحاب الفجور والشهوات الذين يتعرّف الواحد منهم على فتاة ثمّ يصطحبها إلى هذه المطاعم بحجّة أنها زوجته ، فصارت هذه الأقسام متنفّسا لكلّ من يريد الحرام.
خامسا: أن عددا من بنات المترفين صِرْن يُقِمْن حفلات لزميلاتهن في المدرسة أو الكلية في المناسبات المختلفة في هذه المطاعم ومعلوم أن عددا كبيرا منهنّ غير متمسكات بالحجاب الشرعي، وبعض أوليائهن يتساهلون في شأن هؤلاء البنات بحجة أنهن صغيرات مع أنّ حجم هؤلاء كاف جدا لحصول الفتنة، فيأخذ كل سائق هذه البنت إلى موعد ومكان الحفلة في المطعم العائلي مع ما في ذلك من الشرّ العظيم.
سادسا: بالنظر إلى حجم الأموال التي تنفق في تلك الوجبات - خصوصا وأن أكثر تلك المطاعم أسعارها مرتفعة - فإننا نجد أن الإسراف متحقّق في الأكل في هذه المطاعم بالإضافة إلى أنّ باقي الطعام يُرمى - في الغالب - بخلاف ما لو أكل هؤلاء في بيوتهم. والاقتصاد كما قال صلى الله عليه وسلم: ((جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوّة)) (رواه الترمذي رقم 2010 وهو حديث صحيح).
سابعا: إن ترددّ النساء على المطاعم العائلية يؤدي إلى زيادة خروجهن من بيوتهن بغير حاجة وهذا مخالف لقوله تعالى: وقرن في بيوتكن ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى ومعلوم أنّ الشريعة لا تريد مطلقا أن تُصبح المرأة خرّاجة ولاّجة، لما في ذلك من المفاسد التي لا تُحمد عقباها والتي من أعظمها ذهاب الحياء بالتدريج.
ثامنا: إنّ نظافة طعام البيت وفائدته الصحيّة أفضل بكثير من المأكولات التي تُطبخ في المطاعم علما بأنّ كثيرا من الطبّاخين في المطاعم التي يسمّونها راقية هم من الكفرة الذين لا يُراعون طهارة ولا نجاسة، وكثيرا ما يُصاب عدد من روّاد المطاعم بحالات من الإسهال والتسمم المعوي.
والأهمّ من ذلك كلّه أنّ الآكلين في هذه المطاعم لا يدرون عن نوعية اللحوم المُستخدمة في الأطعمة بخلاف المطبوخ في البيت مما يكون تحت نظر الإنسان ومعرفته.
لهذه المحاذير وغيرها ينبغي على المسلم أن يصون أهله عن مثل هذه الأماكن وأن يمتثل لقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون.
وقد يزعم البعض أنّ هذا الخروج للترفيه وتغيير جوّ البيت، وأنّ زوج المرأة أو وليها سيكون معها، وأنّها ستعطي ظهرها للباب، وأنّ الخدم في المطعم سيستأذنون قبل الدخول، وأنّها ستغطي وجهها عند دخولهم وتكون بالحجاب الكامل، أو أنّ الخدم من النساء، وأنّ المطعم خال من الموسيقى، وأنّ مكان جلوس العائلة في غرفة محكمة الإغلاق والسّتر، وأنّ هذا الخروج مرة في الشهر، ولن يُصبح عادة، وأنّ الأموال التي ستُنفق معتدلة.
ولستُ أُريد التضييق والتشديد من خلال الردّ على هذه المزاعم أو تفنيدها، لأنّه قد يوجد في الواقع - وإن كان نادرا - توافر لعدد من هذه الاحترازات، ولكنني أقول: إذا أردنا الصّدق مع أنفسنا ونُشدان الحقّ. فما هي - يا تُرى - نتيجة المقارنة إذا عقدناها بين الواقع وبين هذه الضوابط المزعومة؟ وكم نسبة الذين يطّبقون ذلك فعلا؟ ولو فعل ذلك بعض الأخيار والقدوات في بعض المطاعم لشروط يرونها متحقّقة فماذا سيفهم العامة من ذلك؟
ولست أُنكر أنّ الحاجة – وليس كسل ربّة البيت – تدعو أحيانا إلى طعام من المطاعم مثلما يحدث في الأسفار وعند الخروج في بعض الرحلات أو ظرف يحدث لربّة المنزل، ولكن هناك من الحلول ما يُغنينا عن الدخول بنسائنا إلى المطاعم مثل استعمال خدمة توصيل الطلبات إلى المنازل أو جلب الطعام المعبّأ والمغلّف إلى البيت أو غرفة الفندق مع استشارة المرأة فيما تريده أن يُجلب إليها من القائمة أو "البوفيه"، وعلى وجه العموم فإن اللجوء إلى المطاعم عند الحاجة يكون مختلفا تماما في النتيجة عما إذا كان من باب الاختيار أو الترفيه.
أسأل الله تعالى أن يعيننا على صيانة أهلينا وأن يوفقنا لاتّباع الحقّ وأن يهدينا سواء السبيل. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/202)
بيان في فضل شهر محرم وصيام عاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن صالح المنجد
الخبر
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذِكر الأشهر الحُرُم وفضلها 2- فضل الإكثار من صيام النفل في شهر الله المُحرّم
3- فضل يوم عاشوراء والحث على مخالفة اليهود في صومه 4- مراتب صوم يوم عاشوراء
وذِكر بعض الأخطاء التي تقع في يوم عاشوراء
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فقد أظلّنا أيها الإخوة والأخوات شهر عظيم مبارك هو شهر الله المحرّم أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.. الآية [سورة التوبة].
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)) رواه البخاري.
والمحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما وتأكيدا لتحريمه.
وقوله تعالى في الآية السابقة: فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حراما وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في قوله: فلا تظلموا فيهن أنفسكم " إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها. وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله. فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل". انتهى ملخّصا من تفسير ابن كثير رحمه الله.
فضل الإكثار من صيام النافلة في شهر محرّم
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ)) رواه مسلم.
قوله: (شهر الله) إضافة الشّهر إلى الله إضافة تعظيم.
قال القاري: الظاهر أن المراد جميع شهر المحرم.
ولكن قد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم شهرا كاملا قطّ غير رمضان، فيُحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم، لا صومه كله.
وقد ثبت إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان، ولعله لم يوحَ إليه بفضل المحرّم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه.. يراجع شرح النووي رحمه الله على صحيح مسلم.
فضل صيام عاشوراء
ذهب جماهير العلماء من السلف والخلف: إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم, ومما ورد في فضله:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ((مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاّ هَذَا الْيَوْمَ: يَوْمَ عَاشُورَاءَ)) وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ.
معنى: ((يتحرى)) أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) صحيح الجامع 3853.
وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة، والله ذو الفضل العظيم.
مخالفة اليهود في هذا اليوم
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ((قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ. هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ. فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ. فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ)) رواه البخاري.
قوله: ((هذا يوم صالح, هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم)) في رواية مسلم: ((هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه)).
قوله: (فصامه موسى) زاد مسلم في روايته: ((شكرا لله تعالى فنحن نصومه)) وفي رواية للبخاري: ((ونحن نصومه تعظيما له)) ورواه الإمام أحمد بزيادة ((وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا)).
قوله: (وأمر بصيامه) وفي رواية للبخاري أيضا: ((فقال لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم فصوموا)).
وصيام عاشوراء كان معروفا حتى على أيّام الجاهلية قبل البعثة النبويّة فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه)).
قال القرطبي: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم عليه السّلام. وقد ثبت أيضا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة فلما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يحتفلون به، فسألهم عن السبب؟ فأجابوه كما تقدّم في الحديث، وأمر بمخالفتهم في اتّخاذه عيدا كما جاء في حديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا، وفي رواية مسلم: ((كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود تتخذه عيدا)) وفي رواية له أيضا: ((كان أهل خيبر (اليهود).. يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم)). قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَصُومُوهُ أَنْتُمْ)) رواه البخاري.
وظاهر هذا أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه لأن يوم العيد لا يصام. انتهى ملخّصا من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري شرح صحيح البخاري.
وإمعانا في مخالفتهم إذا صاموه استحبّ لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نصوم يوما قبله وإيضاح ذلك فيما يلي:
استحباب صيام تاسوعاء مع عاشوراء
روى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: ((حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِع.َ قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) رواه مسلم.
قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون: يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر, ونوى صيام التاسع.
وقال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر ألا يتشبه باليهود في إفراد العاشر.
وعلى هذا فصيام عاشوراء على مراتب أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام العاشر والحادي عشر، وكلّما كثر الصّيام في محرّم كان أفضل وأطيب.
وينبغي اجتناب البدع في هذا الشّهر الكريم فبعض النّاس يتخذّه عيدا يحتفل به، وهذا لا يجوز وبعضهم يتخذّه مأتما وعويلا ونياحة ولطما للصدور وضربا بالسيف على الرؤوس وإسالة للدماء ووضعا للسلاسل في الأعناق، وهذه بدعة قبيحة محرّمة ليست من الإسلام في شيء والإسلام بريء منها وممن ابتدعها، والله أرحم بعباده من أن يأمرهم بتعذيب أنفسهم بمثل هذه الأفعال الشّنيعة القبيحة، نسأل الله السّلامة والعافية.
فهلموا أيها الإخوة والأخوات إلى عبادة الله في هذا الشهر الكريم كما يحبّ ويرضى، ووفق سنّة النبي المصطفى، نسأل الله أن يهدينا سبل السّلام وأن يرزقنا العمل بما يُرضيه وأن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصلى الله على نبينا محمد.....الخ.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/203)
ظلم العباد بعضهم بعضا
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصوص في التحذير من الظلم. 2- معنى الظلم. 3- صور من الظلم. 4- عقوبة الظلم
ودعوة المظلوم. 5- الدعوة إلى التملل من المظالم في الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله واحذروا الظلم وعواقبه الوخيمة، فإن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقد حذر الله منه في كتابه أيما تحذير وبين أن عاقبة الظالم أليمة وأن مصيره إلى النار وبئس القرار، فحذر سبحانه من مطلق الظلم بجميع أنواعه وبين أن أشده الشرك به ومعه سبحانه فقال: إن الشرك لظلم عظيم وقد تكلمت في الخطبة السابقة عن الشرك وأما اليوم فسوف تكون الخطبة عن النوع الثاني من الظلم وهو ظلم العباد بعضهم بعضا، وهذا الديوان الذي لا يتركه الله حتى يقتص من الظالم للمظلوم، فمرتع الظلم وخيم، وعاقبته سيئة، وجزاء صاحبه إلى النار، وخراب الدار، ولو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما، وما حرم الله شيئا كالظلم، وقد توعد الله الظلمة قال تعالى: إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا.
وقال أيضا: يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما.
وقال سبحانه في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)) ، وهذا الحديث مما يدل على أن الله قادر على الظلم ولكن لا يفعله فضلا منه وجودا وكرما وإحسانا إلى عباده، قال تعالى: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ، فالظلم أن يعاقبك بذنب غيرك والهضم أن ينقص لك من جزاء حسناتك.
ومعنى الظلم: وضع الأشياء في غير مواضعها وقيل: التصرف في ملك الغير بغير إذنه، فمن عصى الله أو آذى خلقه فقد وقع في الظلم.
وقوله تعالى: وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يعني أنه حرم الظلم على عباده ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرام على كل عبد أن يظلم أخاه المسلم في أي شيء بل حتى لا يجوز له أن يظلم البهائم يؤذيها ويضربها، فقد دخلت امرأة النار في هرة سجنتها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشائش الأرض.
فما الظن بمن يظلم إنسانا مثله فيأخذ حقوقه ويستولي على أمواله تعديا وظلما، أو يغصب أرضه أو يسرق ماله أو يختلس دراهمه بالرشوة وبالربا أو يطفف المكيال والميزان أو يؤخر أجر العامل أو يحرمه حقه أو يخصم من راتبه بغير حق أو يضربه ويشتمه ويسبه ويلعنه أو يهزأ منه، أو يحقر من شأنه كقوله: هذا هندي أو هذا مصري أو هذا كذا وكذا وغير ذلك وكأنك أيها الظالم نزلت من كوكب آخر وخلقت من غير أب وأم، أم ماذا؟ لماذا هذا التمايز والتفاخر لماذا نرى أننا أصحاب مكانة غير الآخرين هل بيننا وبين الله نسب لماذا نسخر من إخواننا ونقول: هذا زبال وهذا فراش وهذا فقير ولا تعير لهم أي اهتمام؟ أين نحن من قول النبي ، كما ثبت في الصحيحين: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) ؟ وكما قيل:
الناس من جهة الشال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
نفس كنفس وأرواح مشاكلة وأعظم خلقت فيها وأعضاء
فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء
فليس هناك فضل بين أحد إلا بالتقوى ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه.
ومن الظلم أن تأكل مال اليتيم والضعيف ومن الظلم المماطلة بحق الغير مع القدرة على السداد وفي الحديث: ((مطل الغني ظلم)) فلم المماطلة؟ ومن الظلم أن يظلم الرجل زوجته بضربها لغير حق والتقصير في نفقتها وكسوتها وأن يرى أنه أفضل منها نسبا وعلما وفهما وغير ذلك من الأمور، ومن ذلك الاعتداء على الضعفاء والمساكين مستخفا بهم، ومن الظلم أيضا ألا تنصر أخالك في موطن النصرة بحيث تراه يضرب أو يهان فلا تعينه وتنصره، هذه الصور كلها من الظلم الذي مقت الله صاحبه وقال فيه وفي أمثاله: ألا لعنة الله على الظالمين وهو مع ذلك درجات متفاوتة والجزاء على كل شيء بحسبه، فإن الجزاء من نفس العمل. وكما تدين تدان ومن ظلم ظُلم ومن أساء ندم.
قال : ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) رواه مسلم.
وقال أيضا: ((اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)) متفق عليه.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
فلا تظن أيها الظلاّم القوي المستبد أن الله لا ينتقم منك لهؤلاء المساكين الذين يصبحون ساخطين عليك، ويبيتون يدعون عليك والله يعلم ما كان منك وما يكون منك وما الله بغافل عما تعملون.
واحذر أيها الظالم يوم الأذان، وقد روي أن طاووس بن كيسان دخل على هشام بن عبد الملك، فقال له: إني أحذرك يوم الأذان، فقال هشام: وما يوم الأذان؟ قال طاووس: وأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين فصعق هشام بن عبد الملك.
وقيل لما حبس خالد بن برمك وولده، قال: يا أبتي بعد العز صرنا في القيد والحبس، فقال: يا بني دعوة المظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها:
واحذر من المظلوم سهما صائبا
واعلم بأن دعاءه لا يحجب
وكان يزيد بن حكيم يقول: ما هبت أحدا قط هيبتي لرجل ظلمته وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله وهو يقول لي: حسبي الله، والله بيني وبينك.
أيها المسلمون: إن الدين الإسلامي يأمر بكل خلق كريم وينهى كل خلق سافل مهين فهو يأمرنا بالكف عن الظلم والعدوان وإيذاء الخلق أجمعين، قال : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) متفق عليه، فيسلمون من يده من البطش والضرب والسرقة وأكل الحرام وغير ذلك، ويسلمون من لسانه من غيبة ونميمة وشتم وقذف وإثارة فتن وغير ذلك، فلا يتم إسلام مسلم، ولا يكمل إيمان مهاجر إلى الله، إلا بكف الأذى عن الناس وترك ما حرم الله، فليس الدين محض صلاة وصيام وتسبيح وتلاوة وحج وصدقة فحسب أي نعم هي الأركان المهمة لهذا الدين ولكن الدين أمر ونهي فينبغي لنا كما ائتمرنا بالأوامر أن ننزجر عن النواهي والزواجر وترك الذنوب والمعاصي فالدين فعل وترك وعمل وكف، فالنواهي من الظلم وغيره لم تشرع إلا ليسود الأمن ويحفظ النظام وتحيا الفضيلة وتصح الأجسام والعقول، وتصان الحقوق والأموال، عن الانتهاك والتبذير، ويعيش الناس في محبة وود ووئام نتيجة بعدهم عما نهاهم الله عز وجل عنه من الظلم وغيره.
وأما إذا لم ننزجر ونترك الظلم فستصير حياتنا كشريعة الغاب يأكل القوي الضعيف فلا يأمن أحد من أحد فتسود الفوضى وينعدم الأمن.
واستمعوا لهذه القصة التي ذكرها الإمام الذهبي في كتاب الكبائر يقول:
أن رجلا مقطوع اليد من الكتف كان ينادي في النهار من رآني فلا يظلمن أحدا فقال له رجل: ما قصتك؟ قال: يا أخي قصتي عجيبة، وذلك أني كنت من أعوان الظلمة، فرأيت يوما صيادا قد اصطاد سمكة كبيرة فأعجبتني، فجئت إليه وقلت له: أعطني هذه السمكة، فقال: لا أعطيكها أنا آخذ بثمنها قوتا لعيالي، فضربته وأخذتها منه قهرا ومضيت بها، قال: فبينما أنا ماش بها إذا عضت إبهامي عضة قوية وآلمتني ألما شديدا حتى لم أنم من شدة الوجع وورمت يدي فلما أصبحت أتيت الطبيب وشكوت إليه الألم، فقال: هذه بدوّ آكلة اقطعها وإلا تلفت يدك كلها، قال: فقطت إبهامي ثم ضربت يدي فلم أطق النوم ولا القرار من شدة الألم فقيل لي: اقطع كفك فقطعتها وانتشر الألم إلى الساعد فآلمني ألما شديدا ولم أطق النوم ولا القرار وجعلت أستغيث من شدة الألم، فقيل لي: اقطعها من المرفق فانتشر الألم إلى العضد، فقيل لي: اقطع يدك من كتفك وإلا سرى إلى جسدك كله فقطعتها، فقال لي بعض الناس: ما سبب هذا فذكرت له قصة السمكة، فقال لي: لو كنت رجعت من أول ما أصابك الألم إلى صاحب السمكة، فاستحللت منه واسترضيته، لما قطعت يدك فاذهب الآن وابحث عنه واطلب منه الصفح والمغفرة قبل أن يصل الألم إلى بدنك قال: فلم أزل أطلبه في البلد حتى وجدته فوقعت على رجليه أقبلهما وأبكي، وقلت: يا سيدي سألتك بالله إلا ما عفوت عني، فقال لي: ومن أنت؟ فقلت :أنا الذي أخذت منك السمكة غصبا وذكرت له ما جرى وأريته يدي، فبكى حين رآها، ثم قال: قد سامحتك لما قد رأيت من هذا البلاء، فقلت :بالله يا سيدي، هل كنت دعوت علي؟ قال: نعم، قلت: اللهم هذا تقوّى علي بقوته علي وضعفي وأخذ مني ما رزقتني ظلما فأرني فيه قدرتك. أ.هـ.
إذا ما الظلوم استوطأ الأرض مركبا
ولج غلوا في قبيح اكتسابه
فكله إلى صرف الزمان فإنه
سيبدى له ما لم يكن في حسابه
قال بعض السلف: لا تظلمن الضعفاء فتكون من شرار الأقوياء.
فكم قد رأينا ظالما متمرداً
يرى النجم تيها تحت ظل ركابه
فاتق دعوة المظلوم يا ظالم فإنها ليس بينهما وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام ويقول: ((وعزتي وجلالي لأنصرنك، ولو بعد حين)) فكيف ستعيش؟ أو إلى أين تهرب إذا كان الله خصمك وحجيجك؟
أيها الإخوة: لو تأملنا القصص التي وردت في شأن الظالمين لوجدنا في ذلك العظة والعبرة فيما حل بهم، ولكان في ذلك ما يوقف الظالم عند حدّه ويخفف من طمعه، ويخوفه من العلو والفساد في الأرض: وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ، وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، ولو أخذ الناس على يد الظالم ونصروا المظلوم لما تجبر الظالم ولما تعرضوا لعقاب الله.
وأخيرا: فاحفظ يا أخي رحمك الله يدك ولسانك وسائر جوارحك عن أذية الناس ولا تبع دينك بعرض من الدنيا قليل واقنع بما قسم الله لك ولا تبغ الفساد في الأرض ولا تكن جبارا سفاكا، فإنما بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين بما أعده الله للطائعين والعاصين من النعيم المقيم، أو العذاب الأليم، وإذا قدرت على الظلم فتركته لله، واستطعت أن تجمع المال من الحلال ولم تمدّ عينيك إلى ما نهاك الله عنه كنت مؤمنا حقا، وممتثلا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، نعم إن الله يؤخر الظلمة ليوم تشخص فيه الأبصار فليس هو غافلا عنهم بل يحصي ذلك عليهم ويعده عدا ليوم لا ينفع والد ولده ولا ولد أباه ولا ينفع نسب ولا حسب ولا جاه ولا منصب إنما ينفع فيه ما عمله الإنسان من خير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه فهؤلاء الظلمة يؤخرهم ليوم لا ريب فيه يوم عصيب تشخص فيه الأبصار من الهلع والفزع، فتظل مفتوحة مبهوتة مذهولة، لا تطرف ولا تتحرك لما ترى من الرعب، والقلوب كذلك فزعة خاوية نادمة، هذا هو اليوم الذي يؤخر إليه الظالمون حيث يقفون هذا الموقف ويعانون هذا الرعب، ولهذا نبه النبي الناس إلى الإقلاع عن الظلم والتحلل من المظلومين في الدنيا فقال: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري.
وروى مسلم أيضا عنه قوله: ((أتدرون من المفلس)) ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)). وقال أيضا: ((لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) رواه مسلم.
وقال أيضا: ((من ظلم شبرا من أرض طوقه الله من سبع أراضين يوم القيامة)).
وعن جابر قال: لما رجعت مهاجرة الحبشة إلى رسول الله قال: ((ألا تخبروني بأعجب ما رأيتم في أرض الحبشة))؟ فقال فتية منهم: بلى يا رسول الله بينما نحن يوما جلوس إذ مرت عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت المرأة على ركبتيها وانكسرت قلتها، فلما قامت التفتت إليه وقالت له: سوف تعلم يا غادر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون سوف تعلم ما أمري وأمرك عنده غدا قال : ((صدقت كيف يقدس الله قوما لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم)).
وكان شريح القاضي يقول: سيعلم الظالمون حق من انتقصوا، إن الظالم لينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصر والثواب.
وفي الصحيحين: أن رسول الله قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله عليه النار وحرّم عليه الجنة قيل: يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك)).
فيا راضيا باسم الظالم عليك بالتحلل من المظالم؟ فإن السجن جهنم والله سبحانه هو الحاكم.
فخف القصاص غدا إذا وفيت ما كسبت يداك اليوم بالقسطاس
في موقف ما فيه إلا شاخص أو مهطع أو مقنع للراسِ
أعضاؤهم فيه الشهود وسجنهم نار وحاكمهم شديد الباس
إن تمطل اليوم الحقوق مع الغنى فغدا تؤديها مع الإفلاس
اعلم أيها الظالم أن الله أعد لك نارا ذات سرادق يحيط بالظالمين فلا سبيل إلى الهرب ولا أمل في النجاة والإفلات، ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة أو يكون فيه استرواح وإن يستغيثوا يغاثوا بزيت مغلي أو بماء كالصديد الساخن يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه ولا تكاد تسيغه، فماذا أعددت لذلك اليوم؟
ولذا فإني أحذر من على هذا المنبر كل ظالم أن يتحلل ممن ظلمه اليوم قبل يوم القيامة فإن في الحياة فسحة للتوبة والندم والرجوع إلى الله والعمل الصالح وفي الممات ضيق وحسرة على التفريط والإضاعة وندم على التسويف في التوبة في دار المهلة، فهل من تائب؟ وهل من نادم؟ أرجو أن يكون ذلك، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
(1/204)
عبد الله بن أبي ابن سلول
سيرة وتاريخ
تراجم
محمد بن صالح المنجد
الخبر
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة احتضار عبد الله بن أبي بن سلول وموته وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
عليه ومراجعة عمر رضي الله عنه له في ذلك وجواب رسول الله عليه ونزول القرآن بتأييد
قول عمر رضي الله عنه
_________
الخطبة الأولى
_________
قوله: (عن عبيد الله) هو ابن عمر. قوله: (لما توفي عبد الله بن أبي) ذكر الواقدي ثم الحاكم في "الإكليل" أنه مات بعد منصرفهم من تبوك وذلك في ذي القعدة سنة تسع, وكانت مدة مرضه عشرين يوما ابتداؤها من ليال بقيت من شوال.
قالوا: وكان قد تخلف هو ومن تبعه عن غزوة تبوك , وفيهم نزلت: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً.
قوله: (جاء ابنه عبد الله بن عبد الله) وقع في رواية الطبري من طريق الشعبي: لما احتضر عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا نبي الله إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه, قال: ما اسمك؟ قال: الحباب - يعني بضم المهملة وموحدتين مخففا - قال: بل أنت عبد الله. الحباب اسم الشيطان)).
وكان عبد الله بن عبد الله بن أبي هذا من فضلاء الصحابة وشهد بدرا وما بعدها واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق, ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله, قال: ((بل أحسن صحبته)) , أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام فلذلك التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده ويصلي عليه, ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه, ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة قال: ((أرسل عبد الله ابن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فلما دخل عليه قال: أهلكك حب يهود , فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبخني. ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه )). وهذا مرسل مع ثقة رجاله, ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: ((لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول, فامنن علي فكفني في قميصك وصل علي ففعل)) وكأن عبد الله بن أبي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم, ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك كما سيأتي, وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة.
قوله: ((فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه, فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم)) في حديث ابن عباس عن عمر ثاني حديث الباب "فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث الترمذي من هذا الوجه" فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال: يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله: يشير بذلك إلى مثل قوله: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وإلى مثل قوله: ليخرجن الأعز منها الأذل وسيأتي بيانه في تفسير المنافقين.
قوله: (فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه) كذا في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة.
وقال القرطبي: لعل ذلك وقع في خاطر عمر فيكون من قبيل الإلهام , ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين.
قلت: الثاني يعني ما قاله القرطبي أقرب من الأول, لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين, بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث: ((قال فأنزل الله ولا تصل على أحد منهم )) والذي يظهر أن في رواية الباب تجوزا بينته الرواية التي في الباب بعده من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ " فقال تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم؟" وروى عبد بن حميد والطبري من طريق الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال: "أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذت بثوبه فقلت: والله ما أمرك الله بهذا, لقد قال: إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" ووقع عند ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس "فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ قال: أين؟ قال: قال: استغفر لهم الآية, وهذا مثل رواية الباب, فكأن عمر قد فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب من أن "أو" ليست للتخيير, بل للتسوية في عدم الوصف المذكور أي أن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء, وهو كقوله تعالى: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لكن الثانية أصرح, ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة كما سأذكره, وفهم عمر أيضا من قوله: سبعين مرة أنها للمبالغة وأن العدد المعين لا مفهوم له, بل المراد نفي المغفرة لهم ولو كثر الاستغفار, فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار فأطلقه, وفهم أيضا أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار ترك الصلاة, فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة, ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أبي.
هذا تقرير ما صدر عن عمر مع ما عرف من شدة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار والمنافقين.
وإنما أشار بالذي ظهر له فقط, ولهذا احتمل منه النبي صلى الله عليه وسلم أخذه بثوبه ومخاطبته له في مثل ذلك المقام, حتى التفت إليه متبسما كما في حديث ابن عباس بذلك في هذا الباب. قوله: ((إنما خيرني الله فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة , وسأزيده على السبعين)) في حديث ابن عباس عن عمر من الزيادة " فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((أخر عني يا عمر, فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت)) أي خيرت بين الاستغفار وعدمه, وقد بين ذلك حديث ابن عمر حيث ذكر الآية المذكورة. وقوله في حديث ابن عباس عن عمر: ((لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها)) وحديث ابن عمر جازم بقصة الزيادة, وآكد منه ما روى عبد بن حميد من طريق قتادة قال: " لما نزلت: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد خيرني ربي, فو الله لأزيدن على السبعين)) وأخرجه الطبري من طريق مجاهد مثله, والطبري أيضا وابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه مثله, وهذه طرق وإن كانت مراسيل فإن بعضها يعضد بعضا.
ودل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أطال في حال الصلاة عليه من الاستغفار له, وقد ورد ما يدل على ذلك, قوله: (قال إنه منافق فصلى عليه) أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله: وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، وصلى عليه إجراءً له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره, واستصحابا لظاهر الحكم, ولما فيه من إكرام ولده الذي تحقق صلاحه, ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة, وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح, ثم أمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه, ولذلك قال: ((لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)) فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقل أهل الكفر وذلوا أمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم مر الحق, ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم, وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى. قال الخطابي: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين, ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح, ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم, فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة على ابنه وعارا على قومه, فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهى فانتهى. وتبعه ابن بطال وعبر بقوله: ورجا أن يكون معتقدا لبعض ما كان يظهر في الإسلام.
قال: فأنزل الله تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره قال: فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وما يغنى عنه قميصي من الله , وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه)). قوله: فأنزل الله تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره.
وفي حديث ابن عباس: ((فصلى عليه ثم انصرف , فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت)) زاد ابن إسحاق في المغازي قال حدثني الزهري بسنده في ثاني حديثي الباب قال: ((فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/205)
فضائل القرآن
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الحميد التركستاني
الطائف
7/8/1416
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكفل الله بحفظ القرآن الكريم. 2- كتابة القرآن في عهد الصديق. 3-جمعه في عهد عثمان.
4- فضل تلاوة القرآن في الآخرة. 5- فضل تعلم القرآن الكريم. 6- رفعة منازل أهل القرآن
في الدنيا والآخرة. 7- آداب تلاوة القرآن الكريم. 8- تعاهد القرآن وعدم نسيانه. 9- قيام الليل بالقرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الإخوة: لقد تكلمت في الأسبوع الماضي عن وجوب التمسك بكتاب الله وعدم هجره والآثار المترتبة على ذلك، وأما اليوم فسوف أتحدث عن فضل تعلم كتاب الله وفضل مدارسته وحفظه وما يندرج تحت هذه الفضائل من المهمات المتعلقة بذلك خاصة ونحن لا نزال في شهر القرآن شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فأقول وبالله التوفيق:
مما ينبغي أن يعلم أن الله جل وعلا قد تكفل بحفظ كتابه فقال عز وجل: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فهو باق محفوظ لا يندثر ولا يتبدل ولا يلتبس بالباطل ولا يمسه التحريف، والدليل على ذلك ما نراه اليوم تحريف جميع الكتب السماوية إلا القرآن ونحن ننظر اليوم من وراء القرون إلى وعيد الله الحق بحفظ هذا الذكر فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب رغم الظروف والملابسات والفتن والمنازعات التي مرت بها هذه الأمة ولقد كان هذا الوعد بحفظه على عهد رسول الله مجرد وعد وأما هو اليوم من وراء كل تلك الأحداث الضخام ومن وراء كل تلك القرون الطوال فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب والتي تدل على صدق وعد الله لنبيه.
ولهذا لما استحرّ القتل في صحابة رسول الله في اليمامة، حث عمر أبا بكر الصديق لكتابة القرآن وجمعه من صدور الرجال فجمعه زيد في مصحف واحد وبقي هذا المصحف عند أبي بكر ولما توفي بقي عند عمر ولما قتل عمر بقي عند حفصة ولما كثر المسلمون واختلطت بهم الأجناس بدأ الناس يختلفون في القرآن فجاء حذيفة بن اليمان إلى عثمان وأمره أن يتدارك أمر هذه الأمة من الاختلاف قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالمصحف لنسخه فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وعددها سبعة مصاحف وبعث إلى كل جهة من بلاد المسلمين بنسخة وبقي لديه مصحف واحد، مع العلم بأن المصحف الذي لدينا الآن هو ذاك الذي كتب في عهد عثمان وهو بترتيبه هذا كما هو في اللوح المحفوظ، وكان هذا الإتفاق من الصحابة وكتابة كتاب الله عز وجل سببا لبقاء القرآن وتحقيقا لوعيد الله سبحانه في حفظه.
أيها المسلمون: تمسكوا بكتاب ربكم وحافظوا على تلاوته فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ويبلغكم به رفيع الدرجات فقد صح عنه أنه قال: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)) رواه أبو داود وهو حديث صحيح قال الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة، فيقال للقارئ ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن فمن استوفى قراءة جميع القرآن حصل على أقصى درج الجنة، ومن قرأ جزءا كان رقيه في الدرج على قدر ذلك فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة، والمقصود أن الله يوصل العبد إلى منازل النعيم والعز بقدر قراءته لكلامه سبحانه، وعن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله يقول: ((يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما)) رواه مسلم.
وأما ما ورد في فضل تعلمه ما رواه البخاري عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله : ((خيركم من تعلم القرآن وعلّمه)) وقد عمل راوي هذا الحديث، عن عثمان وهو عبد الرحمن السلمي فقال: هذا الحديث أجلسني مجلسي هذا وكان يعلم الناس كتاب الله من عهد عثمان إلى إمرة الحجاج، وروى مسلم وابن حبان في صحيحيهما من حديث عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله قال: ((أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق، فيأتي كل يوم بناقتين كوماوين زهراوين يأخذهما في غير إثم ولا قطيعة رحم)) ؟ قالوا: كلنا يا رسول الله يحب ذلك، فقال رسول الله: ((فلأن يغدوا أحدكم إلى المسجد، فيتعلم آيتين من كتاب الله خير من ناقتين وثلاث من ثلاث خير وأربع خير من عدادهن من الإبل)) ، فتعلم كتاب الله خير للمرء من حطام الدنيا الفاني لأن هذا الذي يبقى للإنسان في آخرته وأما ما أتعب فيه نفسه من السعي وراء الكمال المزيف فهذا لا يفيده بل سيندم عليه ولات ساعة مندم ولهذا من تمسك بكتاب الله نجا من الانحراف سواء في السلوك أو في العقيدة أو في العبادة، فقد ورد عن النبي أنه قال لأصحابه يوما: ((أبشروا وأبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟)) قالوا: نعم، قال: ((فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا)) رواه ابن حبان وهو حديث حسن.
وثبت في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: دخلنا على يزيد بن إبان فقلنا له: لقد رأيت خيرا، صحبت رسول الله وصليت خلفه؟ فقال: نعم، وإنه خطبنا يوما، فقال: ((إني تارك فيكم كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة )).
نعم أيها الإخوة إن ما نراه اليوم من انحراف الناس عن دين الله والتخبط يمينا وشمالا وراء كل ناعق وما ابتلوا به من فساد التصور وانحراف السلوك والتخبط في العقيدة كان سببه هو البعد عن كتاب الله عز وجل تعلما وعملا به.
ولهذا من جعل القرآن إمامه وعمل به قاده إلى الجنة ومن جعله وراء ظهره بترك العمل به ساقه إلى النار فعن جابر ، عن النبي قال: ((القرآن شافع مشفع وما حل مصدق، من جعله إمامه، قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار)) ، رواه ابن حبان وهو حديث صحيح، بل إن الله عز وجل يرفع حفظة كتابه في الدنيا قبل الآخرة برفع قدرهم وذكرهم بين الناس ولو كانوا من أقل الناس نسبا وبيتا فعن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث خرج يستقبل عمر بن الخطاب فلقيه بعسفان فقال له عمر: من استخلفت على أهل مكة، قال: استخلفت عليهم ابن أبزى قال عمر: ومن ابن أبزي؟ قال: مولى من موالينا، قال عمر: فاستخلفت عليهم مولى، فقال: يا أمير المؤمنين رجل قارئ للقرآن، عالم بالفرائض، قاضٍ، فقال عمر: أما إن نبيكم قد قال: ((إن الله يرفع بالقرآن أقواما ويضع آخرين)) رواه مسلم. وهذا والله مشاهد وملموس قد جبل عليه الناس ونشؤوا عليه وهو أن صاحب القرآن مرفوع القدر لديهم وقد قيل:
العلم يرفع بيتا لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرف
ولهذا كان التنافس في حفظ هذا القرآن من أفضل أنواع القربات وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومن أجل ذلك يغبط الإنسان ويحسد من سبقه إلى حفظ كتاب الله وقد بين ذلك في قوله: ((لا حسد إلا في اثنتين)) وذكر منها ما نحن بصدده ((رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار)) والحسد المقصود في الحديث هو الغبطة وهي: أن يتمنى الإنسان أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة فإن كان في الطاعة فهو محمود وإن كان في المعصية فهو مذموم.
وقد بين الفرق بين المؤمن الذي يقرأ القرآن ويتعاهده ويكثر من تلاوته وبين المؤمن الذي لا يقرأ القرآن ولا يكثر من قراءته فقال : ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب، وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو)) متفق عليه، والأترجة هي الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والرائحة فأفاد أن قارئ القرآن رائحته زكيه، ومنافعه جليلة وقربه رحمة، ومصاحبته طاعة ومودته رضوان وكلامه مثمر فهو كحامل المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، وهذا والله هو سمت أهل القرآن لا تمل مجالستهم بل تذكر بالله رؤيتهم وهم أهل الله كما ورد بذلك الحديث قال : ((إن لله أهلين من الناس قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)) ، فمن منا معشر المسلمين لا يتمنى أن يكون كذلك، بالطبع كلنا لهذا يجب علينا أن نحرص على كثرة قراءة القرآن وتدبره والعمل بما فيه، ولا يقل قائل إن قراءة القرآن تصعب علي وتشق علي، ويجعل هذا سبب في عدم قراءته بل ينبغي أن يجاهد نفسه ويصابر نفسه في قراءة كتاب الله وقد ورد في الحديث المتفق عليه أجر من جاهد نفسه على قراءة القرآن مع مشقته عليه فقال : ((الماهر بالقران من السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران)) وفي رواية: ((والذي يقرؤه، وهو يشتد عليه له أجران)).
وينبغي لمن يقرأ كلام الله أن يحسن صوته به وأن يتغنى به والمراد من ذلك أن تكون قراءته حسب قواعد التجويد لا تخرج عن الإطار لا تمطيط ولا تغني كغناء المطربين ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم. ويستحب مع تحسين الصوت تحزينه أي القراءة بحزن لأنه أوقع في النفوس وأنجع في القلوب القاسية، قال : ((إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله)) رواه ابن ماجه، وهو حديث صحيح. وهذا الهدي هو هدي نبينا فقد كان يقرأ القرآن ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء أي يجيش جوفه ويغلي بالبكاء بل كان يبكي حتى من استماع القرآن فعن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي : ((اقرأ علي)) ، قلت: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، قال: ((حسبك الآن)) فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. قال النووي رحمه الله: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعائر الصالحين وقال الغزالي: يستحب البكاء مع قراءة القرآن وعندها وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والوثائق والعهود ثم ينظر في تقصيره، فإن لم يحضره حزن فليبك على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب. وعلى كلٍّ فالبكاء من قراءة القرآن كان من هدي الصحابة رضي الله عنهم أيضا فهذه عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما تقول عن أبيها أبي بكر : (إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام إلى الصلاة يبكي) وهذا عمر قرأ في الفجر بسورة يوسف فلما وصل إلى قوله تعالى: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله بكى حتى سمع نشيجه من آخر المسجد وغير ذلك من القصص التي يطول المقام بذكرها.
فمن أكرمه الله بحفظ كتابه أو بعض منه فينبغي له أن يتعاهده ويراجعه دائما فقد ورد في الصحيحين عن أبي موسى ، عن النبي قال: ((تعاهدوا القرآن (أي حافظوا على قراءته، وواظبوا على تلاوته) فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها)) وفي رواية: ((بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل نُسّي، واستذكروا القرآن، فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم)).
فنسيان القرآن من الذنوب ولهذا قال في الحديث: واستذكروا أي راجعوا حفظكم حتى لا تنسوه قال الضحاك بن مزاحم :ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب يحدثه وذلك أن الله تعالى يقول: ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ونسيان القرآن من أعظم المصائب، قال أبو عبيد: وأما الذي هو حريص على حفظه، دائب في تلاوته إلا أن النسيان يغلبه، فليس من ذلك في شيء بدليل ما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله رجلا يقرأ القرآن بالليل، فقال: ((يرحمه الله فقد أذكرني آية كذا وكذا كنت أنسيتها)).
وأخيرا أيها الإخوة: وبعد الذي سمعنا فهل نبدأ ونقرأ كتاب الله وننعم بما فيه، أم نصرّ ونعاند ونبتعد عن الخير بعد أن عرفنا طريقه والأجر المترتب عليه؟.
إن من الأسباب على عدم تغيير الناس من الانحراف الذي هم فيه عن طريق الحق إلى الطريق المستقيم أن كل واحد منا لا يريد أن يشعر نفسه أنه هو المخاطب بالموعظة أو الخطبة أو النصيحة أو غير ذلك من وسائل التوجيه، بل إن الكثير من الناس يظن غيره هو المخاطب ولهذا لا نجد تغيرا في المجتمع بل إن الناس يسيرون من السيئ إلى الأسوأ نتيجة هذا الفهم السقيم، سبحان الله وإن لم تكن أنت المعني أو المخاطب يجب أن تقبل النصح وتعتبر هذه النصيحة موجهة إليك أنت فمن منا قد أوتي الكمال، بالطبع لا أحد، فلهذا ينبغي لكل واحد منا أن يصلح نفسه وأن يبحث عن الحق من أي طريق كان لأن الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أولى بها.
ومن هذا المنطلق ينبغي لكل شخص أن يختم القرآن في كل شهر مرة وإن كان فيه جلد وقوة يقرأه في عشرين يوما فإن كان يطيق في أقل من ذلك يقرؤوه في عشرة أيام فإن كان يجد استطاعة وتحملا يقرؤه في أسبوع وأقل حد هو ثلاث ولا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث كما ورد بذلك الحديث، وذلك سهل ويسير على من سهله الله عليه وفي استطاعة الواحد منا أن يقرأ جزءا في كل يوم ويكون ذلك قبل كل صلاة فريضة يقرأ أربع صفحات في خمس صلوات تصبح عشرين صفحة وهي تعدل جزءا كاملا وفي شهر يكون قد ختم ختمة واحدة وهذا والله من أعظم الغنيمة والكسب، كما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، فكيف بمن يقرأ القرآن كم له من الحسنات؟.
قال خباب بن الأرت : (تقرّب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه) وقال الحسن: فضل القرآن على الكلام، كفضل الله على عباده، وقال البوشنجي: من حمل القرآن أي من حفظه وقرأه لم تمسّه النار يوم القيامة، وقال أبو أمامة: (احفظوا القرآن فإن الله لا يعذب بالنار قلبا وعى القرآن).
أخي المسلم إنك ولابد ميت وإن طالت بك الحياة ولا دوام إلا لله الواحد الماجد القبر أول منزل من منازل الآخرة وهو كما تعلم ضيق وموحش ومظلم ويوم القيامة شره مستطير، والقرآن نعم المؤنس في القبر ونعم الشافع والمشفع يوم الحشر والنشر أنزله الله مع أمين السماء على أمين الأرض محمد ليدل الناس على سبيل رشدهم ويبلغهم رسالة ربهم ويعلمهم القصد من خلقهم وإيجادهم ويبشرهم برحمة الله وثوابه وينذرهم بطشه وعقابه، فاستمسك يا أخي المسلم بهذا القرآن واعضض عليه بنواجذك واجعله يمتزج بلحمك ودمك علما وقراءة وعملا واعتقادا، فهو القاعدة الكبرى لدين الإسلام والوسيلة العظمى لمعرفة شرائعه والدعوة إليه والمعجزة الكبرى التي دعابها وإليها ، فها هو ذا بين يديك يا أخي غضا، سليما، محفوظا فطيب بقراءته وحفظه نفسك ورطب بكلمه لسانك ونوّر بتدبره قلبك وأصلح بالعمل به أمرك واشرح بنور حكمته صدرك فهو لك في الدنيا صراط ومنهج ولك في الآخرة شفيع ومكرم ومنجي وبشر وكرامة وعلو منزلة في الجنة.
فاتقوا الله عباد الله وتمسكوا بكتاب ربكم وساهموا في تعليمه ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسعون
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: واعلموا أن هناك آدابا ينبغي أن يتحلى بها حامل القرآن فمنها، أن يقصد به وجه الله وأن لا يقصد بقراءته توصلا إلى غرض من أغراض الدنيا من مال أو رياسة أو وجاهة أو ارتفاع على أقرانه أو تناد عند الناس أو صرف وجوه الناس إليه أو نحو ذلك.
وينبغي أن يحافظ على قراءته ليلا ونهارا وحضرا وسفرا، قال ابن مسعود: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخشوعه، إذا الناس يختالون، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن.
وينبغي لمن أراد القراءة أن ينظف فاه بالسواك وغيره أو بالفرشاة ومعجون الأسنان وغير ذلك.
ويستحب أن يقرأ على طهارة فإن قرأ محدثا جاز بإجماع المسلمين.
ويستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار ولهذا استحب جماعه من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعا للنظافة وشرف البقعة، وإن قرأ في بيته فهو حسن لأن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.
ويستحب للقارئ في غير الصلاة، أن يستقبل القبلة ويجلس متخشعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه، فهذا هو الأكمل ولو قرأ قائما أو مضطجعا أو في فراشه أو على غير ذلك من الأحوال جاز وله أجر، فإذا أراد الشروع في القراءة استعاذ وقال: أعوذ بالله في الصلاة أو في غيرها وينبغي أن يحافظ على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة سوى سورة براءة، فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر والدلائل عليه أكثر من أن تحصد وأشهر وأظهر من أن تذكر فهو المقصود المطلوب وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب قال تعالى: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها والأحاديث فيه كثيرة وأقوال السلف فيه مشهورة، وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها حتى الصباح وقد صعق جماعة من السلف عند القراءة ومات جمع منهم حال القراءة، فهذا زرارة بن أوفى التابعي الجليل أم الناس في صلاة الفجر فلما بلغ فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير خر ميتا وهذا علي بن الفضيل بن عياض صلى الفجر خلف أبيه فلما وصل إلى قوله تعالى من سورة الأنعام: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين خر ميتا والقصص في ذلك كثيرة، ويستحب أيضا ترديد الآية للتدبر فهذا رسول الله قام ليلة بآية يرددها حتى أصبح قوله تعالى: إن تعذبهم فإنهم عبادك رواه النسائي ويستحب أن يبكي فإن لم يبك فليتباكى كما بينا ذلك قبل قليل قال تعالى: ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا. وينبغي أن يرتل قراءته وقد اتفق العلماء على استحباب الترتيل للتدبر ولغيره ولهذا نعتت أم سلمة قراءة النبي فقالت: كانت قراءته مفسّرة حرفا حرفا وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله).
ويستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشرور والعذاب وإذا مر بآية تسبيح سبح وهكذا فقد ورد عن النبي ذلك، ومما ينبغي أن يعتني به ويتأكد الأمر به احترام القرآن من أمور قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين مجتمعين، فمن ذلك اجتناب الضحك واللغط والحديث خلال القراءة إلا كلاما يضطر إليه وليمتثل قوله تعالى: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون.
وأما أفضل الأوقات المختارة للقراءة فهي ما كان في الصلاة وأما القراءة في غير الصلاة فأفضلها قراءة الليل والنصف الأخير منه أفضل من الأول والقراءة بين المغرب والعشاء مستحبة ومما ورد في فضل قراءته في الليل قوله : ((من قرأ عشر آيات في ليله لم يكتب من الغافلين))، وفي رواية: ((من قرأ في ليلة مائة آية كتب له قنوت ليله)) أو ((كتب من القانتين)) وكلا الحديثين صحيح.
وروى الطبراني في الكبير والأوسط بسند حسن أن النبي قال: ((من قرأ عشر آيات في ليلة كتب له قنطار من الأجر والقنطار خير من الدنيا ومن فيها، فإذا كان يوم القيامة يقول ربك عز وجل أقرأ وارق بكل آية درجة، حتى ينتهي إلى آخر آية معه يقول الله عز وجل للعبد :اقبض فيقول العبد بيده: يا رب أنت أعلم، يقول: بهذه - أي اليمين- الخلد، وبهذه – أي الشمال - النعيم)) وأفضل ما يقرأ في صلاة الليل فقد ورد في الحديث الحسن أن رسول الله قال: ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)) رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه.
وأما قراءة النهار فأفضلها ما بعد صلاة الصبح ولا كراهة في القراءة في أي وقت من الأوقات هذا ما تيسر لي جمعه من فضائل تعلم كتاب الله وآداب قارئه وتركت بعضا من الآداب خشية الإطالة وفيما ذكرت لكم قد أتيت بمجمله والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1/206)
فضائل النبي صلى الله عليه وسلم
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, الشمائل
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لكل حب بواعثه ، وفضائل النبي تبعث لمحبته. 2- مظاهر الاصطفاء للنبي من بعض
الأحداث التي وقعت قبل إرساله. 3- عصمة الرسول. 4- ختمه للنبوة ، وسيادته للعالمين.
5- أمر الله بتعظيمه وتوقيره. 6- للرسول خصائص في الآخرة (الوسيلة – الكوثر – الشفاعة)
7- رفعة أخلاق النبي. 8- المحبة تستلزم الاتباع والتأسي. 9- بعض صور مخالفتنا لهديه.
10- علامات محبة النبي. 11- حول زيارة قبره.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
أيها الأحبة سوف أتكلم في هذه الجمعة عن بعض فضائل النبي التي تستوجب محبته واتباعه في كل ما أمر واجتناب كل ما نهى عنه وزجر ولأن الحب يرتبط في قلب الإنسان بدوافع وبواعث تبعث عليه مهمتها أن تحرك القلب وتدفعه نحو محبوباته، وتتعدد هذه الدوافع وتتنوع بحسب تنوع المحبوبات واختلافها، فمن الحب ما تدفع إليه البواعث الحسية أو العقلية أو القلبية وذلك لوجود صفات قامت بالمحبوب والوصف بها من كمال أو جمال أو إحسان أو غير ذلك من الدواعي والأسباب الجالبة للحب وإذا نظرنا إلى محبة الرسول فسنجد أن البواعث عليها متنوعة ومتعددة، وذلك لكثرة ما خصّه الله به من أنواع الفضائل وصفات الكمال وما أجراه الله على يديه من الخيرات لأمته إلى غير ذلك من الدواعي التي ترجع إلى مجموع خصائص النبي وصفاته.
وقد ظهرت آثار اصطفاء الله لنبيه في جوانب كثيرة منها:
طهارة نسبه فلم ينل نسبه الطاهر شيء من سفاح الجاهلية فكان من سلالة آباء كرام ليس فيهم ما يشينهم أو يعيبهم بل كانوا سادات قومهم في النسب والشرف والمكانة وفي مسلم قال : ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)).
ومنها: تعهّد الله له برعايته وحفظه من الصغر فقد أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه وشق عن قلبه وأخرجه وغسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم واستخرج منه علقة، وقال له: هذا حظ الشيطان منك. رواه مسلم.
ومنها عصمته : عصمته من تسلط أعدائه عليه بالقتل أو منعه من تبليغ رسالة ربه قال تعالى: والله يعصمك من الناس.
وعصمته مما يقدح في رسالته ونبوته قال تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، ومنها أن الله كمّل له المحاسن خُلقا وخَلقا، فكان أكمل الناس خلقا من حيث جمال صورته وتناسب أعضائه وطيب ريحه وعرقه ونظافة جسمه واكتمال قواه البدنية والعقلية كما كان أكمل الناس خلقا إذا جمع محاسن الأخلاق وكريم الشمائل وجميل السجايا والطباع قال تعالى وإنك لعلى خلق عظيم ، ومنها تشريفه بنزول الوحي عليه قال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم.
ومنها كونه خاتم النبيين قال تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين.
ومن أدلة فضله وشرفه أنه ساد الكل كما في حديث عبد الله بن سلام قال: قال رسول الله : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع، بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه)) رواه البخاري ومسلم.
ولما كان ذكر مناقب النفس إنما تذكر افتخارا في الغالب أراد أن يقطع وهم من توهم من الجهلة أنه يذكر ذلك افتخارا فقال: ((ولا فخر)).
ومنها أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك بل الظاهر أنه لم يخبرهم لأن كل واحد منهم إذا طلبت منه الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال: ((نفسي نفسي)) فإذا أتوا النبي قال: ((أنا لها أنا لها)) كما في حديث الشفاعة الطويل.
فهو أول من يشفع في الخلائق يوم القيامة وهذه الشفاعة العظمى وهي المقام المحمود الذي اختص به نبينا قال تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.
ومن فضله وشرفه أن معجزة كل نبي تصرّمت وانقضت ومعجزته وهي القرآن المبين باقية إلى يوم الدين.
ومنها أن الله تعالى وقره في ندائه، فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه فقال: يا أيها النبي ، وقال: يا أيها الرسول فنادى الله عز وجل الأنبياء بأسمائهم الأعلام فقال: ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، وقال: يا نوح اهبط بسلام منا وقال: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وقال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة وما خاطب الله عز وجل نبينا إلا بقوله: يا أيها النبي أو بقوله: يا أيها الرسول.
ولا يخفى على أحد أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العَلَم.
ومن فضله وشرفه أن الله عز وجل أمر الأمة بتوقيره واحترامه، فأخبر عز وجل أن الأمم السابقة كانت تخاطب رسلهم بأسمائهم الأعلام كقولهم: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهه وقولهم: يا هود ما جئتنا ببينة ، وقولهم: يا صالح آتنا بما تعدنا ونهى الله عز وجل أمة النبي محمد أن ينادوه باسمه فقال عز وجل: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ، وعن ابن عباس في هذه الآية قال: (كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عن ذلك إعظاما لنبيه قال: فقالوا: يا نبي الله يا رسول الله).
ونهى الله عز وجل أمته أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته إعظاما له فقال عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون يقول ابن القيم في هذه الآية: (فحذر الله المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا بردة بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها) فما الظن بمن قدّم على قول الرسول وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟
أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟
ومن شرفه أنه بعث إلى الناس كافة وإلى الثقلين من الإنس والجن.
ومنها أنه صاحب الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة لا تنبغي لعبد من عباد الله وهي له.
ومنها نهر الكوثر الذي أعطاه الله إياه وهو ونهر في الجنة ويصب في الحوض الذي في الموقف يوم القيامة، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أنس قال: بينما رسول الله بين أظهرنا في المسجد إذا أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما، قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: لقد أنزلت علي آنفا سورة فقرأ: إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر.
ثم قال: ((أتدرون ما الكوثر)) ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء فيختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)).
ومن فضله أنه أحلت له الغنائم ففي الصحيحين عن جابر أن النبي قال: ((أعطيتُ خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) رواه البخاري ومسلم. ومن فضله أن الله عز وجل وهبه سبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وجوههم مثل القمر ليلة البدر، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وليس هذا لأحد غيره.
وهذه المآثر والفضائل التي وهبها الله لنبيه محمد كثيرة جدا نقتصر على ما ذكرنا خشية الإطالة.
ومع هذا لو لم يكن له من نعمة الله وفضله عليه إلا أخلاقه العظيمة لكفته فخرا لأن المطالع في سيرته ومواقفه المتعددة يجد أن رسول الله قد حاز من كل خلق أرفعه وتسنّم ذرى الأخلاق حتى سما بها فكان كما وصفه الله بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم.
وكما قال حسان في مدحه :
وأحسن منك لم ترقطّ عيني وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
وما عسى أن يقول المادحون في وصف من مدحه الله وأثنى عليه بمدائح؟ وهو سيد ولد آدم، وأفضل الأولين والآخرين، فمهما كتب الكاتبون ونظم الشعراء المادحون فلن يستطيعوا أن يجمعوا كل صفاته وفضائله، فصلوات الله عليه في الأولين والآخرين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
فقد كان أكرم الناس خلقا، وأوسعهم صدرا وأصدقهم لهجة وأكرمهم عشيرة، وأوفاهم عهدا، وأوصلهم للرحم، قريبا من كل بر، بعيدا من كل إثم، لا يقول إلا حقا ولا يعد إلا صدقا، جواد بماله، فما قال لأحد: لا. قط، إلا في تشهده وما جرى لفظه على نعم، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، شجاعا يتقي به أصحابه عند شدة البأس، صابرا محتسبا في جنب الله كل مكروه وأذى، يسبق حلمه غضبه ويعفو عند المقدرة، رحيم القلب، طيب النفس، آتاه الله الكمال في الخلق والخُلق، والقول والعمل، وجمّله بالسكينة والوقار وكساه حسن القبول، فاستمال القلوب وملك زمامها، فانقادت النفوس لموافقته، وثبتت القلوب على محبته وفدته النفوس بكل عزيز وغال.
فهذا هو رسول الله فيجب على كل من عرف صفات نبيه أن يحاول أن يتأسى به وأن يحبه أكثر من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين، لهذا كان المؤمنون المستقيمون على الصراط المستقيم على الجادة والطريق الوسط عرفوا منزلته وقدره وجعلوا محبته قرة عيونهم وشغاف قلوبهم واتباع سنته شعارهم ووقروه وعزروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أثبتوا له كل ما خص به ربه من كريم الشمائل وجليل الخصال وما فضله به على النبيين وسائر البشر أجمعين، لكنهم لم يغلوا فيه قيد شعرة ولم يجاوزوا به قدره فهو عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وسيد ولد آدم الذي كان أعظم ما دعا إليه هو توحيد الله وتعريف الناس برب العالمين. وما يجب له سبحانه على عباده من حقوق وما وعدهم به في الآخرة فلم يستغيثوا به عند الشدائد فصلوات الله وسلامه عليه وجزاه عنا خير ما يجزي به نبيا عن أمته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
أيها الأحبة: إن الكثير من الناس في هذه الأيام يدعون محبة الرسول ولكن هذا الإدعاء لا حقيقة له فترى الكثير ممن يزعمون محبته أول المفرطين في الصلاة التي هي عماد الدين فتجدهم لا يحافظون على الصلوات في المسجد جماعة بل إن بعضهم لا يصلي إلا في المناسبات أو في الجمع والأعياد والبعض الآخر لا يصلي مطلقا بل ولا يعرف طريق المسجد.
فهل هذا من المحبة؟ وآخرين تجدهم منحرفي السلوك إلى درجة كبيرة فالشكل الخارجي لهم يدل على أن منهم من تأبّط فسقا وفجورا فتجدهم في لباسهم ومشيتهم يتشبهون بالنساء أو بالمخنثين من الرجال يتسكعون في الشوارع والطرقات كالأنعام بل هم أضل والبعض منهم يحلق لحيته يتشبه بالمجوس والنصارى واليهود فقد قال : ((حفوا الشوارب وأوفوا اللحى وخالفوا المجوس واليهود)).
من المعلوم أنه قد ملأت لحيته وجهه الشريف ولم يثبت عنه أنه أخذ منها شيء البتة. ومنهم من يسبل ثوبه وبنطلونه إلى ما تحت الكعبين وقد ورد في إسبال الإزار من الوعيد الشديد فقال : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يكلمهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) حديث صحيح.
والإسبال يا أحبتي من الكبر ومن خصال المتكبرين فقد قال : ((وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة)).
وبعضهم يجاهر بشرب الدخان لا يستحي من أحد يؤذي كل من جالسه أو قاربه أو صلى بجواره والدخان خبيث نص العلماء على تحريمه فهل هذا من المحبة أم الإدعاء؟ وبعضهم يبغض المتدينين من الشباب الصالحين ويتندر بهم في المجالس ويستهزئ بهم وقد ترك معاداة الكافرين من العلمانيين والنصارى واليهود وسخر جهده في معاداة الصالحين وهو مع ذلك يدعى محبة رسول الله.
وبعضهم يقيم الموالد ويحييها ظنا منه أنه يفعل قربة وعملا صالحا وأن هذا من محبة الرسول كلا والله ليس هذا العمل من محبته بل هو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وبعضهم يأخذ من الدين شيء ويترك شيئا آخر ظنا منه أنه بالخيار يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء ويفعل ما يشاء ويذر ما يشاء وقد ذم الله من يفعل ذلك فقال تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعلمون.
إلى غير ذلك من التناقض والإدعاء الكاذب في المحبة الصادقة فإن كنت صادقا فيما زعمته فإن المحب مطيع لمن أحبه.
فالحب أيها الإخوة وإن كان من أعمال القلوب إلا أنه لا بد وأن تظهر آثاره على الجوارح قولا وفعلا ولما كان الحب أمرا يمكن أن يستتر وراء المزاعم ويقع في الاشتباه كان لابد من التمييز بين الصادق فيه وبين الدعي الكاذب وبين من سلك في حبه لرسوله مسلكا صحيحا وبين من انحرف حبه عن الصواب، وقد جرت العادة أن الدعاوى لا تقبل إلا ببينات، فالبينة على من ادعى ولو يعطى الناس بدعواهم لاختل ميزان الحق والعدل.
فمن علامات محبة رسول الله :
أولا: طاعته واتباعه: فالاتباع هو دليل المحبة الأول وشاهدها الأ مثل وهو شرط صحة هذه المحبة وإذا كان الله قد جعل اتباع نبيه دليلا على حبه هو سبحانه فهو من باب أولى دليل على حب النبي ، قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم قال ابن كثير رحمه الله: (هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية بأنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله).
الثاني: تعظيم النبي وتوقيره والأدب معه، وتعظيم النبي يكون بالقلب واللسان والجوارح.
فالتعظيم بالقلب هو ما يستلزم اعتقاد كونه رسولا اصطفاه الله برسالته وخصه بنبوته وأعلى قدره، ورفع ذكره، وفضّله على سائر الخلق أجمعين كما يستلزم تقديم محبته على النفس والولد والناس أجمعين.
وأما التعظيم باللسان فيكون بالثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه أو أثنى عليه ربه من غير غلو ولا تقصير وأن يصلي عليه حين يذكر.
وأما التعظيم بالجوارح فيشمل العمل بطاعته، وتجريد متابعته وموافقته في حب ما يحبه، وبغض ما يبغضه والسعي في إظهار دينه ونصرة شريعته والذب عنه وصون حرمته.
الثالث: كثرة تذكره وتمني رؤيته والشوق إلى لقائه وسؤال الله اللحاق به على الإيمان وأن يجمع بينه وبين حبيبه في مستقر رحمته وقد أخبر بأنه سيوجد في هذه الأمة من يودّ رؤيته بكل ما يملكون فأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أشد أمتي لي حبا، ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله)).
فهذا بلال عندما احتضر قالت امرأته: واحزناه فقال: (بل وافرحتاه غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه) فمزج مرارة الموت بحلاوة الشوق إليه.
رابعا: ومن مظاهر محبته: محبة سنته والداعين إليها والمتمسكين بها وأهل العلم الذين لهم في هذا الدين قدم صدق وسبق وهم الدعاة العاملون الذين يجوبون البلاد طولا وعرضا يدعون إلى الله على بصيرة.
خامسا: محبة قرابته وآل بيته وأزواجه وأصحابه.
ويتمثل هذا في توقيرهم ومعرفة فضلهم وحفظ حرمتهم ومكانتهم وبغض من أبغضهم أو آذاهم، وحبهم ومعرفة قدرهم والثناء عليهم بما هم أهله.
هذه علامات محبته أسأل الله عز وجل أن يجعلنا صادقين في ذلك، وأحب أن أنبه إلى أنه يكثر الذاهبون إلى المدينة المنورة حرسها الله في هذه الأيام فأقول لهؤلاء: يجب أن تصححوا النية أولا وذلك بأن ينووا زيارة المسجد النبوي لا القبر استناداً لقوله : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)).
فإذا وصلتم إلى المدينة النبوية وأتيتم المسجد النبوي وأردتم الدخول فيقال عند الدخول: دعاء دخول المسجد (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشطيان الرجيم اللهم افتح لي أبواب رحمتك) ثم تصلي ركعتين تحية المسجد ثم تتجه نحو القبر فتسلم على رسول الله قائلا: (السلام عليك يا رسول الله) ثم تتجه نحو اليمين قليلا موازيا لقبر أبي بكر فتقول: السلام عليك يا أبا بكر ثم تتجه قليلا نحو اليمين فتقول: السلام عليك يا عمر ولا تقف تدعو متجها إلى القبر ثم تخرج الزيارة بهذه الكيفية مستحبة لمن قدم إلى المدينة قاصدا مسجد رسول الله ، أو لمن كان يريد السفر من أهل المدينة وهذا الاستحباب مأخوذ من الأحاديث العامة الواردة في فضل زيارة القبور ولم يثبت بخصوص زيارة قبره حديث صحيح يحتج به عند أهل العلم وأما حديث: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) فهو حديث موضوع لا يحتج به وحديث: ((من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي)) وهذا حديث منكر ساقط الإسناد وحديث: ((من حج البيت فلم يزرني فقد جفاني)) هذا حديث موضوع، وهناك بعض الناس يقف أمام القبر الشريف كهيئة المصلي.
(1/207)
قيام الليل
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قيام الصالحين الليل مع محبتهم للرخاء فيه. 2- قيام الليل من موجبات الجنة. 3- الأسباب المعينة على قيام الليل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: لا زلنا بصدد شرح حديث اختصام الملأ الأعلى وقد تكلمت في الجمعة الماضية عن إطعام الطعام ولين الكلام وهما من الدرجات وأما اليوم نتحدث عن العمل الثالث من أعمال الدرجات وهو قيام الليل وكما جاء في الحديث: ((الصلاة بالليل والناس نيام)) فأقول وبالله التوفيق.
إن قيام الليل عبادة تصل القلب بالله وتجعله قادرا على التغلب على مغريات الحياة على مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات ونامت فيها العيون وتقلب النُّوام على الفرش، ولكن قوام الليل يهبون من فرشهم الوثيرة وسررهم المريحة ويكابدون الليل لا ينامون إلا القليل ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة وسمات النفوس الكبيرة قد مدح الله عز وجل أهل قيام الليل وميزهم عن غيرهم بقوله تعالى: أمّن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب.
وقوام الليل يحبون مثلنا النوم والراحة والدعة ولكنه نفضوا غبار الكسل واستحثوا الخطى وقووا العزائم، فهذا عبد العزيز بن أبي رواد إذا جن عليه الليل يأتي فراشه فيمر يده عليه يقول: إنك للين، ووالله إن في الجنة لألين منك، ولا يزال يصلي الليل كله. ومجاهدة النفس صعبة المنال في البداية ولكنها سهلة الانقياد بالإصرار والعزيمة في النهاية كما قال ثابت البناني:
كابدت الصلاة عشرين سنة تنعمت بها عشرين سنة.
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود أنين منه تنفرج الضلوع
قالت ابنة العامر بن عبد قيس: مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ فقال: يا بنية إن جهنم لا تدع أباك ينام.
فقيام الليل هو شرف المؤمن كما جاء ذلك في الحديث الصحيح: ((شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس)).
وكان النبي عليه الصلاة والسلام لا يدع قيام الليل أبدا حتى في السفر كان يصليه على راحلته حيثما توجهت به، وعدد ركعات القيام ثلاث عشرة ركعة أو إحدى عشرة ركعة كما جاء ذلك في حديث عائشة وابن عباس، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كانت صلاة النبي ثلاث عشرة ركعة، يعني من الليل)) رواه البخاري، والوتر من القيام وهو أدنى الكمال وهو سنة مؤكدة من أصر على تركه ردت شهادته كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وهو آكد من جميع التطوعات من السنن الرواتب وغيرها قال الإمام أحمد رحمه الله عمن يترك صلا ة الوتر: هو رجل سوء.
وتتأكد صلاة القيام في رمضان حيث ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) وهاهو رمضان على الأبواب فحري بالمؤمن بعد سماع هذا الحديث أن لا يتخلف عن صلاة التراويح في شهر رمضان بكامله.
وفي الجملة فصلاة الليل من موجبات الجنة وقد دل عليه قول الله عز وجل: إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم فوصفهم بالتيقظ بالليل والاستغفار بالأسحار وبالإنفاق من أموالهم.
وكان بعض السلف نائما فأتاه آت فقال له: قم فصل، أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل هم خزّانها.
ورأى بعضهم الخليل بن أحمد رحمه الله في المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: لم تنفعنا تلك الرسوم وإنما نفعنا ركعات كنا نقومها بالليل، طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات وفنيت تلك العلوم.
يا رجال الليل هبوا رب داع لا يرد
ما يقوم الليل إلا من له عزم وجد
ليس شيء كصلاة الليل للقبر يعد
قال أبو الدرداء : صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبر.
وقيام الليل يوجب علو الدرجات في الجنة، قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. فجعل جزاءه على التهجد بالقرآن في الليل أن يبعثه المقام المحمود وهو أعلى درجاته في الجنة.
قال عون بن عبد الله: (إن الله يدخل الجنة أقواما وفوقهم ناس في الدرجات العلى، فلما نظروا عرفوهم، فقالوا: ربنا إخواننا كنا معهم فيم فضلتهم علينا؟ فيقول: هيهات هيهات، إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون ويظمؤون حين تروون، ويقومون حين تنامون).
ويوجب قيام الليل أيضا من نعيم الجنة ما لم يطلع عليه العباد في الدنيا، قال الله عز وجل: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) ، اقرؤوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءا بما كانوا يعملون.
قال محمد بن كعب القرطبي: أخفوا لله العمل فأخفى الله لهم الجزاء فلو قدموا عليه لأقر تلك الأعين عنده.
وكان أبو سليمان الداراني يقول: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
ومن أهم الأسباب التي تعوق عن قيام الليل الذنوب والمعاصي.
فإن قيام الليل منحة ربانية للصالحين من عباده، وذكر ذلك الحسن بقوله: إن الرجل ليذنب فيحرم به قيام الليل، ونبه إلى ذلك الفضيل بن عياض فقال: إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار فاعلم أنك محروم كبّلتك خطيئتك.
فمن ترك الذنوب والمعاصي والسهر على القنوات الفضائية أعانه الله على فعل الخيرات والطاعات، فقيام الليل دأب الصالحين، بعيد عن الفاسقين قريب من التائبين وفسّر ذلك بشر الحافي عندما قال: لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سدا.
وسئل الحسن البصري: لم كان المتهجدون أحسن الناس وجوها؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره.
ولفضل القيام معشر المؤمنين كان رسول الله يقوم الليل حتى تتورم قدماه وكان لا يدعه أبدا وإذا مرض أو كسل صلى قاعدا وكان عليه الصلاة والسلام يحض ويحث على قيام الليل فيقول: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم)) رواه الترمذي بإسناد حسن.
وفي الليل ساعة مستجابة وذلك أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأستجيب له؟ وقد ورد في صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة)) رواه مسلم.
فيا من يريد إجابة لدعائه وتفريجا لهمّه، وتنفيسا لكربته وتوسيعا لرزقه وشفاءا لمرضه وحفظا لعياله ودفعا لأعدائه وطلبا لمرضاته سبحانه وطمعا في جنته ونجاة من ناره، عليك بدعاء ربك في وقت الإجابة في الثلث الأخير من الليل كل ليلة عسى أن تكون من المقبولين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءا بما كانوا يعملون.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: إن من أراد قيام الليل والقرب من الله ومن أراد أن ينال هذه المنزلة الرفيعة عليه أن يأخذ نفسه بهذه الأسباب التي تعين المسلم على قيام الليل ومنها:
لا تكثر الأكل فيكثر الشرب، فيغلب النوم ويثقل عليك القيام.
لا تتعب نفسك بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح، ويضعف بها البدن، فإن ذلك أيضا مجلب للنوم.
لا تترك القيلولة بالنهار، فإنها سنة للاستعانة بها على قيام الليل وفي الحديث للصحيح: ((أقيلوا فإن الشياطين لا تقيل)).
سلامة القلب من الحقد على المسلمين ومن البدع والخرافات ومن هموم الدنيا فإن هذه الأمراض تصرف عن طاعة الله.
لا ترتكب الذنوب والأوزار بالنهار فإن ذلك مما يقسي القلب، ويحول بينك وبين أسباب الرحمة.
خوف يلزم القلب مع قصر الأمل والتفكر في أهوال يوم القيامة ودركات جهنم كما كان شداد بن أوس إذا دخل إلى الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: اللهم إن النار أذهبت النوم عني، فيقوم فيصلي حتى يصبح.
عباد ليل إذا جن الظلام لهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يحبون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفرا يشيدون لنا مجدا أضعناه
(1/208)
ليلة القدر والعشر الأواخر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
عبد الحميد التركستاني
الطائف
20/9/1416
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصوصية الليالي العشر. 2- اجتهاد رسول الله بالعبادة في هذا العشر. 3- غفلة البعض
تزيد في هذا العشر. 4- فضل ليلة القدر والترغيب في تحريها وقيامها.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعملوا بطاعته فقد بدأ وقت الجد والتشمير للعمل الصالح فقد دخل علينا العُشر الأخير من رمضان وكما تعلمون في فضائل هذه العشر أنها خصت من بين سائر الشهر بخصائص عظيمة، فكما فضل الله شهر رمضان على الشهور فقد جعل العشر الأخير منه أفضل لياليه وأيامها كمثل أيامه وخصها بخصائص، من بقية أيام وليالي الشهر فمن هذه الخصائص: أن النبي كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، كما روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((وكان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)).
ومن ذلك أنه كان يحي الليل فيها، وكان اجتهاده وإحياؤه لليالي العشر شاملا لجميع أنواع العبادة من صلاة وقراءة قرآن وذكر وصدقة واعتكاف، وكما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره، أي اعتزل نساءه، وأحيا ليله وأيقظ أهله، وكان يوقظ أهله في هذه الليالي للصلاة والذكر حرصا على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرة به من العبادة، لا كما يفعله الناس اليوم من السهر على المسلسلات والأفلام والأغاني أو بالسهر في المقاهي على شرب الشيشة ولعب الورق فيحرموا أنفسهم خير هذه الليالي ولا يحرم خيرها إلا كل محروم.
ومن الملاحظ أن كثيرا من الناس كلما اقترب الشهر على الانتهاء يزداد تقصيره وتفريطه مخالفا بذلك سنة نبيه وما علم المسكين أن فضل الشهر في آخره.
فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوّت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله فما هي إلا ليال معدودة، ربما تكون آخر أيام وليالي في الحياة، لعل الإنسان منا أن يدرك فيها نفحة من نفحات المولى، فتكون السعادة في الدنيا والآخرة.
وإنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الفادحة أن نرى كثيرا من المسلمين يمضون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم يسهرون معظم الليالي في اللهو والباطل فإذا جاء وقت القيام ناموا وفوتوا على أنفسهم خيرا كثيراً لعلهم لا يدركونه بعد عامهم هذا أبدا، وهذا من تلاعب الشيطان بهم ومكره بهم وصدهم عن سبيل الله وإغوائه لهم.
فانتبهوا يا مسلمون لهذا الأمر:
والغرض من إحياء ليالي العشر الأخير من رمضان هو تحري ليلة القدر ورجاء موافقتها ونحن في طاعة الله عز وجل حتى تغفر لنا الذنوب لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله : ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)).
وفي المسند بإسناد صحيح: ((من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) ، فمن حرم خير هذه الليلة فهو الشقي المحروم أي وربي! كيف لا؟ وقد عرف هذه الفضائل ثم ضيعها ولم يجتهد فيها ولم يتحراها، وقد ذكر الله في فضلها قوله سبحانه: ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر. وكما ذكرنا في خطبة مضت وكما هو معلوم أن قيامها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، عملها وصيامها وقيامها.
وألف شهر تعدل: ثلاثا وثمانين سنة وثلاثة أشهر: وقد أنزل الله القرآن في هذه الليلة قال تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وقال أيضا: إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فهذه الليلة مباركة وتتنزل فيها الملائكة والروح، أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له.
والروح هو جبريل عليه السلام خصه بالذكر لشرفه.
ووصفها بأنها سلام أي سالمة لا يستطيع أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد، ويكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل.
وفي هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له، ولكن يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم.
وكما ذكرنا أن الله يغفر لمن قامها إيمانا واحتسابا ما تقدم من ذنبه، وقد أخفى الله علمها على العباد رحمة بهم حتى يكثر عملهم في طلبها في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء فيزدادوا قربة من الله وثوابا وأخفاها ليتبين بذلك من كان جادا في طلبها حريصا عليها من الكسلان المتهاون، فإن من حرص على شيء جد في طلبه وهان عليه التعب في سبيل الوصول إليه والظفر به وكما قيل:
عذابه فيك عذب وبعده منك قرب
حسبي من الحب أني لما تحب أحب
أيها الإخوة: ليلة القدر يفتح فيها الباب ويقرب فيها الأحباب ويسمع فيها الخطاب ويرد الجواب ويكتب للعاملين فيها عظيم الأجر والثواب، فاجتهدوا رحمكم الله في طلبها فهذا أوان الطلب واحذروا من الغفلة ففي الغفلة العطب.
اللهم اجعلنا ممن صام الشهر وأدرك ليلة القدر وفاز بالثواب الجزيل والأجر، اللهم اجعلنا من السابقين إلى الخيرات، الهاربين عن المنكرات الآمنين في الغرفات مع الذين أنعمت عليهم ووقيتهم السيئات، اللهم أعذنا من مضلات الفتن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارزقنا شكر نعمتك وحسن عبادتك.
واجعلنا من أهل طاعتك وولايتك، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: ومما ينبغي أن يُعلم أن ليلة القدر تكون في أوتار العشر أوكد لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر)) ، رواه البخاري. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: لكن الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي : ((التمسوها في تاسعة تبقى، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى)) ، فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يوما يكون ذلك في ليال الأشفاع وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح، وإن كان الشهر تسعا وعشرين، كان التاريخ الباقي كالتاريخ الماضي.
وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه، كما قال النبي : ((تحروها في العشر الأواخر)) رواه البخاري.
وهي في السبع الأواخر أكثر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي رأووا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال النبي : ((أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)) وفي رواية لمسلم قال : ((التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)) وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب أنه قال: (والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله بقيامها هي ليلة سبع وعشرين) رواه مسلم. فقيل له: بأي شيء علمت ذلك؟ فقال: بالآية التي أخبرنا رسول الله : ((أخبرنا أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها كأنها طسْت حتى ترتفع)).
فهذه العلامة التي رواها أبي بن كعب عن النبي من أشهر العلامات في الحديث.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ليلة القدر سمحة، طلقة لا حارة، ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء)) رواه ابن خزيمة والبزار وسنده حسن.
ويستحب مع الصلاة والذكر وقراءة القرآن فيها الإكثار من الدعاء فقد ورد عن السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: قلت: ((يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) متفق عليه.
فالعفو من أسماء الله تعالى، وهو المتجاوز عن سيئات عباده الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو ويحب أن يعفو عن عباده.
قال يحي بن معاذ: لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب، أكرم الناس عليه، يشير إلى أنه ابتلى كثيرا من أوليائه وأحبابه بشيء من الذنوب ليعاملهم بالعفو، فإنه سبحانه يحب العفو.
وفي الحديث: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)) ، وكان بعض المتقدمين يقول: جرمي عظيم، وعفوك كبير فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم.
يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر
أكبر الأوزار في جنب عفو الله يصغر
يا رب عبدك قد أتاك وقد أساء وقد هفا
يكفيه منك حياؤه من سوء ما قد أسلفا
حمل الذنوب على الذنـ ـوب الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفوك من عقابك محفا
يا رب فاعف وعافه فلأنت أولى من عفا
أيها المسلمون: لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الانكسار وأكثروا من الابتهال والتضرع والدعاء لكان الجواب من الله الغفور الرحيم أشهدكم أني قد غفرت لكم، رياح هذه الأسحار تحمل أنين المذنبين، وأنفاس المحبين، وقصص التائبين ثم تعود برد الجواب كما ذكرنا بلا كتاب، والمحبون تطول عليهم الليالي فيعدونها عدا لانتظار ليالي العشر في كل عام حتى يقوموا فيها بما يرضى الرحمن، يا ليلة القدر للعابدين اشهدي، يا أقدام القانتين اركعي لربك، واسجدي، يا ألسنة السائلين جدي في المسألة واجتهدي.
يا رجال الليل جدوا رب داع لا يرد
ما يقوم الليل إلا من له عزم وجد
ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم وقربه، وإنما يفرون من ليالي البعد والهجر، فيامن ضاع عمره في لا شيء، استدرك ما فاتك في ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر.
(1/209)
مفهوم الغيرة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد الحميد التركستاني
الطائف
1/4/1419
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خروج النساء وتبرجهن مظهر لضعف الغيرة. 2- الغيرة على النساء في المجتمع الجاهلي
(قبل الإسلام). 3- التأكيد على هذه الصفة في المجتمع الإسلامي. 4- تشريعات الإسلام في
حفظ أخلاق المجتمع وغيرته. 5- مظهر وصور لضعف الغيرة في مجتمعنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اتقوا الله أيها المسلمون وتمسكوا بأوامر الله واجتنبوا نواهيه تفلحوا ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار.
أيها الإخوة: سوف يكون حديثي في هذه الخطبة عن مفهوم الغيرة الصحيح في الإسلام، ومما دعاني إلى كتابة هذا الموضوع هو ما أراه وأشاهده من انتكاس هذا المفهوم لدى كثير من الناس اليوم.
فالنساء مثلا أصبحن يملأن الشوارع والأسواق والبقالات بل وفي كل مكان مليء بالرجال نجد مزاحمة النساء لهم وهن متبرجات متهتكات سافرات عن الوجوه قد وضعن على وجوههن جميع أنواع المساحيق والزينة والعجيب في الأمر أنك ترى مع المرأة المتبرجة السافرة أخاها أو أباها أو زوجها وهو يمشي معها ويضاحكها على مرأى من الناس وهو مع ذلك لا يستحي من نفسه ولا يخجل من مشاهدة الناس له بل ولا يغار على زوجته أو ابنته أو أخته وقد خرجت سافرة متبرجة في أبهى زينة قد عصت الله ورسوله، ترمقها أعين الذئاب الجائعة وهو يعرضها بهذه الهيئة المبتذلة الخارجة عن الستر والحياء والعفة وكأنه لم يصنع شيئا بدعوى التقدمية الديوثية.
وإنني والله لأعجب أشد العجب عندما أرى رجلا تقوده زوجته في البقالة تزاحم الرجال لتشتري ما تريد وقد حسرت عن ذراعيها وكشفت عن وجهها أو عينيها وهو معها كأنه مجرد خادم أو دمية لا يحرك ساكنا.
فهل وصل بنا الحال يا أمة الإسلام أننا لا نستطيع شراء شيء من البقالة إلا مع الزوجة، ألا تستطيع أيها الرجل أن تكتب الطلبات في ورقة وتشتريها أنت من البقالة؟ وهل شراء المعلبات من البقالة يحتاج إلى خروج الأسرة كلها لتقضي ما بين العصر والمغرب أو ما بين المغرب والعشاء في البقالة وتزاحم الرجال ويكون الغزل في كثير من الأحيان من بعض هؤلاء النسوة في هذه الأمكنة؟ وأعجب من ذلك خروج المرأة مع السائق الأجنبي وقد كشفت عن وجهها وهي في السيارة وكأنها مع أحد محارمها بل أصبح السائق في كثير من البيوت وكأنه أحد أفراد العائلة وتخرج المرأة معه إلى أي مكان تريد ولي أمرها غائب لا يسأل عنها، ولا يسألها متى خرجت وإلى أين ذهبت؟ لأنه مشغول بتوافه الأمور حتى أصبح الأصل للنساء اليوم هو السوق أو الشارع أو البقالات وليس البيت.
مع أن الله عز وجل جعل الأصل هو البيت حيث قال سبحانه: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
والسبب في خروج النساء بهذا الشكل هو ضعف الغيرة لدى الناس اليوم إن لم أقل بانعدامها.
وما عجبي أن النساء ترجلت ولكنّ تأنيث الرجال عجاب
أيها الإخوة: لقد كان العرب في الجاهلية يعدون المرأة ذروة شرفهم وعنوان عرضهم ولذلك فقد تفننوا في حمايتها والمحافظة عليها والدفاع عنها زوجة وأما وابنة وأختا، وقريبة وجارة، حتى يظل شرفهم سليما من الدنس وعرضهم بعيدا عن أن يمس، ولم يكن شيء يثير القوم كالإعتداء على نسائهم أو المساس بهن ولذلك كانوا يتجشمون في الدفاع عنهن كل صعب ولا يبخلون بكل غال، لقد كانت الغيرة تولد مع القوم وكأنهم أرضعوها فعلا مع لبن الأمهات.
على عكس ما نراه اليوم.
وفي بيئة العرب التي قامت فيها الأخلاق على الإباء والاعتزاز بالشرف كان لابد للرجال والنساء من العفة ومن التعفف لأن العدوان على العرض يجر الويلات والحروب وكان لابد من الغيرة على العرض لا يخدش والعفة شرط من شروط السيادة فهي كالشجاعة والكرم.
وكان العرب أغير من غيرهم: لأنهم أشد الناس حاجة إلى حفظ الأنساب ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها وقد وصل الحال بهم في الغيرة أن جاوزوا الحد، حتى كانوا يئدون بناتهم مخافة لحوق العار بهم من أجلهن.
وكان من نخوة العرب وغيرهم أنه كان من عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم الرجال والرّعاء ثم النساء إذا صدرت كل الفرق المتقدمة حيث يغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن آمنات ممن يزعجهن فمن تأخر من الرجال عند الماء حتى لقينه النساء فهو عندهم في غاية الذلة والمهانة.
وهذا في الجاهلية، أما اليوم فنجد المرأة هي التي تزاحم الرجال في كل مكان وتتجرأ عليهم وتتقدم عليهم وهي في أبهى زينة وأحسن منظر، فأين نحن من أولئك؟
وكان للغيرة عند القوم مظاهر كثيرة: منها حبهم لعفة النساء عامة ونسائهم خاصة ومنها حبهم لحيائهن وتسترهن ووفائهن ووقارهن.
وكان من مظاهر الغيرة عند العرب ستر النساء ومنعهن من الظهور أمام الرجال يقول الأفوه الأودي:
نقاتل أقواما فنسبي نسائهم ولم يرَ ذو عزٍ لنسوينا حجلا
بمعنى أنه لا يرى أي إنسان خلخال المرأة التي تلبسه في قدميها لشدة تحريهم في عدم إظهار نسائهم.
وأما اليوم فيرى الشعر والوجه واليدان والفستان والقدمان وأحينا إلى منتصف الساق والعباءة على الكتف والصدر رأوا النحر قد بدا منها وأما الحلي فحدث ولا حرج كالأساور والقلائد وما أدري ما السبب في حب إظهار المرأة زينتها أمام الرجال الأجانب؟
وكان العرب مع هذه يفخرون بغض البصر عن الجارات ويعتبرون ذلك من العفة والغيرة على الأعراض وما أجمل قول عروة بين الورد:
وإن جارتي ألوت رياح بيتها تغافلت حتى يستر البيت جاريته
وقول عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يوارى جارتي مأواها
أين من هؤلاء بعض الشباب اليوم الذين يتسكعون في الأسواق أو يتلصصون حول الحرمات ليس لهم همّ سوى الجري وراء شهوة الجنس وسعار الشهوة؟
أيها المسلمون: هذه هي أخلاق العرب لو بذل في سبيل ذلك:
النفس والمال
أصون عرضي بمالي لا أبدده
لا بارك الله بعد العرض في المال
ولما جاء الإسلام حمد تلك الغيرة وشجع المسلمين عليها، ذلك أنها إذا تمكنت في النفوس كان المجتمع كالطود الشامخ حميّة ودفاعا عن الأعراض والمؤمن الحق غيور بلا شطط يغار على محارم الله أن تنتهك يغار على أي امرأة أجنبية كانت أم قريبة يغار عليها من كل مجرم أثيم.
وفي الحديث الصحيح أن سعد بن معاذ قال كلاما بين يدي النبي دل على غيرته الشديدة فقال : ((أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني)) رواه البخاري.
وفي الحديث الآخر قال : ((إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم الله)) رواه البخاري وروى أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)).
وقال أيضا: ((ما من أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش)).
هذه هي الغيرة، غيرة الإسلام على المحارم والأعراض المنبثقة من غيرة رب العباد والمتمثلة في خاتم المرسلين فقد كان أشد الآدميين غيرة لأنه كان يغار لله ولدينه ولهذا كان لا ينتقم لنفسه، وهي ليست خافية على أحد من الناس ولهذا يقول ابن القيم: إن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله والجنة عليه حرام، أ.هـ.
ومن أجل أن يكون المجتمع المسلم نظيفا، أمر الإسلام بعدد من النواهي والأوامر ليحفظ هذا المجتمع طاهرا نقيا وتصبح مظاهر الغيرة فيه جلية ومن علامات هذا النقاء محب الستر ولذلك فرض الله على المسلمات ستر مفاتنهن وعدم إبداء زينتهن يقول تعالى: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن.. ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ، وقال: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، أي ألزمن بيوتكن ولا تخرجن إلا لحاجة ونهى عن تبرج الجاهلية الأولى فكيف بالله بمن خرجت تزاحم الرجال وتعمل مع الرجال وتختلط مع الرجال بلا حياء ولا خجل ولا خوف من الله؟ وحرم الإسلام كذلك الدخول على النساء لغير محارمهن كما حرم الخلوة بهن قال : ((إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)) والحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقاربه وقال : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله امرأتي خرجت حاجة واكتتبت في غزوة كذا وكذا قال: ارجع فحج مع امرأتك)) الله أكبر.
تطهير وتحصين لهذا المجتمع الفاضل فلا خلوة ولا ريبة، حتى الجهاد يؤمر الرجل بتأجيله من أجل أن يحج مع امرأته فلا تسافر وحدها.
هذه روح الشرع الحنيف والمتأولون كل يوم يطلعون علينا بجديد.
ومن لوازم هذه الغيرة: الحياء قال : ((الحياء خير كله)).
وقال أيضا: ((الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة)) ، فالحياء يمنع المؤمن والمؤمنة من انتهاك محارم الله.
ومن لوازم الغيرة غض البصر قال تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن...
يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي والنظرة الخائنة والحركة المثيرة والزينة المتبرجة والجسم العاري كلها لا تصنع شيئا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون فالنظرة تثير والحركة تثير والدعابة تثير والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية. انتهى كلامه.
ولا يستطيع الإنسان أن يكبح جماح هذه الشهوات العارمة إلا إذا كانت الغيرة متأصلة فيه متمسك بركابها عامل بمقتضياتها حسب المنهج الإسلامي السديد فلا مجال للمرأة أن تخرج من بيتها في كل وقت ولا مجال لها أن تتبرج ولا أن تسفر عن وجهها ولا أن تتزين للرجال الأجانب ولا أن تزاحم الرجال وتخالطهم سواء كان ذلك في مجال العمل أو في الحياة اليومية الطارئة، فالحيلولة دون هذه الاستثارة وإبقاء الدافع النظري بين الجنسين سليما هو إحدى وسائر الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف خال من الفتن والشهوات. ومن يعص الله ورسوله ويتعدى حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة: عرفنا مما تقدم أن الغيرة خلق عربي أصيل ارتفع به الإسلام آفاقا عالية سامية وقمما شامخة في ظل مجتمع وارف الضلال.
ثم بدأت الأخلاق تتغير عند الكثيرين، مع ضعف الوازع الديني وهجمة الغرب الشرسة، حتى بدت المظاهر الإسلامية النظيفة عجيبة في العلاقات الاجتماعية والأخلاقية.
ابتعد كثيرون عن الواقع النظيف وحتى غيرة أهل الجاهلية، انحدرت وتلاشت في كثير من الأوساط إذ أصبح الاختلاط بين ما يسمى بالأسر التقدمية شائعا حيث الأحاديث المشتركة والموائد المختلطة.
وفي المطارات ما يراه المسلم من مظاهر شائنة لا تحرك غيرة ولا رجولة لقد حاولت بعض الأقلام الهابطة أن تنتزع عن الفتاة المسلمة كل خلق أو تقليد حتى الحياء الذي كانت تتميز به الفتاة المسلمة لتجعلها كالفتاة الغربية في ترجلها وتكسيرها وتغنجها وعريها ولكن باءت محاولتهم بالفشل ولله الحمد.
ونحن نحسب أن هذه الأمة قد استيقظت من رقادها وأنها قد عرفت ما الذي ينفعها هل هو دين الله أم تقليد الغرب الكافر؟
فرجوع الناس إلى دين الله ملحوظ ولله الحمد سواء بين أوساط الرجال أو أوساط النساء وبدأت الغيرة تدب من جديد لدى الجيل المسلم الصاعد المتمسك بدينه المطبق لتعاليمه ليس له هم سوى إرضاء الله لو سخط عليه من سخط ولو غضب عليه من غضب.
وبدأت طلائع هذا الجيل تطوع القيم الإنسانية والأخلاق الإسلامية كما هي في ميزان الله وحين يسود المجتمع المسلم هذه الخلق النبيل فإن هذا المجتمع يكون متحضرا متقدما بالمعنى الصحيح لا بالمعنى المنكوس الذي يفهمه أتباع الغرب أو بالمعنى الاصطلاحي يكون مجتمعا ربانيا مسلما.
وأخيرا يا أخي المسلم: فإن معايير الأخلاق قد اهتزت في عصرنا الحاضر ولابد أن نوليها الاهتمام الكافي الذي يوجبه علينا ديننا.
والأمل كبير في الأجيال المؤمنة ليتقوّم الانحراف وتزرع الفضيلة وتكون قدوة حسنة وواقعا حيا لما كان عليه سلف هذه الأمة.
وفي الختام أنبه من كان فيه تهاونا من ناحية إخراجه أهله متبرجات وسافرات أن يتقي الله عز وجل وأن يعلم أنه قد ورد وعيد شديد فيمن لا يغار على أهله فقد روى النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، العاق لوالديه والمرأة المترجلة، والديوث)) وهو حديث صحيح.
والديوث: هو الذي لا يغار على أهله.
فضعف الغيرة من خوارم المروءة لظهور قلة اكتراث المتلبس بها بمروءته لأن حفظ الأنساب مطلوب شرعا وقطع أسباب الفتنة واجب شرعا أيضا ففاقد الغيرة مخالف للشرع والطبع وفي فعله هذا إعانة على الحرام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم.
(1/210)
موعظة عن النار
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فائدة المجالس التي يرهب فيها من الله وعذابه. 2- تخلل رسول الله أصحابه بالموعظة.
3- أوصاف النار وأحوالها وعذابها. 4- أسباب دخول النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فإن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر الله سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعداء دينه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال.
ولهذا سوف تكون خطبتنا لهذه الجمعة عن ذكر النار وما أعده الله فيها من العذاب الشديد والنكال الوجيع لمن عصاه ولم يلتزم شرعه، ليكون ذلك قامعا للنفوس عن شهواتها وفسادها، وباعثا لها على المسارعة إلى فلاحها ورشادها، فإن النفوس ولا سيما في هذه الأزمان قد غلب عليها الكسل والتواني، واسترسلت في شهواتها وأهوائها وتمنت على الله الأماني، والشهوات لا يذهبها من القلوب إلا أحد أمرين إما خوف مزعج محرق أو شوق مبهج مقلق، وقد قيل للحسن: يا أبا سعيد، كيف نصنع؟ نجالس أقواما يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير، فقال: والله، إنك أن تخالط قوما يخوفونك حتى يدركك الأمن، خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يدركك الخوف.
فأقول وبالله التوفيق: لقد قست القلوب فهي بين شواغل الدنيا وملهياتها، إذا أفاقت فإذا هي تفيق إلى نكبات وهموم وغموم تتجاذبها، وأما الحديث عن الرقائق والرغائب فهو غريب عن القلوب، غريب على الآذان، قلما تنصت إليه، قلما تسمعه، كم كان يتعاهد أصحابه بمواعظ تذرف منها العيون وتوجل منها القلوب وترتعد منها الفرائص، يقف رسول الله يخاطب أصحابه بكلمات يسيرات فيقول: ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)) ، فما هو إلا أن ينتهي من كلامه عليه الصلاة والسلام حتى يخفض الصحابة رؤوسهم ويكبوا بوجوههم ولهم ضجيج وخنين بالبكاء.
أما إن نفوسنا بحاجة إلى أن نوردها المواعظ والنذر، وأن نذكرها بما خوف الله به عباده وحذرهم منه، وقد حذر سبحانه وتعالى عباده أشد التحذير، وأنذرهم غاية الإنذار من عذاب النار من دار الخزي والبوار، فقال جل جلاله وتقدست أسماؤه: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [الليل: 14]، وقال: إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: 35-37]. فوالله، ما أنذر العباد وخوفهم بشيء قط هو أشد وأدهى من النار؛ وصف لهم حرها ولظاها، وصف لهم طعامها وشرابها، وصف أغلالها ونكالها، وصف حرارتها وغايتها، وصف أصفادها وسرابيلها، وصف ذلك كله حتى إن من يقرأ القرآن بقلب حاضر، ويسمع وحده جهنم كأنما أقيم على شفرها، فهو يراها رأي عين، يرى كيف يحطم بعضها بعضا، كأنما يرى أهل النار يتقلبون في دركاتها ويجرجرون في أوديتها، كل ذلك من المولى جل وعلا إنذار وتحذير.
وكذا خوّف نبينا عليه الصلاة والسلام من النار وأنذر وتوعد وحذر، وكان شديد الإنذار شديد التحذير من النار، وقف مرة على منبره فجعل ينادي ويقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)) وعلا صوته حتى سمعه أهل السوق جميعا، وحتى وقعت خميصة كانت على كتفيه ، فوقعت عند رجليه من شدة تأثرة وانفعاله بما يقول، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أنا آخذ بحجزكم عن النار وأقول: إياكم وجهنم والحدود، إياكم وجهنم والحدود)) فهو آخذ بحجز أمته ويقول: ((إياكم عن النار، هلّم عن النار)) وهم يعصونه ويتقحمونها.
أيها الإخوة في الله، ثم أصبح الحديث عن النار وأهوالها حديثا خافتا لا تكاد تتحرك به ولا تستشعره القلوب، ولا تذرف منه العيون، حديثا غريبا على المسامع بعيدا عن النفوس مع أن ربنا جل جلاله قد ذكرنا بها غاية التذكير وحذرنا غاية التحذير، ألا فلنشعِر القلوب بشيء من أحوالها، ولنذكّر النفوس بشيء من أهوالها؛ لعل قسوة من قلوبنا تلين وغفلة من نفوسنا تفيق.
فإن سألت عن النار فقد سألت عن دار مهولة وعذاب شديد، إن سألت عن حرها وقعرها وحياتها وزقومها وأصفادها وأغلالها وعذابها وأهوالها وحال أهلها فما ظنك بنار أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة. ما ظنك بحرها، نارنا هذه جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم.
أما بُعدْ قعرها فما ظننا بقعر نار يلقى الحجر العظيم من شفرها فيهوي فيها سبعين سنة لا يدرك قعرها، والله لتملأن، والله لتملأن، والله لتملأن.
أما طعامها وشرابها فاستمع إلى قول خالقها والمتوعد بعذابها: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43-45]، وقوله: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات: 62-68].
أما شرابها فاستمع إلى ما يقول ربنا وخالقنا: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29].
فهذا الطعام ذو غصة وعذاب أليم، وهذا الشراب كما قال تعالى: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 16، 17].
يقول عليه الصلاة والسلام في بيان حال طعام أهل النار: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!)) ، يلقى على أهل النار الجوع فإذا استغاثوا أغيثوا بشجر الزقوم، فإذا أكلوه غلا في بطونهم كغلي الحميم، فيستقون، فيسقون بماء حميم إذا أدناه إلى وجهه شوى وجهه، فإذا شربه قطّع أمعاءه حتى يخرج من دبره، وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد: 15].
أما سلاسلها وأغلالها فاستمع إلى وصفها: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 32]، فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن: 41] أي: أن ناصية رأسه تجمع إلى قدميه من وراء ظهره. ينشئ الله لأهل النار سحابة سوداء مظلمة، فيقال لم: يا أهل النار أي شيء تطلبون؟ فيقولون: الشراب، فيستقون، فتمطرهم تلك السحابة السوداء أغلالا تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرا يتلهب عليهم.
أما عذاب أهل النار وكل ما مضى من عذابها فما ظنك بعذاب دار أهون أهلها عذابا من كان له نعلان يغلي منهما دماغه، ما يرى أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم.
أما حال أهلها فشر حال، وهوانهم أعظم هوان، وعذابهم أشد عذاب، وما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى انقطعت أعناقهم عطشا واحترقت أكبادهم جوعا، ثم انصرف بهم إلى النار، فيسقون من عين آنية قد آذى حرها واشتد نضجها، فلو رأيتهم وقد أسكنوا دار ضيقة الأرجاء مظلمة المسالك مبهمة المهالك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، يسحبون فيها على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، النار من تحتهم، النار عن أيمانهم، النار عن شمائلهم، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف: 41]، فغطاؤهم من نار وطعامهم من نار وشرابهم من نار ولباسهم من نار ومهادهم من نار، فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع وجر السلاسل، يتجلجلون في أوديتها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها، تغلي بهم كغلي القدر، وهم يهتفون بالويل ويدعون بالثبور، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 19-22]، يتفجر الصديد من أفواههم، وتتقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود عيونهم وأهدابهم، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 56]، أمانيهم فيها الهلاك وما لهم من أسرها فكاك، فما حال دار أماني أهلها إذا تمنوا فيها الموت؟! ما حال دار إذا تمنى أهلها تمنوا أن يموتوا؟! كيف بك لو رأيتهم وقد اسودت وجوههم؟! فهي أشد سوادا من الحميم، وعميت أبصارهم وأبكمت ألسنتهم وقصمت ظهورهم ومزقت جلودهم وغلّت أيديهم إلى أعناقهم وجمع بين نواصيهم وأقدامهم، يمشون على النار بوجوههم، ويطؤون حسك الحديد بأحداقهم، ينادون من أكنافها ويصيحون من أقطارها: يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك قد تفتتت منا الكبود، يا مالك العدمُ خير من هذا الوجود، فيجيبهم بعد ألف عام بأشد وأقوى خطاب وأغلظ جواب: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 77، 78]، فينادون ربهم وقد اشتدّ بكاؤهم وعلا صياحهم وارتفع صراخهم: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون: 106، 107]، فلا يجيبهم الجبار جل جلاله إلا بعد سنين، فيجيبهم بتوبيخ أشد من العذاب: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108]، فعند ذلك أطبقت عليهم وغلقت، فيئس القوم بعد تلك الكلمة أيما إياس، فتزاد حسراتهم وتنقطع أصواتهم، فلا يسمع لهم إلا الأنين والزفير والشهيق والبكاء، يبكون على تضييع أوقات العمر، ويتأسفون أسف أعظم من المصاب، ولكن هيهات هيهات ذهب العمل وجاء العقاب.
لقد خاب من ولد آدم من مشى إلَى النار مغلول القيادة أزرقا
يساق إلى نار الْجحيم مسربلا سرابيل قطران لباسا محرما
إذا شربوا منها الصديد رأيتهم يذوبون من حر الصديد تمزقا
ويزيد عذابَهم شدة وحسرتهم حسرة تذكرُهم ماذا فاتهم بدخول النار، لقد فاتهم دخول الجنان ورؤية وجه الرحمن ورضوان رب السماء والأرض جل جلاله، ويزيد حسرتَهم حسرة وألمهم ألما أن هذا العذاب الأليم والهوان المقيم ثمن اشتروه بلذة فانية وشهوة ذاهبة:
مآرب كانت لأهلها في الحياة عِذابا فصارت لهم بعد الممات عَذابا
لقد باعوا جنة عرضها السماوات والأرض بثمن بخس دراهم معدودة؛ بشهوات تمتعوا بها في الدنيا ثم ذهبت وذهبوا فكأنها وكأنهم ما كانت وما كانوا، ثم لقوا عذابا طويلا وهوانا مقيما، فعياذا بالله من نار هذه حالها، وعياذا بالله من عمل هذه عاقبته، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم: 49-52].
اللهم إنه لا طاقة لنا بعقابك، ولا صبر لنا على عذابك، اللهم فأجرنا وأعتقنا من نارك، رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 65/ 66].
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 36، 37].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، وبعد أن سمعنا عن عذاب النار وأهوالها وعن حال أهلها نريد أن نعرف أسباب دخولها والأعمال التي تدني الإنسان منها، فمن أهم الأعمال الشرك بالله والكفر ولو ببعض جزيئات الدين أو بما هو معلوم من الدين بالضرورة، كمن ينكر الصلاة أو الزكاة أو غير ذلك، قال تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [غافر: 70-76].
ومن الأعمال النفاق، وقد توعد الله المنافقين بالنار وهو وعيد قطعه على نفسه لا يخلفه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [التوبة: 68]، وأخبر أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وهو أشدها حرا وأكثرها إيلاما.
ومن الأعمال الكبر، وهذه صفة يتصف بها عامة أهل النار، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 36]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)) ، ومصداق هذا قوله تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60]، وقوله: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأحقاف: 20].
ومن الأعمال عدم القيام بالتكاليف الشرعية مع التكذيب بيوم الدين وترك الالتزام بالضوابط الشرعية، قال تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 42-47].
ومن الأعمال طاعة رؤساء الضلال وزعماء الكفر فيما قرروه من مبادئ الضلال وخطوات الكفر التي تصدّ عن دين الله ومتابعة المرسلين، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ [الأحزاب: 64-67].
والأعمال كثيرة نذكرها إجمالا، فمن ذلك الحسد والخيانة والظلم والفواحش والغدر وقطيعة الرحم والجبن عن الجهاد والبخل واختلاف السر والعلانية واليأس من روح الله والأمن من مكر الله والجزع عند المصائب والبطر عند النعم وترك فرائض الله والاعتداء على حدوده وانتهاك حرماته وخوف المخلوق دون الخالق والعمل رياء وسمعة ومخالفة الكتاب والسنة اعتقادا وعملا وطاعة المخلوق في معصية الخالق والتعصب للباطل والاستهزاء بالدين أو بأهله الصالحين والاستمرار على ارتكاب المعاصي والمحرمات كمشاهدة أفلام المجون والخلاعة وكشرب المسكرات والزنى واللواط وجميع الفواحش التي حذرنا منها، والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم والربا والفرار من الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات والتصوير والتبرج والسفور والتهتك وتقليد أعداء الدين والشرب في آنية الذهب أو الفضة والافتخار، وغير ذلك من الأعمال التي تدخل صاحبها في النار والعياذ بالله.
أيها الإخوة، إننا ما نزال في فسحة من العمر وطيب من العيش وصحة وعافية، أما آن لنا أن نتوب؟! أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد: 16]، حتى متى ونحن نصر على معصية الله ومحاربة دينه وأوليائه؟! أحتى يفجَأنا الموت فنقول: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون: 99، 100]، أم ماذا؟!
إننا ما نزال في دار المهلة ووقت العمل، فمن عمل الخير واستقام حاله وابتعد عن رفقاء السوء وجانب الذنوب والعصيان فقد رجحت كفة الخير لديه، فليحمد الله، ومن كان على غير طريق الحق ولا يزال يصرّ على البعد عن دين الله فلا يلومن إلا نفسه، وسوف يندم ويعض على أصابعه باكيا، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان: 27-29].
فحيّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
وحي على يوم المزيد الذي به زيادة رب العرش فاليوم موسم
وحيّ على واد هنالك أفيح وتربته من إذخر المسك أعظم
منابر من نور هناك وفضة ومن خالص العقيان لا تتقصم
فيا بائعا غال ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ألا وصلوا وسلموا على خير البرية...
(1/211)
دور الصحابة في إبلاغ الرسالة
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
18/2/1406
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
الطريق المستقيم هو الموصل إلى الجنة وهو اتباعه صلى الله عليه وسلم – الرسول صلى الله
عليه وسلم هو المُعَلم للأمة والحاكم في شئونها ولا يصح إيمان أحد إلا بالرضى بحكمه -
اقتران طاعة الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم , والتحذير من مخالفته صلى الله عليه
وسلم – كما اصطفى الله محمداً صلى الله عليه وسلم اصطفى الصحابة لحفظ السنة -
الطعن في الصحابة طعن في الدين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الطريق المستقيم هو الطريق الذي به سيد المرسلين وخاتم النبيين عبد الله ورسوله محمد لا سبيل إلى الوصول إلى رضوان الله وإلى جناته إلا بواسطة اتباع رسول الله محمدًا ، فمن اتبع ما جاء به هذا الرسول فقد نجا وظفر بالدين وفاز برضوان رب العالمين ومن انحرف عما جاء به هذا الرسول فقد هلك وخسر الخسران المبين.
لأن سيدنا محمد هو المبلغ عن ربه، المبيّن عن الله مراده قال تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك [المائدة:67]. وقال تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم [النحل:44].
وهو المعلم لأمته الكتاب والحكمة قال تعالى ممتنًا عليهم بذلك: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة [آل عمران:164]. ووصف الرسول الذي يبين لهم الحلال والحرام قال تعالى ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [الأعراف: 157].
وقد بُعث في هذه الأمة قاضيًا لهم في شئون حياتهم وحكمًا فيمن شجر بينهم قال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [الأحزاب:36].
فلا يصح إيمان أحد حتى يحكم نبي الله ويحكم سنته ثم لا يجد في نفسه حرجًا ولا ضيقًا من ذلك ثم يسلم بحكمه قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في صدورهم حرجًا مما قضيت ويُسلموا تسليمًا [النساء:65].
ولقد بعثه الله بالشريعة السمحة والدين الخاتم ليحكم بذلك بين الناس قال تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله [النساء:105].
ولذلك فقد اختاره الله سبحانه وتعالى نموذجًا وأسوة حسنة للمؤمنين قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا [الأحزاب:21] ولذلك أمرنا سبحانه وتعالى بأن نتبع هذا النبي الكريم فقال تعالى: آمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون وسد كل الطرق فلا طريق إلى الله سبحانه وتعالى ولا سبيل إليه إلا طريق اتباع هذا النبي قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31].
ولذلك قرن سبحانه طاعته وطاعة رسوله وشد وثاق بعضهما ببعض فقال تعالى: وأطيعوا الله ورسوله [الأنفال:47]. وقال سبحانه: من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء: 80 ].
فكيف يتخيل مسلم بعد ذلك أن هناك طريقًا يمكن أن يوصل إلى الله غير طريق محمد وكيف يتوهم عاقل بعد ذلك أنه لا يحتاج إلى الشريعة التي جاء بها سيدنا محمد وكيف يتخيل مؤمن بعد ذلك أنه يبقى مؤمنًا أو مسلمًا ثم يظن أنه لا حاجة به إلى سنة النبي إن الله عز وجل قد بين لنا أنه لا سبيل ولا طريق إليه ولا إلى رضوانه إلا باتباع هذا النبي الكريم. فمن انحرف عما جاء به سيدنا محمد فقد هلك وأخطأ الطريق وقد حذر الله تعالى هؤلاء المارقين الذين انحرفوا عن سنته فقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
وكما أن النبي هو الواسطة بيننا وبين ربنا عز وجل فهو المبلغ عن الله سبحانه وتعالى فإن هناك واسطة بيننا وبين رسول الله وهم أصحابه الكرام رضي الله عنهم فإن الله سبحانه كما اصطفى نبيه من بين سائر البشر ليبلغ عن الله رسالاته فقد اصطفى للنبي أصحابًا هم أفضل الناس بعد الأنبياء عقولاً وأصفاهم نفوسًا وأتقاهم قلوبًا فحفظوا ما بلغهم به الصادق الأمين من كلام رب العالمين وحفظوا سنته أقوالاً وأفعالاً وسائر أعماله الخاصة منها والعامة، ثم بلغوها إلى الأمة وكانوا أمناء على ذلك وكانوا علماء فقهاء في دين الله فحفظ الله بهم ما أنزل على رسوله من القرآن وما أوحي إليه من سُنّة رضي الله عنهم وأرضاهم وجزاهم عن الأمة خير الجزاء.
كيف يتخيل مسلم بعد ذلك أنه يمكن أن يستغني عن هذه الواسطة الكريمة، أن يستغني عن واسطة الصحابة الكرام ويصل إلى الدين بدونها. لا سبيل إلى الوصول إلى دين الله وإلى شرعه وإلى قرآنه الذي أنزله على الرسول الكريم إلا بواسطة الصحابة الكرام.
لم يخطر على باب مسلم أبدًا أنه يمكن الاستغناء عن واسطة الصحابة الكرام ولم يخطر على بال مؤمن أبدًا أن ينقص من قدر الصحابة وحقهم ومكانتهم إنما خطر ذلك على بال اليهود والمجوس وذنوبهم الذين اندسوا في صفوف الأمة الإسلامية منذ وقت مبكر بهدف الهدم والتخريب، أما المؤمنون المسلمون فإنهم يعلمون ويوقنون أنهم لا سبيل للوصول إلى شرع الله ولا دينه وقرآنه الذي أنزله على نبيه إلا بواسطة هؤلاء الصحابة الكرام لأنهم هم الذين نقلوا إلينا كلام الله القرآن الكريم الذي نقل عن سيدنا محمد وهم الذين نقلوا إلينا السنة النبوية وعلى هذين الركنين قام بناء الدين كله، فكيف يستغني أحد عن واسطة الصحابة الكرام إذن ينهدم الدين كله.
كما بلغ الرسول عن ربه فأتم البلاغ وأدى الرسالة فهو واسطة بين هذه الأمة وبين ربها عز وجل، فقد بلغ الصحابة الكرام عن رسول الله فأتموا البلاغ وأحسنوا الأداء فرضي الله عنهم وأرضاهم وجزاهم عن الأمة خير الجزاء. لذلك كله فإننا نعلنها صريحة واضحة كالشمس كما قال : ((ما أنا عليه وأصحابي)) فرسول الله يخبر أن سبيل الله المستقيم ويعول أن سبيل الله المستقيم بهذه العبارة الواضحة ((ما أنا عليه وأصحابي)) وذلك في ذلك الحديث المشهور الذي رواه الأئمة في كتبهم بأسانيد أكثر من أن تُحصى أن رسول الله أخبر عن افتراق أمته من بعد إلى فرق، وعن تكاثر هذه الفرق ثم دلهم على الفرقة الناجية وهو الرؤوف بأمته الرحيم بهم قال : ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة قالوا : ومن هي الناجية يا رسول الله ؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)) [1].
ثم سمى النبي هذه الفرقة بالجماعة فقال: ((وهي الجماعة فمن أراد بحبحة الجنة فليزم الجماعة)) [2] أي ليلزم ما كان عليه رسول الله وما كان عليه أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا واغفر لنا إنك رؤوف رحيم.
[1] أخرجه ابن ماجة (2/1322) برقم (3992) وابن ابي عاصم في السنة (1/32) برقم (63) من حديث عوف بن مالك.
[2] مسند أحمد 1/18.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد... فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة (17) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد (1/306) رقم (408).
(1/212)
منزلة الصحابة وخطورة الطعن فيهم
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
25/2/1406
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
لا يصح إيمان أحد حتى يعتقد قيامه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ الكامل – قد ينتقص إيمان
البعض وهو لا يدري – الخوارج واعتقادهم ومروقهم من الإسلام – من أسباب الخروج من
الإسلام : أ- الطعن في الصحابة ب- الابتداع في الدين – خطورة الطعن في الصحابة وكونه
طعناً في الرسول صلى الله عليه وسلم , وهو من علامة المنافقين , وهو تكذيب للقرآن لأن الله
أثنى عليهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد... اعلموا أيها المسلمون أنه لا يصح إيمان أحد حتى يعتقد أن رسول الله محمدًا قد بلغ رسالات ربه وأدى الأمانة كاملة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده.
كيف وقد شهد له ربه بذلك حين أنزل عليه بشارة إكمال الدين وإتمام النعمة وذلك يوم الجمعة يوم عرفة من حجته المشهورة بحجة الوداع. أنزل عليه قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا [المائدة: 3].
فهذه الآية بيان من الرب عز وجل بأن دين الإسلام قد كمل وبأن شريعة الإسلام قد كملت فلا حاجة إلى زيادة بعد ذلك من أحد.
وهي إعلام من الرب عز وجل بأن رسول الله قد أتم مهمته على خير وجه وأحسنه وقد بلغ رسالة ربه.
قال رجل من اليهود للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين إنكم تقرءون آية لو نزلت علينا معشر يهود لاتخذناها عيدًا. قال: أي آية. قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فقال عمر رضي الله عنه: أني لأعلم حين أُنزلت وأين أُنزلت وأين كان رسول الله حين أُنزلت يوم عرفة وأنا والله بعرفة".
وفي رواية أنه رضي الله عنه قال: أُنزلت في يوم الجمعة يوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
ثم أنزل الله على نبيه بعد ذلك بهذه المدينة آخر سورة أنزلها عليه سورة الفتح إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا [النصر: 1-3].
وكانت هذه السورة إعلامًا من الرب عز وجل بأن رسول الله قد أدى واجب الدعوة والجهاد أتم الأداء وهي إيذان أيضًا بقرب رحيله من الدنيا وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "لما أنزل الله إذا جاء نصر الله والفتح قال رسول الله نُعيت إلىّ نفسي".
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال "لما أنزل الله إذا جاء نصر الله والفتح علم رسول الله أن قد نُعيت إليه نفسه".
وفي رواية: فأخذ رسول الله بأشد ما كان قط اجتهادًا في أمر الآخرة وذلك استعدادًا للقاء ربه عز وجل.
فهل يخطر في بال مؤمن بعد ذلك بعد إعلام الله لخلقه بهذه السورة وتلك الآية بأنه سبحانه قد أكمل الدين وبأن رسوله الله قد أتم البلاغ وأدى الأمانة وأتم الرسالة فلا يخطر في بال مؤمن أن رسول الله قصر في أداء الرسالة وترك لأحد من بعده أن يكمل الدين، لو ظن هذا الظن أحد لخرج من دائرة الإسلام ولبطل إيمانه ولا ينفعه بعد ذلك صلاة ولا صيام.
لأنه يكون بذلك قد نقض أحد ركني شهادة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله فالركن الأول الذي هو الشهادة لله بتوحيده في العبادة، لا يتم إلا بالركن الثاني وهو الشهادة لسيدنا محمد بالرسالة، فمن نقض الثاني فقد نقض الأول كما أن من نقض الأول فقد نقض الثاني.
لا يرد على بال مؤمن أبدا أن هناك نقصاً أو خللا في الدين فقد أكمل الله الدين.
لا يرد على بال مؤمن أبداً أن رسول الله قد قصر في أداء الرسالة.
ولكن الغافل من المسلمين قد ينقض اعتقاده هذا وهو لا يدري، وهذه مصيبة من أعظم المصائب أنه قد يخرج الرجل من دائرة الإسلام ويبطل إيمانه وهو لا يدري بل ربما كان يحسب أنه يحسن صنعاً، مضلات الفتن من أعظم المضلات شراً على المسلمين قد يخرج المسلم من دائرة الإسلام وقد يفسد إيمانه، وقد ينتقض اعتقاده وهو لا يدري هؤلاء الخوارج من أعظم أهل البدع شراً، من أشد أهل البدع شراً كفَّروا وقاتلوا بل وقتلوا رابع الخلفاء الراشدين، أبا السبطين صاحب الراية يوم خيبر الرجل الذي شهد الرسول بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهو على بن أبي طالب رضى الله عنه، كفَّروه وقاتلوه وقتلوه ولكن هؤلاء المساكين كانوا من أهل لا إله إلا الله بل كانوا من أشد أهل لا إله إلا الله عبادة وأكثرهم صلاة وقرآنا، بل وصفهم رسول الله لأصحابه بقولهم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، فهل شفع لهم ذلك وهل نفعهم عبادتهم؟ لقد حكم عليهم رسول الله بنفسه فقال: ((يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم إلى الرمية. لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود، فمن أدركهم فليقتلهم طوبى لرجل قتلهم أو قتلوه)).
لم تنفعهم لا إله إلا الله ولم تنفعهم عبادتهم لأتهم أتوا بعد ذلك ببدعة عظيمة وفتنة جسيمة نقضت ذلك كله.
فاحذر أيها المسلم من مضلات الفتن، احذر من مهلكات الفتن وتفقد ايمانك واستوثق لدينك وأعلم أن من أكثر ما يؤتى الرجل في إيمانه ومن أشد ما يفسد على الرجل إيمانه ولربما يخرجه من دائرة الإسلام أمران خطيران هما:- الطعن في الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين والإبتداع في الدين، فهاتان فتنتان مضلتان مهلكتان أوتي من قبلها كثير من جهال المسلمين، وقد يكونان سبباً لخروج المسلم من دائرة الإسلام ولإفساد الإيمان على المؤمن ولإفساد الدين على صاحب الدين، فلا ينفعه بعد ذلك لا إله إلا الله ولاتنفعه بعد ذلك عبادة ولا صلاة ولا صيام.
أما قضية الإبتداع في الدين فقضية شائكة طويلة ربما نتعرض لها بإذن الله تعالى يوم الجمعة القادم بمشيئة الله تعالى وعونه وتوفيقه.
وأما مسألة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فمسألة أوضح من الشمس وقد أثرنا فيما مضى من الأيام طرفاً من هذا الموضوع وإننا مؤكدون عليه اليوم.
المهم أن نعلم أن الطعن في الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين طعن في الرسول الكريم بأنه لم يؤدوا الأمانة على الوجه المطلوب ولم يبلغ رسالة ربه على الوجه المطلوب لأنه اتهام لسيدنا محمد بأنه لم يحسن اختيار أصحابه ولم يحسن اختيار أعوانه وأوصاله الذين يبلغون عنه دين الله إلى الأمة اتهام لرسول الله بهذه التهمة الشنيعة التي تنقض الاعتقاد بأنه قد أدى الرسالة وأتم البلاغ.
إن الطعن في الصحابة الكرام أو اتهام الصحابة الكرام هو اتهام لرسول الله بهذه التهمة الشنيعة ولذلك عدّ أئمة المسلمين الطعن في الصحابة الكرام نفاقاً من الرجل والطعن في واحد من الصحابة الكرام علامة عن النفاق وثبت ذلك عن رسول الله ففي صحيح البخاري أنه قال: ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)) وقال : ((لايحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق. فمن أحب الأنصار أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)).
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((لاتسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه)).
أما الطعن ي الصحابة عموماً ومن حيث الجملة كما وقع فيه بعض أهل البدع والمنكرة التي أخرجتهم عن ملة الإسلام.
أما الطعن في الصحابة من حيث الجملة فهو تكذيب للقرآن للآيات من سورة الحشر فقد أثنى على المهاجرين من أصحاب نبيه بقوله للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأبناءهم يبتغون فظلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [الحشر 8].
وأثنى الله على الأنصار من أصحاب نبيه بقوله والذين تبوءوا الدار والإيمان والدار والإيمان اسمان من أسماء هذه المدينة المباركة من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر 9].
ثم وصف الله تعالى حال المؤمنين من بعدهم. المؤمنون الذين لزموا الجماعة وتمسكوا بالسنة المؤمنون الناجون من أعظم علاماتهم حسب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والدعاء للصحابة والاستغفار لهم، قال تعالى والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر: 10].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/213)
الرسول صلى الله عليه وسلم
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الصحابة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
3/3/1406
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الإيمان بتمام الدين 2- خَتم الرسالة قبل وفاة النبي 3- اتهام الرسول بالتقصير
في أداء الرسالة كفر 4- الابتداع اتهام للرسول بالتقصير 5- الطعن في الصحابة 6- فضل
الصحابة كما جاء به القرآن والسنة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاعلموا أيها المسلمون أنه لا يصح إيمان أحد حتى يعلم أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم قد بلغ رسالات ربه وأدى الأمانة كاملة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده , كيف وقد شهد له ربه بذلك لما أنزل عليه البشارة بإكمال الدين وبإتمام النعمة وذلك يوم الجمعة يوم عرفة من حجته المشهورة بحجة الوداع أنزل عليه قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة:3] بهذه الآية بيان من الرب عز وجل بأن دين الإسلام قد كمل وبأن شريعة الإسلام قد كملت فلا حاجة بعد ذلك إلى زيادة أحد وهي شهادة من الرب عز وجل بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتم مهمته على خير وجه وأحسنه وقد بلغ رسالة ربه.
قال رجل من اليهود للفاروق عمر رضى الله عنه: يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية لو نزلت علينا نحن معشر يهود لاتخذناها عيداً. قال: أي آية. قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، فقال عمر رضى الله عنه: إني لأعلم حين نزلت وأين أنزلت وأين كان رسول الله حين أنزلت, يوم عرفة وأنا والله بعرفة [1]. وفي رواية أنه رضي الله عنه قال: أنزلت في يوم عرفة يوم الجمعة وكلاهما بحق الله لنا عيد.
ثم أنزل الله علي نبيه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في هذه المدينة آخر سورة أنزلها إليه سورة الفتح: إذا جاءك نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً [سورة النصر] وكانت هذه السورة إعلاناً من الرب عز وجل بأن رسوله صلى الله عليه وسلم قد أدى واجب الدعوة أتم الأداء وهي إيذان أيضاً بقرب رحيله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وانتقاله إلى الرفيق الأعلى, عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله تعالى سورة الفتح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعيت إلي نفسي)). [2] وفي رواية عنه رضي الله عنه: لما أنزل الله: إذا جاءك نصر الله والفتح علم رسول الله أن قد نعيت إليه نفسه, وفي رواية فأخذ صلى الله عليه وسلم بأشد ما كان قط اجتهاداً في أمر الآخرة وذلك استعداداً لمقابلة ربه عز وجل [3].
فهل يخطر في بال مؤمن بعد ذلك بعد إعلان الله لخلقه بهذه السورة وتلك الآية بأنه سبحانه قد أكمل الدين وأن رسوله صلى الله عليه وسلم قد أتم البلاغ وأدى الأمانة والرسالة , هل يخطر في بال مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر في أداء الرسالة وترك لأحد من بعده أن يكمل الدين , لو أن هذا قد قال لخرج من الإسلام ولبطل إيمانه ولا ينفعه بعد ذلك صلاة ولا صيام لأنه يكون بذلك قد نقض أحد ركني شهادة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله, فالركن الأول الذي هو الشهادة لله بتوحيده في العبادة والركن الثاني وهو الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة ومن نقض الركن الثاني فقد نقض الأول كما أن من نقض الأول فقد نقض الثاني, لا يلج على بال مسلم أبداً أن هناك نقصاً وخللاً في الدين فقد أكمل الله الدين ولا يلج علي بال مسلم أبداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قصر في أداء الرسالة ولكن الغافل من المسلمين قد ينقض اعتقاده هذا وهو لا يدري وهذه مصيبة من أعظم المصائب أنه قد يخرج الرجل من دائرة الإسلام وينقض إيمانه وهو لا يدري فربما كان يحسب أنه يحسن صنعاً, مضلات الفتن من أعظم المضلات شراً على المسلمين, قد يخرج المسلم من دائرة الإيمان وقد يفسد إيمانه وهو لا يدري , هاهم الخوارج من أعظم أهل البدع شراً كفروا وقاتلوا وقتلوا رابع الخلفاء الراشدين أبا السبطين صاحب الراية يوم خيبر الرجل الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهوعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كفروه وقاتلوه وقتلوه ولأن هؤلاء المساكين كانوا من أهل لا إله إلا الله بل كانوا من أشد أهل لا إله إلا الله عبادة وأكثرهم صلاة وقرآناً بل وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بقوله: ((تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم)) , [4] فهل شفع لهم ذلك وهل نفعتهم عبادتهم. لقد حكم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فقال: ((يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية فإذا أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود فمن أدركهم فليقتلهم طوبى لرجل قتلهم أو قتلوه)) [5].
لم تنفعهم لا إله إلا الله ولم تنفعهم عبادتهم لأنهم أتوا بعد ذلك ببدعة عظيمة وفتنة جسيمة نقضت ذلك كله. فاحذر أيها المسلم من الانزلاق في الفتن وتفقد إيمانك واستيقظ لدينك واعلم أن من أكثر ما يصيبك في إيمانك وربما يخرجك من دائرة الإسلام أمران خطيران هما: الطعن في الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين والابتداع في الدين فهاتان فتنتان مضلتان مهلكتان وقع فيهما كثير من جهال المسلمين وقد يكونان سبباً لخروج المسلم من دائرة الإسلام ولإفساد الإيمان على المؤمن ولإفساد الدين وأهل الدين فلا ينفعه بعد ذلك لا إله إلا الله ولا تنفعه عبادة ولا صلاة ولا صيام.
أما قضية الابتداع في الدين فقضية شائكة طويلة سنشرع فيها في الجمعة القادمة إن شاء الله وعونه وتوفيقه وأما مسألة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فمسألة أوضح من الشمس وقد أشرنا فيما مضى من الأيام طرفاً من هذا الموضوع وإننا مؤكدون عليه اليوم, المهم أن نعرف أن الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اتهام لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يؤدِ الأمانة علي الوجه المطلوب ولم يبلغ رسالة ربه علي الوجه المطلوب لأنه اتهام لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يحسن اختيار أصحابه ولم يحسن اختيار أعوانه وأنصاره الذين يبلغون عنه دين الله إلي الأمة, اتهام لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه التهمة الشنيعة التي تنقض الاعتقاد بأن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قد أدى الرسالة وأتم البلاغ, إن الطعن في الصحابة الكرام أو في أحد الصحابة الكرام هو اتهام لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه التهمة الشنيعة ولذلك فالطعن في الصحابة نفاق من الرجل والطعن في واحد من الصحابة الكرام علامة علي النفاق وثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)) [6]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق, فمن أحب الأنصار أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)) [7]. وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم قد أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) [8] , أما عن الطعن في الصحابة عموماً كما اعتاد بعض أهل البدع المنكرة التي أخرجتهم عن ملة الإسلام فهو طعن في القرآن وتكذيب للآيات من سورة الحشر فقد أثنى الله عز وجل علي المهاجرين من أصحاب نبيه بقوله للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [الحشر:8]. وأثنى الله تعالى عن الأنصار من أصحاب نبيه بقوله: والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9] الدار والإيمان اسمان من أسماء هذه المدينة المباركة, ثم وصف الله تعالى حال المؤمنين من بعدهم المؤمنون الذين لزموا الجماعة وتمسكوا بالسنة المؤمنون الذين أعظم ما في قلوبهم حب الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين والدعاء للصحابة والاستغفار لهم قال تعالى: والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم [الحشر:10]
[1] رواه البخاري (4407) ومسلم (3017).
[2] أحمد (1/217).
[3] ابن كثير (4/563).
[4] رواه البخاري (ك :استتابة المرتدين والمعاتدين-رقم 6532-6534).
[5] رواه البخاري (ك: استتابة المرتدين والمعاتدين – رقم 6532 –6534).
[6] رواه البخاري (ك: الإيمان –رقم 17).
[7] أحمد (4/283).
[8] رواه البخاري (ك: فضائل الصحابة –رقم 3470).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/214)
الابتداع في الدين
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
10/3/1406
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
كمال الدين وشموله والأدلة على ذلك , وعدم حاجته إلى زيادة فيه – محاسن الدين -
الواجب تجاه الدين – الابتداع في الدين , معناه وخطورته
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فإن الله تعالى لما أرسل على رسوله صلى الله عليه وسلم البشارة بإكمال الدين وهي قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة:3]. عرف بذلك أن هذا الدين لا يحتاج إلي رقابة أو زيادة من أحد فقد بلغه سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتم البلاغ فجزاه ربه عن أمته خير الجزاء, ديننا والحمد لله كامل شامل بنيت عقيدته علي التوحيد وتميزت بالوضوح والنقاء وبنيت شريعته على العدل والإحسان وتميزت بالكمال وبنيت حركته علي الدعوة والجهاد وتميزت بالرحمة والقوة, مصادره ثابتة صافية لا اضطراب فيها ولا خلل ولا نقص ولا غموض لأنها مصطفاة من وحي رب العالمين القرآن والسنة والطريق إلي معرفة هذا الدين واضحة بينة وهي العلم والتفكير وإعمال العقل لفهم المصادر الربانية التي أنزلها اللطيف الخبير سبحانه وتعالى.
ديننا والحمد لله أحكمت آياته وسرائره وسننه وعقيدته وشريعته لا غموض فيه ولا رواسب ولا مجال فيه للأهواء ولا للآراء أن تلعب فيه كما لعب أحفاد اليهود ورهبان النصارى في دينهم.
إن صفتي الكمال والشمول من أعظم خصائص هذا الدين فإنه يبدأ بأعظم شيء وأعلى شيء وهي عقيدة لا إله إلا الله ثم ينظم بشرائعه وآدابه كل شيء في حياة الإنسان لا يهمل صغيرة ولا كبيرة ينتظمها كلها في حماه الواسع الكريم حياة كاملة كريمة. إن الدين ينظم جميع علاقات هذا الإنسان التي تتكون من شبكتها حياته اليومية بل حياته كلها وعمره كله, ينظم علاقات هذا الإنسان بالخالق سبحانه وتعالى وعلاقته بالمخلوقين ينظم علاقاته بالناس أفراداً وجماعات يدخل في ذلك العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية والعلاقات السياسية والدولية والفكرية والثقافية ينظم ذلك كله بشرعه وآدابه.
فما على الإنسان إلا أن يتعلم هذا الدين ويتعلم شرائعه وآدابه فيجد فيها ما ينظم فيه سائر شؤون حياته لا حاجة بهذا الإنسان إلي أن يحدث من القوانين ما ينظم به شئون حياته فإن في هذا الدين ما هو كفيل بهذا كله ولكن أعجب ما في أحوال هذا الإنسان إعراضه عن تعاليم هذا الدين وعن معرفة شرائعه وآدابه حتى إذا أعوزته الحاجة فيما يتصل به في شؤون حياته أو بعض شؤون حياته ذهب يبتغي إلى ذلك سبيلاً غير سبيل الله الخالق الحكيم والخالق أعلم بخلقه ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ الملك:14].
وأسوأ من هذا الإنسان أولئك الذين سلكوا مسلكاً من أعظم المسالك خطراً وهو الزيادة في الدين واستحسان ما لم يستحسنه الشارع الحكيم وهذا هو ما يسمى بالابتداع , فإن الابتداع في الدين هو إحداث أمر ديني على غير مثال سابق ومعنى ذلك أن يحدث الإنسان قولاً أو فعلاً وينسبه إلى الدين وليس من الدين فلا حجة لديه تثبت أن الدين أمر بذلك أو أن الرعيل الأول فعلوه, ومعنى أن ينسبه إلى الدين أن يعتقد أنه قربى مما يتقرب به إلى الله تعالى ويوهم الناس بذلك, فالعبادة مثلاً بجميع صورها من صلاة أو صيام أو نسك أو غير ذلك قد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نوافلها وفروضها وشرح طريقة أداء كل منها وفسر ذلك وبينه أتم البيان, لم يؤخر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيان عن وقت الحاجة فإذا جاء إنسان بعد ذلك فزاد عبادته وزعم أنها مما يتقرب به إلى الله فليثبت الحجة أنها مما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله الصحابة الكرام وإلا فإن عبادته التي زادها بدعة وهو مبتدع ضال وإن كانت نيته صحيحة سليمة وأنه يتقرب إلى الله تعالى فإن النية هنا لا تشفع للمبتدع أبداً.
أيها المسلمون: إن الابتداع في الدين أمره خطير وقدره جسيم وذنبه عظيم بل إن العلماء اعتبروا الابتداع في الدين ذنباً أعظم من الكبائر وقد يجر الابتداع في الدين أصحابه إلى الكفر والإلحاد وإلى مناصبة السنة العداء, إن الابتداع في الدين من أشد الذنوب ضرراً بعد الإشراك بالله تعالى لأن جرمه لا يقتصر على صاحبه بل يتعداه إلى الأمة فيفسد عليها دينها ويشوش عليها عقيدتها ويشوش عليها شريعتها وبذلك كان الابتداع في الدين من أشد الذنوب ضرراً بعد الإشراك بالله تعالى وسوف نكمل هذا الجزء في مسائل إن شاء الله تعالى نبدأ منها اليوم بالمسألة الأولى وهي: أن في الابتداع في الدين إخلالاً لعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن فيها اتهاماً لسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قصر في بلاغه وبقى شيء من الدين لم يدل الناس عليه وهذا نقض للجزء الثاني من لا إله إلا الله محمد رسول الله, فإن شهادة المبلغ بأن محمداً رسول الله إيمان واعتقاد منه بأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم نبي مرسل من ربه وأنه بلغ رسالات ربه وأدى الأمانة كاملة والجزاء من المبلغ بمتابعة هذا النبي الكريم , ففي الابتداع وفي الزيادة في الدين إخلال بركن المتابعة لهدى النبي صلى الله عليه وسلم وإخلال بالاعتقاد بأنه أدى الرسالة كاملة وبلغ أتم البلاغ , قال الإمام مالك إمام دار الهجرة إمام هذه المدينة النبوية في عصر التابعين قال: "من ابتدع في الإسلام بدعة يرى أنها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله تعالى يقول: اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة:3]. وما لم يكن يومئذ ديناً فما يكون اليوم ديناً" رحمه الله.
ما لم يكن ديناً في حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يتنزل عليه من ربه فكيف يكون اليوم ديناً وقد انقطع الوحي وكثرت الفتن واشتدت الغفلة.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أشد رحمته وشفقته بالأمة والله ما ترك خيراً إلا بلغها به ولا شراً إلا حذرها منه وسكت عن أشياء رحمة بها وليس نسياناً من الشارع الحكيم , قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها)) [1]. صلى الله وسلم وبارك عليه.
[1] رواه الدار قطني (4/182/184).
والطبراني في الكيبر (22/589).
والبهقي (10/12-13).
والنووي في الأربعين النوويه حديث رقم (30).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/215)
العلم والبر
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
على كل مسلم واجبان : 1- العلم الضروري 2- العمل بهذا العلم – الواجب معرفته والإيمان
به أركان الإيمان الستة – الواجب معرفته وتطبيقه عبادة الله وحده – الواجب نحو المخلوقين
الحذر من الوقوع في الكبائر , وأعظمها الشرك – الواجب تجاه الأسرة لإنقاذها من النار
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: سأل سائل بعدما سمع الأحاديث الماضية عن الإيمان فقال: ماذا يجب علىّ أن أفعل. ما هو الواجب على كل مسلم ؟
كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي فيقول: ((أحدهم دلنا على عمل يقربنا إلى الجنة ويباعدنا عن النار)) [1].
وسأله وفد عبد القيس [2] فقالوا: مرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة، نعم ماذا يجب على كل مسلم أن يفعل ؟ على كل مسلم واجبان هما العلم والعمل.
أما العلم: فعليه أن يتعلم الضروري من أمور دينه عليه أن يتعلم ما يصحح به إيمانه واعتقاده، وعليه أن يتعلم ما يصحح به عمله.
هذا القدر من العلم واجب على كل مسلم ومسلمة لا يُعذر أحد بتركه كائنًا من كان فإذا تعلم المسلم شيئًا قال رسول الله : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) [3].
يشير إلى ذلك القدر الضروري من تعلم أمور الدين.
فإذا تعلم المسلم شيئًا فعليه أن يطبقه. كلما تعلم شيئًا من أمور دينه عليه أن يبادر إلى تطبيقه. هكذا كانت طريقة أصحاب رسول الله كانوا رضوان الله عليهم أجمعين كلما نزلت خمس آيات أو عشر آيات تعلموا ما فيهن من العلم والعمل [4].
فإذا بدأت مسيرتك نحو العلم والعمل فاعلم أن هناك ما يجب أن تعرفه وتؤمن به وهناك ما يجب أن تعرفه وتعمله.
أما ما يجب عليك أن تعرفه وتؤمن به فأمور الإيمان الستة، الأركان الستة وهى: معرفة الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
وأما ما يجب أن تعرفه وتعمله وتبادر إلى تطبيقه فأن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلاً وتجاهد في سبيل الله بمالك ونفسك.
وأما ما يجب عليك نحو المخلوقين فأولاً وقبل كل شيء أن يسلم المسلمون من لسانك ويدك أن تكف أذاك وشرك عن إخوانك المسلمين.
ثم بعد ذلك تكون رحيمًا بهم ناصحًا لهم لا تظلم أحدًا منهم ولا تغشهم ولا تخذلهم.
وتحب في الله وتوالي في الله وتكره الكفر والطاغوت، يجب عليك أن تبغض الكفر والطاغوت وأهل الكفر وعبد الطاغوت وتعاديهم في الله وتجاهدهم بكل ما استطعت من نفسك ومالك وقلمك ولسانك وسعيك وجهدك وعقلك ورأيك كما يجب عليك أن تؤمن بالله وتحب أهل الإيمان وعليك أن تكفر بالطاغوت وتبغض أهل الكفر وعبد الطاغوت وتجاهدهم بمالك إن كنت ذا مال بنفسك بقلمك ولسانك بأي شيء تملك.
أيها المسلم وعليك مع ذلك كله أن تحذر من الوقوع في الكبائر. أن تحذر في الوقوع في أكبر الكبائر على وجه الخصوص وأكبر الكبائر هو الشرك بالله فإن الشرك بالله يحبط العمل كله. لو أتيت بكل ما ذكرنا وفعلت كل ما ذكرنا وبذلت فيه كل جهدك وطاقتك ثم لقيت ربك بالشرك فقد حبط عملك كله.
إن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعًا إلا الشرك فإنه لا يغفره.
قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا [النساء:48] وقال تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين [الزمر:65-66].
فاحذر أيها المسلم من الوقوع في الشرك، العبد قد يقع في الشرك فلا غفران مع الشرك ولا يستحق مرتكب هذه الكبيرة لا يستحق الرحمة أبدًا. لكن قد يقع إنسان في باقي الكبائر والمعاصي فهو حينئذ تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه بعدله وإن شاء غفر له بفضله.
قال الرب سبحانه في الحديث القدسي: ((من لقيني بقراب الأرض خطيئة (بقراب الأرض أي بملء الأرض) وهو لا يشرك بي شيئًا لقيته بقرابها مغفرة)) [5] رواه مسلم. فصحح إيمانك أيها المسلم أولاً وقبل كل شيء صححه من أدران الشرك حتى تلقى ربك سبحانه بإيمان سليم غير مشوب بشرك.
صحح إيمانك أولاً حتى يصح اعتقادك ويصح عملك ولا تكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا. تغزل وتجتهد وتبذل جهدها وسعيها حتى إذا أتمت غزلها أتت عليه كله فنقضته، هذا مثال الإنسان الذي جاء بأعمال صالحة وأنواع من البر والخير ثم لم يتورع من الوقوع في الشرك وأعمال الشرك إما جهلاً منه وإما تقليدًا واتباعًا للآباء والأجداد فهذا والعياذ بالله أحبط بشركه عمله كله أحبط بشركه كل تلك الأعمال الصالحة وكل تلك الأنواع من البر والخير. كما أخبر رب العزة والجلال مخاطبًا سيده وحبيبه محمداً والمراد أمته: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [الزمر:65].
يا أيها المسلم ابدأ مسيرتك نحو الجنة لا تماطل نفسك ولا تسوف.
ابدأ مسيرتك نحو الجنة ابدأ بنفسك ثم بمن تعول. ابدأ ومعك أهلك وأولادك وأسرتك ومن حولك، لا تبدأ وتضع نفسك في طريق الجنة وتنسى أهلك وفلذة كبدك وتتركهم في طريق الهلاك والدمار.
يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6].
أول ما بدأ رسول الله بدأ بنفسه فكان وهو شاب في مقتبل حياته كان يعرض عما يقع فيه أترابه من شباب مكة وينزه نفسه عن ذلك ثم حُبب إليه الخلاء فذهب يتعبد ربه في غار حراء [6] ولبث على ذلك برهة من الزمن حتى فاجأه الوحي وهو في أحسن حال.
وبم بدأ معه الوحي، الوحي بدأ مع النبي بنفسه فقيل له: اقرأ باسم ربك الذي خلق [العلق:1] فأُمر عليه الصلاة والسلام بالعلم. ثم قيل له: قم الليل إلا قليلاً [المزمل:2] فأُمر بالعمل ثم جاءه الأمر بالبلاغ، بم يبدأ البلاغ؟ أُمر أولاً أن يبدأ بأهله فقيل له: وأنذر عشيرتك الأقربين [الشعراء:214]. الأهل والعشيرة الأقربين أولاً ثم بعد ذلك جاءه الأمر بالبلاغ العام للناس جميعًا فقيل له: فاصدع بما تُؤمر وأعرض عن المشركين [الحجر:94].
هذا هو الترتيب الرباني لهذا الأمر. فعلينا أن نرتب حياتنا كما أمرنا الله عز وجل نبدأ بما بدأ الله ونختم بما ختم الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئًا بما كنتم تعلمون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين، والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين [الطور:17-21].
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (30) الزكاة (1) باب وجوب الزكاة (2/506) برقم 1396.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان (38) باب : أداء الخمسمن الإيمان (1/29) برقم (53).
[3] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/23) برقم (15) وغيره.
[4] أخرجه ابن سعد في الطبقات (6/172) والقسوي في المعرفة والتاريخ (2/589-590) وغيرهاما عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود ومسنده صحيح.
[5] أخرجه مسلم في صحيحه (48) في كتاب الذكروالدعاء والتوبة والاستغفار (6) باب فضل الذكر والدعاء (4/2068) برقم (2687).
[6] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (1) بدء الوحي (1) باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/4) برقم (3).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن سائر آل بيتك الطيبين الطاهرين وعن زوجاته أمهات المؤمنين وعن سائر الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين (3 مرات) وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وأهلك اليهود والصليبين والشيوعيين والباطنيين وجميع الزنادقة والملحدين اللهم ارفع علم الجهاد وانصر المجاهدين (مرتين).
اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك ويُذل فيه أهل معصيتك ويُؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/216)
فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم
سيرة وتاريخ, فقه
الصلاة, تراجم
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
10/11/1406
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
واجب المرأة والرجل تحقيق العبودية لله والإخلاص له – لكلٍ منهما وظيفته التي هيأه الله لها
ولكلٍ منهما مكانه – من النماذج الراقية للمرأة كما أرادها الله : خديجة وأم سلمة رضي الله
عنهما ومريم بنت عمران وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم – منزلة فاطمة رضي الله
عنها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم – حياتها رضي الله عنها وزهدها , ومهرها
وخدمتها في بيتها – جملة من آداب الجمعة : التبكير , عدم تخطي الرقاب
_________
الخطبة الأولى
_________
فلازلنا في الحديث عن المرأة كما أرادها الله تعالى مصدرًا للسكينة وراعية للبيت الذي هو مركز السكينة ومقر المؤسسة الأولى في مجتمع الإسلام مؤسسة الأسرة، إن واجب الرجل والمرأة على السواء هو تحقيق العبودية لله تعالى وإخلاص العبادة له، والله تعالى هو الذي حدد مكان كل منهما وميدانه فكل منهما يؤدي رسالته من المكان الذي حدده الله، مكان المرأة وميدانها البيت، وميدان الرجل خارج البيت، هكذا قُسمت الوظائف بينهما كما أراد الله تعالى.
أما ما يريده القردة والخنازير وأذنابهم من المتفرجنين فأمر غير ذلك إنهم يريدون اتباع الشهوات وأن تميلوا ميلاً عظيمًا حتى يعم الخراب ويظهر الفساد.
وقد عشنا في الجمعة الماضية مع النماذج الإسلامية الراقية للمرأة كما أرادها الله تعالى، عشنا مع نموذجين من حياة اثنتين من أزواج رسول الله السابقة إلى الإسلام أم المؤمنين خديجة بنت خويلد الأسدية القرشية وأم المؤمنين أم سلمة المخزومية القرشية رضي الله عنهما.
والنماذج الراقية للمرأة كما أرادها الله تعالى كثيرة زاخرة في تاريخ المسلمين، روى أبو هريرة رضي الله عنه وغيره من الصحابة أن رسول الله قال: ((خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة)) [1].
في رواية [2] : ((خير نساء أهل الجنة أربع خديجة وفاطمة ومريم وآسيا)) ، وفي صحيح [3] مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله أخبر فاطمة أنها سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة وذلك في حديث طويل أصله في صحيح البخاري [4] إلا في هذه العبارة.
فلنعش اليوم نماذج من حياة هذه المرأة الكريمة العظيمة سيدة نساء هذه الأمة وريحانة رسول الله إنها ابنة أكرم الخلق وسيد ولد آدم رسول الله وأحب بناته وأهله إليه، كان إذا رجع من سفر أو غزا بدأ بالمسجد [5] ثم صلى فيه ثم أتى ببيت فاطمة فسلّم عليها ثم يأتي أزواجه.
روى الطبراني [6] بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((ما رأيت أحدًا قط أفضل من فاطمة غير أبيها)). هذا كلام أم المؤمنين عائشة.
وفي صحيح مسلم [7] أن النبي قال: ((إنما فاطمة بضعةٌ مني)). فهذه الابنة الكريمة ابنة أكرم الخلق الذي أخبر الصادق الأمين أنها سيدة نساء هذه الأمة كيف عاشت حياتها؟
أعاشت حياتها مثل حياة بنات الجبابرة والقياصرة؟ أم عاشت حياتها مثل بنات المترفين ترفل في حلل النعيم بالترف؟
كلا والله فإنها بنت نبي، لقد عاشت سيدة نساء هذه الأمة، عاشت في حياة التقشف وزهدت في بهارج الدنيا، إنها بنت بني من ربّى أمته على تحقيق العبودية لله تعالى وإخلاص العبادة له سبحانه، أفينسى ريحانته ؟ كلاّ فقد رباها على هذا المبدأ قبل غيرها، رباها على إخلاص العبودية لله والاشتغال بعبادة الله عن بهارج الدنيا. أتدرون كيف زوج سيد ولد آدم سيدة نساء هذه الأمة؟
اسمعوا يا آباء واسمعن يا أمهات واسمعن يا بنات هذه الأمة اسمعن كيف زُوجت سيدتكن وانقشن قصتها في قلوبكن لعلكم جميعًا تذكرونها كلما نفخ الشيطان في ثيابكم بأوهام الخيلاء الكاذبة والفخر الزائف، حتى جعلتم بخيلائكم وفخركم جعلتم الحلال عسيرًا بينما شياطين الإنس والجن قد جعلوا الحرام مبذولاً يسيرًا في زمان الفتنة هذا وفساد الزمن.
روى الإمام أحمد في مسنده [8] أن عليًا رضي الله عنه لما خطب فاطمة من رسول الله قال له رسول الله : ((وهل عندك من شيء؟)).
قال: لا يا رسول الله، قال: ((وما فعلت درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟)).
فقال علي: هي عندي.
فقال: ((فأعطها إياها)).
لقد نسي علىّ تلك الدرع فلم يعبأ بها عندما سأله رسول الله هل عنده من شيء؟ لأن تلك الدرع لم تكن تساوي شيئًا يُذكر، كانت درعا صغيرة من شر الدروع فلم يتذكرها علىّ رضي الله عنه ومع ذلك كانت كافية لتكون مهرًا لسيدة نساء هذه الأمة. وكان علىّ فقيرًا معدمًا، ابن عم رسول الله، لم يكن يملك من زينة هذه الدنيا وبهارجها شيئًا فأولم أتدرون ما كانت وليمته؟
آصع من شعير وتمر وحيس فلما رأى ذلك حمزة سيد الشهداء في رواية من الروايات [9] نحر ناقتين في وليمة علىّ رضي الله عنه. ثم جُهزت سيدة نساء العالمين، جهزها سيد ولد آدم الذي كانت الدنيا كلها بين يديه لو أشار إليها ببنانه لساقها إليه رب العزة والجلال، ومع ذلك أعرض عنها هو وأهل بيته، أتدرون ما جهز سيد الخلق ابنته سيدة نساء هذه الأمة؟ جهزها بخميلة أي ثوب واحد من قطيفة وقربة ووسادة من أدم - من جلد - حشوها ليف وفي رواية أنه زاد على ذلك رحى.
هذا هو جهاز سيدة نساء هذه الأمة فاسمعن يا بنات هذه الأمة ويا نساء هذه الأمة، هذا جهاز سيدتكن، ثم زُفت فاطمة إلى علىّ رضي الله عنه ولم يكن يملك مسكنًا فصبرت حتى التمس مسكنًا أخلاه له أحد الصحابة الكرام حارثة بن النعمان رضي الله عنه أخلاه له وانتقل إلى بعض بيوته فسكنه علىّ بفاطمة، وقامت سيدة نساء هذه الأمة خير قيام، ورعت بيتها وزوجها أكرم رعاية.
كانت تكون في خدمة بيتها تطحن وتعجن وتخدم بيتها وزوجها، تطحن بالرحى حتى أثرت الرحى في يديها فخشنت وتجرحت يداها رضي الله عنها.
بنات الجبابرة في القصور يرفلن في حلل النعيم والترف لا يقنعهن القليل والكثير من الديباج والذهب والحرير وبنت سيد الخلق في بيت زوجها تطحن بالرحى حتى أثر الرحى بيديها.
روى البخاري [10] في صحيحه عن علىّ رضي الله عنه قال: شكت فاطمة ما تلقى من الرحى فجاء سبي إلى النبي أي من أسرى الجهاد - سبايا من النساء - فانطلقت إلى أبيها فلم تجده فوجدت أم المؤمنين عائشة فأخبرتها بما تلقى فلما جاء النبي أخبرته أم المؤمنين عائشة بمجيء فاطمة.
يقول علىّ: فجاء النبي إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت لأقوم فقال النبي على مكانكما فقعد بيننا - بين علىّ وزوجه فاطمة - قال علىّ حتى وجدت برد أنامله على صدري فقال ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعًا وثلاثين وتسبحا ثلاثًا وثلاثين وتحمدا ثلاثًا وثلاثين هو خير لكما من خادم.
وفي رواية قال علىّ رضي الله عنه: ((فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن )).
الله أكبر هذه هي التربية الراقية في بيت النبوة، أليست المهمة الحقيقة للرجل والمرأة هي إخلاص العبودية لله تعالى فليشتغلا إذن بعبادة الله ينسيان الدنيا ببهارجها وتهون عليهما مصائبها، وعليهما أن يشتغلا بذكر الله تعالى لتطمئن قلوبهما، خادم لم يرض النبي أن يعطي ريحانة قلبه جارية تخدمها ولكنه اختار لها العزيمة والصبر وأمرها أن تستعين على شئون حياتها بذكر الله وعبادته.
أليست سيدة نساء الأمة فعليها أن يكون مثالاً يحتذى في الصبر والمصابرة وتحقيق العبودية للرب سبحانه وتعالى.
وما كان لرسول الله ليحابي أحدًا من المسلمين حتى لو كانت بضعة قلبه وريحانة فؤادي فاطمة رضي الله عنها، ففي رواية [11] أنه لما جاءت فاطمة وعلىّ يكلمانه في شأن الخادم قال: لا والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تتلوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيع السبي فأنفق عليهم.
وأهل الصفة هم فقراء أهل المدينة في هذا العصر المبارك. كانوا يأوون إلى مؤخرة المسجد النبوي فعُرف ذلك المكان بالصفة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا [الأحزاب:33].
[1] أخرجه ابن عبد البر في الاسيعاب (4/382) وغيره.
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (22/402) وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (4/382).
[3] أخرجه مسلم في صحيحه (4/1904-1905) برقم 2450.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب (3/1326-1327) برقم 3624
[5] ذكره ابن عبدالبر في الاستيعاب (4/449) وسنده ضعيف.
[6] أخرجه الحاكم في مستدركه (3/175) برقم 4756.
[7] أخرجه البخاري في صحيحه (3/1374).
[8] أخرجه أحمد في مسند (1/80) وغيره وفيه رجل لم يسم.
[9] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الأشربة باب تحريم الخمر (3/1568) برقم 1979.
[10] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الخمس (3/1133) برقم 3705.
[11] أخرجه أحمد (1/79و84و106) والحميدي برقم (44) وابن ماجه برقم (4152).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أيها المصلون أن من آداب صلاة الجمعة أن يبكر المصلي إليها فقد أخبر النبي أن من راح في الساعات الأولى فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب شاة، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، ثم إذا أذن المؤذن وارتقى الإمام المنبر طوت الملائكة الصحف وجلست تسمع الذكر [1].
ومن آداب الجمعة ألا تتخطى رقاب المسلمين فإن ذلك أذية لهم وربما أحبطت هذه الأذية عملك فقد ثبت [2] عن رسول الله أنه كان يخطب على المنبر يوم الجمعة فرأى رجلاً يتخطى الرقاب فقال له: ((اجلس فقد آذيت)).
فعلى المسلم إذا جاء متأخرًا أن يجلس حيث ينتهي به المجلس ولا يتخطى رقاب الناس فيؤذيهم حتى يحبط ذلك عمله.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [3].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه الجمعة باب فضل الجمعة (1/301) برقم 881.
[2] أخرجه أحمد (4/188) والنسائي (3/103) وأبو داود (1/360) وغيرهم وسنده حسن.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة (1/306) رقم 408.
(1/217)
الحياة الطيبة
الإيمان
فضائل الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
25/11/1406
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
الحياة الطيبة مطلب الناس وغايتهم – اختلاف أفهام الناس ونظرتهم للحياة الطيبة : من يرى
السعادة والحياة الطيبة في المال من أي مصدر كان – من يرى السعادة والحياة الطيبة في
المنصب – من يرى السعادة والحياة الطيبة في تحصيل اللذائذ والشهوات – من يرى السعادة
والحياة الطيبة في معصية الله – الحياة الطيبة الحقيقية في الإيمان والعمل الصالح – حال الصحابة مع الدنيا
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله الحياة الطيبة مطلب عظيم وغاية نبيلة هي مطلب كل الناس وغاية جميعهم عنها يبحثون وخلفها يركضون وفي سبيلها يضحون ويبذلون، فما من إنسان في هذه الحياة إلا وتراه يسعى ويكدح ويضني نفسه ويجهدها كل ذلك بحثًا عن الحياة الطيبة وطمعًا في الحصول عليها والناس جميعًا على ذلك متفقون ولكنهم يختلفون في مضى هذه الحياة وفي نوع هذه الحياة الطيبة وتبعًا لذلك فإنهم يختلفون في الوسائل والسبل التي توصلهم إلى هذه الحياة إن وصلوا إليها.
مختلفون على كافة مستوياتهم كانوا أممًا أو شعوبًا أو مجتمعات صغيرة أو كبيرة، بل حتى الأسرة الواحدة تجد فيها ألوانًا شتى فتجد الأب تجد أن للحياة الكريمة والحياة الطيبة عند الأب في كثير من الأحيان معنى يختلف عن الحياة الطيبة عند ولده، وتجد أن للحياة الطيبة معنى عند الأخ يختلف عن معناها عند أخيه وقد تجد أن للحياة الطيبة معنى عند الزوجة يختلف عن معنى الحياة الطيبة عند زوجها وكم قامت من أجل ذلك خصومات ومشاكل.
وللناس في كل زمان أفهام حول هذه الحياة الطيبة وهم تبعًا لذلك أصناف فمنهم من يرى الحياة الطيبة في كثرة المال وسعة الرزق وأنه إذا توفرت له هذه الأمور فإنه في حياة طيبة وحياة كريمة فهو يسعى في ذلك ويجهد نفسه ويسلك كل الوسائل التي يرى أنها تمكنه من الحصول على مطلبه، بل بعض الناس يجعل من هذه الغاية مبررًا لكل وسيلة فيتخذ كل ما خطر بباله ويرى أنه يوصله لهذه الغاية ولو كان مما حرم الله تبارك وتعالى.
إن كان من قبيل الربا أقدم ولا يبالي حتى ولو ذُكر بقول رسول الله : ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)) [1].
يسعى إلى المال ولو كان من قبيل الرشوة وحتى ولو ذكر بقول الرسول : ((لعن الله الراشي والمرتشي والمرشي والساعي بينهما)) [2] أو كما قال.
يسعى للحصول على المال ولو كان بأكل أموال اليتامى ظلمًا، يسعى للحصول على المال ولو كان في أكل أموال الناس بالباطل، يسعى للحصول على المال ولو كان بالغش والأيمان الكاذبة والحيل المحرمة، كل ذلك بغية أن يحصل على مقصوده ليحصل على ما يراه من حياة طيبة، يضني نفسه ويجهدها، ويضني من تحت يده ويجهدهم بل ويظلمهم وبعضهم قد يصل إلى الذين حذر الله ورسوله منهم بقوله: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [التوبة:55].
يسعى ويرى أن غيره لا يعرف ممن لم يكن على شاكلته يرى أنهم لم يعرفوا معنى الحياة الصحيحة بعد ولم يذوقوا لها طعمًا. وقليل من الناس من يكسب المال من حله ويحرص على أن يضعه في حله ويجعله معونة على طاعة ربه حتى لا يفتنهم في دينهم.
أما الكثير فإنك تراهم لا راحة لهم في أبدانهم ولا طمأنينة لهم في أنفسهم إذا انخفضت الأسعار تمزقت قلوبهم جزعًا وإن ارتفعت الأسعار تقطعت قلوبهم طمعًا فهم على نارين لا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم قرار يعيشون مفتونين في حياتهم يصيبهم الضنك في هذا المال وتصيبهم الشدة وبين أيديهم الأموال يسارعون في أعمال الدنيا ولكنك تراهم يقدمون أكل أموال الناس على طاعة الله تبارك وتعالى هؤلاء لهم موقف بين يدي الله عز وجل ويكفي أن يكون السؤال بين يدي علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية يعلم السر وأخفى وهذا تفكيرهم ومعنى الحياة الطيبة عندهم.
ثم صنف آخر يرون أن الحياة الطيبة هي في الحصول على المناصب والجاه فيسعون إلى ذلك ويسلكون كل السبل التي توصلهم إلى هذا المقصود وإلى هذه الغاية يبذلون كل غالٍ ورخيص في أن يحصلوا على مقصودهم.
يبذلون ويقصدون إلى هذه المناصب فلا يعانون عليها ويتعلقون بها فيوكلون إليها يحبون من مالأهم ومن ناصرهم ومن ملقهم ونافق ويبغضون ويكرهون من نصح لهم وأخلص. هذا حال كثير منهم ويرون مع ذلك أن هذه هي الحياة هي الحياة الطيبة ولو تنازلوا عن شيء من دينهم ولو أشغلهم ذلك عن طاعة ربهم ولو أطاعوا المخلوق في معصية الخالق، وقليل من الناس من يأخذ ذلك طاعة لله لا يسأله من نفسه وإذا وُكل إليه وحُمِّله فإنه يستعين الله عليه ويطيع الله فيه لأنه يذكر قول رسوله لأبي ذر رضي الله عنه: ((يا أبا ذر إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) أو كما قال.
ثم صنف ثالث من الناس يرى أن الحياة الطيبة والحياة الكريمة في حصول النفس على شهواتها وتمتعها بلذائذها وشهواتها وحصولها على ذلك من أي سبيل، حتى ولو كان في معصية الله تبارك وتعالى فتراهم يرتعون يسرحون ويمرحون كالبهائم بل هم أضل، يحرصون على التمتع باللذائذ ويعجبون أن يُقال لهم: اتقوا الله ويعجبون لمن يرى الحياة الطيبة في غير ما هم يسلكون وفي غير ما هم وراءه يسعون يتبعون اللذائذ وينتقلون إليها ويشدون الرحال من بلد إلى بلد ليعصوا الله وليترفوا وليلذذوا أنفسهم بمعصية الله.
تغرهم هذه النعمة صحة في البدن وأمن في الوطن ورخاء في العيش فبدل أن يكون ذلك شكر يكون ذلك كفر الغفلة تستولي على قلوبهم يرون ويسعون ما حولهم من الناس ومن الشعوب التي تفتك بهم الأمراض وتفنيهم الحروب وتقتلهم الكوارث والنوازل يتضورون بل يموتون جوعًا فلا يكون لذلك في نفسهم عبرة بل يزدادون غفلة وصدق فيهم قول الله تعالى: أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [الأعراف:179].
هؤلاء يرتعون ويمرون ويرون أن هذه هي الحياة الطيبة وهي الحياة الكريمة فإلى الله مآلهم وبين يديه سؤالهم وحسابهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصنف من الناس يا عباد الله ونعوذ بالله من حالهم يرون أن الحياة الطيبة في معصية الله فيفاخرون بها ويجاهرون ولا يرى كثير منهم أنها معصية بل يرى أنه كلما أمعن في المعصية أيًا كانت كلما استغرق فيها رأى أنه أخذ بنصيب وافر من الحياة الطيبة يجاهرون ويفخرون ويسخرون من غيرهم إن كانوا من أهل الشرك والكفر فإذا رأوا ما هم عليه من الشرك والكفر والإلحاد ومن تكذيبهم لله تعالى ولأنبيائه ورسله يرون أن تلك حياة كريمة وأنها تحرر يشركون بالله ويطعنون في الموحدين ويعصون الله ويؤذون الطائعين.
وإن كانوا من أهل الكبائر وما أكثرهم اليوم فهم ينتقلون من كبيرة إلى كبيرة حتى تذهب من أنفسهم هيبة الله تعالى وعظمته وحتى يُطبع على قلوبهم فيرون المعروف منكرًا والمنكر معروفًا ويصبح هذا هو معنى الحياة الطيبة عندهم والعياذ بالله من هذا الصنف.
وهؤلاء أصناف كثيرة وألوان شتى يراها الناس في حياتهم ويلمسونها ويحسونها كثير لا يتسع المقام لذكر هذه الأصناف. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الحياة الطيبة التي يرضاها لنا ويرضى بها عنا وأن يسلك بنا صراطه المستقيم.
أقول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب المساقاة باب لعن آكل الربا ومؤكله (3/1219) برقم 1598.
[2] أخرجه أحمد (2/387) والترمذي برقم (1336) وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهله وأصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله بعد أن عرفنا بعضًا من أصناف الناس في هذه الحياة ومعنى الحياة الطيبة عندهم فتعالوا نسمع الحياة الطيبة التي يشهد الله تبارك وتعالى أنها حياة طيبة ومن أصدق من الله حديثًا.
يقول الله تبارك وتعالى: من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [النحل:97].
هذه شهادة من الله وتعريف لهذه الحياة الطيبة ولكن كثيراً من الناس عن هذا غافلون يبحثون عن الحياة الطيبة وهي بين أيديهم ويضلون عنها وهي في متناول أيديهم من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
حياة طيبة في الدنيا وهي قوله تعالى: فلنحيينه حياة طيبة.
وحياة طيبة في الآخرة وهي معنى قوله تعالى: ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
هذه الحياة الطيبة أساسها وقوامها على أمرين اثنين أمرين عظيمين جليلين يسيرين على من يسرهما الله عليه:
الأمر الأول: الإيمان بالله تبارك وتعالى.
والأمر الثاني: عمل الصالحات وفق ما شرعه الله تبارك وتعالى وما جاء عن رسوله.
وأول من أسعد بهذه الحياة الطيبة وعرف معناها أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام وإمامهم وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد.
ثم إخوانه من الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه ثم أصحاب رسول الله أصحابه وأصحاب إخوانه من الأنبياء والمرسلين وأولهم وفي مقدمتهم أبو بكر الصديق رضي الله تبارك عنه وأرضاه الذي يقول رسول الله فيه: ((لو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلاً)) [1].
ثم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ثم إخوانكم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ثم من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يعرفون معنى الحياة الطيبة فيعملون لها، يعرفون معنى هذه الحياة فيعطونها حقها، ويعرفون معنى الحياة الآخرة فيعطونها حقها ويقرأون قول الله تعالى: وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون [القصص:60].
ويحذرون من قوله تعالى: زُيِّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب [البقرة:212].
وإذا توفرت لهم هذه الدنيا وجاءت إليهم راغمة فإنهم يزهدون فيها طمعًا على ألا يكون هذا على حساب آخرتهم كما ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (والله لو شئت لكنت ألينكم لباسًا وأطيبكم طعامًا وأرقكم عيشًا ولكني سمعتُ الله عيرَّ أقوامًا) فقال تعالى: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها [الأحقاف:20].
وكان علي رضي الله عنه يقول في تهجده إذا جاء آخر الليل قبض على لحيته وقال مخاطبًا الدنيا: (إلي تغرغرت إلي تشوّفت هيهات هيهات غُري غيري قد بتتُك ثلاثًا طمعكِ حقير ومجلسكِ خطير وخطركِ يسير غري غيري فهيهات هيهات آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق) [2].
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن هذا هو معنى الحياة الطيبة فاحرصوا عليها وتزودوا لها ولا يغركم كثرة الهالكين والغافلين عنها اتقوا الله واعلموا أن هذا هو الطريق الذي يوصلكم إلى رضوان ربكم وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله فقد أمركم بذلك فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
[1] أخرجه البخاري في صحيحه (3/1338) برقم 3654.
[2] أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/85). وسنده ضعيف جداً.
(1/218)
محاسبة النفس
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
3/12/1406
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية محاسبة النفس ولزومها للمسلم – أثر محاسبة النفس وثمرتها , وعاقبة تركها -
من فوائد محاسبة النفس التذكير بالاستعداد للآخرة , وبنعم الله عليه , والاستقامة , ومعرفة
علاجها – الطريق لإقامة المحاسبة الإكثار من مطالعة السيرة وحال السلف – حال السلف مع
القرآن ومحاسبة النفس – غفلة الناس عن محاسبة أنفسهم من أسباب البلاء وفساد القلوب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله محاسبة النفس أمر مطلوب من كل مسلم.
محاسبة النفس أمر عظيم ينبغي أن يسعى إليه كل مسلم وكل مؤمن ليملك قياد نفسه وزمامها ليضبط سيرها وليكبح جماحها يدفعها إلى الطاعة ويردعها عن المعصية فيعرف ربحه من خسارته ولا يستطيع ذلك إلا إذا كان محاسبًا لنفسه.
ومحاسبة النفس يا عباد الله أمر عظيم يسهل الكلام عنه بالألسنة ولكن القيام به من أعظم الأمور.
فإذا قام الإنسان على محاسبة نفسه استطاع أن يعرف مقدارها.
ومن أجل ذلك يا عباد الله يكون المؤمن في جهاد مع نفسه لا ينقطع وفي صراع دائم لا ينتهي حتى تألف النفس طاعة ربها وتعتاد السير في سبيل الله المستقيم والانتهاء عن سبل الشياطين.
عند ذلك يسهل ضبطها ومحاسبتها وإن لم يكن ذلك وأطلق لها العنان فسوف تستعذب الباطل وتحب المعاصي والمنكرات حتى تصل إلى غضب ربها سبحانه وتعالى.
وكلما قام الإنسان على محاسبة نفسه أحبت الطاعة وأقبلت عليها واستأنست بها وبأهلها وكلما أهمل الإنسان محاسبة نفسه كلما كرهت الطاعة وأنست بالمعصية وأحبت أهلها.
يقول الله تعالى: فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [النازعات:37-41].
والله تعالى يقسم بالنفس اللوامة وهي التي تلوم صاحبها إن قصّر في خير أو اقترف شر: لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة [القيامة:1-2].
يقول الحسن رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (إن المؤمن والله لا نراه إلا وهو يلوم نفسه ما أردتُ بكلمتي ما أردتُ بأكلتي ما أردتُ بحديث نفسي أما الفاجر فيمضي قُدُمًا قُدُمًا لا يعاتب نفسه).
ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أنها تذكر الإنسان وتبعث فيه الاستعداد للقاء الله عز وجل الذي سوف يكون بين يديه الحساب ولا حول ولا قوة إلا بالله ولهذا يقول عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم غدًا في الحساب أن تحاسبوها وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).
ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله إنها تعرِّف الإنسان بنعمة الله عليه فيشكرها ويستخدمها في طاعة الله ويحذر من التعرض لأسباب زوالها: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].
والله تعالى يقص علينا قصة صاحب الجنة حينما افتخر على صاحبه بالمال والولد وما ذكرّه به صاحبه مما قصه الله تعالى في كتابه فقال: ولولا إذا دخلت جنتك قُلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترني أنا أقل منك ولدًا فعسى ربي أن يؤتيني خيرًا من جنتك ويرسل عليها حسبانًا من السماء فتصبح صعيدًا زلقًا أو يصبح ماؤها غورًا فلن تستطيع له طلبًا [الكهف:40-41].
وتُعرِّف المؤمن بنعمة الله عليه في الابتلاء فيصبر لذلك ويحتسبه عند الله تبارك وتعالى كما روي عن عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال : (ما أصابتني مصيبة إلا وعلمتُ أن لله علىّ فيها ثلاث نعم:
الأولى: أن الله تعالى خففها وهو قادر على أن يصيبني بأعظم منها.
والثانية: أن الله تعالى جعلها في دنياي ولم يجعلها في ديني.
والثالثة: أن الله تعالى يدخر لي الأجر عليها يوم القيامة).
ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أن هذا يساعد على ترويضها والسلوك بها في السبيل المستقيم والحد من نزواتها وشهواتها ومن تعصبها وإعجابها فما ترى إنسانًا يحاسب نفسه ويراقبها إلا وهو سريع الاستجابة لأمر إلهه وكثير الحذر مما يغضب الله وسريع الرجوع إلى الحق إذا علمه وتبين له وكلما أطلق الإنسان لنفسه زمامها ولم يقم على محاسبتها كلما تغلبت عليه الأهواء والشهوات والمعاصي والمنكرات حتى تتغير موازينه ومقاييسه ويقع فيما حذر منه رسول الله : ((حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العامة)) [1].
ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أن الإنسان يعرف بذلك مقدار نفسه فيتخذ الشيء الذي يراه مناسبًا لإصلاحها ولا صلاح لها إلا بما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى وما جاء في السنة الصحيحة عن رسول الله. وما أُثر عن العلماء الصالحين المخلصين العاملين.
روي أن الشافعي رحمه الله تعالى مرض مرضًا شديدًا فقال: اللهم إن كان هذا لك رضًا فزده فبلغ ذلك إدريس الخولاني رحمه الله تعالى فبعث إليه فقال: يا عبد الله لستُ أنا وأنت من أهل البلاء.
فأرسل إليه الشافعي رحمه الله تعالى: يا أبا عمر ادع الله لي بالعافية.
وإذا أراد الإنسان أن يقيم في نفسه هذا الأمر. وإذا أراد أن تقوم لديه المحاسبة للنفس لتنبعث في نفسه خشية الله عز وجل والخوف من عذابه والرجاء فيما عنده فليكثر من قراءة سيرة رسول الله وسيرة أصحابه رضي الله تعالى عنهم والتابعين لهم بإحسان في كل زمان ومكان ليعرف كيف كانوا مع أنفسهم وكيف كانت محاسبتهم لها لعل ذلك يساعده على محاسبة نفسه ومراقبتها.
الرسول يقول [2] لابن مسعود رضي الله عنه: اقرأ علىّ القرآن فيقول بن مسعود: اقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) فقرأ عليه سورة النساء حتى إذا بلغ قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا [النساء:41].
قال حسبك قال بن مسعود رضي الله عنه: فنظرتُ فإذا عينا رسول الله تذرفان.
فلو كانت محاسبة النفس قائمة في قلوبنا اليوم لذرفت أعيننا من خشية الله تبارك وتعالى ومن الخوف منه وطمعًا في الرجاء لما عنده.
وخليفته الصديق رضي الله عنه يقول وقد دخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يزجر لسانه فقال له عمر: (مه ما هذا الذي تفعله يا أبا بكر؟). قال أبو بكر رضي الله عنه: (إن هذا أوردني المهالك).
ولما قدم قوم من اليمن في زمانه كانوا إذا سمعوا القرآن يبكون فقال: (كنا هكذا ولكن قست القلوب).
وعمر رضي الله عنه يقول: (لولا ثلاث لوددتُ أني قد لقيتُ الله لولا أن أضع جبهتي لله ولولا أن أجلس مجالس يُنتقى فيها طيب الكلام كما ينتقى طيب التمر، ولولا أن أسير في سبيل الله عز وجل).
وهو الذي قال رضي الله عنه: (وددتُ أني كبش لأهلي يسمنونني حتى أكون أسمن ما أكون يقدم عليهم قوم يحبونهم فيذبحوني ويقدموني فيجعلوا بعضي شواء وبعضي قديدًا ثم يأكلونني ولم أكن بشرًا). وهو الفاروق رضي الله عنه.
وهو الذي يقول يوم دخل عليه ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين بعدما طُعن رضي الله عنه قال له: (أبشر يا أمير المؤمنين فإن الله قد مصّر بك الأمصار وقضي بك على النفاق وأفشى بك الرزق) قال له: (أفي الإمارة تثنى علىّ يا بن العباس؟) قال: (إي والله في غيرها). قال: (والله لوددتُ أني خرجتُ منها كما دخلتُ فيها لا أجر ولا وزر) ويقول رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لو قام في الناس منادي: يا أيها الناس إنكم من أهل الجنة أجمعون إلا رجلاً واحدًا لخفتُ أن أكون أنا هو، ولو قام منادي وقال: يا أيها الناس ادخلوا أجمعين إلى النار إلا رجلاً واحدًا لرجوتُ أن أكون أنا هو) رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ونسأل الله أن يتبعنا آثارهم وأن يحشرنا في زمرتهم.
وعثمان رضي الله عنه يقول: (لو كنتُ بين الجنة والنار ولا أعلم إلى أيهما يُؤمر بي لوددتُ أن أكون رمادًا ولا أعلم إلى أيهما أصير) [3].
وهو الذي يقول: (وأيم الله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام وما ازددت بالإسلام إلا حياءً).
وعليّ رضي الله عنه الذي سبق أن ذكرنا قوله وهو يخاطب الدنيا: (إلىّ تغرغرت إلىّ تشوفت هيهات هيهات غُري غيري قد بتتك ثلاثًا فعمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك يسير آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق).
وغيرهم من الصحابة ومن التابعين ومن الذين تبعوهم بإحسان في كل زمان ومكان يحاسبون أنفسهم قبل أن يردوا إلى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
نشكو إلى الله ضعفنا ونسأله أن يرحم ضعفنا ويغفر خطايانا أقول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن أبي داود (4341) سنن الترمذي (3058) سنن ابن ماجة (4014).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير باب (4/1673).
[3] أبو نعيم في الحلية (1/60) وفي سنده انقطاع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين نحمده تعالى ونشكره ونثني عليه الخير كله وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه صلوات الله عليه وسلامه وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله لو كانت المحاسبة للنفوس قائمة لكان الحال غير الحال ولرأيت الصلاح في البشر ورأيت الصلاح في العباد وفي البلاد ولكن كثيرًا من الناس غافلون عن محاسبة أنفسهم.
لو كانت المحاسبة للنفوس قائمة لما رأيت معصية لما رأيت شركًا ولا نفاقًا ولا رأيت غيبة ولا نميمة ولا رأيت ربًا وزنًا ولا خمرًا ولا رأيت صغيرة ولا كبيرة، ما رأيت إيمانًا كاذبًا ولا غشًا ولا خداعًا ولا ظلمًا ولا جورًا ولا عدوانًا، لو كانت المحاسبة في النفوس قائمة ما حصلت مشاكل في مال وما قامت منكرات لم تسبق فيمن سبق من العالمين كان نتيجتها على التفرق والتمزق الذي يعيشه المسلمون اليوم.
لو حاسب الناس أنفسهم وأقاموها على أمر الله تبارك وتعالى لرأيت الحال غير الحال إن كثيرًا من الناس لا يرتاح في نوم حتى يعرف حساب تجارته هل آلت به إلى الربح أم إلى الخسران، بل قد ينهض من فراشه مرات كلما تذكر أمرًا من الأمور وقد تمر عليه الليلة كاملة ولا يستحل بنوم أبدًا.
وإن بعضًا من الناس يمر عليه الليل وهو يتلوى من الحسرة والندامة على صفقة خسرها أو فاتته مشاركة فيها.
بل إن بعضًا من الناس يمسي يعض أصابع الندم حينما يرى نعمة أنعم الله بها على أحد من إخوانه وقد تكون ابتلاءً واختبارًا من الله تعالى.
بل إن بعض الناس أيضًا قد يتجاوز الحق إلى الباطل استبدادًا لرأيه وتعصبًا لهواه وميلاً مع شهوته.
فلو كانت المحاسبة في النفوس قائمة ما رأيت هذه الأمور ولا غيرها مما يغضب الله تبارك وتعالى ولصلحت أحوال المسلمين ولن تصلح إلا إذا حاسبوا أنفسهم واستعدوا إلى لقاء الله تعالى الذي سيحاسبهم وهو يعلم السر وأخفى لا تخفى عليه خافية فهو علام الغيوب سبحانه وتعالى.
فاتقوا الله يا عباد الله وحاسبوا أنفسكم وراقبوها وقوموها على أمر الله تعالى وحاسبوا أنفسكم في أسبوع مضى من حاسب نفسه على طاعة فازداد منها أو على معصية وقع فيها فتاب منها من الذي فعل ذلك.
من حاسب نفسه فتذكر نعمة الله عليه فازداد شكرًا لها.
من حاسب نفسه فانبعثت في قلبه خشية الله فذرفت عينه حتى تطفئ النار يوم القيامة فعينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله.
وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله فقد أمركم الله بذلك فقال تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن أصحابه أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/219)
فضائل الصحابة رضي الله عنهم
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الصحابي في الاصطلاح. 2- ثناء القرآن على الصحابة. 3- ثناء الرسول وشهادته
للصحابة. 4- درجات الصحبة. 5- أقوال للصحابة في شرف الصحبة. 6- مذهب أهل السنة
في الصحابة. 7- صفحات مضيئة لبعض الصحابة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
نعطر مجلسنا عباد الله بذكر فضائل أصحاب محمد ، ورضي الله عنهم أجمعين، والصحابي: هو من رأى النبي ، أو رآه النبي ومات على الإيمان، وإن تخللت بينهما ردة على الراجح، واشترط بعض العلماء في الرائي أن يكون بحيث يميز ما يرى.
قال ابن حجر رحمه الله: محل نظر، وعمل من صنف في الصحابة يدل على أنه يكتفى بمجرد حصول الرؤية، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر، وإنما ولد قبل وفاة النبي بثلاثة أشهر وأيام، واشترط بعضهم أن يكون صحب النبي سنة فصاعدا، أو غزا معه غزوة فصاعدا، والعمل على خلاف ذلك، لأنهم اتفقوا على عد جمع جم في الصحابة، لم يجتمعوا مع النبي إلا في حجة الوداع.
قال الإمام البخاري: ومن صحب النبي أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، وقد وردت عباد الله الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة، في فضائل الصحابة رضي الله عنهم:
فمن ذلك قوله عز وجل: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم [التوبة :100].
قال ابن كثير رحمه الله: فقد أخبر الله العظيم أنه رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض بعضهم أو سب بعضهم.
وقال عز وجل: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلِم ما في قلوبهم فأنزل السكنية عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً [الفتح: 18-19].
وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وعدد المبايعين فيها من الصحابة ألف وخمسمائة، ومن رضي الله عنه لا يمكن موته على الكفر لأن العبرة بالوفاة على الإسلام.
وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله : ((لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة)) ( [1] ).
وقال عز وجل: كنتم خير أمة أخرجت للناس [آل عمران:110].
فأثبت الله عز وجل لهم الخيرية على سائر الأمم ولا شيء يعدل شهادة الله تعالى لهم بذلك.
وقال عز وجل: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً [البقرة:143].
والصحابة رضي الله عنهم هم المشافهون بهذا الخطاب ولا يكون الأخير والشاهد إلا عدلا.
وقال عز وجل: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:8].
وقال عز وجل: يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم [التحريم:8].
وقال عز وجل: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعلموا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً [الفتح:29].
أما الأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم:
فمنها ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام من الناس، فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله ؟ فيقولون لهم: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام من الناس، فيقال: فيكم من صاحب أصحاب رسول الله ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم)) ( [2] ).
ومثل هذا حديث واثلة رفعه: ((لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحبني)) ( [3] ).
وروى البخاري أيضا عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا ((ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السّمن)) ( [4] ). والمراد بالسّمن التوسع في المآكل والمشارب.
والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويطلق القرن على مدة من الزمان، واختلفوا في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين، قال ابن حجر رحمه الله: ووقع في حديث عبد الله بن بسر عند مسلم، ما يدل على أن القرن مائة وهو المشهور.
واقتضى هذا الحديث أن يكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ وإلى الثاني نحا الجمهور والأول قول ابن عبد البر، والذي يظهر أن من قاتل مع النبي ، أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئا من ماله بسببه، لا يعدله في الفضل أحد كائنا من كان، وأما ما لم يقع له ذلك فهو محل البحث، والأصل في ذلك قوله تعالى: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا [الحديد:10].
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله : (( لا تسبوا أحدا من أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه)) ( [5] ).
فيقول النبي لخالد ونحوه: ((لا تسبوا أصحابي)) يعني عبد الرحمن وأمثاله لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان، فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان، والمقصود أنه نهى من له صحبة متأخرة أن يسب من له صحبة متقدمة، لامتيازهم عنهم في الصحبة، بما لا يمكن أن يشركوهم فيه، حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية وإن كان قبل فتح مكة، فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وقال ابن مسعود : إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: كان أصحاب رسول الله خير هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه ونقل دينه.
وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: ((إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله حتى أبا بكر وعمر فقالت: وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر)) ( [6] ).
وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال: لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي ، خير من عمل أحدكم أربعين سنة.
قال العلماء: ولو لم يرد شيء من الآيات والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم، لأوجبت الحالة التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، والصبر والورع واليقين القطع بتعديلهم والاعتقاد بنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع الجائين بعدهم.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله مبينا عقيدة أهل السنة والجماعة: (ونحب أصحاب رسول الله ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).
فقوله رحمه الله: ( ولا نفرط في حب أحد منهم ) فيه رد على الشيعة في تفضيلهم علي على أبي بكر وعمر وعثمان، وتكفيرهم الصحابة رضي الله عنهم إلا القليل، لقد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة قيل لليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للشيعة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد ، ولم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة.
وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية العشرة المبشرين، ثم البدريين، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله رحمه الله: (وحبهم دين وإيمان) لأنه موافقة لله عز وجل ولرسوله.
روى الترمذي عن عبد الله بن مغفل قال: سمعت رسول الله يقول: (( الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني، فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)) ( [7] ).
لله درّ أقوام أخلصوا الأعمال وحققوها، وقيدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها، وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها، وخلصوا أعمالهم من أشراك الرياء وأطلقوها، وقهروا بالرياضة أغراض النفوس الردية فمحقوها، فعن إبعاد مثلهم وقع نهي النبي: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي [الأنعام:52].
صعدت صحائفهم من الأكدار صافية، وارتفعت أعمالهم بالإخلاص ضافية، وأصبحت نفوسهم عن الدنيا متجافية، والناس في أخلاط والقوم في عافية، ففاق المولى منهم على الرئيس القرشي: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي [سورة الأنعام :52].
قال سعد بن أبي وقاص لقيت عبد الله بن جحش يوم أحد، فقال: يا سعد ألا تدعو الله عز وجل؟ فخلوا في ناحية فدعا سعد... فأمن عبد الله بن جحش ثم قال: يا رب إن لقيت العدو غدا فلقني رجلا شديدا بأسه أقاتله فيك، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدا قلت: يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت.
قال سعد: فلقد رأيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط ( [8] ).
لله در أقوام تعبوا فأريحوا، وزهدوا فأبيحوا، جلّيت أبصارهم فشاهدوا، وأعطوا سلاح المعونة فجاهدوا، وتأملوا الدنيا وسبروها وعرفوا حالها وخبروها.
أقبل مصعب بن عمير يوما إلى رسول الله وعليه قطعة من نمرة قد وصلها بإهاب فقال رسول الله : ((لقد رأيت هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه ثم أخرجه من ذلك الرغبة في حب الله ورسوله)) ( [9] ).
ولما كان يوم أحد كان معه لواء المهاجرين فضربه ابن قمئة فقطع يده، ومصعب يقول: (وما محمد إلا رسول)، فأخذ اللواء بيده اليسرى وحنى فضرب يده اليسرى فقطعها فحنى على اللواء وهو يقول: (وما محمد إلا رسول)، فقتل ولم يوجد له كفن إلا نمرة إذا وضعوها على رأسه خرجت رجلاه وإذا وضعوها على رجليه خرج رأسه فجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر.
واعلموا عباد الله أن فضائل الصحابة رضي الله عنهم ظاهرة وكان لسبقهم سببان:
أحدهما: خلوص البواطن من الشك بقوة اليقين.
والثاني: بذل النفوس للمجاهدة والاجتهاد.
كان أبو طلحة يقول لرسول الله يوم أحد: نحري دون نحرك، وقتل يومئذ زوج امرأة وأبوها وابنها وأخوها فقالت: يا رسول الله لا أبالي إذا سلمت من عطب.
فسبحان من خصهم بهذه الفضائل، وحرسهم من القصور والرذائل، وصلى الله على محمد وآله وأصحابه البررة وسلم تسليما.
( [1] ) رواه مسلم (16/57، 58) عن أم مبشر الأنصارية في الفضائل : باب فضائل أصحاب الشجرة ، وأم مبشر الأنصارية هي امرأة زيد بن حارثة.
( [2] ) رواه البخاري (7/2) في فضائل الصحابة ومسلم (16/83، 84) فضائل باب فضل الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهو المسند (3/7).
( [3] ) رواه ابن أبي شيبة وقال الحافظ في الفتح: وإسناده حسن.
( [4] ) البخاري (5/258،259) الشهادات : باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد ، وفي فضائل أصحاب النبي وفي الرقاق وفي الإيمان ومسلم (16/87،88) الفضائل : باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ، ورواه الترمذي في الفتن وأبو داود في السنة والنسائي في الأيمان والنذور.
( [5] ) رواه البخاري (7/21) فضائل الصحابة : باب قول النبي : ((لو كنت متخذا خليلا)) ومسلم (16/23) فضائل الصحابة :باب تحريم سب الصحابة وهو في المسند (3/11) والترمذي وأبي داود ، والنصيف بمعنى النصف أي لو أنفق أحد من الذين أتوا بعد السابقين من الصحابة مثل أحد ذهبا ما بلغ ثواب أحدهم مد من طعام ولا نصفه.
( [6] ) الذي رواه مسلم قال عروة : قالت لي عائشة : يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله ، فسبوهم. أما حديث جابر قال في هامش جامع الأصول : في المطبوع أخرجه رزين – جامع الأصول (8/554).
( [7] ) رواه أحمد (د/87) ، (5/45،57) في المناقب باب من سب أصحاب النبي وعبد الرحمن بن زياد قال الذهبي لا يعرف ومع ذلك فقد صححه ابن حبان (2284) وحسنه الترمذي – شرح السنة (14/71) تحقيق شعيب الأرناؤوط.
( [8] ) قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح – مجمع الزوائد (9/301،302).
( [9] ) لم أقف عليه مع كثرة البحث ، نسبه صاحب موسوعة أطراف الحديث النبوي لابن سعد (3/1/82).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/220)
أهداف الجهاد
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
18/4/1407
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أهداف الجهاد : 1- أن يكون الدين لله 2- حتى لا تكون فتنة أي شرك 3- حماية المسلمين
من بطش الكفار 4- إزالة العقبات من سبيل الدعوة – ليس من أهداف الجهاد إكراه الناس
على الدخول في الإسلام – لكن لا بد أن يخضع الجميع لسلطان الله وشرعه
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
الجهاد في الإسلام له أربعة أهداف:
الهدف الأول: أن يكون الدين كله لله.
أي: أن يكون السلطان كله لدين الله وتكون كلمة الله هي العليا إذ لا يصح الدين لله والخلق خلق الله ثم تكون الطاعة ويكون الخضوع لغيره سبحانه وتعالى فالحكم والسلطان والطاعة والخضوع حق من حقوق الخالق سبحانه فإذا صرف الناس هذا الحق لغيره وجب الجهاد حتى يصرف هذا الحق له وحده.
الهدف الثاني: حتى لا تكون فتنة.
أي: لا يكون في الأرض شرك فطواغيت الكفر والشرك عاملون وساعون بكل ما أوتوا من قوة ومن وسيلة ومن حيلة لتكون السيادة في الأرض لكفرهم وشركهم ولتكون العبادة ويكون التعظيم له من دون الله تعالى وفي هذا فساد كبير وفتنة عظمى ففرض الله الجهاد لمنع هذه الفتنة ومنع هذا الفساد، فرض الله الجهاد لمحاربة أولئك الطواغيت لمحاربة طواغيت الكفر والشرك حتى يتم تحطيمهم وإزالتهم وإزالة فتنتهم وفسادهم وإزالة كفرهم وشركهم من الأرض قال تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين [البقرة :193].
الهدف الثالث: فرض الله الجهاد لحماية المسلمين في سائر أنحاء الأرض من بطش أهل الكفر والشرك.
ولإنجاد المستضعفين من المسلمين الذين وقعوا تحت قهر وبطش أهل الكفر والطغيان وما أوضح هذا الهدف هذا اليوم ما أوضح هذا الهدف في عصر اشتدت فيه الحاجة إلى الجهاد بسببه فكم من مسلمة اليوم تنادي في سائر أنحاء الأرض كم من مسلمة تنادي في الفلبين وكم من مسلمة تنادي من بلاد المجوس وكم من مسلمة تنادي في لبنان وكم من مسلمة تنادي في البلقان وكم من مسلمة تنادي في فلسطين وكم من مسلمة تنادي في بلغاريا وكم من مسلمة تنادي في إفريقيا وفي آسيا وكم من مسلمة تنادي بأعلى صوتها: وإسلاماه وما من مجيب في إخوانها من المسلمين.
لقد أعظم أهل الكفر والطغيان النكاية في المسلمين أهل الكفر من مجوس ومن يهود ومن صليبيين ومن شيوعيين ومن باطنيين كل هؤلاء أعظموا النكاية في من يليهم من المسلمين ومن تحت أيديهم من المؤمنين قتلوا الشيوخ والنساء والأطفال وهتكوا أعراض المسلمات وضاعت صيحات ونداءات هؤلاء أدراج الرياح لأنها لم تلامس نجدة هارون ولا نخوة المعتصم إنما لامست أسماعنا وأسماعنا قد أصابها الصمم أنا مشغولون عن الجهاد مشغولون بمتاع الدنيا ومتاع الدنيا قليل لقد أصاب قلوبنا الشلل فكل يوم نسمع أنباء المسلمين في أنحاء الأرض فإذا هي القتل والتشريد ولا تتحرك القلوب. الذل يعمي ويصم الذل أصاب قلوبنا وضرب أطنابه في حياتنا فأصابنا بالشلل فالكوارث والنكبات وأخبار الكوارث والنكبات التي تحل بالمسلمين ما عادت تحرك فينا عرقا هذا الوهن الذي سيطر على القلوب وضرب اطنابه في حياتنا إن لم نتخلص منه فإن عقابنا عند الله شديد.
ما كان المسلمون في عصور الجهاد يتحملون أي إهانة أو أي أذى لأنهم رفعوا راية العزة والكرامة رفعوا راية الجهاد لما تهدد نقفور إمبراطور الروم وطاغية الروم تهدد المسلمين مجرد تهديدهم بالكلام لا يرى طريقه للتنفيذ بعد أرسل إليه هارون الرشيد ذلك الخليفة الصالح العابد والملك المجاهد الذي كان يغزو سنة ويحج سنة طيلة مدة خلافته أرسل إلى نقفور رسالة يقول فيها: من هارون خليفة المسلمين إلى نقفور كلب الروم الجواب ما ترى لا ما تسمع وحمل الجواب حالا على الأسنة حملته جيوش المسلمين المجاهدين إلى أن وطأت بسنابك خيولها قعر دار نقفور فاضطر أن يدفع الجزية لهارون وللمسلمين المجاهدين ولما صاحت امرأة أسيرة في أيدي الروم في بلدة عمورية من بلاد الروم صاحت تستنجد بالمسلمين وبلغ ذلك المعتصم الخليفة العباسي هبَّ في مكانه واقفا، لما كان الجهاد هو حياتهم بلغوا هذه الدرجة العجيبة من العزة والمنعة التي استظل بظلها ليس المسلمون فحسب ولا المستضعفين من المسلمين فحسب بل المستضعفون من البشرية جميعا قال تعالى: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا [النساء:75].
الهدف الرابع: فرض الله الجهاد لإزالة العقبات والعراقيل التي توضع في سبيل الدعوة إلى الله تعالى.
فالذين فروا لن يتقبلوا دعوة الله وطواغيت الذين كفروا لن يستجيبوا إلى دعوة الله بل سيقفون ضدها بكل ما أوتوه من قوة ومن حيلة ومن وسيلة سيقاتلون دون باطلهم سيقاتلون في سبيل طواغيتهم ولو كان الدعاة إلى الله مسالمين ولو كانوا لا يملكون قوة ولا يرفعون سلاحا فإن طواغيت الكفر والشرك لن تكف عن قتال دعوة الله والذين يحملون رسالة الله قال تعالى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون [آل عمران:156]. وقال تعالى في أول آية أنزلت في الجهاد: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير [الحج:39] وقال سبحانه: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم [البقرة:190]. فالمسلمون حتى لو تركوا الجهاد في سبيل الله فأهل الكفر ما هم بتاركي قتالهم أبدا.
هذه هي أهداف الجهاد في الإسلام ولم يكن من أهدافه أبدا في أي يوم من الأيام إجبار الناس على اعتناق الإسلام بقوة السيف والسنان كيف والقرآن الكريم يقول ويقرر بأن أمر الديانة والاعتقاد والإيمان لا يمكن أن يتم بالإكراه قال تعالى : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي [البقرة:255].أي لا إكراه في الاعتقاد ولا يمكن أن تكره بشرا على الاعتقاد فالرشد قد تبين والحجج واضحة، الحجج هي التي تدخل الناس في الإسلام وقال سبحانه لنبيه: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [يونس:99] أي أنت لا تكرههم حتى يكونوا مؤمنين.
ولو كان الأمر كذلك لو كان الجهاد في سبيل الله والقتال في سبيل الله لإكراه الناس على الدخول في الإسلام فما بال اليهود والنصارى والمجوس وهؤلاء هم معظم أهل الكفر وهم طوائف الكفر الرئيسة في الأرض ما بالهم أقرهم الإسلام على دياناتهم واعتقاداتهم الباطلة إذا هم اختاروا البقاء عليها والتمسك بها بشرط أن يخضعوا لسلطان دولة الإسلام ويدفعوا الجزية للمسلمين يقرهم على أديانهم ومعتقداتهم في نفس الوقت الذي تقرر فيه الحجج والبراهين بطلانها وزيفها لكن هذا من باب الترفق بالناس ومجاراة الجبلة التي جبل عليها البشر فهؤلاء وإن أمهلوا وأعطوا الفسحة والمجال ليبقوا على معتقداتهم الباطلة فإنهم وفي ظل سلطان دولة الإسلام سيجدون أنفسهم مجاورين معايشين لواقع هذا الدين مطبقا ملموسا فتكون الحجج حينئذ والبراهين الإسلامية أشد وضوحا وأقوى تأثيرا في النفوس وأقرب إلى القلوب فإقبال أهل الذمة على الحق وقبولهم للحق حينئذ هو المأمول قال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [التوبة:29].
لاحظ: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أي حتى يخضعوا لسلطان الإسلام وإن لم يعتنقوا الإسلام وعقيدة الإسلام: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [التوبة:29].
الدعوة إلى الله لا تكون بالقتال أبدا لا تكون الدعوة إلى الله إلا بالحكمة أي الحجة والبرهان من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وبالموعظة الحسنة وبالمجادلة بالتي هي أحسن كما قرر ذلك الكتاب المبين القرآن الكريم أما القتال في سبيل الله فمهمته حماية هذه الدعوة حماية دعوة الله وحماية دين الله وحماية سلطان الإسلام ورد بأس الأعداء الذين يقاتلون هذا الدين ويقفون في وجهه مناوئين بكل ما أوتوا من قوة ووسيلة وسلاح.
من هذا الساذج الغافل الذي يظن أن دعوة الله تعالى يمكن أن تسير وتشق طريقها وتنجح ويفتح لها المجال دون قوة تحميها وراية مجاهدة تستظل بظلها في عالم تصطرع فيه القوى بقسوة ووحشية ويسود فيه القوي فيأكل الضعيف.
من هذا الغافل الذي يتوهم أنه إن سالم طواغيت الكفر والشرك يسالمونه ويكفون عن قتاله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [البقرة:217].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصِ لله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102].
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [النساء:1].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:65]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/221)
بر الوالدين
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الوالدان, فضائل الأعمال
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم أمر الوالدين. 2- البر والعقوق. 3- الوصية بالوالدين خاصة حال الضعف والكبر.
4- منع الإساءة للوالدين في صورة كانت الإساءة. 5- خصوصية الوالدة عن الوالد.
6- أحاديث في بر الوالدين. 7- صور لبر الوالدين. 8- النهي عن عقوق الوالدين. 9- أحكام في طاعة الوالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً [الإسراء:22].
أمر الله عز وجل بعبادته وتوحيده وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك فقال عز وجل: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ، كما قرن شكرهما بشكره فقال عز وجل: أن اشكر لي ولوالديك [لقمان:14].
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي أي العمل أحب إلى الله عز وجل قال: ((الصلاة على وقتها)) قات: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ( [1] ).
والبر اسم جامع للخير، وهو ضد العقوق، ومعناه الصلة وفعل الخير والتوسع فيه واللطف والطاعة.
وقوله تعالى: إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بر الولد، لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزم في هذه الحالة بين مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلاًّ عليه، يحتاجان أن يلي منهما في الكبر، ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، فلذلك خص هذه الحالة بالذكر، وكذلك طول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل، ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على أبويه، وتنتفخ لهما أوداجه، وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر، وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم من كل عيب، فقال: فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً [الإسراء:23].
قال العلماء: إنما صارت قولة (أف) للأبوين أردأ شيء، لأنها كلمة تقال لكل شيء مرفوض، كما قال إبراهيم لقومه: أف لكم ولما تعبدون من دون الله [الأنبياء:67].
فهي للأبوين كفرٌ للنعمة، وجحد للتربية، ورد للوصية التي أوصى الله بها في التنزيل، وقوله: ولا تنهرهما والنهر هو الزجر والغلظة، وقوله: وقل لهما قولاً كريماً أي لينا لطيفا، مثل: يا أبتاه ويا أماه من غير أن يسميهما ويكنيهما.
قال ابن الهداج التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله: وقل لهما قولاً كريماً ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ.
وقوله تعالى: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة أمر بمزيد من الشفقة والرحمة، وأن يكون الإنسان مع أبويه في خير ذلة في أقواله وسكناته ونظراته، ثم قال عز وجل: وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً أمر الله عز وجل عباده بالترحم على آبائهم والدعاء لهم، فينبغي على العبد أن يرحمهما كما رحماه، وأن يرفق بهما كما رفقا به، إذ ولياه صغيرا جاهلا محتاجا فآثراه على أنفسهما، فسهرا وأناماه، وجاعا وأشبعاه، وتعريا وكسواه، فلا يجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذي كانهما فيه صغيران فيلي منهما ما وليا منه، ويكون لهما حينئذ فضل التقدم.
قال في تنبيه الغافلين: إنه لو لم يذكر الله تعالى في كتابه حرمة الوالدين، ولم يوص بهما، لكان يعرف بالعقل أن حرمتهما واجبة، وكان الواجب على العاقل أن يعرف حرمتهما، ويقضي حقهما، فكيف وقد ذكره الله تعالى في جميع كتبه: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقد أمر في جميع كتبه وأوحى إلى جميع رسله، وأوصاهم بحرمة الوالدين ومعرفة حقهما، وجعل رضاه في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما.
وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون [لقمان:14].
لما خص الله تعالى الأم بالحمل والوضع والرضاع، خصها بمزيد الوصية بالبر، وهذا يوافق ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: ((يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)) ( [2] ).
قال عياض: ذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك فروى أن رجلا قال له: إن أبي ببلد السودان، وكتب إلي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له: أطع أباك ولا تعص أمك.
وقد سئل الليث عن هذه المسألة، فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها ثلثي البر، وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر بر الأم فيها إلا مرتين، وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد: ((إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بآبائكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب)) ( [3] ).
قال ابن حجر: وجاء ما يدل على تقديم الأم في البر مطلقا، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم والبزار بإسناد حسن من حديث عائشة قالت: سألت النبي : ((أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها، قلت: فعلى الرجل؟ قال: أمه)).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت: ((يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراده أن ينزعه مني فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي)) ( [4] ).
فتوصلت لاختصاصها بها في الأمور الثلاثة.
وقوله تعالى: حملته أمه وهناً على وهن أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف، وقيل : المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل، وقوله تعالى: أن اشكر لي ولوالديك قيل : الشكر لله على نعمة الإيمان. وللوالدين على نعمة التربية، قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
وقال عز وجل: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً [لقمان:14]، ففي هذه الآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق.
وعن أسماء بنت أبي بكر وقد قدمت عليها خالتها – وقيل : أمها من الرضاعة – فقالت : يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم، قيل: راغبة عن الإسلام، وقال ابن عطية: والظاهر عندي أنها رغبة في الصلة.
وقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضل بر الوالدين:
منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه)) ( [5] ). وقوله: ((لا يجزي)) أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه.
وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: ((جاء رجل إلى النبي يبايعه على الهجرة وترك أبويه يبكيان فقال : ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما)) ( [6] ).
وفي رواية عن عبد الله بن عمر قال: ((قال رجل للنبي أجاهد؟ قال: لك أبوان؟ قال نعم، قال: ففيهما فجاهد)) ، أي إن كان لك أبوان فأبلغ جهدك في برهما والإحسان إليهما فإن ذلك يقوم لك مقام قتال العدو.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن أبي بردة قال: سمعت أبي يحدث أن ابن عمر شاهد رجلا يمانيا يطوف بالبيت حاملا أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا ولا بزفرة واحدة.
وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول الله : ((من سره أن يمد له في عمره، ويزاد له في رزقه، فليبر والديه وليصل رحمه)).
وأخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عنده الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)) ( [7] ). ومعنى رغم أنفه: أي لصق بالرغام وهو بالتراب.
ومن بر الوالدين عباد الله:
النفقة عليهما إذا احتاجا لقول الله عز وجل: وصاحبهما في الدنيا معروفاً [لقمان:14].
وقوله عز وجل: وبالوالدين إحساناً [الإسراء:22]، وليس من الإحسان ولا من المصاحبة بالمعروف، أن يموتا جوعا والولد موسر.
ومن برهما توقيرهما واحترامهما: روى البخاري في الأدب المفرد وعبد الرزاق والبيهقي عن هشام بن عروة عن أبيه أو غيره أن أبا هريرة أبصر رجلين فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي، فقال: لا تسمه باسمه ولا تمش أمامه ولا تجلس قبله.
وقال طاووس: من السنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد، ومن الجفاء أن يدعو الرجل والده باسمه.
ومن برهما دعوتهما إلى الله عز وجل: روى مسلم وأحمد عن أبي كثير السحيمي قال: (( سمعت أبا هريرة يقول بأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم: ما سمع بي أحد يهودي ولا نصراني إلا أحبني، إن أمي كنت أريدها على الإسلام فتأبى، فقلت لها فأبت، فأتيت النبي فقلت: ادع الله لها، فدعا فأتيتها وقد أجافت عليها الباب، فقالت: يا أبا هريرة إني أسلمت، فأخبرت النبي فقلت: ادع الله لي ولأمي. فقال: ((اللهم عبدك أبو هريرة وأمه أحبهما إلى الناس)).
ومن برهما صلة أهل ودهما: ففي الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن من أبر البر صلة أهل ود أبيه بعد أن يولي )) ( [8] ).
ومن برهما الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما بعدهما.
عن محمد بن سيرين قال: كنا عند أبي هريرة ليلة فقال: اللهم اغفر لأبي هريرة ولأمه ولمن استغفر لهما قال محمد: فنحن نستغفر لهما حتى ندخل في دعوة أبي هريرة.
وروى مالك في الموطأ وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: ((ترفع للميت بعد موته درجته فيقول: أي رب أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك)) ( [9] ). ومن برهما قضاء دينهما والحج عنهما والوفاء بنذرهما:
عن أبي هريرة قال: ((أتى النبي رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو أن أباك ترك دينا أقضيته عنه؟ قال: نعم، قال: فأحجج عن أبيك)) ( [10] ).
أخرجه الشافعي والنسائي وابن ماجة والدارقطني.
ووردت الأحاديث كذلك في النهي عن عقوق الوالدين وبيان أن العقوق من أكبر الكبائر:
والعقوق مشتق من العق، وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل، إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد.
وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا، واستحبابها في المندوبات وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمهما عند تعارض الأمرين، كمن دعته أمه ليمرضها مثلا بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمر عندها، ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها وغير ذلك لو تركها وفعله، وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة كالصلاة أول الوقت أو في الجماعة.
تنبيهات:
الأول: قال الحافظ ابن الجوزي في قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين.. [الممتحنة:8].
الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت المولاة منقطعة، وبهذا تعلم أنه لا يجب طاعة الأب المشرك كالمسلم، لا سيما في ترك النوافل والطاعات، قال في الآداب الكبرى: وهذا أمر ظاهر ولذا قال الخطابي: لا سبيل للوالدين الكافرين في منعه من الجهاد فرضا كان أو نفلا. وطاعتهما حينئذ معصية لله طاعة للكفار، وإنما عليه أن يبرهما ويطيعهما فيما ليس بمعصية.
والثاني: ذكر شيخ الإسلام أنه ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من يريدها، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقا.
الثالث: قال في الآداب الكبرى: فإن أمره أبوه بطلاق امرأته لم يجب، ذكره أكثر أصحاب الإمام أحمد، وقد سأل رجل الإمام أحمد فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي. قال: لا تطلقها، قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر.
الرابع: قال الشيخ موفق الدين في حج التطوع: إن للوالد منع الولد من الخروج إليه، لأنه له منعه من الغزو وهو من فروض الكفايات.
الخامس: ينبغي احترام المعلم وتوقيره وقد ذكر بعض الشافعية أن حقه آكد من حق الوالد، لأنه سبب لتحصيل الحياة الأبدية والأب سبب لحصول الحياة الفانية، وقد قال علماء المصطلح: الأشياخ آباء في الدين.
السادس: ذكر عن الإمام ابن عقيل رحمه الله أنه كما يجب الإغضاء عن زلات القرون الثلاثة الذين قال النبي : ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )) ( [11] ).
وإذا أسميناهم بالوالدين يجب توقيرهم واحترامهم كما في الوالدين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
( [1] ) البخاري (2/9) مواقيت الصلاة : باب فضل الصلاة لوقتها.
( [2] ) رواه البخاري (10/401) الأدب : باب من أحق الناس بحسن الصحبة ومسلم (16/102) البر والصلة والآداب : باب بر الوالدين وأنهما أحق به.
( [3] ) وأخرجه ابن ماجة (3661) والحاكم (4/151) وأحمد (4/131،132) ، في الصحيحة رقم 1666.
( [4] ) رواه أحمد وأبو داود – مشكاة المصابيح (2/1008) رقم 3378.
( [5] ) مسلم (10/152) العتق:فضل عتق الوالد ، والآداب بر الوالدين وأنهما أحق به.
( [6] ) رواه البخاري (10/403) الأدب :باب لا يجاهد إلا بإذن الوالدين ، ومسلم (16/103،104) البر والصلة ، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أنس.
( [7] ) مسلم (16/108) البر والصلة والآداب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها.
( [8] ) مسلم (16/110) البر والصلة والآداب : تفسير البر والإثم.
( [9] ) أخرجه ابن ماجة (3660) وأحمد (2/509) وابن أبي شيبة في المصنف والأصبهاني في الترغيب والبغوي في شرح السنة ، وقال الألباني : وأما قول البوصيري ((إسناده صحيح)) ففيه تساهل. الصحيحة (4/129)رقم 1598.
( [10] ) قال الحافظ في التلخيص : وإسناده ضعيف (2/225).
( [11] ) البخاري (7/3) فضائل أصحاب النبي عن عمران بن حصين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/222)
مشروعية السلام وفوائده
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- متى يُشرع السلام 2- كيفية إلقاء السلام ورَدّه 3- السلام على الفاسق والمبتدع والكافر
4- الأحوال التي لا يُشرع فيها السلام ولا ردّه 5- المصافحة 6- القيام للسلام 7- فوائد
إفشاء السلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعملوا بشرائع دينكم؛ لترضوا ربكم وتنالوا جزيل ثوابه، وتنجوا من أليم عقابه، فقد شرع لكم ربكم أفضل الشرائع، وجعل لكم في نبيكم أفضل قدوة، وإن من أعظم ما شرعه الله في الإسلام إفشاء السلام، الذي هو تحية أهل الإسلام، وتحية الملائكة، وتحية أهل الجنة، وتحية المؤمنين يوم يلقون ربهم، وقد أمر الله بالسلام عند دخول المسلمين بعضهم على بعض في بيوتهم، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها [النور:27] ، وقال تعالى: فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة [النور:61].
وأمر بالسلام عند اللقاء قال : ((إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه )) رواه أبو داود.
وكما أنه يشرع السلام عند القدوم وبداية الجلوس، فإنه يشرع عند القيام والمفارقة للمجلس، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة)) ، رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
والسنة أن يُسلّم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، وكيفية السلام أن يقول المبتدئ: السلام عليكم رحمة الله وبركاته، ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هذه أكمل صيغة، وإذا اقتصر المبتدئ على قول السلام عليكم، فرد عليه بقوله: وعليكم السلام، فهذا يجزئ والأحسن أن يزيد في الرد، قال تعالى: وإذا حُيّتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ، قال ابن كثير – رحمه الله – أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة: أي أن الابتداء بالسلام مستحب، ورده واجب، ويكون بلفظ السلام لا بلفظ آخر.
فما يعتاده الناس من استبدال لفظ السلام: بقولهم: صباح الخير، أو: صباح النور، أو غير ذلك من الألفاظ هذا ليس بسلام، وكذلك لا بد أن يتلفظ بالسلام ولا يكتفي بالإشارة باليد أو الرأس، فقد جاء النهي عن ذلك في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي قال: ((ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكف)) رواه الترمذي وله شواهد.
لكن إذا كان المُسَلّم عليه لا يسمع لبعد أو صمم أو غيره فلا بأس بالإشارة لتنبيهه مع التلفظ بالسلام.
والسلام من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، فالمسلم الذي ليس بمشهور بفسق ولا بدعة يُسلِّم ويُسلَّم عليه.
وأما الفاسق والمبتدع فلا ينبغي أن يسلم عليهما، ولا يرد عليهما السلام حتى يتوبا، فقد هجر النبي الثلاثة الذين خلفوا إلى أن تاب الله عليهم.
وأما الكفار فتحرم بداءتهم بالسلام، فإن بدأونا قلنا: وعليكم، لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (( لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه )).
وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم)).
ثم اعلموا – رحمكم الله – أن هناك أحوالا لا يشرع فيها السلام، منها:
ما إذا كان الإنسان على حاجته من بول أو غائط، ومنها حال خطبة الجمعة، فلا يسلم على المستمعين للخطبة؛ لأنهم مأمورون بالإنصات، ولا يردون على من سلم عليهم.
ومنها حال الاشتغال بتلاوة القرآن، فالتالي لا يسلم عليه، ومما يجدر التنبيه عليه ما اعتاده بعض الناس من السلام والمصافحة بعد صلاة الفريضة أو صلاة النافلة، فهذا السلام غير مشروع، وإذا داوم عليه فهو بدعة. أما لو فعله لسبب عارض من غير مداومة، كما لو سلم على من لم يره قبل ذلك، أو سلم عليه ليكلمه في حاجة فلا بأس بذلك.
والمصافحة عند اللقاء سنة مرغب فيها، ففي سنن الترمذي وأبي داود وابن ماجة عن البراء قال: قال رسول الله : ((ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفِر لهما قبل أن يتفرقا)).
وأما المعانقة والتقبيل فإنما يشرعان في حق القادم من سفر، أما غير القادم من سفر فلا ينبغي فعلهما معه. ويحرم الانحناء عند السلام لما في سنن الترمذي عن النبي أنه سئل عن الرجل يلقى أخاه ينحني له؟ قال: لا، ولأن الانحناء نوع ركوع، والركوع والسجود لا يجوز فعلهما إلا لله – عز وجل – ومما ينبغي التنبيه عليه حكم القيام للسلام أو للتقدير، فالقيام لأجل السلام على القادم من سفر أو الداخل على قوم جالسين في مكان لا بأس به.
وأما القيام من أجل احترام الشخص لا من أجل السلام عليه، كما يقام للعظماء حتى يجلسوا، وكما يأمر بعض المدرسين الطلاب أن يقوموا له إذا دخل الفصل، أو إذا جاء زائر للفصل قاموا له؛ فهذا لا يجوز، قال شيخ الإسلام ابن تيميه – رحمه الله -: لم تكن عادة السلف على عهد النبي وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له من كراهته لذلك.
وربما قاموا لقادم من مغيبه تلقيا له كما روي عن النبي أنه قام لعكرمة. وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: ((قوموا إلى سيدكم..)) ، والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله فإنهم خير القرون، فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى وخير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع ألا يقر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له فحسن، قال: وليس هذا هو القيام المذكور في قوله : ((من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار )) ، فإن ذلك أن يقوموا وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئة إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه، وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد، ولقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي لما صلى بهم قاعدا في مرضه وصلوا قياما أمره بالقعود، وقال: (لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضهم بعضا)، وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود.
عباد الله: ومن بلغه سلام من غائب وجب الرد عليه، فإن كان بواسطة شخص فإنه يقول في الرد. وعليه السلام، وإن كان بواسطة كتاب فإن قرأه يقول: وعليكم السلام، فيرد عليه بأحسن من تحيته أو مثلها.
فاتقوا الله – عباد الله – وأفشوا السلام بينكم لما فيه من المصالح والخيرات وإحياء السنة وإزالة الجفوة، فإنه من طيب الكلام، وقد قال الله تعالى: فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية [النور:61].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على فضله وإحسانه، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وشرع لنا ما يزكي النفوس، ويطهر الأخلاق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتمسكوا بمحاسن الأعمال ومكارم الأخلاق، واعلموا أن إفشاء السلام فيما بينكم له ثمرات عظيمة:
منها أنه من جملة الأسباب لدخول الجنة، قال : ((يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام )) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ومنها: أنه يورث المحبة في القلوب، قال : ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم )) رواه مسلم.
ومنها: أن السلام والمصافحة يسببان مغفرة الذنوب، قال : ((ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا )) رواه أبو داود والترمذي، سوقال الترمذي: حديث حسن غريب.
وقال : ((إن المسلم إذا لقي أخاه فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما يتحات الورق من الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحر)) رواه الطبراني.
بإسناد حسن، فاغتنموا هذه الثمرات العظيمة.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
(1/223)
في تحريم الضرر والضرار
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تخريج حديث " لا ضرر ولا ضرار " 2- أنواع المُضارّة بالناس 3- صور للإضرار
بالزوجة والأقارب والجيران وعموم المسلمين 4- الإضرار بالنفس
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وكونوا عباد الله إخوانا كما سماكم الله، يحب أحدكم لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه، يبذل خيره لأخيه ويكف عنه شره ولا يؤذيه، عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، حديث حسن روي مسندا ومرسلا، وله طرق يقوي بعضها بعضا، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وهو يدل على تحريم الضرر والضرار، ضد النفع، وقد دل الحديث على تحريم إيصال الضرر إلى الناس بغير حق في أبدانهم وأعراضهم وأولادهم وأموالهم، وفي الحديث الآخر: ((من ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه )).
والمضارة بالناس على نوعين:
النوع الأول: أن يضارهم في غير مصلحة تعود عليه في نفسه. وهذا لا شك في تحريمه وقبحه وقد ورد في القرآن الكريم النهي عن المضارة في مواضع: منها المضارة في الوصية، قال تعالى: من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [سورة النساء:12].
وفي الحديث عن أبي هريرة مرفوعا: ((إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضره الموت فيضار في الوصية فيدخل النار )) ثم تلا: تلك حدود الله إلى قوله: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين [سورة النساء:13-14]. وخرجه الترمذي وغيره بمعناه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم تلا هذه الآية.
وذلك لأن الله توعده أن يدخله النار خالدا فيها، وذلك لا يكون إلا على كبيرة.
والإضرار في الوصية على نوعين:
النوع الأول: أن يوصي لبعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له فيتضرر بقية الورثة، ولهذا قال النبي : ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)).
النوع الثاني: أن يوصي بزيادة على الثلث لغير وارث، فينقص حقوق الورثة، والنبي إنما رخص بالوصية بالثلث فأقل، فقال: ((الثلث، والثلث كثير)).
ومن المضارة المنهي عنها في القرآن: المضارة في العشرة الزوجية، كالمضارة بمراجعة الزوجة المطلقة إذا طلقها ثم راجعها من غير أن يكون له رغبة فيها، وإنما قصده حبسها حتى تصبح لا هي ذات زوج ولا مطلقة.
وفي الجاهلية كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت نهاية العدة راجعها إضرارا لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها، قال تعالى: فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا ًلتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه [سورة البقرة:231].
وقال تعالى: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً [سورة البقرة: 228].
فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة بالزوجة فإنه آثم بذلك.
ومن أنواع المضارة في العشرة الزوجية المضارة بالإيلاء بأن يحلف على ترك وطء زوجته، وقد أمر الله أن يضرب له مدة أربعة أشهر، فإن رجع في أثنائها وكفر عن يمينه ووطئ زوجته كان ذلك توبته، وإن استمر على يمينه ولم يطأ زوجته حتى مضت أربعة الأشهر ألزمه الحاكم إما بالرجوع إلى وطء زوجته والتكفير عن يمينه، وإما بالطلاق، وذلك لإزالة الضرر عن الزوجة، قال تعالى: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم [سورة البقرة: 226-227].
ومن المضارة في العشرة الزوجية أن يطيل الزوج السفر من غير عذر، وتطلب امرأته قدومه فيأبى، وحكمه أن يمهل ستة أشهر، فإن أبى القدوم بعد مضيها فإن الحاكم يفرق بينه وبين زوجته إذا طلبت ذلك دفعا للضرر عنها.
ومن أنواع المضارة الممنوعة في القرآن المضارة في تربية الأولاد كالمضارة في الرضاع.
قال تعالى: والوالدت يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده [سورة البقرة: 233].
فإضرار الوالدة بولدها أن يُنزع ولدها منها من أجل الإضرار بها، وإضرار المولود له (وهو الأب) بولده أن تأبى أمه أن ترضعه، ليتكلف الأبطلب المراضع والمربيات له من غيرها.
ومن أنواع الضرر المنهي عنه في القرآن: المضارة في المعاملات، كمضارة الكُتّاب والشهود الذين يكتبون الوثائق ويثبتون الحقوق بكتاباتهم وشهاداتهم، وقد نهى الله عن المضار بهم والمضارة منهم بأصحاب الحقوق، قال تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد [سورة البقرة:282].
فالإضرار بالكاتب والشاهد أن يدعيا للكتابة والشهادة في وقت أو حالة تضرهما، ومضارة الكاتب والشاهد لأصحاب الحقوق أن يكتب الكاتب غير ما يُملي عليه، ويشهد الشاهد بخلاف ما رأى أو سمع، أو يكتم الشهادة بالكلية عند الحاجة إليها.
ومن المضارة في المعاملات المضارة بالمدين المعسر الذي أمر الله بإنظاره إلى ميسرة أو إعفائه من الدين، قال تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون [سورة البقرة:280]. فلا تجوز مطالبته ولا حبسه ما دام معسرا. كما لا يجوز أن يضار المدين الواجد بالدائن فيما طلبه من قضاء حقه.
ومن المضارة المنهي عنها في المعاملات بيع المضطر، وذلك بأن يضطر الفقير إلى شراء سلعة، فلا يجد من يبيع عليه إلا بغبن فاحش، أو يضطر إلى بيع سلعة فلا يجد من يشتريها منه إلا برخص كثير. وقد روى أبو داود بسنده عن النبي أنه أخبر الناس، فقال: ((إنه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك )). قال تعالى: لا تنسوا الفضل بينكم [سورة البقرة:237].
ويبايع المضطرون وقد نهى رسول الله عن بيع المضطر.
وفي رواية: قال رسول الله : ((إن كان عندك خير تعود به على أخيك،وإلا فلا تزيدنه هلاكا إلى هلاكه )).
وقد سئل أحمد عن بيع المضطر ما معناه؟ قال: يجيئك وهو محتاج، فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين.
عباد الله: إنه لا مانع من البيع المؤجل بثمن أكثر من الثمن الحاضر للمحتاج وغير المحتاج، ولكن لا ينبغي أن يكون الزيادة كثيرة مجحفة، لا سيما إذا كان المشتري مضطرا إلى الشراء، فلا ينبغي أن تستغل ضرورته، ويحمل الزيادات الباهظة، لأن هذا إضرار يتنافى مع الرحمة والفضل بين المسلمين.
ومن أنواع الضرر الممنوع في الإسلام الضرر في مجال العبادات، قال تعالى: والذين اتخذوا مسجدا ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فهيا أبداً [سورة التوبة:107-108].
فاعتبر الضرر الحاصل في اتخاذ هذا المسجد في مطلع المقاصد السيئة، ومنع رسوله من الصلاة فيه وأمر بهدمه.
النوع الثاني: أن يضار الناس بما فيه له منفعة خاصة مثل أن يتصرف في ملكه بما يترتب عليه الإضرار بجيرانه، مثل أن يغرس في ملكه شجرا تتمدد أغصانه وفروعه على أملاك جيرانه، أو يحفر بئرا تجذب الماء عنهم، أو ينشيء مصنعا في ملكه يتضرر منه جيرانه بالدخان أو الغبار أو الأصوات أو الروائح، أو يفتح في جداره نوافذ تطل على جيرانه أو يعلي البناء عليهم فيمنع عنهم الهواء، والشمس إلى غير ذلك فإن هذا الضرر ممنوع تجب عليه إزالته.
وكذلك من أعظم المضار بالجيران أن يؤجر بيته لأناس لا يصلون ولا يخافون الله، فإن هؤلاء يضرون المسلمين ويضايقونهم وقد يؤثرون على أولادهم ومن خالطهم، فاتقوا الله يا من تؤجرون الكفرة والفساق وتسكنونهم بجوار المسلمين، فإن الأجرة التي تحصل منهم لكم حرام والمسلمون يدعون عليكم فتلحقكم الآثام، وكذلكم يحرم تأجير الدكاكين والمحلات لبيع المواد المحرمة كتسجيلات الأغاني وأشرطة الفيديو أو جعلها محلات للتصوير أو بيع التبغ ويجب على الحاكم إزالة الضرر إذا اشتكى منه الجيران وامتنع من إزالته.
ومتى الإضرار الممنوع في حق الجار: منعه من الانتفاع بملك جاره على وجه لا يضر به، كأن يحتاج إلى وضع خشبة على جدار جاره، والجدار يتحمل فإنه يجب على صاحب الجدار أن يمكنه من ذلك، لما في (الصحيحين) عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه على جداره )) ، وقضى عمر ابن الخطاب على محمد بن مسلمة أن يجري ماء جاره في أرضه لما احتاج إلى ذلك، وقال: لتمرن بك لو على بطنك.
ومن الإضرار الممنوع أن يمنع الناس من الانتفاع بالمباحثات المشتركة، كالمنع من فضول المياه الجارية في الأنهار والأودية والمجتمعة في الخوابي وغيرها، أو يمنعوا من الرعي في الفلوات، أو الاحتشاش أو الاحتطاب من الأراضي الموات، أو الانتفاع بالمعادن المباحة كمعان الملح وغيره، في (الصحيحين) عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ)) ، وفي (سنن أبي داود): أن رجلا قال للنبي : يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه، قال: ((الماء))، قال: يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال (( الملح ))، قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه، قال: (( أن تفعل الخير خير لك ))، وقال : ((الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ)).
ومن الإضرار الممنوع: مضارة الناس في طرقاتهم بوضع الأذى فيها، أو وضع ما يمنع المرور أو يسبب الحوادث، أو مخالفة أنظمة السير بما يعرض الناس للخطر، كل هذا ضرر محرم.
فاتقوا الله عباد الله، وعليكم ببذل النفع لإخوانكم وجيرانكم ومنع الضرر والضرار: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب [سورة المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه بالدين والهدى وكلمة التقوى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا في الآخرة والأولى.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه كما يحرم على المسلم أن يضر بالناس يحرم عليه أن يضر نفسه، كأن يعرضها للخطر من غير مصلحة راجحة، قال تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [سورة البقرة:195].
وقد توعد الله من قتل نفسه بأشد الوعيد، قال تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً [سورة النساء: 29-30].
وكذلك من تسبب في قتل نفسه أو إمراض جسمه أو الإخلال بعقله بتناول المسكرات والمخدرات وشرب الدخان والقات، فإنه متوعد بأشد الوعيد ومعرض لأشنع العقوبات في الدنيا والآخرة.
ومن الإضرار بالنفس: التشديد عليها وتعريضها للمشقة في أمور العبادات، وقد شرع الله لعباده شريعة سمحة لا حرج فيها، فقال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [سورة البقرة:185]. وقال: وما جعل عليكم في الدين من حرج [سورة الحج:78].
شرع لأصحاب الأعذار من المرضى والمسافرين والخائفين أحكاما تخصهم في الصلاة والصيام وتتناسب مع أحوالهم، وشرع لعباده الاقتصاد في العبادة مع المداومة عليها، فخير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل.
ونهى عن الغلو والتشدد، قال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم [سورة المائدة:77]. وقال النبي : ((إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)).
والغلو: هو الزيادة عن الحد المشروع، ولما بلغ النبي أن ثلاثة من أصحابه أراد أحدهم أن يصوم فلا يفطر، وأراد الآخر أن يقوم الليل فلا يرقد وأراد الثالث أن لا يتزوج النساء، قال : (( أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )).
فعليكم عباد الله باتباع الكتاب والسنة في عباداتكم، فخير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها...
(1/224)
سر التوحيد
التوحيد
الألوهية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
7/6/1407
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
جانب السلب والنفي في الإيمان ووجوب الكفر بالطاغوت – حق الله تعالى وما ينبني على ذلك
علم الربوبية وثمرته – توحيد الألوهية وثمرته – الأصلان اللذان جمعهما قوله تعالى : ( إياك
نعبد وإياك نستعين ) – الفارق بين التذلل لله والتذلل للخلق , ومحبة الله ومحبة المخلوقين -
سر التوحيد أن تكون كلك لله – كيفية تحقيق الإيمان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد بينا فيما مضى طرفاً من معاني الإيمان بالله تعالى وشيئاً من موضوعات هذا الإيمان ودارت أحاديثنا بين أربع دعائم هي العلم والعمل والتوحيد والجهاد.
ونبدأ منذ اليوم إن شاء الله تعالى في بيان طرف آخر من موضوعات الإيمان بالله تعالى وهو جانب السلب والنفي والضد والنقيض فالإيمان ضده الكفر والتوحيد ضده الشرك، وكما أنك مؤمن بالله تعالى فيجب عليك أن تكفر بالطاغوت وسيدنا رسول الله لما عرف الإيمان في حديث [1] جبريل بدأ ذلك بقوله: ((أن تؤمن بالله))، وفي حديث [2] وفد عبد قيس فصل التعريف فقال:- ((أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً)) فالإيمان بالله الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له لا يفسده شئ مثل الشرك، ولذلك أكد النبي على معنى الإيمان بنفي الشرك فلا إيمان ولا عبادة مع الشرك، وقال في حديث [3] معاذ بن جبل رضى الله عنه: ((أتدري يا معاذ ما هو حق الله على عباده؟ قال معاذ قلت:- الله ورسوله أعلم. فقال حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري يا معاذ ماحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قال:- قلت الله ورسوله أعلم. قال:- ألا يعذبهم)).
هنا في حق الله تعالى الذي هو عبادته وحده لا شريك له وتوحيده في هذه العبادة ينبني على ذلك انكشاف علمين للعبد علم الربوبية وعلم الألوهية.
ففي علم الربوبية إذ انكشف للعبد مشهد الربوبية للخالق سبحانه وتعالى فرأى بنور قلبه وبصيرته تدبير الرب سبحانه للخلق وقيامه على كل شئ فهو الخالق وهو المالك لكل شئ، وشهد سر قوله: كن فيكون ، إذا انكشف للعبد ذلك المشهد وحّد تعالى في الاستعانة به، والتوكل عليه والتسليم والتفويض له إذ رأى بنور قلبه ونور بصيرته أنه سبحانه هو النافع الضار المعطي المانع الذي يقلب الليل والنهار ويدبر الكون ويربي الخلق، وفي علم الألوهية إذا انكشف للعبد أن الله تعالى هو الإله الحق الذي يستحق العبادة لذاته والذي تألهه القلوب وترغب إليه، وتدفع عند الشدائد كل ما سواه فهو مقهور له تعالى مفتقر إليه تعالى، مقهور له بالعبودية له فلا يصلح أن يكون إلهاً بل الإله الحق هو الله سبحانه وتعالى الذي لا إله إلا هو ألا له الأمر كما له الخلق.
إذا رأى العبد بنور قلبه وبنور بصيرته سر تلك الكلمات الشرعيات كما رأى سر تلك الكلمات الكونيات وحد الله تعالى في الألوهية كما وحده في الربوبية.
فالتوحيد بالأمر والنهى والتوحيد بالمحبة والخوف والرجاء يكون عن كشف للألوهية والتوحيد في الاتكال والتسليم والتفويض والاستعانة يكون عن كشف علم الربوبية والمؤمن الموفق هو الذي جمع بين الأصلين أصل إياك نعبد وأصل: إياك نستعين [الفاتحة:5].
ففي إياك نعبد سر الألوهية وفي إياك نستعين سر الربوبية.
ولا يصح في العقول أن تستعين به تعالى ولا نعبده، ويمكن أن تعبده ولا تستعين والمخلوق كما ازداد تذللاً لله تعالى وخضوعًا له وانقيادًا لأمره.
أي كلما ازداد العبد عبودية بالله تعالى ازدادت درجته وعظمت درجته عنده سبحانه وتعالى وارتقى عنده في سلم الكمال بخلاف المخلوقين فإنك كلما ازددت خضوعًا لهم واحتياجًا وافتقارًا إليهم نقصت درجتك وقل مقامك عندهم.
فالعزيز المكرم عندهم هو الذي استغنى عنهم والذليل المهان عندهم هو الذي احتاج إليهم وإكرام الناس لك وحبهم إياك إنما هو بما يحصل منك أو بسببك من نفع لهم فلو لم يكن منك ولا بسبب نفعك لهم ما أحبوك وما أكرموك. فعبودية المخلوق للمخلوق عبودية متبادلة فالمخلوق آمرًا أو مأمورًا سيدًا أو مسودًا مالكًا أو مملوكًا كل منهم عبد للآخر بقدر احتياجهم إليه وافتقاره له.
فإذا ذهب الاحتياج وانتفى الافتقار انقطعت المحبة بين المخلوقين. أما الإله الحق المعبود الحق الله سبحانه وتعالى فافتقارك أيها العبد إليه واحتياجك له دائم لا ينقطع فلا صلاح لقلبك ولا لروحك إلا به سبحانه وتعالى فهو الله الذي لا إله إلا هو فروحك لا تطمئن إلا به سبحانه وتعالى، وهي كادحة إليه كدحًا فملاقيته فلابد لروحك من لقائه ولا تصلح إلا بلقائه ولا تستغني أيها العبد عن إلهك سبحانه في كل حال وفي كل وقت فهو معك أينما كنت وكيفما كنت لا تغيب عنه ولا يغيب عنك، فهو الدائم الباقي الحي القيوم سبحانه وتعالى.
وأما ما سواه فلا يستحق العبادة ولا الألوهية لأنه ليس دائمًا ولا باقيًا ولا حيًا ولا قيامًا، ألم تر إلى قول إبراهيم أبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام: لا أحب الآفلين [الأنعام:76] وذلك في مشهد قومه الذين كانوا يعبدون الكواكب الشمس والقمر والنجوم.
فانتظر حتى غاب القمر وأفل فقال لا أحب الآفلين فذلك الذي يزعمون أنه إلههم ليس دائمًا ولا باقيًا معهم بدليل أفوله والذي يأفل وينقطع وينتهي لا يستحق أن يكون إلهًا معبودًا، فسر التوحيد أيها المؤمن أن تكون كلك لله تعالى لأنك خلقت له فلا يكن شيء منك لغيره مساويًا له، سبحانه وتعالى حبك لله وحبك لغيره إذا تساوى قد أشركت، وحبك لله وخوفك من الله وخوفك من غيره إذا تساويا أشركت ورجاؤك في الله ورجاؤك في غيره إذا تساويا أشركت.
أنت إنما خُلقت لله فلا تعبد إلا الله والله هو الذي خلقك فلا تستعن إلا بالله فإذا عبدت الله وعبدت معه غيره أشركت وإذا استعنت بالله واستعنت معه بغيره أشركت ذاك هو مقام التوحيد وهذه هي حفرة الشرك.
فتحقيق الإيمان أيها المؤمن أن تقف في مقام التوحيد وتسلم من حفرة الشرك.
روي في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: ((يا ابن آدم خلقتُ كل شيءٍ لك وخلقتك لي فبحقي عليك ألا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له)).
فالنعم التي أنعم الله بها عليك أيها العبد خلقت لك فلا تشغلك هذه النعم التي خُلقت لك عن ما خُلقت أنت له وهو عبادته سبحانه وتعالى وانظر كيف يكون حالك، وانظر كيف يكون هذا الظلم الذي وقعت فيه إذا اشتغلت بالنعم التي خلقها الله لك عن العبادة التي خلقك الله من أجلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات:56-58].
أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان (1/27) من حديث أبي هريرة.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم باب تحريض النبي (1/45).
[3] أخرجه البخاري في صحيحه في الجهاد باب اسم الفرس والحمار (3/1049).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102]. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:07-71].
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/225)
من شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم (1)
سيرة وتاريخ
الشمائل
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالتأسي بالنبي. 2- جمال خلقته. 3- نسبه وبلاده. 4- الضروريات الخمس
التي بعث رسول الله لصيانتها. 5- عفو النبي عمن أساء إليه. 6- تواضعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلموا عباد الله أن رسول الله كان أكمل الناس خلالا، وأفضلهم حالا، وأفصحهم مقالا، وقد امتن الله عز وجل علينا ببعثته فقال عز وجل: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [التوبة:128]. وزكاه الله عز وجل: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].
ثم أمرنا الله عز وجل بالاقتداء به ، والاهتداء بهديه، والتخلق بأخلاقه، فقال عز وجل: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [الأحزاب :21].
أما كمال خلقته وجمال صورته فشيء معلوم لا يُجهل، معروف لا يُنكر، فقد كان أزهر اللون أبيض مستنير مائل إلى الحمرة، واسع الجبين، أدعج العينين (الدعج: شدة سواد العينين مع سعتهما) وقيل: أكحل، أهدب الأشفار ( [1] ) ، مفلج الأسنان، كث اللحية تملأ صدره، عظيم المنكبين، رحب الكفين والقدمين، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردد، رجل الشعر ( [2] ) ، إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من ثناياه.
روى البخاري عن البراء بن عازب أنه سئل: أكان رسول الله مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر ( [3] ).
وروى يعقوب بن سفيان عن محمد بن عمار بن ياسر قال: قلت للربيع بنت معوذ: صفي لي رسول الله قالت: يا بني لو رأيته رأيت الشمس طالعة.
وثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله كان يضرب شعره إلى منكبيه ( [4] ).
قال ناعته: ما رأيت أحدا في حلة حمراء مرجلا، أحسن منه ، كأن الشمس تجري في وجهه، وإذا ضحك يتلألأ في الجد، وأجمل الناس من بعيد، وأحسنه من قريب، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه.
قال ناعته: لم أر قبله ولا بعده، طيب الرائحة والعرق، ولقد كان يعرف برائحته وإن لم ير، ولقد كان يضع يده على رأس الطفل رحمة له فكانت تشم عليه رائحة طيبة.
وأما فصاحة لسانه :
فقد أطل من الفصاحة على كل نهاية، وبلغ من البلاغة كل غاية، فقد أوتي جوامع الكلم، وبدائع الحكم فلقد كان يخاطب كل حي من أحياء العرب بلغتهم، مع أنه إنما نشأ على لغة بني سعد وقريش، وكان يعرف لغات غيرهم، حتى كانوا يتعجبون منه ويقولون: ما رأينا بالذي هو أفصح منك.
وأما نسبه :
فمعلوم لا يجهل، ومشهود لا ينكر، جده الأعلى إبراهيم، والأقرب عبد المطلب، كابرا عن كابر، وشريفا عن شريف، فهم بين أنبياء فضلاء، وبين شرفاء حكماء، فهو من خير قرون بني آدم، وذلك أن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم، ومن ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاه من بني هاشم، فهو خيار من خيار من خيار، وكذلك الرسل تبعث في أشرف أنساب قومها، ليكون أميل لقلوب الخلق إليهم.
وأما عزة قومه :
فقد كانوا في جاهليتهم لم ينلهم سباء، ولا ظفرت بهم أعداء، ولا دخلوا في أغلب أزمانهم تحت قهر غيرهم، بل كانوا قد حازوا الشرف الباهر والمفاخر والمآثر، هم أوفر الناس عقولا، وأقلهم فضولا، وأفصح الناس مقالا، وأكرمهم فعالا، الشجعان الكرماء، والحكماء الأدباء.
وأما أرضه :
فناهيك عن أرض أسس بقيتها إبراهيم الخليل، وأمره بأن يدعو الناس إليها الملك الجليل، وتولى عمارتها والمقام بها النبي إسماعيل، وتوارثها الأشراف جيلا بعد جيل، وكفى بلدته شرفا ما فعل الله بملك الحبشة الذي جاء لهدمها، فلما قرب منها وعزم على هدمها ووجه فيله عليها، أرسل الله عليهم طيرً أبابيل.
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل (1/226)
من شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم (2)
سيرة وتاريخ
الشمائل
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اعتراف قريش بصدق النبي. 2- كرم النبي. 3- شجاعة النبي. 4- وفاء النبي بالوعود.
5- حسن سمت النبي. 6- طهارة النبي. 7- خوف النبي ووجله في ربه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فهذه تكملة عباد الله لشمائل المصطفى.
أما عدله وصدقه وأمانته وصدق لهجته : فكان آمن الناس، وأعدل الناس وأعف الناس، وأصدقهم لهجة منذ كان.
اعترف بذلك محادوه وعداته، وكان سمى قبل النبوة (الأمين)، وذلك لما جعل الله فيه من الأخلاق الصالحة.
ومما يدل على ذلك، أن قريشا لما بنت الكعبة، اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود موضعه؟ فحكموا بينهم أول داخل عليهم، فإذا بالنبي محمد داخلا، فقالوا : هذا محمد، هذا الأمين قد رضينا به، وذلك قبل أن يبعث.
ولقد اجتمع الأخنس بن شريق، مع أبي جهل يوم بدر، وكلاهما مخالف له وعدو له، قد أجمع على قتله وقتاله، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا، فأخبرني عن محمد أصادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله إن محمد لصادق وما كذب محمد قط.
فاعترف أعداؤه بمناقبه، ولا يقدرون على إنكار شيء من فضائله، وأدل دليل على عدله، وعظيم تواضعه وفضله، أنه كان قد انتهى به الأمر إلى أن تهابه الملوك، وتفرق منه الجبابرة، ومع ذلك فإنه كان يوفي لكل ذي حق حقه، ويعرف لذي الفضل فضله، حتى كان يقول: ((إني أريد أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في أهل ولا مال)) ولأجل ذلك أقاد عكاشة بن محصن من نفسه، وذلك أنه ضربه بقضيب في ظهره غير قاصد لضربه، فقال له عكاشة إنك قد أوجعتني فأقدني، (أي مكني منك حتى أضربك مثلما ضربتني) فكشف له عن ظهره وناوله القضيب وقال: (اضرب) فأكب عكاشة على ظهره يقبله وقال: إنما أردت أن يمس جلدي جلدك.
وأما كثرة جوده وكرمه: فشيء معلوم من شيمه، فلقد تواتر أنه كان أكرم الناس، وأجودهم، حتى أنه ما سئل شيئا قط فمنعه، إذا كان ذلك الشيء لا يمنع شرعا.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة ( [1] ).
وروى مسلم وأحمد عن أنس أن رسول الله لم يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه، قال: ((فأتاه رجل فأمر له بشاءٍ كثير بين جبلين من شاء الصدقة، قال فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخش الفاقة)).
وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: ((ما سئل رسول الله شيئا قط فقال :لا)).
وكان ربما كان السائل لا يجد عنده شيئا، فيأخذ له بالدين ويعطيه السائل حتى يقضيه النبي.
وكان هذا معروفا من شيمه قبل بعثته، حتى قالت له خديجة رضي الله عنه: إنك لتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر.
وأما شجاعته ونجدته : فكان منها بالمكان الذي لا يجهل، وحظه منها الحظ الأوفى الأفضل، فقد كان مارس الضراب، ووقف مواقف الصعاب، لا يبالي بكثرة العدد، ولم يفر قط أمام أحد، وما من شجاع إلا وقد أحصيت له فرة، وإن كان له بعدها كرة إلا هو ، فلم يدبر قط منهزما ولا فارق مكرها ملتزما.
كان علي بن أبي طالب يقول: كنا إذا اشتد البأس وحميت الحرب اتقينا برسول الله ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتنا يوم بدر نلوذ برسول الله وهو أقربنا إلى العدو، ولقد كانت الصحابة تقول إن الشجاع منا للذي يقوم بجانبه يستتر به.
وقيل لـ(أنس) أفررتم يوم حنين عن رسول الله فقال: لكن رسول الله لم يفر.
ثم قال: لقد رأيته على بغلته البيضاء وأبو سفيان آخذ بلجامها والنبي يقول:
((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب )) ( [1] ).
قيل: فما رؤي يومئذ أحد كان أجرأ منه ولا أشد، وقد روي عنه أنه نزل عن بغلته متوجها نحو العدو.
وقال العباس بن عبد المطلب: لما التقى المسلمون والكفار يوم حنين ولى المسلمون مدبرين فطفق النبي يركض بغلته نحو الكفار قال ابن العباس : وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع.
وفي الصحيحين واللفظ عن أنس قال: كان رسول الله أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة في عنقه السيف وهو يقول: )) لم تراعوا لم تراعوا. قال: وجدناه بحرا أو إنه لبحر - (والبحر الواسع الجري)- قال: وكان فرسا يبطأ)) ( [1] ).
وأما وفاؤه بالوعد:
فلا يتمارى فيه إلا خسيس وغد، فقد كان أحفظ الناس بعهد، وأوفاهم بميثاق ووعد، وأحسنهم جوارا، وأصدقهم قولا وأخبارا، وكان المعلوم من سيرته أنه كان يعتقد العقود والمواثيق بينه وبين عداته، وغيرهم فيفي بها ويؤذنهم بانقضائها عند تمامها، ولم يغدر قط في شيء منها، ولقد كان هذا معروفا عند أعدائه، كما هو معروف عند أوليائه.
ولما سأل هرقل ملك النصارى كفار قريش عن صفات النبي قال: فهل يغدر؟ قالوا له: لا. فقال لهم: كذلك الرسل لا تغدر ( [1] ) ، وكيف يغدر وهو يقول: (( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به يقال هذه غدرة فلان)) ( [1] ).
ولقد جاءه المغيرة بن شعبة مسلما، وجاء معه بمال قوم من الجاهلية كان قد صحبهم ثم قتلهم وأخذ أموالهم، فقال له النبي : ((أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء)).
ولما بلغ ملك عمان أن رسول الله يدعوه إلى الإسلام قال: والله لقد دلني هذا أن هذا نبي، أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، ويفي بالعهود، وينجز الموعود، أشهد أنه نبي.
وأين هذا عباد الله مما يحكي اليهود والنصارى في كتبهم، من أن موسى عليه السلام لما أراد الخروج من مصر استعار حُليّ بني إسرائيل، ثم فر بها ليلا.
وعند الانتهاء إلى هذا المقام، يعلم العاقل ما في كتب القوم من الأباطيل والأوهام، وموسى عليه السلام مبرأ عن النقائض والآثام.
ومن وفائه بالعهد وقيامه في حفظه بالحد، أنه قدم عليه وفد النجاشي فقام يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه : نحن نكفيك، فقال: ((إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم )).
وحقيقة الوفاء بالعهد تتميم ما ربط من العقد، ومراعاة ما تقدم من الود، ومكافأة من له يد، وقد كانت هذه الخصال اجتمعت فيه لا ينازعه في ذلك أحد.
وأما حسن سمته وتؤدته وكثرة حيائه ومروءته.
فشيء لا يجحد ولا يجهل، ولا يلحقه في شيء من ذلك أحد.
كان كثير الصمت والوقار، طويل الإطراق والاعتبار، تكسو هيبة وقاره جلساءه، حتى إذا جلسوا بين يديه، كأن على رؤوسهم الطير إعظاما له وهيبة منه.
مجلسه أوقر المجالس، لا يسمع فيه صخب الأصوات، ولا اختلاط اللغات، ليس فيه مراءٌ ولا جدال، ولا للهجر والفحش فيه مجال، لا تؤبن في مجلسه الحرم، ولا يغض فيه من الأقدار والقيم، بل كان مجلس علم، وأصحابه يعظمون في مجلسهم معه حرمات الله، ويتعلمون منه أحكام الله، فتارة يعلمهم أمور الآخرة كأنهم ينظرون إليها، وأخرى يعلمهم أحكام شريعته كي يعملوا بها.
روى البخاري عن أبي سعيد قال L ( كان النبي أشد حياء من العذراء في خدرها)) ( [1] ).
وروى أبو داود عن عائشة قالت: (( كان النبي إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل ما بال فلان يقول. ولكن يقول ما بال أقوام يقولون كذا وكذا )) ( [1] ).
وروي في الحديث أن رسول الله قال: ((لا يبلغني أحد عن أحد شيئا إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر )) ( [1] ).
وروى البخاري عن عائشة: ((أن رسول الله كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه )) ( [1] ).
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: ((ما عاب رسول الله طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه )) ( [1] ).
وكان كلامه فصلا يفهمه كل من سمعه، وربما تكلم بالكلمة ثلاثا حتى تفهم عنه، وكان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه، وكان إذا مر بقوم يسلم عليهم ثلاثا، وكان يحافظ على مروءته، وعلى استقامة حالته، وتحسين هيئته، يمشي هونا كأنما ينحط من صبب.
وكان يحب الطيب وقال : ((حُبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة )) ( [1] ).
وكان يستعمل السواك وخصال الفطرة.
وأما خوفه من الله تعالى واجتهاده في عبادته: فقد بلغ من ذلك إلى حد لم يبلغه أحد من الخليقة، وذلك أن الله تعالى كلفه من وظائف العبادات ما لم يكلف به أحد من الخليقة، وهو مع ذلك لا يقصر في شيء منها، بل كان يبذل غاية اجتهاده ووسعه في أدائها، فمن العبادات التي كلف بها تحمل أعباء الوحي ومشقة ثقله، فقد كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
ولأجل هذا قال الله تعالى: إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً [المزمل:5].
فكان يعرض نفسه ودينه على قبائل العرب وعلى وفودها إذا قدموا مكة لمواسم الحج، فيعيب آلهتهم، ويسفه أحلامهم، فيردون عليه قوله، ويكذبونه، ويسبونه، ويؤذونه بأقصى ما يمكنهم من أنواع الأذى، فيصبر على ذلك ويحتسب ما يلقاه على الله، فلسان حاله ينشد:
لا أبالي إذا رضيت إلهي أي أمر من الأمور دهاني
فأقام على ذلك بمكة ثنتي عشرة سنة، يدعو الناس من غير قتل ولا قتال، وذلك كله ليظهر الإسلام، وتنتشر دعوته، لئلا يكون لأحد حجة على الله ورسوله.
وبعد ذلك أمر بالهجرة من مكة إلى المدينة، ففارق أهله وعشيرته وحاله وماله وولده وبلده، ولم يعظم عليه مفارقة شيء من ذلك في ذات الله، فترك كل ذلك إلى الله فوقع أجره على الله.
فلما حل بالمدينة افترض الله عليه القتال، فقاتل في ذات الله جميع من كفر بالله غير مقصر في ذلك ولا مفرط بل جادا مجتهدا، حتى أظهر الله دينه وإن رغمت أنوف الجاحدين.
وفي كل ذلك الزمان كان يقوم بوظائف الشريعة وعباداتها، فصلى حتى تورمت قدماه، وصام حتى كان القائل يقول لا يفطر لكثرة ما كان يرى من صومه ووصاله.
وكان يذكر الله ويعظمه ويمجده ويشكره على كل أحواله من غير تقصير ولا فتور، ولا تشغله عبادة عن عبادة، ولا عمل زمان عن عمل زمان آخر.
وكان عمله دائما، وكذلك كان يقول : ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)) ( [1] ) فكان يراعي أنفاسه مع الله لا يضيع شيئا مما كلفه خوفا من الله وكان يقول : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)) ( [1] ).
وكان يقول: ((والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية )) ( [1] ).
ووصف خوفه يطول، ومعرفة ذلك من حاله لا ينكره عليم ولا جهول، إذا كان من أهل الإنصاف والعقول.
وعلى الجملة فمناقبه الشريفة لا تحصى، وما خص به من الأخلاق الكريمة عدد الحصى، كيف لا ؟ وقد قال الله تعالى: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].
وما عظمه العظيم فهو عظيم، وكيف لا يكون كذلك وقد بعثه الله متمما لمكارم الأخلاق.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/227)
التوحيد
التوحيد
أهمية التوحيد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
15/6/1407
قباء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد بينا فيما مضى طرفًا من معاني الإيمان بالله تعالى وشيئًا من موضوعات هذا الإيمان ودارت أحاديثنا حول أربع دعائم هي العلم والعمل والتوحيد والجهاد. ونبدأ منذ اليوم إن شاء الله تعالى في بيان طرف آخر من موضوعات الإيمان بالله تعالى وهو جانب السلب والنفي والضد والنقيض فالإيمان ضده الكفر والتوحيد ضده الشرك فكما أنك تؤمن بالله تعالى فيجب عليك أن تكفر بالطاغوت، وسيدنا رسول الله لما عرف الإيمان في حديث جبريل بدأ ذلك بقوله: ((أن تؤمن بالله)). [1]
وفي حديث وفد عبد القيس فصل التعريف فقال: ((أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا)) [2] فالإيمان بالله الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له لا يفسده شيء مثل الشرك ولذلك أكد النبي على معنى الإيمان بنفي الشرك فلا إيمان ولا عبادة مع الشرك وقال في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((أتدري يا معاذ ما حق الله على عباده قال معاذ: قلت: الله ورسوله أعلم. فقال : حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري يا معاذ ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ألا يعذبهم)) [3].
هنا في حق الله تعالى الذي هو عبادته وحده لا شريك له وتوحيده في هذه العبادة ينبئ هذا على انكشاف علمين للعبد؛ علم الربوبية وعلم الألوهية، ففي علم الربوبية إذا انكشف للعبد مشهد ربوبية الخالق العظيم سبحانه وتعالى فرأى بنور قلبه وبصيرته تدبير الرب سبحانه للخلق وقيامه على كل شيء فهو الخالق وهو المالك لكل شيء، وشهد سر قوله: "كن فيكون".
إذا انكشف للعبد هذا المشهد وحد الله تعالى في الاستعانة به والتوكل عليه والتسليم والتفويض له إذ رأى بنور قلبه ونور بصيرته أنه سبحانه هو النافع الضار المعطي المانع الذي يقلب الليل والنهار ويدبر الكون ويربي الخلق، وفي علم الألوهية إذا انكشف للعبد أن الله تعالى هو الإله الحق الذي يستحق العبادة لذاته والذي تألهه القلوب وترغب إليه وتفزع إليه عند الشدائد وكل ما سواه هو مقهور له تعالى مفتقر إليه تعالى، مقهور له بالعبودية له فلا يصلح أن يكون إلهًا بل الإله الحق هو الله سبحانه وتعالى الذي لا إله إلا هو الذي له الأمر كما له الخلق.
إذا رأى العبد بنور قلبه ونور بصيرته سر تلك الكلمات الشرعيات كما رأى سر تلك الكلمات الكونيات وحد الله تعالى في الألوهية كما وحده في الربوبية.
فالتوحيد بالأمر والنهي، والتوحيد بالمحبة والخوف والرجاء يكون عن كشف علم الألوهية، والتوحيد في الاتكال والتسليم والتفويض والاستعانة يكون عن كشف علم الربوبية، والمؤمن الموفق هو الذي رزق كلا المقامين ووقف على كلا المشهدين فلم يشغله مشهد الربوبية عن مشهد الألوهية، المؤمن الحق هو الذي جمع بين الأصلين أصل إياك نعبد وأصل إياك نستعين [الفاتحة:5].ففي (إياك نعبد) سر الألوهية وفي (إياك نستعين) سر الربوبية ولا يصح في العقول أن تستعين به تعالى ولا تعبده ولا يمكن أن تعبده ولا تستعين به، والمخلوق كلما أراد تذللاً لله تعالى وخضوعًا له وانقيادًا لأمره أي كلما ازداد العبد عبودية لله تعالى عظمت درجته عنده سبحانه وارتقى عنده في سلم الكمال بخلاف المخلوقين، فإنك كلما ازددت خضوعًا لهم واحتياجًا إليهم نقصت درجتك وقل مقامك عندهم، فالعزيز المكرم عندهم هو الذي استغنى عنهم والذليل المهان عندهم هو الذي احتاج إليهم وإكرام الناس لك، وحبهم إياك إنما هو بما يحصل منك أو بسببك من نفع لهم فلو لم يكن منك ولا بسببك نفع لهم ما أحبوك ولا أكرموك فعبودية المخلوق للمخلوق عبودية متبادلة فالمخلوق آمرًا أو مأمورًا سيدًا أو مسودًا مالكًا أو مملوكًا كل منهم عبد للآخر بقدر احتياجه إليه وافتقاره له، فإذا ذهب الاحتياج وانتفى الافتقار انقطعت المحبة بين المخلوقين، أما الإله الحق المعبود الحق سبحانه وتعالى، فافتقارك أيها العبد إليه واحتياجك له دائم لا ينقطع فلا صلاح لقلبك ولا لروحك إلا به سبحانه وتعالى فهو الله الذي لا إله إلا هو وروحك لا تطمئن إلا بذكره سبحانه وهى كادحة إليه كدحًا فملاقيته فلابد لروحك من لقائه ولا تصلح إلا بلقائه ولا تستغني أيها العبد عن إلهك سبحانه في كل حال وفي كل وقت فهو معك أينما كنت وكيفما كنت لا تغيب عنه ولا يغيب عنك فهو الدائم الباقي الحي القيوم سبحانه وتعالى، وأما ما سواه فلا يستحق العبادة والألوهية لأنه ليس دائمًا ولا باقيًا ولا حيًا ولا قيامًا ألم تر إلى قول إبراهيم أبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام: لا أحب الآفلين [الأنعام:76]. وذلك في مشهد قومه الذين كانوا يعبدون الكواكب الشمس والقمر والنجوم فانتظر حتى غاب القمر وأفل فقال: "لا أحب الآفلين" فذلك الذي يزعمون أنه إلههم ليس دائمًا ولا باقيًا معهم بدليل أفوله والذي يأفل وينقطع وينتهي لا يستحق أن يكون إلهًا معبوداً.
فسر التوحيد أيها المؤمن هو أن تكون كلك لله تعالى، لأنك خلقت له فلا يكن شيء منك لغيره مساويًا له سبحانه وتعالى، حبك لله وحبك لغيره إذا تساويا أشركت وخوفك من الله وخوفك من غيره إذا تساويا أشركت ورجاؤك في الله ورجاؤك في غيره إذا تساويا أشركت، أنت إنما خلقت لله فلا تعبد إلا الله والله هو الذي خلقك فلا تستعن إلا بالله فإذا عبدت الله وعبدت معه غيره أشركت وإذا استعنت بالله واستعنت معه بغيره أشركت، ذاك هو مقام التوحيد وهذه هي حفرة الشرك، فتحقيق الإيمان أيها المؤمن أن تقف في مقام التوحيد وتسلم من حفرة الشرك، روي في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: ((يا بن آدم خلقت كل شيء لك وخلقتك لي فبحقي عليك ألا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له)).
فالنعم التي أنعم الله بها عليك أيها العبد خلقها لك فلا تشغلك هذه النعم التي خلقت لك عما خلقت أنت له، وهو عبادته سبحانه وتعالى وانظر كيف يكون حالك وانظر كيف يكون هذا الظلم الذي وقعت فيه إذا اشتغلت بالنعم التي خلقها الله لك عن العبادة التي خلقك الله من أجلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات:56-58].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في الإيمان باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان (1/27) من حديث أبي هريرة.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في العلم ، باب تحريض النبي (1/45) رقم (87).
[3] أخرجه البخاري في صحيحه في الجهاد باب اسم الفرس والحمار (3/1049).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ويعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56] اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين عليّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/228)
فيما يجب أن يكون عليه بيت المسلم
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة السكن والإقامة 2- صفات البيوت المؤمن سكنها 3- البيوت التي تهجرها الملائكة
4- الاستئذان في دخول البيوت
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى كما أمركم بتقواه، واشكروا نعمه عليكم. فما بكم من نعمة فمن الله.
عباد الله: إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى، ويجب علينا أن نقابل هذه النعم بالشكر، ونستعين بها على البر والتقوى لتستقر وتبقى وتزيد، قال تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].
ومن أعظم نعم الله على بني آدم أن جعل لهم بيوتا ثابتة لإقامتهم في المدن وبيوتا متنقلة لأسفارهم في البراري، يسكنون فيها ويستريحون، ويستدفئون بها من البرد ويستظلون بها من الحر، ويستترون فيها عن الأنظار، ويحرزون فيها أموالهم ويتحصنون بها من عدوهم. وغير ذلك من المصالح.
قال الله تعالى – ممتنًا على عباد ه بهذه البيوت الثابتة والمنتقلة -: والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الانعام بيوتاً تستخفّونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم [النحل:80]، فذكر أولاً بيوت المدن لأنها الأصل. وهي للإقامة الطويلة. وجعلها سكنا: بمعنى أن الإنسان يستريح فيها من التعب والحركة وينعزل فيها عما يقلقه فيحصل على الهدوء والراحة، ثم ذكر تعالى بيوت الرحلة والنقلة فقال: وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ، يعني: وجعل لكم بيوتا خفيفة من الخيام. والبيوت المصنوعة من جلود الأنعام تستعملونها في حالة الإقامة المؤقتة في السفر.
فنعمة السكن في البيوت من أعظم النعم، وتأملوا من لا يجد سكنا يؤويه ماذا تكون حاله، وأنتم تسكنون في هذه البيوت الحديثة المزودة بكل وسائل الراحة من الانارة والتكييف الصيفي والشتوي والمياه المتدفقة العذبة الحارة والباردة، كل ذلك من نعم الله في المساكن وذلك مما يستوجب الشكر والثناء على الله بما هو اهله، لأن ذلك من منِّه وفضله.
عباد الله: إن بيت المسلم يجب أن يكون متميزا عن غيره من البيوت بفعل ما شرعه الله للمسلمين في بيوتهم من ذكر الله والاكثار من صلوات النوافل فيها، وقراءة القرآن وخلوها من وسائل الفساد.
عن أبي موسى – - قال: قال رسول الله – -: ((مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مَثَل الحي والميت )).
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي – - قال: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا )). أي: صلوا فيها من النوافل ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة.
وعن أبي هريرة – - قال: ان رسول الله - - قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر ان الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة )) وقال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )). روى هذه الأحاديث مسلم في صحيحه، وهذه الأحاديث، وما جاء بمعناها تدل على مشروعية إحياء بيوت المسلمين وتنويرها بذكر الله من التهليل والتسبيح والتكبير وغير ذلكم من أنواع الذكر، وإحيائها، بالإكثار من صلاة النافلة فيها،لأن صلاة النافلة في البيوت أفضل من صلاتها في المسجد، وفيها النهي عن جعل البيوت مثل القبور مهجورة من صلاة النافلة فيها.
وفي الأحاديث الترغيب بقراءة القران في البيوت، ولاسيما سورة البقرة وإن قراءتها في البيت تطرد الشيطان، وإذا توفرت هذه الأمور في البيوت: ذكر الله فيها. صلوات النوافل، وقراءة القران أصبحت مدرسة للخير يتربى فيها من يسكنها من الأولاد والنساء على الطاعة والفضيلة. وتدخلها الملائكة وتبتعد عنها الشياطين، وإذا خلت البيوت من هذه الطاعات صارت قبور موحشة وأطلالا خَرِبة، سكنها موتى القلوب وإن كانوا إحياء الأجسام، يخالطهم الشيطان وتبتعد عنهم ملائكة الرحمن، فما ظنك بمن يتربى في هذه البيوت كيف تكون حاله وقد تخرج من هذه البيوت الخأوية الخالية من ذكر الله والتي هي مقابر لموتى القلوب. إن هذه البيوت ستؤثر تأثيرا سيئا على من تربى فيها وسكنها، فكيف إذا انضاف إلى خلوّها من وسائل الخير شغلها بوسائل الشر، وأسباب المعاصي بحيث يتوفر في تلك البيوت الفيديو بأفلامه الخليعة، التي تدعو إلى الفحشاء والمنكر، بما تعرضه من صور الفساد والدعارة أمام الأولاد والنساء.
وتتوفر في تلك البيوت أشرطة الأغاني الماجنة، التي تغري بالعشق والغرام، والطرب والإجرام، في تلك البيوت من يترك الصلاة ويتهأون بالجمع والجماعات. وقد همَّ النبي – - بإحراق مثل هذه البيوت بالنار على من فيها ممن يتخلفون عن صلاة الجماعة، فكيف بمن يتركون الصلاة نهائيا.
إن مثل هذه البيوت، وهي اليوم كثيرة، تكون أوكارا للشر، وجراثيم مرضية تفتك في جسم الأمة الإسلامية، يجب علاجها أو استئصالها حتى لا تؤثر على من حولها، كما همّ النبي – - بتحريق امثالها ولم يمنعه ذلك الا ما فيها من المعذورين ومن لا تجب عليهم صلاة الجماعة من النساء والذرية. قد يكون بعض هؤلاء له منصب كبير في المجتمع، بأن يكون من كبار الموظفين أو كبار الأثرياء. فيأتيه الشيطان فيقول له: أنت أكبر من أن تخرج إلى المسجد وتصلي مع الناس، لأن هذا يقلل من شأنك ويُضعف هيبتك، فيترك الصلاة في المسجد ترفعا وكبرا. وقد يكون بعضهم مشغولا بماله، وقد ورد في الحديث ان مثل هؤلاء يحشرون يوم القيامة مع نظرائهم من المتكبرين، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي – - أنه ذكر الصلاة يوما فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وابي بن خلف)) رواه الامام احمد في مسنده وابو حاتم وابن حبان في صحيحه. قال الإمام ابن القيم – رحمه الله: إنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر لأنهم من رؤوس الكفرة.
وفيه نكتة بديعة، وهو أن تارك المحافظة على الصلاة إما ان يشغله ماله أو ملكه أو رئاسته أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رئاسة ووزارة فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع ابي بن خلف.
عباد الله، إن هؤلاء الذين جعلوا بيوتهم بهذه الصفة القبيحة، خالية من ذكر الله مشغولة بآلات اللهو ومواطن للكسالى والعصاة، والمتخلفين عن الصلاة، إن هؤلاء حقيقون بالعقوبة؛ بأن تنهدم عليهم تلك البيوت أو تحترق أو يشردوا منها على يد عدوهم فيبقوا بلا مأوى كما شرد خلق كثير من مساكنهم اليوم وأُبعدوا عن ديارهم، لأنهم لم يشكروا نعمة الله عليهم بهذه المساكن، وبارزوه فيها بالمعاصي، والمعاصي تدع العامر خرابا، وتحول النعمة عذابا.
عباد الله: ومما يجب أن يصان عنه البيت المسلم الصور والكلاب، لما روى ابو طلحة – ان رسول الله – قال: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل )) وعن ابي هريرة – - قال رسول الله : ((أتاني جبريل عليه السلام،فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قِرَام فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُرْ برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومُر بالستر فيقطع فيجعل وسادتين منبوذتين توطآن،ومر بالكلب فليخرج )) ، رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه، وفي هذين الحديثين دليل على تحريم تعليق الصور على جدران الغرف والمجالس والمكاتب والاحتفاظ بها للذكريات ونحوها، وفيها دليل على عقوبة من فعل ذلك بحرمانه من دخول ملائكة الرحمن في بيته، وحينئذ يخسر خسرانا مبينا.
وقد ابْتُلِيَ بعض الناس اليوم بهاتين الظاهرتين السيئتين. فترى بعضهم يضع الصور في براويز ويعلقها على الجدران في الغرف والمكاتب. والبعض الآخر يحتفظ بالصور في صناديق خاصة من أجل الذكريات للأولاد والأصدقاء، والبعض الآخر ينصب تماثيل كبيرة أو صغيرة للآدميين أو الحيوانات للطيور ويجعلها على طاولات المجالس ونحوها للتجميل، وكل هذا من مظاهر الوثنية وفعل الجاهلية، لأن نصب الصور وتعليقها من وسائل الشرك كما حصل لقوم نوح وقوم إبراهيم من الشرك بسبب الصور والتماثيل. ولأن في تلك الصور مضاهاة لخلق الله – عز وجل- وذلك من أعظم الكبائر، ومن الناس من ابتلوا بتقليد الكفار واقتنوا الكلاب في بيوتهم وتباهوا بتربيتها وصحبتها لهم في بيوتهم وسياراتهم، وقد قال رسول الله – -: ((من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من اجره كل يوم قيراطان )) ، رواه مالك والبخاري ومسلم. والاحاديث في هذه كثيرة ومشهورة.
واقتناء الكلاب في البيوت واصطحابها خارج البيوت لغير الحاجة المرخص فيها شرعا (وهي حراسة الماشة والزرع واتخاذها للصيد )، واتخاذها لغير ذلك فيه محاذير:
أولا: أنه يمنع دخول ملائكة الرحمة في البيت: وأي مسلم يستغني عن ملائكة الرحمة؟!
ثانيا: ينقص من أجره كل يوم قيراطان، وهذا نقص عظيم ومستمر، والمسلم لا يفرط في اجره. والقيراط كما جاء تفسيره في بعض الاحاديث بأنه مثل الجبل العظيم.
ثالثا: في ذلك تشبه بالكفار الذين يربون الكلاب، والتشبه بهم حرام. قال النبي – -: ((من تشبه بقوم فهو منهم )).
رابعا: ما يحصل بها من الأضرار كأذية الجيران والمارة بهذه الكلاب وأصواتها. ولما فيها من النجاسة والأضرار الصحية في لعابها وملامستها.
فاتقوا الله – عباد الله – واعتنوا ببيوتكم وبمن فيها حتى تصير بيوتا إسلامية نظيفة حية بذكر الله وعبادته، وأبعدوا عنها كل ما يتنافى مع آداب الإسلام ويجر إلى الآثام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، لا نحصي ثناء عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى: واعلموا أن الله مع المتقين.
عباد الله: يجب أن يكون البيت المسلم مستورا مصونا على الأنظار المسمومة، يأمن من بداخله من الإطلاع على عوراتهم وأسرارهم لا يدخله غير اصحابه، الا باستئذان وإذن، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم [النور:27-28].
قال ابن كثير – رحمه الله – حتى تستأنسوا أي: تستاذنوا قبل الدخول، وتسلموا على أهلها أي: تسلموا بعد الدخول، وقال: ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره، وفي الصحيحين عن رسول الله – - أنه قال: ((لو أن امرءًا إطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح)).
وعن عقبة بن عامر – - ان رسول الله – - قال: ((إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمُو؟قال: الحموُ الموت)) ، رواه البخاري ومسلم – والحمُ: قريب الزوج – أي: ان الخوف منه اكثر؛ لأنه يتساهل في دخوله اكثر من غيره، فدل هذا الحديث على تعظيم حرمات بيوت المسلمين ومحارمهم وخطر دخول الرجال الأجانب على النساء ولو كانوا من أقارب الزوج، وقد تساهل في هذا الأمر الخطير كثير من الناس اليوم، فبعض النساء لا تحتجب من أقارب زوجها، كأخيه وعمه. وبعض الناس جلبوا إلى بيوتهم الرجال الاجانب وخلطوهم مع نسائهم في بيوتهم باسم طباخين أو سائقين أو خادمين،. وبعض الناس جلبوا النساء الأجنبيات وجعلوهن في بيوتهم يدخلون عليهن ويخالطونهن وربما يخلون بهم كأنهن من محارمهم. وهذا ارتكاب لما نهى عنه الاسلام، ومدْعاة إلى الوقوع في الفحش والإجرام. وجلب النساء والرجال الأجانب إلى البيوت دليل على عدم الغيرة وقلة الحياء وعدم المبالاة، لأن المؤمن الغيور لا يرضى بدخول الاجانب في بيته. واختلاطهم بمحارمه، والمؤمن الغيور لا يرضى لزوجته أو بنته أن تركب وحدها مع سائق غير محْرم لها، والمؤمن الغيور لا يرضى بوجود امرأة أجنبية في بيته يدخل عليها كما يدخل على محارمه، وتمشي أمامه وتسكن معه ويخلوا بها كما يخلوا بزوجته.
فاتقوا الله – عباد الله – واحذروا شرور هذه الفتن. ولا تحملنكم المدنية الزائفة والتقليد الاعمى على هذه المغامرة الخطيرة، فتخربوا بيوتكم بأيدكم وأيد أعدائكم وأنتم لا تشعرون.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
(1/229)
فضائل شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موعظة في استقبال رمضان. 2- خصوصيات شهر رمضان. 3- تعريف الصوم.
4- فوائد الصوم. 5- صيام الجوارح. 6- رمضان شهر القرآن والقيام والإنفاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
قال الله عز وجل: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون [البقرة:185].
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة.
يا من دامت خسارته، قد أقبلت أيام التجارة الرابحة.
من لم يربح في هذا الشهر، ففي أي وقت يربح.
من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يبرح.
عباد الله هبت على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب، سعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح، وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق.
لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل ،فلم يبق للعاصي عذر، يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، ويا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس اقلعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، قد مدت في هذه الأيام، موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دعى: يا قومنا أجيبوا داعي الله [الأحقاف:31].
فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما دعى.
قال المعلّى بن الفضل: كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم.
وقال يحي بن أبي كثير: كان من دعائهم اللهم سلمني إلى رمضان، وتسلمه مني متقبلا.
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا جاء رمضان فتّحت أبواب الجنة )) ( [1] ).
وله عنه قال: قال رسول الله : (( إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين )) ( [2] ) وفي رواية عند مسلم ((فتحت أبواب الرحمة)).
قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره، وحقيقته أن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر، وتعظيم حرمته، ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين.
قال: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن إعجازهم عن الإغواء وتزيين الشهوات.
وهذا الشهر عباد الله مدرسة ربانية رحمانية تفتح أبوابها كل سنة شهرا كاملا يتدرب فيه العباد على طاعة الله عز وجل والإمساك عن معاصيه، فهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن والصدقة والعمرة وسائر الطاعات.
روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : قال الله: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه )) ( [3] ).
والصيام في اللغة هو الإمساك، وفي الشرع إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة، فهو إمساك المكلف بالنية عن الطعام والشراب والشهوة من الفجر إلى المغرب.
وفي التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:
منها كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة.
ومنها تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات قد يقسي القلب ويعميه، وخلو البطن من الطعام والشراب، ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ويخليه للفكر والذكر.
ومنها أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بامتناعه عن هذه الشهوات في وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك بتذكر من منع من ذلك على الإطلاق فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك.
ومنها أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي الصوم وجاءً؛ لقطعه عن شهوة النكاح.
ولا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك الشهوات المباحة في غير حالة الصيام، إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كل حال، من الكذب والظلم والاعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبي : (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه )) ( [4] ).
قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام.
وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
وكان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدا.
والصائمون على طبقتين: أحدهما من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح، فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء، قال الله تعالى: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية [الحاقة:24].
قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين.
وفي الصحيحين عن النبي قال: ((إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم)) ( [5] ). وفي رواية: (( فإذا دخلوا أغلق)) وفي رواية: (( من دخل شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا)).
والطبقة الثانية من الصائمين من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته.
أهل الخصوص من الصوام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب
العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر هممهم أجلّ من ذلك.
من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت [العنكبوت:5].
وقوله عز وجل في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)) معناه أن الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة، بغير حصر عدد فإن الصيام من الصبر وقد قال الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10].
وقيل الحكمة في إضافة الصيام إلى الله عز وجل، أن الصيام هو ترك حظوظ النفوس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها، من الطعام والشراب والنكاح، ولا يوجد ذلك في غيره من العبادات.
قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره، وقيل: لأن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره، لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها دائما، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة، والله عز وجل يحب من عباده أن يعاملوه سرا.
وشهر رمضان له خصوصية بالقران كما قال الله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [البقرة :185].
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما أنه أنزل جملة واحدة من اللوح الحفوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر ويشهد لذلك قوله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر [القدر:1].
كان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام، قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
والشهر عباد الله مجاهدة بالليل والنهار، فكما أن العبد يجاهد نفسه بالصيام ويلزمها بأخلاق الصائمين، يجاهد نفسه كذلك بالقيام تشبها بالصالحين. قال رسول الله : ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) ( [6] ).
وكان عمر قد أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يؤما بالناس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة، حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا قرب الفجر.
والشهر كذلك عباد الله تدريب على الإنفاق وكثرة الجود، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ( [7] ).
فقد كان النبي أجود الناس وكان جوده لله وفي ابتغاء مرضاته، وكان جوده يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضا، فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك من قبل البعثة.
ثم كان بعد الرسالة جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك، فإنه كان يلتقي هو وجبريل عليه السلام، ويدارسه الكتاب الذي جاء به إليه، وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق، فلهذا كان يتضاعف جوده وإفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود.
وفي تضاعف جوده في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:
منها: شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه، فإن العمل يشرف ويزداد ثوابه لشرف الزمان، أو المكان، أو لشرف العامل وكثرة تقواه.
ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا.
ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار لا سيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء.
كما قال : ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) ( [8] ).
فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل والجزاء من جنس العمل.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تبع منكم اليوم الجنازة ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تصدق بصدقة ؟ قال أبو بكر: أنا، قال فمن عاد منكم مريضا ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة )) ( [9] ).
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا، واتقاء جهنم والمباعدة عنها، وقد قال : ((الصيام جنة)) ( [10] ). وقال : ((الصدقة تطفئ الخطيئة)) ( [11] ).
قال أبو الدرداء: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير.
ومنها: أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.
ومنها: ما قاله الشافعي رحمه الله: أَحِبُّ للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان، اقتداء برسول الله ، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم عن مكاسبهم، اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا.
اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وحاضرنا وغائبنا.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
( [1] ) البخاري (4/112) الصوم : هل يقال رمضان أو شهر رمضان ومسلم (7/87) أول كتاب الصوم رقم (1898).
( [2] ) البخاري (4/112) الصوم ، رقم 1899.
( [3] ) البخاري (4/103) الصوم : باب فضل الصوم ومسلم (8/32) في الصيام : باب فضل الصيام.
( [4] ) رواه البخاري (4/16) في الصوم : باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم وفي الأدب باب قول الله تعالى: واجتنبوا قول الزور ورواه أبو داود (6/488) في الصوم ك باب الغيبة والترمذي (3/226) باب ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم.
( [5] ) البخاري (4/111) في الصوم : باب الريان للصائمين ومسلم (8/32) في الصيام : باب فضل الصيام.
( [6] ) رواه البخاري (4/250) التراويح : باب فضل من قام رمضان.
( [7] ) رواه البخاري (4/116) الصوم : باب أجود ما كان النبي يكون في رمضان ، ومسلم (15/68،69) الفضائل : جوده.
( [8] ) رواه الطبراني في الكبير عن جرير. وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم 317، (2/293).
( [9] ) أخرجه مسلم في صحيحه (3/92) ، (7/110) والبخاري في الأدب المفرد (75) – أحكام الجنائز 69.
( [10] ) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة وتقدم تخريجه.
( [11] ) لم أقف على لفظه وقد روى الترمذي عنه e ((إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء)) وحسنه الترمذي ولكن ضعفه الألباني في الإرواء حديث 885 (3/390) وذكره الألباني في الصحيحة رقم 1908(4/535) لفظ ((صدقة السر تطفئ غضب الرب)) وقال حفظه الله بعد أن ذكر طرق الحديث : وجملة القول أن الحديث بجموع طرقه وشواهده صحيح بلا ريب بل يلحق بالمتواتر عند بعض المحدثين المتأخرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/230)
المرأة في الإسلام وغيره من المجتمعات
الأسرة والمجتمع
المرأة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وضع المرأة في الجاهلية 2- مساواة المرأة للرجل في كثير من الواجبات الدينية
3- الإسلام يرد للمرأة حقوقها 4- واقع المرأة في المجتمع الغربي 5- الوصية بحسن تربية
النساء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله بامتثال أو امره، واجتناب ما نهاكم عنه لعلكم ترحمون وتفلحون.
عباد الله: سيكون حديثي معكم عن موضوع شغل بال الإنسانية قديما وحديثا، وقد جاء الإسلام بالفصل فيه ووضع له الحل الكافي والدواء الشافي، ألا وهو موضوع المرأة، لأن أهل الشر اتخذوا من هذا الموضوع منطلقا للتضليل والخداع عند من لا يعرف وضع المراة في الجاهلية ووضعها في الاسلام، ووضعها عند الامم الكفرية المعاصرة.
فقد كانت المرأة في الجاهلية، تعد من سقط المتاع لا يقام لها وزن، حتى بلغ من شدة بغضهم لها إنذاك أن أحدهم حينما تولد له البنت يستاء منها جدا ويكرهها ولا يستطيع مقابلة الرجال من الخجل الذي يشعر به.
ثم يبقى بين امرين اما ان يترك هذه البنت مهانة، ويصبر هو على كراهيتها وتنقص الناس له بسببها. وإما أن يقتلها شر قتله، بأن يدفنها وهي حية ويتركها تحت التراب حتى تموت، وقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم (1/231)
العشر الأواخر وليلة القدر
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الشمائل, فضائل الأزمنة والأمكنة
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال النبي في العشر الأواخر. 2- اعتكاف النبي. 3- شرف ليلة القدر. 4- سبب
تسميتها بهذا الإسلام. 5- دعوة لاغتنام فضيلة الزمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله: هذا شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب نفسه لله وانتصف، من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبنى له فيها غرفا من فوقها غرف.
ألا إن شهركم قد أخذ في النقصان فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف.
تنصّف الشهر والهفاه وانهدما واختص بالفوز بالجنات من خدما
وأصبح الغفل المسكين منكسرا مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما
من فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يحصد إلا الهمّ والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته في شهره وبحبل الله معتصما
في الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (( كان رسول الله إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله )) ( [1] ).
ولمسلم عنها قالت: ((كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره )) ( [2] ).
وقد تضمن حديث عائشة رضي الله عنها ثلاثة أشياء، كان يخص بها رسول الله من العشر الأواخر.
أولها: شد المئزر واختلفوا في تفسيره فمنهم من قال: هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة، وقيل: المراد اعتزاله للنساء، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون.
وقد كان النبي غالبا يعتكف العشر الأواخر والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع.
قال الله عز وجل: ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد [البقرة:186]، وقد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم [البقرة:168].
إنه طلب ليلة القدر والمعنى في ذلك أن الله تعالى لما أباح المباشرة في ليالي الصيام ،أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر، لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح، فيفوتهم طلب ليلة القدر.
وقول عائشة رضي الله عنها: ((أحيا ليله)) يحتمل إحياء الليل كله، ويحتمل أن المراد إحياء غالب الليل، ويؤيده ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت: ((ما أعلمه قام ليله حتى الصباح )) ( [3] ).
وقولها رضي الله عنها: ((وأيقظ أهله)) يدل على أن النبي كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيرها من الليالي.
وخرج الطبراني من حديث عليّ أن النبي : ((كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان وكل صغير وكبير يطيق الصلاة)) ( [4] ).
قال سفيان الثوري: أحبّ إلي إذا دخل العشر الأواخر، أن يتهجد بالليل، ويتهجد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك.
وقد صح عنه النبي أنه كان يطرق فاطمة وعليا ليلا فيقول لهما: ((ألا تقومان فتصليان )) ( [5] ).
ومما كان يخص به رسول الله العشر الأواخر من رمضان تأخير الفطور إلى السحور وهو المواصلة إلى السحر ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر. قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: ((إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني )) ( [6] ).
وزعم ابن جرير رحمه الله أن النبي لم يكن يواصل إلا إلى السحر خاصة وأن ذلك يجوز لمن قوي عليه ويكره لغيره.
ومما كان يخص به رسول الله العشر الأواخر:
الاعتكاف: ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ( [7] ).
وإنما كان يعتكف النبي في العشر التي يطلب فيها ليلة القدر، قطعا لأشغاله، وتفريغا لباله، وتخلياً لمناجاة ربه، وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيرا يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم، ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن، بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه، وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية، وإنما يكون في المساجد لئلا يترك به الجمع والجماعات، فإن الخلوة القاطعة عن الجمع والجماعات ينهى عنها.
فمعنى الاعتكاف وحقيقته، قطع العلائق عن الخلائق، للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي قالت: ((وإن كان رسول الله ليدخل رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل إلا لحاجة إذا كان معتكفا)) ( [8] ).
وفسره الزهري بالبول والغائط، وقد اتفق العلماء على استثنائهما واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، والجمهور على أنه لا يكره في المسجد، وعن مالك تكره فيه الصنائع والحرف حتى طلب العلم.
ومن شرف هذه العشر عباد الله، أن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر في وتر منها، قيل: في ليلة إحدى وعشرين، وقيل: في خمس وعشرين، وقيل: في سبع وعشرين وهو أصحها وأشهرها دليلا، وقيل لا يبعد أن تكون ليلة القدر دائرة بين أوتار العشرة وليست في ليلة منها ولا تخرج عنها.
وحكى ابن كثير هذا الوجه عن مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وقال: وهو الأشبه، قال الله عز وجل: إنا أنزلناه في ليلة القدر (1/232)
التوحيد
التوحيد
الألوهية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
22/6/1407
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
حقيقة التوحيد يكمن في الحب والرجاء والخوف – مقياس معرفة الصادق من الكاذب يظهر
عند تعارض هذه الأمور بين حق الله وحق المخلوقين – هيمنة الألوهية المتضمنة هيمنة
الربوبية وأثر ذلك – فطرة الخلق على توحيد الألوهية – سر دعاء يونس عليه السلام : لا إله
إلا أنت سبحانك.....
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن حقيقة التوحيد تكمن في ثلاث كلمات في الحب والرجاء والخوف فإذا ما كان حبك لله تعالى أشد من حبك لغيره وكان رجاؤك في الله تعالى أكبر من رجائك في غيره وكان خوفك من الله تعالى أعظم من خوفك من غيره فقد وصلت إلى حقيقة التوحيد.
ويتبين ذلك عند التعارض هناك الامتحان العسير هناك يتميز الصادق من الكاذب فإذا تعارض حبك لله مع حبك لشيء من المخلوقين، أو تعارض رجاؤك في الله تعالى مع رجائك في بعض المخلوقين، أو تعارض خوفك من الله تعالى مع خوفك من بعض المخلوقين، فأيهما تقدم؟
إذا وجدت حب الله تعالى في قلبك أشد من حبك لغيره فقدمت حبه على حب غيره، ووجدت رجاءك في الله تعالى أكبر من رجائك في غيره فقطعت أملك ورجاءك على المخلوقين وعلقتهما على الله سبحانه وتعالى وإذا وجدت خوفك من الله تعالى في قلبك أعظم من خوفك من المخلوقين فحرصت على رضا الخالق مهما غضب المخلوق فقد وصلت إلى حقيقة التوحيد فالزم.
إن سر ذلك يكمن في هيمنة الألوهية المتضمنة لهيمنة الربوبية، يكمن في هيمنة ألوهية الله تعالى، المتضمنة لهيمنة ربوبيته سبحانه وتعالى على خلقه، فالله هو الإله الحق الذي لا إله إلا هو القابض على كل شيء فكل شيء ملكه، الكون وما فيه خاضع لحكمه وقدره وإرادته ومشيئته خاضع لحكمته وتدبيره وأمره، فسبحانه وتعالى له الخلق والأمر.
ومن كان هذا شأنه فكيف ترجو غيره، من كان هذا شأنه فكيف تخاف من غيره؟ ثم إن الله سبحانه كريم رحيم رحمته سبقت غضبه، ورحمته وسعت كل شيء ونعيم كرمه لا ينضب يحب أن يسأله السائلون ويدعوه المحتاجون ويلجأ إليه المضطرون، ينادي كل ليلة ليستغفره المستغفرون فيستغفر لهم وليسأله السائلون فيعطيهم من كان هذا شأنه كيف لا يكون حبك له أشد من حبك لغيره.
إنها حكمة ألوهيته سبحانه وتعالى على خلقه ثابت بقوة الفطرة في كل نفس بشرية مهما حاول شياطين الإنس والجن إخفاءها أو تكديرها فهيمنة ألوهيته سبحانه وتعالى كامنة بقوة الفطرة في النفس البشرية وأكثر ما يتكشف سر ذلك عند اشتداد الحاجات وتفاقم الضرورات فهذا الإنسان إذا اشتدت حاجته لجأ إلى الإله الحق سبحانه وتعالى وانصرف عن سائر المعبودات الأخرى لأنه في قلبه ينظر بعين الفطرة لا بعين الغفلة.
سأل رسول الله رجلاً من المشركين فقال: كم تعبد؟
قال ستة في الأرض وواحدًا في السماء.
قال: فمن الذي تعد لنصرتك ورغبتك؟
قال: الذي في السماء.
قال له : ألا تسلم فأعلمك كلمات.
وجده النبي بفطرته أقرب ما يكون إلى التوحيد إنه يعد لرغبته ورهبته يعد لحاجته الذي في السماء، أما الستة الذين في الأرض فلا يحتاج إليهم في حاجة ولا في كربة.
لذلك بادر النبي فقال له: ((ألا تسلم فأعلمك كلمات. فأسلم الرجل، فعلمه النبي أن يقول: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي)) [1].
نعم إن سر هيمنة ألوهية الله تعالى على خلقه هي التي تدفع فطرة الإنسان فيرفع يده إلى الذي في السماء ليقضي له حاجته أو يكشف عنه كربته، هذا هو حال الناس جميعًا هذا هو حال الخلق جميعًا فما بالك بالمؤمنين، المؤمن إذا وقع في كربة أو حلت عليه مصيبة لجأ إلى سر الألوهية متسلحًا بالتوحيد، وقف على أعتاب مقام الألوهية متلفعًا برداء التوحيد فحينئذ تتكشف له أسرار ذلك المقام الإلهي فتنهمر عليه سحائب (كن فيكون).
هذا هو نبي الله يونس بن متى، هذا نبي الله وعبده الصالح يونس بن متى لما ذهب مغاضبًا ربه، وظن أنه لن يقدر عليه أن لن يقدر عليه أي لن يعاقبه، يُقال في لغة العرب "قدر عليه" أي عاقبه وآخذه. ومنه قوله: وقُدر عليه رزقه أي "ضُيق عليه رزقه".
فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لن يؤاخذه وتلك كانت خطيئته فعاقبه ربه فحبسه في بطن الحوت حتى إذا أمسى يونس في تلك الظلمة ظلمة بطن الحوت، في داخل ظلمة البحر في جوف ظلمة الليل نادى وهو في تلك الظلمات: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [الأنبياء:87].
هنا يلجأ يونس عليه السلام إلى ألوهية الله تعالى متسلحًا بالتوحيد. "لا إله إلا أنت" لسان يونس ولسان حاله يهتف يا الله أنت الإله الحق إن لم تكشف كربتي فمن يكشف كربتي، لا يكشف كربتي إلا أنت ثم يقول: سبحانك أي: أنت المنزه عن الملك وعن كل عيب لا تظلم أحدًا ولا تعاقب إلا بذنب، فما أخذتني ولا عاقبتني، ولا أدخلتني في هذه الظلمات إلا بذنبي.
وينطق عليه السلام بلسان ربوبيته فيهتف: إني كنت من الظالمين أنا عبدك المذنب أذنبتُ وأخطأت فصرتُ مستحقًا للعقوبة، وانظر إلى كمال أدبه عليه السلام، وانظر إلى إظهاره لضعفه وعبوديته لله الإله المعبود، لم يجاهر ربه بالطلب والسؤال، لكنه اكتفى بالثناء على مقام ألوهية الله تعالى واكتفى بتصديقه وتنزيهه وبذكر حاله وضعفه وشدة كربه، ثم سكت عن السؤال وفيما قال تضمنًا للسؤال وعلام الغيوب أعلم بما في نفسه، ومثل ذلك قول نبي الله أيوب عليه السلام: أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [الأنبياء:83].
في دعاء يونس عليه السلام يكمن سر التوحيد فقد لجأ يونس إلى مقام ألوهية ربه سبحانه وتعالى فتوسل بالتوحيد بتوحيده ربه، لما توسل بتوحيده ربه انهمرت عليه بركات كن فيكون وتفتحت عليه رحمات قوله سبحانه: ((إن رحمتي سبقت غضبي)) [2].
فإذا بالحوت ذلك الحيوان الأصم الأعجم الأبكم يلقي يونس بكل رفق ولين، فيخرج إلى البر سالمًا، يخرج إلى الأرض من بطن ذلك الحوت ضعيفًا منهكًا كأنه جنين خرج من بطن أمه، وإذا بالأرض الصماء الجماد تحنو على يونس فتنشق عن شجرة من يقطين تظلله وتحميه عليه السلام، فتحت عليه بركات "رحمتي سبقت غضبي"، "وكن فيكون" كل ذلك بسر التوحيد ببركة التوحيد ببركة تأليه يونس وتسبيحه لربه.
قال تعالى: فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون [الصافات:143-144]. لولا سر التوحيد الذي توسل به عبدنا ونبينا يونس لكتبنا عليه أن يبقى في بطن هذا الحيوان إلى يوم القيامة لكننا نجيناه ببركة توحيده وتكبيره وتسبيحه لهذا قال سيدنا رسول الله : فيما صح عنه في سنن الترمذي: ((دعوة أخي ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين ما دعا به مكروب إلا فرج الله كربته)) [3].
ولكن عجبًا للإنسان المشرك حتى في كربته، عجبًا من إنسان أصبح في بطن الكربة والمصيبة فدعا المخلوق ونسى الخالق، دعا المخلوق وهو في بطن مصيبته وفي بطن كربته ونسى الخالق، فما أحرى هذا المشرك المسكين أن يمسي في بطن كربته وبطن مصيبته إلى يوم يُبعثون.
الإنسان بفطرته إذا وقع في كربة لجأ إلى الإله الحق وطرح ما سواه من الآلهة المزعومة، ولكن مع هذا الإنسان وهو في بطن المصيبة يدعو المخلوق وينسى الخالق، فهذا يستحق أن يبقى على مصيبته في بطن كربته في بطن حوته إلى يوم يبعثون، هذا شك عجيب في الربوبية والألوهية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فلا تدعوا مع الله إلهًا آخر فتكون من المعذبين [الشعراء: 213].
بارك الله لي ولكم في القرآن ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي (3483) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/329) وغيرهما وضعفه الترمذي بقوله غريب (12/368).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق (3/1166-1167) رقم (3194).
[3] أخرجه أحمد (1/170) والترمذي (3505) والنسائي (655و656) وغيرهم وسنده جيد.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
(1/233)
في التجمل المشروع والتشويه الممنوع
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, المرأة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنن الفطرة 2- إعفاء اللحى 3- صبغ الشعر 4- المحرم من التجمل في اللباس والحُلي
5- التجمل بين سُنّة النبي واتباع التغريب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما أولاكم من النعم، ودفع عنكم من النقم،فقد خلق الله الانسان في أحسن تقويم، فإنْ شَكَرَه وأطاعه واصل له التكريم، وإن عصاه وخالف أمره فإن عقابه أليم.
أيها المسلمون: إن التجمل في حدود المشروع أمر مطلوب،فإن الله تعالى جميل يحب الجمال، والتجمل يكون في إصلاح الجسم بأخذ ما شرع أخذه، وإبقاء ما يشرع إبقاؤه.
فاما ما يشرع أخذه فقد بينه رسول الله – - في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة – - عن النبي – - أنه قال: ((خمس من الفطرة الاستحداد والختان وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر )) فأخبر – - إن أخذ هذه الأشياء من الفطرة، أي من السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع، لأن في ترك هذه الأشياء تشويها للجسم وتشبها بالحيوانات والسباع والكفار. وبقاؤها أيضا يسبب تجمع الأوساخ ووجود الروائح الكريهة.
والاستحداد معناه: حلق العانة، والختان معناه: قطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة لأن بقاء القلفة يسبب بقاء النجاسة المحتقنة فيها. وذلك يُخل بالعبادة ويسبب أضرارا صحية.
قص الشارب معناه: جزه وانهاكه.
ونتف الإبط يراد به: إزالة الشعر النابت فيه بنتف أو حلق ونحوه، وتقليم الاظافر قصها لئلا تطول.
وأما ما يشرع إبقاؤه فهو شعر اللحية، كما في (الصحيحين) أن النبي – - قال: ((خالفوا المشركين وفروا اللحى )) ، وفي روية: ((أعفوا اللحى )) ، وفي رواية: ((أوفوا اللحى )) ، وفي رواية: (( وأرخوا اللحى )). وكل هذه الروايات تدل على وجوب توفير اللحية وإبقائها، وتحريم حلقها أو قصها، كما تدل الأحاديث على وجوب إحفاء الشارب، والنهي عن توفيره وإطالته، ولكن الشيطان زين لكثير من الناس مخالفة سنة النبي – - في ذلك وتقليد الكفار، فصاروا يحلقون لحاهم أو يقصونها، ويوفرون شواربهم ويطيلونها!!.
كما أن هناك فريقا من الناس يرتكبون ما نهى عنه النبي – - في صبغ اللحية فقد نهى عن صبغ اللحية بالسواد وأمر بتغيير الشيب بغير السواد من الحنّاء والصفرة، فخالف هؤلاء سنة الرسول – - وصاروا يصبغون بالسواد، وقد روى أبو دأود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي هريرة – - قال: قال رسول الله – -: ((قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يروحون رائحة الجنة )). وهذا وعيد شديد لمن فعل ذلك. وبعضهم يجمع بين المعصيتين فيقص لحيته ويصبغ الباقي منها بالسواد.
كما زين الشيطان لبعض النساء أخذ حواجبهن، وهو النمص، الذي لعن النبي – - من فعلته بنفسها أو بغيرها، فقد لعن النبي – - النامصة والمتنمصة، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما، والنمص: هو أخذ شعر الحاجب وترفيعه، تزعم من فعلته أنه تجمل وهو في الواقع تغيير لخلق الله، وهو مما يأمر به الشيطان كما قال الله تعالى: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله [النساء:119] ، كما زين الشيطان لبعض النساء وبعض الشباب إطالة أظافرهم مخالفة لسنة الرسول – - حيث أمر بتقليم الأظافر، فصاروا يطيلونها تشبها بالكفار ومخالفة للسنة.
وكل هذه الأمور التي يفعلونها من حلق اللحى أو صبغها بالسواد وإطالة الشوارب والاظافر وازالة النساء لشعر الحواجب يظنون أنها من التجمل. وهي في الواقع تشويه وتقبيح للصورة الآدمية ومخالفة للفطرة، ولكن الشيطان زينها لهم فاستحسنوها كما قال الله تعالى: أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسناً [فاطر:8].
ومن التجمل الذي شرعه الله ورسوله التجمل في اللباس، قال الله تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير. فقد امتن الله سبحانه على عباده بأن لهم لباسا يسترون به عوراتهم، ويُجمّلون به هيئاتهم الظاهرة، وذكر لهم لباسا احسن منه وهو لباس التقوى الذي يجمّل ظاهرهم وباطنهم فقال: ولباس التقوى ذلك خير [الأعراف:26] ، وقال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [الأعراف:31] ، والزينة: هي اللباس، والمراد بالمسجد الصلاة، فقد أمر الله سبحانه العباد أن يلبسوا احسن ثيابهم وأجملها في الصلاة للوقوف بين يدي الرب سبحانه وتعالى. والتجمل في اللباس مطلوب من المسلم بما أباح الله ومن غير اسراف ولا تكبر، فقد نهى النبي – - الرجال عن إسبال الثياب وهو إرسالها تحت الكعبين، وأخبر أن من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه، وأن المسبل من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم، وان الله لا يقبل صلاة رجل مسبل، وهذا من اعظم الوعيد، وهو يدل على أن الإسبال من أكبر الكبائر، سواء كان في الثوب أو الإزار أو البشت، وشرع للنساء تطويل الثياب لستر ارجلهن. لما رواه الامام أحمد والنسائي وابو داود والترمذي قال: يا رسول الله ! كيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: ((يرخين شبرا. قلت: اذن تبدو أقدامهن يا رسول الله، قال: فذراع ولا يزدن عليه)). وقد خالف كثير من الرجال والنساء ما شرع الله لهم في اللباس وعكسوا الأمر، فصار الرجال يسبلون ثيابهم ويجرونها، وصار النساء يقصرن ثيابهن حتى تبدو سيقانهن، وتشبّه الرجال بالنساء وتشبهت النساء بالرجال. ولقد لعن النبي – - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، رواه البخاري. ولعن الرجل الذي يلبس لبس المراة، والمراة التي تلبس لبس الرجل، رواه الإمام أحمد وأبو دأود.
ويحرم على الرجال لبس الحرير والتحلي بالذهب، وقال رسول الله – -: ((حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم )) ، رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وفي (الصحيحين) من حديث أبي هريرة والبراء – رضي الله عنهما – ان رسول الله – - رأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه وقال: ((يعمد أحدكم إلى حجرة من نار جهنم فيجعلها في يده )) ، فقيل للرجل بعد أن ذهب رسول الله – -: خذ خاتمك انتفع به، فقال لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله – -.
وبعض الرجال اليوم يلبسون خواتيم الذهب تمشيا مع العادات السيئة والتقاليد الفاسدة من غير مبالاة بالوعيد، مع أنهم يسمعون ويقرؤون الأحاديث التي تنهي عن ذلك ويعلمون أنهم يحملون في أيديهم جمرا من جهنم، لكنهم لا يبالون لأن الشيطان زين لهم ذلك،كما زين الشيطان لكثير من النساء لبس الثياب القصيرة أو الثياب الضيقة أو الثياب الشفافة التي لا تستر الجسم أو تبدي مقاطع الاعضاء. وأخريات يكشفن عن وجوههن ونحورهن وأيديهن وأرجلهن أمام الرجال في الاسواق أو في البيوت عند أقارب الزوج أو غيرهم.
وفي حديث ابي هريرة – - قال: قال رسول الله – -: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس. ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )) رواه أحمد ومسلم.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية – رحمه الله – في معنى ((كاسيات عاريات)) : أي كاسيات بلباس يصف البشرة، أو يبدي بعض تقاطيع أبدانهن كالعضد والعجيزة. فهن كاسيات بلباس، عاريات حقيقة، وهذا ينطبق على كثير من لباس النساء اليوم، فهن يلبسن لباسا رقيقا أو ضيقا يبدي تقاطيع الجسم، لباسا شفافا يري من ورائه لون الوجه والنحر وغير ذلك.
فاتقوا الله – ايها الرجال – في نسائكم، فإن الله سيسألكم عنهن بما جعل لكم من القوامة عليهن والرعاية لشؤونهن ((وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) رواه البخاري.
واتقين الله – أيتها النساء- فإنكن مسؤولات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً [الأحزاب:36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على فضله وإحسانه، أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى: إن الله كان عليكم رقيباً [النساء:1].
عباد الله: إن التنظيف والتجمل في البدن والثياب أمران مطلوبان شرعا. وقد رسم النبي – - الطريقة المطلوبة فيهما بقوله وفعله، وقد قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، فلا يجوز لنا أن نرسم لأنفسنا أو نستورد من أعدائنا عادات وتقاليد تخالف هدي رسول الله – - كما يفعل كثير من المتشبهين بالكفار في عاداتهم وعباداتهم وتقاليدهم. وقد كان هدي النبي – - في شعر الرأس تركه كله أو أخذه كله، ولم يكن يحلق بعضه ويدع بعضه، وكان يقص شاربه، يقول: ((من لم يأخذ من شاربه فليس منا )) ، رواه الترمذي وقال حديث صحيح.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – - قال: قال رسول الله – -: ((قصوا الشوارب وارخوا اللحى خالفوا المجوس )) ، وفي صحيح مسلم عن أنس قال: ((وقت لنا رسول الله – - في قص الشارب وتقليم الاظافر ألا نترك أكثر من أربعين يوما وليلة )) ، وكان النبي – - يحب السواك، وكان يستاك مفطرًا وصائما. ويستاك عند الانتباه من النوم، وعند والوضوء، وعند الصلاة، وعند الخروج من المنزل، وكان – - يكثر التطيب ويحب الطيب، ونهى – - عن اكل ماله رائحة كريهة كالبصل والكراث والثوم، ولا سيما عند دخول المساجد.
وشرع الاغتسال يوم الجمعة؛ لازالة الروائح الكريهة، والناشئة عن العرق وغيره. وكان غالب ما يلبس النبي- - هو وأصحابه ما نسج من القطن وربما لبسوا ما نسج من الصوف والكتان، وكان هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس، من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة. قال الامام ابن القيم – رحمه الله -: فالذين يمتنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تزهدا وتعبدا، بإزائهم طائفة قابلوهم لا يلبسون إلا أشرف الثياب، ولا ياكلون الا الين الطعام، فلا يرون لبس الخشن، ولا أكله تكبرًا وتجبرًا، وكلا الطائفتين هديه مخالف لهدي النبي – -. ولهذا قال بعض السلف: كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب: العالي والمنخفض. وفي السنن عن ابن عمر يرفعه إلى النبي – -: ((من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة، ثم تلهب فيه النار)) ، وهذا لأنه قصد به الاختيال والفخر، فعاقبه الله بنقيض ذلك، كما عاقب من أطال ثوبه خيلاء، بأن خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وكذلك لبس الدنيء من الثياب يذم في موضع ويحمد في موضع، فيذم إذا كان شهرة وخيلاء، ويمدح إذا كان تواضعا واستكانة، كما أن لبس الرفيع من الثياب يذم إذا كان تكبرا وخيلاء، ويمدح إذا كان تجملا وإظهارا لنعمة الله. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله – -: ((لا يدخل الجنة من كان كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قبله مثقال حبة خردل من إيمان )). فقال رجل: يا رسول الله، اني أحب أن يكون ثوبي حسنا، ونعلي حسنة، أفمن الكبر ذلك؟ قال: ((لا، إن الله جميل يحب الجمال. الكبر: بطر الحق وغمط الناس )). وبطر الحق: دفعه، وغمط الناس: تنقصهم.
عباد الله: إن الشيطان تلاعب ببني آدم في شأن اللباس، فأوقعهم في المتناقضات المخالفة لشرع الله، فطائفة زين لهم التعري باسم المدنية والحضارة. كما زين للمشركين الطواف بالبيت وهم عراة. وأن ذلك عبادة يؤجرون عليها، وأن الله أمرهم بذلك كما قال الله عنهم: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون.
فرد الله عليهم، واخبر ان كشف العورة فاحشة، ينزه الله عن الأمر بها، وتشريعها للناس. وطائفة من الناس زين لهم الشيطان كشف عوراتهم عن الألعاب الرياضية والمباريات، واعتبروه فنا من الفنون، فصاروا يكشفون أفخاذهم ولا يغطون الا العورة المغلظة، كما عليه كثير من الفرق الرياضية من كشف عوراتهم امام المشاهدين. وتؤخذ لهم صور سيئة تنشر في الجرائد والمجلات وتبث في التلفاز ليشاهدها من لم يحضرها.
وطائفة أخرى من الناس على العكس من ذلك زين لهم الشيطان الإسبال في اللباس وجرَّه تكبرا وتعاظما، دون مبالاة بالوعيد الشديد والاثم العظيم، وغرض الشيطان أن يخرج هؤلاء عن الاعتدال والاستقامة في اللباس واتباع سنة الرسول- -.
كما أغرى الشيطان كثيرا من النساء بالسفور، ومحاربة الحجاب الشرعي؛ ليعرضن أجسامهن ومفاتنهن رخيصة أمام الانظار المسمومة.
فاتقوا الله – أيها المسلمون – وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم ولا تنساقوا وراء التيارات الهدامة والتقاليد المحرمة. واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
(1/234)
الزواجر عن اقتراف الكبائر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الكبائر والمعاصي. 2- حد الكبيرة عند أهل العلم. 3- التحذير من الوقوع في
الصغائر. 4- الخوف من الله محرقة الذنوب. 5- التوبة وعدم الأمن من مكر الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
اعلموا عباد الله أن جماعة من الأئمة أنكروا أن في الذنوب صغائر، وقالوا: بل سائر المعاصي كبائر، وقال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية الله أنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر.
وقال الجمهور: إن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر لقوله عز وجل: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً [النساء:31].
وقوله عز وجل: وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان فجعلها رتبا ثلاثة [الحجرات:7].
وقوله عز وجل: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم [النجم:32].
وقوله : ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر)) ( [1] ).
واختلف العلماء في حد الكبيرة على أقوال:
منها: أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد، بنص كتاب أو سنة.
ومنها: أنها ما أوجب الحد، أو توجه إليه الوعيد، والصغيرة ما قل فيه الإثم.
ومنها: أنها كل جريمة (أو جريرة) تؤذن أي تعلم بقلة اكتراث أي اعتناء مرتكبها بالدين، ورقة الديانة مبطلة للعدالة، وكل جريمة أو جريرة لا تؤذن بذلك بل يبقى حسن الظن ظاهرا بصاحبها لا تحبط العدالة.
ومنها: أنها كل ما ينص الكتاب على تحريمه، أو وجب في جنسه حد وترك فريضة تجب فورا، والكذب في الشهادة والرواية واليمين.
ومنها أنه لا حد لها يحصرها يعرفه العباد، وإلا اقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله عز وجل أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهى عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، ونظائره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ونحو ذلك.
وذهب بعض العلماء إلى تعريفها بالعد، من غير ضبطها بحد، فقيل: هي سبع واستدلوا على ذلك بخبر الصحيحين: ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) ( [2] ).
وعن ابن عباس قال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع.
وعن سعيد بن جبير أكبر تلامذته: هي إلى السبعمائة أقرب يعني باعتبار أصناف أنواعها.
والأحاديث المصرحة بالكبائر نوعان:
منها ما صرح فيه بأنه كبيرة، أو أكبر الكبائر، أو أعظم الذنوب، أو موبق، أو مهلك، وما ذكر فيه نحو لعن، أو غضب، أو وعيد شديد.
فمن الأول خبر الشيخين: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وقول الزور، وكان متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)) ( [3] ).
ولهما أيضا أن رجلا قال للنبي : ((أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال: إن ذلك عظيم، ثم أي؟ قال: وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)) ( [4] ).
ورويا أيضا: ((من الكبائر شتم الرجل والديه، قيل وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) ( [5] ).
النوع الثاني:
ما رواه مسلم وغيره عن النبي : ((قال: ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال أبو ذر: فقرأها رسول الله ثلاث مرات، فقلت: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل إزاره خيلاء)) وفي روايات أخر: ((والمنان الذي لا يعطي شيئا إلا منّه، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) ( [6] ).
ومنه أيضا قوله : ((لا يدخل الجنة قتات)) أي نمام ( [7] ).
واعلموا عباد الله وفقنا الله وإياكم لطاعته وأنالنا سوابغ رضاه ومهابته، أن الله تعالى حذر عباده من معصيته، بما أعلمهم به من نواميس ربوبيته، وأقامه من سطوات قهره وجبروته ووحدانيته، قال تعالى: فلما آسفونا انتقمنا منهم [الزخرف:55]. أي أغضبونا وقال عز وجل: فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [الأعراف:166]. وقال عز وجل: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة [ فاطر:45].
وقال عز وجل: من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً [النساء:123].
وفي الصحيح: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)) ( [8] ).
وفي الصحيحين كذلك أن رسول الله قال: ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)) ( [9] ).
وفيهما أنه قال: ((لا أحد أغير من الله، فلذا حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل)) ( [10] ).
قال بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
وقال الحسن بن آدم: ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة.
وقال محمد بن كعب القرظي: ما عبد الله بشيء أحب إليه من ترك المعاصي.
ويؤيده قوله في الحديث الصحيح: ((إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطتعم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) ( [11] ).
فأتى بالاستطاعة في جانب المأمورات ولم يأت بها في جانب المنهيات، إشارة إلى عظم خطرها وقبيح وقعها تنويهاً إلى أنه يجب بذل الجهد والوسع في المباعدة عنها، سواء استطاع ذلك أم لم يستطع بخلاف المأمورات.
قال حذيفة: إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يصير قلبه كله أسود، ويؤيده قول السلف: المعاصي بريد الكفر (أي رسوله) باعتبار أنها إذا أورثت القلب هذا السواد وعمته لم يقبل خيرا قط، فحينئذ يقسو ويخرج منه كل رحمة ورأفة وخوف، فيرتكب ما أراد ويفعل ما أحب، ويتخذ الشيطان وليا من دون الله، ويضله، ويغويه ويعده ويمنيه ولا يرضى منه بدون الكفر ما وجد له إليه سبيلا.
قال الله تعالى: إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً [النساء:117-121].
واعلموا عباد الله أن أعظم زاجر عن الذنوب هو خوف الله تعالى وخشية انتقامه وسطوته.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: الخوف هو النار المحرقة للشهوات، فإذا كانت فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوة، وبقدر ما يكف عن المعصية، ويحث على الطاعة، وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة، وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة والأعمال الفاضلة التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، كما علم من الآيات والأخبار، كقوله تعالى: هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون. وقال تعالى: رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه [البينة:8]. قال تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان [الرحمن:45]. وقال تعالى: إنما يَخْشَى الله من عباه العُلمَاء [فاطر:6]. وكل ما دل على فضيلة العلم يدل على فضيلة الخوف لأن الخوف ثمرة العلم.
واعلموا أن البكاء إما من حزن، وإما من وجع، وإما من فزع، وإما من فرح، وإما شكرا، وإما من خشية الله تعالى، وهذا هو أعلاها درجة وأغلاها ثمنا في الدار الآخرة، وأما البكاء للرياء والكذب فلا يزداد صاحبه به إلا طردا وبعدا ومقتا.
وحق لمن لم يعلم ما جرى له به القلم في سابق علم الله تعالى، من سعادة مؤبدة، أو شقاوة مخلدة، وهو فيما بين هاتين الحالتين قد ركب المحرمات، وخالف خالقه في المنهيات، أن يكثر بكاؤه وأسفه وحزنه ونحيبه ولهفه، وأن يهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن يجأر إلى الله تعالى على ما سلف منه، من سوابق مخالفاته، وقبائح شهواته، عسى الله أن يوفقه إلى التوبة النصوح، وأن يخرجه من ظلمات الجهل والعصيان إلى العلم والطاعة، وما لهما من ثمرات المعرفة والفتوح.
قال بعضهم: أرق الناس قلوبا أقلهم ذنوبا.
وقال : ((أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) ( [12] ).
ومن ثم غلب الخوف على الأنبياء والرسل والعلماء والأولياء، وغلب أمن المكر على الظلمة الأطغياء، والفراعنة الأغبياء، والجهلة والعوام، الرعاع والطغام، حتى كأنهم حوسبوا وفرغ منهم، فلم يخشوا سطوة العقاب، ولا نار العذاب، ولا بعد الحجاب: نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون [الحشر:19].
وفي صحيح البخاري عن أم العلاء – امرأة من الأنصار – ((أنهم اقتسموا المهاجرين أول ما قدموا عليهم بالقرعة قالت: فطار لنا أي وقع في سهمنا عثمان بن مظعون، من أفضل المهاجرين وأكابرهم ومتعبديهم، وممن شهد بدرا، فاشتكى فمرضناه، حتى إذا توفي وجعلناه في ثيابه، دخل علينا رسول الله ، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى – فقال لي رسول الله : وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال: أما عثمان فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير، ثم قال رسول الله : ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي. قالت: فوالله لا أزكي أحدا بعده أبدا)) ( [13] ).
فتأملوا عباد الله زجره عن الجزم بالشهادة على الله في عثمان، مع كونه شهد بدرا وقد قال : ((وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) ( [14] ).
وقد قبله ووصفه بأعظم الأوصاف وأفضلها وكان أول من قبر في البقيع.
فهذا يدلنا عباد الله على أنه ينبغي لنا وإن عملنا من الطاعات ما عملنا، أن نكون على حال الخوف والخشية من الله تعالى، وعذابه وأليم عقابه، فإنه لا يجب عليه لأحد من خلقه شيء: قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً [المائدة:16].
ومن العجيب أن قوله تعالى: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى [طه:82].
ربما فهم منه بعض من لا تأمل له، أن فيه رجاء عظيما، وأي رجاء عظيم فيه، مع كونه تعالى شرط للمغفرة أربعة شروط: التوبة، والإيمان الكامل، والعمل الصالح، ثم سلوك سبيل المهتدين، من مراقبة الله تعالى وشهوده وإدامة الذكر والفكر والإقبال على الله تعالى بقلبه وحاله ودعائه وإخلاصه.
ونظير ذلك قوله تعالى: فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين [القصص:67].
ولا تغتر بما قيل: عسى من الله واجبة الوقوع، فإن ذلك أكثري لا كلي، قال تعالى: فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى [طه:43]. وفرعون لعنه الله لم يتذكر ولم يخش، بل نبهك الله تعالى على أنك إذا تبت توبة نصوحا، وآمنت إيمانا كاملا وعملت صالحا، كنت على رجاء حصول الفلاح لك والهداية والقرب من حضرة الحق، فإياك وأن تأمن مكر الله واستحضر قوله تعالى: ليسأل الصادقين عن صدقهم [الأحزاب:8]. وقوله: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق [هود:102-106].
سئل سعيد بن جبير عن الخشية فقال أن تخشى الله تعالى حتى تحول خشيته بينك وبين معاصيه، فهذه هي خشيته، وأما الغرة بالله فهي أن يتمادى الرجل في المعصية، ويتمنى على الله المغفرة.
وعن يحي بن معاذ قال: من أعظم الاغترار أن المذنب يرجو العفو من غير ندامة، ويتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وينتظر الجزاء بلا عمل، ويتمنى على الله مع الإفراط.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
( [1] ) رواه مسلم (3/117،118) الطهارة باب فضل الوضوء والصلاة عقبه والترمذي (2/14،15) الصلاة : باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس وقال أبو عيسى حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
( [2] ) رواه البخاري (5/393) الوصايا : باب قول الله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا وفي الطب وفي المحاربين ، ومسلم (2/83) الإيمان : باب بيان الكبائر وأكبرهما ، ورواه أبو داود والنسائي.
( [3] ) رواه البخاري (5/261) الشهادات : باب ما قيل في شهادة الزور وكذلك في الأدب والاستئذان ، ومسلم (2/81،82) الإيمان : أكبر الكبائر ، والترمذي في الشهادات باب ما جاء في شهادة الزور.
( [4] ) رواه البخاري (8/163) التفسير : باب قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ورواه في الأدب والديات والتوحيد ، ورواه مسلم (2/80) الإيمان : باب الشرك أعظم الذنوب ، ورواه الترمذي ، ورواه النسائي في تحريم الدم ، وأبو داود في الطلاق.
( [5] ) رواه البخاري (10/403) في الأدب ومسلم (2/83) الإيمان : أكبر الكبائر ورواه الترمذي في البر وأبو داود في الأدب.
( [6] ) رواه مسلم (114/115) الإيمان : باب ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة ولا يزكيهم ، ورواه البخاري بمعناه (5/34) باب إثم من منع ابن السبيل من الماء أبو داود والنسائي.
( [7] ) رواه البخاري (10/472) الأدب : باب النميمة من الكبائر ، ومسلم (2/113)الإيمان : غلظ تحريم النميمة ورواه أبو داود والترمذي.
( [8] ) رواه الدار قطني وهو من رواية مكحول عن أبي ثعلبة وفيه انقطاع بين مكحول وأبي ثعلبة وله شاهد عند الدار قطني وآخر عند البزار والحاكم وصححه قال عبد القادر الأرناؤوط وله شواهد أخر بمعناه يرتقي بها إلى درجة الحسن وقد حسنه النووي في أربعينه وكذلك حسنة قبله الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه ، جامع الأصول هامش (5/59).
( [9] ) رواه البخاري (9/281) النكاح : باب الغيرة ، ومسلم (17/77) التوبة : باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش ورواه والترمذي في الرضاع : باب ما جاء في الغيرة.
( [10] ) رواه البخاري (9/280) في النكاح : باب الغيرة ، ورواه في التفسير والتوحيد ، ورواه مسلم (17/77) التوبة : باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش ورواه الترمذي في الدعوات.
( [11] ) رواه البخاري (13/251) الاعتصام بالكتاب والسنة : باب الاقتداء بسنن رسول الله ، ومسلم (9/101) الحج : باب فرض الحج مرة في العمر ورواه الترمذي في العلم والنسائي في الحج.
( [12] ) روه البخاري ومسلم وقد تقدم تخريجه.
( [13] ) رواه البخاري (8/492) تفسير سورة الفرقان وفي الأدب ومسلم (8/80) الإيمان : باب كون الشرك أقبح الذنوب ورواه أبو داود والترمذي.
( [14] ) رواه البخاري عن علي (6/143) الجهاد :باب الجاسوس في قصة حاطب بن أبي بلتعة حديث رقم 1429.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/235)
تحريم موالاة المشركين
الإيمان
الولاء والبراء
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف الله النصارى بالضلال واليهود بالمغضوب عليهم. 2- وجوب معاداة الكافرين
وبغضهم وتحريم موالاتهم. 3- قصة حاطب بن أبي بلتعة. 4- اضطهاد المسلمين في ارتيريا وأثيوبيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
اعلموا عباد الله أن الله عز وجل قد هدى الناس ببركة نبوة محمد ، وما جاء به من البينات والهدى، هداية جلت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين به عموما، ولأولي العلم منهم خصوصا، من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق العظيمة والسنن المستقيمة شيئا عظيما، فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى.
قال عدي بن حاتم : أتيت رسول الله وهو جالس في المسجد – فقال القوم: هذا عدي بن حاتم، وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه أخذ بيدي، وقد قال قبل ذلك: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي، قال: فقام بي فلقيته امرأة وصبي معها، فقالا: إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها وجلست بين يديه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما يفرك؟ أيفرك أن تقول: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله سوى الله؟ قال: قلت: لا، ثم تكلم ساعة ثم قال: إنما يفرك أن تقول الله أكبر أو تعلم شيئا أكبر من الله؟ قال: قلت: لا، قال: فإن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال.
قال: فقلت: فإني حنيف مسلم، قال: فرأيت وجهه ينبسط فرحا ( [1] ).
وقد دل الكتاب على معنى هذا الحديث، من وسم النصارى بالضلال، واليهود بالغضب.
قال الله عز وجل في النصارى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة إلى قوله عز وجل: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل [المائدة:72].
وقال عز وجل عن اليهود: فباءوا بغضب على غضب [البقرة:90].
ووسم النصارى بالضلال، لأن كفرهم من وجهة عملهم بلا علم، فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون، ووسم اليهود بالغضب لأن أصل كفرهم عدم العمل بعلمهم، فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه قولا أو عملا.
ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة وغيره يقولون: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى.
واعلموا عباد الله أن الله عز وجل قد أوجب علينا معاداة الكفار والمشركين، وأكد إيجابه، وحرم علينا موالاتهم وشدد فيها حتى إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده.
فمن الأدلة على تحريم موالاة المشركين قوله عز وجل في سورة النساء: بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً [النساء:138-139].
إلى أن قال عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً [النساء:144].
فيقول عز وجل منكرا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين: أيبتغون عندهم العزة ثم أخبر أن العزة كلها له وحده لا شريك له، والمقصود التهييج على طلب العزة من جانب الله تعالى، والالتجاء إلى عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
ومن الأدلة كذلك قوله عز وجل: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء [آل عمران:28].
فنهى سبحانه المؤمنين عن موالاة الكافرين ثم قال: ومن يفعل ذلك أي ومن يوال الكافرين فليس من الله في شيء، أي فقد برئ من الله وبرئ الله منه، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد حفظا للإسلام والتوحيد.
وقال تعالى: ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون [المائدة:80-81].
فرتب الله عز وجل على موالاة الكافرين سخطه والخلود في العذاب، وأخبر أن ذلك لا يحصل إلا ممن ليس بمؤمن، وأما أهل الإيمان بالله وكتابه ورسوله فإنهم لا يوالونهم، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين [المائدة:51-52].
فنهى سبحانه وتعالى المؤمنين أن يوالوا اليهود والنصارى، وذكر أن من تولاهم فهو منهم، أي من تولى اليهود فهو يهودي، ومن تولى النصارى فهو نصراني، وقد روى ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر، قال فظنناه يريد هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء الآية وكذلك من تولى المشرك فهو مشرك، لا فرق بين أهل الكتابين وغيرهم من الكفار.
ثم أخبر تعالى أن الذين في قلوبهم مرض أي شك في الدين وشبهة يسارعون في الكفر قائلين نخشى أن تصيبنا دائرة أي إذا أنكرت عليهم موالاة المشركين قالوا: نخشى أن تكون الدولة لهم في المستقبل، فيتسلطوا علينا فيأخذوا أموالنا ويشردونا من بلادنا، وهذا هو ظن السوء بالله عز وجل.
ولهذا قال تعالى: فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين وعسى من الله واجبة، والحمد لله الذي أتى بالفتح فأصبح أهل الظنون الفاسدة على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
وقال عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين [المائدة:57].
فنهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن موالاة أهل الكتابين وغيرهم من الكفار، وبين أن موالاتهم تنافي الإيمان.
وقد تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون [التوبة:23].
فنهى سبحانه وتعالى المؤمن عن موالاة أبيه وأخيه اللذين هما أقرب الناس إليه إذا كان دينهما غير الإيمان، وبين أن الذي يتولى أباه وأخاه إذا كانا كافرين فهو ظالم، فكيف من يتولى الكافرين الذين هم أعداء له ولآبائه ولدينه، أفلا يكون هذا ظالما؟ بلى والله إنه لمن أظلم الظالمين.
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليكم توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير [الممتحنة:1-4]. إلى أن قال الله عز وجل في آخر السورة: يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور [الممتحنة:13].
وقد ثبت في الصحاح أن هذه السورة سورة الممتحنة نزلت في رجل من الصحابة رضي الله عنهم يسمى حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى أهل مكة يخبرهم بمسير النبي إليهم عام الفتح، وأرسله مع امرأة، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات، وأخبر نبيه بخبر الكتاب، فوجده في عقيصة رأس المرأة، فجاء الرجل إلى النبي يعتذر ويحلف أنه ما شك ولكنه ليس له من يحمي من وراءه من أهل مكة، وأنه أراد بهذا يدا عند قريش، واستأذن عمر بن الخطاب في قتله، فقال النبي : ((وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) ( [2] ).
فلولا أنه كان من أهل بدل لقتل لهذا الكتاب.
فهذه السورة مع سبب نزولها من الأدلة على وجوب عداوة الكفار، ومقاطعتهم فنهى تعالى أهل الإيمان عن اتخاذ عدوه – وعدوهم أولياء – وهذا تهييج على عداوتهم، ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى، فقدر نفسك مملوكا، وسيدك له عدو من الناس، فهل يصح عندك ويجوز في عقلك أن تتخذ عدو سيدك وليا، ولو لم ينهك عن ذلك ؟! فكيف إذا نهاك عن ذلك أشد النهي، ورتب على موالاتك له أن يعذبك وأن يسخط عليك، وأن يوصل إليك ما تكره، ويمنع عنك ما تحب، فكيف إذا كان هذا العدو لسيدك عدو لك أيضا، فإذا واليته مع ذلك كله إنك إذاً لمن الظالمين.
ثم قال عز وجل: تلقون إليهم بالمودة فسمى الله عز وجل مجرد إرسال هذا الكتاب إلقاء بالمودة، ثم بين عز وجل ما يدعو إلى عداوتهم وهو كفرهم بالذي جاء من عند الله، وإخراجهم النبي وأهل الإسلام لأجل الإيمان بالله، فقال عز وجل: وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ومما يدعو إلى عداوتهم وبغضهم أيضا أنهم يضمرون في أنفسهم أنهم إذا تمكنوا من المسلمين لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة فقال عز وجل: إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون وهذا مشاهد بالعيان فضلا عن الدليل والبرهان، ففي كل زمان وفي كل مكان تكون الغلبة فيه لليهود أو النصارى ويتمكنون من المسلمين يسموهم سوء العذاب.
لما استولت الحبشة على إقليم إرتيريا المسلم، واستلم هيلاسلاسي الكافر السلطة، وضع خطة لإنهاء المسلمين خلال خمسة عشر عاما، وتباهى بخطته هذه أمام الكونجرس الأمريكي، وسن تشريعات لإذلال المسلمين، منها أن عليهم أن يركعوا لموظفي الدولة، وإلا يقتلوا، وأمر أن تستباح دماؤهم لأقل سبب، وأصدر أمره بإغلاق مدارس المسلمين، وأمر بفتح مدارس مسيحية، وأجبر المسلمين على إدخال أبنائهم فيها ليصبحوا مسيحيين.
وعين حكاما فجرة على مقاطعات إرتيريا، بدأ أحدهم عمله بأن أمر أن لا يقطف الفلاحون ثمار أراضيهم إلا بعد موافقته، وكان لا يسمح بقطافها إلا بعد أن تتلف، وأخيرا نهب جميع ممتلكات الفلاحين المسلمين، وأمر أن تبنى كنيسة عند مدخل كل قرية، ولم يكتف بذلك بل وبنى دورا للعاهرات حول المساجد، ومعها الحانات التي كان يسكر فيها الجنود ليبولوا بها ويراقصوا العاهرات وهم سكارى، وكافأه هيلاسلاسي بأن عينه وزيرا للداخلية.
وقد سجل التاريخ على صفحات سوداء ما حدث للمسلمين في أسبانيا والفلبين والأمثلة كثيرة لا تحصى وسبب ذلك شدة البغضاء للإسلام وأهله.
كما قال الله عز وجل: قد بدت البغضاء من أفواهم وما تخفى صدورهم أكبر [آل عمران:118].
ثم قال عز وجل: لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير [الممتحنة:3].
فبين عز وجل أن كون الرجل له أرحام وأولاد عند المشركين لا يبيح له موالاتهم، كما اعتذر حاطب بن أبي بلتعة ويجب على المسلم أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
ثم بين تعالى أن عدم موالاة المشركين والبراءة منهم هو الصراط المستقيم الذي عليه جميع المرسلين فقال عز وجل: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه فأمرنا الله عز وجل أن نتأسى بإبراهيم الخليل ومن معه من المرسلين في قولهم لقومهم: إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله وقدم البراءة من المشركين العابدين غير الله على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله، لأن البراءة من المشركين تستلزم البراءة من معبوداتهم، كما قال الخليل كذلك: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً [مريم:48].
فقدم اعتزالهم على اعتزال معبوداتهم، ثم قال عز وجل في خاتمة هذه السورة المباركة: يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور [الممتحنة:13].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل كلمة الحق والدين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، اللهم العن اليهود والنصارى، وصل اللهم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
( [1] ) رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب.
( [2] ) رواه البخاري عن علي (6/143) الجهاد : باب الجاسوس.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/236)
محبة الله بين الخوف والرجاء
الإيمان, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية, خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
29/6/1407
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
محبة الله عز وجل واقترانها بالخوف والرجاء , وطبيعة المحبة الخالية من هذين المقامين
وسوء أدب أصحاب هذه المحبة – سر ابتلاء يونس عليه السلام – عدم الاغترار والثقة بالنفس
وعملها والخوف من عدم قبوله , وحال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة – الأسباب
الجالبة لخشية الله – الخوف من حرمان التوبة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن المؤمن الموحد المحسن حبه لله تعالى مقرون بالإجلال والتعظيم إنه حب المملوك لمالكه حب العبد لسيده حب المخلوق المقهور الضعيف لله الواحد القهار. ولذلك فإن المحبين الصادقين هم في هذا المقام في مقام المحبة هم في مقام موزون بين الرجاء والخوف.
فرجاؤهم معلق برحمة الله تعالى ولا يخافون إلا الله هم أشد الناس خوفًا من الله تعالى، وقد جمع الله تعالى أركان هذا المقام الإيماني الإحساني الرفيع في قوله سبحانه: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه [الإسراء:57]. وهم يتقربون إلى الله تعالى بحبه وبفعل ما يحبه ويرجون رحمته ومع ذلك يخافون عذابه.
فبين سبحانه في هذه الآية أن الملائكة والأنبياء وعباد الله الصالحين يتقربون إلى الله تعالى بحبه ويرجون رحمته ويخافون عذابه فهم في مقام حبهم لله في مقام موزون بين الرجاء والخوف. وذلك لكمال عبوديتهم لله تعالى وإجلالهم وتعظيمهم إياه.
لكن المحبة إذا خلت من الإجلال والتعظيم تحولت إلى نوع لا يليق بهذا المقام فيقع المحب إذًا في التدلل وفي سوء الأدب مع محبوبه.
قال أحد العباد الجاهلين الذين جهلوا هذا المقام قال هذه القولة الشنيعة: ما عبدتُ الله طمعًا في جنّته ولا خوفاً من عذابه إنما عبدته حباً في ذاته.
هذا جهل بهذا المقام وسوء أدب مع المحبوب، وزاد في سوء الأدب مع الله فقال:- وليس لي في سواك حظ فكيف ما شئت تمتحني؟
يا لجرأة هذا العبد المسكين، يا لجرأته وجهله بهذا المقام جرأته وسوء أدبه مع مقام المحبوب، إنه جبار السماوات والأرض، الله الواحد القهار لا يتدلل أحد من عبيده، عليه الأدب في محبته معه. كيف يتدلل العبد المقهور المملوك على الواحد القهار، ومع هذا ذلك العبد المسكين يقول: يا رب، إن حبي كله لك ليس لغيرك منه نصيب، فامتحن حبي إن شئت امتحنه كما تريد فإني لا أخاف ذلك، وامتحنه ربه ابتلاه سبحانه وتعالى، ذُكِرَ أن هذا العبد المسكين امتُحن بأن حبس الله بوله فأصيب بعسر البول، فكان كلما اشتدت عليه هذه المصيبة يطوف على الصبيان الصغار في الكتاتيب يقول لهم: ادعوا لعمكم الكذاب.
وقد ذكر فيما مضى قصة نبي الله وعبده الصالح يونس عليه السلام، مع الفرق بين الرجلين والفرق بين الهفوتين، ذلك نبي كريم عالم بربه لكن هفوته قد تبدو لنا قليلة دقيقة عاقبه بها ربه وابتلاه ذلك البلاء.
لما أذن يونس عليه السلام متكلاً على محبة ربه ومقامه عند ربه. إذن لما ذهب مغاضبًا. انظر كيف ابتلاه الله تعالى وهو نبي كريم وعبد صالح وعابد صادق ابتلاه بأن حبسه في بطن الحوت.
لا يتدلل أحد من العبيد على الله الواحد القهار.
الصحابة الكرام وهم أكرم هذه الأمة بعد نبيها وهم من هم في مقام إيمانهم وعلمهم وعملهم مع ذلك رباهم الله تعالى قال تعالى: ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون [آل عمران:143].
لذلك كان سيدنا رسول الله يعلم أصحابه الكرام ألا يغتروا بأنفسهم لا يغتروا بمقامهم لا يغتروا بقوة إيمانهم، لا يغتروا بحسن عملهم فيتمنوا لقاء العدو قال لأصحابه الكرام: (( لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية وإذا لقيتموهم فاثبتوا)) [1].
فلا يغتر العبد بهذا المقام، العبد المحب لله تعالى إذا أصابه الغرور وذهب الخوف من قلبه حُرم من هذا المقام، هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أعظم المحبين لله تعالى، ومع ذلك كانوا في مقام حبهم في مقام موزون بين الرجاء والخوف يرجون رحمة الله ويخافون أشد الخوف من عذابه.
في الصحيح [2] أن النبي قال: (( أما إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) وكان إذا قام يصلي لربه يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل [3] من شدة البكاء بين يدي ربه وخوفًا من ربه سبحانه وتعالى، هذا مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولكنه لعلمه بربه وبعظيم قدره وسلطانه وعظيم عقابه وشديد عذابه، كان أشد الناس خوفًا منه سبحانه وتعالى.
وكلما كان العبد أعلم بالله كان أخوف له. قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر: 28].
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :وكفى بخشية الله علمًا.
المؤمنون الموحدون المحسنون العالمون بربهم عز وجل يخافون الله أشد الخوف لأنهم سمعوه يأمرهم بذلك قال تعالى في كتابه: وخافوني إن كنتم مؤمنين [آل عمران:175].
وقال سبحانه: فلا تخشوا الناس واخشون [المائدة:44].
ويخافون ربهم عز وجل لما يعلمون من أنه سبحانه وتعالى يقلب القلوب.
هؤلاء المؤمنون الموحدون المحسنون المستقيمون في أعمالهم على طريق المحبة والاستقامة ومع ذلك يخافون ربهم أشد الخوف، لما يعلمون من أنه يقلب القلوب فالقلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء.
قال سبحانه: واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه [الأنفال:24].
فمن ذا الذي لا يخاف على قلبه من تقلب الحال وعلى نفسه من انحياد المآل.
لذلك كان وهو أكرم الخلق على الله كان يُكثر في يمينه أن يقول: ((ولا مقلب القلوب)) [4] وكان يقول في دعائه : ((اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) [5].
ويخافون ربهم عز وجل أشد الخوف لما يعلمون أيضًا من أن عملهم قليل، يخافون منه أشد الخوف فرقًا من أنه لا يقبل عملهم الصالح. فهم مشفقون من ذلك أشد الإشفاق وقلوبهم وجلة قال تعالى: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [المؤمنون:60].
فالمؤمن الحق الصادق الموحد المحسن يخاف ألا يُقبل عمله، لا يغتر بعمله إنه يعلم أنه لن ينجو بعمله إنما ينجو برحمة الله تعالى ومنه وكرمه وعفوه.
وإن كان سبحانه وتعالى قد جعل العمل سببًا للنجاة ولكن العمل ليس مقابلاً للنجاة فلو كان الأمر على سبيل المقابلة ما استحق عبد أن ينجو بعمله مهما كان مقامه.
قال : ((لن ينجي أحدًا منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال :ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)) [6].
فالمؤمن لا يغتر بعمله أيضًا لأنه يعلم أن النجاة معلقة برحمة الله تعالى ومنّه وكرمه.
المؤمنون الموحدون المحسنون يخافون ربهم أشد الخوف، ولا يزالون في خوف من الله تعالى مازالوا في هذه الدنيا، لا يذهب الخوف من قلوبهم حتى يستقروا في جنته هذا إذا أكرمهم الله عز وجل فأدخلهم في مستقر رحمته وأسكنهم جنته، حين ذلك فقط يذهب الخوف من قلوبهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أما ما داموا في هذه الدنيا في هذه الحياة فهم في خوف دائم على أنفسهم لأنهم يعرفون قدر أنفسهم.
هذا حال المستقيمين منهم الذين أعرضوا عن المعاصي فما بالك بالمذنبين الذين يعلمون جناية أنفسهم وتفريطهم في جنب الله تعالى، ما أحراهم أن يكونوا أشد خوفًا لله سبحانه وتعالى، هذا إذا كانوا يعرفون ربهم فإنهم حينئذ يعلمون أن ربهم سبحانه وتعالى ما أغير منه، [7] إنه يغار أن تُنتهك محارمه.
وأخوف ما يخاف الموحدون المذنبون من أن يُحرموا من التوبة فذلك من أعظم العقوبات أن يجد العبد المذنب باب التوبة موصدًا أمامه فلا يوفق إلى التوبة أبدًا والعياذ بالله. هذا من أعظم العقوبات وهو من أخوف ما يخاف المؤمن الموحد المذنب على نفسه، فالمؤمن الموحد هو في خوف من الله تعالى شديد ورجاء في رحمته كبير ولذلك فإن لإيمانه بالله تعالى مقاماً موزوناً، ولمحبته لله تعالى مقاماً موزوناً بين هذين المقامين.
أما ذلك العابد الجاهل المسكين الذي لا يطمع في جنة ربه ولا يخاف من عذابه فقد أخطأ هذا المقام وحُرم من هذا المقام، أخطأ في دعواه المحبة فإن المحب الصادق الذي يعرف ربه فهو في خوف ولا يأمن على نفسه أبدًا حتى يستقر في جنة ربه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين [الأعراف:56].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في الجهاد باب لا تمنّوا لقاء العدو (3/1101) رقم (3024،3026).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في النكاح باب الترغيب في النكاح (5/1949).
[3] أخرجه أحمد (4/25و26) والترمذي في الشمائل (323) وأبو داود (904) والنسائي (3/13)وغيرهم.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه في القدر باب يحول بين المرء وقلبه (6/2440).
[5] مسند أحمد (3/112، 257) سنن الترمذي (2140،3522).
[6] أخرجه البخاري في صحيحه في الرقاق باب القصد والمداومة على العمل (5/2373).
[7] أخرجه البخاري في صحيحه في التفسير (4/1696).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/237)
محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثرها في عبادة المرء
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الاتباع
عبد العزيز بن عبد الرحمن المقحم
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلاقة الوثيقة بين المحبة والفعل. 2- أمور ثلاثة تحقق حلاوة الإيمان. 3- المحبة مرهونة بالطاعة. 4- محبة الصحابة للرسول. 5- محبة الرسول ليس كلمة تقال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، إن هذه الأجساد التي نحملها والأعضاء التي تحركها لا يكمن أن نسيرها إلا بحسب مشاعرها، فهي للمشاعر تبع، ولا يمكن أن تعرف محبًا لشيء ولا مبغضًا له إلا بفعله تجاهه وموقفه منه، لا بكلامه وإن كثره وزيَّنه وحلف عليه، ولكن ذلك الفعل والموقف محكوم بمشاعره نحوه، فإن أحبه أقبل عليه أيما إقبال، وإن أبغضه نفر منه كل نفور، وإن لم يجد له في قلبه حبًا ولا بغضًا كان مستويًا عنده قربه وبعده، إن أمكن منه قرب اقترب وإن حال دونه حائل ابتعد، وقس على هذا التفصيل أعظم أمورك وأحقرها، فما أحببته منها فعلته راغبًا ومشتاقا غير متعتع ولا وانٍ، وما كرهته منها تركته غير مهتم ولا مبال مهما كانت دواعيه وأسبابه، وما كان منها غير محبوب ولا مكروه فليس له في قلبك دافع وليس له فيه مانع، فما تزال تجريه كيفما اتفق، إن تيسر فعلته غير محب ولا كاره، وإن تعسر تركته غير مبال ولا نادم.
وما من شك أن أعظم الأمور وأهمها الاستجابة لله ولرسوله وهي ذات وجوه متعددة، من صلاة وزكاة وصيام وذكر وقراءة وترك محرّم، وغير ذلك من أعمال البر، وهو كما قال تعالى: لَّيْسَ ?لْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ?لْمَشْرِقِ وَ?لْمَغْرِبِ وَلَـ?كِنَّ ?لْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيّينَ وَءاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَ?لسَّائِلِينَ وَفِي ?لرّقَابِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى ?لزَّكَو?ةَ وَ?لْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـ?هَدُواْ وَ?لصَّابِرِينَ فِى ?لْبَأْسَاء و?لضَّرَّاء وَحِينَ ?لْبَأْسِ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، ولكن تلك الأعمال كلها لا يمكن أن تباشرها الأعضاء وتنشط إليها الأجساد إلا بعدما تكون مُحِبة لها حبًا صادقا، ويجعلها في شوق إليها، ورغبة في ممارستها وتلذذ بصنيعها، وراحة بعد الفراغ منها، انظر إلى قول رسول الله : ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ نجاه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) [1] ، إن تلك المرتبة العالية ـ وهي أن يجد المرء حلاوة الإيمان بالله ـ لا بد لها من ثلاثة أمور.
أولها: أن لا يكون شيء مهما عظم أحب إليه من الله ورسوله حتى والده وولده والناس أجمعين كما ثبت عنه حين قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) [2] ، بل حتى نفس المؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام لعمر حين قال له: يا رسول الله، إنك أحب إلي من كل أحد إلا نفسي، فقال: ((لا يا عمر حتى نفسك))، فقال عمر : الآن ـ يا رسول الله ـ لأنت أحب إلي من نفسي، فقال : ((الآن يا عمر)) ، والله يقول: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْو?نُكُمْ وَأَزْو?جُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْو?لٌ ?قْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـ?رَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـ?كِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى? يَأْتِىَ ?للَّهُ بِأَمْرِهِ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [التوبة:24].
والثانية: أن يحب المرء حبًا صادقا، لا لأنه جلب له نفعًا ولا دفع عنه ضرًا ولا لسبب ولا نسب، ولكنه لا يحبه إلا لله أي لما يرى منه من عبادة وصلاح فيحبه لذلك والله تعالى يقول: ((وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتزاورين فيّ والمتباذلين فيّ)) ، وفي السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)).
والثالثة: أن يشعر بأهمية ما هو عليه من الدين والهدى والحق وأن يكره الخروج منه إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار بل أعظم من ذلك، فإن المؤمنين الصادقين عرضوا على النار لتحرقهم أو يتحولوا عن دينهم فاختاروا أن يرموا في النار ولا يرجعوا عن دينهم كما فُعِل بأصحاب الأخدود وغيرهم.
ثم انظر لترى أن تلك الأمور الثلاثة التي يجد المرء بها حلاوة الإيمان ليس فيها عمل بدني، وإنما هي كلها مشاعر في قلب العبد والأمة، فما معك منها؟! غير إن وجود تلك المشاعر ليس بالأمر الهين، بل دونه خرط القتاد وشيب الغراب، إلا لمن منَّ الله به عليه.
ثم إن المقصود من تلك المشاعر هو ما يتبعها من العمل بمقتضاها والاستجابة التامة هو دليل وجودها في قلب العبد أو الأمة، أما الادعاء والكلام المجرد فمركب سهل وكلٌّ يركبه، وكم زعم المنافقون أنهم يحبون الله ورسوله وكم حلفوا على ذلك، ولكن دليل الصدق هو العمل والاتباع كما قال تعالى في آية المحنة التي امتحن بها من يدّعون محبة الله: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:31، 32]، وبقدر محبتك لله ورسوله تكون استجابتك ومحبتك لتنفيذ ما أمر به الله أو رسوله ، وما تفريطك في بعض ما أمر به أو رسوله إلا لنقص في محبتك لله ورسوله علمت ذلك أو لم تعلم، فتلك هي الحقيقة دون أدنى نظر إلى ما تدّعيه من المحبة ادّعاءً، فمن أحب الله ورسوله أطاع الله ورسوله، ومن نقصت محبته نقصت طاعته، إن المحب لمن يحب مطيع. فمن أحب الله ورسوله أحب الصلاة؛ لأن الله يحب منه أن يصلي، وأحب الاستغفار؛ لأن الله يحب منه أن يستغفر، وأحب الذكر والقرآن؛ لأن الله يحب منه أن يذكر ويقرأ، ومن أحب الله ورسوله أبغض الزنا؛ لأن الله يبغضه، وأبغض الربا والفحش والمعازف والملاهي وسائر المحرمات؛ لأن هذا عبد محب، فهو ينظر ما يحبه مولاه فيحبه، وما يبغضه مولاه فيبغضه. وهكذا كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم، لقد كانت محبتهم لرسول الله ضربًا من العجب؛ لأنهم يعلمون ما خصه الله به من الفضائل العظام وما كان عليه من الخلق العظيم.
وحسبك أن تعلم وجهًا واحدًا مما اختصه الله به من الفضائل: انظر إلى اجتماعات الناس الكبرى، حين يجتمعون في مناسباتهم وأعيادهم، وكل يرى في نفسه من الكبراء والوزراء والأمراء والزعماء أنه مهم، وأن حضوره ذو بال، وغيابه خسران على أهل الاحتفال، مع أنه في زمن محدود وجمع معدود، وهنيئا حين ذاك لمن لا يجد هذا في نفسه تواضعًا، ولكن رسول الله في ذلك الموقف العظيم والجمع العميم يوم يجمع الله الأولين والآخرين سيكون الشافع المشفع، حين يقول أولياء الله المصطفون: نفسي نفسي، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((أنا لها)). فأي شرف بعد هذا؟! وأي كرامة فوق هذ؟! ومع ذلك ومع أنه أعظم المخلوقين شرفا وأعلاهم منزلة فهو أكثرهم تواضعًا وأشدهم حياءً، حتى كان يصغي الإناء للهرة لتشرب فلا يرفعه حتى تروى، وتستتبعه الأَمَةُ والمسكين فيتبعهما إلى حيث يريدان، وكان لا ينزع يده من يد من سلم عليه حتى يكوه المُسَلّم هو الذي ينزع يده، فانظر كيف جمع الله له المكارم من أطرافها، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ولذا فإن محبته تختلف باختلاف معرفة قدره وخُلُقِه، وقد عرف ذلك صحابته والتابعون فأحبوه أعظم الحب وأصدقه.
وإن الحديث عن محبتهم رسول الله وآحاده ضرب من العجب كما تقدم، وخليق أن يفرد بخطبة خاصة، ولكننا نكتفي بذكر مواقف معدودة لنرى كيف كانت محبتهم لرسول الله :
هذا خبيب بن عدي مصلوبًا على خشبة القتل عند قريش، يقولون له: أتحب أنك سالم في أهلك وأن محمدًا مكانك؟ فيقول: والله، ما أحب أني سالم في أهلي وتصيب محمدًا شوكة. إنه لا يجعل قتله كفاء لقتله، ولكنه يرى موته هو أهون عليه من أن يصاب رسول الله بأدنى أذى حتى الشوكة.
وتلك أم سُلَيْم حين قال عندها رسول الله [3] ، فجعلت تسلت العرق عن جنبه الشريف في قارورة معها، فاستيقظ بفعلها فقال: ((ما تصنعين يا أم سليم؟)) قالت: عرقك ـ يا رسول الله ـ نجعله في طيبنا.
ويقول سهيل بن عمرو: لقد دخلت على الملوك وكسرى وقيصر فما رأيت أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا.
وقد كان هو يحبهم أيضًا، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ?لإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ فَ?سْتَغْلَظَ فَ?سْتَوَى? عَلَى? سُوقِهِ يُعْجِبُ ?لزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ?لْكُفَّارَ وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (15)، ومسلم في الإيمان (60).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (13).
[3] أي: نام عندها وقت الظهيرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الفضل المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد المرسلين وخير الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على رسوله المصطفى فقال جل وعلا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، إن محبة رسول الله ليست نفلاً يتنفل به المسلم أو المسلمة، ولكنها شرط للإيمان، فلا إيمان للعبد إلا بها كما قال في الصحيح: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) [1] ، وكلما زادت محبته في قلب عبد كان أتم لإيمانه، حتى يجد بذلك حلاوة الإيمان كما تقدم معنا من قوله عليه الصلاة والسلام: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)) الحديث [2].
غير أن القلوب غيوب، فلا يعلم ما بها إلا الله تعالى، ولا دليل عليه إلا بالعمل، فمن كان أكثر طاعة لله ورسوله فهو أكثر حبًا لله ولرسوله، حتى يصدق حبه فتكمل استجابته، ومن كان أقل طاعة فهو أقل حبًا، حتى تعدم المحبة فتعدم الاستجابة، وإن قال بلسانه ما قال وحلف على مزاعمه، فإن القول بلا عمل يصدّقه من أبطل الباطل، فكيف بقول يخالفه فعل قائله؟! إياك ثم إياك أن تغرك الأقوال وأنت ترى الأفعال، أمَا قال الحق تبارك وتعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ [البقرة:204]؟! فما دليل شدة خصومته وعداوته مع أنه قوله معجب؟! الدليل أنه وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِى ?لأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ?لْحَرْثَ وَ?لنَّسْلَ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ [البقرة:205]. فالدليل على كذب قوله ما تراه من فعله أنه يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، بل لا يقبل مجرد كلمة خير تقال له، فإذا قيل له: اتق الله اعتزّ بإثمه وباطله وأصر عليه، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206].
إن الناس ربما اتفقت أقوالهم في الخير والجمال، ولكن العبرة في الأفعال، وَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ [العنكبوت:11]، ألم يقل المنافقون: آمنا بالله وبالرسول؟! أوَلم يقولوا: سمعنا وأطعنا؟! أولم يقولوا: نشهد إنك لرسول الله؟! أتظن أن أولئك انتهوا وليس لهم في الناس أمثال؟! أوَتظن أن المنافقين انقطعوا في هذا الزمان؟! وَيِقُولُونَ امَنَّا بِ?للَّهِ وَبِ?لرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى? فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذ?لِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ (1/238)
ذم الحرص على الشرف والمال
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الزهد والورع
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث ما ذئبان جائعان. 2- الحرص على الدنيا والحرص على طاعة الله. 3- الحرص
على الشرف أفسد أنواع الحرص. 4- شرف الدين يطلبه أناس بالدنيا والمال. 5- ويطلبه
آخرون بالدين. 6- كراهية السلف للشهرة والدنيا والإمارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عن كعب بن مالك الأنصاري عن النبي قال: ((ما ذئبان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) ( [1] ).
فهذا مثل عظيم جدا ضربه رسول الله لبيان فساد دين المرء مع حرصه على المال والشرف أي الرفعة في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بأقل من فساد الغنم التي غاب عنها رعاؤها وأرسل فيها ذئبان جائعان، ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه إلا قليل.
فأما الحرص على المال فهو نوعين: أحدهما: شدة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه مع الجهد والمشقة ، ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي يمكن أن يشتري به صاحبه الدرجات العلى والنعيم المقيم ، في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم ، ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره.
قيل لبعض الحكماء: إن فلانا جمع مالا، قال: فهل جمع أياما ينفقه فيها ؟ قيل :لا، قال: ما جمع شيئا.
كان عبد الواحد بن زيد يقول: يا إخوتاه لا تغبطوا حريصا على ثروته وسعته في مكسب ولا مال، وانظروا له بعين المقت له في اشتغاله اليوم بما يرديه غدا في المعاد ثم يتكبر.
وكان يقول: الحرص حرصان حرص فاجع وحرص نافع، فأما النافع فحرص المرء على طاعة الله، وأما الحرص الفاجع فحرص المرء على الدنيا، وهو مشغول معذب لا يسر ولا يلذ بجمعه لشغله، فلا يفرغ من محبة الدنيا لآخرته.
قال بعضهم:
لا تغبطن أخا حرص على طمع وانظر إليه بعين الماقت القالي
إن الحريص لمشغول بثروته عن السرور لما يحوي من المال
قال آخر:
يا جامعا مانعا والدهر يرمقه مفكرا أي باب منه يغلقه
جمعت مالا ففكرهل جمعت له يا جامع المال أياما تفرقه
المال عندك مخزون لوارثه ما المال مالك إلا يوم تنفقه
إن القناعة من يحلل بساحتها لم يأل في طلب مما يؤرقه
كتب بعض الحكماء إلى أخ له كان حريصا على الدنيا: أما بعد فإنك قد أصبحت حريصا على الدنيا تخدمها، وهي تخرجك عن نفسها بالأعراض والأمراض والآفات والعلل، كأنك لم تر حريصا محروما، أو زاهدا مرزوقا، ولا ميتا عن كثير، ولا متبلغا من الدنيا باليسير.
عاتب أعرابي أخا له على الحرص فقال له: يا أخي أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته، وتطلب من قد كفيته.
وأنشد بعضهم:
حتى متى أنت في حل وترحال وطول سمع وإدبار وإقبال
ونازح الدار لا ينفك مغتربا عن الأحبة لا يدرون بالحال
بمشرق الأرض طورا ثم مغربها لا يخطر الموت من حرص على بال
ولو قنعت أتاني الرزق في دعة إن القنوع الغنى لا كثرة المال
النوع الثاني من الحرص على المال أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم قال الله تعالى: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9].
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)) ( [2] ).
وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي قال: ((اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم)) ( [3] ).
أما الحرص على الشرف فهو أشد إهلاكا من الحرص على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف.
والحرص على الشرف نوعان:
أحدهما: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جدا، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها، قال تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين [القصص:82].
وقلّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق، بل يوكل إلى نفسه، كما قال النبي لعبد الرحمن بن سمرة: ((يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها)) ( [4] ).
قال بعض السلف: ما حرص أحد على ولاية فعدل فيها.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال: (( إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة)) ( [5] ).
وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري أن رجلين قالا للنبي : يا رسول الله أمرنا ، قال : ((إنا لا نؤتي أمرنا هذا من سأله، ولا من حرص عليه )) ( [6] ).
ومن دقيق حب الشرف طلب الولايات لمجرد علو المنزلة على الخلق، والتعاظم عليهم، وإظهار صاحب هذا الشرف حاجة الناس وافتقارهم إليه وذلهم في طلب حوائجهم منه، فهذا نفسه مزاحمة لربوبية الله وإلهيته، وربما تسبب بعض هؤلاء إلى إيقاع الناس في أمر يحتاجون فيه إليه ليضطرهم بذلك إلى رفع حاجاتهم إليه وظهور افتقارهم واحتياجهم إليه، ويتعاظم بذلك ويتكبر به، وهذا لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له كما قال تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون [الأنعام:42].
وقال: وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون [الأعراف:94].
فهذه الأمور أصعب وأخطر من مجرد الظلم، وأدهى وأمر من الشرك، والشرك أعظم الظلم عند الله.
ومن دقيق الحرص على الشرف كذلك أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على أفعاله، ويثنى عليه بها ويطلب من الناس ذلك ، ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما كان ذلك الفعل إلى الذم أقرب منه إلى المدح، وهذا يدخل في قوله: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب [آل عمران:188].
ومن هنا كان أئمة الهدى ينهون عن حمدهم على أفعالهم، وما يصدر منهم من الإحسان إلى الخلق، ويأمرون بإضافة الحمد على ذلك لله وحده لا شريك له، فإن النعم كلها منه.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله شديد العناية بذلك، وكتب مرة إلى أهل الموسم كتابا يقرأ عليهم وفيه أمر بالإحسان إليهم وإزالة المظالم التي كانت عليهم، وفي الكتاب ولا تحمدوا على ذلك إلا الله فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري.
وحكايته مع المرأة التي طلبت منها أن يفرض لبناتها اليتامى مشهورة، فإنها كانت لها أربع بنات ففرض لاثنتين منهن وهي تحمد الله، ثم فرض للثالثة فشكرته فقال إنما كنا نفرض لهن حيث كنت تولين الحمد أهله، فمري هذه الثلاث يواسين الرابعة.
والنوع الثاني من الحرص على الشرف، طلب الشرف على الناس بالأمور الدينية:
وهذا أفحش من الأول وأقبح وأشد إفسادا وخطرا، فإن العلم والعمل والزهد إنما يطلب به ما عند اله من الدرجات العلى والنعيم المقيم.
قال الثوري: إنما فضل العلم لأنه يتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء، وقد روى أحمد وأبو داود وابن ماجة عنه قال: ((من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) ( [7] ).
يعني ريحها، وسبب هذا والله أعلم أن في الدنيا جنة معجلة، وهي معرفة الله ومحبته والأنس به والشوق إليه وخشيته وطاعته، والعلم النافع يدل على ذلك، فمن دله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا دخل الجنة في الآخرة، ومن لم يشم رائحتها لم يشم رائحة الجنة في الآخرة.
ولهذا كان أشد الناس حسرة يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات فلم يستعملها إلا في التوصل إلى أخس الأمور وأدناها وأحقرها، فهو كمن كان معه جواهر نفيسة لها قيمة فباعها ببعرة أو شيء مستقذر لا ينتفع به، فهذا حال من طلب الدنيا بعلمه.
ومن طلب الشرف بالدين أن يطلب العبد بالعلم والعمل والزهد الرياسة على الخلق والتعالي عليهم.
عن ابن مسعود قال: (لا تعلموا العلم لثلاث لتماروا به السفهاء ، أو لتجادلوا به الفقهاء، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله فإنه يبقى ويفنى ما سواه).
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن أول الخلق تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة)) منهم العالم الذي قرأ القرآن ليقال قارئ، وتعلم العلم ليقال: عالم، وأنه يقال له قد قيل ذلك وأمر به فسحب على وجه حتى ألقي في النار.
ومن طلب الشرف بالدين الجرأة على الفتيا، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها.
قال علقمة: كانوا يقولون: أجرؤكم على الفتيا أقلكم علما.
وعن البراء قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار، من أصحاب رسول الله يسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم من رجل إلا ود أن أخاه كفاه. وفي رواية فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.
وقال ابن مسعود : أعلم الناس بالفتاوى أسكتهم، وأجهلهم بها أنطقهم، وقال بعضهم: إنما العالم الذي إذا أفتى فكأنما يقلع ضرسه.
وقال بعضهم: العلم ثلاثة: حلال وحرام ولا أدري.
وقال الإمام أحمد: ليعلم المفتي أنه يوقع عن الله أمره ونهيه، وأنه موقوف ومسؤول عن ذلك.
وكان ابن سيرين إذا سئل عن الشيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.
وكان النخعي يسأل فتظهر عليه الكراهة ثم يقول: ما وجدت أحدا تسأله غيري ؟ وقال: لقد تكلمت ولو وجدت بدّاً ما تكلمت، وإن زمانا أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء.
وقال بعض العلماء لبعض المفتين: إذا سألت عن مسألة فلا يكن همّك تخليص السائل، ولكن تخليص نفسك أولا.
وقال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [الحجرات:1].
فلا ينبغي أولا؛ حتى لا يقدم رأيه وهواه على كلام الله عز وجل وكلام رسوله ، وقال تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الكذب لا يفلحون [النحل:116].
ومن طلب الشرف بالدين كذلك الدخول على الملوك والدنو منهم، وهو الباب الذي يدخل منه علماء الدنيا إلى نيل الشرف والرياسات فيها.
خرّج الإمام أحمد وأبو داود نحوه من حديث أبي هريرة عن النبي وفي حديثه: ((وما ازداد أحد من السلطان دنواً إلا ازداد من الله بعداً )) ( [8] ).
ومن أعظم ما يخشى على من يدخل على الملوك الظلمة، أن يصدقهم بكذبهم، ويعينهم على ظلمهم، ولو بالسكوت عن الإنكار عليهم.
وقد خرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث كعب بن عجرة عن النبي قال: ((سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بوارد عليّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض)) ( [9] ).
ومن طلب الشرف بالدين محبة الشهرة والسعي إليها، كان السلف رضي الله عنهم يكرهون الشهرة أشد الكراهة، منهم أيوب والنخعي وسفيان وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين، وكذلك الفضيل وداود الطائي وغيرهم من الزهاد والعارفين، وكانوا يذمون أنفسهم غاية الذم، ويسترون أعمالهم غاية الستر.
كان محمد بن واسع يقول: لو أن للذنوب رائحة، ما استطاع أحمد أن يجالسني.
وكان إبراهيم النخعي إذا دخل عليه أحد وهو يقرأ في المصحف غطاه.
وكان أويس وغيره من الزهاد إذا عُرفوا في مكان ارتحلوا عنه.
وقد تبين بما ذكرناه أن حب المال والرياسة والحرص عليهما يفسد دين المرء حتى لا يبقى منه شيء.
واعلم أن النفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ولكن العاقل ينافس في العلو الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره، ويرغب عن العلو الفاني الزائل الذي يعقبه غضب الله وسخطه وانحطاط العبد وسفوله، قال الله تعالى: فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [النازعات:37].
قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة.
وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
ففي درجات الآخرة الباقية يشرع التنافس وطلب العلو في منازلها، والحرص على ذلك والسعي في أسبابه، وأن لا يقنع الإنسان منها بالدون مع قدرته على العلو قال الله عز وجل:
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون [المطففين :26].
وأما العلو الفاني المنقطع الذي يعقب صاحبه غدا حسرة وندامة وذلةً وهوانا وصغارا، فهو الذي يشرع الزهد فيه والإعراض عنه، وللزهد فيه أسباب عديدة:
فمنها: نظر العبد إلى سوء عاقبة الشرف في الدنيا بالولاية والإمارة لمن لا يؤدي حقها في الآخرة، فينظر العبد إلى عقوبة الظالمين والمكذبين ومن نازع الله رداء الكبرياء.
وفي السنن عن النبي قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يقال له بُوْلس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار: طينة الخبال )) ( [10] ).
استأذن رجل عمر بن الخطاب في القصص على الناس فقال: إني أخاف أن تقص عليهم فتترفع عليهم في نفسك حتى يضعك الله تحت أرجلهم يوم القيامة.
ومنها: نظر العبد إلى ثواب المتواضعين لله في الدنيا بالرفعة في الآخرة، فإنه من تواضع لله رفعه.
ومنها: وليس هو في قدرة العبد ولكنه من فضل الله ورحمته، ما يعوض الله عباده العارفين به الزاهدين فيما يفنى من المال والشرف مما يجعله الله لهم في الدنيا من شرف التقوى، وهيبة الخلق لهم في الظاهر ومن حلاوة المعرفة والإيمان والطاعة في الباطن، وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، وهذه الحياة الطيبة لم يذقها الملوك في الدنيا ولا أهل الرياسات والحرص على الشرف كما قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
ومن رزقه الله ذلك اشتغل به عن طلب الشرف الزائل والرياسة الفانية قال الله تعالى: ولباس التقوى ذلك خير [الأعراف:25].
وقال: من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً [فاطر:10].
والله عز وجل هو العزيز ومن أراد العزة فليطع العزيز.
كان حجاج بن أرطأة يقول : قتلني حب الشرف ، فقال له سواء: لو اتقيت الله شرفت، وفي ذلك قيل:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
قال بعضهم: من أشرف وأعز ممن انقطع إلى من ملك الأشياء بيده.
كان الحسن لا يستطيع أحد أن يسأله هيبة له، وكذلك كان مالك بن أنس يهاب أن يسأل حتى قال فيه القائل :
يَدَعُ الجواب ولا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان
نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان
قال محمد بن واسع: إذا أقبل العبد بقلبه على الله ، أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين.
وكتب وهب بن منبه إلى مكحول: أما بعد فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفا ومنزلة، فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من الأخرى، ومعنى هذا أن العلم الظاهر من تعلم الشرائع والأحكام والفتاوى والقصص والوعظ ونحو ذلك مما يظهر للناس، يحصل به لصاحبه عندهم منزلة وشرف، والعلم الباطن المودع في القلوب من معرفة الله وخشيته ومحبته ومراقبته والأنس به والشوق إلى لقائه والتوكل عليه والرضا بقضائه ، والإعراض عن عرض الدنيا الفاني والإقبال على جوهر الآخرة الباقي، كل هذا يوجب لصاحبه عند الله منزلة وزلفى، وبكل حال فطلب شرف الآخرة يحصل معه شرف في الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه.
قال الله عز وجل: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً أي مودة في قلوب عباده [مريم:56].
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين، اللهم أعزنا بالإسلام وأعز الإسلام بنا، اللهم إنا نسألك الجنة ما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
( [1] ) رواه الترمذي (9/222،223) الزهد : باب حرص المرء على المال والشرف لدينه ، وقال الترمذي هذا حديث صحيح وقال الشيخ عبد القار الأرناؤوط وهو كما قال ورواه في المسند (3/456) والنسائي وابن حبان في صحيحه.
( [2] ) رواه أبو داود (5/15) الزكاة : باب في الشح ، والحاكم (1/11) ، وصححه شعيب الأرناؤوط.
( [3] ) رواه مسلم (16/134) البر والصلة : باب تحريم الظلم ورواه أحمد (3/323).
( [4] ) رواه البخاري (13/123) باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها ، ومسلم (12/206،207) الإمارة النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها.
( [5] ) رواه البخاري (13/125) الأحكام : باب ما يكره من الحرص على الإمارة وقوله : ((نعم المرضعة)) قال البغوي : مثل ضربه للإمارة وما يصل إلى الرجل من المنافع فيها واللذات وضرب (الفاطمة) مثلا للموت الذي يهدم عليه تلك اللذات ويقطع منافعها عنه.
( [6] ) رواه البخاري (13/125) الأحكام : باب ما يكره من الحرص على الإمارة ومسلم (12/207) الإمارة : النهي عن طلب الإمارة.
( [7] ) أبو داود (10/97،98) العلم : باب في طلب العلم لغير الله ، ورواه ابن ماجة (1/93) في المقدمة : باب الانتفاع بالعلم والعمل به قال عبد القادر الأرناؤوط وفي سنده فليح بن أبي المغيرة الخزاعي أبو يحيى المدني وهو صدوق كثير الخطأ ، ومع ذلك فقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي ،وجود إسناده الحافظ العراقي ، ولكن توبع في جامع بيان العلم (1/190) فهو به حسن.
( [8] ) قال الهيثمي : لم أجده في نسختي من أبي داود – رواه أحمد والبزار وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح خلا الحسن بن الحكم النخعي وهو ثقة – مجمع الزوائد (5/246).
( [9] ) قال الهيثمي : رواه أحمد والمبزار الطبراني في الكبير والأوسط وأحمد أسانيد البزار رجال الصحيح ورجال أحمد كذلك – مجمع الزوائد (5/248).
( [10] ) رواه الترمذي (9/1203،1204) أبواب صفة القيامة وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وحسنه الألباني في الجامع وحسنه عبد القادر الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول - وطينة الخبال جاء تفسيرها في بعض طرق الحديث قيل يا رسول الله : ((وما طينة الخبال ؟ قال : هي صديد أهل النار)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/239)
البراء من الكفار واستقدام العمالة منهم
الإيمان
الولاء والبراء
عبد العزيز بن عبد الرحمن المقحم
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصوص في البراء من الكافرين 2- نماذج من مكر الكافرين بالمسلمين
3- تصحيح مفاهيم خاطئة في البراء 4- شُبُهات يُردّدها البعض حول موضوع البراء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فاتقوا الله – عباد الله – فإن تقواه هي النجاة ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70،71].
عباد الله: إنه لابد من التفريق بين حزب الله وحزب الشيطان لأن عدم التفريق بينهما فتنة عظيمة وفساد كبير أَفَنَجْعَلُ ?لْمُسْلِمِينَ كَ?لْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35،36]، أَمْ نَجْعَلُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ كَ?لْمُفْسِدِينَ فِى ?لأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ?لْمُتَّقِينَ كَ?لْفُجَّارِ [ص:28]، أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ ?جْتَرَحُواْ ?لسَّيّئَـ?تِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ سَوَاء مَّحْيَـ?هُمْ وَمَمَـ?تُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].
إنك حيث آمنت بالله ورسوله أصبحت واحدًا من المسلمين، لك ما لهم، وعليك ما عليهم، والمؤمنون هم حزب الله وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]. وأصبح لك أعداء لم يؤمنوا بالله ولا برسوله ولم يدينوا دين الحق الذي ارتضاه الله لنفسه فكان لزامًا عليك أن تبغضهم وتتبرأ منهم لاَّ يَتَّخِذِ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ فَلَيْسَ مِنَ ?للَّهِ فِي شَىْء إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـ?ةً وَيُحَذّرْكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى? ?للَّهِ ?لْمَصِيرُ [آل عمران:28].
هل كان هذا الأمر غفلاً لم تعرف عنه شيئًا ولم تسمع فيه قولاً؟ ألم تقرع مسامعك الآيات البينات من كتاب الله؟ أليس الله أعلم بما يصلح عباده وبما يفسدهم؟ أوليس الله بأرحم بالمؤمنين أمَا قال سبحانه: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51] ، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْو?نَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ ?سْتَحَبُّواْ ?لْكُفْرَ عَلَى ?لإِيمَـ?نِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [التوبة:23]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ كَـ?فِرِينَ [آل عمران:100]، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَـ?سِرِينَ [آل عمران:149]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِ?لْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ?لْحَقّ يُخْرِجُونَ ?لرَّسُولَ وَإِيَّـ?كُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَ?بْتِغَاء مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِ?لْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ?لسَّبِيلِ [الممتحنة:1]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِ?لْكِتَـ?بِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ?لاْنَامِلَ مِنَ ?لْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ?للَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ آل عمران:118-120].
هذه أوامر الله ونواهيه تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة:129]، وهي نصوص من الوحي لا تختلف باختلاف الزمان، ولا تتغير بتغير الأسماء والألوان، فما كان منها عن الكفار فهو شامل لجميعهم، إلا ما استثني بالدليل، أما تغير الوجوه والأسماء واختلاف الدول والممالك، وتقادم العهد فلا يغير من أمر الله شيئًا.
وإن التاريخ ليشهد بذلك والواقع شهيد عليه... فقل لي بالله عليك : من كان يجالد المسلمين بالسيوف يوم بدر يريد ذلة الإسلام وأهله؟ أليس المشركون؟ ومن كسر رباعية رسول الله وشق وجنته يوم أحد؟ أليس المشركون؟ ومن حاصر المسلمين في المدينة حتى زاغت أبصارهم وبلغت قلوبهم الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديدًا؟ ومن صادم المسلمين في القادسية واليرموك ليصدهم عن نشر دين الله والتمكين له ودعوة الناس إليه؟ أوليس المشركون ؟! وما أخرج التتار من الشرق وساق الصليبيين من الغرب ليحطموا المسلمين ويستبيحوا بيضتهم؟ أليس الشرك بالله وعداوة عباده المؤمنين؟ وما دفع المستعمر الأوربي الحاقد أن يفسد بلاد المسلمين ثم يمكن فيها للمفسدين؟ أليس عداوتهم لله ولعباده المؤمنين؟ بلى والله !!
تلك شهادة التاريخ فبأي شيء يشهد الواقع؟ هل يخفى عليك – أيها الفطن – ما يلاقي المسلمون من صنوف الأذى في مشارق الأرض ومغاربها على أيدي أعدائهم؟ أما أنا فلا أظن ذلك خافيًا على مثلك أليسوا يقدمون لنا كل يوم دليل عداوتهم وبغضهم لنا وحقدهم علينا بالاغتصاب والسلب والنهب والتقتيل والتشريد ؟!!
أما إنهم لا يقدمون ذلك في خطابات شديدة اللهجة، ولا في خطبهم ومحاضراتهم بل يُرْضُونَكُم بِأَفْو?هِهِمْ [التوبة:8]. ولكنهم يقدمونه بقطع رءوس الرجال وبقر بطون الحوامل: وافتضاض الأبكار من بنيات المسلمين أمام ذويهن وزرع أجنة الكلاب في أرحام المسلمات:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
ثم نجد – من المسلمين – من يؤويهم، ويمكن لهم، ويثني عليهم، ويدافع عنهم، بل ربما سب المسلمين من أجلهم، فإلى الله المشتكى:
ملأ الأرض هتافًا بحياة قاتليه يا له من ببغاء عقله في أذنيه
هذا ما يقدمونه بالفعل، أما القول فلا... إذ ربما تسمع من بعضهم كلامًا يرضي السذج من المسلمين، وما يكفي ليكون مادة للاستهلاك الإعلامي لتغرير شعوب مسلمة بأكملها لكن أصدق القائلين يقول: يُرْضُونَكُم بِأَفْو?هِهِمْ وَتَأْبَى? قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـ?سِقُونَ [التوبة :8] وربما لم يسعهم أن يرضونا بأفواههم فتغشى أحقادهم مرونة اللسان وتغلبه فينفث مما في صدره قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران :118].
عباد الله: ما كان المسلمون في وقت من الأوقات أحوج إلى بغض الكفار ومنابذتهم ومنهم في هذا الوقت، إذ لا ينفك المسلمون يلْقون منهم العنت والمحادة في كل قطر من أقطارهم، ومصر من أمصارهم، وبكل وسيلة يغزون بها شبابهم ونساءهم وأفكارهم وأراضيهم! أيبقى بعد لبس؟! أو لم يزل بيننا أبرياء مغفلون لم يتبين لهم الأمر بعد؟ أفينا من يحتاج خطبة كاملة – أو أكثر من ذلك – ليعرف واجبه نحو إخوانه المسلمين وأعدائه الكافرين؟! وهل بيننا من لم يزل يبغض الكفار في الجملة ويوالي أفرادًا منهم؟! فإذا قيل له (الكفار) استشاط غضبًا وتأوه من أعمالهم في المسلمين أو إذا قيل له (المشركون والأعداء)! طفق يشتم ويلعن.. أما إذا قيل له.. عاملك الذي اسمه (جورج) أو مكفولك الذي اسمه (إدوارد) ؟! قال: هذا مسكين هذا طيب ذروني وهذا فاني لا استغني عنه، وهل وقف الأمر على هذا المسكين؟... يالله للمسلمين! بل أنت المسكين وأنت الطيب وأنت الذي وقف الأمر عليك، فما الأمة إلا أنت وأمثالك، ولو أجبتم داعي الحق لاستقامت السبل.
عباد الله : إن بعض المسلمين يرى أن الكفار أعداء الله، ولكنه لا يستشعر أن كل كافر هو بعينه عدو الله، يجب بغضه والبراءة منه، لذلك كما قال الله في إبراهيم وأبيه: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة :114].
صحيح – يا أخي الحبيب – إن إبليس عدو الله، وكذا فرعون، وماركس، وأضرابهم، وكل الكفار و: مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـ?لَ فَإِنَّ ?للَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَـ?فِرِينَ [البقرة :98]، ولكن ما رأيك في سائقك الكافر؟! أو خادمة جيرانك الكافرة أو عامل المحل أو المصنع الذي استقدمته أنت تحت كفالتك ومكنته من أرض المسلمين التي حرمها عليهم رسول الله وهيأت له الفرصة الجميلة إذ يسرت له سبل العيش وكفلت أسرته وأطفاله وهم شر على دينك وأمتك حاضرًا ومستقبلاً وقدمته على أخيك المسلم في بلاده نفسها وتركت أخاك يصارع آلام الحياة ويتكبد الماسي هو وأهله؟!!.. اسمح لي أن أجيبك على الملأ ! فأقول بملء فمي: إنه كافر.. نعم كافر وليس هذا سرًا نخفيه فما يوم حليمة بسر وليس يرضى (هو) أن يقال عنه مسلم وهو (بعينه) عدو لله والله عدو له فَإِنَّ ?للَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَـ?فِرِينَ [البقرة :98]، ولكنك تسامحت معه إلى أبعد الحدود... سامحك الله وغفر لك ونجاك من زلتك!
أرأيت لو كان عدوا لأبيك – ولو كان مسلمًا – أو عدوًا لبلدك؟! ألا تخاف مكر الله يا غافل وأنت تؤوي أعداءه وتمكن لهم وتسهل لهم سبل المعيشة دون إخوانك المسلمين مع شدة حاجتهم وقد أمرت ونهيت فما ائتمرت ولا انتهيت؟!!
أيها المسلم الحبيب: إني سائلك فمشدد عليك فاستمع لما أقول: أرأيت لو أن أحدًا يبارز دولتك بالعداء، هل تجد عاقلا لبيبًا يؤويه؟ بل لو كانت ورقة تنضح بالعداوة والإفساد لدولتك، هل تجد عاقلاً لبيبًا يجعلها في داره فضلاً عن أن يحملها جهرة؟!! إنما جوابك الذي لا جواب غيره : لا.. ثم لا. وكلنا نقول ذلك فما بالك مع عدو الله الذي بارز الله بالعداء، أليس أولى لهذا الخوف أن يكون من الله؟! أو ليس أولى لهذه الحيطة أن تكون من مكر الله أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:99].
هذا هو الحق وأنت أدرى به، ولكنك تتغافل عنه، أو تحب أن تتغافل عنه، أما تعترف أن مكفولك الكافر هو بعينه عدو لله ؟ إنك إذًا لمن الظالمين! أو يخدعك برقيق كلامه وصفيق تملقه أو تظن أن هذا الكافر الذي عندك قد استثني (لشخصه) من قول الله سبحانه: إِنَّ ?لْكَـ?فِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً [النساء:101]، أو من قوله سبحانه : لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [الممتحنة:1]، أو من قوله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة :82]، بجميع دياناتهم! ألا تظن أنه يتمنى لك أن تكفر أم قد تستثنيه (بشخصه) من قول خالقه: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]، أم قد استثني من قوله سبحانه: مَّا يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ وَلاَ ?لْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ [البقرة :105]، أو من قوله سبحانه إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا [آل عمران :120]؟! أين أنت من هذه النصوص الصحيحة الصريحة، التي تخاطبك صباح مساء وأنت مؤمن بها؟!
إنك ملزم ببغضه والبراءة منه، وعدم موالاته لو كان أبًا لك أو أخًا، فكيف وليس كذلك؟! أما قال الله سبحانه: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْو?نَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ ?سْتَحَبُّواْ ?لْكُفْرَ عَلَى ?لإِيمَـ?نِ [التوبة:23]. أما قال الله لنبيه نوح عن ولده: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود :46]؟ أيطلب شيء بعد هذا؟! تَلْكَ ءايَـ?تُ ?للَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِ?لْحَقّ فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية :6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقواه، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار، ثم اعلموا أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على رسوله المختار، فقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا)) [1] ، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمدٍ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
أيها السلم الكريم: لقد كان عليك أن تنصر المسلمين بنفسك ومالك، فيراق دمك، ويعقر جوادك في سبيل الله، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، ولقد يظن بك الخير من يرى منك بوادره، وأنت له أهل إن شاء الله، فإن لم يكن منك ذلك، فليسلم منك المسلمون – على الأقل – فلا تؤذهم بالتمكين لعدوهم، واستقدامه دونهم، فإن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده:
وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع
لقد تكالب الأعداء على إخواننا في بلدانهم، فهل نكون عليهم فيمن عليهم؟! إن أشق ما يواجه المسلمون في الهند أن تدفق الأموال على كفرة الهندوس يأتي من الخليج!
فواعجبًا لمن ربيت طفلاً ألقمه بأطراف البنان
أُعلّمُه الرماية كل يوم فلما أشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
أتدعو لإخوانك المسلمين في صلواتك، وتبكي على مآسيهم، أمَّا كفالتك وأموالك وأعمالك فهو للكفار أعدائهم؟! أي تناقض أنت فيه؟!
كم من المسلمين في أصقاع بعيدة يتمنى بكل حرقة أن يقدم إلى هذه البلاد لعله يحج، فكانت الفرصة على يديك، ويمكنك أن تستقدم من تلك البلاد واحدًا أو أكثر، فحرمت أخاك الذي يتمنى المجيء والحج، واستقدمت بدله كافرًا عدوًا مبينًا لا يحبك ولا يحب الحج، ومع ذلك تزعم محبة إخوانك وتدعو لهم ؟!
لا أعرفنك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادي
أرأيت لو أن مكفولك الكافر في مثل موقفك، وهمّ أن يستقدم عاملاً أو خادمًا، أتراه يترك أخاه الكافر الذي على دينه، ويستقدم مسلمًا ويمكّن له؟! هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِ?لْكِتَـ?بِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ?لاْنَامِلَ مِنَ ?لْغَيْظِ [آل عمران :119].
أيها المسلمون: إن هناك شبهات ثلاثاً لابد من الرد عليها؛ لأن الشيطان سوّل بها وأملى: الأولى قولهم: إن هؤلاء الكفار أحسن عملاً من المسلمين، والثانية قولهم :أستقدم كافرًا وأدعوه للإسلام، والثالثة قولهم: إن تغيير الديانة في البطاقة سهل، فإذا اشترطنا الإسلام كتبه في بطاقته، ولو لم يسلم! والحقيقة أن هذه كلها ليست حجة يقولها صاحب حق، ولكنها خدعة يقولها متورط، وهو أول المخدوعين... فلما صار في قلبه مرض، واستقدم عدو الله وخالف وصية رسوله اضطر أن يدافع عن خطئه، فجعل يلتمس أعذارًا أوهن من بيت العنكبوت، وربما زل بكلام خطير لا يعرف مداه، وهو يدافع عن خطئه، ويمدح الكفار، ويثني على أخلاقهم وعملهم، ويسب المسلمين، ويرميهم بكل نقيصة!، والأحناف يقولون: من قال: النصارى خير من المسلمين. كفر!!
والحقيقة أن المسلمين هنالك فرض عليهم الجهل ولم يمكنوا من الفرص وضيق عليهم في الاستقدام، فتركناهم وجئنا بالكفرة فتعلموا على حسابنا ثم قلنا : هم أتقن عملاً... ربما استقدم المسلم مسلمًا فلم يرضه، فآلى على نفسه ألا يستقدم مسلمًا أبدًا عياذًا بالله من ذلك؛ لأنه كان على حرف فابتلي كَذ?لِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]، فليس في الشرع أن تفاضل بين الكافر والمسلم، فتستقدم المتقن، ولكن الشرع يحرم موالاة الكفار، واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، ويحرم استقدامهم إلى جزيرة العرب، كما صح عن رسول الله وكما أفتى بذلك العلماء الأثبات.
أما قولك: أستقدم كافرًا وأدعوه للإسلام، فإن ما نراه ليس من الدعوة في شيء ثم: كم أسلم على يديك من كافر؟ وكم يكفيك من الوقت لتعرف نتيجة دعوتك معه؟ وماذا صنعت لمن لم يسلم ؟
وأما القول بسهولة تغيير الديانة: فلو أن رجلاً أراك في بطاقته أنه مسلم ما صح لك أن تتهمه بالكفر، حتى ترى منه كفرًا وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ?لسَّلَـ?مَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء:94]، ثم إنك إذا استقدمت من كتب في ديانته (مسلم) فقد برئت ذمتك أنت إن شاء الله، وعليك التحري ما استطعت، أما أن تقول: إن تغيير الديانة في البطاقة سهل، وأنت تدافع عن استقدامك لعدو الله، وتركك لأخيك المسلم المحتاج، فهذه حجة خارج قضية النزاع، فليس صحيحًا أن تشرب الخمر لأن جعل العنب خمرًا سهل، والعقلاء لا يقبلون هذا.. والله أعلم بما تصفون:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقًا وكل كاسر مكسور
أيها المسلمون: إن هذا الحديث ليس مقصورًا على من استقدم كافرًا، بل هو لكل من سمعه، فإذا استيقظت غيرتك، وثُبْت إلى رشدك، وتُبت إلى ربك، وعزمت أن تخرج كل كافر أدخلته بلاد المسلمين، (مهما كلف الأمر)، وألا تستقدم كافرًا آخر، (مهما يكن من شيء)، وأن تناصح كل من استقدم كافرًا، (ولو لم تستقدم أنت) فإذا كان ذلك.. فإياك ثم إياك وأن تحملك العاطفة عندي على عزمك هذا ثم تنساه قبيل صلاة العصر، وتبرد همتك!! أو يبقى في نفسك ولكنك تسوف فيه!! أو تعزم عليه فإذا تذكرت مكاتب الاستقدام ومشاكلها ومشاكل العمل تراجعت!! إياك ثم إياك (فإن الجنة حفت بالمكاره، والنار حُفت بالشهوات) وإني أشهد الله عليك بما سمعت وأسأله سبحانه أن يعيننا وإياكم على طاعته، ويجنبنا أسباب سخطه.
[1] رواه مسلم (الصلاة :577).
(1/240)
فضائل النبي صلى الله عليه وسلم
الإيمان
الإيمان بالرسل
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أفضلية نبينا على سائر الأنبياء. 2- مسألة المفاضلة بين الأنبياء. 3- أدلة أفضلية نبينا.
4- خصوصيات النبي عن سائر إخوانه الأنبياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
قال الله تعالى لنبينا متمنناً عليه ومعرفاً لقدره لديه: وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً [النساء:113].
وقد فضل الله عز وجل بعض النبيين على بعض فقال تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً [البقرة:253].
أما حديث: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)) وفي رواية: ((لا تخيروا بين الأنبياء)) ( [1] ) وهو بكلتا روايتيه في الصحيح – فالمراد به النهي عن التفضيل بمجرد الرأي الذي لا يستند إلى دليل، أو المراد النهي عن التفضيل الذي يؤدي إلى نقص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو النهي عن التفضيل في النبوة نفسها، وهي لا مفاضلة فيها لقوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله [البقرة:284].
وقد دلت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على فضل نبينا.
فمن الأدلة على شرفه وفضله أنه ساد الكل كما في حديث عبد الله بن سلام من قوله : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه)) ( [2] ).
ولما كان ذكر مناقب النفس إنما يذكر افتخارا في الغالب، أراد أن يقطع وهم من توهم من الجهلة أنه يذكر ذلك افتخارا فقال: ((ولا فخر)).
ومن الأدلة على شرفه أن الله تعالى أخبره بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك، بل الظاهر أنه لم يخبرهم، لأن كل واحد منهم إذا طلبت منهم الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال: ((نفسي نفسي)) كما ورد في حديث الشفاعة الطويل وفيه أن الناس يذهبون إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى يطلبون الشفاعة، فكل منهم يذكر أن الله غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ثم يقول: ((نفسي نفسي )) ويحيلهم على غيره حتى يأتوا عيسى فيقول لهم ((لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) فإذا أتوا النبي قال: ((أنا لها أنا لها)) ( [3] ).
ومنها أنه أول مشفع، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع)) ( [4] ).
وهذه هي الشفاعة العظمى في الخلائق كلهم يوم القيامة، وهي المقام المحمود الذي اختص به نبينا في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً [الإسراء:79].
وعسى من الله واجبة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
ولنبينا شفاعات أخرى، منها شفاعته لأهل الجنة في دخولها، فلا تفتح لأحد قبله ، ومنها شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم، فيشفع لهم حتى لا يدخلوها، ومنها شفاعته لأهل الكبائر من أمته، ومنها شفاعته في بعض أهل الكفر حتى يخفف عنهم عذاب النار، وهذه خاصة بأبي طالب، ففي صحيح البخاري عن العباس قال: قلت يا رسول الله ما أغنيت عن عمك وكان يدفع عنك ويحوطك؟ قال: ((هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)) ( [5] ).
ومن شرفه وفضله إيثاره أمته على نفسه بدعوته، إذ جعل الله عز وجل لكل نبي دعوة مستجابة، فكل منهم تعجل دعوته في الدنيا، واختبأ هو دعوته شفاعة لأمته.
ففي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)) ( [6] ).
وقد دلت الأحاديث الكثيرة على رحمة النبي بأمته، وإيثاره إياهم على نفسه، ودعائه لهم في كل مناسبة تعرض له، بل بلغ من شفقته عليهم أنه أخذه البكاء عند الدعاء لهم، كما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله تلا قول إبراهيم: فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم [إبراهيم:118].
فرفع يده وقال: ((أمتي أمتي)) ثم بكى فقال الله تعالى يا جبريل: ((اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)) ( [7] ).
فصلى الله عليه وسلم وبارك وجزاه عنا أفضل ما جزى نبيا عن أمته.
ومن شرفه وفضله أن الله تعالى أقسم بحياته فقال: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر:72]. وإن حياته لجديرة أن يقسم الله عز وجل بها، لما فيها من البركة العامة والخاصة، أخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال: ما خلق الله وما برأ وما ذرأ نفسا أكرم عليه من محمد ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر:72].
ومن شرفه وفضله أن الله تعالى وقره في ندائه، فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه فقال: يا أيها الرسول فنادى الله عز وجل الأنبياء بأسمائهم الأعلام فقال: ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة [الأعراف:19].
وقال: يا نوح اهبط بسلام [هود:48]. وقال: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا [الصافات:104-105]. وقال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة [مريم:12]. وما خاطب الله عز وجل نبينا إلا بقوله: يا أيها النبي أو بقوله: يا أيها الرسول ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا أحد عبيده بأفضل ما وجد فيه من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم.
وجمع الله عز وجل في الذكر بين خليله إبراهيم وخليله محمد ، فذكر خليله إبراهيم باسمه وخليله محمد بكنية النبوة فقال عز وجل: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي [آل عمران:68]، فكناه إجلالا له ورفعة لفضل مرتبته ووجاهته عنده ثم قدمه في الذكر على من تقدمه في البعث فقال: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً [الأحزاب:7].
ومن فضله وشرفه أن الله عز وجل أمر الأمة بتوقيره واحترامه، فأخبر عز وجل أن الأمم السابقة كانت تخاطب رسلها بأسمائهم الأعلام كقولهم: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة [الأعراف:138] وقولهم: يا هود ما جئتنا ببينة [هود:53]. وقولهم: يا صالح ائتنا بما تعدنا [الأعراف:77]. ونهى الله عز وجل أمة النبي أن ينادوه باسمه فقال عز وجل: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً [النور:63].
وعن ابن عباس في هذه الآية قال: كانوا يقولون: يا محمد يا أبا القاسم. فنهاهم الله عن ذلك إعظاما لنبيه فقال: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ً فقالوا يا نبي الله يا رسول الله.
ونهى الله عز وجل أمة النبي أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته إعظاما له فقال عز جل: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [الحجرات:2].
ومن فضله وشرفه أن معجزة كل نبي تصرمت وانقضت ومعجزته وهي القرآن المبين – باقية إلى يوم الدين.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال النبي وآله: ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)) ( [8] ).
قال العلماء: ليس المراد من الحديث حصر معجزاته في القرآن وأنه لم يؤت غيره.
وقال عمرو بن سوار: قال لي الإمام الشافعي: ما أعطى الله تعالى نبيا ما أعطى محمدا حنين الجذع فهذا أكبر من ذاك.
فمن معجزاته حنين الجذع اليابس وهذه المعجزة متواترة عن النبي كما روى أنس وابن عباس أن النبي كان يخطب على جذع، فلما اتخذ المنبر ذهب إلى المنبر، فحنّ الجذع فاحتضنه فقال: ((لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة)).
ومنها تفجير الماء من بين أصابعه قال بعضهم هذا مما تواتر أيضا عنه في مناسبات كثيرة عن جمع من الصحابة بعضها في الصحيحين كحديث أنس بن مالك قال: ((رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فأتي رسول الله بوضوء فوضع رسول الله في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضؤوا منه، قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم)) ( [9] ).
ومنها تسليم الحجر عليه ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله : ((إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن )) ( [10] ).
ومنها انشقاق القمر له قال الله تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [القمر:1-2].
فقد سأل أهل مكة رسول الله آية فأشار إلى القمر فانشق لإشارته.
ومن شرفه وفضله أن الله عز وجل يكتب لكل نبي من الأنبياء من الأجر بقدر أعمال أمته وأحوالها وأقوالها، وأمته شطر أهل الجنة.
فقد روى أحمد ومسلم والأربعة من حديث أبي هريرة بلفظ: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)) ( [11] ).
وأمته خير الأمم ، وإنما كانوا خير الأمم لما اتصفوا به من المعارف والأحوال والأقوال والأعمال، ولأجل هذا بكى موسى عليه السلام ليلة الإسراء بكاء غبطة غبط بها النبي إذ يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمة موسى عليه السلام، وصح هذا في قصة المعراج من حديث أنس بن مالك مرفوعا وفيه: (( ثم صعد بي إلى السماء السادسة فلما خلصت فإذا موسى، قال: جبريل: هذا موسى فسلم عليه. فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي)) ( [12] ).
ومن شرفه وفضله أن الله تعالى أرسل كل نبي إلى قومه خاصة وأرسل نبينا إلى الجن والإنس ولذلك تمنن الله بقوله تعالى: ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا [الفرقان:51].
ووجه التمنن أنه لو بعث في كل قرية نذيرا، لما حصل لرسول الله إلا أجر إنذاره لأهل قريته.
ومن شرفه وفضله أنه صاحب الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وهي له.
ففي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص أنه سمع النبي يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة)) ( [13] ).
ومن شرفه الكوثر الذي أعطاه الله عز وجل، وهو نهر في الجنة وحوض في الموقف.
روى أحمد ومسلم وغيرهما عن أنس قال: بينا رسول الله بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءه ثم رفع رأسه متبسما قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: لقد أنزلت علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر [الكوثر].
ثم قال : ((أتدرون ما الكوثر))؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم في السماء، فيختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك)) ( [14] ).
ومن شرفه وفضله ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيْد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم – يعني الجمعة – فاختلفوا فيه، فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد)) ( [15] ).
والمعنى أن هذه الأمة ببركة نبيها آخر الأمم خلقا، وأولهم دخولا الجنة يوم القيامة، وفي الحديث كذلك أن الله عز وجل قد فرض على الأمم السابقة يوما يعظمونه ويتعبدون فيه، فوقع اختيار اليهود على يوم السبت والنصارى على يوم الأحد، وهدى الله عز وجل أمة النبي ليوم الجمعة.
ومن فضله أنه أحلّت له الغنائم، ففي الصحيحين عن جابر أن النبي قال: ((أُعطيتُ خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة)) ( [16] ).
ومن فضله أن الله عز وجل أثنى على خُلقه فقال: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].
واستعظام العظيم للشيء يدل على إيغاله في العظمة.
ومن فضله أن الله عز وجل أنزل أمته منزلة العدول من الحكام، فعن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول الله ((يُدْعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسل عليهم شهيدا فذلك قوله عز وجل: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ( [17] ) [البقرة:431]. والوسط: العدل.
ومن فضله حفظ كتابه كما قال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر:9].
وقال عن الكتب السابقة ] بما استحفظوا من كتاب الله [المائدة:44]. فجعل حفظه إليهم فضاع.
ومن فضله عصمة أمته فلا تجتمع على ضلالة، وحفظ طائفة من أمته لا تزال ظاهرة على الحق، كما في حديث البخاري وغيره: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) ( [18] ).
ومن فضله وشرفه أن الله عز وجل وهبه سبعين ألفا من أمته، يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وجوههم مثل القمر ليلة البدر، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وليس هذا لأحد غيره.
اللهم إنا نسألك محبة المصطفى كما آمنا به ولم نره، ولا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم اسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدا.
اللهم أحينا على سنته، وأمتنا على ملته، واحشرنا في زمرته.
( [1] ) رواه البخاري بلفظ (( لا تفضلوا بين أولياء الله )) (6/450) الأنبياء: باب قول الله تعالى: إن يونس لمن المرسلين ومسلم (15/130) الفضائل : فضل موسى عليه السلام.
( [2] ) رواه البخاري (5/7) الخصومات : باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهود ، ورواه مسلم (15/133) الفضائل : فضائل موسى.
( [3] ) أخرجه ابن حبان بسند صحيح وقال الألباني في تحقيق بداية السول وهو مخرج في ظلال الجنة وفي تخريج السنة برقم (393) وله شاهد من حديث أبى سعيد الخدري عن الترمذي وغيره وحسنه وهو في الصحيح رقم (1571).
( [4] ) الحديث مخرج في الكتب الستة بألفاظ وطرق وهو في البخاري (13/473) التوحيد : باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم ، ومسلم (3/53 إلى 60) الإيمان : باب الشفاعة.
( [5] ) رواه البخاري (7/193) مناقب الأنصار : قصة أبي طالب ، ومسلم (1/134،135) ورواه أحمد عن ابن عباس وقال الألباني حفظه الله في التعليق عليه: هذا الحديث نص في أن السبب في التخفيف إنما هو النبي عليه الصلاة والسلام أي شفاعته وليس هو عمل أبي طالب ، وهذه خصوصية للرسول كرامة أكرمه الله تبارك وتعالى بها ، مع أن القاعدة في المشركين أنهم كما قال الله عز وجل فما تنفعهم شفاعة الشافعين ولكن الله تعالى يختص بفضله من يشاء.
( [6] ) رواه البخاري (11/96) الدعوات:باب لكل نبي دعوة مستجابة ، ورواه مسلم (13/75) الإيمان : باب اختباء النبي دعوة الشفاعة لأمته.
( [7] ) رواه مسلم (3/78) الإيمان : باب بشارة الأمة.
( [8] ) رواه البخاري في فضائل القرآن ومسلم (1/341،451).
( [9] ) هذا مما تواتر أيضا عنه في مناسبات كثيرة عن جمع من الصحابة خرج أحاديثهم أبو نعيم والسيوطي ، هامش بداية السول (41) للألباني.
( [10] ) أخرجه مسلم (7/58-59) والترمذي (3628) وحسنه والدارمي وأحمد وأبو نعيم في الدلائل تحقيق بداية السول.
( [11] ) رواه مسلم (8/62) وأبو داود (2/262) والترمذي (2/112) والدارمي وابن ماجة وأحمد وقال الترمذي هامش (39-40) : حديث صحيح – الصحيحة 865.
( [12] ) رواه البخاري (7/201-202) مناقب الأنصار : باب المعراج.
( [13] ) رواه البخاري (1/93،121) ومسلم وأبو عوانة والنسائي والدارمي والبيهقي والسراج ، إرواء الغليل (1/316).
( [14] ) رواه مسلم (2/4) وأبو عوانة وأبو داود والنسائي وأحمد وقال الترمذي حسن صحيح – إرواء الغليل – 242.
( [15] ) رواه البخاري (2/354) الجمعة باب فرض الجمعة ، ومسلم (6/142،143) الجمعة : باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ، ورواه النسائي كذلك في الجمعة باب إيجاب الجمعة.
( [16] ) رواه البخاري (1/436) في التيمم : باب التيمم ، وفي المساجد وفي الجهاد ، ومسلم (5/3،4) في المساجد في فاتحة الكتاب.
( [17] ) رواه أحمد (3/32) وابن ماجة وغيره بإسناد صحيح على شرط الشيخين ورواه البخاري باختصار.
( [18] ) رواه البخاري (13/293) الاعتصام بالنية : باب قول النبي e لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق وفي الأنبياء والتوحيد ورواه مسلم (13/65) في الإمارة باب قوله e (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/241)
الزكاة
فقه
الزكاة والصدقة
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الزكاة في الإسلام. 2- الشبه المردودة لمانعي الزكاة بعد وفاة النبي. 3- قيام الدولة
بواجب الزكاة. 4- الضرائب لا تجزيء عن الزكاة. 5- شروط وجوب الزكاة. 6- الترهيب
الشديد والوعيد لترك الزكاة. 7- عقوبة منع الزكاة في الآخرة والدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
الزكاة عباد الله هي الركن الثالث من أركان هذا الدين، قال النبي : ((بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام من استطاع إليه سبيلا)) ( [1] ).
وهي قرينة الصلاة في كتاب الله وسنة رسوله.
قال الله عز وجل: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة [البينة:5]. وقال عز وجل: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [التوبة:5].
وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي بعث معاذا إلى اليمن فقال له: ((إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) ( [2] ).
وفي الصحيحين كذلك عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، يؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) ( [3] ).
ولذا قال الصديق : ((والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم على منعها)) ( [4] ).
ولم يبال الصديق ولا من معه من الصحابة بتلك الشبهة الواهية التي تعلق بها بعض المانعين للزكاة، فقد تمسكوا بظاهر قول الله عز وجل: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم [التوبة:103].
فقالوا هذا خطاب للنبي يقتضي بظاهره اقتصاره عليه، فلا يأخذ الصدقة سواه، وقالوا إن النبي كان يعطينا عوضا عن الزكاة التطهير والتزكية لنا والصلاة علينا، وصلاته سكن لنا، وقد عدمنا ذلك من غيره.
والشبهة التي تسمك بها القوم واهية الأساس؛ حتى قال القاضي أبو بكر بن العربي هذا كلام جاهل بالقرآن، غافل عن مآخذه الشريفة، متلاعب بالدين متهافت النظر.
فإن الخطاب وإن كان للنبي في الأصل، فهو خطاب لكل من يقوم بأمر الأمة من بعده، فهو ليس من الخطاب الخاص به ، وما قالوه من أن النبي كان يعطيهم عوضا عن الصدقة التطهير والتزكية والصلاة عليهم ولا يوجد ذلك في غيره فدعوى غير مسلمة، فإن التطهير والتزكية إنما يتمان بواسطة الزكاة فهي أداة التطهير.
قال تعالى: تطهرهم وتزكيهم بها [التوبة:103].
وكذلك الصلاة عليهم بمعنى الدعاء لهم، فكل من يأخذ الزكاة من الإمام أو نائبه مأمور أن يدعو لمعطيها بالبركة والأجر، ولا يختص بالنبي وإن كان دعاؤه في المقام الأسمى في التأثير في سكون النفس وطمأنينتها.
فالزكاة تطهير للمال بإخراج حق الله تعالى فيه.
وتطهير للمزكي من الشح والبخل وحب المال، وتطهير للفقير من الحسد والبغض للغني، ورفع لمعنوياته بقضاء حاجاته وضروراته.
والزكاة في الإسلام:
حق الفقراء في أموال الأغنياء، وهذا الحق أوجبه الله عز وجل.
وهذا الحق معلوم قد حددت الشريعة مقاديره وأنصبته المختلفة في أنواع الأموال، ولم يترك تحديده لضمائر الناس.
وهذا الحق كذلك على الدولة جبايته وتوزيعه، وعلى الحاكم أن يؤدب بما يراه من عقوبة على من يمتنع عن أداء هذه الفريضة بعد أخذها عنوةً، وأي فئة ذات شوكة تتمرد على أداء هذه الفريضة، فمن حق الإمام بل من واجبه أن يقاتلهم حتى يؤدوا حق الله وحق الفقراء في أموالهم.
وإن قصرت الدولة في المطالبة بالزكاة وتقاعس المجتمع عن رعاية هذه الفريضة لا يسقط ذلك وجوبها على الأفراد، فيجب عند ذلك على الأفراد إخراج الزكاة المفروضة في مصارفها الشرعية.
وإن تعدّت الدولة الظالمة، وأخذت من الأفراد الضرائب الباهظة، لا يسقط ذلك فرض الزكاة في أموالهم، لأن الضرائب لا تؤخذ تحت شعار الزكاة، ولا تنفق في مصارف الزكاة التي حددتها الشريعة.
وحصيلة الزكاة لا تترك لأهواء الحكام، ولا لتسلّط رجال الكهنوت كما هو الحال عند اليهود، بل حدد الإسلام مصارفها في قول الله عز وجل: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم [التوبة:59].
وتجب الزكاة بشروط أربعة:
حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين، قالوا: بأن الحرية شرط، لأن العبد ناقص الملك.
وقالوا: الإسلام شرط، لأن الزكاة طهرة، والكافر لا تلحقه طهرة، ولأن الله تعالى قال: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [المزمل:20]. فخوطب بالزكاة من خوطب بالصلاة.
وقالوا إن الحول شرط، لقوله : ((ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول)) ( [5] ). وقالوا إن النصاب شرط، لقوله : ((ليس في أقل من مائتي درهم زكاة، وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة)) ( [6] ).
وقد ورد الترهيب الشديد والوعيد الأكيد لمانعي الزكاة:
قال الله عز وجل: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون [التوبة:33]، أي يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما كما في قوله تعالى: ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم [الدخان:48].
أي هذا بذاك، وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم.
ولهذا يقال من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله عذب به، هؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم عذبوا بها.
كما كان أبو لهب جاهدا في عداوة رسول الله وامرأته تعينه في ذلك كانت يوم القيامة عونا على عذابه أيضا، ((في جيدها)) أي عنقها ((حبل من مسد)) أي تجمع من حطب النار وتلقي عليه، ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه في الدنيا.
كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأموال على أربابها، كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة، فيحمى عليها في نار جنهم، وناهيك بِحرِّها فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
قال بعض العلماء: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت جنوبهم، ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتمادا عليها كويت ظهورهم.
وقيل: إنما خص هذه الأعضاء لأن الغني إذا رأى الفقير زوى ما بين عينيه وقبض وجهه، وإذا سأله طوى كشحه، وإذا زاده في السؤال وأكثر عليه ولاه ظهره، فرتب الله العقوبة على حال المعصية.
وقد بينت سنة النبي كيفية هذا الكي.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)) ( [7] ).
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه – ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا النبي الآية: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة )) ( [8] ) ، [آل عمران:180].
أي إن المال يمثل له في صورة شجاع أقرع، والشجاع الحية الذكر، والأقرع الذي طال عمره وسقط شعره، والزبيبتان نقطتان سوداوان فوق العينين، وهو أخبث الحيات، يطوقه ثم يأخذ بشفتيه فيقول: أنا مالك أنا كنزك.
ولم يقف الشرع عباد الله عن حد الوعيد بالعقاب الأخروي بل هدد بالعقوبة الدنيوية كل من يبخل بحق الله عز وجل، قال الله تعالى: إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرِّمُنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ولينا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون [القلم :17-33].
فمانع الزكاة مهدد في الدنيا كذلك بزوال ماله.
وقال : ((ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين)) ( [9] ).
وقال : ((ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا)) ( [10] ).
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتانا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
( [1] ) البخاري (1/49) الأيمان : باب دعاؤكم إيمانكم ، ومسلم (1/176) الإيمان باب أركان الإسلام.
( [2] ) رواه الترمذي (3/87،118) ومسلم (1/193،197) الإيمان: باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام والبخاري (8/64) في المغازي: باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، الزكاة: باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة.
( [3] ) رواه البخاري (3/261) أول الزكاة وفي استتابة المرتدين ، ومسلم (1/212) الإيمان وأخرجه أبو داود في الزكاة والنسائي في الزكاة ، فضل أبي بكر الصديق.
( [4] ) في صحيح مسلم (1/207) في الإيمان : الكلام على توبة الزنديق.
( [5] ) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وقال الألباني حفظه الله : قال الحافظ في ((التلخيص)) لا بأس بإستناده والآثار تعضده فيصلح للحجة ، وقال النووي رحمه الله في الخلاصة : هو حديث صحيح أو حسن.
( [6] ) رواه أبو عبيد (409/1113) والدارقطني (199) عن ابن أبي ليلى عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب وقال الألباني : صحيح وهو وإن كان في سنده ضعيف فهو صحيح باعتباره رسالة من الشواهد ، قال الألباني : ثم وجدت للحديث طرقا أحرى بسند صحيح عن علي خرجته في صحيح أبي داود (3،149 فصح الحديث – إرواء 787- إرواء الغليل رقم 815.
( [7] ) مسلم (7/64،65،66) الزكاة : باب إثم مانع الزكاة.
( [8] ) البخاري (3/268) الزكاة : باب إثم مانع الزكاة وفي تفسير سورة براءة وفي الحيل في الزكاة.
( [9] ) رواه الطبراني في الوسط وراته ثقات ، والحاكم والبيهقي إلا أنهما قالا: ((ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عتهم القطر)) وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم – الترغيب والترهيب (1/270) ومجمع الزوائد (3/96) والسنين جمع سنة وهي الجدب والقحط.
( [10] ) رواه ابن ماجة (4019) وأبو نعيم في الحلية (8/333،334) ، وقال البوصيري في (الزوائد) هذا حديث صالح للعمل به وقد اختلفوا في ابن مالك وأبيه ورواه الحاكم (4/540) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وقال الألباني : بل هو حسن الإسناد فهذه الطرق كلها ضعيفة إلا طريق الحاكم فهو العمدة وهي إن لم تزده قوة فلا توهنه – الصحيحة 106.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/242)
الأخوة الدينية
الإيمان
الولاء والبراء
عبد العزيز بن عبد الرحمن المقحم
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعظم رابطة إنسانية هي أخوّة الدين 2- الأخوة الإسلامية نعمة وهبة ربانية
3- تشريعات الإسلام تُحرّم كل ما يَخدش الأخوة الإسلامية في غِش وهجر وخصومة
4- تشريعات الإسلام تأمر بكل ما يُوثّق الأخوة من إفشاء للسلام وسعي في الإصلاح و..
5- الولاء حق للمسلمين 6- المرء يوم القيامة مع من أحب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
عباد الله : كم من الحقوق ضيعتموها وكم من المحظورات ركبتموها، وأنتم مع ذلك تعلمون ما أمر الله به فيها، فإلى متى نظل مهملين وحتى متى نبقى مفرطين :
ألا نفوس أبيات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان
أيها الناس: قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام:104] ، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني.
أيها المسلمون: إن أعظم رابطة تجمع الناس هي رابطة الدين ، ليس بين المسلمين فحسب ، بل بين كل قوم يجمعهم دين واحد ، ولكن المسلمين يمتازون عن غيرهم بأنهم على الحق وأنهم على صراط مستقيم من الله تعالى.
وإن تفريق الناس حسب أديانهم لهو التفريق الحق، والفاصل المتين بين كل ذوي نحلة وأخرى ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ هُمُ الْفَـ?سِقُونَ [التوبة :67] وَ?لَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ?لأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَيُطِيعُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ?للَّهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة :71].
في الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وأهل النيل جيراني
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني
لقد جعل الله بين المؤمنين أخوة هي أعظم من أخوة النسب ورابطة هي أقوى من رابطة الدم ، وشرع المولاة على ذلك ورغب في كل ما يزيد منها ويقويها؛ لأن بها قيام الدين وتعاون المسلمين ، ونهى عن كل ما يخل بها؛ لأن في اختلالها فساد الدين وشتات أمر المسلمين: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (1/243)
الزهد في الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحذير النبي أمته من الوقوع في فتن الدنيا وملاذها. 2- متى يكون العطاء في الدنيا فتنة.
3- شرح حديث (أخوف ما أخاف عليكم).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
خرّجا في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض، قيل: ما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا، قال رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله حتى ظننت أنه ينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه قال : أين السائل؟ قال: أنا، قال: لا يأتي الخير إلا بالخير، وإن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم، إلا آكلة الخضر أكلت، حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع)) ( [1] ).
كان النبي يتخوف على أمته من فتح الدنيا عليهم، فيخاف عليهم الافتتان بها، ففي الصحيحين عن عمرو بن عوف أن النبي قال للأنصار لما جاءه مال من البحرين: ((أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)) ( [2] ).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن النبي قال: ((إذا افتتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله عز وجل، فقال رسول الله : أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون)) ( [3] ).
قوله : ((إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض)).
لما سمّى النبي ذلك بركات، وأخبر أنه أخوف ما يخاف عليهم أشكل ذلك على بعض من سمعه حيث سماه بركة، فإن البركة إنما هي خير ورحمة، وقد سمى الله تعالى المال خيرا في مواضع كثيرة من القرآن فقال تعالى: وإنه لحب الخير لشديد [العاديات:8]. وقال: إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين [البقرة:180].
وقال تعالى عن سليمان عليه السلام: إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي [ص:32]، فلما سأله السائل: (هل يأتي الخير بالشر) صمت النبي حتى ظنوا أنه أوحي إليه، والظاهر أن الأمر كذلك، ويدل عليه أنه ورد في رواية لمسلم في هذا الحديث: (فأفاق يمسح عنه الرحضاء)، وهو العرق، وكان النبي إذا أوحي إليه ينحدر منه مثل الجمان من العرق من شدة الوحي وثقله عليه.
وفي هذا دليل على أنه كان إذا سئل عن شيء لم يكن أوحي إليه فيه شيء انتظر الوحي فيه ولم يتكلم فيه بشيء حتى يوحى إليه فيه، فلما نزل عليه جواب ما سئل عنه قال: أين السائل؟ قال: ها أنا، فقال النبي : ((إن الخير لا يأتي إلا بالخير))، وفي رواية لمسلم: ((أو خير هو)) في ذلك دليل عن أن المال ليس بخير على الإطلاق، بل منه خير ومنه شر، ثم ضرب مثل المال، ومثل من يأخذه بحقه وبصرفه في حقه، ومن يأخذه من غير حقه ويصرفه في غير حقه، فالمال في حق الأول خير، وفي حق الثاني شر، فتبين بهذا أن المال ليس بخير مطلق، بل هو خير مقيد إذا استعان به المؤمن على ما ينفعه في آخرته كان خيرا له، وإلا كان شرا له.
فأما المال فقال إنه خضرة حلوة ، وقد وصف المال والدنيا بهذا الوصف في أحاديث كثيرة ففي الصحيحين عن حكيم بن حزام: ((أنه سأل النبي فأعطاه، ثم سأله فأعطاه ثم سأله فقال له النبي يا حكيم: إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع)) ( [4] ).
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) ( [5] ).
واستخلافهم فيها هو ما أورثهم الله منها، مما كان في أيدي الأمم من قبلهم كفارس والروم، وحذرهم من فتنة الدنيا عموما ومن فتنة النساء خصوصا، وهذا من الخاص بعد العام لمزيد الاهتمام لأن النساء من الدنيا، بل النساء أول ما ذكره الله عز وجل من شهوات الدنيا في قوله: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل والمسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا.
وقوله : ((وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم، إلا آكلة الخضر)) مثل ضربه رسول الله لزهرة الدنيا وبهجة منظرها وطيب نعيمها وحلاوته في النفوس، فمثله كمثل نبات الربيع وهو المرعى الأخضر فإن البهائم تحبه وتكثر من الأكل منه أكثر من قدر حاجتها، لاستحلائها له فإما أن يقتلها فتهلك وتموت حبطا، والحبط: انتفاخ البطن من كثرة الأكل، أو يقارب قتلها ويلم بها فتمرض مرضا، مخوفا مقاربا للموت.
فهذا مثل من يأخذ من الدنيا بشره وجوع نفس من حيث لاحت له لا بقليل يقنع، ولا بكثير يشبع، ولا يحلل ولا يحرم، بل الحلال عنده ما حل بيده وقدر عليه، والحرام ما حرم منه وعجز عنه.
تنفى اللذاذة ممن نال لذتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
شبه النبي من يأخذ الدنيا بغير حقها بالبهائم الراعية من خضراء الربيع، حتى تنتفخ بطونها من أكله، فإما أن يقتلها وإما أن يقارب قتلها، فكذلك من أخذ الدنيا من غير حقها وضعها في غير وجهها، إما أن يقتله ذلك فيموت به قلبه ودينه. وهو من مات على ذلك من غير توبة منه وإصلاح فيستحق النار بعمله.
قال تعالى: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم [محمد:12].
نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم
وتتعب فيما سوف تكره غبّه كذلك في الدنيا تعيش البهائم
أما استثناؤه من ذلك آكلة الخضر، فمراده بذلك مثل المقتصد الذي يأخذ من الدنيا بحقها مقدار حاجته، فإذا نفد واحتاج عاد إلى الأخذ منها قدر الحاجة، وآكلة الخضر دويبة تأكل من الخضر بقدر حاجتها إذا احتاجت إلى الأكل، ثم تصرفه فتستقبل عين الشمس، فتصرف بذلك ما في بطنها ،وتخرج منها ما يؤذيها من الفضلات.
فهذا مثل المؤمن المقتصد في الدنيا يأخذ من حلالها وهو قليل بالنسبة إلى حرامها قدر بلغته وحاجته، ويجتزي من متاعها بأدونه وأخشنه، ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلا إذا نفد ما عنده وخرجت فضلاته، فلا يوجب هذا الأخذ ضررا ولا مرضا ولا هلاكا، بل يكون ذلك بلاغا له يتبلغ به مدة حياته، ويعينه على التزود لآخرته، وفي هذا إشارة إلى مدح من أخذ من حلال الدنيا بقدر بلغته، وقنع بذلك كما قال : ((قد أفلح من هداه الله إلى الإسلام وكان عيشه كفافا فقنع به)) ( [6] ).
خذ من الرزق ما كفى ومن العيش ما صفا
كل هذا سينقضي كسراج إذا انطفا
ثم قال : ((إن هذا المال خضرة حلوة)) فأعاد مرة ثانية تحذيرا من الاغترار به، فخضرته بهجة منظره وحلاوته طيب طعمه، ولذلك تشتهيه النفوس وتسارع إلى طلبه، ولكن لو تفكرت في عواقبه لهربت منه.
الذي بشر أمته بفتح الدنيا عليهم حذرهم من الاغترار بزهرتها، وخوفهم من خضرتها وحلاوتها، وأخبرهم بخرابها وفنائها، وأن بين أيديهم دارا لا تنقطع خضرتها وحلاوتها، فمن وقف مع زهرة هذه العاجلة انقطع وهلك، ومن لم يقف معها وسار إلى تلك وصل ونجا.
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل [التوبة:38].
أرضيتم بخرابات البلى عن الفردوس الأعلى يا لها صفقة غبن.
أتقنع بخسائس الحشائش والرياض، معشبة بين يديك.
فالدنيا نابتة على مزبلة منتنة، يا دنيء الهمة قنعت بروضة على مزبلة، والملك يدعو إلى فردوسه الأعلى.
وقوله : ((من أخذه بحقه ووضعه في حقه، فنعم المؤنة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع)).
قال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس متاع غرور، ولكنه بلاغ إلى ما هو خير منه.
وقال بعضهم: كل ما أصبت من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا.
وقال أبو سليمان: الدنيا حجاب عن الله لأعدائه، ومطية موصلة إليه لأوليائه، فسبحان من جعل شيئا واحدا، سببا للاتصال به والانقطاع عنه.
والقسم الثاني: من يأخذ المال بغير حقه، فيأخذه من الوجوه المحرمة فلا يقنع منها بقليل ولا بكثير، ولا تشبع نفسه منه، ولهذا قال : ((كالذي يأكل ولا يشبع)) وكان النبي يتعوذ من نفس لا تشبع.
ومثل طالب الدنيا كشارب ماء البحر، كلما زاد شربا منه زاد عطشا، حتى يقتله.
وقال : (( ل وكان لابن آدم واديان من ذهب، لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)) ( [7] ).
لو فكر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع، ولو تذكر الجائع فضول مآلها لشبع.
هب أنك قد ملكت الأرض طرا ودان لك العباد فكان ماذا
أليس إذا مصيرك جوف قبر ويحثي الترب هذا ثم هذا
وقد ضرب الله في كتابه مثل الدنيا وخضرتها ونضرتها وبهجتها وسرعة تقلبها وزوالها وجعل مثلها كمثل نبات الأرض النابت من مطر السماء في تقلب أحواله ومآله قال تعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً [الكهف:45].
وقال تعالى: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لهم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون [يونس:24].
فالدنيا وجميع ما فيها من الخضرة والبهجة والنضرة تتقلب أحوالها، وتتبدل ثم تصير حطاما يابسا، وأجسام بني آدم وسائر الحيوانات كنبات الأرض، تتقلب من حال إلى حال، ثم تجف وتصير ترابا.
قال تعالى: والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً [نوح:17-18].
فينقلب ابن آدم من الشباب إلى الهرم، ومن الصحة إلى السقم، ومن الوجود إلى العدم.
قال ميمون بن مهران لجلسائه: يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا أبيض؟
قالوا: الحصاد. فنظر إلى الشباب فقال إن الزرع قد تدركه الآفة قبل أن يستحصد.
عباد الله: قبيح بالشباب تأخير التوبة، وأقبح منها تأخير الشيخ لها، فإن الرجل إذا شاب فهو كالحامل التي قد أتمت شهور حملها تسعة أشهر لا تنتظر إلى الولادة.
اللهم ارزقنا توبة نصوحا...الخ.
( [1] ) رواه البخاري (11/244) الرقاق : باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها ، بلفظ: ((إن أكثر ما أخاف عليكم)) ورواه في الجمعة وفي الجهاد وفي الزكاة ، ومسلم (7/42،43) الزكاة : باب التحذير من الاغترار بالدنيا.
( [2] ) رواه البخاري (11/243) الرقاق : باب ما يحذر من زهرة الدنيا التنافس فيها ، ورواه مسلم (18/95) أول كتاب الزهد ، وهو في المسند (4/137)، والترمذي وابن ماجة.
( [3] ) مسلم (18/96) الزهد.
( [4] ) البخاري (3/335) الزكاة : باب الاستعفاف عن المسألة وفي الوصايا وفي الجهاد وفي الرقاق ، ومسلم (7/126) الزكاة بيان أن اليد العليا من اليد السفلى.
( [5] ) رواه مسلم (17/53) الرقاق: باب أكثر أهل الجنة الفقراء وهو عند الترمذي في جملة حديث طويل في الفتن ، ورواه كذلك ابن ماجة وعند النسائي (فما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) وهي كذلك عند مسلم والترمذي وابن ماجة.
( [6] ) رواه مسلم (3/102) والترمذي (2/56) وأحمد (2/168) والبيهقي (4/196) وقال الترمذي حسن صحيح ورواه ابن ماجة (4138) عن ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ ولا بأس به في المتابعات – الصحيحة رقم 129.
( [7] ) البخاري (11/253) الرقاق : باب ما يتقى من فتنة المال ، وقوله تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنة ومسلم (7/138) الزكاة : كراهة الحرص على الدنيا ، ورواه أحمد (1/370).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/244)
اختصام الملأ الأعلى
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, فضائل الأعمال
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث اختصام المل- الأعلى. 2- مكفرات الذنوب. 3- أعمال ترفع الدرجات.
4- الوضوء والطهارة. 5- المشيء إلى الصلوات. 6- ملازمة المساجد. 7- إطعام الطعام وإفشاء السلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
خرّج الإمام أحمد رحمه الله تعالى من حديث معاذ بن جبل قال: ((احتبس عنا رسول الله ذات غداة في صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس، فخرج رسول الله سريعا، فثوب بالصلاة، ثم أقبل إلينا فقال: سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة، فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فرأيته وضع كفه بين كتفي، حتى وجدت برد آنامله في صدري، وتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات والدرجات، قال: وما الكفارات، قلت: نقل الأقدام إلى الجمعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات.
قال: وما الدرجات ؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام، فقال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك)) ( [1] ).
وقال رسول الله : ((إنها حق فادرسوها وتعلموها)).
وفي بعض الروايات: ((المشي على الأقدام إلى الجماعات)) بدل الجمعات وكذلك: ((إفشاء السلام)) بدل (لين الكلام).
لم يكن من عادة رسول الله تأخير صلاة الصبح، ولهذا اعتذر لهم، وفي الحديث دلالة على أن من أخر الصلاة لعذر أو غيره وخاف خروج الوقت أنه يخففها حتى يدركها كلها في الوقت، وإن كانت تصح إذا أدرك ركعة واحدة في الوقت. وفي الحديث أيضا أن من رأى رؤيا تسره عليه أن يقصها على أصحابه وإخوانه لإدخال السرور عليهم.
وفيه دلالة على شرف النبي بتعليمه ما في السماوات وما في الأرض، وتجلي ذلك له مما يختصم فيه الملائكة في السماء، كما أُرِي إبراهيم ملكوت السماوات والأرض.
أما وصف النبي فهو حق وصدق، ومن أشكل عليه فهم شيء منه فليقل ما مدح الله به الراسخين في العلم، وأخبر عنهم أنهم يقولون عند المتشابه: آمنا به كل من عند ربنا [آل عمران:7].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فكلما سمع المؤمنون شيئا من هذا الكلام قالوا: هذا ما أخبرنا به الله ورسوله وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما.
وفي الحديث دلالة أيضا على أن الملأ الأعلى وهم الملائكة المقربون منهم يختصمون فيما بينهم ويتراجعون القول في الأعمال التي تقرب بني آدم إلى الله عز وجل.
قوله في الكفارات: ((إسباغ الوضوء في الكريهات ونقل الأقدام إلى الجمعات أو الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات)). وسميت هذه كفارات لأنها تكفر الخطايا والسيئات، ولذلك جاء في بعض الروايات: ((من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه)).
وهذه الأعمال الغالب عليها تكفير السيئات، ويحصل بها أيضا رفع الدرجات.
كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط)) ( [2] ).
ولذلك ذكر الله عز وجل بعد آية الوضوء: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين إلى قوله: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم [المائدة:6].
فقوله تعالى: ليطهركم يشمل طهارة ظاهر البدن بالماء وطهارة الباطن من الذنوب والخطايا، وإتمام النعمة إنما يحصل بمغفرة الذنوب وتكفيرها، كما قال الله تعالى لنبيه ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك [الفتح:2].
وقد وردت الأحاديث الكثيرة الدالة على تكفير الخطايا بالوضوء، فروى مسلم عن عثمان أنه توضأ ثم قال: ((رأيت رسول الله توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة )) ( [3] ).
وفيه عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب)) ( [4] ).
كما وردت النصوص كذلك الدالة على كثرة الثواب على الوضوء بالإضافة إلى تكفير السيئات.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) ( [5] ).
وفيه أيضا عنه عن النبي قال: ((أنتم الغرُّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء)) ( [6] )
وإسباغ الوضوء هو إتمامه وإبلاغه مواضعه الشرعية، والثوب السابغ هو المغطي للبدن كله، وخرج النسائي وابن ماجة من حديث أبي مالك الأشعري عن النبي قال: ((إسباغ الوضوء شطر الإيمان)) ( [7] ).
وخرجه مسلم بلفظ: ((الطهور شطر الإيمان)) ( [8] )
وإسباغ الوضوء على الكريهات: يعني في حالة تكره النفس فيها الوضوء، وقد فسر بحال نزول المصائب فالنفس تطلب الجزع فالاشتغال بالوضوء من علامة الإيمان، وفسرت الكريهات أيضا بالبرد الشديد، وكذلك عند النوم مع مدافعة النعاس.
وكل ما يؤلم النفس ويشق عليها فإنه كفارة للذنوب إن لم يكن للإنسان فيه صنع كالمرض، أو إذا كان الألم ناشئا عن طاعة، كقوله تعالى: ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين [التوبة:120].
وكذلك ألم الجوع والعطش للصائم، فكذا التألم بإسباغ الوضوء في البرد، ويجب الصبر على هذا الألم، فإذا حصل الرضا فذلك مقام العارفين، وينشأ الرضا عن ملاحظة أمور:
أولا: تذكر فضل الوضوء: انكسر ظفر بعض الصالحات من السلف فضحكت وقالت: أنساني حلاوة ثوابه مرارة وجعه.
وقال بعضهم: من لم يعرف ثواب الأعمال ثقلت عليه في جميع الأحوال.
الثاني: ملاحظة جلال من أمر بالوضوء، كان علي بن الحسين إذا توضأ اصفر، فيقال له: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم.
الثالث: تذكر ما أعده الله عز وجل لمن عصاه من البرد والزمهرير.
الرابع: استحضار اطلاع الله على عبده في حال العمل، وتحمل المشقة كما قال الله عز وجل لنبيه : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [الطور:48].
وقالوا: خفف على الحراس مشقة السهر علمهم بأن السلطان يحس بهم.
الخامس: الاستغراق في محبة من أمر بهذه الطاعة، وأنه يرضى بها ويحبها، كما قال تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [البقرة:222].
فمن امتلأ قلبه بمحبة الله أحب ما يحبه وإن شق على النفس وتألمت به، كما قيل: وما لجرح إذا أرضاكم ألم. وقال بعض السلف: أحبّه إلي أحبه إليه.
والسب الثاني في تكفير الخطايا:
المشي على الأقدام إلى الجمعات والجماعات، ولا سيما إذا توضأ الرجل في بيته ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)) ( [9] ).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة: ((كل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة )) ، وفيهما عن أبي موسى أن النبي قال: ((إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم)) ( [10] ).
ومع هذا فنفس الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة عنه، لكن المشي إلى الدار البعيدة أفضل، وثواب المشي إلى المساجد في الظلم النور التام في ظلم القيامة، كما في سنن أبي داود والترمذي عن بريدة عن النبي قال: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) ( [11] ).
وقد قال بعض السلف: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر من ذلك، والصلاة تكفر أكثر من ذلك، على أن الكبائر لا تكفر بذلك لما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)).
فانظر يا عبد الله كم تيّسر لك من أسباب تكفير الخطايا، لعلك تطهر منها قبل موتك، فتلقاه طاهرا، فتصلح لمجاورته في دار السلام، فإن الله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا.
قوله في الكفارات: ((الجلوس في المساجد بعد الصلوات)) أي انتظارا لصلاة أخرى كما في حديث: ((وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) أي بمنزلة الرباط في سبيل الله عز وجل.
ويدخل في قوله والجلوس في المساجد بعد الصلوات الجلوس للذكر والقراءة وسماع العلم وتعليمه نحو ذلك، لا سيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وفي الصحيحين عن أنس عن النبي : ((أنه لما أخر صلاة العشاء الآخرة ثم خرج فصلى بهم قال لهم: إنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة)) ( [12] ).
وفي صحيح مسلم عنه قال: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )) ( [13] ). وبالجملة فالجلوس في المساجد للطاعات له فضل عظيم، قال سعيد بن المسيب: من جلس في المسجد فإنما يجالس الله عز وجل.
وهو أيضا من السبعة الذين يظلهم الله بظل عرشه.
ولما كانت المساجد بيوت الله وأضافها إلى نفسه تشريفا لها، تعلقت قلوب المحبين لله عز وجل بها لنسبتها إلى محبوبهم، وارتاحت إلى ملازمتها لإظهار ذكره.
قال تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [النور:36-37].
قوله في ذكر الدرجات: ((إطعام الطعام)).
فإطعام الطعام من أعظم الأسباب الموصلة إلى أعلى درجات الجنة، وقد وصف الله عز وجل الأبرار بقوله: ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً [الإنسان:8].
أي على حبهم للطعام وحاجتهم إليه، وقيل على حبهم لإطعام الطعام طيبة به أنفسهم، وفي المسند وجامع الترمذي عن علي عن النبي : ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله ؟ قال: لمن أطعم الطعام وأطاب الكلام وصلى بالليل والناس نيام)) ( [14] ).
فإطعام الطعام يوجب دخول الجنة ويباعد عن النار وينجي منها كما قال تعالى: فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة [البلد:11-16].
وأفضل إطعام الطعام الإيثار مع الحاجة كما قال تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [الحشر:9].
وكان بعض السلف يؤثر بفطوره غيره ويصبح صائما، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه فلم يفطر تلك الليلة. قال بعضهم: إذا أكلته كان في الحش، وإذا أطعمته كان عند الله موفورا.
فيا من يطمع في علو الدرجات من غير عمل صالح، هيهات هيهات : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات [الجاثية:21].
قوله في ذكر الدرجات كذلك (لين الكلام) وفي رواية: (إفشاء السلام) وهو داخل في لين الكلام، وقد قال الله عز وجل: وقولوا للناس حسناً [البقرة:83]. وقال تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن وقال عز وجل: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [فصلت:34-35].
وفي الحديث الصحيح عن النبي : ((والكلمة الطيبة صدقة)) ( [15] ).
وفيه أيضا: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة)) ( [16] ).
أما كون إفشاء السلام من موجبات الجنة ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) ( [17] ).
هكذا قرن الإحسان بالقول عقب الإحسان بالعمل، وربما كان معاملة الناس بالقول الحسن أحب إليهم من الإطعام والإحسان بالمال.
كما روي عن لقمان أنه قال لابنه: إن تكن كلمتك طيبة ووجهك منبسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة، وروي عن ابن عمر أنه كان ينشد.
بنيّ إن البر شيء هين وجه طليق ولسان لين
ومما يندب إليه إلانة القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما رأى بعض التابعين رجلا واقفا مع امرأة فقال لهما: إن الله يراكما. سترنا الله وإياكما.
ودعي الحسن إلى دعوة فجيء بآنية فضة فيها حلواء، فأخذ الحسن الحلواء فقلبها على رغيف وأكل منها، فقال بعض من حضر: هذا نهي في سكون.
وقال أبو الدرداء: من وعظ أخاه سرا فقد زانه ومن وعظه علانية فقد شانه. كذلك الرفق في مقابلة الأذى قال تعالى: ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار [الرعد:22].
قال بعض السلف: هو الرجل يسب الرجل فيقول إن كنت صادقا فغفر الله لي وإن كنت كاذبا فغفر الله لك.
قوله في الدرجات: ((والصلاة بالليل والناس نيام)).
والصلاة في الليل من موجبات الدرجات العالية في الجنة، قال الله عز وجل في وصف المحسنين: كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:18].
وقال عز وجل: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة:16].
وقال : ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة القيام بالليل)) ( [18] ).
قال أبو الدرداء: صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور، صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير.
وعن بلال وأبي أمامة رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد)) ( [19] ).
ونختم بهذه الدعوات التي دعا بها رسول الله : ((اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفنا غير مفتونين، ونسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك)) ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
( [1] ) الحديث خرجه الترمذي كذلك وقال حسن صحيح ، وسئل عنه البخاري فقال حسن صحيح ، وهو المسند (5/243) قال ابن رجب في إسناده اختلاف، وله طرق معتددة، وفي بعضها زيادة وفي بعضها نقصان.
( [2] ) رواه مسلم (3/141) الطهارة : باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره ، والترمذي الطهارة (1/67) أبواب الطهارة : باب ما جاء في إسباغ الوضوء ثلاث مرات ، والنسائي (1/89،90) الطهارة : باب الفضل في إسباغ الوضوء.
( [3] ) مسلم (3/113) الطهارة : باب فضل الوضوء والصلاة بعده.
( [4] ) مسلم (3/132،133) الطهارة : باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء والموطأ (1/32) الطهارة ، والترمذي (1/13) الطهارة : باب ما جاء في فضل الطهور.
( [5] ) مسلم (3/140) الطهارة : باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل.
( [6] ) رواه مسلم بلفظة (3/135) الطهارة : باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء والبخاري بلفظ ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء)) (1/235) الطهارة : باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء ورواه النسائي في الطهارة : باب حلية المؤمن.
( [7] ) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن أبي مالك الأشعري وصححه الألباني – صحيح الجامع (1/316) رقم 938.
( [8] ) (3/100) الطهارة : فضل الوضوء – ورواه ابن ماجة كذلك.
( [9] ) البخاري (2/131) الأذان : باب فضل صلاة الجماعة ، ومسلم (5/165،166) المساجد : باب فضل الصلاة المكتوبة في جماعة ، ورواه كذلك النسائي في الإمامة (3/103) والترمذي في الصلاة.
( [10] ) رواه البخاري (2/137) الأذان : باب فضل صلاة الفجر في جماعة ، ومسلم (5/167) المساجد فضل الصلاة المكتوبة في جماعة.
( [11] ) رواه أبوا داود (557) الصلاة والترمذي (2/23عارضة) الصلاة وقال : هذا حديث غريب وابن ماجة (779) وصححه الألباني.
( [12] ) رواه البخاري بلفظ ((ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة )) (2/131) الأذان : باب فضل صلاة الجماعة ورواه مسلم (5/167) فضل الصلاة المكتوبة في جماعة.
( [13] ) رواه مسلم (17/21،22) الذكر والدعاء : باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر ، وأبو داود (13/229،230) الأدب : باب في المعونة للمسلم ، والترمذي في الحدود وفي البر والصلة.
( [14] ) رواه أحمد (5/343) والبيهقي في شعب الإيمان ورجاله ثقات غير ابن معانق وهو مجهول وعزاه المنذري لابن حبان في صحيحه وله شاهد من حديث ابن عمر وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسن الألباني في صحيح الجامع رقم 2119 ومشكاة المصابيح رقم 1232.
( [15] ) جزء من حديث رواه البخاري (5/297) الصلح: باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم وفي الجهاد، ومسلم (7/94،95) الزكاة: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
( [16] ) رواه البخاري (10/448) الأدب: باب طيب الكلام، ومسلم (7/101) الزكاة: باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنه حجاب من النار.
( [17] ) رواه مسلم (1/53) وأبو عوانة (1/30) وأبو داود (5193) وابن ماجة (3692) وأحمد (2/391) وقال الترمذي : حديث صحيح – إرواء الغليل (3/237) رقم 777.
( [18] ) رواه مسلم (8/55) الصيام : باب فضل صوم المحرم ، وأبو داود في الصوم ، والترمذي في الصلاة والنسائي في قيام الليل.
( [19] ) رواه الترمذي رقم 3543و 3544 في الدعوات : باب رقم (112) ورواه أيضا أحمد والحاكم والبيهقي عن بلال والحاكم والبيهقي عن أبي أمامة وابن عساكر عن أبي الدرداء والطبراني عن سليمان وابن السني عن جابر – قال عبد القادر الأرناؤوط وهو حديث حسن – هامش (9/433) جامع الأصول.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/245)