الصوفية وبدعة المولد
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
صالح الونيان
بريدة (
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - العزة في صدر الإسلام لله ولرسوله وللمؤمنين
2 - الأمر بالإعتصام بالكتاب والسنة
3 - الإفتراق حدث بعد عهد الخلفاء الراشدين
4 - ظهور التصوف
5 - بعض نماذج الغلو في المجتمع المسلم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، واشكروه على أن أخرجكم من الظلمات إلى النور؛ فلقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وشرك، وظلم، وفساد أخلاق... وغير ذلك، وقد انتهت تلك الفترة ببزوغ فجر الإسلام وطلوع شمسه وانتشار نوره في العالم، حتى أنار الطريق لكل سالك، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، فقامت للإسلام دولة قوية ذات منعة، وعاش المسلمون في عصر النبوة حياة لم يسبق لها مثيل ولم يوجد لها مثيل؛ توحيد خالص لله وحده، وعدل، وإنصاف وطاعة لله ولرسوله، وتحابب في الله، وتآخ، واعتزاز بالإسلام، وعزة، وكرامة، وهيبة في قلوب الأعداء، وقد سجل لهم القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [المنافقون:8].
عباد الله!
وهكذا عاش المسلمون في ذلك العهد الفريد إلى أن انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى.
إلا أنه لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى؛ إلا بعد أن أكمل الله الدين، والكامل لا يقبل الزيادة عادة، وإن نعمة الله على اتباع محمد بالإسلام قد تمت، ولذلك قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:8].
نزلت هذه الآية في حجة الوداع في يوم الجمعة بعرفة، وفي اليوم نفسه خطب النبي خطبة يوم عرفة المشهورة، جاء في آخرها قوله عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب أصحابه: ((أنتم مسؤولون عني؛ فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت ونصحت. فجعل يقول عليه الصلاة والسلام: اللهم! اشهد، اللهم! اشهد، اللهم! اشهد)) 1.
عباد الله!
ولم يعش النبي بعد حجة الوداع طويلاً، بل أخذ يحدث أصحابه وأتباعه أنه إن تركهم سوف لا يسلمهم للفوضى، بل يتركهم على منهج واضح ليس فيه أدنى غموض؛ إذ قال لهم: ((تركتكم على محجة بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك)) ، وقال: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي)).
فتركهم على هذا المنهج المصون، ونصحهم ليتمسكوا به ولا يحيدوا عنه ولا يزيدوا فيه، وحذرهم من الزيادة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد)) 3 ، وقال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) 2.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام ترك هذا المنهج في أيد أمينة وقوية، فى أيدي جماعة كانت حريصة على الأمة حرصاً شديداً، وهم رجال رباهم على المنهج، وهم أصحابه الذين اختارهم الله لصحبته، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين المهديون؛ فحافظوا على المنهج وعلى وحدة الأمة، ووقفوا أمام أسباب الانقسام والتفرق؛ لئلا تعود الأمة إلى الجاهلية الأولى من جديد، أو إلى ما يشابه ذلك.
في أواخر عهد الخلفاء الراشدين، وفي خلافة علي رضي الله عنه خرجت الخوارج، وتشيعت، ثم ظهرت الفرق متتابعة من جبرية ومرجئة وجهمية ومعتزلة وأشعرية وما تريدية، فقسمت بين المسلمين ما تتوقعه من الانقسام والتفرق؛ تصديقاً لقوله : ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار؛ إلا واحدة، وهي الجماعة)) 4.
وهكذا بدأت الجاهلية المعاصرة من جديد في صور شتى، وأخص من تلك الصور جاهلية التصوف؛ فقد ظهرت وانتشرت بعد انقراض القرون الثلاثة المفضلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: (إن الصوفية ظهرت أول ما ظهرت في البصرة بالعراق على أيدي بعض العباد الذين عرفوا بالغلو في العبادة والزهد والتقشف المبالغ فيه، بل لقد زين لهم الشيطان أن يتخذوا لباس الشهرة، فلبسوا الصوف، وقاطعوا القطن؛ بدعوى أنهم يريدون التشبه بالمسيح عليه السلام، فنسبوا إلى الصوف، فقيل لهم: الصوفية، فدعوى أنهم منسوبون إلى أهل الصفة أو إلى الصف المتقدم دعوى باطلة يكذبها الواقع واللغة).
عباد الله:
هكذا ظهرت جاهلية التصوف، ومن تلك المدينة انتشرت، ولو رجعنا إلى الوراء في تاريخنا الطويل؛ لوجدنا أن هذه البدعة التي تسمى بالتصوف اليوم قد أطلت برأسها في عهد الرسول ؛ إلا أنها قمعت عند أول ظهورها أو التفكير فيها، ويدل على ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا؛ كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأعتزل النساء فلا أتزوج أبداً وقال آخر: وأنا أقوم الليل ولا أرقد، وقال آخر: وأنا أصوم ولا أفطر. فجاء رسول الله ، فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله؛ إنى لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني)) 5
فأشعرهم النبي أن الأساس في العبادة الاتباع لا الابتداع.
عباد الله!
ومما ينبغي أن يعلم أن حسن النية وسلامة القصد والرغبة في الإكثار من التعبد كل هذه المعاني لا تشفع لصاحب البدعة لتقبل بدعته أو لتصبح حسنة وعملاً صالحاً؛ لأن هؤلاء الثلاثة لم يحملهم على ما عزموا عليه إلا الرغبة في الخير بالإكثار من عبادة الله رغبة فيما عند الله؛ فنيتهم صالحة، وقصدهم حسن؛ إلا أن الذي فاتهم هو التقيد بالسنة التي موافقتها هي الأساس في قبول الأعمال مع الإخلاص لله تعالى وحده.
عباد الله!
ولعلنا عرفنا أن بدعة التصوف ظهرت أول ما ظهرت مغلفة بغلاف العبادة والزهد، وهما أمران مقبولان في الإسلام، بل مرغوب فيهما، ثم ظهرت على حقيقتها التي هي عليها الآن، وهذا شأن كل بدعة؛ إذ لا تكاد تظهر وتقبل إلا مغلفة بغلاف يحمل على الواجهة التي تقابل الناس معنى إسلامياً مقبولاً بل محبوباً.
عباد الله!
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه في معرض حديثه عن الصوفية: ولم يطل الزمن حتى انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة والمرتزقة، وهذه المتصوفة المنتشرة فى العالم الإسلامي من أولئك المبتدعة والزنادقة؛ كالحلاج الذي قتل أخيراً بزندقته، وابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، وغيرهم من مشايخ الصوفية.
وقد شوهت هذه الطائفة - الصوفية - جمال الدين، وغيرت مفاهيم كثيرة من تعاليم الإسلام لدى كثير من المخدوعين، الذين يحسنون الظن بكل ذي عمامة مكورة وسجادة مزخرفة ومسبحة طويلة، ويستسمنون كل ذي ورم، فأخذوا يحاولون أن يفهموا الإسلام بمفهوم صوفي بعيد عن الإسلام الحق الذي كان عليه المسلمون الأولون قبل بدعة التصوف التي دخلت على السذج، وحالت بينهم وبين المفهوم الصحيح للإسلام.
عباد الله!
لا شك أن من أحدث عبادة من عند نفسه لم يشرعها الله قد رغب عن سنة رسول الله واتبع غير سبيل المؤمنين، وقد ورد الوعيد في ذلك؛ فعن ابن مسعود؛ قال: قال رسول الله : ((أنا فرطكم على الحوض، وليختلجن رجال دوني، فأقول: يا رب! أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛ إنهم غيروا وبدلوا. فيقول النبي : سحقاً سحقاً لمن غير وبدل)) 6.
فهذه براءة من النبي لمن غير وبدل في دين الله ما لم يأذن به الله.
اللهم! اجعلنا متبعين لا مبتدعين، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، على سنة رسولك.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
1 الحديث اخرجة الامام مالك بن انس رحمه الله في " الموطا) في ( القدر، رقم 3، باب النهى عن القول بالقدر)، بلاغا، بلغة ان رسول الله قال: ((تركت فيكم امرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله))
3 الحديث اخرجه: البخارى ومسلم وابو داود من حديث عائشة رضى الله عنها.
2 الحديث اخرجه الترمذى وصححه ولكن بدل قوله: " عليكم " بـ "علية " وابن حبان والحاكم، وضعفه ابن القطان الفاسى المتوفى سنة (628هـ) لجهالة حال عبد الرحمن بن عمرو السلمى وقال شعيب الارنؤوط: " والية اميل "
4 هذا الحديث جزء من حديث اخرجة ابن ماجة رحمة الله في ( كتاب الفتن باب افتراق الامم ) وقال البوصيرى في "الزوائد" هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات ،رواة الامام احمد في " مسنده ".
5 رواه البخارى.
6 الحديث اخرجه البخارى في ( الفتن) بلفظ مقارب، وكذا مسلم في ( الطهارة) بلفظ مقارب، وابن ماجة في (الزهد 4361) بلفظ مقارب ومالك رحمه الله في " الموطا" ( كتاب الطهارة، باب جامع الوضوء، حديث رقم 28).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
إن خير الهدي هدي محمد ، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله!
لقد كثرت البدع في زماننا هذا وانتشرت، وعلى سبيل المثال لا الحصر منها التزام كيفيات وهيئات معينة؛ كالذكر على هيئة الاجتماع بصوت واحد، والتزام عبادات معينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته، والاحتفال بيوم الإسراء والمعراج، وتخصيصه بعبادة معينة؛ علماً بأن تاريخه قد اختلف في تحديده، وحتى لو عرف تاريخه؛ فإن الله لم يميزه بعبادة مخصوصة.
عباد الله!
وهناك بدعة خطيرة تفعل في هذا الشهر - ربيع الأول -، تمس شخصية الرسول ، وهي بدعة الاحتفال بعيد مولده ، والمتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أن مثل هذه الاحتفالات لم تكن موجودة عند المسلمين الأوائل، بل ولا في القرون المفضلة، حتى جاءت الدولة الفاطمية.والتي انتسبت إلى فاطمة ظلماً وعدواناً، بل إن المحققين من المؤرخين يرون أنهم ينحدرون من أصل يهودي - وقيل: مجوسي -، وقد احتفل الفاطميون بأربعة موالد: مولد النبى ، وعلي بن أبي طالب وولاية الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين.
عباد الله
قسم العلماء الاجتماع الذي يكون في ربيع الأول، ويسمى باسم المولد، إلى قسمين:
أحدهما: ما خلا من المحرمات؛ فهو بدعة لها حكم غيرها من البدع.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في (الفتاوى الكبرى) : أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية؛ كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار؛ فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها.
وقال في (اقتضاء الصراط المستقيم) إن هذا (أي: اتخاذ المولد عيداً) لم يفعله السلف، (مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه).
قال: (ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً؛ لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص).
وقال الفاكهاني في رسالته في المولد المسماة بـ (المورد في الكلام على عمل المولد)؛ قال في النوع الخالي من المحرمات من المولد: (لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، والمتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة؛ قلنا: إما أن يكون واجباً، أو مندوباً إليه، وحقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت، ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين؛ فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً).
وأما القسم الثانى من عمل المولد، وهو المحتوي على المحرمات؛ فهذا منعه العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في فتوى له: (فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة؛ فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق).
وقال الفاكهاني في "رسالته": "الثاني (أي: من نوعي عمل المولد) : أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم المال ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يحدث من ألم الحيف وقد قال العلماء: أخذ المال بالباطل كأخذه بالسيف، لاسيما إن أدى ذلك إلى شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات: إما مختلطات بهم أو مشرفات، ويرقصن بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفراد، وهن رافعات أصواتهن بالتطريب، غافلات عن قوله: إن ربك لبالمرصاد [الفجر:14]. وهذا لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة من الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، ولاسيما أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ.
وقال الفاكهاني: (وقد أحسن أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب. هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي - وهو ربيع الأول - هو بعينه الذي توفي فيه؛ فليس الفرح فيه بأولى من الحزن).
عباد الله!
لا شك أن العواطف الكاذبة ودعوى حب الرسول هي التي حدت بأولئك الجهلة أن يبتدعوا ولا يتبعوا، وكيف تجتمع دعوى حب الرسول مع مخالفة أمره في النهي عن الإحداث في الدين، والضدان لا يجتمعان، وقد جعل الله ميزان محبته ودليلها اتباع رسول الله ؛ قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [آل عمران:31].(1/1)
الطلاق
فقه
الطلاق, النكاح
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - عقد النكاح وآثاره الشرعية والإجتماعية
2 - دعوة الإسلام لحفظ العلاقات الزوجية وإزالة كل ما يعكر صفوها
3 - كيفية فض الخلاف بين الزوجين
4 - الطلاق دواء عند إستعمال الداء
5 - صور مشينة متعلقة بالطلاق
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس!
اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [النساء:1].
عباد الله!
اعلموا أن الله فرض فرائض؛ فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها؛ فاعرفوا حدود الله وأحكامه، واعملوا بما تقتضيه شريعته الكاملة.
ألا وإن مما أحكمه الله شرعاً وتنظيماً النكاح، الذي جعله الله صلة بين بني آدم، وسبباً للقربى بينهم، ورتب لعقده ونسخه أحكاماً معلومة وحدوداً مدونة؛ فهو عقد عظيم، يترتب عليه من الأحكام الشيء الكثير؛ النسب، والإرث، والمحرمية، والنفقات... وغيرها.
ألا وإن في النكاح فوائد عديدة :-منها: أنه سبب لغض البصر وحفظ الفرج عما حرم الله؛ كما قال : ((يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج)) 1.
- ومنها حصول الراحة النفسية والسكن والأنس بين الزوجين؛ قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها [الروم:21]. وقال تعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها [الأعراف:189]. والسكن هو الأنس والطمأنينة.
- ومنها: حصول الذرية التي بها بقاء النسل الإنساني، وتكثير عدد المسلمين.
ولهذه الفوائد وغيرها أمر الله به، ووعد بترتب الخير عليه؛ قال تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله [النور:32].
ورغب سبحانه بالإبقاء على الزوجية، ونهى عن كل ما يعرضها للزوال، فأمر بالمعاشرة بين الزوجين بالمعروف، ولو مع كراهة أحدهما للآخر؛ قال تعالى: وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكوهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً [النساء:19].
وبين الرسول ما جعلت عليه المرأة؛ ليكون الرجل خبيراً بحالها، فلا يطلب منها أكثر مما تطيق؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله : ((إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه؛ كسرته، وإن تركته؛ لم يزل أعوج؛ فاستوصوا بالنساء)) 2 ، وفى رواية لمسلم: ((وكسرها طلاقها)).
وقد أرشد الله تعالى إلى وسائل لعلاج ما يحدث بين الزوجين، لو استخدمها كثير من الناس؛ لرأينا السكينة تسود حياتهم الزوجية، ولما شغلت المحاكم بالقضايا الزوجية.
فإذا شعر الزوج بنفرة زوجته منه وعدم انقيادها لحقه؛ فقد أمره الله تعالى أن يصلح ذلك بالحكمة واتخاذ الخطوات المناسبة:
قال تعالى: واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا [النساء:34].
أي: الزوجات اللاتي يحصل منهن عصيان لأزواجهن فيما يجب عليهن لهم، فذكروهن ما أوجب الله عليهن في كتابه من حسن العشرة للزوج، وما عليهن من الوعيد في مخالفة ذلك؛ فإن لم يجد فيهن الوعظ؛ فعاقبوهن بالهجر، وهو الإعراض عنهن في الفرش؛ لأن ذلك يشق عليهن، فيحملهن على الإنقياد لأزواجهن، والعودة إلى طاعتهم؛ فإن لم يجد في الزوجة الهجران؛ فإنها تعاقب بما هو أشد منه، وهو الضرب غير الشديد غير المبرح.
عباد الله!
كل هذه الإجراءات يتخذها الزوج مع زوجته دون تدخل من أحد خارجي؛ فإن أستمر الشقاق بين الزوجين؛ فقد أمر الله تعالى بالتدخل بينهما لإصلاحه؛ قال تعالى: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما [النساء:35]. فأمر سبحانه عند تطور الخلاف بتشكيل هيئة للنظر في إزالته، تتكون من عضوين، يتحليان بالإنصاف والعدل، أحدهما من أسرة الزوج، والثاني من أسرة الزوجة، ينظران في ملابسات الخلاف، ويأخذان على يد المعتدي من الزوجين، وينصفان المعتدى عليه، ويسويان النزاع.
كل هذه الإجراءات لإبقاء عقد النكاح واستمرار الزوجية فإن لم تجد هذه الإجراءات، وكان في بقاء الزوجية ضرر على الزوجين، بحيث ساد الخصام والنزاع، وأصبحت الحياة الزوجية جحيماً من المشاكل؛ فقد شرع الله الفراق بينهما بالطلاق.
فالطلاق هو آخر المراحل، وهو في مثل هذه الحالة رحمة من الله، يتخلص به المتضرر، وتتاح له الفرصة للحصول على بديل أحسن؛ كما قال تعالى: وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً [النساء:130]. أي: وإن لم يصطلحا بل تفرقا؛ فليحسنا ظنهما بالله؛ فقد يقيض للرجل امرأة تقر بها عينه، ويقيض للمرأة رجلاً يوسع عليها به.
عباد الله!
وإذا كان الزوج لا يرغب الزوجة ولا يريدها، وإنما يمانع من طلاقها من أجل أن تفتدي منه بمال؛ فقد حرم الله عليه هذا، وأمره بطلاقها؛ من غير أن يأخذ منها شيئاً؛ قال تعالى: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن [النساء:19]. أي: لا تضار أيها الزوج زوجتك في العشرة؛ لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه، أو حقاً من حقوقها عليك، على وجه القهر لها والإضرار، أو لتبذل لك مالاً تفدي به نفسها منك.
قال ابن عباس: (يعني: الرجل يكون له امرأة، وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضرها؛ لتفتدي به).
وأما إذا كانت المرأة هي التي لا تريد الرجل أو أبغضته ولم تقدر على معاشرته والقيام بحقوقه؛ فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها؛ قال تعالى: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [البقرة:229].
عباد الله!
إن الله جعل الطلاق حلا أخيراً بعدما تفشل كل الحلول لحسم النزاع؛ فهو كالدواء يستعمل عند الحاجة وفق طريقة معينة رسمها الشارع، فإذا استعمل من غير حاجة، أو استعمل على غير الطريقة المرسومة؛ فإنه يضر؛ كما يضر الدواء المستعمل على غير أصوله، ويندم فاعله حيث لا ينفع الندم.
ولهذا رسم الله سبحانه وتعالى للطلاق خطة حكيمة، تقلل من وقوعه، ويكون المتمشي على تلك الخطة الإلهية من الطلاق لا يتضرر به ولا يندم عليه، ويتجنب الآثار السيئة التي يقع فيها من أخل بتلك الخطة.
فجعل للرجل أن يطلق امرأته عند الحاجة طلقة واحدة في طهر لم يجامع فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها، ثم إن بدا له في تلك الفترة أن يراجعها؛ فله ذلك، وإن انقضت عدتها قبل أن يراجعها؛ لم تحل له؛ إلا بعقد جديد.
قال تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [البقرة:229]. أي: إذا طلقتها واحدة أو اثنتين؛ فأنت مخير فيها، ما دامت في العدة؛ فلك أن تردها إليك؛ ناوياً الإصلاح والإحسان إليها، ولك أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين منك، وتطلق سراحها؛ محسناً إليها؛ ولا تظلمها من حقها شيئاً.
قال تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [الطلاق:1].
أي: طلقوهن وهن طاهرات من الحيض؛ من غير أن يحصل منكم جماع لهن في هذا الطهر.
فبين سبحانه في الآية الأولى العدد المشروع في الطلاق، وهو طلقة واحدة، وبين في الآية الثانية الوقت الذي يجوز فيه الطلاق، وهو الطهر الذى لم يجامع فيه.
فبان من هذا أن من يطلق زوجته ثلاثاً دفعة واحدة مخالف للشرع، وكذا من يطلقها وهي حائض أو في طهر جامع فيه.
عباد الله!
ولو أن كل واحد تقيد بما ورد في الشرع من الحلول لما يحصل في العشرة الزوجية، وتقيد بما ورد في حالة الطلاق؛ لما رأينا أناساً استحلوا الطلاق من غير علاج قبله، وطلقوا حتى حرمت عليهم زوجاتهم إلا بعد أن تنكح المرأة زوجاً غيره، فعضوا أصابع الندم، وبدؤوا يتنقلون بين أبواب العلماء بحثاً عن فرج.
قال علي رضي الله عنه: " ل ا يطلق أحد للسنة فيندم ".
وقال أيضاً: " لو أن الناس أخذوا بما أمر الله في الطلاق, مايتبع رجل نفسه امرأة أبدا ".
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن خير الهدي هدي محمد ، ومن اقتدى؛ فقد اهتدى.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
1 الحديث -خرجه : البخارية ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي برواية نحو هذه الرواية. من حديث عثمان بن عفان مع عبد الله بن مسعود رضى الله عنهما وروى البخاري ومسلم هذه الرواية بدا من قوله.
2 اخرجه البخارية في ( كتاب الانبياء ، باب 1) ، و(كتاب النكاح ، باب 10) ، وابن ماجة في في ( كتاب الطهارة 77).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الطمأنينة والراحة مقرونة بطاعة الله، وأن الشقاء والشقاق والنزاع يكون بقدر البعد عن طاعة الله، وما ساد الشقاق الأخلاقي في حياة بعض الناس؛ إلا بسبب بعدهم عن طاعة الله والاستهانة بأحكام الشرع.
وأقرب مثال على ذلك هو الطلاق؛ فبعض الناس يتلاعبون في الطلاق:
فبعضهم يطلق عند أدنى سبب، وعند أول إشكال بينه وبين زوجته، فيضر بنفسه وبزوجته.
والبعض الآخر يتزوج ويطلق ويتزوج ويطلق تفكهاً من غير مبرر للطلاق عادة له، ومثل هذا ينبغي أن يعلم أن فعله هذا مكروه.
ومن الناس من يجري الطلاق على لسانه بسهولة، وبأدنى مناسبة، فيستعمله بدلاً من اليمين، إذا أراد أن يحلف على نفسه أو على غيره؛ قال: علي الطلاق! فإذا انتقضت يمينه؛ وقع في الحرج، وصار يسأل عن الحلول التي تنقذه من هذا الطلاق الذي حلفه.
وبعض الناس يتلفظ بالطلاق هازلاً، وما علم أن الرسول قال: ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة)) 3.
وبعض الناس يأخذ فيه الشيطان مأخذه عند الغضب، فيبت زوجته بالطلاق بالثلاث دفعة واحدة.
وكل هذا بسبب تلاعب الشيطان ببني آدم ليوقعهم في الحرج.
عباد الله!
وبعض من لا يخاف الله حينما يقع نظره على امرأة؛ يغريه الشيطان بها، ويتعلق بها قلبه، وهي متزوجة، فيحاول إفسادها على زوجها؛ ليطلقها زوجها، ومن هذه حالته؛ فإن عليه إثم عظيم، والنبي تبرأ منه فقال: " ليس منا من خبب امرأة على زوجها ". خبب؛ أي: أفسد.
وبعض النساء حينما تريد أن تتزوج، ومع من يريد أن يتزوج بها أخرى، تطلب طلاق ضرتها، والنبي قال: ((لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، ولتنكح؛ فإن لها ما قدر لها)) 4.
وبعض النساء أيضاً تطلب من زوجها الطلاق من غير بأس، والنبي قال: ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس؛ تحرم عليها رائحة الجنة)) 5.
عباد الله!
وبعض الناس حينما يطلق زوجته نتيجة شقاق حدث بينهما كرهها على أثره لا يقف كرهه عند هذا الحد، بل إن كرهها قد يصل إلى حد من لا ذنب لهم، وهم أولاده وبناته منها، فنجد أن البعض يترك أولاده عند أمهم، لا يبالي بهم في أي واد هلكوا، وكأنهم ليسوا بأولاده، وأولاده من زوجته الأخرى قد احتضنهم وأعطاهم ما يريدون، وأولاده من تلك المرأة المطلقة يعيشون الكفاف، بل ربما أنهم يتكففون الناس، أجحف بحقهم والدهم، فحرمهم التربية والرعاية والعناية والحنان والنفقة؛ فبعض الأولاد والبنات ممن طلقت أمهاتهم أسوأ حالا من الأيتام، وكم من رجل أخذته العزة بالإثم، فلم يتول عقد ابنته؛ لأنه طلق أمها، فكان من ظلم أبيهم لهم أن حرمهم الرفق، فشردوا، وضاعوا، وتخلفوا دراسياً؛ نتيجة لسوء الأحوال المادية لديهم، وما علم ذلك الأب الجائر أنهم أولاده شاء أم أبى، كم من ثري أولاده يتكففون الناس! كم من خير قد ضاع أولاده واحتوشتهم رفقاء السوء، ومن ثم إذا وقع مالا تحمد عقباه وأودع الأولاد السجون؛ قال: هذا عمل أمهم !! ولكنه في الحقيقة نتيجة إهماله هو!!
ألا فليتق الله من هذا عمله، وليقم على تربية أولاده بنفسه، وليعدل بينهم كما يحب منهم أن يبروه.
3 رواه ابو دواد (رقم 219 في الطلاق ، باب في الطلاق على الهزل ) من حديث ابى هريرة وكذا الترمذى ( رقم 184 في الطلاق باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق ) وقال الشيخ عبد القادر " في اسناده عبد الرحمن بن حبيب بن ادرك وهو لين الحديث ، ولكن للحديث شواهد بمعناه يقوى بها " ولذلك قال الترمذى " هذا حديث حسن غريب والعمل على هذا عند اهل العلم من اصحاب النبى وغيرها.
رواه ابن ماجة ( كتاب الطلاق ، باب 3) والامام مالك في " الموطأ " ( كتاب النكاح ) رواة ابو داود ( برقم 2175 في الطلاق باب فيمن خيب امرأة عن زوجها ) و( رقم 5170 في الادب باب فيمن خيب مملوكا على مولاة ) واسناده صحيح.
4 رواه البخارى في ( الشروط باب 8 ، وفى القدر باب 4 ، والنكاح 53 البيوع ( 58 ) وكذا مسلم في ( النكاح باب 38،39،51،52) وراه في ( البيوع ، باب 12 ) رواه ابو دواد في ( الطلاق ، باب 2) والترمذى ( القدر ، باب 7) واحنمد بن حنبل ( رقم 328 ، 273،311،294،410،420،487،489،508،512،516).
5 احمد بن حنبل في " المسند" ( 5/ 277،283).(1/2)
العلم والتعليم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - الأمر بالعلم مقدم على الأمر بالعمل
2 - فضل العلم والإخلاص في طلبه وصفات طالب العلم
3 - أحوال الناس تجاه العلم
4 - مسئولية الجميع في رعاية أبناء أمتنا ( الطلاب ) 5 - دور المعلم في البناء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وتعلموا أحكام دينكم، وتفقهوا فيه؛ لأن هذا طريق الخير؛ فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.
واعلموا أن الله تعالى رفع شأن العلماء العاملين:
فقال تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر:9].
وقال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [الزمر:9].
عباد الله:
لقد أمر الله تعالى بتعلم العلم قبل القول والعمل؛ قال تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك [المجادلة:11].
قال البخاري رحمه الله في (صحيحه): (باب: العلم قبل القول والعمل).
ولقد بين النبي فضل العلماء العاملين؛ حيث قال : ((وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه؛ أخذ بحظ وافر)) 1.
وقال بعض العلماء: تعلم العلم؛ فإنه يقومك ويسددك صغيراً ويقدمك ويسودك كبيراً، ويصلح زيغك وفسادك، ويرغم عدوك وحاسدك، ويقوم عوجك وميلك، ويحقق همتك وأملك.
ليس يجهل فضل العلم إلا أهل الجهل؛ لأن فضل العلم إنما يعرف بالعلم، فلما عدم الجهال العلم الذي به يتوصلون إلى فضل العلم؛ جهلوا فضله، واسترذلوا أهله، وتوهموا أن ما تميل إليه نفوسهم من الأموال المقتناة والطرق المشتهاة أولى أن يكون إقبالهم عليها وأحرى أن يكون اشتغالهم بها.
وقد بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فضل ما بين العلم والمال، فقال: (العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم حاكم والمال محكوم، مات خزان الأموال وبقي خزان العلم، أعيانهم مفقودة وأشخاصهم في القلوب موجودة).
وربما امتنع بعض الناس عن طلب العلم لكبر سنه واستحيائه من تقصيره في صغره أن يتعلم في كبره، فرضي بالجهل أن يكون موسوماً به، وآثره على العلم أن يصير مبتدئاً فيه، وهذا من خدع الجهل وغرور الكسل، لأن العلم إذا كان فضيلة؛ فرغبة ذوي الأسنان فيه أولى، وابتداء بالفضيلة فضيلة، ولأن يكون شيخاً متعلماً أولى من أن يكون شيخاً جاهلاً.
عباد الله:
وتعلم العلم على نوعين:
النوع الأول: واجب على كل مسلم ومسلمة، ولا يقدر أحد على تركه، وهو تعلم ما يستقيم به دينه؛ كأحكام العقيدة والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج على الوجه الذي يتمكن به من أداء هذه العبادة على وجهها الصحيح.
ولكن بعض الناس فرط في هذا، فتراه يؤدي العبادة بطريقة خاطئة ،ومع ذلك لم يحاول تعلم أحكامها، بينما تجده حريصاً على دنياه، يطلبها من كل وجه، ومن هذا عمله؛ سيسأله الله على تفريطه؛ فليعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً.
والنوع الثاني من تعلم العلم: ما زاد عن ذلك؛ من تعلم بقية أحكام الشريعة في المعاملات والتفقه في أمور العبادات؛ فهذا واجب على الكفاية، إذا قام به من يكفي من المسلمين؛ سقط الإثم عن الباقين، وإن تركه الكل؛ أثموا.
عباد الله!
وفي هذه الأيام يستعد الطلاب والطالبات لاستقبال عام دراسي جديد، يبتدئونه يوم غد؛ يقضون هذا العام بين أوراق المدارس والمعاهد والكليات؛ لينهلوا من مناهل العلم والمعرفة على حسب مستوياتهم واتجاهاتهم، ويشجعهم ويدفعهم إلى ذلك أولياء أمورهم، وهذا شيء طيب، وقد تقدم الترغيب في طلب العلم.
ولقد حث النبي أصحابه على القراءة والتفقه في الدين، وخير مثال ضربه لنا في هذا المجال كان في إطلاقه لأسرى بدر بعد أن اشترط عليهم أن يعلم كل واحد منهم نفراً من المسلمين القراءة والكتابة.
معاشر طلاب العلم!
لابد أن يكون طلب العلم خالصاً لوجه الله تعالى، لا يراد به عرض من الدنيا، وذلك ليعم نفعه، ويؤجر صاحبه، وكذلك إذا أحاط طالب العلم علماً بالمسألة؛ فالواجب عليه أن يطبقها على نفسه، ويعمل بها؛ ليكون علمه نافعاً؛ فإن العلم النافع ما طبقه الإنسان عملياً، والعمل بالعلم هو ثمرة العلم، والجاهل خير من عالم لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به؛ فإن العلم سلاح: فإما أن يكون سلاحاً لك على عدوك، وإما أن يكون سلاحاً موجهاً إلى صاحبه.
عباد الله!
قولوا لي بربكم: ما فائدة العلم بلا عمل؟ أرأيتم لو أن إنساناً درس الطب وأصبح ماهراً ولم يعالج نفسه ولا غيره؛ فما فائدة علمه وتعبه؟!
عباد الله!
وإن القلب ليعتصره الألم حينما نرى بعض من طرقوا أبواب العلم الشرعي أو انتقلوا في مراحل التعليم، ولكن أخلاقهم على خلاف ما تعلموا، تعلموا من الأحكام الشيء الكثير، ولكن الأثر مفقود، تجد الواحد منهم يعلم حكم إسبال الثياب ويسبل ثيابه، ويعلم حكم حلق اللحى ويقارفه، ويعلم حكم موالاة الكفار ويستقدمهم، ويعلم حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، ويعلم حكم الربا ويتعامل به أو يتحايل عليه، ويعلم حكم خلوة الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية واستقدم سائقاً ويضعه مع محارمه يخلو بهن أو هو يخلو بالخادمة أو غيرها من النساء الأجنبيات، ويعلم أن مصافحة الرجل الأجنبي للمرأة الأجنبية لا يجوز ومع ذلك يصافح النساء الأجنبيات؛ فمن هذه حاله؛ فعلمه وبال وحجة عليه، نسأل الله السلامة والعافية. وكم من جامع للكتب من كل مذهب يزيد مع الأيام في جمعه عمى!!
فإذا تعلم وطبق؛ فعليه أن يدعو إلى ذلك.
معاشر طلاب العلم!
وهناك شروط يتوفر بها علم الطالب، وينتهي معها كمال الراغب، مع ما يلاحظ به من التوفيق ويمد به من العون:
أولها: العقل الذي يدرك به حقائق الأمور.
الثاني: الفطنة التى يتصور بها غوامض العلوم.
والثالث: الذكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوره وفهم ما علمه.
الرابع: الرغبة التي يدوم بها الطلب ولا يسرع إليها الملل.
والخامس: الاكتفاء بمادة تغنيه عن كلف الطلب.
والسادس: الفراغ الذي يكون معه التوفر ويحصل به الاستكثار.
السابع: عدم القواطع المذهلة من هموم وأشغال.
الثامن: الظفر بعالم سمح بعلمه متأن في تعليمه.
فإذا استكمل هذه الشروط؛ فهو أسعد طالب وأنجح متعلم وكذلك عليه أن يتأدب مع معلمه ويوقره ويحترمه ويعترف بفضله قال بعض العلماء: من لم يتحمل ذل التعلم ساعة؛ بقي في ذل الجهل أبداً.
وقال بعض الشعراء مبيناً مغبة ازدراء المعلم:
إن المعلم والطبيب كليهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن أهنت طبيه واصبر لجهلك إن جفوت معلما
عباد الله!
فإذا تعلم الإنسان، وحصل قدراً من العلم، فليعلم أنه قليل بجانب ما جهل، وعليه أن لا يدخله العجب، وليعلم أنه لا سبيل إلى الإحاطة بالعلم كله؛ فلا عار أن يجهل بعضه، وعليه أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم. ولا ينبغي أن يجهل من نفسه مبلغ علمها، ولا أن يتجاوز بها قدر حقها، وقد قسم الخليل بن أحمد أحوال الإنسان، فقال:
(الرجال أربعة:
رجل يدري ويدري أنه يدري؛ فذلك عالم؛ فاسألوه.
ورجل يدري ولا يدرى أنه يدري؛ فذلك ناسٍٍ؛ فذكروه.
ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري؛ فذلك مسترشد؛ فأرشدوه.
ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري؛ فذلك جاهل؛ فارفضوه )
اللهم! إنا نعوذ بك من فتنه القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن، ونعوذ بك من العجب بما نحسن.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
1 محمد:19.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وراقبوه، واعلموا أن كلا منكم على ثغر من ثغور الإسلام؛ فحذار أن يؤتى الإسلام من قبله.
عباد الله! إخوتى أولياء أمور الطلاب! إخوتى أساتذة أبناء المسلمين!
مما لا يخفى على الجميع أن أبناء اليوم رجال الغد، وهم الذين سيتولون في المستقبل توجيه سفينة المجتمع وإدارة شئونه؛ فإذا قمنا اليوم بتوجيههم الوجهة الصالحة التي أمر بها ديننا الحنيف؛ تخلصت مجتمعاتنا تحت إدارة هذه الصفوة من الشباب الطيب من أمراض اجتماعية متفشية في المجتمعات؛ مثل النفاق، والوساطة، وأكل السحت.. وغيرها.
وأولياء أمور الطلاب والطالبات والمدرسين والمدرسات يقع عليهم العبء الأكبر؛ لأنهم يقضون معظم أوقاتهم مع الطلاب؛ الأب مع أبنائه في البيت، والمدرس مع طلابه في المدرسة؛ فينبغي أن يكون كل منهم متفهماً لرسالة الآخر.
ويبلغ التأثير أعلاه حينما يكون الأب والمدرس كل منهما ملتزم بأحكام الإسلام في العبادات والمعاملات والأخلاق؛ فإذا كان الأب والمدرس كل منهما ملتزماً بأحكام الإسلام، معتزاً بإسلامه، شاعراً بواجبه في الدعوة إلى الله والتوجيه؛ أفاض على من يقوم بتربيته من نور هذا الإيمان الذي يحمله بين جنبيه ويمشي به في الناس.
فليكن شعارك أخي المدرس: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين [فصلت:33].
وليعلم كل من المدرس وولي أمر الطالب والطالبات: أنه راع فيهم، ومسؤول عنهم، ومطلوب منه النصح لهم.
ولعلم أنه: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لها؛ إلا حرم الله عليه الجنة)) 2.
وليعلم أنه إن ترك هذه البراعم الغضة؛ فإن رياح الشهوات ستعصف بها، وإن أعداء الإسلام سيجلبون عليها بقضهم وقضيضهم، حتى يسلخوهم من الدين، فيعودوا حرباً عليه:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
وليعلم كل من اشتغل بالتدريس: أن أقل ما ينتظر من المدرس المسلم أن يكون مظهره إسلامياً، وأن يتفق قوله وفعله وسلوكه مع روح الإسلام ومبادئه.
فمثلاً: إذا دخل على طلابه؛ قابلهم بوجه طلق، قال : ((لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقَ أخاك بوجه طلق)) 3 ، وحياهم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لا بتحية العوام: صباح الخير أو: مساء الخير!! وليبدأ حديثه بحمد الله والصلاة على رسوله ، فـ ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله؛ فهو أقطع)) 4 إلى غير ذلك من الأمور التي تغرس في نفوس الصغار الأخلاق الحميدة.
عباد الله!
وتختل الموازين حينما يتولى التدريس غير ملتزم بأحكام الإسلام، متهاون في أوامر الله، قد استحوذ عليه الشيطان؛ لأن المطلوب منه الإرشاد إلى كل خلق حسن، والتحذير من كل خلق ذميم، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه!!
فالطالب الذي يرى مدرسه في حالة من الميوعة والتسيب؛ كيف يتعلم الفضيلة؟!
والطالب الذي يسمع من مدرسه كلمات السب والشتم؛ كيف يتعلم حلاوة المنطق؟!
والطالب الذي يرى مدرسه يتعاطى الدخان؛ سيسهل عليه هذا الأمر!!
والطالبة التي مدرستها تسير خلف ما يصدره لها الأعداء من أزياء فاضحة وأخلاق سافلة؛ كيف تتعلم الفضيلة؟!
والطالبة التي ترى مدرستها متبرجة، كيف تلتزم بالحجاب؟!
والطالبة التي ترى مدرستها تركب مع السائق وحدها؛ كيف تبتعد عن الاختلاط بالأجانب والخلوة بهم؟!
وقس على هذه الأمور غيرها.
عباد الله!
هذا وإن بعض الآباء قد أغمضوا أعينهم عن أخلاق أبنائهم وبناتهم، ولم ينظروا في قدوتهم؛ هل هي حسنة أم سيئة؟! وهذا أمر قد ينذر بالخطر.
بل إن بعض الآباء - هداهم الله - إذا وفق أبناؤهم بأساتذة صالحين مصلحين؛ تجدهم ينسفون ما تعلم أبناؤهم من أساتذتهم من أفكار صالحة.
فالإبن في المدرسة يتعلم أن الغناء من المحرمات، ولكن والده يجلب له آلات اللهو، وبأغلى الأثمان، ويخلي بينه وبينها!!
وكذلك الولد يتعلم أن الخلوة بالأجنبية حرام، ووالده يناقض ذلك، ويجلب له امرأة أجنبية باسم الخدمة، ويترك الأبناء ينظرون إليها وهي سافرة لا يأمرها بالحجاب!!
والبنت في المدرسة تتعلم أن الخلوة بالأجانب حرام، ووالدها يجلب لها سائقاً أجنبياً، ويدعه يذهب بها وحدها إلى المدرسة أو غيرها!!
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
هذا؛ والواقع الذي ذكرته ليس على سبيل التعميم؛ فهناك أساتذة أكفاء، على مستوى من الخلق والدين، وكذلك الحال بالنسبة للآباء، ويظهر أثر ذلك جليا على أخلاق الناشئين؛ فيوم أن ترى الشباب ملتزماً وذا خلق فاضل؛ تعلم أنه قد وفق بمن أحسن توجيهه، وتضافرت الجهود من المدرسة والبيت على ذلك، ويوم أن ترى قطعاناً من الشباب يهيمون في كل بقعة، ويجتمعون فيتكلمون في بعض الأحيان، وقد علا الشتم مجالسهم، ويسخرون بمن يأمرهم بالمعروف؛ تعرف أنه قد ترك لهم الحبل على الغارب حتى شبوا وتفلتوا، وإذا زال الحياء من الله ومن عباده، فحدث ولا حرج.
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
2 رواه مسلم.
3 رواه مسلم.
4 الحديث رواه ابن ماجه في سننه في (كتاب النكاح ، باب خطبة النكاح ) من حديث ابى هريرة وقال السندى " الحديث قد حسنة ابن الصلاح والنووي وأخرجه ابن حبان في " صحيحه".(1/3)
العلمانية وخطرها
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - ضرورة تتبع طرق الغي والضلال وكشف عوارها
2 - معنى العلمانية
3 - الحرب بين الإسلام وجاهلية قريش
4 - بعض صور العلمانية في مجتمعنا
5 - تلبيس العلمانيين على الناس بإخفاء حقيقة موقفهم في الدين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
لقد أنزل الله الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ففتح به أعينا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وبدد بدعوته ظلمات الجهل والحماقة، وأسقط الأغلال التي كانت على العقول، حتى أمسى شرك الجاهلية وضلالها أسطورة غابرة، وأصبحت عبادة الأصنام في ميزان المسلم إفكاً قديماً، ويعجب المسلم فيما يعجب من سخف المشركين، وصدق الله تعالى إذ يقول: من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشداً [الكهف:17].
عباد الله!
غير أنه يجب أن نذكر دائماً أن الابتلاء مستمر، ومادة الشر باقية، وشياطين الإنس والجن مستمرون في ترويج الضلال؛ حتى زخرفوه بكل صلة، وروجوا له بكل لسان وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً [الأنعام:112].
ومن الواجب أن نتتبع طرق الغي؛ بالتحذير منها، وكشف مراميها وأبعادها، وسد السبل على دعاتها، حتى يكون المسلمون على بينة من ربهم، وبصيرة من سبيلهم، ولا يضرهم انتحال المبطلين أو كيد الحاقدين.
ولقد شاعت في دنيا المسلمين اليوم فلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين منا ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات أسرت عقول البعض واستحوذت على الأفكار، أرى ذلك كله داء دوي ونار لو قدر لها أن تنتشر؛ لم تأت على شيء إلا جعلته كالرميم.
ومن تلك الأفكار الفكر الصليبي اللاديني، وهو ما يسمى بالعلمانية، التى تسربت إلى مجتمعات المسلمين.
ولعل أحد التحديات الخطيرة التي تواجه أهل السنة والجماعة في هذا العصر هي إسقاط اللافتات الزائفة، وكشف المقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية، التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.
لذا؛ فإني سأميط اللثام عن وجه هذه النحلة الضالة المضلة:
فالعلمانية مدلولها الصحيح هو إقامة الحياة على غير دين؛ سواء بالنسبة للأمة أو للفرد.
إن هذه العلمانية لهي أكبر نقيض للتوحيد الذي هو أعظم حقيقة في التصور الإسلامي.
عباد الله!
قال ابن تيميه في "رسالة العبودية": (إن الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما: فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية، ليصبح لا محالة في عبودية لغير الله وكل عبودية لغير الله، كبرت أو صغرت، هي في نهايتها عبادة للشيطان).
قال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم [يس:60-61]. يشمل ذلك العرب الذين قال الله فيهم: إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً [النساء:117]. ويشمل كذلك كل عبادة لغير الله على مدار التاريخ.
ولقد تغيرت بعض العبادة؛ فلم يعد هناك تلك الأوثان التي كان العرب في شركهم يعبدونها، ولكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل الأوثان القديمة أوثان أخرى؛ كالحزب، والقومية، والعلمانية، والحرية الشخصية، والجنس وغيرها. وعشرات الأوثان الجديدة؛ إنها عبادة الشيطان والطاغوت، وهذا مناف لشهادة أن لا إله إلا الله؛ فمعنى (لا إله إلا الله): الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله.
وبناء على هذا يمكن أن نعرف حكم الإسلام في العلمانية، فنقول: إن العلمانية نظام طاغوتي جاهلي كافر، يتنافى ويتعارض تماماً مع (لا إله إلا الله) من ناحتين أساسيتين متلازمتين:
أولا: من ناحية كونها حكماً بغير ما أنزل الله.
وثانياً: كونها شركاً في عبادة الله.
عباد الله!
إن العلمانية تعني بداهة: الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعة الله، وقبول الحكم والتشريع والطاعة والاتباع من الطواغيت من دون الله؛ فهذا معنى قيام الحياة على غير دين.
قال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة:44].
عباد الله!
والجاهلية أنواع علينا أن نعلمها:
فبعض الجاهلية يتمثل في الإلحاد بالله سبحانه وتعالى، وإنكار وجوده؛ فهي جاهلية اعتقاد وتصور؛ كجاهلية الشيوعيين.
وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه، وانحراف في الشعائر التعبدية، وهي جاهلية الاتباع والطاعة؛ كجاهلية اليهود والنصارى.
وبعضها يتمثل في اعتراف بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية، مع انحرف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومع شرك كامل في الاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم مسلمين من العلمانيين، ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحققوه بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية، وكلها جاهلية.
عباد الله!
والعلمانية تجعل العقيدة والشعائر لله وفق أمره، وتجعل الشريعة والتعامل مع غير الله وفق أمر غيره، وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله؛ لأن أهل الجاهلية الأولى لم ينكروا وجود الله؛ قال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [لقمان:25]. وكذلك لدى أصحاب الجاهلية الأولى بعض الشعائر التعبدية؛ قال تعالى : وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والأنعام نصيباً [الأنعام:136].
عباد الله!
ولكن مع ذلك بماذا حكم الله على هذا المجتمع؟!
لقد حكم عليه بأن ذلك كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعها صفراً في ميزان الإسلام.
ولذلك نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول الله ، واشتد النزاع بمعركة شرسة ونزاع حاد، حتى إن السيف كان الحكم الأخير، موضوع هذه المعركة العنيفة الطويلة لم يكن سوى كلمة واحدة، هي كلمة لا إله إلا الله، كلمة يصر عليها النبي إلى أقصى حد، وترفضها الجاهلية إلى أبعد حد؛ لأنه منذ اللحظة الأولى، حين دعاهم النبي إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ كان الجواب الفوري: "أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب" فالقضية واضحة في أذهانهم أن الالتزام بهذه الكلمة معناه الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل ما عدا الله من معبوداتهم وطواغيتهم المختلفة، طاغوت الأوثان، وطاغوت الزعامة، وطاغوت القبيلة، وطاغوت الكهانة، وطاغوت التقاليد، والاستسلام الكامل لله، ورد الأمر والحكم، جليله وحقيره، كبيره وصغيره، إلى الله وحده لا شريك له.
عباد الله!
وكذلك؛ فإن بيننا اليوم ممن يقولون: إنهم مسلمون من يستنكرون وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية!!
وبيننا اليوم حاصلون على الشهادات العليا من بعض جامعات العالم يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الاجتماعي؟! وما للإسلام واختلاط النساء مع الرجال على الشواطئ والمنتزهات؟! وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟! وما للإسلام والمرأة وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال وحريتها الشخصية في سفرها بدون محرم وتصرفها في شؤونها؟! وهذه دعوى إلحادية؛ لأنها رد لما جاء في كتاب الله من قوامة الرجل على المرأة.
وهناك من يتساءل: ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل سواء بالزنى أو غيره، عياذاً بالله؟!
وما للإسلام وهذا الذي يفعله المتحضرون؟! فأي فرق بين هؤلاء وبين سؤال أهل الكفر في زمن نبي الله شعيب: أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا [هود:87].
وهم يتساءلون ثانياً، بل ينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد، ويقولون: ما للدين والمعاملات الربوية؟! وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟! وما للدين والسياسة والحكم؟! بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده.
فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى، والعالم اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة وسلوك الشخص في الحياة والمعاملات المادية؛ تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود، وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ؛ أضافت الجاهلية اليوم وصفهم بالتطرف!!
أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعوا شعار: الدين لله والوطن للجميع من أدعياء الإسلام من العلمانيين الذين أفسدوا البلاد والعباد؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
إن من عادة المنافقين من علمانيين وحداثيين وغيرهم من المنتسبين لهذا الدين عدم الإنكار الصريح والواضح، وعدم إظهار العداء الساخر للإسلام، وهم يتخذون سلاح التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة.
من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين وأشباههم شعارات يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة نفوس القلة التي قد تفضحهم وتشوش عليهم وتكشفهم للناس، هؤلاء الذين يرفعون شعارات العلمانية، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره، ولكن رويداً؛ لذلك؛ فهم يحرصون على كل طريق يوصل لوسائل الإعلام.
عباد الله!
إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية لهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا ريب فيه ولا التباس، ولكن الخفاء والريب والالتباس إنما يحدث عمداً من دعاة العلمانية أنفسهم؛ لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا اهتداء بجاهليتهم في بلاد المسلمين؛ إلا من خلال هذا التخفي والتلبيس على جماهير المسلمين، وذلك من خلال راياتهم الزائفة، التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحفزهم ضد إخوانهم الصادقين الداعين بحقيقة هذا الصراع، المنبهين إلى خطرهم الداهم على الدين وأهله
عباد الله!
إن المعارك والجبهات التي تفتحها الفرق الضالة والمنتسبة لهذا الدين ضد أهل السنة والجماعة، وأخطرها دائماً جبهة الرفض الباطنية، والتي تغذيها وتدعمها القوى والمعسكرات الجاهلية العالمية؛ لتدمير أهل السنة والجماعة؛ باعتبارهم الخطر الحقيقي والفعال ضد هذه القوى.
أقول: إن هذه المعارك وهذه القوى يجب ألا يتساهل ولا يتهاون معها أهل السنة والجماعة،
إن حصونهم لازالت مهددة من داخلها، وإن القوى العلمانية المتكتلة ضدهم من الداخل، والتي تصارعهم في معارك خفية حيناً وظاهرة أحياناً أخرى، هي التى تمثل الآن جوهر الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية في العصر الحديث.
و إن أخطر مراحل هذا الصراع هي مرحلة تعرية هذه القوى العلمانية القبيحة، وفضحها أمام المسلمين؛ ليستبين لكل مسلم سبيل المجرمين الذين يحاولون خداعهم وتلبيس أمر دينهم عليهم وهم لا يعلمون.
أما آن لأهل السنة والجماعة أن ينتبهوا لهذه الأخطار المحيطة بهم في الداخل والخارج والتي تهددهم في دنياهم وآخرتهم؟!
أما آن لهم أو لكثير منهم أن يتخلوا عن معاركهم القديمة وخلافاتهم الجانبية والشكلية ليفرغوا طاقاتهم ويركزوا جهودهم لمواجهة هذه التحديات؟!
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/4)
العنوسة
الأسرة والمجتمع, فقه
المرأة, النكاح
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد
2 - الزواج فطرة قبل أن يكون شرعة
3 - الشريعة جاءت موافقة للفطرة ومهذبة لها
4 - فوائد النكاح - اسباب ظهور العنوسة
5 - التحذير من عضل النساء - اسباب عضل البنات ومنعهن من الزواج
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله!
مما لا شك فيه أن دين الإسلام الحنيف جاء بكل ما فيه مصلحة للفرد والمجتمع، وأمر به، وحث عليه، وحذر من كل ما فيه مضرة ومن الأمور التي حث عليها الإسلام ورغب فيها لما فيها من المصالح الزواج؛ فقد ورد الأمر بذلك في العديد من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية:
قال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع [النساء:3].
وقال تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم [النور:32].
عباد الله!
ومما ينبغي أن يعلم أن الزواج فطرة قبل أن يكون شرعة؛ فهو فطرة أودعها الله الخلق يوم خلقه:
قال تعالى: سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [يس:36].
وقال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [الذاريات:49].
والإنسان أشرف من خلق الله، اشتمل على نفس التكوين ذكر وأنثى، وفطر كل شطر بالميل إلى الشطر الآخر، وقد ذكرنا الله تعالى بأصلنا ليزداد إيماننا وشكرنا.
قال تعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكون من الشاكرين (1/5)
الشهادة بين الواقع والواجب
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - الخلاف بين الناس وتعدي بعضهم على بعض أمر مشاهد ومتكرر
2 - الشهادة هي سبيل اقرار الحقوق
3 - وجوب أداء الشهادة والتحذير من كتمانها
4 - التحذير من شهادة الزور وذكر أثرها البالغ على المسلمين
5 - الشهادات التي لايجوز تحملها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وتحرزوا من حصائد ألستنكم التى هي سبب لأن يكب صاحبها في النار على وجهه.
إن شريعة الإسلام جاءت بحفظ الحقوق والعدل بين الناس؛ فالقوي فيها ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف فيها قوي حتى يؤخذ الحق له.
عباد الله!
وبما أن الناس لا يستغني بعضهم عن بعض في هذه الحياة ؛ فمنذ وجد الإنسان على ظهر البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فإنه يحصل بينهم مشاحنات، ويحصل من بعضهم على بعض تطاولات واعتداءات على الأنفس والأعراض والثمرات؛ نتيجة لتجمعاتهم، ولما تحويه الأنفس من غرائز الطمع والجنس وغيرها ؛ مما يجعل بعضهم يعتدي على بعض، ويحاول الاستيلاء على الممتلكات من غير حق، وليس هذا بدعاً في هذا الزمن وإن كان في هذا الزمن قد زاد على غيره؛ فقد وقع شيء من هذا في عهد صفوة الخلق محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وفي عهد الصحابة الأطهار الخلفاء الراشدين، ولذلك قال الرسول: ((لو يعطى الناس بدعواهم؛ لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعى واليمين على من أنكر)) 1.
عباد الله!
ومن حكمة الله أن شرع طرقاً لإثبات الحدود والحقوق عند تنازع الناس فيها، ومن هذه الطرق الشهادة التي يستدل بها القاضي على الحق، ويحكم بموجبها، بعد أخذ الحيطة، للتأكد من عدالة الشهود.
والحاجة ماسة إلى الشهادة؛ إذ أنها سبب في إثبات الحقوق وحفظ الأرواح والأموال والأنساب والعقول؛ فهي طريق لإنصاف المظلومين، وردع الظالمين، وحسم النزاع بين العالمين.
ولأهمية الشهادة؛ نطق القرآن بفضلها، ورفع الله جل جلاله نسبتها إلى نفسه، وشرف بها الملائكة ورسله وأفاضل خلقه:
فقال تعالى: لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون [ النساء:166].
وقال تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً [النساء:41]. فجعل كل نبى شهيداً على أمته.
ويكفي الشهادة شرفاً أن الله تعالى خفض الفاسق عن قبول الشهادة ؛ فقال تعالى: إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [الحجرات:6].
عباد الله!
ومن كانت عنده لأخيه شهادة بحق؛ وجب أداؤها عند الحاجة إليها، قال الله تعالى: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [البقرة:283]. أي: إذا دعيتم إلى إقامتها؛ فلا تخفوها، بل أظهروها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: شهادة الزور من أكبر الكبائر ،وكتمانها كذلك، وقد قال الله تعالى: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [البقرة:283].
وقد قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة؛ قال: فإنه آثم قلبه ، أراد به مسخ القلب، وخص القلب لأنه موضع العلم والشهادة.
وقال تعالى: ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين [المائدة:106]. فقد أضاف الشهادة إلى الله؛ تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها؛ لأنها تفرز الحقوق، وتبين الحق من الباطل.
عباد الله!
وبعض الناس يتهيب من أداء الشهادة، ويقول: لست ملزماً بالذهاب إلى القاضى مراراً لإثباتها؛ خشية ما يناله من التعب الجسماني، لكنه لو فكر؛ فهو يفر من التعب الذي يؤجر عليه إلى الإثم العظيم، وشتان ما بين الأمرين!
عباد الله!
ويجب على الإنسان أن يشهد بالحق، ولو على نفسه، أو أقرب الناس إليه، لا تأخذه فيه لومة لائم، ولا يصرفه عن ذلك طمع أو خوف أو محاباة.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين [النساء:135]. أي: أشهد بالحق ولو عاد ضرر ذلك عليك، وإذا سئلت عن الأمر؛ فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك؛ فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً وإن كانت الشهادة على والديك أو قرابتك، ولا تأخذك العاطفة مع غني لغناه أو فقير لفقره في أمر الشهادة؛ فالله أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما؛ فالله أرحم بعباده منك؛ فقد تظن أن في الشهادة عليهم مضرة، وفي الحقيقة أن الشهادة عليهم فيها رحمة بهم ومصلحة لهم في تخليصهم من المظالم وتطهيرهم من المآثم.
عباد الله!
ومما ينبغي أن يحذر منه في جانب الشهادة شهادة الزور، وهي الحالقة، التي تحلق الدين:
فقد قام رسول الله ، فقال: ((يا أيها الناس! عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله (ثلاث مرات) )) ، ثم قرأ: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور 2 [الحج:30].
وفى "الصحيحين" عن أبي بكر؛ أن رسول الله قال: ((ألا أنبئكم بكبر الكبائر؟". قلنا: بلى يا رسول الله! قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين". وكان متكئاً، فجلس، فقال: "ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور" فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)) 3 !.
عباد الله!
وشهادة الزور هى الشهادة الكاذبة التى ليس لها أساس من الصحة؛ بأن يشهد الإنسان بما ليس له به علم: إما بدافع المحبة لمناصرة المشهود له بالباطل، وإما بدافع الطمع بما يعطيه المشهود له من مكافأة مالية أو غيرها؛ دون تفكير في العاقبة الوخيمة، ودون خوف من الله.
فشاهد الزور قد ارتكب أموراً خطيرة:
منها الكذب والافتراء، وقد قال تعالى: إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله أولئك هم الكاذبون [النحل:105]. وقال تعالى: إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب [غافر:28].
ومن المحاذير التى ارتكبها شاهد الزور: أنه ظلم الذي شهد عليه، فاستبيح لشهادته عليه ماله أو دمه أو عرضه.
ومن المخاطر أيضاً التى ارتكبها شاهد الزور: أنه ظلم المشهود له؛ حيث ساق إليه بموجب شهادته حق غيره ظلماً وعدواناً، فباع دينه لدنيا غيره، وشر الناس من باع آخرته بدنياه، ولكن شراً منه من باع آخرته بدنيا غيره، وشر الناس من ظلم الناس للناس.
ومن المخاطر التى وقع فيها شاهد الزور؛ أنه استباح ما حرم الله من الكذب وأموال الناس ودمائهم وأعراضهم، فاستباح محرمات كثيرة.
إن شاهد الزور قد تأخذ منه النشوة مأخذها إذا رأى شهادته قد جلبت له مصلحة، لكنه غفل أو تغافل عن عاقبة جرمه، فلا خير في لذة من بعدها النار.
فيا من يشهد زوراً لقد ظلمت نفسك، وظلمت الناس، وبعت آخرتك بدنياك، بل بدنيا غيرك، فأنت بهذا من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فقد تقلب شهادتك الباطل حقاً، وغررت بالحكام، وأفسدت الأحكام، وساعدت أهل الإجرام، كم خربت شهادة الزور من بيوت عامرة، وضيعت حقوقاً واضحة! كم فرقت بين المرء وزوجه، ومنعت صاحب حق حقه!
فاتقوا الله عباد الله في الشهادة وفيمن تشهدون عليه وفيمن تشهدون له، وتثبتوا فيما تنطقون به.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
1 رواه البيهقى بسند صحيح.
2 رواه الترمذى.
3 رواه البخارى ومسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط.
عباد الله!
إن الشهادة أمرها عظيم، لكن الناظر في أوضاع بعض المسلمين اليوم يجد تساهلاً في أمر الشهادة، فالبعض يشهد بما لم ير ولم يعلم، وإنما وثق بمن أخبره، أي: بمجرد العاطفة فقط، ومنهم من يتساهل في الشهادة في أمر التزكية دون علم منهم بحالة المزكى وسلوكه ودون اعتبار لما يترتب على هذه التزكية من مخاطر؛ فقد يستغل ذلك المزكى هذه التزكية للتغرير بالمسلمين أو أخذ ما لا يستحق، ومما حصل فيه التساهل من الشهادة الشاهدة بأنه فقير؛ دون علم بحاله، وتثبت في أمره، فيؤدى ذلك إلى أخذه ما لا يستحق.
عباد الله!
ونتيجة لتساهل بعض الناس في أمر الشهادة؛ فإن من يريد شهادة على أمر ما ؛ يطلبها من أي شخص، بل ولو لم يكن يعرفه، وإذا رفض بحجة عدم معرفته به ولا بأمره؛ غضب، وانتفخت أوداجه.
وترى ذلك جليا حينما تكون مراجعاً لإحدى الدوائر والمؤسسات؛ كالأحوال المدنية مثلاُ، ترى من يطلب منك شهادة، ولو لم تعرفه، ولم تعرف حقيقة أمره، بل أصبح هم الكثيرين ليس الشاهد، بل من يحمل إثبات شخصية، وكأنه قد ضمن الشهادة.
فيا سبحان الله! كيف يشهد المسلم على ما لا علم له به؟!
وقد يقول البعض: إن هذا أمر بسيط!! فأقول : لكن أمر الشهادة عظيم.
عباد الله!
ولا يجوز للإنسان أن يتحمل شهادة على جور أو محرم، ولو كان يعلم المشهود عليه ؛ فلابد أن تكون الشهادة في أمر مشروع:
قال تعال: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط [النساء:135]. أي: كونوا قوامين بالحق لله عز وجل، لا لأجل الرياء والسمعة، واشهدوا بالعدل لا بالجور.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما؛ أنه قال: نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه ليشهده، فقال: ((أكل ولدك نحلته مثله؟)). قال: لا. فقال: ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم))، وقال: ((إني لا أشهد على جور)) قال: فرجع أي، فرد صدقته 4.
وهذا دليل على أن الإنسان لا يجوز له أن يشهد على جور؛ لأن شهادته ستكون وسيلة لثبوته، فيكون معيناً على الجور، وكذلك المحرم - كالربا - لا تجوز الشهادة عليه، ومن شهد؛ فقد باء باللعنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.
4 رواه البخاري ومسلم.
(1/6)
التفكر في خلق الله وأثره
الإيمان, موضوعات عامة
خصال الإيمان, مخلوقات الله
سعد بن تركي الخثلان
الرياض
جامع الأميرة سارة بنت سعد
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية العقل ودوره - أثر التفكر في الكون على الإيمان وخشية الله - كلام السلف في أهمية
ذلك - الآيات والأحاديث في لفت الانتباه إلى التفكر في عِظَم الخلق - خلق السماوات والأرض
وبينهما وما فيهما من ملائكة وإنس وحيوانات ورياح وسحاب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد خلق الله الإنسان وخلق له عقلا، يدرك به الأمور، ويميز به بين النافع والضار، والصالح والفاسد، والخير والشر، وجعل مناط التكليف على وجود هذا العقل، فإذا اختل العقل ارتفع التكليف عنه. وقد أمر الله تعالى الإنسان أن يستخدم هذا العقل، الذي أنعم به عليه فيما يعود عليه بالنفع، يستخدمه في التفكر فيما حوله من المخلوقات العظيمة من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، بل يتفكر في خلق نفسه، فانقسم الناس في ذلك إلى أقسام، وخير هذه الأقسام من وصفهم الله بقوله سبحانه: الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.[آل عمران:191] وشر هذه الأقسام من قال الله فيهم: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون.[الأعراف:179]
فيتبين بهذا أن التفكر في خلق الله تعالى من صفات المؤمنين الصادقين، أولي الألباب، وأصحاب العقول السليمة الراشدة.. فينبغي للمسلم أن يعتني به، فإن الإنسان مع طول الزمن والغفلة قد يتبلد إحساسه، فيغفل عن النظر والتفكر فيما حوله من المخلوقات العظيمة في هذا الكون.
عباد الله: إن التفكر في خلق الله تعالى ليزيد الإيمان في القلب ويقويه ويرسخ اليقين، ويجلب الخشية لله تعالى وتعظيمه، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرا وتأملا في خلق الله وأكثر علما بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى كما قال سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماءُ [فاطر:28] ولهذا كان السلف الصالح على جانب عظيم من هذا الأمر فكانوا يتفكرون في خلق الله ويتدبرون آياته ويحثون على ذلك، يقول أحدهم: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فَهِمَ، ولا فهم إلا علم، ولا علم إلا عمل. ويقول الآخر: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه.
عباد الله: إذا نظر العبد إلى ما خلق الله تعالى في هذا الكون من المخلوقات العظيمة، والآيات الكبيرة، فإن في كل شيء له آية تدل على أنه سبحانه إله واحد كامل العلم والقدرة والرحمة، فمن آياته خلق السموات والأرض فمن نظر إلى السماء في حسنها وكمالها وارتفاعها وعظمتها، عرف بذلك تمام قدرته سبحانه: أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها ،[النازعات:27-28] والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ، [ الذاريات:47] أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لهم من فروج [ق:6]
أخرج أبو داود وغيره عن العباس - - قال: قال رسول الله - -: ((هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما خمسمائة سنة ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف - أي سمك - كل سماء مسيرة خمسمائة سنة - وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم)) [1].
ومن آياته: خلق الأرض وما جعل الله تعالى فيها من الرواسي والأقوات والخلق الذي لا يحصيه إلا الله تبارك وتعالى. فانظر كيف مهدها الله وسلك لنا فيها سبلا وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ويسرها لعباده فجعلها لهم ذلولا يمشون في مناكبها ويأكلون من رزقه، وانظر كيف جعلها الله تعالى قرارا للخلق لا تضطرب ولا تزلزل بهم إلا بإذن الله تعالى: وفي الأرض آيات للموقنين [ الذاريات:20] ولقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه خلق هذه السماوات العظيمة وهذه الأرض وما بينهما في ستة أيام، ابتدأ خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وهيأها لما تصلح له من الأقوات في يومين آخرين فتلك أربعة أيام ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها فتلك ستة أيام.. وهو سبحانه لو شاء لخلق السماوات والأرض وما بينهما في لحظة: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [يس:82]، ولكنه سبحانه حكيم يقدر الأمور بأسبابها. حكى الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أنه سُئل أحد الأعراب فقيل له: ما الدليل على وجود الرب تعالى، فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!.
ومن آياته: ما بث في السماوات والأرض من دابة، ففي السماء ملائكة لا يحصيهم إلا الله تعالى أخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد بسند حسن عن أبي ذر - - قال: قال رسول الله - -: ((أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)) 2
2 المسند (5/173) سنن الترمذي (2312) سنن ابن ماجه (4190).
. جاء في الصحيحين عن النبي - -: ((أن البيت المعمور الذي فوق السماء السابعة يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة)). وروى أبو داود وغيره بسند صحيح عن جابر - - أن رسول الله - - قال: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة)) [2].
وفي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يحصى أجناسه فضلا عن أنواعه وأفراده فانظروا أولا كم على هذه الأرض من البشر من بني آدم، ليسوا بالآلاف ولا حتى بالملايين، بل بالمليارات آلاف الملايين، ومع ذلك فألسنتهم وألوانهم مختلفة فلا تجد شخصين متشابهين من جميع الوجوه كما قال تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين.
قال ابن كثير [3] - رحمه الله -: ((فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة: كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان، وليس يشبه واحد منهم الآخر. بل لابد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهرا كان أو خفيا يظهر بالتأمل، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لابد من فارق بين كل منهم وبين الآخر)). ا.هـ.
ثم انظر ما على هذه الأرض من أصناف الحيوانات التي لا يحصيها إلا الله تعالى! كم على اليابسة فقط من أصناف هذه الحيوانات؟ وكم في هذه البحار والمحيطات من أصناف الحيوانات؟ وهي مع ذلك مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال فمنها النافع للعباد الذي يعرفون به كمال نعمة الله عليهم ومنها الضار الذي يعرف به الإنسان قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله، وهذه الدواب المنتشرة في البراري والبحار تسبح بحمد الله وتقدس له وتشهد بتوحيده وربوبيته.
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
وكل دابة من هذه الدواب وكل صنف من هذه الحيوانات خلق لحكمة بالغة فلم يخلق شيء من هذا الكون عبثا قطعا: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ، وقد تكفل الله برزق هذه الدواب ويعلم مستقرها ومستودعها: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
ومن آياته: هذه الرياح اللطيفة التي يرسلها الله تعالى فتحمل السحب الثقيلة المحملة بالمياه الكثيرة ويسوق الله هذا السحاب ثم يؤلف بينه فيجمعه حتى يتراكم كالجبال فيحجب نور الشمس لكثافته وتظلم الأرض من سواده وتراكمه وتراه يتجمع وينضم بعضه إلى بعض سريع بإذن الله وإذا شاء أن يفرقه سريعا أصبحت السماء صحوا وفي ذلك أعظم الدلالة على عظمة خالقها ومصرفها ومدبرها ولذلك فقد أقسم سبحانه - وهو سبحانه إذا أقسم بشيء من مخلوقاته دل ذلك على عظمة المقسم به - كما قال سبحانه: والذاريات ذرواً ، ومعنى الذاريات أي الرياح: فالحاملات وقراً ، أي: السحاب التي تحمل وقرها من الماء. وهذه الرياح وهذا السحاب مسخر بأمر الله تعالى لا يتجاوز ما أمره به خالقه ومنشئه سبحانه وتعالى.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس - - قال: أصابت الناس سَنة على عهد النبي - أي شدة وجهد من الجدب وعدم نزول المطر - قال: فبينما النبي - - يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله: هلك المال، وجاع العيال، وانقطعت السبل فادع الله لنا. فرفع النبي - - يديه، يقول أنس: وما نرى في السماء قزعة - أي قطعة سحاب - يقول: فو الذي نفسي بيده ما وضع يديه حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته - -. سبحان الله العظيم! صعد النبي - - المنبر وما في السماء من قزعة سحاب وما نزل إلا والمطر يتحادر من لحيته!.
فسبحان الله! إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون.
يقول انس - -: مطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى. فقام ذلك الأعرابي أو قال غيره، فقال: يا رسول الله !تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا. فرفع النبي - - يديه وقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)). يقول أنس - -: فما يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت، فتمزق السحاب فما نرى منه شيئا على المدينة وسال الوادي شهرا ولم يجئ أحد من ناحيته إلا حدَّث بالجود: الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.
[1] قال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن. وقواه ابن القيم - رحم الله الجميع-.
[2] قال الحافظ الذهبي في (العلو للعلي الغفار :ص114): (( إسناده صحيح )). وقد ذكر الألباني عدة شواهد له في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/232) رقم (151).
[3] تفسير ابن كثير :3/530.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، الذي أقرت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته، وشهدت بأنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد- - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة.
عباد الله: وإذا نظر الإنسان إلى عالم النبات، وجد العجب العجاب في ذلك، وقد أشار الله تعالى إلى شيء من ذلك في محكم كتابه، فقال: وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداث هي الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
عباد الله: ثم ليتأمل الإنسان في خلق نفسه، كما قال عز وجل: وفي أنفسكم أفلا تبصرون. فإذا نظر الإنسان إلى نفسه ومبدئه ومنتهاه وأنه قد خُلِقَ من نطفة من ماء مهين كُوّن منها اللحم والعظام والعروق والأعصاب وأحيطت هذه الأشياء بجلد متين، وجُعِلَ في هذا الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا، ما بين كبير وصغير، وثخين ورقيق، وجعل في جسمه أبواب متعددة: بابان للسمع، وبابان للبصر، وبابان للشم، وبابان للطعام والشراب والنفس، وبابان لخروج الفضلات المؤذية... وقد عجز الطب الحديث بآلاته الدقيقة وأجهزته المتطورة من الإحاطة بدقائق خلق الإنسان، فسبحان الخلاق العظيم، وتبارك الله أحسن الخالقين.
فوا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد ؟
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
(1/7)
قصة أصحاب الصخرة
سيرة وتاريخ
القصص
سعد بن تركي الخثلان
الرياض
جامع الأميرة سارة بنت سعد
_________
ملخص الخطبة
_________
طريقته صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس وتنوع أساليبه - أثر القصة -
قصة الثلاثة الذين حُبِسوا في الغار وما فيها من فوائد : 1- بر الوالدين وأثره وفضله وعقوبة
العقوق 2- العفة وفضلها , وخطورة الزنا وعاقبته العظيمة 3- الأمانة وفضلها , وخطورة
الظلم وأكل أموال الناس بالباطل 4- مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد كان رسول الله - - يسلك في دعوته الناس أساليب شتى، ومن ذلك ذكر القصص الواقعية الصحيحة، فقد كان رسول الله - - يذكر لأمته من قصص الأمم السابقة ما يكون فيه عبرة لمن يعتبر، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ذلك أن لذكر القصص الواقعية أثرا لا ينكر، وسلطانا بالغا على النفوس.
ونقف - أيها الإخوة في الله - مع قصة من قصص الأمم السابقة قصها علينا رسول الله - -؛ لنعتبر بما فيها، فقد جاء في الصحيحين [1]. عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - - يقول: ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا (أي: لا أقدم في الشراب قبلهما أحدا)، فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت ان أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي (أي يصيحون من الجوع)، فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه. فقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج. وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)).
عباد الله: تأملوا هذه القصة العظيمة، هؤلاء الثلاثة عرفوا الله في الرخاء فعرفهم الله في الشدة، وهكذا كل من تعرف إلى الله في حال الرخاء واليسر، فإن الله تعالى يعرفه في حال الشدة والضيق والكرب فيلطف به ويعينه وييسر له أموره. قال الله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.
فالأول من هؤلاء الثلاثة ضرب مثلا عظيما في البر بوالديه، بقي طوال الليل والإناء على يده لم تطب نفسه أن يشرب منه، ولا أن يسقي أولاده وأهله، ولا أن ينغص على والديه نومهما حتى طلع الفجر فدل هذا على فضل بر الوالدين، وعلى أنه سبب لتيسير الأمور وتفريج الكروب، وبر الوالدين هو أعظم ما يكون من صلة الرحم وقد قال النبي - -: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)) متفق عليه [2]. وهذا جزاء معجل لصاحبه في الدنيا يبسط له في رزقه ويؤخر له في أجله وعمره، هذا غير الجزاء الأخروي المدخر له في الآخرة، وقد عظم الله تعالى شأن الوالدين حتى أنه سبحانه نهى الابن عن أن يتلفظ عليهما بأدنى كلمة تضجر كما قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.
وحتى أن الرسول - - جعل صلة الرجل أهل ود أبيه من أبر البر فقد جاء في صحيح مسلم [3] ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - - قال: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه))، وفي المقابل حذر الإسلام من عقوق الوالدين بل جعل ذلك من أكبر كبائر الذنوب فقد جاء في الصحيحين [4] ، عن أبي بكر - - قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا. قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال، ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)). وفي صحيح مسلم [5] ، عن أبي هريرة - - قال: قال رسول الله - -: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه. قيل: من يا رسول الله؟! قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما او كليهما ثم لم يدخل الجنة)) ، قال أهل العلم: وفي الحديث دليل على أن بر الوالدين عند كبرهما وضعفهما بالخدمة أو النفقة أو غير ذلك سبب لدخول الجنة، فمن قصر في ذلك أرغم الله أنفه.
عباد الله: إن بعض الناس لا يبالي بشأن بر والديه بل تجده إما عاقاً لهما في القول أو الفعل أو تجده معرضا عنهما ألا فليعلم أن الإعراض عن الوالدين حتى ولو لم يسئ إليها هو في الحقيقة عقوق لهما.
أخرج الطبراني في المعجم الصغير: [6] (( أن رجلا جاء إلى النبي - - فقال: يا رسول الله! إن أبي أخذ مالي، فقال النبي - -:اذهب فائتني به، فأتاه فنزل جبريل - عليه السلام - على النبي - - فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه، ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ سأله النبي - -: ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على عماته أو خالاته أو على نفسي فقال النبي - - دعنا من هذا وأخبرنا عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي قال: قل وأنا أسمع، قال: قلت:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمّل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدا للخلاف كأنه بردّ على أهل الصواب موكل
وحينئذ قال له النبي - -: ((أنت ومالك لأبيك)).
عباد الله: وثاني هؤلاء الثلاثة في القصة رجل ضرب مثلا بالغاً في العفة الكاملة، حين تمكن من حصول مراده من هذه المرأة، التي هي أحب الناس إليه، ولكن عندما ذكرته بالله تركها، وهي أحب الناس إليه، ولم يأخذ شيئا مما أعطاها. جاء في الصحيحين في حديث السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله أن من ضمن هؤلاء السبعة: ((رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)).
ما أعظم الفرق بين هذا وبين من يسافر لبلاد الدعارة والمجون! لأجل ان يزني بالعاهرات المومسات والعياذ بالله، ألا فليعلم أولئك الذين يسافرون لتلك البلاد أن الله - عز وجل - رقيب عليهم، ولا يخفى عليه خافية، فهو مطلع عليهم في هذا البلد، وفي تلك البلاد، وليعلموا بأنهم على خطر عظيم، إن لم يتوبوا إلى الله تعالى، يقول الله - عز وجل -: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما.
ويكفيك قبحا للزنا النظر للعقوبة الشرعية المترتبة عليه في الدنيا، فحد الزاني البكر جلد مائة، وأن يغرّب عن موطنه سنة كاملة، وأما إذا كان محصنا - أي متزوجا - فحده القتل لكن على صفة فظيعة غليظة، وهي: الرجم بالحجارة حتى الموت.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات، والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (4/449)، صحيح مسلم (4/2099).
[2] صحيح البخاري (10/415)، صحيح مسلم (4/1982).
[3] صحيح مسلم (4/1979).
[4] صحيح البخاري (10/405)، وصحيح مسلم (1/91).
[5] صحيح مسلم (4/1978).
[6] اخرج هذه القصة الطبراني في المعجم الصغير : ص392-393، وقد وردت من عدة طرق ، وصححها الالباني في ارواء الغليل : (3/323) بمجموع الطرق.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة.
عباد الله: وثالث هؤلاء المذكورين في القصة: رجل ضرب مثلا عظيما في الأمانة والنصح، حيث ثَّمر للأجير أجره فبلغ ما بلغ، وسلمه إلى صاحبه، ولم يأخذ على عمله شيئا، ما أعظم الفرق بين هذا الرجل وبين أولئك الذين يظلمون الأجراء ويأكلون حقوقهم، لاسيما إن كانوا من العمال الوافدين فتجد هؤلاء الكفلاء يكاد يصدق فيهم قول الله تعالى: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم.
فهم يريدون من هؤلاء العمال أن يقوموا بالعمل على أكمل وجه، ولكنهم يبخسونهم حقوقهم ويماطلونهم في إعطائهم أجرتهم، وربما رجع بعض أولئك العمال إلى بلدانهم ولم يستوفوا أجورهم، ألا فليعلم من استأجر أجيرا ولم يوفه أجره أن الله تعالى سيكون خصمه يوم القيامة، لن يكون خصمك هذا العامل المسكين الضعيف، ولكن سيكون خصمك رب العالمين كما جاء في صحيح البخاري ان رسول الله - - قال: قال الله تعالى: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه فقد خصمته)) ، وذكر منهم: ((رجلا استأجر أجيرا فاستوفى منه ثم لم يعطه أجره)).
عباد الله: ودل هذا الحديث على مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة، بل إن ذلك التوسل سبب لتفريج الكروب، وانظر إلى حال هؤلاء الثلاثة لما ضاقت بهم السبل توسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم ففرج الله عنهم.
(1/8)
توحيد وعبادة
التوحيد
أهمية التوحيد
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
الغاية من خلق الخلق - حال البشرية حين تنحرف عن منهج الله - أهمية كلمة التوحيد والدعوة
إليه والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة - أثر الاستقامة على التوحيد على سعادة الإنسان
ارتباط العقيدة بالعمل الصالح والاتباع - ارتباط التحاكم إلى الله بالعبادة - تحقيق التوحيد التام شرط لقبول الأعمال
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله عز وجل: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات:56-58].
لم يخلق الله الخلقَ ليتقوى بهم من ضعف، ولا ليتعزز بهم من ذلةٍ، ولا ليستكثر بهم من قلة. فهو المنعم المتفضل، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.. خلقهم لعبادته وطاعته، ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا.
أيها الإخوة في الله: إن البشر عاجزون عن أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً أو يدفعوا ضراً، وعقولهم قاصرة أن تدرك طرق الصلاح وسبل الرشاد إذا لم تكن عناية الله وهدايته وتوفيقه.
إن الإنسانية حين تضل عن سبيل الله تتخبط في فوضى التدين وتغرق في أوحال الجاهلية.
ألم يتخذوا لأنفسهم معبودات مزيفة وأصناما خرساء؟ اتخذوها من عجين وتمر، يتوجه إليها عابدها حتى إذا جاع أكلها. جعلوا من دون الله أصناما وأوثانا يقصدونها في الرخاء وينبذونها في الشدة: واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً [ الفرقان :3]. اتخذوها فلم يروا إلا سرابا، ولم يزدادوا إلا تبارا.
كل هذه الفوضى - أيها الإخوة - أبطلها محمد حيث جدد الملة الحنيفيةَ. صدع بكلمة الحق مدوية في المشارق والمغارب، قائلا عليه الصلاة والسلام: ((كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم: لا إله إلا الله محمد رسول الله)) 1.
إنها أصل الدين وقاعدته. لأجلها نصبت الموازين، ونشرت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم الناس فيها الى فريقين مؤمنين وكفار، ومتقين وفجار. إنها حق الله على العباد، وفي سبيلها تجرد سيوف الجهاد.
إخوة العقيدة والتوحيد : إن توحيد الله والدعوة إليه وإثباته أفاض فيه كتاب ربنا سوقا في الأدلة، ضربا للأمثال وردا على المبطلين الجاحدين. هو الله الأحد الفرد الصمد، الذي أبدع الأفلاك في ضخامتها والآفاق في سعتها، ووهب العقول إدراكها وذكاءها، وألهم النفوس فجورها وتقواها. في بديع خلق السماوات والأرض وما بينهما دلائل الوحدانية، وبراهين التفرد باستحقاق العبادة.
أم اتخدوا ءالهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [ الأنبياء:21-22].
قل من رب السموات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً قل هل يستوى الأعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [الرعد:16].
لا يرتفع الشقاء والعناء عن البشرية إلا حين تستيقن البصائر ويصح في العقول أنه سبحانه الواحد القهار، له الملك كله وله الأمر كله: ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [يوسف:39].
هل يستوى من تتوزعه الأهواء وتتنازعه الشهوات، لا يدري أين يوجه ولا لمن له الرضا والخضوع؟ هل يستوي مع من خضع للإله الحق فنعم براحة اليقين، وبرد الاستقامة ووضوح الطريق؟؟.
استمعوا إلى المثل المضروب من كتاب الله : ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون. [الزمر:29].
إله واحد.. وعقيدة صافية.. وتوحيد نقي تخرج النفس به من الخرافات والأوهام.بالتوحيد الخالص يرتفع ابن آدم بكرامته من أن يخضع لأي مخلوق علت مرتبته أو دنت. فكل الخلائق عبيد لله طوعا وكرها.. كلهم تحت قهره وأمره إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتى الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم ءاتيه يوم القيامة فرداً [مريم:93-95].
ليس للقلوب سرور وليس للصدور انشراح إلا في صدق العبادة، وإخلاص المحبة، وتمام الذل والخضوع، وصرف البصر والبصيرة عن الالتفات إلى ماسوى الله ذي الجلال والإكرم.
فيه يكون الولاء والبراء، والحب والبغض، والمودة والعداء. يضعف كل رباط إلا رباط العقيدة، وتضمحل كل وشيجة إلا وشائج الحب في الله. رابطة الإيمان يتهاوى دونها كل صلة بعرق أو تراب أو لون.
معاشر الأحبة: وتوحيد الاعتقاد يتبعه توحيد العمل والاستقامة في الاتباع، لا تقوم العقيدة بصفائها إلا حين نقارنها بالعمل الصالح، وإسلام الوجه لله والإحسان في العمل.
ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [لقمان:22]. ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً [ النساء:125].
الموحد لله تكون مشاعر قلبه وخلجات ضميره مرتبطة بربه مؤتمرة بأوامره، منتهية عن نواهيه، يحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله، يقف عند حدوده منتصب القامة مرتفع الهامة، لا يركع ولا يسجد ولا ينحني إلا لله رب العالمين.
من نازع الله في الحكم فقد نازعه حقا من حقوق العبادة: إن الحكم الا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه. [ يوسف:40].
إن الدين القيم لا يتحقق إلا حين يعترف المؤمن باختصاص الله بالحكم كما هو مختص بالعبادة في جميع أنواعها: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما.[النساء:65].
والغلو في التعلق بالدنيا يصير صاحبه عابدا لها مؤثرا ذلك في توحيده وصحة عبادته..حينما لا يكون غضبه إلا من أجلها، ورضاه في سبيلها.
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما ءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون [التوبة:58-59].
وفي الحديث الصحيح: ((تعس عبد الدينار. تعس عبد الدرهم. تعس عبد الخميصة. تعس عبد القطيفة)).
ويلتحق بذلك كل أصحاب الأهواء وعبيد الملذات، إن حصل لصاحبه ما يشتهي رضي، وإن لم ينل مراده سخط. ما العبودية إلا عبودية القلب فعبد الله على الحقيقة من كان رضاه في رضا ربه وسخطه في سخط ربه.
وهكذا أيها المسلمون يتجلى التوحيد.. طهارة في القلب، وصحة في العقل، ورفعة في السلوك، واستقامة على الفطرة فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [الروم:30].
وما لم يتحقق التوحيد وإخلاص العبادة وتمام الخضوع والانقياد والتسليم.. فلا تقبل صلاة ولا زكاة ولا يصح صوم ولا حج، ولا يزكوا أي عمل يتقرب به إلى الله: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [الفرقان:23].
إذا لم يتحقق التوحيد ويصدق الاخلاص فلا تنفع شفاعة الشافعين، ولا دعاء الصالحين حتى ولو كان الداعي سيد الأنبياء محمدا. اقرءوا إن شئتم: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم [التوبة:80].
فاتقوا الله عباد الله وحققوا إيمانكم وأخلصوا أعمالكم يهدكم ربكم ويصلح بالكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير [الأنعام:14-18].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
1 اخرجه الترمذي (5/341-ح2323) وقال : حديث حسن، واحمد (1/722، 362).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/9)
إن الحكم إلا لله
التوحيد
الألوهية
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
أثر الإسلام في توحيد الأمة وإنقاذها من مهاوي الرذيلة إلى العزة والكرامة - الشريعة هي
المنهج الذي يصون الإنسان من الزيغ والشر - منبع الشريعة الكتاب والسنة وفيهما أصول
الشريعة وقواعدها في العقائد والأخلاق والحلال والحرام - السنة مُفسِرة للقرآن دالة عليه
مبينة له - الإسلام عقيدة وشريعة , تهيمن على الحياة في جميع أشكالها - من لوازم الإيمان
الإقرار بحق التشريع لله وحده - صد المنافقين والكافرين الأمة عن التحاكم لشريعة الله -
حقيقة الإيمان , وارتباطها بالخضوع والرضا بحكم الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون. فبتقوى الله تزكو الأعمال، وتنال الدرجات، وارغبوا فيما عنده. فبيده الخير وهو على كل شيء قدير. اتبعوا ما أنزل إليكم ولا تتبعوا من دونه أولياء.
أيها المؤمنون : من حق هذه الأمة أمة الإسلام - خير أمة أخرجت للناس - أن تفخر بدينها، وتعتز بتشريعها، حيث توحدت به الصفوف، والتقت به القلوب. أنقذها من مهاوي الرذيلة إلى مشارف الفضيلة ونقلها من الذل والاستعباد إلى العزة والكرامة وصحيح الحرية، دين الأمن والأمان، وشريعة العدل والرحمة. دين أكمله الله فلن ينقص أبدا، ورضيه فلن يسخط عليه أبداً: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة:3].
عباد الله: شريعة الله هي المنهج الحق الذي يصون الإنسانية من الزيغ، ويجنبها مزالق الشر ونوازع الهوى.شفاء الصدور، وحياة النفوس، ومعين العقول. يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس:57-58].
منبع الشريعة ومصدرها كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه محمد.
كتاب الله أساس الدين ومصدر التشريع، رحمة الله على العالمين، حوى أصول الشريعة وقواعدها في عقائدها وأخلاقها وحلالها وحرامها، يضيء للأئمة مسالك الاستنباط في معرفة أحكام الحوادث والمستجدات في كل زمان ومكان.
((فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها)) كما قال الإمام الشافعي رحمه الله.
ويقول الشاطبي: ((الكتاب كل الشريعة، وعمدة الملة ،وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور البصائر والأبصار. لا طريق إلى الله سواه ولا نجاة إلا لمن استضاء بهداه)). اهـ.
يفتح مغاليق القلوب وتستنير به الأفئدة.
كتاب الله الحكيم، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.
أما سنة المصطفى في أقواله وأفعاله وتقريراته فهي المفسرة للقرآن الدالة عليه، والمبينة لمجمله والمفصلة لأحكامه، فرض اتباعها، وحرام مخالفتها: من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء:80]. وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر:7]. فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
أيها المؤمنون: الإسلام عقيدة وشريعة. إيمان بالله وتوحيد له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته - إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره - عبودية تامة، وخضوع مطلق. رضى بدين الله، وتصديق برسول الله من غير شك ولا ريب ولا حرج.
التزامه في المنهج والعمل. في التعامل والقضاء. في الحكم والإدارة. في الأفراد والجماعات.
إن الإسلام حياة تعبدية. تجعل المسلم موصول القلب بربه، يبتغي رضوانه في شئونه كلها.
نظام خلقي يقوم على إشاعة الفضيلة واستئصال الرذيلة، نظام سياسي أساسه إقامة العدل، وتثبيت دعائم الحق، نظام اجتماعي نواته الأسرة الصالحة وعماده التكافل بين أبناء المجتمع. دين عمل وإنتاج. منهج كامل متكامل لكافة أنماط النشاط البشري على نور من الله. ابتغاء مرضاة الله.
ومن هنا - أمة الإسلام - فإن هذا الدين بأصوله ومبادئه وفّى ويفي بحاجات البشرية في كل عصر ومصر. انتشر في أنحاء الدنيا، ودخل تحت سلطانه أجناس البشر، فوسع بمبادئه وقواعده كل ما امتد إليه نفوذه من أصقاع المعمورة. عالج كافة المشكلات على اختلاف البيئات. وما عجز في يوم من الأيام عن أن يقدم لكل سؤال جوابا، ولكل واقعة فتوى، ولكل قضية حكما. ومدونات الفقه والفتاوى برهان للمتشككين.
وكيف يكون ذلك والشريعة - كما قال الحافظ ابن القيم رحمه الله: ((مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، عدل كلها، رحمة كلها، ومصالح كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة))، لقد كانت هذه الشريعة أساس الحكم والقضاء والفُتيا في العالم الإسلامي كله أكثر من ثلاثة عشر قرنا، انضوى تحت لوائها أعراق شتى، وامتزجت بها بيئات متعددة، فما ضاقت ذرعا بجديد، ولا قعدت عن الوفاء بمطلوب.
ولماذا نرجع إلى الماضي، وبين أيدينا - ولله الحمد والمنة حجة قائمة، وبرهان ظاهر، فهذه بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية قائمة على كتاب الله وسنة رسول الله ، محكمة شرع الله. قادتها وحكومتها وأهلها ومجتمعها يعيشون في ظلال الشريعة، ونور الكتاب والسنة في أمن وطمأنينة، وخير ونعمة، ملء القلوب الرضى، وما يرجى من الله خير وأبقى ،أدام الله علينا نعمه، وزادنا إيمانا وتوفيقا ورضى وتسليما.
أيها الإخوة في الله: إن من مقتضيات الإيمان الإقرار بحق التشريع لله وحده، فالحكم لله وحده إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه [يوسف:40].
والتولي والإعراض عن تحكيم شرع الله، من مسالك المنافقين والظالمين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون [ النور:48-50].
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً [ النساء:60].
أمة الإسلام: على الرغم من هذا الوضوح والجلاء.. إلا أن أعداء الإسلام أبوا إلا وضع العراقيل، وتلفيق التهم، والاختلاق الفكري الذي يجعل من بعض المسلمين - حتى المثقفين يستحيون أو يشمئزون من ذكر بعض شرائع الإسلام، كالحدود والقصاص والحجاب، وكأنهم لا يرون مانعا أن تكون ديار الإسلام ميدانا فسيحا تنمو فيه الدنايا وسفاسف الأخلاق، وموطنا رحبا يجد فيه المجرمون والمتوحشون فرصا للاعتداء والاغتيال. بل إنك ترى في بعض من يخوض فيها ويلوك.. أناسا لا يعرفون الطريق إلى المساجد، أو لا يتورعون عن الموبقات والمزالق، فتراهم يسرون أو يعلنون: إن تحريم الخمر والزنا وقطع دابر اللصوص والمفسدين... تشدد وهمجية. أما سمعوا قول الله في المنافقين: ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [محمد:9]. وقوله سبحانه: ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [محمد:28].
أيها الإخوة في الله: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، وليس الإسلام مجرد الانتساب الاسمي، ولكنه ما استيقنه القلب وصدقه العمل.
ومن هنا فحين يصدق المسلمون ويخلصون لدينهم، فيجعلون كتاب الله وسنة نبيه محمد أساس الحكم، وتبنى عليهما مناهج التربية والتوجيه.. حينئذ يتحقق الوعد ويتأكد التمكين وينزل النصر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون [المائدة:49-50].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله شرح صدور المؤمنين فانقادوا لطاعته، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم.. فلم يجدوا حرجا في الاحتكام إلى شريعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون: إن حقيقة الإيمان: هي الرضا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا، ومن ثم الخضوع والطاعة والانقياد والتسليم.
أما الحرج في الصدور والريب في القلوب والاستسلام للهوى ورغبات النفوس، فهو من مظاهر النفاق فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً [النساء:65]. إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [النور:51-52].
فاتقوا الله وأطيعوه واعملوا بشرعه يرتفع الشأن، ويعز السلطان، ويندحر العدو.
(1/10)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره - خطورة التقصير في القيام بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر - خطورة فُشو المنكرات - حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرد
على الشبهات - آداب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر - أثر وجود جهاز مخصص للأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر من قِبَل الدولة
_________
الخطبة الأولى
_________
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، وانتهوا عن معاصيه، والانقياد لأماني النفوس، ووساوس الشيطان، فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
أيها المؤمنون: أفشوا التناصح بينكم.. مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وخذوا على يد السفيه.
ولتعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. هو حصن الإسلام الحصين، والدرع الواقي من الشرور والفتن، والسياج من المعاصي والمحن، يحمي أهل الاسلام من نزوات الشياطين ودعوات المبطلين.
إنه الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين.
وهل تظهر أعلام الشريعة وتفشوا أحكام الإسلام ألا بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر. لا تستوفى أركان الخيرية لهذا الأمة المحمدية إلا به: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر [آل عمران:110].
إنه مجاهدة دائبة دائمة من كل مسلم حسب طاقته لإبقاء أعلام الإسلام ظاهرة، والمنكرات قصية مطمورة. هو فيصل التفرقة بين المنافقين والمؤمنين: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف [التوبة:67].
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [التوبة:71].
ولهذا يقول الغزالي رحمه الله :فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين.
أيها الإخوة المؤمنون: بارتفاع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو أهل الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور. يورث القوة والعزة في المؤمنين المستمسكين، ويذل أهل المعاصي والأهواء.
يقول سفيان رحمه الله: إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق.
ويقول الإمام أحمد: إن المنافق إذا خالط أهل الإيمان فأثمرت عدواه ثمرتها، صار المؤمن بين الناس معزولاً، لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهله فيصفه الناس بالكياسة، والبعد عن الفضول، ويسمون المؤمن فضولياً.
عباد الله :إذا فشا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تميزت السنة من البدعة، وعرف الحلال من الحرام، وأدرك الناس الواجب والمسنون، والمباح والمكروه، ونشأت الناشئة على المعروف وألفته، وابتعدت عن المنكر واشمأزت منه.
وصاحب البصيرة مدرك أن ما أصاب بلاد الإسلام من جهل بالسنن والواجبات، والوقوع في البدع والمحرمات، ما هو إلا بسبب تقصير أهل العلم في هذا الجانب، والاستحكام السيئ في مناهج التعليم والتربية والتوجيه، حتى نشأت الأجيال لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً، وإنك لناظر في ذلك شيئاً كثيراً من الغلو في الصالحين بشتى درجاته، وفشو منكرات كبرى.. من ترك الصلوات، والوقوع في الربا والزنا وشرب الخمور وما هو دون ذلك وأكثر منه.
حقا أيها المؤمنون: إذا تعطلت هذه الشعيرة ودك هذا الحصن، وحطم هذا السياج، فعلى معالم الإسلام السلام، وويل يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة، وويل لأهل الحق من المبطلين، وويل لأهل الصلاح من سفه الجاهلين وتطاول الفاسقين.
لا تكون ضعة المجتمع، ولا ضياع الأمة، إلا حين يترك للأفراد الحبل على الغارب، يعيشون كما يشتهون، يتجاوزون حدود الله، ويعبثون بالأخلاق، ويقعون في الأعراض، وينتهكون الحرمات من غير وازع أو ضابط، ومن غير رادع أو زاجر.
إن فشو المنكرات يؤدي إلى سلب نور القلب، وانطفاء جذوة الإيمان، وموت الغيرة على حرمات الله، فتسود الفوضى، وتستفحل الجريمة، ثم يحيق بالقوم مكر الله. حتى إن كثرة رؤية المنكرات يقوم مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز وقوة الإنكار. لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت من القلوب وحشتها، فتعتادها النفوس، فلا يخطر على البال أنها منكرات، ولا يميز الفكر أنها معاصي.
يقول بعض الصالحين : إن الخوف كل الخوف من تأنيس القلوب بالمنكرات، لأنها إذا توالت مباشرتها ومشاهدتها أنست بها النفوس، والنفوس إذا أنست شيئاً، قل أن تتأثر به.
يقول نبيكم محمد وهو الصادق المصدوق: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً (أي تلزمونه به إلزاماً) أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم، يعني بني إسرائيل)) [1].
فواجب على كل مسلم ومسلمة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حسب الاستطاعة، وبخاصة فيما تحت قدرتهم ومكنتهم من منكرات البيوت وما في حكمها، وعلى كل صاحب علم وقلم وقدرة على البيان، وكل ذي أثر في المجتمع - مع العلم والحكمة - أن يقوم بالإرشاد والتوجيه، والنصح في الأمر والنهي، والسعي في إفشاء المعروف وزوال المنكر.
ولا يضعف المسلم أو يتوانى بدعوى أنه غير كامل في نفسه، فقد قرر أهل العلم أنه لا يشترط في منكر المنكر أن يكون كامل الحال، ممتثلاً لكل أمر، مجتنبا لكل نهي، بل عليه أن يسعى في إكمال حاله مع أمره ونهيه لغيره. ومما استدل به أهل العلم على ذلك قوله سبحانه في بني إسرائيل: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه [المائدة:79]. مما يدل على اشتراكهم في المنكر ومع هذا حصل عليهم اللوم بترك التناهي فيه.ومن ذلك أيضا قوله : ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) [2].
ولا بد لمن قام بهذا من التحلي بالرفق وسعة الصدر، وإن سمع ما يكره، فلا يغضب كأنه منتصر لنفسه، ولينظر للواقعين في المعاصي بعين الشفقة والرحمة والنصح،وليعرف نعمة الله عليه حيث لم يقع فيما وقعوا فيه، ولا ينظر إليهم نظر ازدراء وإعجاب بالنفس. وعليه بالتخلق بالصبر على ما يلقى، فهو ملاق أذى كثيرا. وليبتعد عن حلاوة المداهنة والمداراة، ولا يأسف على من هجره وقلاه، ولا يحزن على من فارقه وخذله. إنه بهذا المسلك يقطع أطماعه في الخلق، ويحصر تعلقه بربه ومولاه، ولا يتوكل إلا عليه، ومن توكل عليه كفاه.
وليعلم أيها المؤمنون: أن الأصل هو الستر على المسلم إذا وقع في معصية لعموم قوله : ((من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة)) [3]. ولقوله عليه الصلاة والسلام لمن جاء إليه بصاحب معصية: ((لو سترته بثوبك كان خيرا لك)) 4. ولكن هذا في غير من عرف بالأذى والفساد ومعاودة المنكرات، فإن الستر على مثله يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات.
يقول الإمام أحمد رحمه الله: (( الرجل المعلق بالفسق لا حرمة له)).
فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أنه لو طوي بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهمل علمه وعمله، لتعطلت الشريعة، واضمحلت الديانة،وعمت الغفلة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق وخربت البلاد، وهلك العباد، وحينئذ يحل عذاب الله وإن عذاب الله لشديد.
أخرج النسائي وأبو داود واللفظ له من حديث أبي بكر رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا فلا يغيروا، يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) 5
وأخرج أبو داود من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا)) 6.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا فتدعون فلا يستجيب لكم)) 7. أخرجه الترمذي وحسنه من حديث حذيفة رضي الله عنه. وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : ((يا أيها الناس مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقا، ولا يقرب أجلا، وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء)) 8.
رواه الأصبهاني وسكت عنه المنذري.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. إنك على كل شيء قدير.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه ابو داود (4/122-ح4336، ح4337) واللفظ له، والترمذي (5/235،236-ح3047،3048) وقال :حسن غريب، وابن ماجه ((2/1327-ح4006) وقال الهيثمي : رواه الطبراني رجاله رجال الصحيحين انظر مجمع الزوائد (7/269).
[2] أخرجه البخاري (6/208-ح3062) واللفظ له، ومسلم (1/106-ح111).
[3] أخرجه البخاري (5/116-ح2442)، ومسلم (4/1996-ح2580)، والترمذي (4/288-ح1930) واللفظ له.
4 أخرجه أبو داود (4/134-ح4377)، وأحمد (5/217)، ومالك في الموطأ بلاغا (2/821)، والنسائي في السنن الكبرى (4/306-ح7274).
5 أخرجه أبو داود (4/122-ح4338)،وابن ماجه (2/1329-ح4009)، وأحمد (4/361،363،364،366)، واليبهقي في السنن الكبرى (10/91).
6 أخرجه أبو داود (4/122-ح4339)، وأخرجه ابن حبان انظر الإحسان في قريب صحيح ابن حبان (1/536-ح300)
7 أخرجه الترمذي (4/406-ح2169)، وقال : حديث حسن، والبيهقي في السنن الكبرى (10*93)، وابن ماجه من حديث عائشة باختلاف يسير (2/1327-ح4004).
8 أخرجه الحافظ الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1/157)، والمنذري (3/230،231) وعزاه للأصبهاني وأشار إلى ضعفه، وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفهم انظر مجمع الزوائد (7/266).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب لنا سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن أقام أمره واجتنب نهيه ودعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون: إن من التحدث بنعم الله سبحانه أن نذكر ببعض ما تتمتع به هذه البلاد من مزايا كبرى، لا تكاد توجد في غيرها - صانها الله وحفظها من كيد الكائدين وحسد الحاسدين، وكتب الخير والتوفيق والصلاح والأمن والرخاء لكافة بلاد المسلمين.
أيها المسلمون: لقد قامت هذه البلاد على دعوة الحق والتوحيد، وتحكيم كتاب الله وسنة نبيه محمد ، وأخذ الناس بهما في كافة مجالات الحياة، والسير على طريق السلف الصالح فلله الحمد والمنة.
وإن هناك خصيصة عظمى لا توجد في غير هذه البلاد فيما نعلم، تلكم أنها البلد الوحيد الذي أنشأ جهازا خاصا يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متمثلين قوله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [آل عمران:104].
إنه جهاز خاص له نظامه وصلاحياته، كما أنه له الأثر العظيم في البلاد، وهو يحظى بتأييد كافة المسئولين ودعمهم، متعاون مع جميع المصالح الحكومية في سبيل تثبيت المعروف ونشره، وإزالة المنكر بشتى أشكاله وصوره، ولأهله النشاط المعروف والجهد المشكور في القضاء على الجرائم في مهدها. وبسط الأمن والطمأنينة على الأرواح والأعراض والممتلكات، سالكين مسلك العلم والحكمة، والرفق في غير ضعف، والقوة في غير عنف، وهم - بعد توفيق الله وعونه - مؤيدون كل التأييد من المسئولين في البلاد، محل الثقة من المجتمع كله، فجزى الله الجميع عن البلاد وأهلها خير الجزاء.
أيها الإخوة : إنها كلمة حق يجب أن تقال، وأعمال يجب أن تذكر فتشكر مع ما نرجو ونؤمل من المزيد من النشاط والعمل، كما نؤمل المزيد من الدعم والتأييد، فالتيارات كثيرة، والمغرضون كثير، ولكن الخير ظاهر، والحق علي بإذن الله، والحمد لله على ذلك كثيرا.
(1/11)
الكبر وآثاره
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الكبائر والمعاصي
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - التحذير من الكبر
2 - من مظاهر الكبر الإسبال
3 - عقوبة المتكبر في الآخرة
4 - مرض العجب
5 - علامات مرض العجب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله حق تقواه، واجتنبوا ما نهاكم عنه؛ لتفلحوا وتفوزوا في الدنيا والآخرة؛ فالعز كل العز في طاعة الله، والشقاء كل الشقاء في معصية الله:
قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [طه:124].
عباد الله!
إن مما حذر الله منه: "الكِبْر" ذلك المرض الفتاك والداء العضال الذي يفتك بالدين، حتى يورد صاحبه المهالك؛ كما أورد إبليس لما تكبر:
قال تعال وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين [البقرة:34].
وقد عرف النبي الكبر بقوله: إنه بطر الحق وغمط الناس، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي ؛ قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً. قال: (( إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) (2).
وبطر الحق: دفعه ورده على قائله، وغمط الناس: احتقارهم.
فقد أخبر النبي أن التجمل في الهيئة وللناس أمر محبوب عند الله، وليس من الكبر في شيء، وإنما الكبر صفة باطنة في القلب، تظهر آثارها في تصرفات الشخص، فتحمله على عدم قبول الحق، واحتقار الناس.
فإبليس لما تكبر على آدم؛ حمله ذلك على أن امتنع عن امتثال أمر ربه له بالسجود، وهو الذي حمل الكفار على مخالفة الرسل لما جاءوهم بالآيات البينات.
والكبر هو الذي يمنع بعض الناس من الامتثال إذا أمروا بالمعروف، وهو الذي يحمل بعض الناس على مضايقة الآمرين بالمعروف وازدرائهم، وهو الذي يحمل بعض الناس الذين أعطوا شيئاً من الثروة أو المسؤولية على ترك الصلاة في المساجد، فترى المسجد إلى جانب بيت أحدهم، أو قريباً منه، ويسمع الأذان كل وقت؛ فلا يدعه الكبر يذهب إلى المسجد ويقف بين يدى ربه مع المصلين؛ لأنه يرى نفسه أكبر من ذلك.
والكبر هو الذي يحمل بعض الناس على مخالفة أمر الرسول وترك العمل بسنته.
فالكبر هو الحامل للمسبل على الإسبال؛ لأنه ملازم له؛ فعن جابر بن سليم؛ أن النبي قال له: ((إياك وإسبال الإزار؛ فإنه من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة)) (1).
وعن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي ؛ قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم قلت: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ فأعادها ثلاثاً؛ قلت: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ فقال: المسبل والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) (2).
حقا؛ لقد خاب وخسر من أسبل ثوبه أسفل من كعبيه، ولو لم يكن إلا هذا الوعيد؛ لكان زاجراً لمن له قلب.
والكبر هو الذي يحمل بعض الناس على التبختر في مشيته؛ قد أسبل ثيابه، وأعجبته نفسه؛ فهو يمشي متكبراً.
وقد ورد في هذا وعيد شديد للمتكبر وللمسبل:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) (2).
قوله: (يتجلجل) أي: يغوص وينزل.
والكبر هو الذى يحمل بعض الناس على ازدراء سنة الرسول والاستهزاء بها:
فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه؛ أن رجلا أكل عند رسول الله بشماله، فقال: ((كل بيمينك، فقال: لا أستطيع. فقال: لا استطعت. ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه)) (3).
عباد الله!
إن الكبر غالباً ما ينشأ من الترف؛ فإذا أترف الإنسان؛ انتكس تفكيره وسمى الباطل حقاً والحق باطلاً، ومن ثم يحتقر من لم يكن مثله في عيشه وماله ودنياه؛ إلا من رحم الله.
وقد ينشأ الكبر من منصب يتولاه الإنسان، فيرى نفسه أعلى من الناس طبقة، فيكشر في وجوه فقراء الناس، وربما رأى أن الواجب ألا يتصلوا إليه مباشرة، بل لابد من الوساطة بينه وبينهم ويحمله الكبر على أن يحب في نفسه أن يقوم الناس له تعظيماً:
فعن أبي مجلز، قال: خرج معاوية، فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه فقال: اجلسا! سمعت رسول الله يقول: ((من سره أن يتمثل له الرجال قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار)) (1).
عباد الله!
وشر الكبر من تكبر على العباد بعلمه وتعاظم في نفسه بفضيلته؛ فإن هذا لم ينفعه علمه؛ فإن من طلب العلم للآخرة كسره علمه، وخشع قلبه، واستكانت نفسه، وكان على نفسه بالمرصاد، فلم يفتر عنها. ومن طلب العلم للفخر والرياسة، ونظر إلى المسلمين شزراً وازدراهم؛ فهذا من أكبر الكبر، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
قال بعض الحكماء: المتكبر كالصاعد فوق الجبل، يرى الناس صغاراً، ويرونه صغيراً.
عباد الله!
إن عقوبة المتكبر عظيمة جداً:
قال تعالى: إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط [الأعراف:40].
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النبي ؛ قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال ،يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار؛ طينة الخبال)) (2)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ؛ قال: ((احتجت الجنة والنار، فقالت النار: فيّ الجبارون والمتكبرون. وقالت الجنة: فيّّ ضعفاء الناس ومساكينهم. فقضى الله بينهما: إنك الجنة رحمتي، أرحم بك من أشاء. وإنك النار عذابي، أعذب بك من أشاء. ولكليكما علي ملؤها)) (3).
عباد الله!
إن على الإنسان أن يدفع الكبر عن نفسه؛ بأن يعرف أصله ونشأته وفقره وحاجته، ويعرف نعم الله عليه، ويتذكر مقامه بين يديه، وعاقبة المتكبرين يوم القيامة، ويتصور أنه ليس له جلد على ذلك العذاب الأليم، الذي يعذب به المتكبرون.
فاتقوا الله عباد الله! وقوموا بأوامر الله، وتجنبوا نواهيه، وتواضعوا لله؛ لتنالوا الرفعة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ؛ قال: ((وما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله؛ إلا رفعه الله)).
وعن النبي ؛ قال: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) (1).
اللهم! اجعلنا من الذين تواضعوا لك فزدتهم رفعة بذلك.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
(2) رواه مسلم.
(1) رواه ابو داود في (اللباس) والترمذى في ( اللباس) والنسائى في (الزينة)وابن ماجة والدارمي في (الرقاق) واحمد(380).
(2) رواه مسلم
(3) متفق عليه.
(1) رواه مسلم
(2) رواه الترمذى وقال "حديث حسن"(الادب،5/91).
(3) رواه الترمذى وقال "حسن صحيح"
(1) رواه مسلم
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.ً
أما بعد:
أيها المسلمون!
هناك مرض آخر، وآفة قاتلة، وهو شقيق لمرض الكبر؛ إلا أنه أقوى منه مفعولاً، ذلك المرض هو مرض العجب، وهو مصدر كل شر وأساس كل بلية.
والعجب هو الفرح بالنعمة، ونسيان أنها من الله، واعتقاد أنها من العبد نفسه، فإن اعتقد مع ذلك أن له حقاً عند الله، وأن له مكانة يستحق بها هذه النعم؛ كان ذلك إدلالاً، وهو غاية العجب ومنتهاه.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى أن العجب يضر بصاحبه:
فيوم أن قال بعض المسلمين يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة؛ وبخهم الله تعالى بقوله: ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً [التوبة:25].
ورد عجب الكفار بحصونهم، فقال: وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله [الحشر:2].
وحينما أعجب قارون بماله، وقال: إنما أوتيته على علم عندي [القصص78]. خسف الله به وبداره الأرض.
والعجب آفة تشمل جميع أعمال الإنسان وهيئته:
فيكون بالهيئة والجمال الذي يعجب به الإنسان ويختال؛ كما تقدم في حديث الرجل الذي يختال في مشيته فخسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة.
ويكون العجب بالعقل والذكاء، وبالنسب والعنصر والجنس وبالمنصب الدنيوي الرفيع، وبكثرة المال والأهل والعشيرة.
ويكون بالعلم؛ فعن مسروق قال: "كفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه" (3) ويكون العجب بالعبادة، فيعجب الإنسان بعبادته، فيجره ذلك إلى ما يحبط عمله؛ فعن جندب؛ أن رسول الله حدث: ((أن رجلا قال: والله؛ لا يغفر الله لفلان! وأن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؛ فإني قد غفرت له وأحبطت عملك)) (4).
والعجب حجاب كثيف بين العبد وبين ربه، وستار بين الإنسان وبين عقله، وباب واسع بين الإنسان وهواه.
وللمعجب علامات يعرف بها؛ فهو ينسى ذنوبه، ويضرب صفحاً عن إصلاح نفسه؛ لأنه يعتقد في نفسه التمام والكمال، وإذا قيل له: اتق الله؛ أخذته العزة بالإثم، ويأنف ويسخر من رأي غيره، وإن كان حقا؛ لأنه يرى أنه المرجع الأول والأخير للناس في كل شيء.
ولا يرد المعجب عن عجبه إلا معرفته بنفسه، وأن هذه النعم واصلة إليه من الله تفضلاً وإحسانا، ولو شاء الله؛ لسلبها منه في لحظة، بل إن الله قادر على سلب الحياة منه في أي وقت، وإن الله ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بأمره لا بقوتها ولا بسلاحها، وإذا عرف المعجب بنفسه الشيطان، والله تعالى حذرنا من الشيطان، وبين عداوته لنا؛ فمن الحماقة أن يتخذه الإنسان صديقاً له.
قال تعالى: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [فاطر:60].
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(3) رواه الدرامى.
(4) رواه مسلم
(1/12)
حدود شرعية وبلاد آمنة
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحدود, محاسن الشريعة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية الأمن وأنه من ضرورات الحياة , وارتباطه بالإيمان , والنصوص الدالة على ذلك
من لوازم الأمن الشرع العادل والسلطان القوي - مفهوم الرحمة التي جاءت بها الشريعة
ومن مظاهرها القصاص والحدود - خطورة التهاون مع المجرمين وعاقبة ذلك - طبيعة الحدود
والعقوبة في الإسلام , وخطورة القول بأنها غير صالحة في هذه العصور
_________
الخطبة الأولى
_________
فاتقوا الله أيها المسلمون وعظموا أمره واشكروا نعمه.
عباد الله: إن توفر الأمن ضرورة من ضرورات الحياة، قد تفوق ضرورة الغذاء والكساء، بل لا يستساغ طعام إذا فقد الأمان. والأمان في جوهره ومعناه: لا يكون إلا مع الإيمان، والسلام في حقيقته لا يكون إلا مع الإسلام: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
((لا إيمان لمن لا أمانة له)) [1] ، ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) [2].
ومن دخل في الإسلام فقد دخل في دائرة الأمن والأمان: ((من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل)) [3]. ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) [4]. وإذا تحقق الإسلام والإيمان توفرت أسباب الأمن والأمان: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
ومن هنا كان بناء الإنسان في الإسلام شاملاً كل جوانب حياته، ومكونات شخصيته، عقيدة وسلوكا وأخلاقاً.
ولئن كان الأمن - أيها الإخوة - يتوفر برسوخ الإيمان في القلوب، وتطهير الأخلاق في السلوك، وتصحيح المفاهيم في العقول، فإنه لابد في ذلك من الشرع العادل، والسلطان القوي: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِ?لْبَيّنَـ?تِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْمِيزَانَ لِيَقُومَ ?لنَّاسُ بِ?لْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا ?لْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَـ?فِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِ?لْغَيْبِ إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].
إن من الناس صنفاً غليظاً لا يكفيه توجيه رفيق، ولا يكفيه وعظ بليغ، بل لا يردعه إلا عقوبة زاجرة، وقوة صارمة، لذا كان لابد من سوط السلطان مع زواجر القرآن، وقد جاء في الأثر: ((إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)).
ولكي يشيع الأمان، ويطمئن الإنسان، شرعت الشرائع الحازمة لمعكري الأمن ومثيري القلاقل، إنها مبادئ وأحكام، من أجل ضبط المجتمعات، أساسها الرحمة العامة والمصلحة الراجحة.
إنها الرحمة المصاحبة للعدل في قانون الإسلام، وأنزلت من أجلها الشرائع، وسنت لها الأحكام، وجاء بها رسول البشرية محمد وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]. فالغاية من الرسالة المحمدية الرحمة بالبشرية.
وإن الرحمة بمفهومها الواسع غير مقصورة على الشفقة والرقة التي تنبت في النفس نحو مستضعف أو أرملة أو طفل، ولكنها رحمة عامة للضعيف والشريف، والرئيس والمرؤوس، والقريب والبعيد.
لا مكان للرحمة لناشري الفوضى، ومهدري الحقوق، ومرخصي النفوس. كيف تكون الرأفة بذئاب الأعراض والأموال والدماء؟ لا يعرف العدالة في هذه القوة إلا المقروحون [5] والمكتوون ممن أهدرت دماؤهم، وانتهكت أعراضهم، ونهبت أموالهم. هل تترك تلك الكلاب المسعورة حرة طليقة تزداد ضراوة ويزداد المجتمع بها بلاء وشقاوة؟!.
أيها الإخوة: إن شرائع القصاص والحدود بعض مظاهر الرحمة في هذا الدين.
إن أغلب المجرمين يقدمون على القتل حين يذهلون عن الثمن الذي يدفعونه حتما. ولو علموا أنهم مقتولون يقيناً لترددوا ثم أحجموا.
ويوم قالت العرب: القتل أنفى للقتل، قال القرآن الكريم عبارة أوجز لفظاً وأحكم أسلوباً: وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ [البقرة:179]. نعم إن في القصاص حياة.. حين يكف من يهم بالجريمة عن الإجرام. وفي القصاص حياة حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لم يكن يقف عند حد لا في القديم ولا في الحديث.
ثأر تسيل معه الحياة على مذابح الأحقاد العائلية والثارات القبلية جيلا بعد جيل لا تكف الدماء عن المسيل.
فللقصاص حياة أعم وأشمل، حياة تشمل المجتمع كله، حيث يسود البلاد الأمان الذي يصون الدماء.
وكما حفظت النفوس، حفظت الأعراض، فلا قسوة في جلد أو رجم، لأن الغرض الأسمى هو حماية الشرف وصيانة الأسر، وإشاعة الطهر والعفة بين الرجال والنساء: وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:2].
وإن الآية الكريمة لتبين بوضوح أن هذا النوع من الرأفة بالزناة والزواني لا يجتمع مع الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى الرغم من أن من أخص خصائص المؤمنين أنهم رحماء بينهم. فالرفق بمنتهكي الأعراض ومرتكبي الفواحش ليس من الرحمة في شيء.
كل ذلك من أجل أن تخرس بواعث الجريمة، وتسري الرهبة في نفوس أهل الريب، فلا يتجاوزون حدود الله، ويلوثون كرامات الناس.
والزواج الصحيح، هو وحده الملتقى المشروع للنفوس الكريمة والأسر الشريفة.
ومن أجل هذا وتأكيداً لحفظ حرمات الناس من أن تستطيل عليها الألسنة الحداد، فتقع في الإفك وتشيع الفحشاء، شرع حد القذف ليجلد المفترون، وتسقط كرامتهم، وترد شهادتهم وتحفظ أعراض العفيفين والعفيفات.
أما السراق واللصوص.. فأين دعاة الرحمة من عامل كادح قد قبض أجره ليضعه في أفواه نساء وصبية فإذا بيد آثمة تمتد إلى كسبه، وتستولي على رزقه، إن هذا اللص يحصد - مجرماً- في لحظات ما كدح الشرفاء في تحصيله الليالي والأيام. وهكذا يأكل القاعد الخبيث كدح الساعي المرهق.
إن اليد العاملة الكاسبة حقها أن تصان وتحمى، حقها أن يضمن لها سعيها، وتأمن في معاشها، أما اليد الفاسدة التي عزفت عن شريف العمل وامتدت إلى الناس بالأذى، وعز علاجها فلابد من قطعها ليرتاح منها صاحبها، ويريح المجتمع كله من مفاسده.
إن السطو على الأموال جريمة تزداد وتستشري: إن لم تقابل بالعلاج الزاجر الحاسم، تتحول إلى جرأة على الدم الحرام.
ما أيسر أن يقتل اللص من يعترض طريقه، سواء كان هذا المعترض من رجال الأمن أو من رجال الأعمال والأموال.
بل حينما يستفحل أمرهم ويتصاعد خطرهم، تعظم العقوبة الزاجرة في حقهم، لأنهم أصبحوا محاربين لله ولرسوله، ساعين في الأرض فساداً فجزاؤهم: أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـ?فٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ?لأرْضِ ذ?لِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ?لدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
ذلكم حكم الله أنزله إليكم. إن الغلظة في العقوبة أيها الرحماء تتكافأ مع غلظ الجريمة. إن الرفق بمن ثبتت جريمته ليس من الرحمة في شيء، وكيف يكون إقرار الظلم والاعتداء على الآمنين والتقاعس عن الجزاء الرادع رأفة ورحمة. فالرحمة الحقيقية هي التي لا تحمل في ثناياها ظلماً ولا هضماً.
لقد تعالت صيحات من هنا وهناك تنادي بإلغاء عقوبة الإعدام لمن يستحقها، فهذا المجرم عندهم منحرف المزاج مضطرب النفس، ينبغي أن يعالج. إنه اعتذار عن السفاكين ومرخصي الدماء فألغيت عقوبة الإعدام في دول شتى. وفتحوا سجوناً كثيرة سمن فيها المجرمون لكي يخرجوا أشد ضراوة وأكثر شقاوة.
ومن اليسير أن يتعاون اللصوص والقتلة في إدراك مآربهم، ورسم خططهم، ليكونوا عصابات ويتقاسموا المهمات. وكأنكم تحسون بأن السجون تصبح ساحات ممهدة لاجتماع هؤلاء وإحكام خططهم، بل لعلهم يديرونها ويدبرونها من خلف قضبان السجون ولهم في الخارج إخوان يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.
إن الريبة لتثور حول ضمائر هؤلاء المدافعين عن المجرمين.
ويكاد المتعجب أن يقول: لا يعطف على اللص إلا لص مثله، ولا يرأف بالقاتل إلا قاتل مثله.
ماذا كسب الدين أهملوا حكم الله في الحدود والقصاص وأعملوا حكم الطاغوت؟ لم يجنوا إلا انتشار الجريمة، وسيادة الفوضى، وذعر الألوف في مساكنهم ومسالكهم. وفي الحديث: ((وما ترك أئمتهم العمل بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [6].
إنك حيث ترى في واقع الذين ظلموا أنفسهم، وابتعدوا عن شرع الله، ما تنشره وسائل الإعلام من أنواع الجرائم وبشاعتها، واستهانتها بالأنفس،واسترخاصها للدماء، وانتهاكها للأعراض، وابتزازها للأموال، لقد وصل الحال بهم - حين أمنوا العقوبة الرادعة - أن كونوا قوى إرهابية تضارع الدول والحكومات، بل وقد تفوق عليها في قوتها وأنواع أسلحتها وتقنيتها، إنها عصابات تقطع الطرق وتخيف السبل - برية وبحرية وجوية -، تنشر الرعب والفساد، وتغير على المصارف والخزائن، وتستهين بالقوانين والأعراف. من قاومهم قتلوه، ومن سكت عنهم استخفوا به وأهانوه، شرهم يستشري، وأمرهم يستفحل، والناس منهم في هرج ومرج واضطراب وفساد، والدول يضعف سلطانها، وما أنباء المخدرات ومنظماتها عنكم ببعيد.
أيها الإخوة : وفي هذا الخضم المائج بفتنه وإرهابه نقول : فلتهنأ بلادنا بلاد الحرمين الشريفين بأمنها وأمانها، ولتستمسك بدينها، وتعتز بدستورها:كتاب الله وسنة رسوله محمد ، تحل حلاله، وتحرم حرامه، وتقيم حدوده زادها الله صلاحاً وإصلاحاً، وبتحكيم شرعه إيماناً وتسليماً.
[1] أخرجه أحمد (3/135،154،210،251)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/288)، وأيضا في شعب الإيمان (4/78-ح4354،4/320-ح5254،5255)، والبغوي في شرح السنة (1/75-ح38)وحسنه، انظر مجمع الزوائد( 1/96).
[2] أخرجه البخاري ( 1/69-ح10)، ومسلم (1/65-ح41).
[3] أخرجه مسلم (1/53-ح23)،وأحمد (3/472).
[4] أخرجه مسلم (4/1986-ح2564)، وأبو داود (4/270-ح4882)،والترميذي (4/287-ح1927)وقال :حديث حسن غريب، وابن ماجه (2/1298-ح3933)، وأحمد (2/277).
[5] المقروحون: الذين أصاب القرح أكبادهم.
[6] رواه ابن ماجه (2/1332،1333-ح4019) وقال البوصيري في الزوائد : هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه، والحاكم (4/540)وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وعلى هذا فالحديث حسن إن شاء الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أحاط بكل شيء خبراً، وجعل لكل شيء قدراً، وأسبغ على الخلائق من حفظه ستراً. أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافة عذراً ونذراً. صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه.. أخلد الله لهم ذكراً وأعظم لهم أجراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه يقصر الإدراك عند بعض المنتسبين إلى الإسلام حيث يظنون أن العقوبات والزواجر في الإسلام إن صلحت فيما مضى فهي غير صالحة في هذه العصور.
إنهم لم يدركوا أن الأمن الذي يتحقق بتطبيق شرع الله لا يعتمد على العقوبة وحدها، ولكنه يعتمد قبل ذلك وبعده على غرس الإيمان في القلوب، وزرع الخشية من علام الغيوب، فتترك النفوس الإجرام رغبة ورهبة، يغذي ذلك ويقويه قنوات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونداءات الوعظ الرقيق، والتذكير الرفيق، وتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل، وحفظ السفهاء في أنفسهم وأموالهم.
ومن هنا أيها الإخوة فإن الدين لا يقف متربصًا من أجل أن تزل قدم ليجهز على صاحبها، ولكنه يمنح الفرص تلو الفرص من الستر المحدود ليرشد الضال ويصلح العاصي. إنه يؤثر ستر طالبي الستر، ويدرء الحدود بالشبهات، ويفتح منافذ الأمل لمستقبل يتوبون فيه إلى ربهم، ويستغفرونه والله غفور رحيم.
(1/13)
التقوى جماع كل خير
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية التقوى وفضلها - معنى التقوى وحقيقتها , وصفات أهلها - حقيقة الصدق في التقوى
والمراقبة - المتقون قد يذنبون ولكنهم سرعان ما يتوبون - من أركان التقوى الحفاظ على
حقوق الناس - الآيات في التقوى والأمر بها وبيان فضلها وثواب أهلها في الدنيا والآخرة
أهمية التواصي بها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله؛ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فتقوى الله جماع الخيرات، وحصون البركات، أكثر خصال المدح ذكرا في كتاب الله.
ما من خير عاجل ولا آجل، ولا ظاهر ولا باطن إلا والتقوى موصلة إليه ووسيلة له ودليل عليه. وما من شر عاجل ولا آجل، ولا ظاهر ولا باطن، إلا والتقوى حرز منه حصين، ودرع منه مكين.
هي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [ النساء:131].
هي دعوة الأنبياء، وشعار الأولياء، فكل نبي يقول لقومه: أَلاَ تَتَّقُونَ [الشعراء:106]. وأولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون.
حق علينا أيها الإخوة أن نقف عندها، ونتامل فيها ونتدبر في معانيها لعل الله أن يجعلنا من أهلها.
والتقوى في أصلها أن يجعل العبد بينه وبين ما يخاف ويحذر وقاية. وربنا تبارك وتعالى هو أهل التقوى. هو الأهل وحده أن يخشى ويعظم ويجل ويكرم. التقوى كما يقول علي رضي الله عنه: (الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل).
والتقي من عباد الله ذو ضمير مرهف، وخشية مستمرة، وحذر دائم، يتوقى أشواك الطريق، ويحذر سراديب الحياة، وجِل من تجاذب كلاليب الرغائب والشهوات، ونوازع المطامع والمطامح.
وتبلغ التقوى تمامها- كما يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه - : حين يتقي العبد ربه من مثقال الذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراماً، ليكون حجاباً بينه وبين الحرام. فإن الله بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره [الزلزلة:7-8].
وفي كتاب ربكم أيها الإخوة - نعوت لأهل التقوى، وإشادة بذكرهم، ورفعة من شأنهم، وإطناب في وصفهم، فالمتقون في كتاب الله: ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ وَ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِ?لآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:3-4].
والمتقون في كتاب الله : ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَ?لْمَلَئِكَةِ وَ?لْكِتَـ?بِ وَ?لنَّبِيّينَ وَءاتَى ?لْمَالَ عَلَى? حُبّهِ ذَوِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَ?لسَّائِلِينَ وَفِي ?لرّقَابِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى ?لزَّكَو?ةَ وَ?لْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـ?هَدُواْ وَ?لصَّابِرِينَ فِى ?لْبَأْسَاء و?لضَّرَّاء وَحِينَ ?لْبَأْسِ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
والمتقون في كتاب الله: ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:134-135].
التقوى تفتح مغاليق القلوب وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ ?للَّهُ [البقرة:282].
وهداية القرآن لا تكون لغير ذوي النفوس التقية والقلوب الزكية. تتوقى الضلالة، وتتجنب سبل الغواية.
بالتقوى يكون الفرقان بين الحق والباطل، وبها العرفان الذي تنجلي به الأمور، والنور الذي تنشرح به الصدور ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد:28].
القبول في أهل التقوى محصور إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
والقدح المعلى من الكرامة في نواصيهم معقود إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
هم الناجون من السعير: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّنَذَرُ ?لظَّـ?لِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72].
وَيُنَجّى ?للَّهُ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ ?لسُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61].
ولهم الفوز بدار الحبور تِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم:63].
وصفهم علي رضي الله عنه فقال : هم أهل الفضل؛ منطقهم صواب، وملبسهم في اقتصاد، ومشيهم في تواضع، غضوا أبصارهم عن الحرام، ووقفوا أسماعهم على ما يستفاد. نزلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في الرخاء. عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم. قلوبهم محزونة. شرورهم مأمونة. مطالبهم في هذه الدنيا خفيفة وأنفسهم عما فيها عفيفة.
صبروا أياماً قصيرة فاعقبهم راحة طويلة. يصفون في الليل أقدامهم، يرتلون قرآنهم. جاثون على الركب. يطلبون النجاة من العطب. لا يرضون من الأعمال الصالحة بالقليل، ولا يستكثرون منها الكثير.
من ربهم وجلون، ومن أعمالهم مشفقون. يتجملون في الفاقة، ويصبرون في الشدة، ويشكرون على النعمة، قريب أملهم، قليل زللهم. الخير منهم مأمول، والشر منهم مأمون.
أمة الاسلام: ولا يتجلى الصدق في التقوى حين يتجلى إلا عندما يستوي عند العبد تقاه في سره ونجواه. وقد قال المصطفى لمعاذ: ((اتق الله حيثما كنت)) [1]. وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
وما المراقبة إلا علم القلب بقرب الرب. ومن كلام الشافعي - رحمه الله -: (أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في الخلوة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف).
ومن وصايا بعض الواعظين: (أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال؛ في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك).
وعجباً عباد الله: كيف يتقي العبد ذنبه مع خلق الله، ويظهره في خلوته بمولاه؟!.
وقد قيل: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك. فيا سبحان الله: ألم تصف لك المعصية إلا حين خلوت بربك؟ ألم تستح منه حياءك من بعض خلقه؟! ومن أضل ممن أبدى للناس صالح عمله وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد!!.
أيها الإخوة في الله: وحين يصيب الإنسان بعض القصور، ويغلبه طغيان شهوة. تعمل التقوى عملها. فسرعان ما يرجع التقي إلى ربه، ويأوي إلى رحمته، ويهرب من شيطانه: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين. وسماحة دين الله، والرحمة بخلق الله تسلك في عداد المتقين كل المذنبين التائبين، الراجعين إلى ربهم غير المصرين على خطيئاتهم.
إن المقصر حين يتوب لا يكون في مؤخرة القافلة ولا في ذيل القائمة. إنه أهل لبلوغ أعلى المقامات حين تصدق توبته وتصح أوبته: أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ [آل عمران:136].
أيها الإخوة في الله: بقي ركن في التقوى ركين نشير إليه، إنه الحفاظ على حقوق الناس بجانب حقوق الله، ولقد قال ابن رجب رحمه الله: (وكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته، إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها. حتى قال: والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً لا يقوى عليه إلا الكمّل من الأنبياء والأتقياء. وقد قال بعض الحكماء: من عزيز الأشياء: حسن الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة).
وفي التنزيل من أوصاف المتقين: وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
تعمل التقوى في أصحابها فيكظمون الغيظ ولا ينساقون لثورة النفس وغيض الصدر. وكظم الغيظ عند المتقين، لا يكون إحنًا [2] غائرة في القلوب، ولا أحقاداً دفينة في الأعماق، ولكنه كظم يعقبه عفو وسماحة وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه، وشواظ يلفح القلب حين يكتمه، فأما حين تصفح النفس، ويعفو القلب فأولئك هم المتقون المحسنون، والله يحب المحسنين.
فاتقوا الله عباد الله. اتقوه في أنفسكم، واتقوه في أهليكم، واتقوه في الناس أجمعين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [الحشر:18-19].
[1] أخرجه احمد (5/153)، والدارمي (2/231-ح2794)، والترمذي (4/312،313-ح1987)وقال : حديث حسن صحيح، والحاكم (1/54)وصححه ووافقه الذهبي.
[2] الإحن : الأحقاد والضغائن.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي من اتقاه، من اعتمد عليه كفاه، ومن لاذ به وقاه. أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله ومصطفاه، صلى الله وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.
أما بعد:
أيها المسلمون؛ كم للتقوى من ذكر في كتاب الله، وكم علق عليها من خير، ووعد عليها من ثواب، وارتبط بها من فلاح، وانعقد بها من كرامة.
اقرأوا في المعية الإلهية: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [البقرة:194]. إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].
وفي ثواب الدنيا وخيراتها المباركة: وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ و?تَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ ?للَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:103]. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96]. وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]. فَمَنِ ?تَّقَى? وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف:35].
وأما في ثواب الآخرة ونعيم الجنة فلتقرؤوا: لَـ?كِنِ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ وَعْدَ ?للَّهِ لاَ يُخْلِفُ ?للَّهُ ?لْمِيعَادَ [الزمر:20]. إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـ?تٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ [القمر:55]. إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى ظِلَـ?لٍ وَعُيُونٍ وَفَو?كِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات:41-43].
جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه.
فتزودوا من التقوى رحمكم الله. فهي خير زاد، وتواصوا بها فهي خير وصية. جاء يزيد بن سلمة إلى النبي فقال : يا رسول الله اني قد سمعت منك حديثا كثيراً أخاف أن ينسيني أوله آخره، فحدثني بكلمة تكون جماعاً قال: ((اتق الله فيما تعلم)) [1].
ولا زال السلف يتواصون بها، فقد كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى رجل : أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين.
وكتب آخر إلى صاحبه: (أوصيك بتقوى الله، فإنها أكرم ما أسررت، وأحسن ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، أعاننا الله وإياك، وأوجب لنا ولك ثوابها).
[1] أخرجه الترمذي (5/48-ح2683) وفي سنده انقطاع، قال الترمذي: هذا ليس إسناده بمتصل وهو عندي مرسل ولم يدرك عندي ابن أشوع يزيد بن سلمة، وابن أشوع اسمه سعيد بن أشوع.
(1/14)
المرأة بين جاهليتين
الأسرة والمجتمع
المرأة
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة النساء
2 - تكريم الإسلام للمرأة ومساواتها للرجال في بعض الأمور
3 - انسياق بعض النساء وراء المرأة الغربية
4 - التحذير من التبرج والخلوة
5 - فتن يجر بعضها بعضاً
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وقوموا بما كلفكم الله تعالى به من رعاية أهليكم، وأحسنوا رعاية من استرعاكم الله إياهم، ويكون ذلك بفعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه.
عباد الله!
لقد درس أعداء الإسلام أحوال المسلمين، وتعرفوا على أماكن القوة ومواطن الضعف في شخصية المسلمين، ثم اجتهدوا في توهين نواحي القوة وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكر ودهاء وخبث؛ فعلموا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، وعلموا أنها سلاح ذو حدين، وأنها قابلة لأن تكون أخطر أسلحة الفتنة والتدمير، ومن هنا كان لها النصيب الأكبر من حجم المؤامرات الكثيرة التي ترى بوادرها في مجتمعات المسلمين يوماً بعد آخر.
عباد الله!
ولقد حذر النبي من فتنة النساء:
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي ؛ قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) 1.
وعن أسامة بن زيد وسعيد بن زيد رضي الله عنهما، عن النبي ؛ أنه قال: ((ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر عل الرجال من النساء)) 2.
وقد كان للمرأة المسلمة دور رائع في بناء الصرح الإسلامي.
وقد انتفعت الأمة بهذا الحد النافع من سلاح المرأة في قرونها الأخيرة، ثم لم تلبث الحال أن تدهورت شيئاً فشيئاً، وجرحت الأمة بالحد المهلك من سلاح المرأة.
عباد الله!
إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة الهينة، وليست بالمشكلة الجديدة؛ لأن الفاسقة منهن شرك الشياطين وحبائل الشر، يصطاد بهن كل خفيف الدين مسلوب المروءة.
ولذلك قال النبي : ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان)) 3.
فاتقوا الله عباد الله! واحذروا هذه الفتنة التي حذر منها النبي واقضوا على أسباب الشر قبل أن تقضي عليكم، وسدوا أبواب الفساد قبل أن تنهار عليكم.
إن الإسلام قد كرم المرأة أما وزوجة وبنتاً، وأعطاها حقوقها كاملة، مما لم تظفر به امرأة فى غير الإسلام، وقد قيل: وبضدها تتميز الأشياء.
وإذا نظرنا إلى حال المرأة قبل الإسلام؛ علمنا تكريم الإسلام للمرأة؛ فالمرأة قبل الإسلام كانت محتقرة مهانة، حتى سموها رجساً من عمل الشيطان، وكانت عندهم كسقط المتاع، تباع وتشترى في الأسواق؛ مسلوبة الحقوق، محرومة من حق الميراث وحق التصرف في المال إلى غير ذلك من الذل والمهانة.
لما أشرق نور الاسلام، رفع عن المرأة ما أحيطت به من الآصار والأغلال، بل رفع مكانها وأعلى منزلتها فجعلها قسيمة الرجل، لها ما لها من الحقوق وعليها من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها وعلى الرجل بما اختص به من الرجولة والقوة والجلد وبسطة اليد أن يلي رياستها:
قال تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة [البقرة:228]. وتلك هي الرعاية والحياطة، لا يتجاوزها إلى قهر النفس وجحود الحق.
وقال : ((إنما النساء شقائق الرجال)) 4.
ولقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في جزاء الآخرة:
قال تعالى: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [النحل:97].
ولقد أتت أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها النبي ، فقالت: إنى يا رسول الله رسول من ورائي من النساء، إن الله بعثك إلى الرجال والنساء؛ فآمنا بك، واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدورات قواعد في البيوت، وإن الرجال فضلوا بالجمعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد؛ حفظنا لهم أموالهم، وربينا أولادهم؛ أنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت رسول الله بوجهه إلى أصحابه، وقال: ((هل رأيتم امرأة أعظم سؤالاً منها))، فقال رسول الله لها: ((انصرفي يا أسماء! وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته؛ يعدل كل ما ذكرت للرجال)) فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشاراً بما قاله النبي.
عباد الله!
هذا نموذج من تكريم الإسلام للمرأة، والنماذج كثيرة.
ولكن؛ لنتساءل عباد الله عن واقع المرأة المسلمة اليوم هل هي متمسكة بدين الإسلام أم أنها صريعة الجاهلية؟!
والحق يقال - وليس على سبيل التعميم: - إن بعض النساء قد رفضت تكريم الإسلام لها، وأصبحت صريعة لجاهلية هذا القرن؛ فاندفعت اندفاعاً محموماً وراء كل سراب، وعاشت واقعاً مريراً.
والمؤلم في هذا الواقع المرير أن المرأة قد رضيت أن تؤلف نقطة الضعف؛ فهى ملقية برضى منها إلى التيار، يقذف بها حيث اتجه وسار دون أن تفكر في المقاومة، وساعد في إمداد التيار الهشيم تخلي بعض الرجال عن مراقبتهم على النساء، وترك الحبل على الغارب لهن، والمقروء والمسموع.
ولم تفكر من انساقت من النساء خلف تلك التيارات في حال المرأة الغربية، وما تعيش من شقاء وتعاسة؛ حيث كانت المرأة في الغرب فريسة للذئاب من البشر؛ عبثوا بكرامتها، وتاجروا بها، وأصبحت صورة المرأة شيئاً قد ألفوه لرواج الكاسد من البضائع والمجلات.
ولكن بعض نساء المسلمين أعجبن بحال نساء الغرب، فحدث ما لا تحمد عقباه؛ حدث في مجتمعات المسلمين وفي نساء المسلمين تبرج النساء، وهو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال، فظهر بين نساء المسلمين من تكشف وجهها أمام الرجال؛ ليروا مفاتنها، فتستيقظ الفتنة النائمة، ووجد من تجعل خمارها قصيراً لا يستر نحرها، ووجد من تضع مادة النشاء في خمارها عند غسله ليبدو واقفاً مكشوفاً شعر رأسها وشفافاً خمارها، ووجد في نساء المسلمين من جعلت ثيابها تلفت النظر إليها؛ لكثرة زخرفتها، أو لضيقها، أو لشفافيتها، حتى وجد من بين النساء من تجعل الثوب ضيقاً، وأكمامه شفافة جداً، ونحرها مكشوفاً، ووجد بين نساء المسلمين من تجعل الثوب قصيراً لا يستر قدميها أو تجعل فتحات على ساقيها، وكل ذلك جرياً وراء أحدث ما ظهر من لباس الكافرات، الذي تحمله إلينا المجلات الوافدة المسماة بمجلات الأزياء!! أو ما يصممه الخياطون الذين غالبهم من غير المسلمين، ويتربصون بنساء المسلمين الدوائر.
ألا فلتعلم المرأة المسلمة أن هذه الأعمال لا تجوز، وأنها تجر إلى الهاوية.
وقد أخبر بمصير من تعمل ذلك من النساء:
فعن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر؛ يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) 5.
قال بعض العلماء: معنى (كاسيات عاريات): التي تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهاراً لجمالها، وقيل: معناه تلبس ثوباً رقيقا يصف لون بدنها.
وهان على كثير من نساء المسلمين الخروج إلى الأسواق دونما ضرورة، والخلوة بالرجال الأجانب في المحلات والسيارات.
وشجع على هذا بعض الآباء بفعله وبذل ماله من أجله؛ فاستقدم سائقاً شاباً يافعاً أجنبياً، وقد يكون كافراً، وجعله تحت إمرة النساء الصغار والكبار، يذهب بهن حيث شئن؛ دون حسيب ولا رقيب؛ فإن نظرت إلى أبواب المدارس؛ وجدت السائقين وحدهم ينتظرون بنات في ريعان الشباب، وليس معهم أحد، وإن نظرت إلى الأسواق؛ وجدت السائقين ينتظرون من وضعوا فيها من النساء ليحملوهم، والمرأة تتقلب من تبرج إلى خلوة، وحدث ولا حرج من سقوط الآداب.
عباد الله!
وهناك أمر يغفل عنه بعض الناس، وهو أن بعض المزارعين يستقدمون عمالاً، ثم يتركونهم يعملون في مزارعهم، وفي حين قطف الثمار يومياً يضمون معهم أهليهم لمساعدتهم، فيكون العامل في وسط النساء بحجة جمع المحصول، وقد يذهب الرجل ليبيع ما جمعوا، ثم يبقون في مكان واحد لإكمال العمل، وهذه خلوة الشيطان يحضر فيها ويسول، وقد يحدث مالا تحمد عقباه، ثم يندم من فعل ذلك، ولات ساعة مندم، ثم يقول بعد فوات الأوان: لا بارك الله بعد العرض بالمال.
عباد الله!
لقد أصبحت المرأة في هذا الزمن كالكرة، تتناولها أيدي اللاعبين، وتتهاوى في كل اتجاه.
لقد بات وضع المرأة المسلمة في مهب الأعاصير، فليس من الحكمة أن يترك زمامه للأمواج تقذف به حيث يشاء أولو الأهواء، ولا ريب أن الواجب يضع على كل عاتق نصيبه من المسؤولية، لا يستثنى من ذلك صغير ولا كبير كل على حسب استطاعته.
عباد الله!
إنى أخاطب أولياء الأمور، وأقول لهم: تذكروا قول الله تعالى: الرجال قوامون على النساء [النساء:34]. وتذكروا أنهن رعيتكم، وستسألون عنهن يوم القيامة، وتذكروا قول الرسول : ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان)) 6 ، وقولوا: سمعنا وأطعنا. وتذكروا أن التوبة تجب ما قبلها، وأنه إن استمرت الحال على ما نرى، فسنحصد النتيجة مرة، وعندها لا ينفع الندم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
1 رواه مسلم.
2 رواه البخارى.
3 رواه مسلم.
4 أحمد وابو داود والترمذي.
5 رواه مسلم
6 الحديث أخرجه الترمذي في (الرضاع) وفى (الفتن 7/2165) من حديث عمر وهو جزء من حديث طويل: ((لا يخلو رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان)) وقال الترمذى :"هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"
وراه احمد في "المسند" (رقم 114-177)والحاكم في الايمان من طرق صحيحة فالحديث صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى في أنفسكم وفيمن تحت أيديكم من الذكور والإناث، وقوموا عليهم بما أمركم الله به، واعلموا أن السفور مطية للفجور، وأن المعاصي كلها سبب كل شر وبلاء، وهي تجر أمثالها.
عن النواس بن سمعان، عن رسول الله ، قال: ((ضرب الله مثلا صراطاً مستقيماً، وعن جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعند رأس الصراط داع يقول: استقيموا على الصراط ولا تعوجوا، وفوق ذلك داع يدعو، كلما هم عبد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب؛ قال: ويحك! لا تفتحته؛ فإنك إن تفتحه..)) ثم فسره فأخبر: ((أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتحة محارم الله، وأن الستور المرخاة حدود الله، والداعي على رأس الصراط هو القرآن، وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن)) (1).
عباد الله!
ومعلوم أن المعاصي تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضاً، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها؛ فكلما فرط من العبد معصية؛ قالت أخرى إلى جانبها: اعملني معها... وهكذا؛ حتى تصير المعاصي صفات لازمة؛ بحيث لو عطل المسيء سيئاته؛ لضاقت عليه نفسه، وأحس كأنه السمك إذا فارق الماء حتى يعاودها فتسكن نفسه.
قال بعض العلماء: من أعطى أسباب الفتنة نفسه أولاً؛ لم ينج آخراً.
عباد الله!
إننا في زمن قد ادلهمّ ليله، وأظلم نهاره، وفقد بعض الناس شخصيته المميزة؛ فبات بعض الناس كل ما يستطيعونه هو تقليد الغرب مزرعة الرذائل، وأقبلوا يعدون وراءه دون وعي، وتلقوا كل أخطائه الاجتماعية بالقبول والتطبيق، واستحسنوها بعد أن طبقوها، ثم عملوا على نشرها في بلاد المسلمين، فاغرقوا دنيا المرأة بكل ما لاكه الغرب؛ بدءً بفتح محلات الخياطة غير المحتشمة، ومروراً بمحلات التجميل للنساء، وانتهاء بالمجلات التي تعنى بالمرأة، حتى نقضوا عرى الأخلاق عند بعض النساء، ونزعوا الحياء.
ثم بعد ذلك بدأ الزحف لنقض عرى الأخلاق عند الشباب، وتمييع أخلاقهم، ونزع الحياء، فنقلوا ما في بلاد الغرب من انحلال إلى بلاد المسلمين، وفاخروا بذلك؛ لزعمهم أنهم حازوا قصب السبق، فبدأت الشرارة الأولى في هذه الأيام بانتشار محلات التجميل للشباب، ولا تستغربوا هذا؛ فليس ضرباً من الخيال أو المبالغة، فلقد وصل إلي ما يثبت ذلك؛ فقد وصل إلي إعلان عن فتح محل حلاقة للرجال في هذا البلد ما يقوم به ذلك المحل: فرد الشعر، تنظيف وإزالة الحبوب من الوجه، جميع قصات الشعر، وجميع المتطلبات.
عباد الله!
إن الكفار لا يألون جهداً في إفساد أخلاق المسلمين؛ فالدولة وفقها الله فتحت المدارس لتعليم الشباب وتربيتهم تربية إسلامية، ولكن بعض الناس أبوا أن ينحوا هذه التربية التي يتلقاها الشباب في المدرسة أو البيت.
عباد الله!
والله؛ لو أن هذا للنساء؛ لقلنا كثير فكيف بحق الرجال الذين يطلب منهم الشهامة والرجولة؟!
إن تلك المجالات وأمثالها داعية إلى فساد الأخلاق عند الشباب، إني من هنا أدعو صاحب ذلك المحل أن يتقي الله، ويغلق أسباب الفساد، وينتبه لما يدبره الكفار، وكما أني أدعو الشباب إلى نبذ هذه السخافات وهجرها والتحذير منها، أدعو من يهمه الأمر أن يستدرك قبل فوات الأوان.
عباد الله!
إن الناظر في واقع المجتمع المسلم اليوم يرى أنه تكالبت عليه الأعداء بغية إفساده، ويعجب من وقوف المسلمين حائرين أمام تلك الأسلحة؛ ينتظرون أن تفتك بهم.
فيا من جعلتم لمجتمعنا وسائل الفساد للأخلاق! اتقوا الله فينا، اتقوا الله في شبابنا، اتقوا الله في نسائنا، واخشوا أن يحل بنا العقوبة!!
ألم نتعظ بما وقع من الزلازل والخسف والفيضانات والرياح العاتية؟!
أننتظر حجارة من السماء؟!
وأنتم يا أولياء أمور النساء والشباب مسؤولون بالدرجة الأولى عما ضيعتم من فتيات في ريعان الشباب في الأسواق يحادثن الفساق، ويركبن مع السائقين وحدهن، ويقفن على الخياطين، وشباب يتكسرون ويعيشون الضياع.
(1) رواه الامام احمد في " المسند" (4142، 4437) ، والحاكم (2/368)، من حديث النواس بن سمعان.
(1/15)
الوصية
فقه
الفرائض والوصايا
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - الأمر بكتابة الوصية
2 - حكم كتابة الوصية
3 - حكم الإضرار بالوصية
4 - بعض أحكام الوصية
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الله قد بعث محمد هادياً ، ومبشراً، ونذيراً، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيراً فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين.
وكان مما قال : ((إذا مات الإنسان، انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (1).
عباد الله!
ومن الصدقة الجارية التي تنفع الإنسان بعد وفاته الوصية، وهي التبرع بالمال بعد الموت، ولتصرف بالحق:
قال تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية [البقرة:180].
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت [المائدة:106].
وقال : ((ما حق امريء مسلم له شيء يوصي به أن يبيت ليلتين إلا وصيته مكتوبة عنده)) (2).
فدل هذا الحديث على المبادرة بالوصية وكتابتها.
وذكر ابن قدامة رحمه الله إجماع أهل الأمصار في جميع الأعصار على مشروعية الوصية
عباد الله!
وتتأكد المبادرة بالوصية إذا كان المسلم في حالة خطر، كاستقبال سفر، أو اشتداد مرض، وركوب بحر، ومثله الجو، والمراكب الخطرة، ودخول المعركة.
عباد الله!
ومن الوصية ما تجب كتابته، ومنها ما تستحب:
فأما ما تجب كتابته، فيجب على الإنسان أن يوصي بوفاء ما عليه من حقوق، سواء كانت تلك الحقوق للعباد، كالديون التي ليس عليها إثبات ولا يعلمها إلا هو، وكذلك ما عنده من الودائع والأمانات، أو كانت الحقوق لله، كالكفارات، والحج الفرض، والزكاة التي لم يخرجها، فيوثق ذلك بكتابة، حتى لا يضيع حق غيره، ولا يدخل على الورثة ما ليس لهم، ومثله إذا كان له حق على أحد، ولم يستوفه، ولم يسامحه به في حال صحته، فيجب أن يوثقه، حتى لا يضيعه على ورثته، وحتى لا يتسبب لمن هو في ذمته بأكل ما ليس له، فلربما ينسى، ولربما يضيع اسم الغريم فلا يعرف من وراء الميت، وهذا ما يحدث كثيراً.
وأما حالة استحبابها، فيستحب أن يوصي المسلم من ماله لنفسه إذا كان له مال، ليجري ثوابه بعد موته، لحديث: ((إذا مات ابن آدم، انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (3).
وأما إن كان ماله قليل وورثته فقراء، فيكره له أن يوصي بشيء من ماله، لحديث سعد بن أبي وقاص: ((إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) (4) ، ولأنه عدول عن الأقارب المحتاجين إلى الأباعد، وذلك خلاف الأفضل.
وأما الوصية لأحد الورثة، فمحرمة، لحديث: ((إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)) (5) ، وإن أجازه الورثة، نفذت.
عباد الله!
إن بعض الناس يخص بعض ورثته بشيء من ماله، كاستئجار عقار، أو منحة، أو منح مال أو غيره، ومن فعل ذلك، فقد عصى الله ورسوله، وتعدى حدود الله، وظلم نفسه، وظلم ورثته، حيث اقتطع من حق بعضهم لبعض.
ومن أوصى بوقف شيء من ماله على بعض ورثته دون بعض، فقد أوصى لوارث، حيث خص بعض ورثته باستقلال بما أوقفه عليهم دون الآخرين، وإذا كان لا يجوز أن يوصي لبعض ورثته باستقلال بالتصرف في العقار أو بسكن الدار شهراً فكيف يجوز له أو يوصي بوقف ثلثه على أولاده أو ذريته دون غيرهم من بقية الورثة؟ فإن هذه وصية جائرة، يجب إبطالها والرجوع عنها، وإن كان قد كتبها وأشهد عليها!!
كيف يرضى الإنسان أن يوصي بعد موته ومغادرته الدنيا بمعصية الله ورسوله؟!
ماذا تكون إجابته إذا سئل عن ماله: من أين جمعه، وفيم أنفقه؟!
وتحرم الوصية أيضا إذا وقعت منها المضارة، لقوله تعالى: من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله [النساء:12]. أي: غير مدخل للضر على ورثته، ولحديث: ((إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران بالوصية، فتجب لهما النار)) ، ثم قرأ أبو هريرة: من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله )) (6).
عباد الله:
ويستحب تعجيل الوصية قبل أمارات الموت، لحديث أبي منحة، قال: قال رجل: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا)) (7)
وأما مقدار ما يوصى به، فالثلث، فلا حق له في الوصية بأكثر من الثلث، إلا إذا أجازها الورثة.
والأولى أن تكون أقل من الثلث، كالربع مثلاً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله قال: ((الثلث والثلث كثير)) (8).
اصدقوا العزيمة، وتغلبوا على أنفسكم بتصحيح وصاياكم وتطبيقها على الشرع ولا تتصرفوا فيها تصرفاً يكون وبالاً عليكم وأنتم في سعة من ذلك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
(1) رواه مسلم ( رقم 1631 في الوصية ، باب ما يلحق الإنسان بعد وفاته ) ، وأبو داود ( رقم 3880 في الوصايا ، باب ما جاء في الصدقة على الميت ) ، والترمذى ( رقم 1376).
(2) رواه البخارى ( 5 / 264 ، في الوصايا في فاتحته ) ، ومسلم ( رقم 1627 ، في الوصية في فاتحته ) ، " الموطأ " ( 2 / 761 في الوصية ، باب الأمر بالوصية ) ، وأبو داود ( رقم 3862 في الوصايا ، باب ما جاء فيما يأمر به من الوصية ) ، والترمذى ( رقم 974 في الجنائز ، باب ما جاء في الحث على الوصية ) ، والنسائى ( 6 / 238 - 239 ، في الوصايا ، باب الكراهية في الأخير في الوصية ).
(3) الحديث سبق تخريجه في ( ص 233 ).
(4) رواه البخارى في ( الجنائز، باب 37 ) من حديث عامر بن سعد بن أبى وقاص عن أبيه ، وكذا رواه أيضاً في ( الوصايا ، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس ) ، ورواه أيضاً في ( كتاب مناقض الأنصار ، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : " اللهم إمض لأصحابى هجرتهم ومرثيتة لمن مات بمكة " ) من حديث عامر بن سعد بن مالك عن أبيه ، وأخرجه في ( كتاب النفقات ، باب فضل النفقة على الأهل ) ، وكذا أخرجه مسلم في ( الوصية ) ، وأبو داود في ( الوصايا ) ، والترمذى ( الوصايا ) ، والنسائى في ( القبلة ) و( الوصايا ) ، وإبن ماجة في ( الوصايا ) ، والإمام مالك في " الموطأ ".
(5) أخرجه أبو داود في ( الوصايا ) ، والترمذى في ( الوصايا ) ، والنسائى في ( الوصايا ) ، وإبن ماجة في ( الوصايا ).
(6) رواه أبو داود في ( الوصايا ، باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية ) ، والترمذى في (الوصايا)، وقال الترمذى: "هذا حديث حسن غريب ".
قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله : " في إسناده شهر بن حوشيب ، وهو ضعيف ، ولكن له شاهد من حديث بن عباس: "الإضرار في الوصية من الكبائر " ، رواه سعيد بن منصور موقوفاً بإسناد صحيح ، والنسائى مرفوعاً ورجاله ثقات ".
(7) رواه البخارى في ( كتاب الزكاة ) و( كتاب الوصايا ) وكتاب الفقات ) وكذا رواه مسلم في ( كتاب الزكاة ) وابو دواد ، والترمذى في ( كتاب الزكاة) والنسائى في ( الزكاة) و( الوصايا).
(8) رواه مسلم في ( كتاب الوصية ، باب الوصية بالثلث).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، أحمده وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون:
الوصية لا تنفذ إلا بعد موت الموصي، ولهذا قال العلماء: تبطل الوصية برجوع الموصي فيها قبل الموت، لقول عمر رضي الله عنه: (يغير الرجل ما شاء في وصيته) (9) فللموصي أن يغير في وصيته ويبدلها بما شاء حال حياته، وله تغيير الوصية، حكى ابن المنذر الإجماع على بطلانها بذلك.
عباد الله:
وتثبت الوصية إذا وجدت بخط الموصي الثابت ببينة، أو إقرار الورثة، أو تثبت الوصية بالبينة.
ويستحب الإشهاد على الوصية، سواء كتبها بنفسه، أو كتبها غيره حسب إملائه.
ويستحب أن يعين الموصي شخصاً يتولى جميع تركته، وإخراج الواجب عليه، وتنفيذ وصاياه.
وينبغى أن يكون من يعين مسلماً بالغاً عاقلاً عدلاً رشيداً، سواء كان من أولاد الموصي أو أقاربه، أو كان بعيداً عنه.
ويستحب قبول الوصية لمن قوي عليها ووثق من نفسه القيام بها، لأن قبولها فيه نفع للموصي وإحسان إليه.
وإذا عين المسلم من هذه صفاته، أمن من تعطيل الوصية، فإن هناك بعض الوصايا معطلة، لا ينتفع بها صاحبها الموصي ولا المحتاجين بسبب سوء تصرف الوصي أو عدم مبالاته.
عباد الله:
ويبدأ الوصي بإخراج الواجب من تركة الميت، أوصى به الميت أو لم يوص، كفريضة حج، أو كفارة اليمين أو الظهار، أو الزكاة إذا وجبت فتوفى بإخراجها، أو نذر أوجبه على نفسه، أو دين لإنسان.
وبالمناسبة، فإني أود أن أنبه على مسألة في أمر الدين، وهي أن بعض الناس يتوفى وعليه دين لصندوق التنمية العقاري، فيستشكل الورثة: هل يسدد في الحال أو كل قسط في حينه؟
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله هذا السؤال: يقول السائل: والدي عليه دين للبنك العقاري، وقد توفي رحمه الله، فهل يجب علينا تسديد المبلغ كاملاً؟ أم على حسب الأقساط التي أقرها البنك، وتبرأ ذمته بذلك؟
فأجاب حفظه الله بقوله: (لا يلزم تعجيل قضائها إذا التزم الورثة أو غيرهم بتسديدها في أوقاتها على وجه لا خطر فيه على صاحب الحق، لأن الأجل من حقوق الميت يرثه ورثته، وليس على الميت حرج في ذلك إن شاء الله، لأن الدين المؤجل لا يجب قضاؤه إلا في وقته، والورثة يقومون مقام الميت إذا التزموا بذلك أو التزم به غيرهم).
وينبغي أن تشمل كتابة الوصية على بيان حالة الموصي وقت الوصية، من حيث الصحة والعافية في بدنه، وبيان معتقده، وبيان ماله وما عليه وتعيين الوصي.
وقد بين أنس بن مالك ما كان يكتبه السلف في وصاياهم، حيث قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان، أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى إبراهيم بنيه ويعقوب: إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
وينبغي للمسلم أن يتحرى أفضل الأعمال لوصيته من أعمال البر، كمياه الشرب، وبناء المساجد وخدمتها وقضاء ديون الفقراء، والصدقة عليهم وعلى طلاب العلم الشرعي، وتعليم القرآن، وطبع الكتب الشرعية، وغيرها.
(9) الحديث رواه الدرامى في ( كتاب الوصايا).
(1/16)
في بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
عِظَم فضل الوالدين وحقهما بعد الله عز وجل , والآيات في ذلك - مكانة الأم ومعاناتها من أجل
الابن - مكانة الأب ومعاناته من أجل الابن - من حقوق الوالدين : المحبة , والتقدير , والطاعة
والتوقير , والتأدب معهما - عقوبة العقوق والجحود - أثر البر وفضله , وعاقبة العقوق
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وتعلقت القلوب بمن كان له فضل عليها، وليس أعظم إحساناً ولا أكثر فضلا بعد الله سبحانه وتعالى من الوالدين.
حيث قرن الله حقهما بحقه، وشكرهما بشكره، وأوصى بهما إحساناً بعد الأمر بعبادته: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [النساء:36].
لله سبحانه نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين بإذنه نعمة التربية والإيلاد. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث: لا تقبل واحدة بغير قرينتها: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ [المائدة:92]. فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه. وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ [النور:56]. فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه. وأن اشكر لي ولوالديك فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
فرضى الله في رضى الوالدين، وسخط الله من سخط الوالدين.
أيها المؤمنون: إحسان الوالدين عظيم، وفضلهما سابق، تأملوا حال الصغر، وتذكروا ضعف الطفولة: رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24]. حملتك أمك في أحشائها تسعة أشهر، وهناً على وهن، حملتك كرهاً، ووضعتك كرهاً، ولا يزيدها نموك إلا ثقلاً وضعفاً.
وعند الوضع رأت الموت بعينها. ولكن لما بصرت بك إلى جانبها سرعان ما نسيت آلامها، وعلقت فيك جميع آمالها. رأت فيك البهجة والحياة وزينتها، ثم شغلت بخدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها.طعامك درها. وبيتك حجرها. ومركبك يداها وصدرها وظهرها.
تحيطك وترعاك، تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة. إذا غابت عنك دعوتها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها. تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحظتك بعينها.
أما أبوك فأنت له مجبنة مبخلة، يكد ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار. يجوب الفيافي والقفار، ويتحمل الأخطار بحثاً عن لقمة العيش، ينفق عليك ويصلحك ويربيك. إذا دخلت عليه هش وإذا أقبلت إليه بش، وإذا خرج تعلقت به، وإذا دخلت عليه هش، وإذا حضر احتضنت حجره وصدره، هذان هما والداك، وتلك هي طفولتك وصباك، فلماذا التنكر للجميل؟ وعلام الفظاظة والغلظة، وكأنك أنت المنعم المتفضل؟!.
أخرج الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إلى رسول الله فقال: أبايعك على الجهاد والهجرة أبتغي الأجر. قال: ((فهل من والديك أحد حي)) ؟ قال: نعم بل كلاهما. قال: ((فتبتغي الأجر من الله؟)). قال: نعم. قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) [1].
وفي حديث سنده جيد عند الطبراني: أن رجلا جاء إلى النبي يستشيره في الجهاد، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ألك والدان؟)) قال: نعم؟ قال: ((الزمهما فإن الجنة تحت أقدامهما)) [2].
أيها الإخوة في الله: إن حق الوالدين عظيم، ومعروفهما لا يجازى، وان من حقهما المحبة والتقدير، والطاعة والتوقير، والتأدب أمامهما، وصدق الحديث معهما، وتحقيق رغبتهما في المعروف، وتنفق عليهما ما استطعت : ((أنت ومالك لأبيك)).
ادفع عنهما الأذى فقد كانا يدفعان عنك الأذى. لا تحدثهما بغلظة أو خشونة أو رفع صوت. جنبهما كل ما يورث الضجر: فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]. تخير الكلمات اللطيفة، والعبارات الجميلة والقول الكريم.
تواضع لهما، واخفض لهما جناح الذل رحمة وعطفاً وطاعة وحسن أدب، لقد أقبلا على الشيخوخة والكبر، وتقدما نحو العجز والهرم بعد أن صرفا طاقتهما وصحتهما وأموالهما في تربيتك وإصلاحك. تأمل حفظك الله قول ربك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ [الإسراء:23]. إن كلمة (عندك) تدل على معنى التجائهما واحتمائهما وحاجتهما، فلقد أنهيا مهمتهما، وانقضى دورهما، وابتدأ دورك، وها هي مهمتك: فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23]. قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي أماً بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ قال: لا. لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها، ولكنك محسن، والله يثيب الكثير على القليل.
نعم إن حقهما عظيم ولكن الجأ إلى الدعاء لهما في حال الحياة وبعد الممات اعترافاً بالتقصير، وأملاً فيما عند الله رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24].
أيها الإخوة في الله: إن العار والشنار والويل والثبور أن يفجأ الوالدان بالتنكر للجميل، كانا يتطلعان للإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا المخذول قد تناسى ضعفه وطفولته، وأعجب بشبابه وفتوته، وغره تعليمه وثقافته، وترفع بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفف والتبرم، ويجاهرهما بالسوء وفحش القول ،يقهرهما وينهرهما، بل ربما لطم بكف أو رفس برجل يريدان حياته، ويتمنى موتهما، وكأني بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين. تئن لهما الفضيلة، وتبكي من أجلهما المروءة.
يا أيها المخذول: هل حينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك؟! قد عممت غيرهما بالإحسان، وقابلت جميلهما بالنسيان. شق عليك أمرهما، وطول عمرهما. أما علمت أن من بر بوالديه بر به بنوه، ومن عقهما عقوه، ولسوف تكون محتاجاً إلى بر أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك، وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل. يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) [3].
وإن أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين، بهذا صح الخبر عن الصادق المصدوق.
وفي حديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه. وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء)) [4].
وفي حديث آخر عن جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المسلمين إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجد ريحها عاق)) [5] ، واعلموا أن بر الوالدين فريضة لازمة، وأمر محتم، وهو سعة في الرزق، وطول في العمر، وحسن في الخاتمة. عن علي رضي الله عنه عن النبي قال: ((من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)). والوالدين أقرب الناس إليك رحماً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَـ?لِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاْوَّابِينَ غَفُوراً [ الإسراء:23-25].
[1] أخرجه مسلم (4/1975-ح2549).
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (2/289-ح2202)، وقال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات انظر مجمع الزوائد (8/138).
[3] أخرجه احمد (5/38)، وأبو داود (4/276-ح4902)، وابن ماجه (2/1408-ح4211)، واليبهقي في السنن الكبرى (10/234)، والترمذي (4/573-ح2511)، وقال : حديث حسن صحيح ، والحاكم (4/356) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
[4] أخرجه النسائي (5/80-ح2562)، وأحمد (2/134) ، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (2/859،860-ح575،575)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/192-ح7877)، والحاكم في موضعين (1/72) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ، (4/146،147)وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي : رواه البزار بإسنادين ورجالهما ثقات انظر مجمع الزوائد (8/14،148).
[5] أخرجه أحمد (1/143)، والحاكم (4/160)وسكت عنه وتابعه والذهبي. وقال الهيثمي : رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح غير عاصم بن حمزة وهو ثقة. انظر مجمع الزوائد (8/152).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن من البر أن يتعهد الرجل أصدقاء والديه، ويحسن كرامتهم، ويفي بحقهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إن من أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه)) [1].
وجاء رجل إلى رسول الله وقال: هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال : ((نعم الصلاة عليهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما من بعدهما)) [2].
فاستيقنوا هذا رحمكم الله، فالبر بجميع وجوهه: زيادة في العمر، وكثرة في الرزق، وصلاح في الأبناء، فمن بر والديه بره أبناؤه. والعقوق خيبة وخسارة وخذلان. وقد قيل: إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقاً ليعجل له العذاب، وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان باراً ليزيده براً وخيراً.
[1] أخرجه مسلم (4/1979-ح2552)، وأبو داود (4/337-ح5143).
[2] أخرجه أبو داود (4/336-ح5142)، وابن ماجه (2/1208،1209-ح3664)، وأحمد (3/497،498)، وابن حبان انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (2/162-ح418)، والطبراني في المعجم الكبير (19/267،268-ح592)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/28)، والبخاري في الأدب المفرد ( ص22-ح35).
(1/17)
صلوا أرحامكم 1
الأسرة والمجتمع
الأرحام
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
اقتران الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك بالإحسان إلى الوالدين والأقربين - من هم الأرحام ؟-
فضل صلة الرحم وأثرها بين الناس - صورة الصلة وكيفيتها - تقطيع الأرحام من الكبائر
وعقوبته معجلة - ليس من صلة الرحم التعاون على الظلم والباطل
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: اتقوه وأخلصوا له العبادة، اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام.
يَأَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء [النساء:1].
خلقكم من نفس واحدة، فالرب واحد، والأصل واحد. أسرة واحدة انبث منها الرجال والنساء ليلتقوا في وشيجة واحدة، ويتصلوا برحم واحدة. من هذا المنطلق تقوم تكاليف التكافل والتراحم.
فأسرة الإنسان وقرابته يا عباد الله هم عدته وسنده، وهم أصله وقوته.
يقول علي رضي الله عنه: (أولئك هم عشيرتك، بهم تصول وتطول، وهم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعد سقيمهم، ويسر على معسرهم،ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك).
أيها الإخوة في الله: ما أمر الله بتوحيده، وما نهى عن الإشراك به إلا وقرن ذلك بالإحسان إلى الوالدين والأقربين.
اقرءوا إن شئتم: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36].
وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [الإسراء:23].
ثم قال سبحانه: وَءاتِ ذَا ?لْقُرْبَى? حَقَّهُ وَ?لْمِسْكِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ [الإسراء:26].
أيها المؤمنون: إن صلة الأرحام حق لكل من يمت إليك بصلة نسب أو قرابة. وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب: ((أمك وأباك ثم أدناك أدناك)).
وطريق القيام بحق الأقارب والأرحام فشو المودة، واتساع الصدور، وسلامة القلوب.
إن أعظم ما امتن الله به على الزوجين اللذين هما أصل الأسرة ونواتها، أن جعل المودة والرحمة بينهما وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
إن أساس التواصل والرباط الموثق هو التواد والتراحم، وإذا فقد ذلك تقطعت الأوصال، واستشرى الفساد، وحقت لعنة الله عياذاً بالله: وَ?لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ?للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـ?قِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25].
إن صلة الرحم بركة في الأرزاق، وتوفيق في الحياة، ويكتب الله بها العزة والمنعة، وتمتلئ القلوب بها إجلالا وهيبة.
أخرج الإمام أحمد وابن ماجه - ورواة أحمد ثقات - عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((.. وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان الأعمار)) [1].
وروى البزار بإسناد جيد والحاكم عن علي رضي الله عنه قال: (من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه) [2].
وفي صحيح البخاري مرفوعاً: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)) [3].
وفي الخبر: ((صلة الرحم محبة في الأهل، ومثراة في المال، ومنسأة في الأثر)) [4] أي زيادة في المال والعمر وبركة فيهما.
بصلة الأرحام تقوى المودة، وتزيد المحبة، وتتوثق عرى القرابة، وتزول العداوة والشحناء، ويحن ذو الرحم إلى أهله.
ولتعلموا رحمكم الله أن صلة الرحم والإحسان إلى الأقربين ذات مجالات واسعة ودروب شتى: فمن بشاشة عند اللقاء، ولين في المعاملة.. إلى طيب في القول، وطلاقة في الوجه. إنها زيارات وصلات، وتفقد واستفسارات، مكالمة ومراسلة، إحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا. ينضم إلى ذلك غض عن الهفوات، وعفو عن الزلات، وإقالة للعثرات. عدل وإنصاف، واجتهاد في الدعاء بالتوفيق والصلاح.
وأصدق من ذلك وأعظم مداومة الصلة ولو قطعوا، والمبادرة بالمغفرة إذا أخطأوا، والإحسان إليهم ولو أساءوا.
إن مقابلة الإحسان بالإحسان مكافأة ومجازاة، ولكن الصلة الواصلة بينت في قول نبيكم محمد : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها)) [5].
وجاء رجل إلى النبي فقال له: يا رسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون علي. فقال عليه الصلاة والسلام: ((لئن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل (أي تطعمهم الرماد الحار في أفواههم) ولا يزال معك من الله ظهير مادمت على ذلك)) [6].
ومع كل ذلك أيها المؤمنون ومع هذه الآيات والأحاديث فإن في الناس من تموت عواطفه، ويزيغ عن الرشد فؤاده، فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب.
إن العار والشنار، فيمن منحه الله جاهاً وأحسن له رزقاً، ثم يتنكر لأقاربه أو يتعالى عليهم. بل قد يترفع أن ينتسب إليهم فضلا عن أن يشملهم بمعروفه ويمد لهم يد إحسانه.
وإن قطيعة الرحم شؤم وخراب، وسبب للعنة وعمى البصر والبصيرة: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22-23].
إن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب، وعقوبتها معجلة في الدنيا قبل الآخرة.
أخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) [7].
وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد - ورواة أحمد ثقات - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم)) [8].
ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان جالساً بعد الصبح في حلقة فقال: (أنشد الله قاطع الرحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبوب السماء مرتجة - أي مغلقة - دون قاطع الرحم) [9].
أيها الإخوة: إن أسرع الخير ثواباً البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم، ومع هذا ترى في بعض من قل نصيبهم من الخير يسارع في قطع صلاته بأقاربه لأدنى سبب؛ إما لكلمة سمعها، أو شيئاً صغيراً رآه، وما درى أنه بهذا قد يجر إلى نفسه وأهله العداوة والجفاء، فيستحقون اللعنة وزوال النعمة وسوء العاقبة: وَ?لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ?للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـ?قِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25].
ولقد أوصى زين العابدين علي بن الحسين ابنه رضي الله عنهم أجمعين فقال: (لا تصاحب قاطع رحم؛ فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع).
فاتقوا الله وصلوا أرحامكم، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض. قدموا لهم الخير ولو جفوا، وصلوهم وإن قطعوا، يدم الله عليكم بركاته، ويبسط لكم في الأرزاق، ويبارك في الأعمار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه احمد (6/159)، وقال الحافظ ابن حجر: سند رجاله ثقات. انظر الفتح (10/429).
[2] أخرجه احمد (1/143)، والحاكم (4/160) وسكت عنه وتابعه الذهبي. وقال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح غير عاصم بن حمزة وهو ثقة. انظر مجمع الزوائد (8/152).
[3] أخرجه البخاري (10/429-ح5986)، ومسلم (4/1982-ح2557) بلفظ: ((وينسأ له في أثره)).
[4] أخرجه أحمد (2/374)، والترمذي (4/309) وقال: حديث غريب وأشار الحافظ ابن حجر إلى تحسين الترمذي له. انظر الفتح (10/429)، والطبراني في الكبير (18/98-ح176)، وعزاه الهيثمي إليه وقال: رجاله موثقون. انظر المجمع (1/193،8/153)، والحاكم (4/161) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
[5] أخرجه البخاري (10/437-ح5991).
[6] أخرجه مسلم (4/1982-ح2558).
[7] أخرجه احمد (5/38)، وأبو داود (4/276-ح4902)، وابن ماجه (2/1408-ح4211)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/234)، والترمذي (4/573-ح2511) وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم (4/356)وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
[8] أخرجه أحمد (2/484)وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات. انظر مجمع الزوائد (8/151)، والبخاري في الأدب المفرد (ص32،33-ح61).
4 رواه الطبراني ورجاله الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود. انظر مجمع الزوائد (8/151).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه بالرحمة والهدى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء وأصحابه النجباء والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن حق القريب رحم موصولة، وحسنات مبذولة، وهفوات محمولة، وأعذار مقبولة. وكما قيل: لا تقطع القريب وإن أساء فإن المرء لا يأكل لحمه لو جاع.
أيها المؤمنون: لئن كانت صلة الرحم تعني الإحسان إلى المحتاج، ورفع الظلم عن المظلوم، والمساعدة على وصول الحق. فليس من صلة الرحم المناصرة على الباطل والعون على الظلم والبغي والعدوان، فما هذا إلا الحمية الجاهلية الممقوتة، تفشو بها العداوة، وينشر بها الفساد، وتتقطع بها الأرحام.
ولن يكون البغي والعدوان طريقاً إلى الحق، أو سبيلا إلى العدل والخير. فاعرفوا الحق وميزوه عن الباطل، ولا تأخذكم العزة بالإثم، واستقيموا على أمر ربكم. أطعموا الطعام وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.
(1/18)
الوفاء بالعهد
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - النصوص الشرعية تأمر بالوفاء
2 - أنواع العهود بإعتبار المعاهدة:
أ / عهد الله وصور منه ، ب/ عهد العباد وصور منه
3 - حقوق المسلم على المسلم
4 - حسن الوفاء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وراقبوه، وأطيعوا أمره، ولا تعصوه.
عباد الله!
قال تعالى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً [الإسراء:34]. فقد أمر الله تعالى في هذه الآية بالوفاء بالعهد.
والوفاء بالعهد أدب رباني حميد، وخلق نبوي كريم، وسلوك إسلامي نبيل، جعله الله صفة لأنبيائه:
فقال تعالى في إبراهيم: وإبراهيم الذي وفى [النجم:37]. وفى حين ابتلاه ربه بكلمات وأوامر ونواه؛ فأتمهن، وقام بهن، وفى حين قدم ولده إسماعيل قرباناً تنفيذاً لأمر الله، وفى حين صبر على النار ابتغاء مرضاة الله.
وقال تعالى في إسماعيل: واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً [مريم:54]. فوعد أباه بالصبر حين قال له: يا بنى إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين [الصافات:102]. ولم يخلف وعده الذي وعد أباه.
وجعل الله الوفاء العهد صفة لأوليائه، فقال في أولي الألباب: إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق [الرعد:20].
والوفاء بالعهد قيام المسلم بما التزم به؛ سواء كان قولاً أم كتابة.
فالتزامه بدين الله واتباعه لشرع الله ومنهج رسوله وفاء؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل ما أحل الله وما حرم وما فرض في القرآن؛ فهو عهد".
عباد الله!
و العهد ينقسم إلى قسمين: عهد بين الله وبين الناس، وعهد بين الناس بعضهم بعضاً.
فأما العهود التي بين الله وبين الناس؛ فهي كثيرة:
- فإيمان الفطرة عهد؛ قال تعالى: وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا [الأعراف:172].- والإحسان بالقول والفعل عهد، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة عهد؛ قال تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون [البقرة:83].
والمعروضون هم أولئك الذين نكثوا عهدهم مع الله، وارتكبوا الإساءة وابتعدوا عن الإحسان وتهاونوا بشرع الله، بل وتركوا الصلوات بعد أن أبرموا عهداً مع الشيطان.
ونشر العلم وبيانه عهد؛ قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه [آل عمران:187]. قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم؛ فمن تعلم علماً؛ فليعلمه للناس، وإياكم وكتمان العلم؛ فإن كتمان العلم هلكة، فيا سعادة عالم ناطق ومستمع داع! هذا تعلم علماً فبلغه، وهذا سمع خيراً فقبله. وبيع النفس والمال بالجنة عهد؛ قال الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [التوبة:111].
قال شمر بن عطية: (ما من مسلم؛ إلا ولله عز وجل في عنقه بيعة؛ وفى بها، أو مات عليها)، ثم تلا هذه الآية.
وجاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ؛ قال: ((تكفل الله لمن جاهد في سبيله؛ لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته؛ بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، مع ما نال من أجر وغنيمة)) 1.
وقال الحسن البصري في الكلام على هذه الآية: بايعهم الله فأغلى ثمنهم.
وقال بعض العلماء: عونك اللهم! فإن العقد رهيب، إنها صفقة غالية، المشتري فيها هو الله، والبائع هو المؤمن، والمبيع فيها هو النفس والمال، والثمن هو الجنة، والطريق إليها هو الجهاد، والنهاية النصر أو الاستشهاد؛ فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء؛ فعونك اللهم!
عباد الله!
وأما العهود التي بين الناس بعضهم بعضاً؛ فهي كثيرة أيضاُ؛ فإذا اتفق اثنان على أن يقوم كل منهما للآخر بشيء؛ يقال: إنهما تعاهدا:
فعقد الزواج عهد؛ قال : ((إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج)) 2 ؛ فلابد للمسلم أن يؤدي ما التزم من الشروط على عقد الزواج؛ لأنه استحل بها الفرج؛ فأيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر، ليس في نفسه أن يؤديها حقها؛ فقد خدعها، ووقع تحت طائلة العقاب.
عباد الله!
وتربية الأولاد عهد؛ قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة [التحريم:6]. فمن أهملهم؛ لم يوف بما عهد إليه.
ومن العهود حقوق الجار؛ فإنها حقوق يلتزم بها الجار لجاره فطرة وديناً وخلقاً؛ يقول الله تبارك وتعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً [النساء:36].
وقد أوصى النبي بالجار، وحث على حسن معاملته:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)). قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) 3 ؛ أي: شروره وأذاه.
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليحسن إلى جاره)) 4.
والإسلام حريص على أن يفي كل جار لجاره بالأمان من ظلمه؛ فلا تستباح محارمه، ولا ينال عرضه، ولا يستحل ماله، ولا يناله أي صنف من أصناف الأذى.
وإذا نظرنا إلى الوراء؛ وجدنا الجار محل الإكرام، حتى في الجاهلية، حتى صور أحد الشعراء الجاهليين 5 حاله مع محارم جاره، فقال:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
أين هذا ممن ولدوا في الإسلام ونشؤا فيه وكانوا حرباً على جيرانهم أذاقوهم صنوف الأذى: إما بالاستطالة في أعراضهم، أو بالأذى الفعلي في بيوتهن، أو بالتلصص على عوراتهم، أو بالأذى في طرقاتهم، أو بالأصوات المنبعثة من داخل بيوتهم، ولم يعرفوا لجيرانهم حقا، وعلموا أن للجار حق الإحسان إليه؟!
فيا ليتهم إذ لم يحسنوا كفوا الأذى عنه!!
فليعلموا أن هذا نقض للعهد، وغدر، وخيانة، والله تعالى قبح صور الخائنين الغادرين، فقال تعالى: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون [البقرة:27].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
1 البخارى ( كتاب فرض الخمس، باب قول النبى : ((احلت لكم الغنائم)) 6/220-فتح) وأخرجه مسلم في (الامامة 104) والنسائى في (الجهاد14) والطبراني في ( الجهاد2).
2 رواه مسلم.
3 رواه البخارى ومسلم.
4 اخرجه البخارى في ( الادب ، 10/373 ، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، وفى النكاح ، باب الوصاة بالنساء ، وفى الرقاق ، باب حفظ اللسان ) ، ومسلم في ( الايمان ، باب الحث على اكرام الجار، رقم47 ) ، وأبو داود في ( الأدب ، باب في حق الجوار ، رقم 5154 ).
5 هو الشاعر عنترة بن شداد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين أحمده، وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وأوفوا بالعهد؛ إن العهد كان مسؤولاً.
عباد الله!
ومن العهد الذي ينبغي أن يفي به المسلم حقوق إخوانه المسلمين؛ فإن النبي نبه أن للمسلم على المسلم حقوقاً كثيرة:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله قال: ((حق المسلم على المسلم ست)). قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) (1).
ومن حق المسلم على المسلم ألا يبخسه شيئاً من حقه:
قال تعالى حكاية عما قاله شعيب لقومه: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم [الأعراف:85].
ففي هذه الآية النهي عن بخس الناس أشياءهم، وهي ما يتبادله الناس في معاملاتهم من المتاع، وإذا كان هذا بالنسبة إلى الأمتعة؛ فإن ما يملكه الناس ويتمتعون به من أخلاق وأفكار أولى بإقامة العدل وإنزاله في منازله من غير وكس ولا بخس ولا شطط؛ لما يترتب على الإبخاس بذلك من الحقد، والقطيعة، والفرقة، وذهاب الرحمة والرأفة، وإحلال البغض والضغينة.
ولما كانت أصول دعوات الأنبياء عليهم السلام واحدة؛ فإن الأمر بإقامة الموازين، والحكم بالعدل، والإنصاف؛ ظل الوصية الخالدة التي يوجهها كل نبي إلى قومه؛ لأنه بالعدل قامت السماوات والأرض وقد أوصى الله تعالى رسوله محمداً أن يعلن لأمته أمر الله له بإقامة العدل فيها، فقال: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم [الشورى:15].
وأوصى المؤمنين بإقامة العدل مع الناس كافة، حتى مع من يبغضون، فقال تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة:8].
وقد كان النبي يقوم لله بالشهادة، فيعطي كل ذي حق حقه، وفي سيرته مئات من الشواهد التي تدل على ذلك:
فهذا هو يقول: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
مع أن لبيداً وقتها كان كافراً. ولقد نبه النبي النساء على ما يجري على ألسنتهن من انتقاص أزواجهن وجحد معروفهم عند أدنى خلاف، فقال: ((أريت النار؛ فإذا أكثر أهلها النساء؛ يكفرن. قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا؛ قالت: ما رأيت خيراً قط)) (1).
وهذا الحديث يبرز قضية العدل إبرازاً يقل نظيره؛ حيث جعل عليه الصلاة والسلام جحود الزوج سبباً كبيراً لكثرة وجود النساء في النار؛ لأن كفران العشير يحدث في الحياة الزوجية شروخاً كثيرة.
ألا فلتعلم هذا الوعيد وتلك العقوبة بعض النساء اللاتي كفرن العشير وكفرن الإحسان، وأصبحن لا يرين لأزواجهن حقاً، مع ما يعشن ويتمرغن فيه من النعم وتلبية المطالب، وليعلمن أن القيام بحقوق الأزواج من العهد الذي يطلب الوفاء به.
عباد الله!
وحسب الوفاء بالعهد تشريفاً قول الله تعالى: ومن أوفى بعهده من الله [التوبة:111].
ومن ثم كان مما يسأل عنه الإنسان يوم القيامة؛ قال تعالى: إن العهد كان مسؤولاً [الإسراء:34]. يسأل الإنسان عنه: أوفى أم نكث؟ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما [الفتح:10].
(1) رواه مسلم
(1) رواه البخارى.
(1/19)
خلق الحياء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
ارتباط الأخلاق والآداب بالعقيدة - اشتمال أخلاق الإسلام على جميع أحوال المسلم - علامة
الحياء وفقده , وأثر ذلك - فضل الحياء وارتباطه بالإيمان - كيف يتولد الحياء من الله ؟ وكلام
السلف في ذلك - من لوازم الحياء - مظاهر نزع الحياء - حقيقة الحياء , وليس من الحياء
الامتناع عن طلب العلم وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: إن للآداب والأخلاق صلة وثيقة بعقيدة الأمة ومبادئها، بل هي التجسيد العملي لقيمها ومثلها. الأخلاق والآداب هي عنوان التمسك بالعقيدة، ودليل الالتزام بالمبادئ والمثل. والحكم على مقدار الفضل وحسن السيرة راجع إلى الخلق العالي. ولا يتم التحلي بالخلق الفاضل والأدب الرفيع إلا بالترويض على نبيل الصفات، وكريم العوائد بالتعليم والتهذيب والاقتداء الحسن.
إن الإسلام قد شمل في أخلاقه أحوال المسلم كلها؛ صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، فرداً وأسرة ومجتمعاً، فالاستئذان والسلام، والمصافحة والصدق، والتأدب في المزاح والمداعبة، وحفظ حقوق الإخوان، والأدب مع الأقارب والجيران، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام، وتجنب الظلم والاحتقار والعدوان، كل ذلك وغيره باب واسع عظيم، وهو ثابت لا يتغير بتغير الزمان ولا بتحول المكان. غير أن لهذا الباب الواسع مفتاحاً وأن لهذه الأخلاق عنواناً وعليها دليلا.. ذلكم هو خلق الحياء من الله والحياء من الناس.
أيها المسلم: عندما ترى الرجل يتحرج من فعل ما لا ينبغي ويكسو الخجل وجهه إذا بدر ما لا يليق، فاعلم أنه حي الضمير، زكي العنصر نقي المعدن.
أما اذا رأيته صفيقاً، بليد الشعور، معوج السلوك، لا يبالي ما يأخذ أو يترك، فهو بعيد عن الخير ليس لديه حياء يردعه، ولا وازع يمنعه، يقع في الآثام، ويسف في ارتكاب الدنايا.
إن المرء حين يفقد حياءه يتدرج من سيئ إلى أسوأ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدركات السفلى.
ورد في الحديث مرفوعاً وموقوفاً: ((إن الله عز وجل إذا أراد بعبده هلاكاً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً نزع منه الأمانة فلم تلقه إلا خائناً مخوناً، فإذا كان خائناً مخوناً نزع منه الرحمة فلم تلقه إلا فظاً غليظاً فإذا كان فظاً غليظاً نزع منه ربقة الإيمان من عنقه، فإذا نزع ربقة الإيمان من عنقه لم تلقه الا شيطاناً لعيناً ملعناً)) [1] ، أخرجه ابن ماجه وغيره. هذا ترتيب دقيق لأمراض النفوس. خطوات سيئة تقود إلى خطوات أشد منها نكراً.
إن الحياء والإيمان في قرن واحد [2] إذا نزع أحدهما تبعه الآخر. رأى النبي رجلا يعاتب أخاه في الحياء فقال عليه الصلاة والسلام: ((دعه فإن الحياء من الإيمان)) [3].
وعمر رضي الله عنه يقول: (من استحيا اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وقي).
أيها الإخوة في الله: إن من أعظم ما يستحي منه ربكم مولي النعم ومسديها. ولا يتولد هذا الحياء إلا حين يطالع العبد نعم الله عليه، ويتفكر فيها، ويدرك تمامها وشمولها، ثم يراجع نفسه ويحاسبها على التقصير، ويخجل من ربه، ولاسيما إذا رزق العبد توفيقاً فأدرك عظمة الله، وإحاطته، واطلاعه على عباده، وقربه منهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور. يقول الجنيد رحمه الله: (الحياء رؤية النعم ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء).
ويقول بعض السلف: (خف الله على قدر قدرته عليك واستح منه على قدر قربه منك).
وقد أمر النبي أصحابه أن يستحيوا من الله حق الحياء فقالوا: يا رسول الله إنا نستحي من الله حق الحياء قال : ((ليس ذلك؛ الاستحياء من الله أن تحفظ الراس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، من فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) [4].
ومن الحياء أن يطهر المسلم لسانه من الفحش ومعيب الألفاظ، فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها.
ومن الحياء القصد في الحديث في المجالس، فمن أطلق للسانه العنان فإنه لا يسلم من التزيد، ولا ينجو من الادعاء والرياء.
ومن الحياء أن يتوقى الإنسان ويتحاشى أن يؤثر عنه سوء، أو تتلطخ سمعته بما لا يليق، وليبق بعيداً عن موارد الشبه ومواطن الإشاعات السيئة.
ومن أحيا الحياء محافظة المرأة المسلمة على كرامتها وحشمتها، ومراقبة ربها، وحفظ حق بعلها، والبعد عن مسالك الريبة ومواطن الرذيلة، لئلا يغيض ماء الحياء ويذهب بالعفاف والبهاء. استشهد لإحدى النساء ولد في بعض الغزوات مع رسول الله فجاءت تبحث عنه بين القتلى وهي منتقبة فقيل لها: تبحثين عنه وأنت منتقبة متحجبة؟ فأجابت: لأن أرزا ولدي فلن أرزا حيائي!! فاتقين الله يا نساء المؤمنين، والزمن العفاف والحياء فذلك خير وأبقى.
وإن من الحياء أيها المسلمون أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم ومراتبهم، فيؤتى كل ذي فضل فضله. فالابن يوقر أباه، والتلميذ يحترم المعلم، والصغير يتأدب مع الكبير. ورد في الأثر عن عبد الله بن بسر أنه قال: (إذا كنت في قوم فتصفحت في وجوههم فلم تر فيهم رجلا يهاب الله فاعلم أن الأمر قد رق).
ويقابل الحياء البذاء والجفاء: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن النبي أنه قال: ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)) [5].
ومنزوع الحياء لا تراه إلا على قبح، ولا تسمع منه إلا لغواً وتأثيماً، عين غمازة، ونفس همازة، ولسان بذيء؛ يتركه الناس اتقاء فحشه. مجالسته شر، وصحبته ضر، وفعله عدوان، وحديثه بذاء. ويزيد الأمر ويعظم الخطب حين يكون اللهو والتفحش في الطرب والغناء واتخاذ القينات والمعازف وقصائد المجون.. حيث الخروج عن الفضيلة، وخلع جلباب الحياء، ومن لا حياء له لا إيمان له.
فاتقوا الله أيها المسلمون: والتزموا الحياء والعفاف، فهو الباعث على فعل الطاعات وترك القبائح والمنكرات، هو المانع من التقصير في الشكر، وعرفان الجميل، والتفريط في حق كل ذي حق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ?لنَّبِىّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى? طَعَامٍ غَيْرَ نَـ?ظِرِينَ إِنَـ?هُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَ?دْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَ?نْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى ?لنَّبِىّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَ?للَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ ?لْحَقّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عاً فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ?للَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذ?لِكُمْ كَانَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيماً [الأحزاب:53].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
1أخرجه ابن ماجه (2/1347-ح4054) وقال في الزوائد : في إسناده سعيد بن سنان، وهو ضعيف، مختلف في اسمه.
[2] الحياء والإيمان في قرن : أي مجموعان في حبل. انظر لسان العرب (13/336).
[3] أخرجه البخاري (1/93-ح24) واللفظ له، ومسلم (1/63-ح36).
[4] أخرجه أحمد (1/387)، والترمذي (4/550-ح2458)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/142-ح7730)، والحاكم (4/323) وقال : حديث صحيح ووافقه الذهبي.
[5] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (4/321-ح2009)، وابن ماجه (2/1400-ح4184)، وأحمد (2/501)، والحاكم (1/52) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المحمود على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل الضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله جبله ربه على جميل الفعال وكريم الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل.
والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن المسلم عفيف حيي، يفعل الجميل، ويجتنب القبيح. ولا ينبغي أن يكون الحياء حائلا عن طلب العلم أو مانعاً من قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بل لقد قرر أهل العلم أن من امتنع عن مواجهة الحق وأخل بالواجبات على زعم منه أن هذا من الحياء، فقد ضل السبيل، فما هذا إلا عجز وخور، وضعف واستكانة، بل خنوع وتقصير ومهانة. فحقيقة الحياء ما بعث على ترك القبيح، ومنع من التقصير في حق كل ذي حق.
لقد كان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها [1] ، لكن لم يمنعه أن يقول لحبه أسامة: ((أتشفع في حد من حدود الله)) [2].
ولم يمنع الحياء أم سليم الأنصارية رضي الله عنها: أن تقول لرسول الله : إن الله لا يستحي من الحق: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت. ولم يمنع الحياء النبي أن يجبيها بقوله: ((نعم، إذا رأت الماء)) [3].
فاتقوا الله أيها المسلمون وتمسكوا بوصايا دينكم، وتأسوا بهدي نبيكم، فقد كان صادق اللهجة، حسن العشرة، ليس بغماز ولا لماز ولا فاحش ولا متفحش، وصلوا عليه وسلموا تسليماً كثيراً.
[1] أخرجه البخاري (10/529،538-ح6102،6119)، ومسلم (4/1809-ح2320).
[2] أخرجه البخاري (12/89-ح6788)، ومسلم ( 3/1315-ح1688).
[3] أخرجه البخاري (1/276-ح130)، ومسلم (1/251-ح313).
(1/20)
آفة العين وطرق الوقاية والعلاج
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
سليمان بن حمد العودة
بريدة
22/5/1417
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أدلة حقيقة العين من الكتاب والسنة. 2- موضوع الإصابة بالعين بين الإفراط والتفريط. 3- الفرق بين العين والحسد. 4- ذكر الله والقرآن الكريم حصنان حصينان من العين. 5- التبريك يبعد المرء عن حسد إخوانه. 6- اغتسال العائن وعلاج العين. 7- التطير والتشاؤم. 8- المصائب سببها الذنوب والمعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
فأما بعد: فأوصي نفسي وإياكم ـ معاشر المسلمين ـ بتقوى الله امتثالا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70-71].
أيها المسلمون، وحديث اليوم امتداد للحديث السابق عن الآفات والعلل التي تصيب بعض بني الإنسان، وكيف يحفظ الله منها.
حديث اليوم عن آفة تستنزل الفارس عن فرسه، وكما قال النبي : ((تورد الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر)) رواه أبو نعيم في الحلية وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4023). إنها العين، والنبي يقول: ((العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا)) رواه مسلم في صحيحه.
جاءت الإشارة إلى العين في القرآن الكريم على لسان يعقوب عليه السلام حين خاف على أبنائه فقال: يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف: 67].
وهكذا يفعل المؤمنون بالأسباب، ويبقى التوكّل على الله ملاذا آمنا ومعتقدا صادقا، يأخذون بالحيطة والحذر، ويؤمنون بالقضاء والقدر، ويثقون بقدرة الواحد الأحد، وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.
وجاء في القرآن أيضا إخبار من الله إلى رسوله عن حسد الكافرين له ومحاولة إنفاذه بأبصارهم: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم: 51]. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: لَيُزْلِقُونَكَ أي: يعينونك بأبصارهم، بمعنى يحسدونك. قال ابن كثير في تفسيره (8/227) : "وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة".
إخوة الإيمان، وينبغي أن يعلم أن العين إنسيّة وجنية، بمعنى أنها تصيب من الجنّ كما تصيب من الإنس، فعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال لجارية في بيتها رأى في وجهها سفعة: ((بها نظرة، استرق لها)) رواه البخاري ومسلم. والسفعة علامة من الشيطان، وقيل: ضربة واحدة منه. والمعنى كما جاء في شرح السنة (12/163): بها عين أصابتها نظرة من الجن أنفذ من أسنّة الرماح؛ ولهذا كان يتعوذ من الجان ومن عين الإنسان، حتى إذا نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك. أ خرجه الترمذي وحسنه.
عباد الله، ومع ثبوت العين وأثرها بإذن الله حتى قال عليه الصلاة والسلام: ((أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين)) رواه البخاري في التاريخ وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1217) فلا ينبغي الإفراط ولا التفريط بشأنها، وكما لا يسوغ إنكارها فلا يسوغ الإسراف بشأنها ونسبة كل شيء إليها.
وفوق ما مضى من الأدلة يردّ ابن القيم رحمه الله على المنكرين لأثر العين بقوله في زاد المعاد (4/165) : "فأبطلت طائفة ممن قلّ نصيبهم من السمع والعقل أمر العين وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابا، وأكثفهم طباعا، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها، وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين".
أما المسرفون بأمر العين فتطاردهم الأوهام ويحاصرهم القلق ويضعف عندهم اليقين ويختل ميزان التوكل، أولئك يعظمون البسيط، وينسبون كلّ إخفاق أو فشل إلى العين وإن لم يكن بهم عين، وربما استدرجهم الشيطان فأمرَضهم وما بهم مرض، وأقعدهم عن العمل وما بهم علّة، ذلكم لأنّ نسبة العجز والكسل إلى الآخرين أسهل من الاعتراف به وتحمّل لوم الآخرين.
وبين هؤلاء الجفاة والغلاة تقف طائفة من الناس موقفا وسطا، تؤمن بالعين وتصدق بآثارها نقلا وعقلا، ولا تغالي فتنسب كل شيء إليها، تتقي العين قبل وقوعها، وتفعل الأسباب المأذون بها شرعا بعد وقوعها.
أيها المسلمون، وإذا كان هذا كله يقال للمعي، فيقال للعائن: اتقِ الله، ولا تضرّ أحدا من إخوانك المسلمين، وإيّاك والحسد فإنه منفذ للعين، فكل عائن حاسد، وليس كلّ حاسد عائنا، ولما كان الحاسد أعمّ من العائن كما في قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5]، والعائن ربما فاتته نفسه أحيانا فوقعت منه العين وإن لم يردها، وقد يكون العائن صالحا، وربما أصاب أقرب الناس إليه وإن لم يقصد من والد أو ولد، ولذا يوصى المسلم عموما والعائن خصوصا بذكر الله والتبريك حينما يعجبه شيء، وتلك وصية من وصايا الحبيب المصطفى يأمرنا بها حين يقول: ((إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق)) رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير والحاكم في مستدركه وهو في صحيح الجامع (1/212).
إن النفوس المؤمنة لا يفارقها الذكر، ولا ترضى للآخرين بالضر، ويصاحبها الدعاء والتبريك والشكر، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ [ الكهف: 39 ].
على أن المسلم نفسه ينبغي أن يحتاط لنفسه، ويدفع غوائل الشر عنه ما استطاع، وإذا كانت العين سهما تخرج من نفس الحاسد أو العائن نحو المحسود والمعين فهي تصيب تارة وتخطئ تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه ولا بد، وإن صادفته حذرا شاكيَ السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه، كذا قال العارفون.
فإن قلت: وكيف أتقي العين؟ وما أعظم سلاح ألوذ به؟
أجبت بأن الأذكار والأوراد الشرعية أعظم ما يحفظ الله بها الإنسان، فاسم الله الأعلى لا يضر معه شيء، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [سورة الفلق] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [سورة الناس] ما تعوذ متعوذ بمثلهما، وقراءة آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة يحفظ الله بهما عباده المؤمنين، وقد سبق لك البيان، إلى غير ذلك من أوراد الصباح والمساء التي بسطها العلماء في كتب الأذكار.
قال ابن القيم: "ومما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله. ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبي التي رواها مسلم في صحيحه ( 2185 ): ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك)).
ولقد رخص النبي بالرقية، وقال لأسماء بنت عميس رضي الله عنها: ((ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟!)) أي: نحيفة، قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، فقال: ((ارقيهم)) ، فعرضت عليه فقال: ((ارقيهم)) رواه مسلم (2198 ).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق].
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وسنة المصطفى عليه السلام، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وهو أهل الثناء والحمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون، ومن وسائل اتقاء العين أيضا التبريك، وهو قولك: "اللهم بارك عليه" للشيء تراه أو يذكر لك فيعجبك، إذ قد تقع منك العين وإن لم ترِدها، فعن أبي إمامة بن سهل بن حنيف قال: اغتسل أبي: سهل بن حنيف بالخرار ـ وهو من أودية المدينة ـ، فنزع جبّة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة عذراء، فوعك سهل مكانه واشتدّ وعكه، فأخبر رسول الله بوعكه فقيل له: ما يرفع رأسه، فقال: ((هل تتهمون له أحدا؟)) قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله فتغيظ عليه فقال: ((علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت، اغتسل له)) ، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه ودخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته. رواه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه وهو في صحيح الجامع (3908).
عباد الله، وإذا كان التبريك سببا واقيا بإذن الله من وقوع العين فإن اغتسال العائن ووضوءه بماء يصب على المعين شفاء له بإذن الله كما سمعتم في قصة سهل بن حنيف وعامر بن ربيعة رضي الله عنهما، وهو مفسر لقوله : ((وإذا استغسلتم فاغتسلوا)) رواه مسلم. ولذا فينبغي للمسلم أن لا يمتنع عن الاغتسال إذا اتهمه أهل المعين، أو أحسّ هو من نفسه أنه عان أحدا من المسلمين.
أيها المسلمون، وثمة وقاية من العين بإذن الله يغفل عنها كثير من الناس، ألا وهي ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه، فقد ذكر البغوي في شرح السنة أن عثمان رضي الله عنه رأى صبيا مليحا، فقال: (دسموا نونته كيلا تصيبه العين). ثم شرحه بقوله: "ومعنى (دسموا) أي: سودوا، والنونة: الثقبة أو النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير".
إخوة الإيمان، ويبقى بعد ذلك أمران مهمان يحسن التنبية إليهما حين الحديث عن العين:
الأول منهما: أن لا تكثر من التطير والتشاؤم، وأن تحسن الظن بالله، وتقوي جانب التوكل عليه، وأن يلازمنا الفأل الحسن، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعجبه الفأل، ونهى عن الطيرة فقال: ((الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
ثانيا: أن لا ننسى حظوظ النفس وآثار المعاصي في وقوع المصائب والكوارث لبني الإنسان، فكثير من الناس إذا وقع لهم مرض أو أتته مصيبة عزاه للعين مباشرة دون أن يتّهم نفسه أو يفتش في أحواله وعلاقته بربه.
صحيح أن العين حق وقد سبق البيان، ولا يماري في ذلك مسلم يؤمن بنصوص الكتاب والسنة، ولا عاقل يرى أثر العين رأي العين، ولكن الذي ينبغي أن لا ينسى أن للذنوب أثرا في وقوع المصائب، كيف لا والحق تبارك وتعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ الشورى: 30 ]؟! قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال النبي : ((وما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب، ولما يعفو الله عنه أكثر)). وقال عكرمة: "ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها، أو لينال درجة لم يكن ليوصله إليها إلا بها " تفسير القرطبي (16/31).
ويقول تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123]. روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله : ((قاربوا وسدّدوا، ففي كل ما يصاب به الإنسان كفارة، حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشوكها)) رواه مسلم (2574). قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد (23/26) : "الذنوب تكفرها المصائب والآلام والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه".
أيها المسلمون، ولا يقف الأمر في المصائب التي يبتلي الله بها عباده عند حدود تكفير السيئات، بل فيها زيادة حسنات ورفعة درجات، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عن خطيئته، وكتب له حسنة، ورفع له درجة)) أخرجه الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وأقره الذهبي وحسن سنده المنذري وغيره.
ألا فاحتسبوا ما يقدر الله عليكم من المصائب والأسقام، واستغفروا ربّكم واشكروه، ولا تحيلوا كل شيء للعين وإن كانت العين حقا.
عصمني الله وإياكم من الذنوب والآثام، وعافانا والمسلمين من كيد الفجار وحسد الحساد...
(1/21)
أولئك هم العادون
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
الزنا من أفحش الفواحش , وهو قرين الشرك - عقوبته وأثره على الأفراد والأمم -
التدابير التي سنَّتها الشريعة للوقاية من الزنا
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فياأيها المؤمنون: قضت سنة الله سبحانه وتعالى وتبارك أن الأمم لا تفنى، والقوى لا تضعف إلا حين تسقط الهمم وتستسلم الشعوب لشهواتها فتتحول أهدافها من مثل عليا إلى شهوات دنيئة، فتسود فيها الرذائل، وتنتشر فيها الفواحش، بل تفتك بها الأمراض الخبيثة، فلا تلبث أن تتلاشى وتضمحل وتذهب ريحها ويحق عليها قول الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ?لْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
أيها المسلمون: إن من أفحش الفواحش وأحط القاذورات جريمة الزنا. حرمه ربكم، وجعله قريناً للشرك في سفالة المنزلة وفي العقوبة والجزاء. يقول عز من قائل: ?لزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ?لزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذ?لِكَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:3].
ويقول في الجزاء والعقوبة: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:68-69].
وما ذلك إلا لأنه من أقبح القبائح؛ يبدد الأموال، وينتهك الأعراض، ويقتل الذرية، ويهلك الحرث والنسل. عاره يهدم البيوت، ويطأطئ عالي الرؤوس، يسود الوجوه البيضاء، ويخرس ألسنة البلغاء، ويهبط بالعزيز إلى هاوية من الذل والحقارة والازدراء، هاوية مالها من قرار. ينزع ثوب الجاه مهما اتسع، ويخفض عالي الذكر مهما علا.
إنه لطخة سوداء إذا لحقت بتاريخ أسرة غمرت كل صحائفها النقية. إنه شين لا يقتصر تلويثه على من قارفه؛ بل يشين أفراد الأسرة كلها، ويقضي على مستقبلها جميعها. إنه العار الذي يطول حتى تتناقله الأجيال جيلا بعد جيل. بانتشاره تغلق أبواب الحلال، ويكثر اللقطاء، وتنشأ طبقات بلا هوية، طبقات شاذة حاقدة على المجتمع، لا تعرف العطف ولا العلاقات الأسرية فيعم الفساد، ويتعرض المجتمع للسقوط.
أليس يجمع خلال الشر كلها من الغدر والكذب والخيانة؟ أليس ينزع الحياء، ويذهب الورع والمروءة، ويطمس نور القلب، ويجلب غضب الرب.
إن مفسدته منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الأبضاع، وصيانة الحرمات، والحفاظ على روابط الأسر، وتماسك المجتمع.
يا أصحاب الغيرة : من أجل أن يزداد الأمر وضوحا تأملوا الفرق بين السفاح والنكاح.
السفاح متعة حيوانية بهيمية، وقضاء شهوة وقتية، اختلاس وخداع، وهروب من المسئولية، بل امتهان لكرامة الإنسان ذكرا كان أو انثى. إن الزاني والزانية لا يعنيهما إلا قضاء مآربهما الساقطة، بل كل واحد منهما يجعل الآخر قنطرة ومعبرا لهذه المآرب. إنه لقاء حيواني بحت لا غرض منه إلا قضاء الوطر المنحط.
أما النكاح فهو شهامة وعزيمة وكرامة معلنة، تحمل للمسؤولية، والتزام بالحقوق والواجبات، إنشاء وتعمير، وإصلاح وتربية وتوجيه للطاقات. بل إنه من أفضل ما يتقرب به إلى الله سبحانه حين تحسن النوايا وتصح المقاصد.
أيها الإخوة في الله: إن التقدير لحمى ذمار الأهل يفرض الإهتمام بالحرمات. لا بد من تقوى الله عز وجل ومراقبته. لا بد من الأخذ على أيدي السفهاء؛ لقد نهى الله عباده المؤمنين بالله واليوم الاخر أن تأخذهم بالزناة والزواني رأفة في دين الله وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:2].
مستحل الزنا في الإسلام كافر خارج من الدين، والواقع فيه من غير استحلال فاسق أثيم، يرجم إن كان محصنا، ويجلد ويغرب إن كان غير محصن.
بل لقد نفى النبي الإيمان عن الزاني في أكثر من حديث.
ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) [1].
وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي واللفظ له عن أنس رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان فإن تاب رد عليه)) [2].
وفي المقابل أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر: لا بد من إسكات هذه الأبواق المضللة التي تسعى في نشر هذا السقوط الاجتماعي، بل تزعم أنه خلق التحضر والارتقاء وتسميه بغير اسمه، ونبيكم سماها قاذورات، فلا يسطو على الأعراض إلا مجرم أثيم.. ساقط المروءة؛ يخرب بيته وبيوت المؤمنين. لا بد من حماية أبناء المسلمين مما يبتذل في أسواقهم ووسائل إعلامهم من الأغاني الماجنة، والصور الفاضحة، والقصص الساقطة، والأفلام الهابطة.
ماذا يريد المبطلون من هذه الاغراءات؟.
إن عذاب الله شديد. ألم يتبين لدى كل مطلع أن الزنا يعرض صاحبه بل يعرض المجتمع كله للإصابة بالأمراض السرية القاتلة كالزهري والسيلان؟ وما أمراض العصر الشهيرة من مرض الإيدز ومرض الهربس إلا وليدة هذه القاذورات.
اسمعوا إلى حديث المصطفى فيما أخرجه ابن ماجه وغيره من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن وذكر منها: ولم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم)) [3]. ماذا بعد هذا أيها المسلمون؟ فنسأل الله السلامة والعافية.
أما عذاب الآخرة فأشد وأبقى، عذاب تذهل له النفوس، وتتقطع له الأفئدة.
جاء في صحيح البخاري وغيره عن سمرة بن جندب رضي الله عنه في حديث طويل في خبر منام النبي أن جبريل وميكائيل جاءاه قال: ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع فيه لغط وأصوات قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة ف إ ذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا - أي صاحوا من شدة الحر - فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني؛ فهذا عذابهم إلى يوم القيامة)) [4].
وقد جاء من غير طريق عن النبي أنه قال: ((إن ريح فروج الزناة والزواني يؤذي أهل النار شدة نتنها)) [5].
وفي حديث عند أحمد وأبي يعلى وابن حبان في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: ((إذا مات مدمن الخمر سقاه الله جل وعلا من نهر الغوطة، قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات - يعني البغايا - يؤذي أهل النار ريح فروجهم)) [6]. فأهل النار يعذبون بنتن ريح الزناة.
فاتقوا الله يا أمة الإسلام، وقفوا عند مسئولياتكم، خذوا على أيدي السفهاء تنجوا وتنج سفينتكم.
الزوج مسئول، والأم مسئولة، والأب مسئول، وولي الأمر مسئول، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. اطلبوا النجاة لأنفسكم وأولادكم وإخوانكم وكل من تحت مسئوليتكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [ الإسراء:32]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد ، وهدانا صراطه المستقيم، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري (5/143-ح2475)، ومسلم (1/76-ح57).
[2] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/352-ح5366)، وأشار الألباني إلى ضعفه. انظر ضعيف الجامع (7978).
[3] رواه ابن ماجه (2/1332،1333-ح4019)، وقال البوصيري في الزوائد : هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه، والحاكم (4/540)وقال : صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وعلى هذا فالحديث حسن إن شاء الله.
[4] أخرجه البخاري (12/457،458-ح4047)، وأحمد (5/8).
[5] أخرجه البزار مرفوعاً وموقوفاً، وقال الهيثمي: في اسناديهما صالح بن حيان وهو ضعيف. انظر مجمع الزوائد (6/255).
[6] أخرجه أحمد (4/399)،وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات. انظر مجمع الزوائد (5/74)، وأخرجه الحاكم (4/146) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أهل الحمد ومستحقه لا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الشريعة المطهرة قد أوصدت الأبواب أمام هذه الجريمة النكراء، والرذيلة الشنعاء.
فأول الحواجز وأولاها: الإيمان بالله واليوم الآخر، والخوف من عذابه والرجاء في رحمته.
ثم غض البصر من المؤمن والمؤمنة من أقوى هذه الحواجز، فالنظرة سهم من سهام إبليس، ومن غض بصره أورث الله قلبه حلاوة العبادة إلى يوم القيامة كما ورد في الحديث. وكما يشير إليه قوله سبحانه بعد الأمر بغض البصر: ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ [النور:30].
وأمرت المؤمنات بالحجاب والبعد عن موارد الفتن ومواطن الريب، فلا زينة ولا تعطر ولا إلانة في القول فيطمع الذي في قلبه مرض، ولبس اللباس المحتشم السابغ خير ما يكرم المؤمنة ويحميها من أن تصيبها نظرات ضعاف النفوس.
والخلوة بالمرأة الأجنبية لا تجوز، فذلك من أعظم دواعي الإغراء بالفحشاء. فما خلا رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان.
وفي الحديث الصحيح: ((إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)) [1]. والحمو هو قريب الزوج. ولا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم، فإنها إن فعلت افترستها ذئاب البشر رغبة أو رهبة.
وقبل ذلك وبعده أيها المسلمون لا بد من تيسير أمر الزواج: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) [2].
[1] أخرجه البخاري (9/242-ح5232)، ومسلم (4/1711-ح2172).
[2] أخرجه الترمذي(3/395-ح1085)وقال : حديث حسن غريب، وابن ماجه (1/633-ح1967)، والحاكم (2/164،165)، والحديث حسن بمجموع طرقه.
(1/22)
أثر القرآن الكريم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
سليمان بن حمد العودة
بريدة
8/6/1412
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن الكريم معجزة رسول الإسلام الخالدة 2- تحدي العرب أن يأتوا بمثل القرآن أو
بعضه 3- القرآن يهز أعماق رؤوس الشرك في مكة 4- الجن والملائكة يستمعون القرآن
5- توبة الفضيل لسماعه بعض القرآن 6- أثر القرآن في الصحابة الكرام 7- فضل قراءة
القرآن وفضل بعض سوره
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد
فاتقوا الله معاشر المسلمين ، وتمسكوا بحبله المتين ، واستقيموا على صراطه المستقيم.
ألا وإن القلوب تصدأ، وجلاؤها القرآن الكريم ، والقرآن هو النبع الحقيقى الذى لا ينضب ، وهو الدستور الذى يحق للامة المسلمة أن تفاخر به فى الوقت الذى تساق فيه الأمم والشعوب الأخرى سوقا إلى الدساتير الوضعية والقوانين البشرية.
القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لهذا الدين ، وهو الكتاب الحكم الذى أنزل على النبي الكريم، وإذا كان الأنبياء السابقون عليهم السلام قد اوتوا من المعجزات ما آمن عليه البشر فى وقتهم ثم انتهت هذه المعجزات بموتهم وفناء أقوامهم ، فإن الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم ظل وسيظل معجزة يدركها اللاحقون بعد السابقين ، ويراها المتأخرون كما رأها المتقدمون....
وتلك وربي معجزة تتناسب وطبيعة هذا الدين الذى أراد الله له أن يكون آخر الأديان ، وتتناسب مع القرآن الذى اراد الله أن يكون اخر كتاب ينزل من السماء ، يقول النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك كله (( ما في الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )) (2).
و لما كان العرب أرباب الفصاحة والحوار والمفاخرة.. نزل القرآن ليتحداهم جميعا ، إنسهم ، وجهنم قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً [م1].
وفوق ذلك فقد استطاع القرآن الكريم أن يخترق قلوبهم وهم بعد على الكفر والضلال ، ومازال يؤثر فيها حتى قاد أصحابها إلى الهدى والايمان ، يقول جبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي رضي الله عنه وكان من أكابر قريش وعلماء النسب فيها : قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ( وذلك فى وفد أسارى بدر ) وسمعته يقرأ فى المغرب بالطور ، فلما بلغ الآية أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون. كاد قلبي يطير (( كما روى ذلك الشيخان في صحيحيهما )) (1).
وفى رواية ((كان ذلك أول من دخل الإيمان في قلبي)) وإن كان قد تأخر إسلامه إلى ما بين الحديبية والفتح (2) ).
وقبل خيبر كانت قصة عتبة بين ربيعة ، وهى مشهورة ، وإسنادها حسن ، وخلاصتها أن قريش بعد ما رأت انتشار الإسلام اختارت أحسن رجالاتها ليكلم النبى صلى الله عليه وسلم ، فجاء أبو وليد عتبة بن ربيعة ، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ، وهو منصت له ، فلما فرغ قال : ((أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ، قال: أنصت ، فقرأ عليه مطلع سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم)) ، ورجع إلى أهله ، واحتبس عن قريش فترة.
وفي بعض الروايات أنه جاء إليهم. فقال بعضهم لبعض : نُقسم ، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك ؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني وإجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر عليهم، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا : سحرك يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم (3).
وكان للقرآن أثره البالغ على أفئدة قساوسة النصارى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (4) [المائدة:.
بل تأثر مردة الجان الذين كانوا قبل نزوله يسترقون السمع ، فقالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً (5).
وأخرج الحاكم وغيره بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : هبطوا - يعنى الجن - على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قال أنصتوا قالوا: صه !وكانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، فأنزل الله عز وجل : وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين [الأحقاف:29-32].
وإذا كان هذا منطق الجن اتجاه القرآن فللملائكة كذلك شأن مع القرآن الكريم ، فقد أخرج البخارى ومسلم فى صحيحيهما واللفظ للبخاري عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال : بينما هو يقرأ القرآن من الليل سورة البقرة ، وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس ، فسكت فسكتت الفرس ، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف ، وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه ، فلما اجتروا - يعني ولده حتى لا تطأه الفرس - رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : ((أقرأ يا ابن حضير. أقرأ يا ابن حضير ، قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح ، فخرجت حتى أراها قال : وتدرى ما ذاك ؟ قال : لا ، قال : تلك الملائكة دنت لصوتك ولو أنك قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم (2) )).
وفى صحيح مسلم - أيضا - عن البراء قال : ((كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين (والشطن : الحبل الطويل المضطرب) ، وإنما ربطه بشطنين لقوته وشدته فتغشته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال : تلك السكينة تنزلت للقرآن (3) )).
إخوة الإيمان : وكذلك يكون أثر القرآن حين يتلى ، وليس بمستغرب أن يحول القرآن قلوب اللصوص المجرمين إلى قلوب علماء متميزين ، وعباد صالحين.
والفضيل بن عياض العالم العابد - عليه رحمة الله - نموذج واضح لما أقول، وقد حكى الذهبى فى سير أعلام النبلاء قصة توبته وتأثره بالقرآن فقال: كان الفضيل بن عياض شاطرا ، ( يقطع الطريق ) بين أبيورد وسرجس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية ، فبينما هو يرتقى الجدران إليها إذ سمع تاليا يتلو ألم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله.. الآية (1) فلما سمعها قال : بلى يا رب، قد آن، فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة (أي مسافرون) فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل فى المعاصي وقوم من المسلمين هنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام. (2)
رحم الله الفضيل حجة زمانه، وعابد دهره، وأورع الناس من حوله.. وأكرم وأعظم بهذا الكتاب الذى أحيا أمة بعد أن كانت فى عداد الموتى.
وصدق الله وهو أصدق القائلين لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون (3)
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.. وألان قلوبنا وفقهها لمحكم ترتيله.. أقول هذا وأستغفر الله.
(2)د الحديث اخرجه مسلم ج1 / 134.
(1) البخارى ( مع الفتح 8 / 603 ، ومسلم 1 / 338 ، الإصابة 2 / 65 ، 66 ).
(2) ( الإصابة 2 / 66 ).
(3) تفسير ابن كثير 7 / 151 ، 152.
(4) المائدة / 83.
(5) الجن / 1.
(2) الفتح 9 / 61 ، مسلم 1 / 5548.
(3) مسلم 1 / 547 ، 548.
(1) الحديد / 16.
(2) السير 8 / 373.
(3) الحشر / 21.
[م1]
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فى ربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء.
أيها المسلمون: ولأثر القرآن على النفوس خشي المشركون على أبنائهم أن يتأثروا به حين يسمعونه من المسلمين الخاشعين لتلاوته.
وقصة أبى بكر رضى الله عنه مع ابن الدغنة تكشف عن هذا ، وذلك حين خرج أبو بكر مع من خرج يريد الهجرة إلى الحبشة فلقيه ( ابن الدغنة ) فقال : مثلك لا يَخرج ولا يُخرج يا أبا بكر وأنا جار لك، ثم جاء ابن الدغنة إلى قريش فى ناديها وأعلن جواره له، فلم تكذبه قريش لكن قالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه فى داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا فى ذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نسائنا وأبنائنا، فقال ذلك لأبي بكر، فمكث فترة كذلك، ثم بدا لأبى بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف ( يجتمع ) عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه، وينظرون إليه - وكان أبو بكر رجلا بكاء لايملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة يشتكون أبا بكر إليه ، ويقولون إنا خشينا أن يفتن نسائنا وأبنائنا فانهه.... الخ القصة التي رواها البخاري في الصحيح (1).
إذا كان أثر القرآن وهو غيض من فيض، وقليل من كثير، فالسؤال هنا الذى يجب أن نسأله أنفسنا : ما هو أثر القرآن علينا نحن المسلمين فى هذه الأزمة ؟ وقبل هذا السؤال سؤال آخر: ما هو نصيبنا من قراءة القرآن ؟ وما حظنا من الخشوع والتدبر حين يتلى القرآن ؟.
إن واقع كثير من المسلمين اليوم واقع مر ، يرثي له مع الأسف الشديد، فالمصاحف تشكو من تراكم الغبار عليها ، والهجر أصبح ديدن المسلمين إلا من رحم الله، البضاعة من كتاب الله مزجاة، ويرحم الله زمانا كان الشيخ الكبير يأتي إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويقول : ((أقرئني يا رسول الله ؟ قال له : أقرأ ثلاثا من ذات (الر). فقال الرجل :كبرت سنا واشتد قلبي وغلظ لساني ، قال : فاقرأ من ذات (حم) فقال مثل مقالته الأولى، فقال: أقرأ ثلاثا من المسبحات، فقال مثل مقالته، فقال الرجل: ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة، فأقرأه إذا زلزلت الأرض حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والذى بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدا، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح الرويجل، أفلح الرويجل (1) ))..
وإذا كان فضل سورة (الزلزلة) هذا، فما بال من تتوفر لهم الأداة لقراءة القرآن كله، ويتوفر لهم من النشاط والقوة ما يمكنهم من إعادة قراءة القرآن مرة تلو المرة؟ اللهم لاتحرمنا فضلك، ولا تصدنا بسبب ضعف نفوسنا وغلبة شهواتنا عن كتابك.
إخوة الإسلام: هل نسينا أن الحسنة بعشرة أمثالها وأن (الم) فيها ثلاثة أحرف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)).. فكيف سيكون تعداد الحروف فى الصفحة الواحدة ، وكم سيكون عدد الحسنات فيها؟
ألا إن فضل الله واسع: ولكن هل من ساع إلى الخير جهده؟ أليس من اللائق بك أخي المسلم أن تبكر فى المجيء إلى الصلوات الخمس لتحظى بقراءة قسط من القرآن وتحصل على رصيد كبير من الحسنات، فإن أبيت، بكرت فيما تستطيع التبكير منها، فإن تكاسلت أليس يجدر بك أن تبكر يوم الجمعة لتقرأ ما تيسر من القرآن، وخاصة سورة الكهف التى أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن ((من قرأها يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدميه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين)) (2).
أيها المسلمون: صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) الفتح 6 / 230 ، 231.
(1) الحديث رواه أحمد والحاكم وأبو داود وغيرهم بإسناد صحيح. ( المسند 10 / 8 ح 6575 ).
(2) حديث صحيح أخرجه الحاكم وغيره. زاد المعاد 1 / 277.
(1/23)
الولاء والبراء
الإيمان
الولاء والبراء
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - حاجتنا إلى عقيدة الولاء والبراء
2 - علامات محبة الله
3 - اصناف موافقة الكافرين
4 - العمالة الكافرة في بلادنا
5 - من موالاة الكفار السفر إلى بلادهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى لتكونوا من اولياء الله الذين يقول الله فيهم: الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين امنوا وكانوا يتقون (2)
عباد الله!
ومن تقوى الله فعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه.
ألا وإن مما أمر الله به موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين وهذا هو الولاء والبراء وهو أصل الإسلام ومظهر إخلاص المحبة لله ثم لأنبيائه وللمؤمنين.
والبراء مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله وهذا أصل من أصول الإيمان وهو هام فى الوقت الحاضر لأنه اختلط الكفار بالمسلمين وغفل الناس عن مميزات المؤمنين التى ميزهم الله بها وحطوا من قدرهم وساموهم سوء العذاب وسافر كثير من المسلمين الى الكفار فى عقر دراهم وساكنوهم وخالطوهم وهذا نتيجة لضعف هذا الأصل العظيم الذى هو أصل الولاء والبراء.
عباد الله!
الولاء معناه المحبة والنصرة والإكرام وأن نكون مع المؤمنين ظاهرا وباطنا.
قال تعالى: الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات (1).
والبراء معناه: البعد والخلاص والعداوة بعد الأعذار والإنذار.
عباد الله!
وإن كان أصل الولاء المحبة فإن أول من يحب هو الله سبحانه وتعالى لأنه المحسن المنعم
ومحبة الله تعالى تقتضى أموراً ولها علامات فليس كل من ادعى محبة الله يكون صادقا فى دعواه حتى تدل على ذلك الأدلة، وتشهد له الشواهد.
وأول هذه العلامات: متابعة الرسول فمن كان يحب الله عز وجل فليتابع رسوله فيما جاء به.
ولهذا لما ادعى اليهود أنهم يحبون الله عز وجل امتحنهم بهذه الآية قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (2)
ومن علامات محبة الله أن يقدم العبد ما يحبه الله على ما يحبه هو فإذا تعارضت محبة الله مع محبة العبد فان العبد يقدم ما يحبه الله على ما تحبه نفسه.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسول وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين (1)
ومن علامات محبة الله: أن يحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص ويكره ما يكرهه الله من الأعمال والأشخاص.
فالله تعالى يحب المؤمنين الصالحين فإذا كان الإنسان يحبهم فهو يحب الله عز وجل.
والله تعالى أمر بموالاة أوليائه ومعادة أعدائه فى آيات كثيرة قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً (2).
هذا نداء من الله تعالى لعباده المؤمنين أن لا يتخذوا الكافرين أولياء بأى نوع من أنواع الولاية؛ لا بالمحبة؛ ولا بالمناصرة، ولا بالميل إليهم؛ لأنهم أعداء الله ورسوله وإذا كانوا أعداء لله ولرسوله وجب علينا ان ننابذهم العداء.
وقال تعالى بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا (1).
فالله جل وعلا أخبرنا أن موالاة الكفار من صفات المنافقين.
عباد الله!
إعلموا أن موافقة الكفار على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: ان يوافقهم فى الظاهر والباطن وهذا كفر صريح.
الثانى: أن يوافقهم فى الباطن دون الظاهر وهذا شان المنافقين الذين هم فى الدرك الاسفل من النار.
الثالث: أن يوافقهم فى الظاهر دون الباطن، وهذا على نوعين:
الأول: أن يوافقهم فى الظاهر وهو يبغضهم فى الباطن بدافع الإكراه للتخلص من الأذى كما في حديث عمار بن ياسر، حينما أخذه المشركون فلم يتركوه حتى سب النبى وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما اتى رسول الله قال: ((ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله! ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالايمان. قال: إن عادوا، فعد)) (2).
الثانى: أن يوافقهم فى الظاهر بدون إكراه لطمع دنيوى أو لغرض من الأغراض فالذى يعمل هذا قد والى الكفار وارتكب أمراً عظيما.
عباد الله!
ومن مظاهر موالاة الكفار استقدام الكفار للعمل فى بلاد المسلمين.
وأقول بكل أسى: كم فى بلادنا اليوم من ديانة غير الإسلام؟!
وانظروا إلى أولئك القطعان من تلك الرعايا ممن يجوبون الشوارع في أيام العطل الرسمية من غير المسلمين من يهود ونصارى ووثنيين وهندوس وغيرهم!!
فهل يمكن أن نتنبه لهذا الخطر وننظر فى أصل الولاء والبراء فى أى موقع يقع منا حتى عم الاستقدام فاصبح على مستوى رعى الغنم وخياطة الثياب بل وإعداد الشاى والقهوة؟!
ويا ليتهم حينما بلينا بهم وقفوا عند العمل الذى أتوا من أجله ولكنهم جاءوا فجاء معهم الشر والدمار وخراب الديار لأنهم أتوا من أجل هدم الأخلاق لا من أجل بناء الخراب لقد حفروا نفوسنا قبل أن يحفروا أرضنا لقد نشروا فسادهم قبل نشر آلاتهم لقد شيدوا الفساد قبل تشييد المساكن.
ومن مظاهر موالاة الكفار السفر إلى بلادهم من غير عذر شرعى.
ولقد ذكر العلماء أن السفر الى بلاد الكفار لا يجوز إلا بشرطين:
الأول: أن يكون هذا السفر لمصلحة شرعية كالعلاج أو لطلب خبرات لم تكن فى بلاد المسلمين ويحتاج إليها المسلمون فيسافر ليتعلمها ثم يأتى بها إلى بلاد المسلمين ليستغنوا به عن عدوهم.
الثانى: أن يقدر على إظهار دينه فى بلاد الكفار وإظهار الدين أن يدعوا إلى الله عز وجل ويبين بطلان ما عليه الكفار.
فاذا تحقق هذان الشرطان فليسافر أما إذا فقد أحد هذين الشرطين فالسفر لا يجوز هنا.
وان بعض الناس لم يبالوا فى تحقيق هذين الشرطين فيسافر بعضهم لاجل النزهة والترفيه في بلاد الكفار ولاجل التمتع بجمال الطبيعية كما يقولون ومن عمل هذا يدل على أن عنده ولاء للكفار، وأنه يحبهم فلو كان لا يحبهم لما سافر إليهم.
وبعض الناس من ذوى الثراء يصطحبون معهم فى تلك البلاد الأسرة لتاخذ حظها من الشقاء فتخلع جلباب الحياء تخرج سافرة عارية حتى لا يرميها أولئك الكفار بالتأخر فيمكثون أياماً يعودون بعدها وقد أرضوا الشيطان وأسخطوا الرحمن ويحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون.
عباد الله !
ومن مظاهر موالاة الكفار اتخاذهم بطانة (أي: خاصة) قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ولا يألونكم خبالا (1).
والبطانة الإنسان كما يفعل بعض الناس فى اتخاذ الكفار مستشارين وأمناء سر ومديرى أعمال، سواء كان ذلك فى الأمور العامة والخاصة فالمسلمون منهيون عن أن يتخذوا الكافرين بطانة بأن يولوهم أعمالا من أعمال المسلمين يطلعون من خلالها على أسرار المسلمين وأحوالهم، ويفشون أسرارهم إلى الكفار، فالمسلمون منهيون عن ائتمانهم وقد خونهم الله ولكن الله المستعان، الاستقدام للكفار قائم على قدم وساق وإدخالهم فى بيوت المسلمين ليطلعوا على عوراتهم وخلطهم مع عوائلهم وتوليهم تربية أطفالهم.
فهذا من مظاهر موالاة الكفار فلنتق الله فى أنفسنا وفى أولادنا وفى بلادنا وفى إخواننا.
ومن مظاهر موالاتهم إظهار التعظيم لهم فى المجالس والبشاشة فى وجوههم وتلقيبهم بالألقاب التى تدل على رفعتهم كأن يقال لأحدهم سيد أو ما شابه ذلك.
فعن بريدة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله ((لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيداً فقد اسخطتم ربكم عز وجل)) (1).
فاتقوا الله عباد الله! وحكموا شرع الله فى كل أمور حياتكم واجعلوا الولاء لمن أمر الله بموالاته والبراء ممن أمر الله بالبراء منه.
واعلموا أن الأمة الإسلامية قامت بقيادة البشرية دهراً طويلاً، حيث نشرت العقيدة الإسلامية في ربوع المعمورة، وطبقت الولاء والبراء كما ينبغى، فأخرجت العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، واليوم تراجعت بعد أن هدأت في الجهاد، وهو ذروة سنام الإسلام، نسأل الله أن يعيد لأمة الإسلام مجدها.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لى ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
(2) يونس : 62.
(1) البقرة :.
(2) آل عمران : 31 ، 32.
(1) التوبة : 22 - 24.
(2) النساء : 144.
(1) النساء : 139.
(2) رواه الحاكم ، وقال : " صحيح على شرط الشيخين ".
(1) آل عمران : 118.
(1) رواه أبو داود
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد:
ايها المسلمون!
اتقوا الله تعالى حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى وتجنبوا أسباب سخط الله فان أجسامكم على النار لا تقوى.
عباد الله!
ومن مظاهر موالاة الكفار ومحبتهم: نشر أفكارهم المسمومة، وتنفيذ خططهم التى يراد منها إفساد أخلاق المسلمين وإغراق مجتمعهم بالمعاصى والمنكرات.
وفى هذه الأيام ظهرت أعناق من يوالون أفكار الكفار، فشنت بعض الصحف حملة مستميتة وأوقدت ناراً لحرب تعاليم الإسلام وتلك الحملة هى ما سموه: عمل المرآة أو الاستفادة من المرآة وزعموا أنها معطلة فى مجتمعنا فأطلقوا عليها ألقابا براقة: نصف المجتمع المعطل، والجزء الضائع، أو: الساق المبتور... ويتفننون فى اختيار العناوين حسبما يحلوا لهم، فقالوا :نريد من المرآة أن تشتغل بالصناعة وأن تعمل فى تدريس الطلبة فى المراحل الأولى من المراحل الإبتدائية للبنين.
وكعادتهم فهم يفتحون عدة ثغرات ويكثرون الدخان وهم يرضون بنتيجة واحدة، فهم الآن يدندنون حول اختلاط المرآة بالرجال ولكنهم لم يعلنوها صريحة حتى الآن لأن المرآة منذ وقت قديم وهى تعمل فى مجال تخصصها فى تدريس النساء ولكن هذا لم يناسب أعداء الاسلام فأثاروا قضية تدريس المرأة للصفوف الدنيا من المرحلة الابتدائية لتكون شرارة ثم نارا تسرى فى الهشيم فاقترحت ذلك إحدى الفتيات إن كان الاسم صحيحا ونشر ذلك الإقتراح فى جريدة الرياض فى عددها الصادر بتاريخ الثالث والعشرين من الشهر الماضى ربيع الآخرة، وأيد ذلك الإقتراح أحد الوافدين لدينا ونشر ذلك فى نفس الصحيفة يوم الثلاثاء الثالث عشر من هذا الشهر جمادى الأولى وعللوا ذلك بأن المعلمة أكثر التصاقا بالأطفال من المعلم وأيد ذلك كاتب تلك المقالة بالأدلة وبتجربته المحترمة فى مجال التدريس.
ونقول لهؤلاء: أربعوا على أنفسكم فإن ما ترمون إليه لن يتحقق بإذن الله فأنتم تريدون مشاركة المرآة للرجل فى مجال العمل وأن تخرج سافرة عارية وتكون فريسة للذئاب البشرية.
وذلك الكاتب من الوافدين يعلم ما وصلت إليه بلاده من الإنحلال ويريد لبلادنا أن تصل إلى ما وصلت إليه بلاده حتى تسلب هذه النعمة لأنه يحسدنا عليها ولو كان صادقا لحذرنا منها وانتقدها لأنه علم ما يحدث من النتائج عند اختلاط المرأة بالرجل ومع الأسف فإن هذا الوافد ينعم لدينا فى هذا البلد وأرجوا ألا تكون له صلة بالتعليم وإن كان له صلة فإنا نأمل من المسؤولين إبعاده لأنه يحمل أفكاراً مسمومة وحتى لا ينشرها بين الطلاب فمعظم النار من مستصغر الشرر.
ثم إن هؤلاء اشترطوا أن يكون تدريس المرأة للطلاب فى المراحل الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية ثم الرابعة سيقولون: إن الطفل ألف المرأة ولا يستطيع أن ينتقل إلى المرحلة الرابعة ليدرسه الذكور فجأة ونظرا لصغر سن التلاميذ في المرحلة الابتدائية فيكون التدريس فى جميع هذه المراحل الإبتدائية للمرأة ثم سيقترحون علينا ما داما أن الأمر هكذا فالطفل لا يعي شيئاً وكذلك الطفلة فى المرحلة الإبتدائية فلماذا لا نجمعهما فى مدرسة واحد؟ لأن الأطفال يلعبون معا في الشارع...... وهكذا... وهكذا لن يقف زحف العلمانيين عند حد حتى يفسدوا أخلاق المسلمين.
ونقول لهؤلاء المستأجرين: إننا لم نجعلكم أوصياء على نسائنا وأطفالنا، فاتجاهكم معلوم، وهدفكم معلوم أيضاً، فنحن - ولله الحمد - في هذه البلاد نتمتع بمكانة عظيمة عند جميع الدول بفضل الله ثم بفضل تمسكننا بالشريعة الإسلامية، وسوف تظل هذه المكانة من حسن إلى أحسن، ما دمنا متمسكين بشرع الله، ومجتمعنا المسلم يرفض هذه الاقتراحات وأصحابها كما يرفض الجسم السليم جرثومة المرض.
عباد الله!
ومن مظاهر موالاة الكفار جلب عاداتهم إلى بلاد المسلمين ونشرها بينهم.
وبمناسبة إجازة منتصف العام نظرا لكثرة مناسبات الزواج فى هذه الإجازة فإنى أنبه على أمر جلب إلينا من أعدائنا وظهرت بوادره فى هذه الأيام كما حدثنى بعض الثقات وهو ما يسمى فى عرف المجتمع التشريعة ذلك العمل أن يؤتى بالرجل وزوجته ويجلسان فى وسط النساء الحاضرات وكثير من النساء متبرجات والزوج معهن جالس فى جانب زوجته ويلبسها خاتما وتلبسه آخر والصور تلتقط لهما والزوجة كاسية عارية فاتنة فى أبهى حللها!!
وانى أتساءل كما يتساءل غيرى: كيف وصلنا الى هذه الحالة في هذه السرعة الخاطفة، إنها لمحنة عظيمة فى غمرة هذا الفرح، يحدث تصوير للزوجة وللنساء الحاضرات وهن في أبهى الحلل وأطيب الطيب!!
تصوروا عباد الله عظم الفتنة حينما تنتشر هذه الصور، ويتناقلها الناس بل يتناقلها السفهاء!!
وهل يرضى أحد أن تكون صورة ابنته أو أخته أو زوجته فى أيدى السفهاء يتناقلونها؟!هل يرضى والد الزوجة؟! هل يرضى الزوج بهذا؟! ولا تقولوا: إنها لن تخرج فستصل الى أيدى الرجال شئتم أم أبيتم.
فلا يرضى بهذا إلا رجل لا خير فيه عديم الغيرة قليل المروءة!!
أما يستحى هؤلاء من الله؟!
ولقد حدثنى أحد الثقات في هذا اليوم أنه حصل زواج منذ يومين، وداسوا فيه الحياء بالأرجل، وانتهكوا محارم الله، فالزوج بين النساء، والمرآة بجانبه كاسية عارية، وآلات التصوير حولها وأصوات النساء متعالية بالتصفيق والصراخ.
عباد الله!
أنحن نحارب الله؟!
هل الزوج يفقد رجولته ليلة الزواج حتى يجلس مع النساء؟!
أم الرجال يفقدون الغيرة حتى يسمحوا لنسائهم بالجلوس حوله؟!
أم أن والد الزوجة يفقد رجولته وقوامته على النساء ليلة الزواج؟!
فاتقوا الله عباد الله! واستعملوا نعم الله في طاعة الله، ولا تستعملوها في معاصيه، فتكون نقماً.
(1/24)
الرفق والتيسير في التعامل
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الشمائل, مكارم الأخلاق
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
من صفاته صلى الله عليه وسلم الرحمة والسهولة والرفق في جميع أحواله وأشدها -
موقف نوح من قومه , وموسى وهارون من فرعون - ماذا يجب على أصحاب المسؤوليات
والولايات في تعاملهم مع مرءوسيهم - فضل العفو وكظم الغيظ - والإحسان - خطورة قسوة
القلب وغِِِلَظه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: بعث الله نبيه محمدا رحمة وهدى، وسع خلقه الناس سهولة ورفقا، ونضحت يداه بالعطايا كرما وجودا، أبرهم قلبا، وأصدقهم لهجة، وأقربهم رحما.
وإن من أخص خصائصه وأكرم سجاياه.. أن لازمته تلك الفضائل الزاكية والأخلاق العالية في أشد الأوقات وأحلك الظروف. شج رأسه وكسرت رباعيته في غزوة أحد فقيل له في هذا الحال العصيب: ألا تدعوا على المشركين؟ فما هو إلا أن تدفق رفقه، وطغت رحمته. وفاضت طبيعته العالية، وسجيته الكريمة بما يلتمس فيه العذر لهؤلاء فكان مما قال: ((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون)) ( [i] ). وفي مقام آخر: ((إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانا)) ( [ii] ) وصدق الله العظيم: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء:107].
أيها المسلمون: إنها القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة عن التعقل والحلم. إنها إلى العفو الصفح أقرب منها إلى الانتقام والبطش.
ها هو نوح عليه السلام - أبو الأنبياء - يقول في مجادلته لقومه: يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون [الاعراف:61-63].
إنه جواب ملؤه الرحمة والشفقة، والصدق في النصح، واللطف في الخطاب.
وليس بعد طغيان فرعون من طغيان وقد قال الله لموسى وهارون عليهما السلام: اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى [طه:43-44].
أيها الإخوة في الله: إن الرجل العظيم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال.. اتسع صدره، وامتد حلمه، وتطلب للناس الأعذار، والتمس لأغلاطهم المسوغات. وأخذهم بالأرفق من حالهم. أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بال أعرابي في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله : ((دعوه لا تزرموه ( [iii] ) ، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء - أي دلوا من ماء- فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين وسكنوا ولا تنفروا)) ( [iv] ) زاد الترمذي: ثم قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال له النبي : ((لقد تحجرت واسعا)) ( [v] ).
أولئك هم رسل الله عليهم الصلاة والسلام عنوان الرحمة والشفقة والقدوة في الصفح والمغفرة.
إن حقا على المسلمين أن يستصحبوا الرفق واللين في الأمر كله من غير مداهنة ولا مجاملة. ومن غير غمط ولا ظلم.
إن على الأب الشفيق والأم الرؤوم، وإن على الأزواج وأصحاب المسئوليات أن يرفقوا بمن تحت أيديهم، لا يأخذون إلا بحق، ولا يدفعون إلا بالحسنى، ولا يأمرون إلا بما يستطاع: لا يكلف الله نفساً الا ما ءاتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً [الطلاق:7].
ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، بذلك صحت الأخبار عن الصادق المصدوق.
أمة الرحمة والهدى: إن العقل والحكمة والمعرفة بطبائع الأمور تقتضي تقبل الميسور من أخلاق الناس، والرضا بالظاهر من أحوالهم، وعدم التقصي على سرائرهم، أو تتبع دخائلهم، كما تقتضي قبول أعذارهم، والغض عن هفواتهم، وحملهم على السلامة وحسن النية. إذا وقعت هفوة أو حصلت زلة فليس من الأدب وليس من الخلق الحسن المسارعة إلى هتكها والتعجل في كشفها فضلا عن التحدث بها وإفشائها.
بل لقد قيل: اجتهدوا في ستر العصاة فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الاسلام.
كيف يسوغ لمسلم أن يتشاغل بالبحث عن العيوب ورجم الناس بها ؟ بل لعله قد يخفي ما يعلم من صالح القول والعمل.
هل وظيفة المسلم أن يلوك أخطاء الناس ويتتبع عثراتهم، ويعمى أن يرى حسناتهم، وكأنه لا يعرف ولا يرى إلا كفة السيئات؟ أليس في عيوبه ما يشغله عن عيوب الناس ؟!.
أيها المؤمنون: إن المسلم الناصح شفوق بإخوانه، رفيق بهم، يحب لهم الخير كما يحبه لنفسه، ويجتهد لهم في النصح كما يجتهد لنفسه.
أما الفظ القاسي صاحب القلب الغليظ.. فقد قضت سنة الله.. نفرة الناس منه، فلا تقبل منه دعوة، ولا يسمع منه توجيه، ولا يرتاح له جليس فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم [آل عمران:159].
وعلى قدر ما يمسك الإنسان نفسه، ويكظم غيظه، ويملك لسانه تعظم منزلته عند الله وعند الناس.
وعلى قدر ما يتجاوز عن الهفوات، ويقيل من العثرات.. تدوم مودته ويأنس الناس به. إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم. يسعهم منكم بسط المحيا وطلاقة الوجه.
إن المخلص في المودة الصادق في المحبة لا يري لنفسه فضلا على غيره، ولا يكون عونا للشيطان على صاحبه. روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه مر على رجل قد أصاب ذنبا والناس يسبونه فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب - أي في بئر- ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم.
فاتقوا الله رحمكم الله وأجلوا أقرانكم، واحترموا زملاءكم وارحموا إخوانكم. واعرفوا لأهل الفضل فضلهم، وغضوا عن المقصرين، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وتودد إليها. فاعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [فصلت:34-36].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
( [i] ) أ خرجه البخاري (6/593-ح3477)، وابن حبان في صحيحه انظر الاحسان (3/254-ح973)، والطبراني في الكبير (6/120-ح5694) وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح انظر المجمع (6/117) وله شاهد من حديث ابن مسعود عند احمد (1/380،427).
( [ii] ) أ خرجه مسلم (4/2007-ح9952).
( [iii] ) لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله.
( [iv] ) أخرجه البخاري (10/541-ح6128)، ومسلم (1/236،237-ح284،285).
( [v] ) أ خرجه البخاري (10/452-ح6010)، وأبو داود (1/103-ح380)، والترمذي (1/276-ح147).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جعل لكل شيء قدرا، وأحاط بكل شيء خبرا، وأسبل على خلقه بلطفه رحمة وسترا. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن القسوة في القلوب، والغلظ في الأخلاق قد تكون في الإنسان دليلا على نقص كبير، كما أنها في تاريخ الأمم قد تكون علائم فساد خطير. فلا عجب أن قد حذر منها القرآن الكريم واعتبرها علة الفسق عن أمر الله، وسر الشرود عن صراطه المستقيم يقول سبحانه: ألم يأن للذين ءامنوا آن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [الحديد:16].
أما إذا زاد الإيمان في القلب وعمرت النفس بذكر الله.. ازدادت السماحة وازداد الحلم، واتسع الصدر للناس، فلا يقابل الجاهل بمثل جهله ولكنه قول سلام وإعراض عن اللغو: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [القصص:55].
فاتقوا الله ربكم وخذوا بأحسن الأخلاق، وأخلصوا في القول والعمل، وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
(1/25)
تحريم التشبه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, الولاء والبراء
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - خطر التشبه بأعداء الإسلام
2 - التشبه يؤدي إلى المحبة والألفة
3 - الإحتفال بالأعياد المحدثة
4 - صور في التشبه بالكفار
5 - التخنث في الإعلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه لا عز لنا ولا فلاح ولا نجاح إلا باتباع صراط الله المستقيم.
قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [الأنعام:153].
واتباع الرسول فيما جاء به هو الوسيلة إلى الوصول إلى الصراط المستقيم، الذي لا يزيغ عنه إلا هالك مريض.
عباد الله!
لقد انتشر في زماننا هذا أمراض غريبة، جرف سيلها أكثر الناس، لا أقول: إنها أمراض جسمية؛ فتلك أخف، بل هي أمراض فكرية، والأمراض الفكرية أشد فتكاً من الأمراض الجسمية.
ألا وإن من تلك الأمراض: مرض التشبه بأعداء الإسلام.
والتشبه بالأعداء محرم؛ فعن ابن عمر، عن النبي ؛ أنه قال: ((من تشبه بقوم؛ فهو منهم)) (1).
فالتشبه بالكفار تنكر للإسلام، واستبدال لتعاليمه بغيره، وكفى بذلك إثماً.
فالمسلم الذي يتشبه بالكفار بأي نوع من أنواع التشبه الظاهر في لباسه أو عاداته أو حركاته؛ فإن ذلك يدل على أن لديه شعوراً باطنياً بمودة من يتشبه به؛ فإن التشبه إنما يصور عن إعجاب وإحساس بتفوق الآخرين عليه.
قال ابن القيم رحمه الله: (لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب أو نحو ذلك؛ لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً ما لا يألفون غيرهم، فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة؛ فكيف بالمشابهة في أمور دينية! فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة تنافي الإيمان).
والنهي عن التشبه بالكفار يعم كل ما هو من سمات الكفار؛ فالمسلم منهي عن التشبه بما عليه الأمم الأخرى من حوله من عبادات وأعمال وعادات ضارة وأخلاق فاسدة.
ومما نهي عنه التشبه بالكفار في أعيادهم، ومسألة الأعياد والاحتفالات البدعية من أشد وأخطر ما تساهل فيه المسلمون بعد القرون الفاضلة؛ فقد سارع كثير منهم إلى التشبه بالأمم الأخرى في أعيادها واحتفالاتها، فأحدث بعضهم بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وتلك الأعياد الوطنية والقومية التي تزداد يوماً بعد يوم بين المسلمين، وغيرها من الأغلال والآصار التي ابتليت بها الأمة الإسلامية، ما أنزل الله بها من سلطان؛ فالله سبحانه وتعالى لم يشرع للمسلمين سوى عيدين، هما عيد الأضحى، وعيد الفطر، ومسألة الأعياد من المسائل الشرعية التعبدية التي لا يجوز الابتداع فيها ولا الزيادة ولا النقص؛ فلا يجوز إحداث أعياد غير ما شرع الله ورسوله.
قال ابن القيم: فكل اجتماع عام يحدثه الناس ويعتادونه في زمن معين أو مكان معين أو هما معاً؛ فإنه عيد، كما أن كل أثر من الآثار القديمة أو الجديدة يحييه الناس ويرتادونه؛ فإنه يكون عيداً، وذلك كأسواق الجاهلية وآثارها وأوثانها؛ فقد كان للناس قبل الإسلام أعياد زمانية ومكانية كثيرة، وكلها حرمها الإسلام وأماتها، وشرع للمسلمين عيدين فقط.
فإذا عرفنا ذلك وعرفنا أن ما شاع بين المسلمين من أعياد واحتفالات لم يكن يفعله الرسول بل نهى عنه، ولم يكن الصحابة ولا التابعون يفعلون ذلك، بل كانوا ينهون ويحذرون من الوقوع فيه؛ فهذا يكفي للحكم على هذه الأعياد والاحتفالات المحدثة بأنها دسيسة من دسائس المبطلين، وغفلة وجهل من أكثر المسلمين، مهما بررها الناس ورضوها والتمسوا لها الفتاوى والتأويلات التي لا تستند إلى كتاب الله ولا سنة رسوله أصلاً، وكل أمر لم يعهد في عصر الصحابة والقرون المفضلة؛ فإنما قام على الباطل، ويقال لمن فعله أو أحله: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [النمل:64]. ولن يجدوا إلا قول من سبقوهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون [الزخرف:22].
فالأعياد والاحتفالات البدعية من شرائع الكفار؛ فلا يجوز للمسلمين أن يتشبهوا بما هو من خصائص الكفار وشعائرهم الباطلة؛ فهي إما مبتدعة في دينهم أصلا، وإما منسوخة بالإسلام.
وإذا فعل المسلمون القليل من الأعياد المبتدعة؛ فسيؤدي ذلك إلى فعل الكثير؛ لأن هذا أمر لا ضابط له إلا الشرع، ومن ثم تكثر الأعياد وتشغل المسلمين عن عبادتهم وعن أمور معاشهم ومصالحهم وهذا ما حدث فعلاً؛ فمعظم بلاد المسلمين لهم احتفالات وأعياد؛ فعيد لميلاد الرسول، وآخر لميلاد الرئيس أو اعتلائه على العرش، وثالث للوطن، ورابع للاستقلال، وسادس للمرأة، وسابع للطفل، وثامن للأم، وتاسع للربيع، وعاشر للنصر.
وهكذا إلى ما لا يحصى من الأعياد التي أولها قطر وآخرها طوفان، ويضاف إلى ذلك ما تستنزفه هذه الأعياد من الأموال والجهود والطاقات والأوقات التي تضيع هدراً على المسلمين!!
فهل يفطن أولئك الذين لا يزالوا يبيحون للمسلمين مثل هذه الأعياد ويشرعونها لهم ويوهمون بأن الإسلام لم يحرم هذا؟ فإذا كانت عميت أبصارهم وبصائرهم عن الدليل؛ فهل عميت عن الواقع؟! لكن؛ من لم يجعل الله له نوراً؛ فما له من نور.
ومن التشبه كذلك ما أحدثه الناس اليوم من أخلاق الجاهلية المذمومة وسماتها وأعرافها وتقاليدها وآثارها ونحو ذلك؛ مما يحاول الذين يقدسون الأوطان ونحوهم إحياءه ونشره بين المسلمين، تحت شعارات الأصالة والقومية والوطنية، وإحياء التراث، والتغني بالأمجاد، والفخر بالآثار ونحو ذلك من الشعارات التي لا مستند لها من كتاب الله وسنة رسوله ، كل هذا يدخل في النهي عن سنن الجاهلية المذمومة شرعاً، وإن ألبسوه لباس التقدم والمدنية.
وقسم آخر من التشبه، وهو التشبه بالشيطان؛ فقد ورد النهي عن التشبه بالشيطان وأحواله وأعماله؛ مثل الأكل بالشمال والشرب بها؛ فإن هذا من عمل الشيطان، ونحن منهيون عن كل ما هو من عمل الشيطان وإذا كان التشبه بالشيطان منهي عنه؛ فإن كل ما هو من خصال المتبعين للشيطان والغاوين من الفساق والمجرمين والظلمة ونحوهم يكون منهياً عنه، وذلك بحكم اتباعهم للشيطان ونحن نهينا عما هو من سبيل الشيطان وعمله.
فيجب على المسلم المتمسك بدينه أن يتجنب كل ما هو من شعارات هؤلاء، وأن يحذر من معاشرتهم، ويبتعد عن أماكن تجمعاتهم؛ لأنها مواطن شبهة.
ومن شعارات هؤلاء في عصرنا الألبسة الضيقة والطويلة، والتختم بالذهب، وحلق اللحى، وإسبال الثياب، وحمل الصور، واصطحاب الكلاب، والتدخين، والتعلق بالفن الساقط والطرب، وغير ذلك مما هو معروف في كل بلد من بلاد المسلمين؛ كما أن لهم سمات وملابس ومراكب ومجمعات يعرفها الناس في كل بيئة بحسب ما فيها من أعراف وعادات.
فيلزم كل مسلم أن يتجنب كل ما هو من خصائص هؤلاء الفساق، وأن تكون له شخصيته المميزة التي تلتزم بالآداب الشرعية، وأن لا يختلط بهذه الأصناف إلا بقدر الضرورة؛ كأن يريد دعوتهم للحق، وإنكار ما هم عليه من منكر، وأمرهم بالمعروف، واستصلاحهم، أو تضطره المعايشة لبيع وشراء ونحوه؛ بشرط أن لا يكون له معهم عشرة وود.
ومن أنواع التشبه بالكفار ما ابتلي به كثير من نساء المسلمين من التشبه بالكافرات في لباسهن وسمتهن، فيلبسن ثياباً لا تسترهن: إما لقصرها بحيث تظهر السيقان والأذرع والأعضاء والنحور والصدور، أو ثياباً ضيقة تصف حجم الجسم وتقاطيعه وتظهر مفاتنه، يضاف إلى ذلك التساهل عند كثير من النساء في كشف الوجوه أو سترها بساتر شفاف لا يخفي لونها ولا يستر جلدها، وكذلك ما يفعلن برؤوسهن من جمع شعورهن وربطها من فوق متدلية إلى القفا، يفعلن هذا تحت سمع وبصر الرجال الذين أمروا بأن يقوا أنفسهم وأهليهم ناراً، ولكنهم لم يعبؤا بهذه الأمانة التي سيسألون عنها يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وقد ثبت عن النبي ؛ أنه قال: ((صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) (1).
عباد الله!
وبالرغم من أن عصرنا هذا من أسوأ العصور؛ فقد كثرت فيه البدع، إلا أننا لا نزال نجد طائفة تنكر هذه المبتدعات وتصدع بالحق، وتحذر المسلمين من الوقوع في البدع.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
(1) رواه أبو داود.
(1) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وأطيعوه، وراقبوه في جميع تصرفاتكم وأفعالكم، فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
واعلموا أن الشارع قد جعل لكل من الرجل والمرأة خصائص تناسبه ومجالاً يدور فيه، وحرم على كل واحد منهما التعدي على مجال الآخر، ومن ذلك أنه حرم تشبه الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل في لباس أو غيره في أي مجال من المجالات، وأكثر ما يحدث هذا في حالات التمثيل في الأندية وغيرها؛ حيث يقوم بعض الشباب بتمثيل دور امرأة في مسرحية، يلبس ثياب المرأة، ويضع الأصباغ التي تقربه من شكلها.
ومن العجب العجاب أن يقوم رجل فضله الله على المرأة وللرجال عليهن درجة [البقرة:228]. فينزل نفسه مختاراً إلى درجة المرأة؛ ليمثلها في لباسها وهيأتها وكلامها وهذا الشاب نفسه؛ لو قيل له: يا شبيه المرأة! لاستشاط غضبا، ورأى ذلك مسبة له!! فانظروا إلى هذا التناقض يغضب من قول يشبهه بالمرأة، ويراه مسبة له، ثم يحقق بنفسه تلك المشابهة، والفعل أبلغ من القول، ومن ثم، فإن المشاهدين لهذا الشخص سيسخرون منه.
فيا شباب الإسلام!
إن تمثيل الرجل لدور المرأة لن يحل مشكلة، وإصلاح المجتمع لا يكون بمثل هذه الطرق المحرمة؛ فالطرق المحرمة فاسدة بنفسها.
وهذا العمل أيضاً خطير من الناحية الشرعية؛ فقد ثبت في " صحيح البخاري " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: ((لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)) (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: ((لعن رسول الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل)).
ويدخل في هذا من فعل هذا الفعل من النساء والرجال، ولو لحظة؛ فإن بعض النساء حينما تكون في مناسبة، تتقمص شخصية رجل، وتلبس لباسه؛ لتضحك الحاضرات؛ فهي داخلة تحت هذا الوعيد.
واللعن هو الطرد والإبعاد عن مواقع الرحمة، وما أعظم خطره! فمن طرد وأبعد عن رحمة ربه؛ فهو خاسر في الدنيا وفي الآخرة.
قال عمر بن عبد العزيز: لقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض.
فاتق الله أيها الشاب في نفسك، واترك كل ما لا يليق بشهامة الرجال، ولا تشغل نفسك بما يضرك في دينك ودنياك، ولا يغرنك رفاق السوء الذين يزينون المعصية من جنود الشيطان، ولا تغرنك الحياة الدنيا فبعد الشباب هرم قريب أو موت أقرب، وبعد الموت بعث وجزاء، ثم تجد ما قدمت يداك: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
(1) أخرجه أبو داود في ( كتاب اللباس ، باب لبس النساء ) ، وإسناده حسن.
(1/26)
الابتلاء في الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة, الفتن
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
خطورة اليأس والقنوط - وطبيعة الحياة الدنيا - المخرج من الأزمات يكون بالإيمان بالله
والتوكل عليه وحسن الصبر - فضل الصبر وعاقبته , وخطورة الجزع وعاقبته -
ضعف اليقين والثقة بالله سبب الجزع والقنوط
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: شر ما منيت به النفوس يأسٌ يميت القلوب، وقنوطٌ تظلم به الدنيا وتتحطم معه الآمال.
إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحناً وبلايا، آلامٌ تضيق بها النفوس، ومزعجاتٌ تورث الخوف والجزع. كم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوامٍ. يشكو علة وسقماً، أو حاجة وفقراً. متبرمٌ من زوجه وولده، لوامٌ لأهله وعشيرته. ترى من كسدت تجارته وبارت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه.
إن من العجائب أيها المؤمنون: أن ترى أشباه الرجال قد أتخمت بطونها شبعاً ورياً، وترى أولي عزمٍ ينامون على الطوى [1]. إن فيها من يتعاظم ويتعالى حتى يتطاول على مقام الربوبية والألوهية، وفيها من يستشهدون دفاعاً عن الحق وأهل الحق.
تلك هي الدنيا، تضحك وتبكي، وتجمع وتشتت. شدةٌ ورخاءٌ، وسراءٌ وضراءٌ. دار غرور لمن اغترَّ بها، وهي عبرةٌ لمن اعتبر بها. إنها دار صدقٍ لمن صدقها، وميدان عملٍ لمن عمل فيها: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد:23].
تتنوع فيها الابتلاءات وألوان الفتن، ويبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات: ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون [الأنبياء:35].
ولكن إذا استحكمت الأزمات، وترادفت الضوائق، فلا مخرج إلا بالإيمان بالله، والتوكل عليه، وحسن الصبر. ذلك هو النور العاصم من التخبط، وهو الدرع الواقي من اليأس والقنوط.
إن من آمن بالله، وعرف حقيقة دنياه، وطَّن نفسه على احتمال المكاره وواجه الأعباء مهما ثقلت، وحسن ظنه بربه، وأمَّل فيه جميل العواقب وكريم العوائد. كل ذلك بقلبٍ لا تشوبه ريبةٌ، ونفسٍ لا تزعزعها كربةٌ، مستيقناً أن بوادر الصفو لا بد آتيةٌ: وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [آل عمران:186].
إن أثقال الحياة وشواغلها لا يطيق حملها الضعاف المهازيل. لا ينهض بأعبائها إلا العمالقة الصبَّارون أولو العزم من الناس. أصحاب الهمم العالية.
((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه)) [2] حديثٌ أخرجه الترمذي وغيره، وقال الترمذي حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنديهما والطبراني في الكبير والأوسط من معاجمه عن رسول الله قال: ((إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ثم صبر على ذلك، حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله عزَّ وجلَّ)) [3].
أيها المؤمنون: كم من محنة في طيها منحٌ ورحماتٌ. هاهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام يضرب المثل في الرضا عن مولاه والصبر على ما يلقاه صبراً جميلاً، بعده صبرٌ أجمل مع الأخذ بالأسباب والقوة في الأمل يقول لأبنائه في حاله الأولى: بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون [يوسف:18].
ثم يقول في الحال الثاني وهو أعظم أملاً، وبربه أكثر تعلقاً بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم [يوسف:83].
كل ذلك من هذا الشيخ الكبير صاحب القلب الوجيع، ثم يقول: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون [يوسف:86].
ويقينه وقوة رجائه أن أمر أبناءه: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون [يوسف:87].
إن المؤمن الواثق لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان، وإن هو فقد من صافيات الدنيا ما فقد.
أما الإنسان الجزوع فإن له من سوء الطبع ما ينفره من الصبر، ويضيِّق عليه مسالك الفرج إذا نزلت به نازلةٌ أو حلت به كارثةٌ، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتعجَّل في الخروج متعلقاً بما لا يضرُّه ولا ينفعه.
إن ضعف اليقين عند هؤلاء يصدهم عن الحق ويضلهم عن الجادة، فيخضعون ويذلون لغير ربِّ الأرباب ومسبِّب الأسباب، يتملقون العبيد ويتقلبون في أنواع الملق ويكيلون من المديح والثناء ما يعلمون من أنفسهم أنهم فيه كذَبةٌ أفَّاكون، بل قد يرقى بهم تملقهم المقيت أن يطعنوا في الآخرين ويقعوا في البرآء من المسلمين. إن أي مخلوق مهما بلغ من عزٍّ أو منزلة فلن يستطيع قطع رزقٍ، أو ردَّ مقدورٍ، أو انتقاصاً من أجلٍ: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم [الروم:40].
وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعاً: ((إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمَّهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا تردُّه كراهية كاره، وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهمَّ والحزن في الشك والسخط)) [4].
إن من فقد الثقة بربه اضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه، وضاقت عليه المسالك، وعجز عن تحمُّل الشدائد، فلا ينظر إلا إلى مستقبل أسود، ولا يترقب إلا الأمل المظلم.
أيها الإخوة في الله: هذه هي حال الدنيا، وذلك هو مسلك الفريقين، فعلام الطمع والهلع؟ ولماذا الضجر والجزع؟!.
أيها المسلم: لا تتعلق بما لا يمكن الوصول إليه، ولا تحتقر من أظهر الله فضلك عليه، واستيقن أن الله هو العالم بشؤون خلقه، يعزُّ من يشاء ويذلُّ من يشاء. يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، هو أغنى وأقنى، وهو أضحك وأبكى، وهو أمات وأحيا.
إن المؤمن لا تُبطره نعمةٌ، ولا تُجزعه شدةٌ.
((إن أمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا لمؤمنٍ)) [5] ، بهذا صحَّ الخبر عن المصطفى.
فاتقوا الله يرحمكم الله واصبروا، واثبتوا، وأمِّلوا، واكلفوا من العمل ما تطيقون، ولا تطغينَّكم الصحة والثراء، والعزة والرخاء، ولا تضعفنَّكم الأحداث والشدائد ففرج الله آتٍ ورحمتُه قريبٌ من المحسنين.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى. وأحسن اللهم عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون [فاطر 2-3].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
[1] الطوى: الجوع.
[2] أخرجه الترمذي (4/520-ح2398)، والنسائي في الكبرى (4/352-ح7481)، وابن ماجه (2/1334-ح4023)، وأحمد (1/172، 174).
[3] أخرجه أبو داود (3/183-ح3090)، وأحمد (5/272)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/374)، والطبراني في الكبير (22/318-ح801)، وأبو يعلى في مسنده (10/482،483-ح6095)، وابن حبان في صحيحه.انظر الإحسان (7/169-ح2908).
[4] حلية الأولياء لأبي نعيم (5/106) وإسناده ساقط : فيه محمد بن مروان السدي متهم بالوضع.
[5] أخرجه مسلم (4/2995-ح2999).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جعل لكل شيءٍ قدراً، وأحاط بكل شيءٍ خبراً، أحمده سبحانه وأشكره، فنعمه علينا تترى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله خُص بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا ((أن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط)) [1] ، ((وإذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرَّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة)) [2]. بهذا جاءت الأخبار عن المصطفى المختار.
الابتلاءات في هذه الدنيا مكفراتٌ للذنوب، حاطةٌ للخطايا، تقتضي معرفتها الإنابة إلى الله، والإعراض عن خلقه. وهي رحمةٌ وهدى وصلواتٌ من المولى الكريم: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [البقرة:157].
فاتقوا الله ربكم وأحسنوا الظنَّ به، وأمِّلوا فيما عنده، واعملوا صالحاً، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير.
[1] أخرجه الترمذي (4/519-ح2396)، وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه (2/1338-ح4031)، وأحمد (5/427).
[2] أخرجه الترمذي (4/519-ح2396)، وقال: حديث حسن غريب.
(1/27)
تطبيق الحدود
فقه
الحدود
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – دور كل فرد في المحافظة على أمن وطمأنينة الأمة
2 – حال المجتمعات التي تركت شريعة الله
3 – دعوى منظمات حقوق الإنسان ضد الحدود الشرعية
4 – الحكمة من مشروعية الرجم
5 – تشريعات الإسلام المتكاتفة لإبعاد المجتمع من الرذيلة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله!
اتقوا الله تعالى، وأطيعوه، واعلموا أن العدل، والمساواة، والتعاطف بين الناس، وإيقاف الظالم عند حده، والمحافظة على حق الضعيف، واستتباب الأمن، وحصول الاستقرار والطمأنينة، لا يحصل ولا يتصور أن يحصل على وجه، مهما بلغت الأمة من الرقي والتقدم في الحضارة والمدنية أو التنظيم، ومهما سما بها اقتصادها أو مجتمعها، ما لم تطبق التعاليم السماوية التى أنزلها الله ودعانا إليها.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون [الأنفال:24].
ومما دعانا الله ورسوله له: أن نقيم حدوده في الأرض ونطبقها على الناس.
فلقد شرع الله سبحانه وتعالى الحدود لحكم عظيمة ومنافع جمة غفيرة، ينعم بجناها المجتمع الإنساني، ويتفيأ ظلالها، وتعود عليه بالأمن والاستقرار والراحة والهناء والاطمئنان، فيعيش المرء أمنا في سربه، مرتاح الضمير، روحه مصونة فلا تزهق، ودمه محقون فلا يراق، ونسبه كريم صاف فلا يلوث ولا يعتدى عليه، وعرضة سليم فلا يقذف ولا يوصم به، وأمواله محفوظة فلا تصل إليها يد خائن مجرم ولا تمتد إليها يد سارق جشع اتخذ النهب حرفة، وعقله باق على جبلته التى ميزه الله بها، فلا يزيل نعمة الله عليه بالسكر، ودينه ثابت مستقيم قوي صلب لا تلعب به الأهواء ولا تزعزعه العواطف فتجده مذبذباً متردداً يسير على غير هدى ويخبط خبط عشواء، ولهذا جعل الشارع عقوبة المرتد القتل ((من بدل دينة فاقتلوه)) (1).
فما دامت هذه فوائد الحدود، فهنيئا للذين يطبقون حدود الله في الأرض، حياة مستقرة سعيدة في الدنيا، وأجر ومغفرة من الله في الآخرة.
وبالمقابل، فما من أمة ضيعت أمر الله وحدوده إلا شاع فيها الذعر والفزع والاضطراب، وقل خيرها، وذهبت بركتها، وضاقت أرزاق أهلها، وكثرت فيها الأزمات والقلاقل.
ومصداق هذا من كتاب الله قوله تعالى: وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً [الجن:16]. وقوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض.
والواقع خير شاهد ودليل.
فانظروا إلى أولئك الذين استبدلوا بشريعة الله قوانين الكفر والضلال، كيف وصل حالهم؟! كيف فتكت الجرائم بمجتمعهم، فنشأ عن عدم تطبيق الحدود اجتراء الناس على محارم الله ومواقعتهم لحمى الله؟! والله يغار أن تنتهك محارمه أو يعتدى على حماه، ولا أحد أغير من الله ومن يجترئ على حدود الله، يصير معاديا له ومحاداً لرسوله، ومن حاد الله ورسوله، وقع في إسار الذلة والهوان، إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين.
وباجتراء الناس على محارم الله وإمساك الأمة عن إقامة الحدود والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، تلحقهم اللعنة، كما لحقت بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.
وكذلك تكون الأمة من عنصرين: عصاة متمردون، وضعاف خائفون، لا يأمرون بخير ولا ينهون عن شر، وأي أمة تتألف من هذين الفريقين، لا يرجى لها فلاح، ولا يتحقق لها احترام ولا تقدير.
ونتيجة ذلك وقوع الأزمات الطاحنة والكوارث المدمرة والحروب بين الجماعات والطوائف.
وقد ينخدع بعض الناس الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة وهم غافلون فيرون بعض العصاة أو الكفار في بحبوحة من الدنيا ورغد من العيش وقوة ومنعة، ولو أنهم أمعنوا النظر وأعملوا الفكر لأدركوا أن ذلك متاع ظاهري، مقرون بالقلق النفسي من ناحية، ومهدد بالزوال والتدمير من ناحية ثانية، ومتبوع بالعقاب والسخط الإلهي من ناحية ثالثة لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [الأعراف:96].
عباد الله!
إن إقامة الحدود الشرعية، وتطهير المجتمع من بذور الإجرام، قد أثار حقد أعوان الشيطان من القانونيين الكفرة، فبدؤوا يلقون الشبه حول تطبيق القوانين الوضعية، التى شقي بها معظم المجتمعات، فهم يريدون أن يعم الشقاء حيث زعموا أن إقامة الحدود ضربا عنيفا من القسوة العاتية التى تتنافى مع الإنسانية الرحيمة ومع الشفقة التي يجب أن يتحلى بها الناس والتي تساير المدنية الحديثة والحضارة الراقية المهذبة!! إلى آخر ما قالوا من هذه العبارات الجوفاء الخاوية ونقول لهؤلاء: نعم إن في إقامة الحدود مظهرا من مظاهر الشدة التى تسمونها قسوة، ولا بد لكل عقوبة أن يكون فيها مظهر شدة أيا كانت وإذا لم تشتمل العقوبة على شيء من الشدة فأي أثر لها في الزجر والردع؟!
ثم، أسأل عقول هؤلاء – إن كانت لهم عقول -: ما الذي حمل على هذه القسوة في نظركم؟ وما الذي دفع القاضي أن يحكم بهذه القسوة؟
إن الذي دعا إلى هذا هو شيء أشد منه قسوة، ولو تركنا هذه العقوبة القاسية – فيما تزعمون، لوقعنا في أمر أقسى من العقوبة وأقسى من موجبها، فمن الرحمة والشفقة أن تقيم الحد، ففيه رحمة بالمحدود، وبمن اعتدى عليه ألا ترون الطبيب الماهر الذي يستأصل بمبضعه جزء حيا من جسم أخيه الإنسان، أليست عملية البتر وضرب المبضع في اللحم الحي مظهرا من مظاهر القسوة؟ وهل يستطيع أن يمارس هذه العملية إلا قلب قوي يعد في نظركم أيها المترفون قلبا قاسيا؟! ولكنها – لو تعلمون – قسوة هي الرحمة بعينها، وبخاصة إذا قيست بما يترتب على تركها.
فحرصا على سلامة المجتمع من سرطان الجريمة كان من الحزم الواجب استئصال العضو المريض الذي لا يرجى من بقائه إلا الفساد والإفساد.
فذا العضو الفاسد أغلق قلبه، فلم يقبل نصحا، وألغى إنسانيته فلم يعرف رحمة ولا شفقة، فكان الجزاء من جنس العمل جزاء وفاقا [النبأ:26]. من يعمل سوء يجز به [النساء:123].
فالقائلون بهذا القول نظروا إلى الحدود بعين واحدة، نظروا إلى الحدود ولم ينظروا إلى الجرائم، ينظرون إلى المجرم نظرة العطف ولا ينظرون إلى الضحايا نفس النظرة، والمجرم في الحد قد يكون واحدا، وقد تكون الضحية أكثر من واحد.
إن المجرم بمقارفته الحد يتحدى المجتمع كله، فكيف يصبر عليه؟! وكيف يعفو عنه؟!
ومن هذه الشبهة المتقدمة أنبت الشيطان وجنده شبهة ثانية، فقالوا: ولماذا كان القتل في حد المحصن رجما بالحجارة، أليس ذلك تحقيرا للإنسانية وازدراء لها؟! أليس هناك وسائل للقتل أرحم وأحسن وأسرع؟! فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحة وأي إحسان في القتل بالرجم ؟! أليس الصعق مثلا أو الشنق أخف على المحدود؟! ونحن نقول لهؤلاء: على رسلكم أيها الرحماء – كما تزعمون -! إن هذا قتل لا يراد منه الإزهاق الروحي وكفى، وإنما المراد من هذا القتل الزجر والردع عن مقارفة الجريمة الشنعاء، فليكن القتل بطريقة تليق بمن اقترف هذا الإثم المستقذر البشع ومن الحكمة في حد المحصن أن يكون الرجم بالحجارة، ليتألم جميع بدنه كما تلذذ بشهوة الزنى، جزاء وفاقا فالذي فرض العقوبة وقدرها وبين كيف تكون، إنما هو العليم الخبير، الذى يعلم خبايا النفس البشرية، والله يعلم المفسد من المصلح.
ومن ثم أتى الشيطان وجنوده بشبهة أخرى وهى أن إقامة الحد تقتضي إزهاق الأرواح وتقطيع الأطراف، وبذلك تفقد البشرية كثيرا من الطاقات والقوى وينتشر فيها المشوهون والمقطعون الذين كانوا يسهمون في النتاج والعمل.
ونحن نقول لجنود إبليس: إن القتل وتقطيع الأطراف في الحدود إنما يكون في حالات ضيقة محصورة، ولمن؟! إنه إزهاق لنفوس شريرة لا تعمل ولا تنتج، بل إنها تعطل العمل والإنتاج وتضيع على العاملين المنتجين ثمرات أعمالهم وإنتاجهم، مع ملاحظة أن إقامة الحدود إبقاء لآلاف الأطراف سليمة طاهرة عامله منتجة فالله تعالى يقول: ولكم في القصاص حياة [البقرة:179]. حيث إنه ليس انتقاما ولا إرواء للأحقاد، وإنما هو حياة، حيث يكف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء، فالذى يوقن أنه يدفع حياته ثمنا لحياة من يقتل جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد فالله جعل لهذه الحدود مصلحة ومنفعة، فهو العليم الخبير الحكيم، الذي يضع كل شيء في موضعه الطبيعي.
ولقد أورد إبليس وجنوده شبه أخرى حيث قالوا: إن إقامة الحدود تقهقر بالإنسانية الراقية ورجعة إلى عهد الظلام الدامس والقرون الوسطى!! وهل يستسيغ عاقل متمدن عاش في القرن العشرين الميلادى!! وفى المدن الراقية مثل لندن ومثل باريس ونحوها!! أن يأخذ بقانون نشأ بين جبال وأحراش الجزيرة وجلاميد الصحراء؟
كبرت كلمة تخرج من أفواهم إن يقولون إلا كذبا [الكهف:5]. قاتلهم الله أنى يؤفكون.
فهذه الشبهة زائفة، تحمل كفنها بين يديها، فنقول لهؤلاء: إن المعدن الأصيل لا يفقد ميزاته بالقدم، بل إن القدم مع الأصالة يشكلان أسباب نفاسته، شريعة الله مع قدمها لها هذه الأصالة، فلها من الثبات ما عجزت عنه تلك الأحكام التي يحتكمون إليها التي لا ترتكز على الجدة والقدم، فكم من قديم أسمى من جديد، وإنما الميزان هو النفع والضر، والطيب والخبيث وما أكثر الشبه!!
ولكن الله لا يصلح عمل المفسدين، فهم كناطح صخرة يوما ليوهنا.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
(1) رواه البخارى في ( كتاب الجهاد الاعتصام ) وابو داود والترمذى والنسائى وابن ماجة واحمد
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق رحمة للعاملين وحجة على المعرضين المعاندين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله!
الحدود هى الحصن المنيع الذى يمنع من تحدثه نفسه بانتهاك السياج الذي يقي المجموعة الإسلامية بالسطو والجرأة على حرمات المسلم بالاستهتار بقتله أو حرمانه من حقه المشروع كسرقة ماله أو السطو على عرضه.
وإني أسأل الجميع لو لم تطبق الحدود أيأمن الواحد منا على عرض؟ أيأمن على نفس؟ أيأمن على مال؟ أيسير في الطريق آمنا؟! أيسافر آمنا؟!
فإقامة الحدود والأخذ بها شريعة مفروضة شرعها الإسلام لا يسمح بالأخلال بها أو التهاون في إقامتها أو التسامح وعدم العدل في إنزالها بالناس على حد سواء بحيث تنزل بالأمير والصعلوك والرجل والأنثى والحر والعبد والشريف والحسيب ومن كان من الدهماء وفي الإعراض عن إقامتها فساد في الأرض وجناية على المجتمع وسلب للأمن.
وينبغي أن يكون شعارنا قول رسول الله عندما شفع حبه أسامة بن زيد رضي الله عنه في المخزومية التي سرقت فقطع النبى يدها حيث قال: ((أتشفع في حد من حدود الله إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه ولم يقيموا عليه الحد وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (1).
عباد الله: لنعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أحاط المجتمع بسياج منيع وأغلق عليه منافذ الجريمة.
ففي الزنى مثلاً حرم الله كل وسيلة مقربة إليه ولا تقربوا الزنى فقد حرم الغناء وهو من الوسائل المساعدة على الزنى وحرم الله النظر إلى المرأة الأجنبية قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم [الإسراء:32]. وقال : ((لك الأولى وليست لك الثانية)).
وهذا في نظر الفجأة ثم حرم كل ما من شأنه أن يثير شهوة الرجل أو المرأة على حد سواء من أفلام خليعة وغيرها فالإسلام أحاط المجتمع بسياج منيع من الأمور الوقائية حتى لا يقع الناس في جريمة الزنى.
فلننظر يا عباد الله في واقعنا: هل نحن أقمنا هذا السياج أم هتكناه فما من أمة تغفل عنه فلا تطبقه في المجتمع المسلم إلا كثر فيها الوبا يقول الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له
إياك إياك ان تبتل بالماء
فاحرصوا عباد الله على الوقوف عند حدود الله وتطبيقها والحذر من الوقوع فيها واحرصوا على إبعاد أولادكم ونسائكم عن كل ما من شأنه أن يدعوهم لإقتراف الجريمة فلا تسهلوا لهم المعاصي ولا تجلبوا لهم وسائل الفساد والإفساد واحرصوا على صلاحهم فبصلاحهم يصلح المجتمع بإذن الله وإذا فسدوا انهار البناء.
(1) رواه البخارى ومسلم.
(1/28)
الثبات في المحن ودروس من غزوة ُأحد
سيرة وتاريخ
غزوات
سليمان بن حمد العودة
بريدة
26/12/1415
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البلاء والابتلاء سنة لله في مخلوقاته
2- اختلاف الناس أمام البلاء بين صابر وقانط
3- مصاب النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاء في أحد
4- بلاء الصحابة في سبيل الله في غزوة أحد
5- دروس غزوة أحد
_________
الخطبة الأولى
_________
اخوة الايمان ونحن نقف على نهاية أيام عام هجري يؤذن بالانصراف حري بنا أن نتأمل ونتفكر في أحداثه وعبره، وقد اشتمل على مسرات واحزان وتوفرت فيه الصحة لأقوام وأقعد المرض آخرين، وفيه من شارف على الهلكة ثم متعه الله إلى حين، وفيه من فاجأته المنية واخترمه ريب المنون فيه، قدر ربك الغنى لقوم وأقنى الآخرين، وفيه أضحك ربك وأبكى وأمات وأحيا، وعليه النشأة الأخرى كما اشتمل العام على قتل فئام من الناس وتشريد آخرين وإيذاء طوائف من المسلمين لا ذنب لهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق (2)
ايها المسلمون لا غرابة أن يقع هذا وغيره، فما هذه الدار بدار قرار، وليست خلوا من المنغصات والأكدار ويعلم العارفون أن هذه الدنيا لا يدوم على حال لها شأن، وأنها متاع الغرور، وأنها دار امتحان وابتلاء، ويخطئ الذين يغترون بزينتها فيفرحون بما أوتوا وإن كان فيه حتفهم، ويأسون على ما فاتهم وإن كان فواته خيرا لهم.
كذلك يوجه القرآن وما أسعد من يفقه توجيه القرآن: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (3)
إن المصائب والمحن في هذه الحياة الدنيا ليست قصرا على جيل دون الآخر وليست خاصة بأمة دون أخرى بل هى عامة في الأولين والآخرين من بني الانسان وتشمل الصالحين والصالحات قال الله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في كبد (1)
وقال تعالى: نبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون
ولكن الذى يختلف فيه الناس أسلوب التعامل مع مصائب الدنيا ونكدها فإذا امتاز المؤمنون بالصبر والمصابرة والرضى والتسليم بأقدار الله الجارية مع بذل الجهد في تحصيل الخير وتحقيق العدل ودفع المكروه والشر ورفع الظلم في الأرض فان سواهم يضيق به الصدر وتنقطع أوصاله بالحزن والقلق، ويصاب بالضيق والاحباط، وربما أودى بحياته تخلصا مما هو فيه، فانتقل إلى نكد مؤبد وإلى عذاب دائم ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
إخوة الايمان: واقرؤوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، وستجدون أنهم نالوا من المصائب والمحن ما نالهم، ومنهم أزكى البشرية وأتقاها، وجيلهم خير أجيال المسلمين وأنقاها، كل ذلك حتى يمتحن المؤمنون ويعلم الله الصابرين ويكشف زيف المنافقين وحتى يعلم هؤلاء وتعلم الأمة من ورائهم قيمة الثبات على الحق والصبر على الشدائد حتى يأذن الله بالنصر والفرج.
واذا كان الناس في حال الرخاء يتظاهرون بالصلاح والتقى ففي زمن الشدائد يميز الله الخبيث من الطيب ويثبت الله المؤمنين ويلقي الروع في قلوب آخرين.
قفوا، معاشر المسلمين عند غزوة احد واقرؤا بشأنها قوله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين وقوله: إذ تصعدون ولا تلووون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولاما أصابكم والله خبير بما تعملون
وقوله: وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا الآية.
ولقد كانت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها تدرك هول المعركة وشدتها على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وهى تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟
والواقع يشهد أن المسلمين حين خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واختل ميزان المعركه أسقط في أيديهم وتساقط الشهداء منهم في ميدان المعركة، وفقدوا اتصالهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وشاع أنه قتل، وفر من فر منهم، وأصابت الحيرة عددا منهم وآثر آخرون الموت على الحياة وخلص المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وكانت فاطمة رضي الله عنها تغسل الدم عن وجهه وكان علي رضى الله عنه يسكب عليها الماء بالمجن، ولم يستمسك الدم حتى أحرقوا حصيرا، فلما كان رمادا ألصقوه بالجرح فاستمسك الدم كما في الحديث المتفق على صحته (1)
وفى هذه الأجواء الصعبة يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم وينادي في المسلمين: ((إليّ عباد الله)) قال تعالى إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم (2)
وفى ظل هذه الظروف العصيبة يتنادى المسلمون وتثبت طائفة من شجعان المؤمنين وتقاتل قتال الابطال دفاعا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخلص بعض المشركين الى النبي صلى الله عليه وسلم هو في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فيقول عليه الصلاة والسلام: (( من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟ فقاتلوا عنه واحدا واحداً حتى استشهدوا الأنصار السبعة (1) ثم قاتل عنه طلحة بن عبيد الله قاتل قتالا مشهورا حتى شلت يديه بسهم أصابهم (2) وقاتل سعد بن ابى وقاص رضي الله عنه وهو من مشاهير الرماة بين يدي الرسول صلى الله عليه سلم وهو يقول له: ارم فداك أبي وأمي))
وهكذا يكون حال المؤمنين حين تعصف بهم المحن : الصبر والثبات والجهاد والتضحية حتى يأذن الله بالنصر أو يفوزوا بالشهادة فينالوا المغنم في الدنيا ويحظون بالدرجات العليا في الآخرة.
وهاك فوق ما سبق نموذجا واعيا للثبات على الإسلام حتى آخر لحظة والوصية بالدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى آخر رمق، يمثله الصحابي الجليل أنس بن النضر رضي الله عنه الذي كان يحث المسلمين على الجهاد ويقول: (الجنة، ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد)
وعندما انجلت المعركة وجد في جسده بضعاً وثمانين من بين ضربة ورمية، وطعنة لم يعرفه أحد إلا أخته (الربيع) عرفته ببنانه، وحين أرسل النبى صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت ليتفقده وجده وبه رمق، فرد سلام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: إني أجد ريح الجنة وقل لقومي من الأنصار: (لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر طرف ودمعت عيناه)
وهاكم نموذجا آخر تمثله النساء وليست البطولات قصرا على الرجال، فالسمراء بنت قيس يصاب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه حتى إذا رأته وأطمأنت على حياته قالت كلمتها العظيمة: كل مصيبة بعدك جلل (أي صغيرة).
(2) البروج / 10.
(3) الحديد /22، 23.
(1) البلد /4
(1) تفسبر ابن كثير 2/123.
(2) ال عمران / 153
(1) صحيح مسلم شرح النووى 12/ 146
(2) صحيح البخارى 7/ 358 الفتح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين يحكم ما يشاء ويختار لا معقب لحكمته ولا راد لقضائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه إطلالة على نموذج من المحن والشدائد التى نزلت يوما من الدهر بالمسلمين، وهذه لمحة خاطفة عن بعض أحداث غزوة أحد.
ما أحرانا بتأملها والاستفادة من عبرها، ألا ما أحوجنا في هذه الظروف إلى قراءة كتاب الله بشكل عام، وإلى قراءة ما نزل تعقيبا على هذه الغزوة الكبيرة في تاريخ المسلمين بشكل خاص، وقد نزل حول أحداث غزوة أحد ثمان وخمسون آية من سورة آل عمران ابتدأت بذكر أول مرحلة من مراحل الإعداد لهذه المعركة وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال
وتركت في نهايتها تعليقا جامعا على نتائج المعركة وحكمتها والله يقول: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب
اجل لقد تميز الناس على حقيقتهم في غزوة أحد، فكانوا ثلاث طوائف سوى الكفار، واذا كان قد مر معنا خبر طائفة من المؤمنين ثبتت حول النبي صلى الله عليه وسلم تحوطه وتدافع عنه حتى استشهد من استشهد منهم، وجرح من جرح، فثمة طائفة أخرى من المؤمنين حصل منهم ما حصل من تول وفرار واستذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا.. لكن الله عفا عنهم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضا عفا الله عنه كما قال تعالى: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم.
فعادت شجاعة الإيمان الى مركزها ونصابها، وكذلك ينبغي أن يكون سلوك المؤمنين إذا وقعوا في الخطأ وذكروا: تذكروا فإذا هم مبصرون، واستغفروا لذنوبهم وعادوا الى قافلة المؤمنين.
أما الذين يستمرءون الخطأ ويصرون على المعاندة وإيذاء المؤمنين مع علمهم بالحق وأهله وبالباطل وجنده، فأولئك في قلوبهم مرض، وسيكشف الله أضغانهم وسيفضحهم في جوف بيوتهم.
إخوة الايمان: أما الطائفة الثالثة التى أراد الله لها أن تتكشف على حقيقتها في غزوة أحد فهي طائفة المنافقين.
للإمام ابن القيم رحمه الله كلام جميل في الفصل الذى عقده للحكم والغايات المحمودة التى كانت في وقعة أحد، ومما قاله بشأن المنافقين: ومنها أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما اظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخابئهم، وعاد تلويحهم تصريحا، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم فاستعدوا لهم وتحذروا منهم. قال تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء
أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الايمان من أهل النفاق _ كما ميزهم بالجنة يوم أحد _ ما كان الله ليطلعكم على الغيب الذى يميز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعمله، وهو سبحانه يريد تمييزا مشهودا، فيصبح معلوما وشهادة الأمر الذى كان غيبا.. وإن كان الله يجتبي من رسله من يطلعهم على ذلك (1).
إخوة الاسلام: وكذلك ينبغي أن تكون الشدائد والمحن في كل زمان فيصلا لتمييز المؤمنين، وفضح المنافقين.
ومن الحكم الجليلة التى ذكرها ابن القيم رحمه الله لهذه الغزوة: استخراج عبودية أوليائه وجذبة في السراء والضراء، فيما يحبون ويكرهون، وفى حال ظفرهم أعدائهم بهم، فاذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون عبيده حقا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والعافية (2)
ومن هذه الحكم: (أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه وغير ذلك من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا منكم ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين(1/29)
أحكام تتعلق بالمرأة
الأسرة والمجتمع, فقه
الزكاة والصدقة, المرأة
عبد الحميد التركستاني
الطائف
7/5/1414
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمولية أحكام الإسلام للعقيدة والأخلاق والعبادات ، وتداخل الأوامر بها في النصوص
الشرعية. 2- أحكام تتعلق بصلاة المرأة. 3- أحكام للزكاة تتعلق بالرجل والمرأة. 4- زكاة
الحلي وإعطاء الزوج من زكاتها. 5- أمر النساء بالاكثار من الصدقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون: وأطيعوا الله ورسوله إن كنت مؤمنين، ولا نزال أيها الإخوة في موضوع أخلاق المرأة المسلمة ولقد توقفنا عند قوله تعالى: وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله. إلى آخر الآيات فأقول وبالله التوفيق.
فبعد أن أمر الله نساء النبي بالتقوى وعدم الخضوع بالقول والقول بالمعروف والمكث في البيت وعدم الخروج إلا لحاجة وإذا خرجن فلا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى بعد هذا التصحيح في السلوك الاجتماعي والأخلاقي في الحياة وبعد تهذيب النفس بهذه الآداب والفضائل كان لابد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة، ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة، وأنه حري به أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى أخلاق الجاهلية التي تغرق فيها الحياة كلما انحرفت عن طريق الله.
ولهذا كان الإسلام وحدة تجتمع فيه الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم كلها في نطاق العقيدة، ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله هو خاتمة التوجيهات الأخلاقية والسلوكية لأهل البيت ولأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا وهذا التطهير عن الرجس وعن الرذيلة لا يتم إلا بالتزام النساء المؤمنات لهذه الصفات التي أمر الله بها أمهات المؤمنين، والتطهير وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذها الناس أنفسهم ويحققونها في واقع الحياة العملي، وهذا هو طريق الإسلام، شعور وتقوى في الضمير وسلوك وعمل في الحياة يتم بهما معا تمام الإسلام وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة.
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية عند قوله: وأقمن الصلاة... : إن الله نهاهن أولا عن الشر ثم أمرهن بالخير من إقامة الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين وبالنسبة لقضية الصلاة لنا فيها عدة مسائل:
الأمر الأول: أنه لا يجوز للمرأة أن تظهر شيئا من بدنها سوى الوجه والكفين حتى الشعر النازل على أذنيها يجب أن تغطيه أيضا ظهور قدميها وبهذا تكون قد سترت عورتها المطلوبة منها في الصلاة وذلك لأن ستر العورة شرط لصحة الصلاة فإن بدا شيء من بدنها بغير قصد في أثناء الصلاة يجب عليها تغطيته وإن طال كشف شيء من عورتها بطلت صلاتها وقد ورد في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار))، وفي لفظ: ((لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواري زينتها، ولا من جارية بلغت الحيض حتى تختمر)) وهذان الحديثان يدلان على وجوب تغطية المرأة لرأسها وجميع بدنها في صلاتها ما عدا الوجه والكفان فإذا بلغت وصارت مكلفة فصلّت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها، قال الترمذي: (العمل عليه عند أهل العلم أن المرأة إذا أدركت فصلت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها) أي أنه ينبغي لها أن تلبس الثوب السابغ الواسع تغطي به بدنها وقدميها ما عدا الوجه والكفان.
الأمر الثاني: إن نابها شيء في الصلاة فإنها لا تسبح بل تصفق.
الأمر الثالث: صلاتها مثل صلاة الرجل لما ورد عن النبي : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
الأمر الرابع: أنه لا يصح منها أذان ولا إقامة، قال ابن عمر رضي الله عنهما: (ليس على النساء أذان ولا إقامة) فلا يجوز للمرأة أن تؤذن ولا يصح أذانها كذلك لا تصح إقامتها إن وجد ذكر بالغ، وإن لم يوجد بأن كانت بين نساء فإقامتها مستحبة.
الأمر الخامس: إمامة المرأة، فلا تصح إمامة المرأة للرجل مطلقا، ولكن تصح إمامة المرأة للنساء وتقف معهن في الصف وكانت أم سلمة تفعله، فلو كانت هناك دار واسعة وبها نساء كثيرات وأراد النسوة أن يصلين صلاة جماعة فيجوز ذلك بشرط ألا تتقدمهن من تصلي بهن بل تقف معهن في الصف ويجوز لها أن تجهر في الصلاة الجهرية إذا كانت بين النساء بحيث لا يسمعها الرجال.
الأمر السادس: حمل المرأة للصغير وهي تصلي، يجوز لها أن تحمل صغيرها إن بكى إن لم يكف عن البكاء إلا بحمله وصلاتها صحيحة وقد ورد ذلك عن النبي : ((أنه صلى وأمامه بنت زينب ابنة النبي على رقبته فإذا ركع وضعها وإذا قام من سجوده أخذها فأعادها إلى رقبته حتى انتهى من صلاته)).
الأمر السابع: يجوز للمرأة أن تذهب إلى المسجد لتصلي فيه إذا أذن لها زوجها ولكن بيتها خير لها كما ورد بذلك الحديث، فإن ذهبت إلى المسجد تخرج غير متبرجة بزينة ولا متعطرة ولا سافرة والحكمة في ذلك كما قال أهل العلم: لئلا تتسبب في إثارة الشهوة عند الرجال بطيبها ورائحتها، فإن أبت إلا أن تخرج متعطرة ومتزينة فإنها عاصية لله ورسوله، فإن دخلت المسجد فأين يكون موقفها من الرجال، فهي لا تقف أمام الرجال ولا قريبا منهم بل تصلي في مؤخرة المسجد وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) ، وإنما كان خيرها آخرها بالنسبة للنساء لما في الوقوف فيه من البعد عن مخالطة الرجال، وكلامنا هذا لا ينطبق على المكان المخصص بالنساء كما في بعض المساجد اليوم التي توجد بها مقصورات خاصة بالنساء وإنما نقصد المساجد التي لا توجد بها المقصورات الخاصة.
فإذا انتهت الصلاة يستحب للمرأة أن تتصرف من المسجد قبل خروج الرجال.
الأمر الثامن: يجوز للمرأة إذا كانت بالمسجد أن تصلي على الجنازة إن كانت هناك جنازة وقد أمرت عائشة أن يؤتى بسعد بن أبي وقاص لتصلي عليه عندما مات.
الأمر التاسع: يجب على المرأة أن تخرج لصلاة العيد سواء كانت بكرا أم ثيباً شابة أم عجوزا صغيرة أو كبيرة حتى الحائض ما لم تكن معتدة أو كان في خروجها فتنة لحديث أم عطية: ((أمرنا رسول الله أن نخرج في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لتلبسها أختها)) رواه البخاري. العواتق: جمع عاتق وهي التي بلغت الحلم وقاربت التزويج.
الأمر العاشر: المرأة المستحاضة وهي التي يخرج منها دم غير دم الحيض فإنها تتوضأ لكل صلاة وتصلي وإن قطر الدم أثناء صلاتها وصلاتها صحيحة، وتستثفر أي تضع قطنة على فرجها حتى لا تتسخ ولا يتضرر المكان.
المسألة الحادية عشرة: وهي إذا ما حاضت المرأة بعد دخول وقت الصلاة فإنها تقضي هذه الصلاة بعد طهرها وكذا لو طهرت قبل خروج الوقت ولو بلحظة فإنه يجب عليها قضاء الصلاة التي طهرت في وقتها وهذا مما يجب التنبه له.
المسألة الثانية عشرة: أن المرأة لا يجب عليها حضور صلاة الجمعة في المسجد بل تصلي في بيتها ظهرا أربع ركعات قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا جمعة على النساء، ولكن لو حضرت إلى المسجد وصلت الجمعة صحت صلاتها وأجزأتها عن صلاة الظهر.
ولعلنا بهذا قد أتينا على معظم مسائل الصلاة بالنسبة للمرأة هذا من الناحية الفقهية، وأما الحكم بوجوب محافظتها على الصلاة فهي كالرجل غير أنها لا تصلي في حال الحيض ولا تجب عليها صلاة الجماعة في المسجد بل بيتها خير لها.
فإن أصرت المرأة على ترك الصلاة فإنها تكفر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) رواه مسلم وفي رواية: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ، ويترتب على هذا إن ماتت مصرة على ترك الصلاة أن لا يصلى عليها ولا تدفن في مقابر المسلمين، ويجب على زوجها إن كانت متزوجة أن يفارقها إلا أن تتوب وتصلي، وأيضا لا يحق لها حضانة أولادها إن كانت لا تصلي فانتبهوا لهذا الأمر جيدا وأمروا نساءكم بالمحافظة على الصلاة في وقتها وعدم التفريط فيها فإنكم رعاة لهن وكل راع مسؤول عن رعيته.
المسألة الثالثة عشرة: يجوز للمرأة أن تصلي في ثوب حاضت فيه وإن أصابه شيء من دم حيضها إذا حاولت إزالته وبقي شيء يسير منه فقد روى الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها فقصعته بظفرها) أي دلكته به، وهذا يدل على العفو عن يسير الدم لأن الدم لا يطهر بالريق.
ويجوز للمرضع أن تصلي بثوبها وإن تقيأ عليه الرضيع قال الإمام ابن القيم: (إن المراضع ما زلن من عهد رسول الله وإلى الآن يصلين في ثيابهن والرضع يتقيؤون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها، فلا يغسلن شيئا من ذلك).
المسألة الرابعة عشرة: تكره الصلاة للمرأة وللرجل أيضا في غرفة بها صورة لأي كائن حي ذي روح أما إذا كانت الصورة لغير ذي روح كما لو كانت لأشجار أو أنهار أو مدن فلا أثر لها في صحة الصلاة.
واعلموا أن المرأة المسلمة لا تستطيع أن تتخلق بالأخلاق التي ذكرناها حتى تصلي لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فالمرأة المصلية هي التي تتقي ربها وتخشاه وتحصن فرجها وتطيع زوجها وتحسن تربية أبنائها وما ذاك إلا لأن الصلاة هي قوام الدين وعماده وركنه الأساسي بعد الشهادتين ولهذا كان الأمر بالصلاة بعد تلك التوجيهات والنصائح لترتبط المرأة بربها وتتصل به في كل يوم وليلة خمس مرات لتزكي نفسها وتطهرها من كل إثم ورجس، فيطمئن قلبها ويستقر حالها، وتخرج من صلاتها وقد ملأ الإيمان قلبها فلا تفكر بحال فيما يغضب الله أو يسخطه وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: وبعد أن أمر الله عز وجل بالصلاة عقب مباشرة بالزكاة فالزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام وهي قرينة الصلاة في مواضع كثيرة من كتاب الله، وفي إخراجها إحسان إلى الخلق وتطهير للنفس وتزكية لها وطمأنينة وسكن، فهي تطهر من الذنوب والأخلاق الرذيلة وتزيد في الأخلاق الحسنة، والأعمال الصالحة وتزيد في الثواب الدنيوي والأخروي وتنمي الأموال وتطفيء غضب الرب وتدفع البلاء عن الإنسان وهي تقي الإنسان من نار جهنم كما ورد في الحديث: ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)).
والزكاة نوعان: أحدهما ما يتعلق بالبدن وهي زكاة الفطر وهي واجبة على الكل.
والثاني: ما يتعلق بالمال وهي المواشي والأثمان والزروع وعروض التجارة فكل هذه الأصناف تجب فيها الزكاة إذا مضى عليها الحول ما عدا الزروع فإن وقت زكاتها هو وقت حصادها لقوله تعالى: وآتوا حقه يوم حصاده والمقصود بالزروع الحبوب التي يقتات الناس بها مما يكال ويدخر كالبر والشعير والذرة وغيرها إذا بلغت خمسة أوسق وهو ما يبلغ زنته ستمائة واثنا عشر كيلو غرام.
والمرأة كالرجل في وجوب الزكاة إذا تحققت شروط وجوب الزكاة وهي: كمال النصاب وتمام الحول وأظن أنه ليس للنساء شيء يختص بهن في الزكاة سوى المال المدخر فإذا حال عليها الحول أي السنة وجب فيه الزكاة وهو ربع العشر، أو الحلي فإن كان غير معد للزينة فهذا يجب فيه الزكاة إذا بلغ النصاب وهو عشرون دينارا والمراد بالدينار الإسلامي الذي يبلغ زنته مثقالا وزنة المثقال أربعة غرامات وربع فيكون نصاب الذهب خمسة وثمانين غراما ما يعادل أحد عشر جنيها سعوديا وثلاثة أرباع الجنيه. وأما نصاب الفضة فهو خمس أواق وهو ما يعاد خمسمائة وخمسة وتسعين غراما وتعادل ستة وخمسين ريالا عربيا من الفضة.
ومقدار الزكاة في الذهب والفضة هو ربع العشر.
وأما حلي المرأة المعد للزينة ففيه خلاف بين أهل العلم في زكاته والأحوط والله أعلم للمرأة أن تخرج زكاته، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل علي رسول الله فرأى في يدي فتخات من ورق (تعني من فضة) فقال لي: ما هذا؟ قلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، قال: هو حسبك من النار)) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وهو حديث صحيح.
ويجوز للمرأة أن تخرج زكاتها لزوجها إن كان فقيرا محتاجا لحديث أبي سعيد الخدري أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: يا نبي الله إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم)) رواه البخاري. ومع إخراج المرأة للزكاة فقد حث النبي عليه الصلاة والسلام النساء بكثرة الصدقة وكثرة الإنفاق، والفرق بين الزكاة والصدقة: أن الزكاة فرض على مال الإنسان محاسب على تركها، وأما الصدقة فهي تطوع من الإنسان كعمل من أعمال الخير، فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة: وما لنا أكثر أهل النار؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير))، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام للنساء بالصدقة ليعلمهن أن في الصدقة تكفيرا لخطاياهن، فبالصدقة تتقي المرأة المسلمة من عذاب الله، فينبغي تنبيه النساء المسلمات لهذا الأمر وحثهن على الإنفاق وليعلمن أن ما ينفقن على الكماليات والزينة والأزياء فيها من الإسراف ما الله به عليم فلو خصصت كل أخت مبلغا من المال للإنفاق في سبيل الله ووجوه الخير لكان خيرا وأعظم أجرا.
ويجوز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها إن أذن لها أو إذا علمت رضاه وهذا يختلف باختلاف الناس ومما لا شك فيه أن الزوجة تعي تماما معدن زوجها وطبيعته وميوله فإن علمت رضاه جاز لها التصدق، أما إذا علمت غير ذلك فيحرم عليها الإنفاق ولكن يستثنى من ذلك الشيء القليل الذي جرت به العادة وتسمح النفوس دائما بإعطائه ودليل ذلك حديث أسماء رضي الله عنها أنها قالت للنبي : إن الزبير رجل شديد، ويأتيني المسكين فأتصدق عليه من بيته بغير إذنه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أرضحي ولا توعي فيوعي الله عليك)) متفق عليه. ومعنى أرضحي أي: تصدقي بالقليل، ومعنى لا توعي أي: لا تدخري المال فيمنعه الله عنك، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجر بما أنفقت، ولزوجها أجرة بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض)) رواه البخاري.
هذا ما تيسر لي جمعه في هذه المسألة وللحديث بقية نكمله في الجمعة القادمة.
(1/30)
موقف صدق (توبة صحابي)
سيرة وتاريخ
القصص, غزوات
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا , وحديث كعب
_________
الخطبة الأولى
_________
فاتقوا الله عباد الله، وعظموا أمره واجتنبوا نهيه.
أيها الإخوة: إن في الكتب لخبرا، وإن في السر لعبرا، قصةٌ من قصص المصطفى ، موقف صدق من مواقف الصحب البررة. قلم الكاتب ولسان الخطيب مهما أوتيا من براعة أو حاولا من بلاغة عاجزان عن وصف تلك الحادثة في محنتها وابتلاءاتها، في صدق رجالها، وإيمان أصحابها. فيها ابتلاء هجر الأقربين، وبلاء تزلف المناوئين. قصةٌ كلها عبرٌ وعبرات.. مواقف الصدق والصبر في صحب محمد مثال المتانة في البناء والصفاء في العنصر، وأنموذج الصدق في اللهجة، والإخلاص في الطاعة، والقدوة في الصبر على البلاء، والشكر على السراء. إنها قصة الثلاثة الذين خلِّفوا في غزوة تبوك حين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم.
آياتٌ وأحداثٌ تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب. كان الإمام أحمد رحمه الله لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات، وحديث كعب بن مالك في تفصيل أخبارها.
أيها المسلمون: استنفرَ النبي المسلمين لملاقاة بني الأصفر حين بلغه إعدادهم للعدوان على أهل الإسلام. إنها دولة الروم – إحدى أعظم دولتين في زمنها – حين أحسَّت بعلوِّ شأن الإسلام في الجزيرة منبثقاً من بين جبالها، منطلقاً من صحاراها، فتحت مكة فأخذت الأفواج تلو الأفواج تدخل في دين الله، فتحركت الروم بعسكرها وفكرها ودسائسها.
استنفر النبي الأصحاب، فكان التهيؤ في أيامٍ قائظةٍ، وظروفٍ قاسيةٍ.. في جهدٍ مضنٍ، ونفقاتٍ باهظةٍ. إنه جيش العسرة، وإنها لغزوة العسرة.
وصفها في كتاب الله استغرق آياتٍ طوالاً.. في أنباء الطائعين والمثبِّطين، والمخلصين والقاعدين. يجيء المعذرون ليؤذن لهم، ويتولَّى البكاؤون بفيض دموعهم حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.
اسمعوا رحمكم الله إلى الوصف الصادق الدقيق لقصة الخطيئة والتوبة من كعب بن مالك أحد الثلاثة، رضوان الله عليهم وعلى الصحابة أجمعين.
والقصة مثبتة في الصحيحين وغيرهما [1]. يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: ((وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة. ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبُّوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثيرٌ.. فقلَّ رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظنَّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله. وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصْعَرُ – أي أميل وأرغب – فتجهزَّ رسول الله والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه فأرجع ولم أقضِ شيئاً.. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم فياليتي فعلت)).
أيها الإخوة: ويأخذ الندم من كعب مأخذه، وتبلغ المحاسبة مبلغها فتراه يقول: ((فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله يحزنني أني لا أرى لي أسوةً إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله تعالى في الضعفاء)).
يستمرُّ رضي الله عنه في سرد القصة حتى قال: ((... فلما بلغني أن رسول الله قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بَثِّي – أي شدة الحزن – فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل إن رسول الله قد أظلَّ قادماً راح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ منه بشيءٍ أبداً فأجمعت صدقه)).
وقدم رسول الله وجاءه المخلفون بأعذارهم فقبل منهم، ووكل سرائرهم إلى الله. قال كعبٌ: حتى جئت فلما سلمت تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب، ثم قال: تعالَ ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ((ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهراً – أي اشتريت مركوباً؟ -)) قال: قلت: يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر؛ لقد أعطيت جدلاً، ولكنني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني ليوشكنَّ الله يُسخطك عليَّ، وإن حدثتك حديث صدقٍ تجدُ عليَّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله عزَّ وجلَّ. والله ما كان لي من عذرٍ. والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله : ((أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك)).
ثم جاء إلى كعب رجالٌ من بني قومه يراودونه الاعتذار كما اعتذر المخلفون، قال كعبٌ: فلا زالوا بي حتى هممت أن أرجع فأُكذِّب نفسي عند رسول الله حتى علمت بخبر الرجلين الآخرين مرارة بن الربيع العَمْري وهلال بن أمية الواقفي وهما رجلان صالحان من أهل بدرٍ فيهما أسوةٌ، قال كعب: ((ونهى رسول الله عن كلامنا... فاجتنبَنا الناسُ... حتى تنكَّرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلَدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق فلا يكلمني أحد..)).
وطالت على كعب الجفوة، وعظم الابتلاء وضاقت المسالك حتى قصد ابن عمه أبا قتادة في حائطٍ له متسوِّراً عليه الحائط فناشده مكرراً المناشدة: هل تعلمني أحب الله ورسوله فكان الجواب: الله ورسوله أعلم، ففاضت عينا كعب، ويشتد البلاء فإذا بنبطي من نبط الشام يسأل أهل السوق بالمدينة: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ قال كعب: ((فطفق الناس يشيرون إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان... فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء فتييمت بها التنور فسجرتها)).
أمة الإسلام: هذا هو ديدن أعداء الله في الغابر والحاضر يتحسسون الأنباء ويترصدون المداخل. وكم من أقدام في مثل هذا قد زلَّت، وكم من رجالٍ في مثل هذه الأوحال قد انزلقت. أما كعب فيمَّم بها التنور وسجرها، ولا يزال البلاء به رضي الله عنه حتى جاءه رسول الله يأمره باعتزال امرأته.
وبعد خمسين ليلة من الهجر والمقاطعة يقول كعب: ((فبينا أنا جالسٌ على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت...)) تنزل التوبة وتأتي البشرى، بشرى حسن العقبة، بشرى العودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون الخِلَعُ والجوائز.
يقول كعب: ((فلما جاءني الذي سمعتُ صوتَه يبشرني نزعت له ثوبَيَّ فكسوتهما إياه ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم رسول الله يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة)). فلما سلمت على رسول الله قال وهو يبرق وجهه من السرور: ((أبشر بخير يوم مرَّ عليك مذ ولدتك أمُّك)) فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: ((لا بل من عند الله عزَّ وجلَّ)).
أمة الإسلام: هؤلاء هم رجال الصدق، رجال محمد رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه خرجوا من مدرسة النبوة. صُدُقٌ في الحديث، وصُدُقٌ في الموقف صُبْرٌ عند اللقاء، واعترافٌ بالخطيئة، وقبولٌ في حال الرضا والغضب من غير تنميق عباراتٍ لأجل تلفيق اعتذارات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:117-119].
[1] أخرجه البخاري (7/717-ح4418)، ومسلم (4/2120،2121،2122-ح2769).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله فتح باب التوبة للمذنبين، ووعد بحسن العاقبة للصادقين، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحقُّ المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلم تنته قصة كعب بعدُ لم تقف عند البشارة بالتوبة والتهنئة بالقبول. لقد جلس كعب بين يدي رسول الله وقال: يا رسول الله؛ إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)) فأمسك سهمه الذي بخيبر. وقال: يا رسول الله؛ إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث أحداً إلا صدقاً ما بقيت. فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمَّدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي والله ما أنعم الله عليّ نعمة قطُّ بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. إن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحد. قال الله تعالى: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين [التوبة:95-96].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، توبوا إلى ربكم واصدقوا، وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً.
(1/31)
الخصلتان الحبيبتان
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
سليمان بن حمد العودة
بريدة
16/2/1416
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة
2- الحلم صفة الأنبياء
4- صفة الرفق والأناة
5- تبلد الأحاسيس ليس من الحلم والأناة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه واعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه، وتخلقوا بالأخلاق الفاضلة، وجاهدوا أنفسكم على الاتصاف بالصفات الحميدة فإنها سبيل إلى التقوى وطريق موصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
إخوة الإسلام: وتضطرب على الدوام أمور الحياة، وتكثر في هذه الدار المنغصات والمكدرات، ويصور الشاعر طرفا من هذه المعاناة حين يقول لبيد بن ربيعة العامري:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الديار بعدنا والمصانع
فلا جزع إن فرق الدهر بيننا فكل امرئ يوما له الدهر فاجع
وما الناس إلا كالديار وأهلها بها يوم حلوها وتغدو بلاقع
ويمضون ارسالا وتخلف بعدهم كما ضم إحدى الراحتين الأصابع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وما المرء إلا مضمرات من التقى وما المال إلا عاريات ودائع
أليس ورائى إن تراخت منيتي لزوم العصا تحني عليها الأصابع
.. القصيدة (1)
وأبلغ من ذلك قوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في كبد [البلد: 4 ]. وقوله جل ذكره: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [آل عمران: 185].
وأمام هذه الحقيقة الماثلة يحتاج المسلم – بل العامل – إلى نوع من التعامل يجنيه مزالق الطريق، ويجاوزه العقبات، وإلى نمط من الأخلاق يخفف عنه الصدمات ويسري عنه حين الشدائد والأزمات، ويرشد الإسلام – فيما يرشد – إلى الخروج من المأزق بالتزام الهدوء وعدم العجلة والطيش في التصرفات، ويهدي النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس ((إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة (4) )).
وما أعز هاتين الخصلتين في الناس، وما أشد الحاجة إليها، أما الحلم فهو العقل، وأما الأناة فهى التثبت وترك العجلة (5).
والحلم أفضل من كظم الغيظ، لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم أى تكلف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ أي من هاج غيظه، ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا، فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلن يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعى.
وكذلك تدرب النفس على الحلم بالتحلم، كما حكاه الغزالي يرحمه الله (6).
معاشر المسلمين: ويكفى الحلم عزة ورفعة وعلو شأن أنه من أسماء الله وصفاته.
قال تعالى: واعلموا أن الله غفور حليم [ البقرة: 235 ].
ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم [ آل عمران: 155 ].
وصية من الله والله عليم حليم.[النساء: 12].
والحلم حلية أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، والخليل عليه السلام يصفه ربه بالحلم ويقول: إن إبراهيم لأواه حليم [التوبة :114]. إن إبراهيم لحليم أواه منيب [هود:75].
ويبشره ربه كذلك بابن حليم، ويكون الحلم من صفات إسماعيل عليه السلام. قال تعالى: فبشرناه بغلام حليم [الصافات :101].
ويوصف شعيب عليه السلام بالحلم والرشد من قومه، وإن كان على سبيل التهكم والاستهزاء منهم، قال تعالى: إنك لأنت الحليم الرشيد [هود:87].
لكنه كذلك وإن رغمت أنوف الملأ ويكفيه حلما وعلما أن يقول لهم: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [هود:88].
أما صفوة الخلق وخيرة المرسلين، فيزكيه ربه بكمال الأخلاق ويقول: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].
ويجمع الله به القلوب بعد فرقتها، ويجمع به شمل النفوس بعد شرودها وضياعها، ويقول له ربه: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر [آل عمران :159].
أيها المسلمون: ويوصي الله بالحلم والرفق ومجاهدة النفس عليهما وبين آثارهما، ويقول تعالى: ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [فصلت :24-25].
قال ابن كثير رحمه الله: أى وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس.. ويقول جل ذكره: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى:43].
ويعلق الإمام الطبري على الآية بقوله: ولمن صبر على إساءة من أساء إليه، وغفر للمسيء إليه جرمه، فلم ينتصر منه، وهو على الانتصار منه قادر ابتغاء وجه الله عز وجل وثوابه، إن ذلك لمن عزم الأمور، ندب الله إليها عباده، وعزم عليهم العمل به.
إخوة الإسلام: ونتيجة جهل الإنسان وضعفه، فقد يبدو له أحياناً أن أسلوب الشدة هو أقصر الطرق للوصول إلى هدفه، وأن ممارسة العنف قد تعجل له حصول النتائج التى يرنو إليها.. وليس الأمر كذلك فما يحصل بالحلم والرفق والأناة خير في الآخرة والأولى، كذلك يهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته ويقول: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه (4) )). بل يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم أن الرفق والأناة سبب لكل خير، ويقول: ((إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه، ولا ينزع من شئ إلا شانه)).
ويحذر عليه الصلاة والسلام من فقد الرفق بفقد الخير كله وهو القائل: (( من يحرم الرفق يحرم الخير (1) )). ومن ثم قيل:(الرفق في الأمور كالمسك في العطور (2) ). وقديماً قيل: الحلم سيد الأخلاق.
وما فتئ العارفون يتمثلون الحلم في حياتهم، والأناة في تصرفاتهم، ويهدون بها غيرهم، وقد ورد أن رجلاً سبّ ابن عباس رضى الله عنهما، فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى (3).
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. هو الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت كاذباً فغفر الله لك، وإن كنت صادقاً فغفر الله لى (4).
وما أجمل ما قال الشافعي رحمه الله:
يخاطبنى السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا (5)
أخوة الإيمان: وإذا كانت الحاجة تدعو الحلم والأناة في كل حال في هذه الحياة الدنيا، فهي في زمن الشدائد والفتن أحرى وأولى، ففيها تطيش العقول، وتضطرب القلوب، وتختل المواقف، ولا يسعف المرء إلا التثبت والأناة والحلم والرفق في المدلهمات، لكن ذلك محتاج إلى صبر ومصابرة، وتغليب حظوظ الآخرة على الدنيا، ويضرب ابن عمر رضى الله عنهما أروع الأمثلة في هدوئه وأناتة ورفقه وحلمه في الفتنة ويقول: ( دخلت على حفصة، ونسواتها تنطف – أى ذوائبها تقطر – قلت: قد كان من الناس ما ترين، فلم يجعل لى من الأمر شىء، قالت: الحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فنحن أحق به ومن أبيه، قال حبيب بن مسلم لابن عمر: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عنى غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، قال حبيب: (حفظت وعصمت (1) ).
وسواء وقعت هذه الحادثة حين تفرق الحكمان في (صفين) فلم يتفقوا على أمير المؤمنين، أم كانت في زمن معاوية حين أراد أن يجعل ولاية العهد لابنه يزيد، فهي تصور أناة ابن عمر ورغبته في تسكين الأمور وعدم إثارة الفتن بين المسلمين، والحرص على جمع الكلمة، وهو ما وافقه عليه الصحابي حبيب بن مسلمة حين قال: حفظت وعصمت.
وكذلك ينبغى أن تكون الأناة والرفق والحلم منهجا للمسلم في كل حال، وتتحتم أكثر حين تكون الفتن والفرقة والخلاف، فتلك خير وسيلة لمراغمة الشيطان وجمع كلمة المسلمين، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ومن يحرم الرفق يحرم الخير كله.
أقول ما تسمعون....
(1) أنظر مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق لابن حزم ص 83 ، 84 حاشية.
(4) الحديث رواه مسلم وغيره ( صحيح مسلم 1 / 48 ح 25 ).
(5) كما ذكر لك الإمام النووى رحمه الله ( شرح مسلم 1 / 189 ).
(6) الإحياء 9 / 1657.
(4) رواه مسلم ح 2593 ، 4 / 204.
(1) روى الحديثين الإمام مسلم في صحيحه 4 / 2003 ، 2004.
(2) الأخلاق الضائعة للعنبرى / ص 32.
(3) إحياء علوم الدين 9 / 1661.
(4) الإحياء 9 / 1661.
(5) الأخلاق الضائعة / العنبرى / 34.
(1) الحديث أخرجه البخارى وغيره ( انظر الفتح 7 / 403 ).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين قدر أرزاق العباد، وقسم أخلاقهم، والمغبوط حقا من وفقه الله علما وحلما، قال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعم حلمك، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى (1).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعطى الدنيا من أحب ومن لم يحب، ولكن لا يعطى الدين إلا من أحب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، علم الأمة بسلوكه القولي والفعلي العلم والحلم والرفق والأناة، والخير كل الخير في اتباع سنته واقتفاء أثره.
أيها المسلمون: ولم يكن الأناة والرفق وتسكين الأمور في الفتن سلوكا خاصا بابن عمر رضي الله عنهم، بل كان ذلك ديدن الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضى الله عنهم، وهذا سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه وهو أحد المبشرين بالجنة، ثبت عنه أنه قال لابنه حين حثه في القيام ببعض الأمور في الفتنة قال لابنه: (يا هذا! أتريد أن أكون رأسا في الفتنة، لا والله (2) ).
بل وصل الأمر بسعد رضى الله عنه إلى أن أعتزل الناس حين وقعت الفتنة.
ولا شك أن سعدا وابن عمر وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم تعلموا سلوك الأناة والرفق والنظر في الأمور من محمد صلى الله عليه وسلم الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه، وزكاه في محكم تنزيله لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [التوبة :128].
ومحمد صلى الله عليه وسلم لأناته وحسن تقديره لم يتعجل في تغيير بناء الكعبة، وهو القائل لعائشة رضي الله عنها: ((لولا حدثان قومك بكفر لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين (4) )).
والبخاري رحمه الله بوب على هذا الحديث بابا عظيما فقال: (باب من ترك بعض الأخبار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشد منه).
معاشر المسلمين: وهل علمتم أن الحلم والأناة سبب للحفظ والبقاء، حتى وإن كان المحفوظ فاسقا أو كافرا؟
تأملوا في هذا الحديث الذى رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، وقد جاء فيه أن المستورد القرشي رضى الله عنه – وعنده عمرو بن العاص رضى الله عنه – ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس! قال له عمرو: أبصر ما تقول، قال المستورد: ومالي أنا لا أقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو: إن كان كذلك فلأن في الروم خصالا أربعا، وعد منها: أنهم أحلم الناس عند الفتنة، وإنهم أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة))... وعد بقية الخصال الأربع.
قال أهل العلم: هذا كلام من عمرو بن العاص رضي الله عنه، لا يريد أن يثني على الروم والنصارى الكفرة.. كلا، ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أنهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة، لأنهم عند وقوع الفتن أحلم الناس فهم لا يحملون ولا يعجلون ولا يغضبون، فيقوا أنفسهم ويقوا أصحابهم القتل (1).
ومن العجب أن يتساهل المسلمون فيما نص عليه دينهم ويتشبث بها من حرفت كتبهم ونسخت أديانهم؟
أيها المؤمنون، وتشتد الحاجة للحلم كذلك حين تستأثر المشاعر، فتحتاج إلى التهدئة والتسكين، وحين تشعر النفوس بالضيم، فتتطلع إلى الانتصار وحين يشيع المنكر، فترتفع أسهم الغيرة لدين الله.
لكنها يجب أن تضبط بميزان الشرع وأن تحكم بالعقل، وأن تحلى بالحلم، وأن تجمل بالرفق ( وما كان الرفق في شىء إلا وزانه ).
وعلى مسلمي اليوم أن يتذكروا أن الاستفزاز قديم، وأن العاقبة للمتقين إن هم صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا رب العالمين.
واقرؤوا القرآن الكريم وستجدون فيما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً سُنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلاً [الإسراء:76-77].
وقال تعالى – في معرض الحديث عن صراع الحق والباطل بين موسى عليه السلام وفرعون – فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعاً وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً [الإسراء :103-104].
أخوة الإسلام: ولا يعني الحلم والأناة تبلد الإحساس عن مصائب المسلمين، ولا موت المشاعر عن واقعهم المهين، ففئة تقتل أو تهجر – كما يحصل اليوم على أرض البوسنة والشيشان وغيرها – وربما مات الكثير من فقد الطعام والشراب، وفئة تؤذى أو تنفى أو تسجن أو تعذب كما في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين.
وليس من الحلم والأناة إضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتكاسل في الدعوى إلى الله بالحسنى، ولا القعود عن نصرة المظلومين، ومحبة المؤمنين، والبراءة من الكافرين، وبغض المنافقين، ولكن الحلم والأناة تريث وتعقل في الحركات، وتأن وعدم عجلة في التصرفات، ونظر محمود في العواقب، وتقدير وتغليب للمصالح والمفاسد، إنه كبح جماح، النفس والهوى، واستشارة لذوي العلم والفضل والنهى، بالحلم والأناة يسود العلماء، وبالحلم والأناة والرفق يصلح شأن الولاة والأمراء. ((اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتى شيئا فرفق بهم فارفق به)).
كذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم (3).
وتأملوا في عظيم هذه الحكمة التى أسداها واحد من سادات الحكماء ومن يضرب بحلمه وسؤدده المثل.
إنه الأحنف بن قيس رحمه الله، الذي يقال أنه كلم مصعب بن الزبير في محبوسين، وقال: أصلح الله الأمير إن كانوا حبسوا في باطل فالعدل يسعهم، وإن كانوا حبسوا في حق فالعفو يسعهم.
وهو القائل: لا ينبغى للأمير الغضب، لأن الغضب في القدرة لقاح السيف والندامة (4).
وبالحلم والرفق والأناة ينبغى أن يربى الأباء والأمهات البنين والبنات، وأن يكون جزءا مهما من وظيفة المربين، وأسلوبا عمليا للمعلمين، ونهجا متبعا للقادة والمسؤولين، اللهم هيء للمسلمين من أمرهم رشدا، وارزقهم الحلم والأناة والرفق في الأمور كلها.
(1) الإحياء 9 / 1660.
(2) صالح آل الشيخ ، الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن ، ص 41.
(4) إخرجه البخارى في صحيحه.
(1) الضوابط الشرعية.... آل الشيخ / 17 ، 18.
(3) رواه مسلم ( 1828 ) رياض الصالحين / 298.
(4) سير أعلام النبلاء 4 / 94.
(1/32)
صنائع المعروف
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
سعادة الناس تكون بالتعاون والتعاطف - من شكر النعمة والمحافظة عليها قضاء حوائج الناس-
الأحاديث في فضل تفريج الكربات عن المسلم - من صور البر والمعروف - آداب البذل والمعروف
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في البشر أن جعل بعضهم لبعضٍ سُخريّاً، لا تتم لهم سعادتهم إلا بالتعاون والتواصل، ولا تستقر حياتهم إلا بالتعاطف وفشو المودة. يرفق القويُّ بالضعيف، ويُحسن المكثر على المقلِّ. ولا يكون الشقاء ولا يحيق البلاء إلا حين يفشو في الناس التقاطع والتدابر، ولا يعرفون إلا أنفسهم، ولا يعترفون لغيرهم بحق.
معاشر الإخوة: عزيزٌ على النفس الكريمة المؤمنة أن ترى مسكيناً بليت ثيابه حتى تكاد تُرى عورته، أو تبصر حافيَ القدمين أدمت حجارة الأرض أصابعه وقطعت عقبيه، أو تلحظ جائعاً يمدُّ عينيه إلى شيءِ غيرِه فينقلب إليه البصر وهو حسير.
حين تفشو مثلُ هذه الأحوال، ثم لا يكترث القادرون، ولا يهتمُّ الموسرون فكيف يكون الحال؟ وأين وازع الإيمان؟!
ولكنَّ الله برحمته حين خلق المعروف خلق له أهلاً، فحبَّبه إليهم، وحبَّب إليهم إسداءه، وجَّههم إليه كما وجَّه الماء إلى الأرض الميتة فتحيا به ويحيا به أهلها، وإن الله إذا أراد بعبده خيراً جعل قضاء حوائج الناس على يديه، ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلق الناس به، فإن قام بما يجب عليه لله فيها فقد شكرها وحافظ عليها، وإن قصَّر وملَّ وتبرَّم فقد عرَّضها للزوال ثم انصرفت وجوه الناس عنه.
وقد ورد في الحديث: ((إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع عباده يقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم)) [1].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمةً وأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرَّم فقد عرَّض تلك النعمة للزوال)) [2].
وإن في دين الله - يا عباد الله - شرائع محكمةً لتحقيق التواصل والترابط، تربي النفوس على الخير، وترشد إلى بذل المساعدات وصنائع المعروف.
ففي الخبر الصحيح عنه : ((من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) [3].
وفي الصحيحين أيضاً: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) [4].
ولعِظَم الأمر ودقَّتِه - أيها الإخوة - فقد قال أهل العلم: إن تفريج الكروب أعظم من تنفيسها؛ إذ التفريج إزالتها، أما التنفيس فهو تخفيفها، والجزاء من جنس العمل، فمن فرج كربة أخيه فرج الله كربته، والتنفيس جزاؤه تنفيس مثله.
والتيسير على المعسر في الدنيا جزاؤه التيسير من عسر يوم القيامة، وحسبك في يومٍ قال فيه ربُّ العزة: فذلك يومئذٍ يومٌ عسير على الكافرين غير يسير [المدثر:9-10].
وفي صحيح مسلم: ((من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)) [5] ، ((ومن أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه)) [6].
والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً. وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعباده. وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.
ولقد قال بعض الحكماء: أعظم المصائب أن تقدر على المعروف ثم لا تصنعه.
والغبطة - أيها الأحبة - فيمن يسَّر الله له خدمة الناس وأعانه على السعي في مصالحهم.
يقول عليٌّ رضي الله عنه: يا سبحان الله ما أزهد كثيراً من الناس في الخير!!! عجبت لرجلٍ يجيئه أخوه لحاجته فلا يرى نفسه للخير أهلاً!!! فلو كنا لا نرجو جنةً ولا نخاف ناراً ولا ننتظر ثواباً ولا نخشى عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق.. فإنها تدل على سُبُلِ النجاح؟؟ فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين: أسمعته من رسول الله ؟ قال: نعم، وما هو خيرٌ منه: لقد أتينا بسبايا طيٍّ.. كان في الناس جاريةٌ حسناء تقدمت إلى رسول الله وقالت: يا محمد، هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت ألا تخلي عنِّي فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنتُ سيدِ قومي، كان أبي يفك العاني، ويحمي الذِّمار،ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يردَّ طالب حاجة قط ، أنا بنت حاتم الطائي فقال النبي : ((يا جارية هذه صفة المؤمن. خلُّوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق)) [7].
وإن دروب الخير - أيها المسلمون - كثيرة وحوائج الناس متنوعة؛ إطعام جائعٍ، وكسوة عارٍ.. عيادة مريضٍ، وتعليم جاهل.. وإنظار معسر، وإعانة عاجز، وإسعاف منقطع.. تطرد عن أخيك هماً، وتزيل عنه غماً.. تكفل يتيماً، وتواسي أرملة.. تكرم عزيز قومٍ ذلَّ، وتشكر على الإحسان، وتغفر الإساءة.. تسعى في شفاعة حسنة تفك بها أسيراً، وتحقن بها دماً، وتجرُّ بها معروفاً وإحساناً.
كل ذلك تكافلٌ في المنافع وتضامنٌ في التخفيف من المتاعب.. وتأمينٌ عند المخاوف، وإصلاحٌ بين المتخاصمين، وهدايةٌ لابن السبيل. فإن كنت لا تملك هذا ولا هذا فادفع بكلمةٍ طيبةٍ وإلا.. فكُفَّ أذاك عن الناس.
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة)) [8].
نعم أيها الإخوة: كل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة. والصدقة تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، والمال إن لم تصنع به معروفاً أو تقضي به حاجة وتدخر لك به أجراً فما هو إلا لوارث أو لحادث. وصنائع البر والإحسان تُستعبد بها القلوب.
والشحيح البخيل كالح الوجه يعيش في الدنيا عيشة الفقراء ويحاسب يوم القيامة حساب الأغنياء، فلا تكن أيها الموسر القادر خازناً لغيرك.
أيها الإخوة الأحباب: إن صفو العيش لا يدوم، وإن متاعب الحياة وأرزاءها ليست حكراً على قومٍ دون قوم، وإن حساب الآخرة لعسير، وخذلان المسلم شيء عظيم.
والمسلمون هانوا أفراداً وهانوا أمماً حين ضعفت فيهم أواصر الأخوة، ووهت فيهم حبال المودة. عندما تستحكم الأنانيات وتستغلق المسالك على أصحاب الضوائق.
بل إن بعض غلاظ الأكباد وقساة القلوب ينظرون إلى الضعيف والمحتاج وكأنه قذى في العين.. يزلقونه بأبصارهم في نظرات كلها اشمئزاز واحتقار. ألا يعتبر هؤلاء بأقوام دار عليهم الزمان وعَدَت عليهم العوادي، واجتاحتهم صروف الليالي... فاستدار عزهم ذلاً، وغناهم فقراً، ونعيمهم جحيماً؟.
فاتقوا الله رحمكم الله وأصلحوا ذات بينكم، ولتكن النفوس سخية، والأيدي بالخير ندية، واستمسكوا بعرى السماحة وسارعوا إلى سداد عوز المعوزين، ومن بذل اليوم قليلاً جناه غداً كثيراً.. تجارة مع الله رابحة، وقرض لله حسن مردود إليه أضعافاً مضاعفة.. إنفاق بالليل والنهار والسر والعلن: ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ بِ?لَّيْلِ وَ?لنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي رسوله الكريم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الهيثمي في كتاب مجمع البحرين في زوائد المعجمين(5/211-ح2939) وفي مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه محمد بن حسان السمتي وثقه ابن معين وغيره، وفيه لين ولكن شيخه أبو عثمان عبد الله بن زيد الحمصي ضعفه الأزدي (8/192). وقال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير والأوسط ولو قيل بتحسين سنده لكان ممكناً. انظر: الترغيب والترهيب (3/391)، وحسنه الألباني بمجموع طرقه.انظر: السلسلة الصحيحة (4/264،265-ح1692).
[2] قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده جيد. انظر: مجمع الزوائد (8/192).
[3] أخرجه مسلم (4/2074-ح2699).
[4] أخرجه البخاري (5/116/-ح2442)، ومسلم(4/1996-ح2580).
[5] أخرجه مسلم (3/1196-ح1563).
[6] أخرجه مسلم (4/2302-ح3006)، والترمذي (3/599-ح1306) وقال: حديث حسن صحيح غريب. واللفظ له.
[7] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (5/341)، وابن كثير في البداية والنهاية (5/77)، وقال: هذا حديث حسن المتن، غريب الإسناد جداً، عزيز المخرج.
[8] أخرجه الترمذي (4/299-ح1956) وقال: حديث حسن غريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عظيم الشأن قديم الإحسان، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولى من جزيل الفضل والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحفظوا لإخوانكم حقوقهم، واعرفوا فضل الله عليكم. فمن وفق لبذل معروف أو أداء إحسان فليكن ذلك بوجه طلق ومظهر بشوش، وليحرص على الكتمان قدر الإمكان ابتغاء الإخلاص، وحفاظاً على كرامة المسلم.
ويبلغ الأدب غايته حين يعلم باذل المعروف أن ما يقدمه هو حق لهؤلاء ساقه الله على يديه فلا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً. وقد روي أن رجلاً جاء لبعض أهل الفضل يستشفع به في حاجة فقضاها له، فأقبل الرجل يشكره، فقال له: علام تشكرنا؟ ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة. أما من أتبع إحسانه بالمنِّ والأذى فقد محق أجره، وأبطل ثوابه. فاتقوا الله يرحمكم الله، وابذلوا الفضل والمعروف بوجه طلق وقصد حسن، تستقم الأحوال، وتتنزل البركات، ويحل التوفيق.
(1/33)
السحر حقيقته وحكمه ولماذا ينتشر ؟
التوحيد
نواقض الإسلام
سليمان بن حمد العودة
بريدة
1/5/1417
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى السحر
2- أنواع السحر
3- حكم السحر
4- هل للسحر حقيقة
5- لماذا كان السحر كفرا 6- حكم الساحر
_________
الخطبة الأولى
_________
فأما بعد فاتقوا الله عباد الله وارجوا اليوم الآخر ولا يصدنكم الشيطان فينسيكم ذكر الله..
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18].
واحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم : استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أُوْلَئكَ حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون [المجادلة:19].
أيها المسلمون: وبقي من الحديث عن نواقض الإسلام، الحديث عن السحر، ذلكم البلاء المستشري، والحقيقة المرة.
داء من أدواء الأمم قديما، ولسوء آثاره اتهمت به الأنبياء، وهم منه براء كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون [الذاريات:52].
وهو مشكلة من مشكلات الزمن حديثا، وفى عصر التقدم المادي تزداد ظاهرة السحر والشعوذة نفوذا، وتجرى طقوسه فى أكثر شعوب العالم تقدما، وربما أقيمت له الجمعيات والمعاهد، أو نظمت له المؤتمرات والندوات (1).
وهنا لابد من وقفة تجيب على عدة أسئلة، منها :
ما معنى السحر؟ وهل له حقيقة؟ وما جزاء السحرة؟ ولماذا يروج السحر فى بلاد المسلمين؟ وما حكم الذهاب للسحرة والعرافين؟ وما عقوبة الذاهبين؟ وما هي عوامل الوقاية وطرق الخلاص من السحرة والمشعوذين؟
إخوة الإسلام: أما معنى السحر فيطلق فى لغة العرب على كل شيء خفي سببه، ولطف ودق، ولذلك قالوا " أخفى من السحر " (2).
أما تعريفه فى الشرع فهو كما قال ابن قدامة :"عقد ورقى يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر فى بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له.
وهو أنواع مختلفة وطرائق متباينة، ولذا قال الشنقيطي رحمه الله : "اعلم أن السحر لا يمكن حده بحد جامع مانع، لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينهما يكون جامعا له، مانعا لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء فى حده اختلافا متباينا "
ومن السحر: الصرف والعطف، والصرف هو صرف الرجل عما يهوى، كصرفه مثلا عن محبة زوجته إلى بغضها، والعطف عمل سحري كالصرف، ولكنه يعطف الرجل عما لا يهواه إلى محبته بطرق شيطانية.
والسحر محرم فى جميع شرائع الرسل عليهم السلام وهو أحد نواقض الاسلام _ كما علمت _ حتى قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله: فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وقد دل القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة وأقوال أهل العلم على أن للسحر حقيقة، كيف لا؟ والله يقول ومن شر النفاثات فى العقد.
ويقول واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. [البقرة:102].
ويقول عن موسى عليه السلام : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى.[طه آيه 69].
وفى الحديث المتفق على صحته : عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخيل إليه أنه يفعل الشىء، وما يفعله.. الحديث )).
قال النووي:( والصحيح أن السحر له حقيقة وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة ).
بل قال الخطابى بعد أن أثبت حقيقة السحر، ورد على المنكرين:( فنفي السحر جهل، والرد على من نفاه لغو وفضل ).
إخوة الايمان: أما مكمن الخطر فهو في تعليمه، والعمل به، لما في ذلك من الكفر والإشراك بالله من جانب، وإلحاق الأذى والضرر بعباد الله من جانب آخر قال الله تعالى: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله فى الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [البقرة 102]
ويبين الشيخ السعدي _ يرحمه الله _ وجه إدخال السحر فى الشرك والكفر فيقول:( السحر يدخل فى الشرك من جهتين: من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم، وربما تقرب اليهم بما يحبون، ليقوموا بخدمته، ومطلوبه، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب، ودعوى مشاركة الله فى علمه، وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك، من شعب الشرك والكفر).
ويقول الذهبي:( فترى خلقا كثيرا من الضلال يدخلون في السحر، ويظنون أنه حرام فقط، وما يشعرون أنه الكفر..)
أيها المسلمون: ولهذا جاء تحذير المصطفى صلى الله عليه وسلم عن السحر أكيدا شديدا، وجاء حكم الشريعة في السحرة صارما عدلا.
يقول عليه الصلاة والسلام : (( اجتنبوا السبع الموبقات... فعد منهن : السحر)) ، والموبقات هي المهلكات)).
وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام : (( ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر )).
وفي حديث ثالث يبلغ تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : (( ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن له، أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )).
أما حكم السحرة وحدهم فيقول ابن تيمية رحمه الله :( أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله، وقد ثبت قتل الساحر عن(عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وحفصة بنت عمر، وعبد الله بن عمر، وجندب بن عبد الله... ).
وعن بجالة بن عبدة أنه قال: كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر )
وفي رواية عن أبي داود بسند صحيح عن بجالة بن عبدة قال: جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنة : ( اقتلوا كل ساحر... ).
قال ابن قدامة معلقا على هذا الأثر : (وهذا اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعا)، وإنما جاء حكم الشريعة بقتل الساحر لأنه مفسد في الأرض يفرق بين المرء وزوجه، ويؤذي المؤمنين والمؤمنات ويزرع البغضاء ويشيع الرعب، ويفسد على الأسر ودها، ويقطع على المتوادين حبهم وصفاءهم، وفي قتله قطع لفساده، وإراحة البلاد والعباد من خبثه وبلائه. والله لا يحب المفسدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكذبون [يونس:69-70].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
(1) العبد اللطيف، نواقض الإيمان / 501.
(2) عالم السحر والشعوذة، الأشقر / 69.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن يمسسك بضر فلا كاشف له إلا هو، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، تضرع إلى ربه حين ناله الأشرار بسوء فكشف الضر عنه وعافاه..
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أما بعد: فالسؤال المهم الذى ينبغي أن نشترك جميعا في الإجابة عليه: لماذا يروج السحر وتكثر السحرة في بلاد المسلمين ؟
وللإجابة عنه يمكن رصد عدد من الأسباب، ومنها :
1_ضعف الايمان فى نفوسنا أحيانا، إذ الإيمان دعامة كبرى، ووقاية عظمى من كل فتنة وشر ومكروه ومن يؤمن بالله يهد قلبه [التغابن:11].
وفى الحديث : ((إن الإيمان ليَخلََق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم (2) )) فحين يضعف الرجاء بالله، ويقل الخوف منه ويهتز جانب التوكل على الله، والرضاء لما قدر، واليقين بما قسم يتسامح بعض الناس بالذهاب للسحرة والمشعوذين فيزيدهم ذلك وهنا على وهنهم، وتستلب أموالهم وعقولهم.
2_ الجهل بأحكام الشريعة، وما جاء فيها من زواجر عن الذهاب إلى هؤلاء السحرة والعرافين، وما ورد فى ذلك من ضرر على المعتقد والدين.
وهل يذهب إليهم من عرف وقدر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : (( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (3) )) الحديث.
أما إن سألهم وصدقهم فالخطب أكبر، والخطر أعظم، فقد روى الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أتى عرفا أو كاهنا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (4) )) وعند البزار بسند صحيح عن ابن مسعود رضى الله عنه موقوفا قال : (( من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )).
3- سذاجة بعض المسلمين وجهلهم بحال أولئك السحرة والمشعوذين فتراهم يذهبون يستطبون عندهم، وأولئك لا يملكون من أنواع العلاج إلا ما يضر ولا ينفع، تخرصات وأوهام وفصد للعروق تسيل منه الدماء وتمتمات وطلاسهم وكتابات وربط تباع بغالي الأثمان، وهي لا تساوي فلسا عند أولي الألباب.
بل ولو ذهبت ترقب أحوال هؤلاء المشعوذين الدينية والخلقية لرأيت العجب العجاب، ولأيقنت أنهم أحوج الناس إلى العلاج والاستصلاح وإن نصبوا أنفسهم على هيئة الشيوخ وحذاق الأطباء ؟
4- طغيان الحياة المادية المعاصرة قست له القلوب وجفت ينابيع الخير في أرواح كثير من الناس ونتج عن ذلك العقد النفسية والمشكلات الوهمية وارتفاع مؤشر القلق، وزاد الطين بلة ظن أولئك المرضى أن شفاءهم يتم على أيدي السحرة والمشعوذين، فراحوا يطرقون أبوابهم ويدفعون أموالهم وينتظرون الشفاء على أيديهم، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار (1).
5- وباتت بعض بيوت المسلمين مرتعاً للشياطين يقل فيها ذكر الله، وقلَّ أن يقرأ فيها كتاب الله أو تردد فيها التعاويذ والأوراد الشرعية التي لا يستقر معها الشياطين، وفي مقابل ذلك تجد هذه البيوت ملأى بأنواع المنكرات المرئي منها والمسموع والصور العارية وغير العارية وألوان الكتب والمجلات السيئة، وقد لا تخلو من مأكول أو مشروب محرم، وهذه البيوت الخربة وإن كان ظاهرها العمران تصبح مأوى للشياطين وتصطاد أهلها وتصيبهم بالأدواء، فلا يجدون في ظنهم سبيلا للخلاص إلا عن طريق السحر والشعوذة والكهانة، وهكذا يسري الداء، وكلما ابتعد الناس عن الله ومنهجه عظمت حيرتهم وكثر بلاؤهم، ووجد شياطين الجن والإنس لدجلهم رواجا.
6- ضعف دور العلماء والمفكرين وأهل التربية في التحذير من السحرة وبيان الأضرار الناجمة عن الذهاب للمشعوذين والعرافين، وتلك وربي تستحق أن تعقد لها الندوات وأن تسلط عليها الأضواء في وسائل الإعلام المختلفة حتى يتم الوعي ولا يؤخذ الناس بالدجل.
7- وإذا عطل أو قلّ تنفيذ حكم الله في السحرة أو ضعف المتابعة لهم انتشروا وراج دجلهم وقد يكون من أسباب ذلك عدم الإثبات وضعف تعاون الناس فى البلاغ، إذ من الناس من يقل أو ينعدم خوفه من الله، فيسعى في الأرض مفسدا إلا أن تردعه قوة أو يخاف الحد، ومن المعلوم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وقد جاء فى حديث يصح وقفه – دون رفعه – (( حد الساحر ضربة بالسيف (1) ))
وينبغي أن يتعاون الناس في الرفع للجهات المسئولة لمن يثبت تعاطيه السحر.
8- انتشار العمالة الوافدة بشكل عام ومن غير المسلمين بشكل أخص والحذر من السائقين والخدم. ففيهم من يتعاطى السحر أو يتعاون مع أهله.
ولهم على البيوت في ذلك أثار سيئة وينبغي التفطن لها.
ومن أعظم وسائلهم جمع الشَعر وإرساله وعقد السحر فيه، وكم هو جهد مشكور لموظف بريد أو رجل جوازات اكتشف شيئا من وسائل السحر والشعوذة، فأراح المسلمين أو غيرهم منها. وسلم الله المجتمع من أضرارها بسبب يقظته وشعوره بالواجب.
9- استمرار المرض وضيق الصدر. وقلة الصبر وضعف الاحتساب للأجر عند الله. وكل ذلك قد يدفع البعض للذهاب لهؤلاء. وإن لم يكن مقتنعا فى البداية.
وربما أقنع نفسه أو أقنعه غيره أن ذلك من فعل الأسباب.
و الإنسان لاشك مأمور بفعل الأسباب. ولكنها الأسباب المشروعة دون المحرمة.
10- والدعاية الكاذبة سبب للرواج وذهاب لهؤلاء الدجالين، فقد يكتب الله شفاء لمريض على أيدي هؤلاء لتكون له فتنة.
فيطير بالخبر وينشر في الآفاق الدعوة للذهاب لهؤلاء ليفتن غيره كما فتن، وبعض الناس لديه القابلية للتصديق لأي خبر دون تمحيص أونظر في العواقب.
وهكذا يفتن الناس بعضهم بعضا. ويكونون أداة للدعاية الكاذبة الخاسرة من حيث يشعرون أو لا يشعرون؟
عباد الله هذه بعض الأسباب لرواج السحر والذهاب للسحرة. وقد يكون هناك غيرها..
ومن العدل والإنصاف أن يقال : إنه على الرغم من انتشار السحر ووجود من يذهب إليهم. فثمة فئات من المسلمين يربؤون بأنفسهم ومن تحت أيديهم عن الذهاب لهؤلاء الدجالين من السحرة والكهنة والعرافين والمشعوذين، يحميهم الدين. ويبصرهم العقل. وملاذهم التوكل واليقين. وزادهم الصبر واحتساب الأجر من رب العالمين. وتلك شموع تضيء، وهي نماذج للعلم والعقل والدين. وجعلنا الله منهم وإخواننا المسلمين.
أيها المسلمون: ويبقى بعد ذلك حديث مهم عن عوامل الوقاية من هذا الداء وطرق الخلاص المشروعة لمن ابتلي بشيء من ذلك وأمور أخرى مهمة أرجئ الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية فى ديننا ودنيانا، اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واحفظ علينا ديننا وأمننا وإيماننا...
(2) رواه الطبرانى والحاكم وسنده صحصح ( صحيح الجامع 2/ 56 ).
(3) رواه مسلم ( ح 2230 ).
(4) ؟عاام اليحر والشعوذه / الاشقر ص 8،88.
(1)
(1) اخرجه الترمذى وقال : لا يسح رفعه والبيهقى والحاكم وصححه ووافقه الذهبى ( المستدرك 4/ 360، نواقض الايمان / 512
(1/34)
التوبة وسعة رحمة الله
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
أعداء الإنسان ودورهم في إضلاله – رحمة الله بعباده ولطفه بهم وتوبته عليهم – فضل التوبة
وشمولها – أهمية الأعمال الصالحة وأثرها في تكفير السيئات – أثر المصائب في تكفير السيئات - ضرورة المبادرة بالتوبة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله ، واستقيموا إليه واستغفروه.
أيها المؤمنون، يحيط بابن آدم أعداء كثير، من شياطين الإنس والجن ، يحسنون القبيح ، ويقبحون الحسن، ينضم إليهم النفس الأمارة بالسوء ، والشيطان ، والهوى، يدعونه إلى الشهوات ، ويقودونه إلى مهاوي الردى. ينحدر في موبقات الذنوب صغائرها وكبائرها ، ينساق في مغريات الحياة ، وداعيات الهوى ، يصاحب ذلك ضيق وحرج وشعور بالذنب والخطيئة فيوشك أن تنغلق أمامه أبواب الأمل ، ويدخل في دائرة اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله.
ولكن الله العليم الحكيم ، الرؤوف الرحيم، الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؛ فتح لعباده أبواب التوبة ، ودلهم على الاستغفار وجعل لهم من أعمالهم الصالحة كفارات ، وفي ابتلاءاتهم مكفرات. بل إنه سبحانه بفضله وكرمه يبدل سيئاتهم حسنات: يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ ?للَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفاً [النساء:27، 28].
أيها الإخوة في الله، لقد جعل الله في التوبة ملاذاً مكيناً وملجأ حصيناً، يلجه المذنب معترفا بذنبه ، مؤملاً في ربه ، نادماً على فعله ، غير مصرٍ على خطيئته، يحتمي بحمى الإستغفار، يتبع السيئة الحسنة ؛ فيكفر الله عنه سيئاته ، ويرفع من درجاته.
التوبة الصادقة تمحو الخطيئات مهما عظمت حتى الكفر والشرك قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38].
وقتلة الأنبياء ممن قالوا إن الله ثالث ثلاثة وقالوا إن الله هو المسيح بن مريم -تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا لقد ناداهم المولى بقوله: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى? ?للَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:74].
فتح ربكم أبوابه لكل التائبين ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، وخاطبكم في الحديث القدسي: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم)) [1] وفي التنزيل: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]، وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ?للَّهَ يَجِدِ ?للَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:110]، ومن ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله فقد ظن بربه ظن السوء. كم من عبد كان من إخوان الشياطين فمن الله عليه بتوبة محت عنه ما سلف فصار صواماً قواماً قانتاً لله ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
أيها المؤمنون، من تدنس بشيء من قذر المعاصي فليبادر بغسله بماء التوبة والاستغفار؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إذا أذنب عبد فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفر لي فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر فذكر مثل الأول مرتين أخريين حتى قال في الرابعة: فليعمل ما شاء)) [2] ، يعني مادام على هذه الحال كلما أذنب ذنباً استغفر منه غير مُصر.
وجاء رجل إلى النبي وهو يقول: واذنوباه مرتين أو ثلاثاً فقال له النبي : ((قل اللهم مغفرتك أوسع لي من ذنوبي ، ورحمتك أرجى عندي من عملي ، ثم قال له: أعد فأعاد ، ثم قال له: أعد فأعاد فقال: قم فقد غفر الله لك)). أخرجه الحاكم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه [3] ، وأخرج أيضاً من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي فقال: يا رسول الله: أحدنا يذنب ، قال: ((يكتب عليه)). قال: ثم يستغفر منه قال : ((يغفر له ويتاب عليه)). قال: فيعود فيذنب. قال : ((يكتب عليه)). قال: ثم يستغفر منه ويتوب. قال: ((يغفر له ويثاب عليه. ولا يمل الله حتى تملوا)) [4].
وسئل علي رضي الله عنه عن العبد يذنب؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل حتى متى؟ حتى يكون الشيطان هو المحسور.
وقيل للحسن رحمه الله: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود؟ فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا ، فلا تملوا من الاستغفار.
إلى جانب التوبة والاستغفار ـ أيها الإخوة ـ تأتي الأعمال الصالحة من الفرائض والتطوعات تكفر بها السيئات ، وترفع بها الدرجات. طهارة وصيام وصدقات وحج وجهاد وغيرها.
من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله يقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة [5] ، والصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر [6]. ومن توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وانصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام [7] ؛ أخرج كل ذلك مسلم في صحيحه من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهذا باب واسع لا يكاد يقع تحت حصر من طلب الرزق ، وإطعام الطعام ، وحسن الخلق ، والسماحة في التعامل ، وطلب العلم ، وقضاء الحوائج ، وحضور مجالس الذكر ، والرحمة بالبهائم ، وإماطة الأذى. فأبشروا وأملوا وأحسنوا الظن بربكم.
يضاف إلى ذلك يا عباد الله ما يصيب المسلم من البلايا في النفس والمال والولد ، وما يعرض له من مصائب الحياة ونوائب الدهر ، فهي كفارات للذنوب ، ماحيات للخطايا ، رافعات للدرجات.
في خبر الصحيحين: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفّر الله له بها حتى الشوكة يشاكها)) [8] وفي رواية: ((إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة)) [9].
وفي الموطأ والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) ، وفي رواية الموطا: ((ما يزال المؤمن يضار في ولده وحامته ـ أي أقربائه وخاصته ـ حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة)) [10].
أيها المسلمون، إن العبد إذا اتجه إلى ربه بعزم صادق وتوبة نصوح موقنا برحمة ربه واجتهد في الصالحات دخلت الطمأنينة إلى قلبه ، وانفتحت أمامه أبواب الأمل ، واستعاد الثقة بنفسه، واستقام على الطريقة ، واستتر بستر الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ?للَّهُ ?لنَّبِىَّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى? بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ?غْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد ؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظلم، حديث (2577).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب التوحيد – باب قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله ، حديث (7507)، وصحيح مسلم: كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب... حديث (2758).
[3] إسناده ضعيف، مستدرك الحاكم (1/544-545) وقال: رواته عن آخرهم مدنيون لا يُعرف واحد منهم بجرح. قلت: قال ذلك مع أنه قد تكلم في شيخه إسماعيل بن محمد الشعراني، انظر ميزان الاعتدال (1/408)، وفي إسناده من لم أجد له ترجمة. وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (4101)، والسلسلة الضعيفة (4062).
[4] إسناده حسن، مستدرك الحاكم (1/59)، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير (17/287)، قال الهيثمي في المجمع (10/200): إسناده حسن.
[5] صحيح، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا... حديث (666).
[6] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الطهارة – باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة... حديث (233).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الجمعة – باب فضل من استمع وأنصت... حديث (857).
[8] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المرضى – ما جاء في كفارة المرض، حديث (5640)، وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب ثواب المؤمن فيما يصيبه... حديث (2572).
[9] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب ثواب المؤمن فيما يصيبه... حديث (2572).
[10] إسناده صحيح، أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجنائز – باب الحسبة في المصيبة (1/236) بلاغاً، ووصله ابن عبد البر في التمهيد (24/180) عن مالك عن ربيعة الرأي عن أبي الحباب سعيد بن يسار عن أبي هريرة مرفوعاً به، وهو إسناد صحيح، ثم قال ابن عبد البر: لا أحفظه لمالك عن ربيعة عن أبي الحباب إلا بهذا الإسناد، وأما معناه فصحيح محفوظ عن أبي هريرة من وجوه. ثم ذكرها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، أحمده سبحانه وأشكره وأسأله المزيد من فضله وكرمه، عليه توكلت وإليه متاب. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المختار من أشرف الأنساب ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ واعلموا أن من الناس من يخدعه طول الأمل ، أو نضرة الشباب ، وزهرة النعيم ، وتوافر النعم ، فيقدم على الخطيئة ، ويسوف في التوبة ، وما خدع إلا نفسه ، لا يفكر في عاقبة ، ولا يخشى سوء الخاتمة. ولقد يجيئه أمر الله بغتة : وَلَيْسَتِ ?لتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لسَّيّئَـ?تِ حَتَّى? إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ?لاْنَ [النساء:18].
ومن الناس من إذا أحدث ذنبا سارع بالتوبة ، قد جعل من نفسه رقيبا يبادر بغسل الخطايا إنابة واستغفارا وعملا صالحا ، فهذا حري أن ينضم في سلك المتقين الموعودين بجنة عرضها السماوات والأرض ممن عناهم الله بقوله: وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِين [آل عمران:135، 136].
فهذه حال الفريقين أيها المؤمنون ، فاتقوا الله وأنيبوا إليه...
(1/35)
آداب الطريق
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مكارم الأخلاق
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث في أدب الطريق. 2- النهي عن الجلوس في الطرقات سداً للذريعة. 3- مظاهر من
الأذى في الطرقات 4- آداب السلام. 5- السلام على الكافر والفاسق والمبتدع. 6- القيام
بواجب الأمر بالمعروف. 7- الترابط بين التقوى وحسن الخلق. 8- الدعوة لحسن الخلق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى والزموا أوامره واجتنبوا نواهيه.
واعلموا أن هناك آدابا يجب على المسلم أن يتأدب بها وأن يتخلق بها حتى يصل إلى درجات من الكمال في الأدب وحسن الخلق.
ومن هذه الآداب إعطاء الطريق حقّه، ولربما سأل سائل: وكيف أعطي الطريق حقه؟ فأقول له: الجواب في قوله : ((إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله ما لنا بدٌّ من مجالسنا نتحدث فيها، فقال : فإن أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) رواه البخاري ومسلم.
وفي نهيه عن الجلوس في الطرقات سد للذريعة إلى المحرم فإن الجلوس في الطرقات مظنة النظر إلى من يمر من النساء الأجنبيات وتعمد النظر إليهن حرام وذريعة إلى الافتتان بهن وهذا من علل النهي عن الجلوس في الطرقات، والطرقات تشمل أماكن عدة فمنها الجلوس على الأرصفة ومنها الجلوس على أبواب المحلات والدكاكين ومنها الجلوس في الأسواق أمام الذاهب والآيب، ومنها الجلوس على قارعة الطريق في الشوارع والأزقة، ومنها ركوب السيارة والدوران طوال النهار لمعاكسة النساء والمردان هذا أيضا منهي عنه ويدخل في معنى الجلوس في الطرقات.
واليوم تجد جميع هذه الطرقات والأمكنة مليئة بالشباب الضائع يتصيدون النساء وبالذات طالبات المدارس بعد انصرافهن فتجد الأرصفة ملأى بهؤلاء الشباب الذين لم يعطوا أي حق للطريق فمدوا البصر بدل غضه وآذوا النساء بدل كف الأذى وأمروا بالمنكر بدل أن يأمروا بالمعروف، فهؤلاء يحرم عليهم المكث في الطرقات ويأثموا ببقائهم فيها لأنهم لم يعطوا الطريق حقه وهنك بعض الذين يجلسون مثلا عند أبواب محلاتهم سواء كانت معارض أو مكاتب عقار أو بقالات فهؤلاء يؤذون جيرانهم بجلوسهم أمام بيوتهم يتابعون بنظراتهم الداخل والخارج وينظرون إلى نوافذ الجيران ويضحكون ويقهقهون بأعلى أصواتهم مما يؤذي جيرانهم وهم مع ذلك لا يكفون عن هذا الفعل الشنيع الذي نهى عنه النبي فالذي لا يستطيع أن يغض بصره عن المحارم ولا يكف أذاه عن الناس فليزم داره ولا يبرحه فهو خير له من الإثم والمقت.
وأحب أن أبين أن هذا الذي يتصيد طالبات المدارس أو هذا الذي يتصيد نساء الجيران وزوارهن، هو نفسه لا يرضى أن يفعل ذلك أحد مع أخته أو زوجته أو إحدى قريباته فكيف بالله يرضى ذلك على نساء المؤمنين ألا يتقي الله؟ ألا يعلم أن الجزاء من جنس العمل؟ وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) رواه الترمذي وأحمد وأبو داود، فكما تدين تدان.
أيها المسلمون: إن هذه المجالس التي يجتمع فيها الناس ويتحدث فيها بعضهم إلى بعض في غالبها لا يذكرون الله تعالى، بل يكثر فيها الكذب والغيبة والنميمة وقول الزور والفحش والسباب وغير ذلك من المنكرات، وما اجتمع قوم في مكان لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة والبعض يجلس للعب الضومنة أو البلوت أو غير ذلك من الألعاب التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
وقد يحرم السير أحيانا فضلا عن الجلوس في بعض الشوارع التي لا يطرقها إلا الأراذل والسفهاء والمتهمون في أفعالهم وصفاتهم بالسوء وعدم الاحتشام في الحركة والسكون ويكون امنع بالذات للنساء والأحداث من المرد وحسان الخلقة خوفا عليهم من هؤلاء المجرمين من أن يتعرضوا لهم بالأذى.
وأما المراد بكف الأذى إماطته عن الطريق إن وجد من غيرك، وأن لا تتعرض لأحد بما يكره، ولا تذكر أحدا من الناس إلا بخير، ولا تهزأ بالمارة ولا تسخر براكب ولا ماش ولا تشر بيدك ولا عينك إلى رجل أو امرأة بسوء، ولا تحتقر ضعيفا، ولا تضحك من شيخ أحدب، ولا عجوز شوهاء، ولا تفعل ما يفعل الأراذل والسفهاء من قول فاحش ونقد لاذع، وتهكم مزرٍ، فهذا طويلا عملاق، وهذا قصير قزم، وهذا سمين مترجرج عبثت به الراحة والترف، وهذا نحيف برته الهموم والأحزان، وأكل لحمه ودمه البخل والتضييق على نفسه، وهذه امرأة جميلة، وغيداء وحسناء طويلة كالرمح، خصرها نحيل وخدها أسيل وطرفها كحيل، وتلك سمينة قصيرة، وقبيحة ونكرة، ثوبها رثيث، ومنظرها خبيث إلى غير ذلك، من كلمات يسمعها النساء في الطريق من الذين لا خلاق لهم ولا رادع من علم أو مروءة، ولا زاجر من عقل أو كرامة، وأولئك سقط المتاع وأضر شيء على المجتمع جدير بهم أن يصفعوا بالنعال وتنزل بهم العقوبات الصارمة.
ونحن لا نتألم إلا من شيء نحس به ونراه ونسمعه، ولا نتضرر إلا من الخبثاء المتعرضين على السبل للعفيفات الطاهرات الحرائر وهم كثيرون عندنا يجوبون الشوارع والطرقات وبكلامهم ونظراتهم تضيق ذرعا ونشكو إلى الله ثم إلى ولاة الأمور وأنصار الفضيلة ما نعانيه من الأوباش والأوغاد، ومن كل داعر وعاهر وما أدري كيف يرضى كثير ممن هذه صفاتهم من الخلق أسفله وأدناه فهم سفلة وهم أراذل وهم متمردون على كل أدب جم وخلق رفيع، رضوا أن يكونوا في هذه الحياة كالبهائم، بل هم أضل، تائهون جائرون فارغون.
ليس لهم هم سوى إشباع رغباتهم الشهوانية والجسدية قال تعالى: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ، وقال أيضا: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
فالواجب على كل منا أن يبحث عن دين الله يتعلمه ليعمل به، ويطبقه على نفسه وأهله ومجتمعه.
وأن يأخذ من كل خلق أرفعه ومن كل أدب أرمقه فهذا رسول الله ما بعث إلا ليتم مكارم الأخلاق، ولهذا ينبغي لكل مسلم أن يكون عضوا صالحا في مجتمعه قدوة للأجيال بعده، لا يكون عضوا فاسدا ومفسدا وقدوة سيئة للأجيال بعده، فينبغي التنبه لهذا.
ومن أصر بعد هذا كله على الجلوس في الطرقات أو لم يكن له بدٌّ إلا الجلوس فيها فليعط الطريق حقه من حفظ اللّقطة وإرشاد الضال ورد الباغي عن ظلمه وحسن المقابلة وإزالة المنكر وهداية الأعمى وإماطة الأذى عن الطريق وأن يدل المستدل على حاجته وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث فهذا كله صدقة منك على نفسك وتؤجر بهذا الفعل. وأما الأدب الثالث فهو رد السلام على من عرفت ومن لم تعرف وهو من حق المسلم على المسلم والابتداء به سنة مستحبة ورده واجب على الكفاية، ويكون من الصغير على الكبير ومن القائم على القاعد ومن الراكب على الماشي والقليل على الكثير، وتكره الإشارة بالسلام إلا مع التلفظ به بحيث يشير بيده ويتلفظ بفمه.
وأما كيفيته فالأفضل أن يقول المسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحدا ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، والأجر المرتب على هذه الكيفية من السلام هو ثلاثون حسنة كما ورد بذلك الحديث.
ويشترط أن يكون الجواب على الفور فإن أخره ثم رد لم يعد جوابا وكان آثما بترك الرد، والسنة أن يبدأ المسلم بالسلام قبل كل كلام لا كما يفعله الناس اليوم من أنواع التحية مثل صباح الخير أو مرحبا أو حياك الله أو نهارك سعيد وبعضهم تصل تحيتهم إلى السباب والشتم واللعن أحيانا وهذا من أمور الجاهلية التي يجب على المسلم تركها وأن يستبدل بدلا منها ما أمرنا به وهو السلام.
وينبغي أن يعلم أن الرجل غير المشهور بفسق ولا ببدعة أنه يسلم عليه وأما الفاسق أو المشهور ببدعة فهذا لا يسلّم عليه من باب التأديب له والزجر عما هو فيه حتى يتأدب ،أو من يكون في معصية كمن يشرب الدخان فهذا لا يسلم عليه حتى يقلع عن معصيته. وأما أهل الذمة من النصارى أو اليهود فلا يجوز ابتداؤهم بالسلام، لما روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه)) ، وأما إذا بدأونا بالسلام فيكون الجواب عليهم بقولك: وعليكم، كما جاء بذلك الحديث، ولو اضطر المسلم إلى تحية النصراني فعلها بغير السلام فيقول له مثلا: هداك الله أو أنعم الله صباحك وأما إذا لم يحتج إليه فالإختيار أن لا يقول له شيئا.
وهنا تنبيه: وهو إذا مر واحد على جماعة فيهم مسلمون أو مسلم وكفار فالسنة أن يسلم عليهم ويقصد المسلمين أو المسلم لما رواه البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: ((أن النبي مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فسلم عليهم النبي )).
هذه بعض مسائل السلام وأما ما ورد في فضل إفشاء السلام فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((أن رجلا سأل النبي : أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).
وروى مسلم في صحيحه أن النبي قال: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)).
وقال عمارة : (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم (أي للناس) والإنفاق من الإقتار).
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فهذا باب واسع جدا وهو واجب على الكفاية وينبغي لمن رأى منكرا أن ينكره حسب استطاعته فإن لم يستطع فبقلبه كما ورد بذلك الحديث: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))، فمن رأى مثلا امرأة متبرجة سافرة عن وجهها الحجاب مائلة مميلة فينكر عليها فعلها هذا ويأمرها بالحجاب الشرعي ويذكرها بما ورد من الوعيد في التبرج حتى تتعظ وتترك ما هي عليه.
وإن رأى شابا يتسكع في الطرقات ويجوب بسيارته الشوارع والأزقة ليبحث عن ضحية يؤذيها فهذا ينهى أيضا ويذكر بالله فإن لم ينتصح تبلّغ إحدى الدوريات لتقبض عليه وينال جزاء فعلته وجرمه وإيذائه لنساء المسلمين.
وإن رأى الشباب الذين يملئون الشوارع صراخا ولعبا في أوقات الصلوات فيجب أن ينهاهم عن هذا اللعب ويأمرهم بأن يؤدوا الصلاة في المسجد مع الجماعة ويبين أن الصلاة خير من اللهو واللعب وهكذا فمن تصدر للجلوس في الطرقات فهذه واجبات يمليها عليه دينه، فلو كان شأن الناس كلّهم هكذا غض للبصر وكف للأذى ورد للسلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر لتغيرت المجتمعات من الأسوأ إلى الأحسن ولما تجرأ أحد على معصية الله جهارا نهارا، ويتبين لنا من هذا الحديث أن الجلوس في الطرقات مسؤولية كبيرة لمن استوطنها وإن خالف ما أمر به نال من الله المقت والعقوبة جزاء عصيانه وتمرده.
ووالله يا إخوة ما كثرت المنكرات في المجتمع إلا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
أيها المسلمون: كثيرا ما يرد في الكتاب والسنة الجمع بين تقوى الله وحسن الخلق وذلك والله أعلم للتنبيه على أنهما متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.
فتقوى الله شجرة وحسن الخلق ثمرة وهي أساس وهو بناء وهي سر وهو علانية وحيث أنتفى حسن الخلق انتفت التقوى وضعفه دليل على ضعفها فهو برهانها والدليل عليها والشاهد الصادق لها، يذكر الله تعالى المتقين في مواضع من كتابه فيصفهم بأحسن الأخلاق ويبريء ساحتهم من النفاق وسيئ الأخلاق.
ولقد جاء عن النبي ، من الحث على حسن الخلق والوصية به ما يدفع كل ذي دين قويم وعقل سليم إلى التخلق به والمنافسة فيه طمعا في فوائده وانتظارا لكريم موائده في الدنيا والآخرة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وفي الصحيحين عن النبي قال: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقا)).
وفي الترمذي قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) ، وفي رواية: ((وإن الرجل ليدرك بحسن خلق درجة قائم الليل وصائم النهار)) وهو حديث صحيح.
وقد سئل ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)). رواه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد وهو حديث صحيح.
ويكفي المسلم في الرغبة في الخلق الحسن أن الله سبحانه أثنى على نبيه بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم ، فأكمل المؤمنين إيمانا بالنبي وأعظمهم اتباعا له وأسعدهم بالاجتماع معه المتخلقون بأخلاقه المتمسكون بهديه وسنته لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا.
ومع هذا فالناس في حسن الخلق متفاوتون كما أنهم متفاوتون في الأرزاق قال : ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من أحب)) حديث صحيح رواه الإمام أحمد.
فحسن الخلق يمن وسوء الخلق شؤم فمن حسن الخلق أن يتأدب المسلم بآداب القرآن ويأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه ولهذا كان خلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها فمن حسن الخلق التخلق بكل خلق حسن كالصدق، والحياء واللين، فحسن الخلق أن يكون المرء لين الجانب، طلق الوجه، قليل النفور، طيب الكلمة والجانب والبشاشة ورد السلام ولين الكلام وصلة الرحم وإكرام الضيف تدوم بين الناس محبته، وتتأكد مودته، وتقال عثرته، وتهون زلته، ويغتفر ذنبه ومن حسن الخلق إغاثة الملهوف والإعانة على نوائب الدهر ومن حسن الخلق أن تسلم على الأهل وتستر عيوبهم، فإن حسنت أخلاقه كثر ما صافوه، وقل ما عادوه، وتسهلت له الأمور ومن حسن الخلق معاشرة الناس بالحفاوة والوفاء ومن ذلك أن يصل أصدقاء والده ويكرمهم ويجلّسهم ويسلم عليهم إذا لقيهم فإن ذلك من الإيمان ومن البر لوالده بعد موته، ومن ساءت أخلاقه، ضاقت أرزاقه، والناس منه في شؤم وبلاء، وهو من نفسه في تعب وعناء، وأما من ألان للخلق جانبه، واحتمل صاحبه، ولطفت معاشرته وحسنت، ومال إليه الخلق واتسع إليه الرزق، وهو من نفسه في راحة، والناس منه في سلامة وأدرك المطلوب ونال كل أمر محبوب، وقد بلغني أن رجلا يشتكي من أبناء صديق له قد توفي منذ زمن بأنهم لا يسلمون عليه ولا يوقرونه ولا يحبون محادثته، وهذا من العقوق ونوع من الكبر والغطرسة وهو من سوء الخلق وقد ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)).
ومع التزام المسلم لحسن الخلق ينبغي له أن يجتنب صفات الضد كالكذب والوقاحة وقلة الحياء والبذاء والجفاء، والكبر وعبوس الوجه والغيبة والنميمة وقول الزور وغير ذلك من سيء الأخلاق التي يجب على المؤمن أن يجتنبها إرضاءا لله وطاعة لرسوله ، ومن يطع الله ولرسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما.
(1/36)
السحر ( طرق الوقاية والعلاج )
التوحيد
نواقض الإسلام
سليمان بن حمد العودة
بريدة
8/5/1417
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوكل على الله وقاية من السحر
2- نشر العلم والعقيدة الصحيحة وقاية للمجتمع من السحر
3- ذكر الله وقاية من السحر
4- العجوة (نوع من التمر) وقاية بإذن الله من السحر
5- بعض الأذكار والآيات التي تعالج السحر
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: وحيث سبق الحديث عن السحر وحقيقته وحكمه وجزاء السحرة والذهاب إليهم وأسباب رواج السحر في بلاد المسلمين، فإن حديث اليوم استكمالاً لما سبق وإذا كان ما سبق تشخيص للداء فحديث اليوم توصيف للدواء وتلمس مشروع للوقاية وطرق العلاج.
وليس يخفي أن اتقاء السحر قبل وقوعه أولى وأحرى من التعب في استخراجه بعد الوقوع ويحفظ الناس من مأثور الحكم: (الوقاية خير من العلاج).
وإليكم إخوة الإسلام شيئا من الطرق الوقائية للسحر قبل وقوعه، وما أحرانا جميعا بتأملها والعمل بها.
اولا: تجديد الإيمان في النفوس كلما أنس المرء من نفسه ضعفا، والاتجاء إلى الله كلما خاف المرء على نفسه عدوا، ومن يركن إلى الله فإنما يأوي إلى ركن شديد، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
وهذا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى تجديد إيماننا ويقول ((إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم))
وأي قوة مهما بلغت وأي عدو مهما كانت شراسته لا حول له أمام قوة الله وجبروته فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
ومن لوازم الإيمان الاستمساك بشرع الله أمرا ونهيا علانية وسرا، وهل علمتم أن من أسباب انتشار السحر قديما وفساد بني اسرائيل خصوصا بُعدهم عن الشريعة التي أنزلت عليهم ونبذهم تعاليمها واتباعهم للشياطين الذين استدرجوهم إلى السحر وزينوه لهم، وسولت لهم أن تسخير الجن والإنس والطير والريح لسليمان عليه السلام من اتباع الشياطين :
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر.
ثانيا: نشر العلم بقضايا العقيدة والحرص على سلامتها، وبيان مايخدشها وتعميم الوعي بمخاطر السحر والشعوذة، وتحذير الناس منها بمختلف وسائل الاعلام وتوسيع دائرة الوعي بمدارس البنين والبنات، وبالطرق المناسبة واستخدام المحاضرة والندوة والمطوية أسلوبا من اساليب التوعية عن هذه الأدواء.
ثالثا: تشجيع المؤسسات الحكومية ذات العلاقة على الرقابة الدقيقة لكل ما يرد أو يصدر لهذا البلد الآمن، والأخذ بحزم على كل من تسول لهم أنفسهم الإضرار بالآخرين، ولا بد من تعاون الناس مع هذه الجهات المسئولة وسرعة البلاغ عما يثبت من محاولات الإفساد والكشف عن أماكن التجمعات المشبوهة ورصد التحركات المريبة والله يقول: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان.
رابعا: إصلاح البيوت وعمارتها بالذكر والصلاة وتلاوة القرآن، وفي الحديث ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة (4) )). وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام موجها ومبينا أثر صلاة النافلة في البيت ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا (5) ))
قال النووي معلقا: (حث على النافلة في البيت لكونه أخفي وأبعد عن الرياء وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك وتتنزل فيه الرحمة والملائكة، وينفر منه الشيطان (1) )
ودونكم أثر السلام، وهو نوع من الذكر ندبنا الله إلى البدء به حين الدخول إلى البيوت فقال جل ذكره فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة [النور:61]. وأرشدنا إليه المصطفي صلى الله عليه وسلم واعتبره ضمانا على الله للحفظ والأمان فقال: ((ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل، وذكر منهم رجلا دخل بيته بسلام، فهو ضامن على الله سبحانه وتعالى (1) ))
ولا تسأل عن أثر قراءة آخر ايتين من سورة البقرة، آمن الرسول.. ، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: ((من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه (2) )).
ومن المعاني الواردة في قوله (كفتاه) أي من الشيطان، ولهذا جاء في حديث آخر ((إن الله كتب كتابا وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا يقرءان في دار فيقر بها الشيطان ثلاث ليال (3) )).
فهل نحصن بيوتنا ونحفظ أنفسنا وأولادنا وأهلينا بذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن.. مع استبعاد كل ما يجمع الشياطين من الصور والكلاب والغناء ونحوها من المنكرات الأخرى... ذلكم لمن رام النجاة في الدنيا والاخرة.
خامسا: ومما يدفع الله به الإصابة من السحر، التصبح بسبع تمرات من تمر العجوة، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ((من تصبح بسبع تمرات من تمر العجوة لم يصبه سم ولا سحر (4) )).
وقد اشترط كثير من أهل العلم في التمر أن يكون من العجوة _ كما في الحديث _ وذهب آخرون إلى أن لفظ العجوة خرج مخرج الغالب، فلو تصبح بغيرها نفع، وهو قول قوي وإن كان تمر العجوة أكثر نفعا وتأثيرا. كذا قال أهل العلم والله أعلم (5).
سادسا: التنبه لمخاطر العمالة الوافدة، والاستغناء عن السائقين والخدم ما أمكن، وإذا لزم الأمر فلا بد من المراقبة الدقيقة لتصرفاتهم حتى لا يكونوا سببا في نشر السحر والشعوذة، والناس غافلون.
سابعا: ونظرا لسهولة انتشار السحر والشعوذة عند النساء أكثر منه في الرجال، فينبغي على المرأة أن تحفظ نفسها في بيتها، ولا تكثر من الخروج للأسواق، وألا ترتاد الأماكن المشبوهة، وعلى الأزواج أن يحافظوا على أهليهم في بيوتهم ويوفروا لهم حوائجهم.
ثامنا: أما الحصن الحصين والسبب الوافي المنيع _ بإذن الله _ من كل سوء ومكروه، فهو المحافظة على الأوراد الشرعية في الصباح والمساء، وهي صالحة للاستشفاء قبل وقوع السحر أو بعد وقوعه، وكيف لا؟ وهي الأدوية الإلهية كما يسميها ابن القيم رحمه الله، ومع مسيس حاجة الانسان لهذه الأذكار فما أكثر ما يقع التفريط فيها! وإليكم منها مع بيان أثرها:
( أ) (( فمن قرأ آية الكرسي حين يأوي إلى فراشه لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتي يصبح)) كذلك صح الخبر (1).
(ب) ومن قرأ بالأيتين الاخرتين من سورة البقرة كفتاه، وقد سبق البيان.
(ج) وقراءة قل هو الله أحد ووقل أعوذ برب الفلق ووقل أعوذ برب الناس حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات، يكفيك من كل شئ (2) كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(د) وكان عليه الصلاة والسلام يعوذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكم كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق ((أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة (1) )) والهامة ذات السموم، وقيل كل ماله سم يقتل، واللآمة كل داء وآفة تلمّ بالانسان من جنون وخبل (2).
(ه) (3) وصح في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتي يرتحل من منزله ذلك))
فهل يصعب عليك ذلك يا أخا الإسلام، وانت محتاج لحفظ الله لكثرة حلولك وارتحالك؟ وهل تعجز أن تقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الارض ولا في السماء وهو السميع العليم)) ثلاث مرات؟ وهي كفيلة بإذن الله أن لا يضرك شيء كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (1)
أيها المسلمون: وكتب الأذكار مليئة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يدفع الله بها ويمنع من كل مكروه.. وحري بالمسلم أن يطالعها ويعمل بها ويحافظ على ورده منها صباحا ومساء، وأن يعلمها أهله وذويه، ومع المحافظة على الأذكار لابد من الصدق والإيمان والثفة بالله والاعتماد عليه وانشراح الصدر لما دلت عليه، فبذلك ينفع الله بهذه الأوراد ويدفع كما قرر أهل العلم 1.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوساً قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً [الإسراء:82-84].
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
(4) رواه مسلم في صحيحه ح 780 ، 1 / 539
(5) متفق عليه ( خ 1/ 528 فتح ، م 6 / 68 النووي )
(1) شرح مسلم 6 / 68 ، وقاية الانسان / 69
(1) رواه ابو داود بإسناد حسن كما قال النووي ( الأذكار 2 ، وقاية الانسان من الجن والشيطان ، وحيد بإلى / 363 )
(2) رواه البخاري ( الفتح 9/ 55 )
(3) اخرجه الحاكم وصححه.. ( انظر : الاشقر : عالم السحر والشعوذه / 212 ).
(4) متفق عليه.
(5) انظر : احذروا السحر والسحره / العلوان / 3.
(1) البخاري 4 / 487 ، الفتح
(2) رواه ابو داود 4/ 321 والترمذي 5/ 227 وحسنه النسائي وجود الالبان اسناده
(1) اخرجه الو داود وابن ماجه والترمذي وقال : حسن صحيح ( الصحسح المسند في اذكار اليوم والحياه _ العدوي – 108 )
(2) قاله الخطابي ( انظر الصحيح المسند – لمصطفي العدوي / 108 )
الصحسح المسند للعدوي / 94.
1 انظر: رسالة في حكم السحر والكهانة / ابن باز ص 7.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/37)
اتبعوا ولا تبتدعوا
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
إكمال الله عز وجل لدينه – لا يُقبل من العمل إلا ما وافق السنة – خطورة البدعة وأثرها
في الخصومة والعداوة – طريقة أصحاب البدع في الاستدلال – اهتمام السلف بالاتباع وإنكارهم
على المبتدعين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، والزموا سنة نبيكم محمد تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، لقد أكمل الله هذا الدين ورضيه وأتمَّ به نعمته.. كتاب الله، وسنة رسوله محمد لم يتركا في سبيل الهداية قولاً لقائل، ولم يدعا مجالاً لمتشرِّع، العاقد عليهما بكلتا يديه، مستمسك بالعروة الوثقى، ظافر بخيري الدنيا والأخرى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
روى الطبراني بإسناد صحيح عن النبي أنه قال: ((ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه)) [1].
كل عبادات المتعبدين يجب أن تكون محكمة بحكم الشرع في أمره ونهيه، جارية على نهجه، موافقة لطريقته، وما سوى ذلك فمردود على صاحبه: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [2] ، ((ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [3]. بذلك صح الخبر عن الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام.
يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله في السنن الراشدة: سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تغيير فيها، ولا النظر في رأي يخالفها، من اقتدى بها فهو مهتدٍ، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.
أيها المؤمنون: إن غير سبيل المؤمنين نزعاتٌ وأهواءٌ، وضلالٌ عن الجادة، وشقٌ لعصا الطاعة، ومفارقةٌ للجماعة.
لقد رسم الشرع للعبادات والتكاليف طرقاً خاصة على وجوه خاصة زماناً ومكاناً، وهيئة وعدداً، وقصر الخلق عليها أمراً ونهياً، وإطلاقاً وتقييداً، ووعداً ووعيداً، وأخبر أن الخير فيها، والشر في تجاوزها وتعدِّيها وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
والرسل برحمة الله إلى خلقه مرسلون، ومن رام غير ذلك، وزعم أن ثمَّة طرقاً أُخَر، وعَبَدَ الله بمستحسنات العقول؛ فقد قدح في كمال هذا الدين، وخالف ما جاء به المصطفى الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وكأنه يستدرك على الشريعة نقائص.
يقول ابن الماجشون: سمعت مالكاً رحمه الله يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنةً؛ فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]. فما لم يكن يومئذٍ ديناً؛ فلا يكون اليوم ديناً.
الابتداع وتلمُّس المسالك والطرق معاندةٌ للشرع ومشاقةٌ له. وهو محض اتباع الهوى فليس ثمَّة إلا طريقان:
إما طريق الشرع، وإما طريق الهوى... يقول الله عزّ وجلَّ: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:50].
لقد حصرت الآية الكريمة الحكم في أمرين لا ثالث لهما: إما الاستجابة للمصطفى، وإما اتباع الهوى.
ولئن قصد صاحب البدعة ـ أيها الإخوة ـ ببدعته التقرب إلى الله والمبالغة في التعبد؛ فليعلم أن في هذا مداخل للشيطان عريضة في مسالك ملتوية ووسوسات مميلة، ولم يرضَ هذا المبتلى بما حدَّه الشارع وقدَّره؛ فخرج عن هذه الضوابط وتفلَّت من هذه القيود، وقد يصاحب ذلك عُجبٌ وحبٌّ في الظهور، مع ميول النفس بطبعها إلى قبول الجديد الذي لم تعهده قطعاً للسآمة والملل.
إن القيام بالتكاليف الشرعية فيه كُلفةٌ على النفس؛ لأن فيه مخالفةً للهوى، ومنازعةً للرغبات، فيثقلُ هذا على المبتدع، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها.
وكلُّ بدعة فإن للهوى فيها مدخلاً؛ لأنها راجعة إلى رغبات مخترعها ومبتدعها، ومتمشيةٌ مع هواه وميول نفسه ليست نابعةً من الشرع وأحكامه وأدلته.
ومن هنا فإنه قد يظهر من صاحب البدعة اجتهادٌ في العمل والعبادة، وما هذا إلا لخفة يجدها، ونشاطٍ يشعر به لما فيه من موافقة الهوى. ولقد كان الرهبان من النصارى ينقطعون في صوامعهم وأديرتهم على غير طريق الحق وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـ?شِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ [الغاشية:2، 3]. قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لاْخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]. أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَر?تٍ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
وإنَّ قصداً في السنة خير من اجتهاد في بدعة.
وبسبب البدع وأهلها – أيها المؤمنون – يكثر الجدل بغير الحق، وبغير التي هي أحسن، وتحصل الخصومة في الدين. وقد قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ [آل عمران:105]. قال: هم أهل البدع.
وقال بعض أهل العلم: كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة؛ فهي من مسائل الإسلام.
وكل مسألة حدثت أو طرأت؛ فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة ليست من أمر الدين في شيء.
وأصحاب البدع يتبعون المتشابه، ويتعسفون في التأويل حتى فسِّر قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـ?بَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]. بأنهم أهل البدع والأهواء.
وحينما قال أهل التحكيم لعليٍّ رضي الله عنه: إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ [الأنعام:57]. قال: كلمةُ حقٍّ أريد بها باطل.
وقد تأكد في الأخبار النبوية أنه ما قامت بدعة إلا وأميتت سنة.
أخرج أحمد والبزار من حديث غضيف بن الحارث مرفوعاً: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسكٌ بسنةٍ خير من إحداث بدعة)) [4].
وأخرج أحمد أيضاً والطبراني والبزار من حديث غضيف عن النبي أنه قال: ((ما من أمة ابتدعت بعد نبيها في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة)) [5] ، فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن في ظهور البدع انطماساً للسنن، فالسعيد من عضَّ على السنة بالنواجذ، فأحياها ودعا إليها، فردَّ الله بها مبتدعاً، وهدى بها زائغاً وأنقذ بها حائراً.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عدي بن أرطاة بشأن بعض القدرية: (أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت به سنة، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارضَ لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصرٍ نافذٍ كفوا، وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضلٍ كانوا فيه أحرى، إنهم هم السابقون، تكلَّموا بما يكفي، وصفوا ما يشفي، فما دونهم مقصِّر، وما فوقهم محسِّر، لقد قصَّر فيهم قوم فجفَوا، وتجاوز آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم) [6].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
[1] صحيح، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: كتاب الجامع – باب القدر، حديث (20100)، وابن أبي شيبة: كتاب الزهد – باب ما ذكر عن نبينا في الزهد (8/129)، والطبراني في المعجم الكبير، حديث (1647)، قال الهيثمي في المجمع: ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ثقة (8/264).
[2] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة... حديث (1718).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلح – باب إذا اصطلحوا على صلح جور... حديث (2697)، ومسلم: كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة... حديث (1718).
[4] ضعيف، مسند أحمد (4/105)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث (1/188)، قلت: وفيه أيضاً بقية بن الوليد مدلس وقد عنعن. وانظر صلاح المساجد من البدع والعوائد للقاسمي بتعليق الألباني (ص49)، ولم أجده في المطبوع من مسند البزار.
[5] ضعيف، لم أجده في المسند ولم يعزه الهيثمي له حيث قال في المجمع: رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو بكر بن أبي مريم، وهو منكر الحديث (1/188)، قلت: أخرجه الطبراني في الكبير (18/99)، والبزار (131)، وفي إسناده أيضاً محمد بن عبد الرحيم ضعفه الدارقطني وشريح بن العمان، قال أبو حاتم: شبه المجهول، انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/334) وفيض القدير (5/471)، إصلاح المساجد للقاسمي بتعليق الألباني (ص13)، وضعيف الجامع (5155).
[6] أخرجه أبو داود في: السنة، باب: لوزم السنة (4612).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده وأشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، هدى بإذن ربه القلوب الحائرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه نجوم الدجى والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اتبعوا رحمكم الله ولا تبتدعوا، فقد كفيتم. يقول حذيفة رضي الله عنه: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تعبَّدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً.
أخرج الدارمي بسند صحيح أن أبا موسى الأشعري قال لابن مسعود رضي الله عنهما جميعاً: (إني رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟؟ ثم أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، وَيْحَكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم؛ هؤلاء أصحابه متوافرون. وهذه ثيابه لم تبلَ، والذي نفسي بيده أنتم لعلى ملةٍ هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه؟) [1].
وروي أن رجلاً قال لمالك بن أنس: من أين أُحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله. قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في ازدياد الخير؟؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خُصصت بفضل لم يخص به رسول الله ؟!
فاتقوا الله – يرحمكم الله – وخذوا بالنهج الأول، وعليكم بالاتباع، وابتعدوا عن الابتداع.
[1] إسناده حسن، أخرجه الدارمي في المقدمة – باب في كراهية أخذ الرأي، حديث (204) وهو حسن الإسناد لأن فيه الحكم بن المبارك قال فيه ابن حجر، صدوق ربما وهم، التقريب (1466).
(1/38)
سورة (ق)
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
البعث والنشور والجزاء والحساب أحد أركان الدين – سورة (ق) وخطبته بها صلى الله عليه
وسلم والسر في ذلك – تفسير السورة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يوم ينفخ في الصور، ويبعث من في القبور، ويظهر المستور، يوم تبلى السرائر، وتكشف الضمائر، ويتميز البر من الفاجر.
أيها الأخوة في الله، أَيَحْسَبُ ?لإِنسَـ?نُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]. أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. وَمَا خَلَقْنَا ?لسَّمَاء وَ?لأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـ?طِلاً ذ?لِكَ ظَنُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ [ص:27].
المكلفون مؤاخذون بأعمالهم، تكتب ألفاظهم، وتسجل ألحاظهم في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم.
أيها المسلمون والمسلمات، البعث والنشور والجزاء والحساب أحد أركان دين الله، جاءت به جميع الرسل، والغريب العجيب أنه ما من شيء في دعوة هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام استبعده الكفار واستغربوه، وتعجبوا منه وأنكروه مثل إنكارهم اليوم الآخر.
والقرآن الكريم قد سجل على هذه الأجيال الكافرة جيلاً بعد جيل إصرارها وإنكارها؛ وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ?لدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29]. أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5]. وَأَقْسَمُواْ بِ?للَّهِ جَهْدَ أَيْمَـ?نِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ?للَّهُ مَن يَمُوتُ [النحل:38]. وَيَقُولُ ?لإِنْسَـ?نُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً [مريم:66]. أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظـ?ماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ?لدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:35-37]. بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ ?لاْوَّلُونَ قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـ?ماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هَـ?ذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـ?ذَا إِلاَّ أَسَـ?طِيرُ ?لاْوَّلِينَ [ المؤمنون:81-83].
أيها الإخوة، وبين أيدينا سورة عظيمة كأنها قد خصصت لمعالجة هذه القضية، سورة ذات دلالات عظيمة وآيات عميقة، تخاطب العقول، وتطبب أمراض الشكوك لا بالجدل العقلي العقيم؛ ولكن بالطريقة القرآنية الفريدة الصالحة لكل زمان ومكان. إنها السورة التي كان يقرؤها ، ويخطب بها على المنابر في الجُمَع والأعياد والمجامع الكبار، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والقيامة والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.. تلكم هي سورة: ق وَ?لْقُرْءانِ ?لْمَجِيدِ [ق:1].
أخرج أحمد ومسلم من حديث أم هشام بنت حارثة قالت: (لقد كان تنورنا وتنور النبي واحداً سنتين أو سنة أو بعض السنة، وما أخذت ق وَ?لْقُرْءانِ ?لْمَجِيدِ إلا على رسول الله كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس) [1].
سورة عظيمة، جلية بحقائقها، ظاهرة في حججها، واضحة في بيانها، تأخذ على النفوس أقطارها، وتلاحق القلوب في خطراتها وحركاتها، تبرهن على عقيدة البعث والنشور؛ من المولد والوفاة، والمحشر والحساب، والثواب والعقاب، إيضاحٌ عجيبٌ، وبسطٌ دقيقٌ لصورة المحيا والممات، وصورة البلى والقيام لرب العالمين.
تبتدئ السورة الكريمة بتعجب الكفار واستبعادهم للمعاد بعد الهلاك، وتلك سذاجة في التفكير، وقصور في النظر. إنهم ينكرون إعادة الخلق، وقد خلقوا أول مرة. ويأتي الرد عليهم سهلاً سريعاً يسيراً، فالله الذي خلقهم وأماتهم لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، يعلم أجزاءهم وأشلاءهم وذرَّاتهم، وكل ما تنتقصه الأرض منهم، وكل ذلك في كتاب حفيظ.
بسم الله الرحمن الرحيم: ق وَ?لْقُرْءانِ ?لْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ ?لْكَـ?فِرُونَ هَـ?ذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ?لأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَـ?بٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِ?لْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ [ق:1-5].
إن كل من كذب بالحق فهو في أمر مريج. السائر في غير درب الحق حاله مختلط، وأمره متخبِّط، تتقاذفه الأهواء، وتتخطفه الهواجس، وتمزقه الحيرة، وتقلقه الشكوك، يضطرب سعيه، وتتأرجح مواقفه ذات اليمين وذات الشمال، فقلبه في اضطراب، ونفسه في خلجات. وهذا هو حال الكثيرين من الفلاسفة المتقدمين، والماديين المتأخرين، والشيوعيين والعلمانيين؛ كل هؤلاء وأولئك في أمر مريج، وليس ثمة معالجة لهذه الشكوك، ولا طريق يوصل إلى الحق إلا طريق القرآن، إنه التدبر في خلق الإنسان ومخلوقات الأرض والسماء، والنبات والماء، وكل مبثوث من الجماد والأحياء، ينضم إلى ذلك النظر في أحوال الغابرين، وعاقبة المكذبين، ومصائر المتشككين أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ?لسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـ?هَا وَزَيَّنَّـ?هَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَ?لأرْضَ مَدَدْنَـ?هَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَو?سِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى? لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ ?لسَّمَاء مَاء مُّبَـ?رَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـ?تٍ وَحَبَّ ?لْحَصِيدِ وَ?لنَّخْلَ بَـ?سِقَـ?تٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ [ق:6-10].
ومن بعد ذلك تنتقل الآيات إلى طريق في البرهان آخر، ومشهد مألوف؛ ولكن كثيراً ما تغفل عنه النفوس، إنها لحظة الموت وسكراته، ويسبق ذلك بيان الرقابة الإلهية والإحاطة الربانية بهذا الإنسان، فهو في قبضة مولاه، النَّفَس معدود، والهاجس معلوم، واللفظ مكتوب، واللحظ محسوب. رقابة رهيبة لا يفوت فيها ظن، ولا يفلت منها وسواس.
يُذكر ذلك ـ أيها الإخوة ـ مصحوباً بوصف عجيب لحالة الموت والسكرات التي تمر على كل إنسان؛ براً كان أو فاجراً، مؤمناً كان أو كافراً. والموت هو أشد ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. ولكن الموت طالب مدرك، لا يبطئ ولا يخطئ ولا يتخلف له موعد، وها هي سكرات الموت قد جاءت بالحق الذي كان ينكره المنكرون، ولكن لا ينفع الاعتراف بعد فوات الأوان.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:16-19].
وبعد الموت وسكراته يأتي هول المحشر، ورهبة الحساب وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ?لْوَعِيدِ (1/39)
الصدقة الفاضلة
فقه
الزكاة والصدقة
سليمان بن حمد العودة
بريدة
8/9/1414
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شهر رمضان شهر الأعمال الصالحات. 2-مضاعفة الأعمال الصالحات بفضل الله وكرمه.
3- مضاعفة الصدقات خصوصاً. 4- فوائد الصدقة للمؤمن في الآخرة. 5- فضل الصدقة من
الفقير المحتاج. 6- الصدقة على الأرحام. 7- التحذير من المن في الصدقة. 8- التحذير من
التصدق بالكسب الخبيث. 9- تنافس السلف في الإنفاق في سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخوة الإسلام، اتقو الله واتلوا كتاب الله وأطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا بالليل والناس نيام.
أيها المسلمون: وإذا كانت النفقة والجود والإحسان والبر وصلة الأرحام تطيب في كل حال وزمان فهي تزكو وتتضاعف حسناتها في شهر رمضان شهر الجود والإحسان.
وما دمتم في شهر القران فتاملوا خاشعين وقفوا متفكرين في آيات النفقة في القرآن، والحق تبارك وتعالى يقول: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [البقرة:261].
قال سعيد بن جبير: (في سبيل الله ) يعني في طاعة الله وقال مكحول: يعني من الإنفاق في الجهاد... وقال ابن عباس: الجهاد والحج يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف (3).
وسواء أكان هذا أو ذاك، فهذا المثل التشبيهي محصلة سبعمائة ضعف، ولكن والله أعلم ذكر هذه الصيغة ليكون أبلغ في النفوس، إذ فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها كما ينمي الزراعة لمن بذره في الأرض الطيبة (1).
وجاء في صحيح السنة النبوية ما يؤكد مضاعفة الصدقة بل ومضاعفة كل عمل صالح يقول علية الصلاة والسلام في الحديث الذى رواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه ((كل عمل ابن ادم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي.... الحديث (2) ))
وهل تظن بربك يا ابن آدم إلا كل خير حين يختص بالصيام له؟ وهل يراودك شك أنه سيجزيك به أضعافا مضاعفة وهو الكريم الجواد؟ بل ويضاعف لك أجر الصدقات أضعافا مضاعفة كما قال تعالى في الآية الأخرى من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة
وتعال بنا لنقف سويا عند هذا الحديث الذى رواه أبو عثمان النهدي وتحمل في سبيله السفر حين يقول: لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني، فقدم قبلي حاجاً وقدمت بعده، فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة)) ، فقلت: ويحكم والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني، فما سمعت هذا الحديث، قال: فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد أنطلق حاجاً، فانطلقت إلى الحج أن ألقاه بهذا الحديث، فلقيته لهذا، فقلت: يا أبا هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك؟ قال: وما هو؟ قلت: زعموا أنك تقول: أن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة، قال: يا أبا عثمان: وما تعجب من هذا والله يقول من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة [البقرة:245] ويقول تعالى: فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل [التوبة:38].والذي نفسى بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة (3) )).
وإذا كان هذا ما نقله أبو هريرة رضي الله عنه في مضاعفة أجر الصدقة، فاسمع إلى ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الصدد أيضاً، وقد روى ابن أبى حاتم بسنده إلى ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل (4)...... [البقرة:261]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رب زد أمتى، فنزلت من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة (5) [البقرة:245]. قال: رب زد أمتي، فنزل: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10])).
إخوة الإيمان: إذا كان هذا في مضاعفة أجر الصدقة يوم القيامة، فللصدقة والإنفاق الخير بشكل عام آثار أخرى، تشمل الدنيا والأخرة، فثواب أصحابها محفوظ عند الله، وهم آمنون من مخاوف يوم القيامة حين يفزع الناس، وهم غير آسفين على ما خلفوا من الأموال والأولاد وزهرات الدنيا، لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير من ذلك كله، يقول تعالى: الذين ينفقون في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة:262].
وهل علمت أخا الإسلام أن الصدقة تظلل صاحبها في وقت هو أحوج ما يكون فيه إلى الظل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس (2) )).
وهل علمت أن الصدقة طريق إلى الجنة وسبب من أسباب دخولها، يقول الله تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء...... الآية [آل عمران :133-134].
يا أخا الإسلام، أنفق ينفق الله عليك وأعط يعطك الله، وهل يغيب عنك أن الله يعوضك عما أنفقت، وملَكان يناديان مع بداية كل يوم، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفاً، ويقول الأخر: اللهم أعط ممسكا تلفاً.
أعط يا أخا الإسلام وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، فهنا تنفع النفقة، وهنا تقبل الصدقة، وهنا يكون الامتحان وتصعب المنافسة...
أما إذا بلغت الروح الحلقوم وشعرت أنك ستخرج من الدنيا فهيهات وقد انتقل، أو قارب المال أن ينتقل إلى غيرك.. يقول عليه الصلاة والسلام موضحاً: ((أفضل الصدقة أن تصدق وأنت شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان كذا (4) )).
يا أخا الإيمان: ومهما كان فقرك وقلتك فحاول المساهمة في الصدقات مع المتصدقين، وابدأ بالأقربين وإن كان المتصدق به قليلاً، فذلك جهد المقل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول (1) )).
أيها المسلمون: ولا يفوتن عليكم البدء في صدقاتكم لذوي الأرحام والأقربين، فإن الصدقة على المسكين البعيد صدقة، وهي على القريب المحتاج صدقة وصلة.
ومهما وقع بينكم وبين أرحامكم من خلاف فلا يمنعكم ذلك من صلتهم، والتصدق عليهم، وإليكم توجيه المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك إذ يقول: ((أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح (2) )).
والكاشح: العدو الذى يضمر عداوته ويطوي عليها. وكشحه باطنه، أو الذى يطوي عنك كشحه ولا يألفك (3).
يا أخا الإيمان: وإذا قدرك الله على شيء من النفقة فلا يخالطها شيء من المنّ بالعطية أو الأذى لمن تعطي فذلك مبطل للصدقة، كما يبطلها الرياء والسمعة، من أجل أن يقول الناس هو جواد أو كريم، يقول تعالى: يا أيها الذين امنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر... الآية [البقرة:264].
وهل ترضى أن يعرض الله عنك يوم القيامة؟ والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزراه، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (1) )).
وإياك إياك أن تأكل الحرام، أو تتصدق بالحرام، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وجاهد نفسك عن إنفاق الخبيث والرديء، وافقه قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد [البقرة:267].
وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده إلى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((... ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث (3) )).
أيها المسلمون: ولكم بمن سلف من صالحي الأمة مثل وعبرة، وقد استجابوا لله والرسول صلى الله عليه وسلم، فهذان الخيران: أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، يتنافسان في الصدقة، فيجىء عمر بنصف ماله، ويأتي أبو بكر بماله كله، ويكاد أن يخفيه من نفسه، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم: وما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فيقول: أبقيت لهما الله رسوله.
ثم يبكي عمر ويقول: بأبي أنت يا أبا بكر، والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا. ويقال فيهما نزلت: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم... الآية [البقرة:271].
وهذا أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه حين نزل قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة... [التوبة:38].
قال يا رسول الله: وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: ((نعم يا أبا الدحداح)) قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني أقرضت ربي حائطي – وحائطه من سبعمائة نخلة – وأم الدحداح فيه وعيالها، فجاء إليهم ونادى: يا أم الحداح، قالت: لبيك، قال: أخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل (2).
(3) تفسير إبن كثير 1/467
(1) تفسير ابن كثير 1/ 467.
(2) المسند 2/443 ومسلم الصيام 3/15.
(3) الحديث رواه إبن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 1 / 42.
(4) البقرة / 261.
(5) البقرة / 245.
(2 ) الحديث رواه أحمد والحاكم وسنده صحيح – صحيح الجامع 4 / 170.
(4) الحديث متفق عليه.. صحيح الجامع 1 / 364.
(1) رواه أبو داود والحاكم بسند صحيح – صحيح الجامع 1 / 364.
(2) حديث صحيح رواه الامام أحمد والطبراني – صحيح الجامع 1 / 364.
(3) ذكره إبن الأثير في النهاية 4 / 15.
(1) الحديث رواه مسلم 1 / 71 ، 72.
(3) المسند 1 / 387 ، تفسير بن كثير 1 / 473.
(2) رواه بن أبي حاتم... تفسير بن كثير 1 / 441 ، 442.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وهو الغني الحميد، وأشهد أن لا إله إلا هو يجزي المتصدقين ويحب المحسنين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قدوة المتصدقين ونموذج أعلى للمحسنين، صلى الله عليه وعلى الأنبياء المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين إلى يوم الدين.
أيها المسلمون ولسنا – معاشر البشر – ملائكة براء من نزغ الشيطان، وأينا الذي لا يفكر ولا يتردد حين إخراج الصدقة، فنفسه المطمئنة بوعد الله في الثواب تدعوه لمزيد من الإنفاق وتطمئنه أن الله سيخلفه، وأن ما أنفق له وما أبقى فهو لغيره.
ونفسه الأمارة بالسوء وهواه يخوفانه عواقب الفقر، وقلة ذات اليد، ويذكرانه أن هذا المال لم يأتك إلا بعد كدح وكد وعرق جبين، أفتخرجه بهذه السهولة للفقراء والمحتاجين أو لذوي الأرحام والمساكين؟ هذه المعادلة صعبة.
وتلك الوعود بيانية أول من يعلمها في نفسك علام الغيوب، ولذلك أخبر عنها في كتابه العزيز وبيَن المخرج فقال: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم [البقرة:268].
وفي تفسير الآية ورد قول النبي صلى الله عليه وسلم ((إن للشيطان لمّة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب الحق، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان، ثم قرأ: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً (2) )).
فاعلم – أخي المسلم – هذه اللمة، وافقه المخرج منها، فذلك عون لك بإذن الله على الإنفاق والإحسان، وطريق إلى الجنان بإذن الله.
إخوة الإسلام: ويتردد بعض المحسنين حين النفقة بين الإسرار بالصدقة أو الإعلان، والله تعالى امتدح الأمرين معا فقال: إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم سيئاتكم والله بما تعملون خبير (1) [البقرة:271].
فمتى يكون الأسرار بالصدقة أفضل؟ ومتى يكون إعلانها أفضل؟
قال العلماء في الآية دليل على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها لأنه أبعد عن الرياء، إلاأن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية.
والأصل أن الإسرار أفضل لهذه الآية لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ((.. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه (2) ))..
وروى الترمذي والنسائي من حديث أبى ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوما فسألهم بالله ولم يسألهم لقرابة بينه وبينهم، فمنعوه، فتخلف رجل بأعقابهم، فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه (3) )).
وفى لفظ صحيح آخر ((والصدقة خفية تطفئ غضب الرب.. )). قال ابن كثير: والآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل سواء مفروضة أو مندوبة، لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية قال: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها فقال: بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها فقال: بخمسة وعشرين ضعفا (4).
أيها المسلمون: هذه بعض أحكام وآداب، وأجر النفقات والصدقات فتزودوا لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
وأذكركم ونفسي أخيرا بمغانم وآثار جليلة للنفقة صورها النبى صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح فقال: ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفية تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الأخرة (1) )).
إخوة الإيمان: وليس يخفى عليكم أن هناك حاجات وهناك محتاجين، وهناك من يسألون الناس إلحافا، والله أعلم بما يقتتون.. فهلا مددتم يد العون لهؤلاء وأولئك أجمعين، وإذا تجاوزتم الداخل فهناك جراح المسلمين في الخارج تنزف دما، ويعز المطعم والمشرب، ويقل الملبس والكساء.. وهل يليق بنا أن نعيش آمنين مطمئنين وفي رغد العيش مترفين، وإخواننا في العقيدة والدين يعيشون المسغبة، ويجرعون كؤوس المآسي من أمم الكفر مجتمعين.
(2) رواه ابن أيي حاتم ، والترمذي وقال حسن غريب. تفسير ابن كثير 1 / 75.
(1) البقرة / 271.
(2) الحديث متفق عليه – انظر تفسير ابن كثير 1 / 477.
(3) الحديث صححه الترمذي ، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وسنة محقق جامع الأصول 9 / 563 ، 564.
(4) تفسير ابن كثير 1 / 478.
(1) الحديث رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح ( صحيح الجامع 3 / 24 ) وفي لفظ عند الحاكم : = صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والمهلكات ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ( صحيح جامع ).
(1/40)
الشيطان مداخل ومكائد(مداخل الشيطان)
الإيمان
الجن والشياطين
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
سبب عداوة الشيطان للأبوين – أهمية معرفة صور كيد إبليس ومداخله للنجاة منه -
من خطوات الشيطان : الكفر , البدع والأهواء والشبهات , القول على الله بغير علم ,
البخل وخوف الفقر ,الغضب , الغلو والتفريط – سبل النجاة من كيد الشيطان -
بعض التوجيهات والإرشادات في التحذير من مسالك الشيطان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ فإن لكل شيء حساباً، ولكل أجل كتاباً، وأنتم بأعمالكم مجزيون.
أيها المسلمون، يقول الله عزَّ وتبارك: يَـ?بَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ ?لْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا ?لشَّيَـ?طِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27].
مارس الشيطان كيده وفتنته مبتدئاً بالأبوين الكريمين. ولقد كان بلاءً عظيماً، دافعه الغيظ والحسد: أَرَءيْتَكَ هَـ?ذَا ?لَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ [الإسراء:62]، دافعه الكبر والخيلاء: إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى? وَ?سْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:34]، ووسيلته الأيْمان الكاذبة: وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف:21]. والمقاييس الفاسدة: أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف:12].
فتنة عظمى، وبلية كبرى حين يعظم سلطان إبليس فيستفز القلوب والعقول والمشاعر في معركة صاخبة. تزمجر فيها الأصوات، وفيها إجلاب الخيل والرجال للمبارزات: وَ?سْتَفْزِزْ مَنِ ?سْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لأولَـ?دِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:64].
أيها الإخوة في الله، إن تبين صور هذا الكيد الإبليسي، والتأمل في هذا المكر الشيطاني، أمرٌ من الأهمية بمكان؛ من أجل النظر في سبيل الخلاص، وطريق النجاة. فالله قد هدى النجدين، وأوضح الطريقين.
معاشر الأحبة، مداخل الشيطان تأتي من قبل صفات الإنسان، فلإن كان الشيطان خرج من الجنة بالحسد، فإن آدم خرج منها ـ كما يقول العلماء ـ بالحرص والطمع.
وتترقى خطوات الشيطان التي يستدرج فيها ابن آدم حتى يتَّخذه معبوداً له من دون الله عياذاً بالله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ?لشَّيطَـ?نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس:60]. ي?أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ?لشَّيْطَـ?نَ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلرَّحْمَـ?نِ عَصِيّاً [مريم:44].
ويقع العبد في ذلك حين يسلم قياده لعدوه، ويفلت الزمام لشهواته، فيتبع كل شيطان مريد كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى? عَذَابِ ?لسَّعِيرِ [الحج:4]. وفي الحديث: ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك، وآباء أبيك؟...)) [1].
ويأتي من بعد الكفر مسالك أخرى في خطوات البدع والأهواء والشبهات. فكم روَّج الزغل على بعض العارفين، وكم سحر ببهرجه بعض المتعبدين، حتى ألقاهم في تشعبات الآراء، ومسالك الضلال. منتقلاً بهم إلى حالة يقولون فيها على الله ما لا يعلمون: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِ?لسُّوء وَ?لْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:168-169].
نعم أيها الإخوة، القول على الله بلا علم خطوة من خطوات الشيطان، وهو الأصل في فساد العقائد، وتحريف الشرائع، ويخشى من ذلك على أقوام يخوضون في علوم لا يحسنونها، ويتجرءون على فتاوى لا يحيطون بها، وقد يجرهم في خطواتهم إلى الإفك والإثم، والتزوير والكذب، وحينئذٍ تتنزل عليهم الشياطين تنزلاً هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (1/41)
الذين هم في صلاتهم خاشعون(الخشوع في الصلاة)
الإيمان, فقه
الصلاة, خصال الإيمان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
تفاضل العبادات بتفاضل ما في القلوب من الإيمان ولوازمه – أولى صفات المؤمنين الخشوع
في الصلاة – التحذير من التقصير في شأن الصلاة والإخلال بحقها – تعريف الخشوع وبيان
لوازمه , وتفاوت مراتبه – أثر الخشوع في الصلاة في راحة النفس – الخشوع المذموم -
الأمور المعينة على الخشوع
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعبدوه حق عبادته، وأخلصوا له، تقربوا إليه خوفاً وطمعاً.
أيها المسلمون، العبادات والقربات تتفاضل عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة والخشية والخشوع والإنابة.
والعابد حقاً والمتقرب لربه صدقاً، هو الذي تحقق في قلبه صدق الإمتثال للأوامر على وجهها، وابتعد عن المخالفات بجميع وجوهها، يجمع بين الإخلاص والحب والخوف وحسن الطاعة.
ومن أجل تبين هذا التفاضل وإدراك هذا التمايز، هذه وقفة مع أعظم فرائض الإسلام بعد الشهادتين؛ مع الصلاة عماد الدين.
صفات المؤمنين المفلحين مبدوءة بها، واستحقاقية ميراث الفردوس مختتمة بالمحافظة عليها: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنِ ?للَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَو?ةِ فَـ?عِلُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ?بْتَغَى? وَرَاء ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْعَادُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لاِمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:1-11]. وفي استعراض آخر من كتاب الله للمكرمين من أهل الجنة تأتي المداومة على الصلاة في أول الصفات، وتأتي المحافظة عليها في خاتمتها إِنَّ ?لإنسَـ?نَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ ?لشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ ?لْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ ?لْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّـ?تٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:19-35].
أيها الإخوة، إنه ثناء على هؤلاء المصلين ما بعده ثناء، وإغراء ما بعده إغراء، لكن هذه الصلاة التي أقاموها صلاة خاصة، ذات صفات خاصة، صلاة تامة كاملة، صلاة خاشعة في هيئة دائمة، ومحافظة شاملة.
إنها صفات وعناصر إذا حصل خللٌ فيها أو نقصٌ؛ فقد حصل في صلاة العبد نقصٌ بقدر ذلك القصور، بل قد يتحول الوعد إلى وعيد، وينقلب رجاء الثواب إلى عرضة للعقاب، اقرءوا إن شئتم: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]. واقرءوا في صفات المنافقين: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].... وَلاَ يَأْتُونَ ?لصَّلَو?ةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى?.. [التوبة:54].
أيها الإخوة: إن روح الصلاة ولبها هو الخشوع وحضور القلب، حتى قال بعض أهل العلم: صلاة بلا خشوع ولا حضور جثة هامدة بلا روح.
إن الخشوع ـ أيها الأحبة ـ حالة في القلب تنبع من أعماقه مهابةً لله وتوقيراً، وتواضعاً في النفس وتذللاً. لينٌ في القلب، ورقة تورث انكساراً وحرقة.
وإذا خشع القلب خشع السمع والبصر، والوجه والجبين، وسائر الأعضاء والحواس. إذا سكن القلب وخشع، خشعت الجوارح والحركات، حتى الصوت والكلام: وَخَشَعَتِ ?لاصْوَاتُ لِلرَّحْمَـ?نِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً [طه:108].
وقد كان من ذكر النبي في ركوعه: ((خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي)) [1] ، وفي رواية لأحمد: ((وما استقلَّت به قدمي لله رب العالمين)) [2].
وحينما رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة قال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
ويبين علي رضي الله عنه خشوع الصلاة فيقول: هو خشوع القلب، ولا تلتفت في صلاتك، وتلين كنفك للمرء المسلم. يعني: حتى وأنت تسوي الصفوف مع إخوانك، ينبغي أن يعلوَك الخشوع.
ويصف الحسن رحمه الله حال السلف بقوله: كان الخشوع في قلوبهم، فغضوا له البصر في الصلاة.
عباد الله، إن القلب إذا خشع، سكنت خواطره، وترفعت عن الإرادات الدنيئة همته، وتجرد عن اتباع الهوى مسلكه، ينكسر ويخضع لله، ويزول ما فيه من التعاظم والترفع والتعالي والتكبر.
الخشوع سكون واستكانة، وعزوف عن التوجه إلى العصيان والمخالفة. والخاشعون والخاشعات هم الذين ذللوا أنفسهم، وكسروا حدتها، وعودوها أن تطمئنَّ إلى أمر الله وذكره، وتطلب حسن العاقبة، ووعد الآخرة، ولا تغتر بما تزينه الشهوات الحاضرة، والملذات العابرة.
إذا خشع قلب المصلي استشعر الوقوف بين يدي خالقه، وعظمت عنده مناجاته، فمن قدَرَ الأمر حق قدره، واستقرَّ في جنانه عظمة الله وجلاله، وامتلأ بالخوف قلبه، خشع في صلاته، وأقبل عليها، ولم يشتغل بسواها، وسكنت جوارحه فيها، واستحق المديح القرآني قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1،2].
رُوي عن مجاهد – رحمه الله – في قوله تعالى: وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238]. قال: القنوت: الركون والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح. قال: وكان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن عزَّ وجلَّ عن أن يشد نظره، أو يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ما دام في الصلاة.
بالخشوع الحق، يكون المصلون مخبتين لربهم، منكسرين لعظمته خاضعين لكبريائه، خاشعين لجلاله: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90].
ولتعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الخشوع يتفاوت في القلوب بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع. وبمقدار هذا التفاوت يكون تفاضل الناس، في القبول والثواب، وفي رفع الدرجات، وحط السيئات. عن عبد الله الصنابحي – رضي الله عنه – قال: أشهد أني سمعت رسول الله يقول: ((خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن؛ كان له على الله عهدٌ أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه)) [3].
وفي خبر آخر عنه أخرجه مسلم وغيره قال: ((ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فأحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله)) [4].
وعن عثمان رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((... من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه بشيء؛ غفر له ما تقدم من ذنبه)) [5].
الصلاة الخاشعة هي الراحة الدائمة للنفوس المطمئنة الواثقة بوعد ربها المؤمنة بلقائه.
أين هذا من نفوس استحوذ عليها الهوى والشيطان؟! فلا ترى من صلاتها إلا أجساداً تهوي إلى الأرض خفضاً ورفعاً. أما قلوبها فخاوية، وأرواحها فبالدنيا متعلقة، ونفوسها بالأموال والأهلين مشغولة.
لما سمع بعض السلف قوله تعالى: لاَ تَقْرَبُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنتُمْ سُكَـ?رَى? حَتَّى? تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ [النساء:43]. قال: كم من مصل لم يشرب خمراً.. هو في صلاته لا يعلم ما يقول، وقد أسكرته الدنيا بهمومها.
أيها الإخوة، وهناك نوع من الخشوع حذر منه السلف، وأنذروا وسموه: خشوع النفاق. فقالوا: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قالوا: أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع. ولقد نظر عمر رضي الله عنه إلى شاب قد نكس رأسه فقال له: يا هذا، ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر خشوعاً على ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق.
وقال الحسن: إن أقواماً جعلوا التواضع في لباسهم، والكبر في قلوبهم، ولبسوا مداعج الصوف ـ أي: الصوف الأسود ـ واللهِ لأَحدُهم أشدُّ كبراً بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب الديباج في ديباجه.
فاتقوا الله – رحمكم الله- واحفظوا صلاتكم، وحافظوا عليها، واستعيذوا بالله من قلب لا يخشع، فقد كان من دعاء نبيكم محمد : ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) [6].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ [البقرة:45، 46].
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل... حديث (771).
[2] إسناده صحيح على شرط الشيخين، مسند أحمد (1/119)، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة كتاب الصلاة – باب الدليل على ضد قول من زعم أن المصلي إذا دعى... حديث (607)، وابن حبان: كتاب الصلاة – باب صفة الصلاة – ذكر الإباحة للمرء أن يفوض الأشياء كلها... (1901).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (5/317)، وأبو داود: كتاب الصلاة – باب في المحافظة على وقت الصلوات، حديث (425)، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس... حديث (1401). وصححه ابن حبان: كتاب الصلاة – باب فضل الصلوات الخمس – ذكر البيان بأن الحق... حديث (1732)، وحسن إسناده الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (8/32)، وصححه الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم رقم (967).
[4] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الطهارة - باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، حديث (228).
[5] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الوضوء – باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، حديث (160). ومسلم: كتاب الطهارة – باب صفة الوضوء وكماله، حديث (226).
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء... باب التعوّذ من شر ما عمل... حديث (2722).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المتفرد بالعظمة والجلال، المتفضل على خلقه بجزيل النوال. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى الحق، والمنقذ بإذن ربه من الضلال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآلٍ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
أيها المسلمون، يذكر أهل العلم وجوهاً عدة، يتبين فيها حضور القلب، ويتحقق فيها حال الخشوع، وحقيقة التعبد.
من هذه الوجوه: الإجتهاد في تفريغ القلب للعبادة، والإنصراف عما سواها، ويقوى ذلك ويضعف بحسب قوة الإيمان بالله واليوم الآخر، والوعد والوعيد. ومنها: التفهم والتدبر لما تشتمل عليه الصلاة من قراءة وذكر ومناجاة؛ لأن حضور القلب والتخشع والسكون من غير فهم للمعاني لا يحقق المقصود.
ومنها: الإجتهاد بدفع الخواطر النفسية، والبعد عن الصوارف الشاغلة. وهذه الصوارف والشواغل عند أهل العلم نوعان: صوارف ظاهرة وهي ما يشغل السمع والبصر، وهذه تعالَج باقتراب المصلي من سترته وقبلته ونظره إلى موضع سجوده، والابتعاد عن المواقع المزخرفة والمنقوشة، والنبي لما صلى في خميصة [1] لها أعلام وخطوط نزعها وقال: ((إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي)) متفق عليه من حديث عائشة [2].
والنوع الثاني: صوراف باطنة من تشعب الفكر في هموم الدنيا وانشغال الذهن بأودية الحياة، ومعالجة ذلك بشدة والتفكر والتدبر لما يَقرأ ويَذكر ويُناجي. ومما يعين على حضور القلب، وصدق التخشع؛ تعظيم المولى جل وعلا في القلب، وهيبته في النفس، ولا يكون ذلك إلا بالمعرفة الحقة بالله عزَّ شأنه، ومعرفة حقارة النفس وقلة حيلتها، وحينئذٍ تتولد الاستكانة والخشوع والذل والإنابة.
أمرٌ آخر – أيها الإخوة – يحسن التنبيه إليه، وهو دال على نوع من الإنصراف والتشاغل، مع ما جاء من عظم الوعيد عليه، وخطر التهاون فيه، ذلكم هو مسابقة الإمام في الصلاة، فما جعل الإمام إلا ليؤتم به، فلا تتقدموا عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)) متفق عليه من حديث أبي هريرة [3]. وفي رواية: ((أو صورة كلب)) [4]. وانظروا إلى حال الصحابة رضوان الله عليهم مع نبيهم وإمامهم محمد ، يقول البراء بن عازب: كان خلف النبي فكان إذا انحط من قيامه للسجود، لا يحني أحد منا ظهره حتى يضع رسول الله جبهته على الأرض ويكبر، وكان يستوي قائماً وهم لا يزالون سجوداً بعد. ورأى ابن مسعود – رضي الله عنه – رجلاً يسابق إمامه فقال له: لا وحدك صليت، ولا أنت بإمامك اقتديت.
فاتقوا الله – رحمكم الله - وأحسنوا صلاتكم، وأتموا ركوعها وسجودها، وحافظوا على أذكارها، وحسن المناجاة فيها، رزقنا الله وإياكم الفقه في الدين وحسن العمل.
[1] الخميصة: كساء مربع له علمان، انظر فتح الباري (1/576).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الصلاة – باب إذا صلى في ثوب له أعلام... حديث (373)، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، حديث (556).
[3] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأذان – باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام، حديث (691)، صحيح مسلم: كتاب الصلاة – تحريم سبق الإمام بركوع... حديث (427).
[4] إسناده حسن، أخرجه ابن أبي شيبة: كتاب صلاة التطوع والإمامة – باب من قال: ائتم بالإمام (2/225)، والطبراني في الكبير (9173)، وابن حبان: كتاب الصلاة – باب ما يُكره للمصلي وما لا يُكره – ذكر الزجر عن استعمال هذا الفعل الذي ذكرناه حذر أن يحول رأسه رأس كلب، حديث (2283). قال الهيثمي: رواه الطبراني فيالكبير بأسانيد منها إسناد رجاله ثقات. مجمع الزوائد (2/79).
(1/42)
المشتغلون بالذكر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
ميزان الرفعة والتكريم الحقيقي بين الأمم - مفهوم الذكر ومعناه الشامل - منزلة الذاكرين
وفضلهم , وسر مباهاة الله ملائكته بأهل عرفة - كيف يقضي المسلم يومه - سر اقتران تضييع
الصلوات باتباع الشهوات - عاقبة الغفلة عن الله وعن ذكره
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وعظموا أمره، واجتنبوا زواجره.
أيها المسلمون، يقول الله عز وجل: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [البقرة:200-202].
لكل أمة من الأمم ما تفاخر به في مفاهيم ضيقة، وأهداف محددة، وهمم قاصرة فلا رسالة كبرى ولا غايات عليا، لم يكن لهم رسالة في الأرض ولا ذكر في السماء.
وأمة العرب كانت من هذا القبيل، يجتمعون بعد حجهم في أسواقهم ومنتدياتهم؛ ليفاخروا بآبائهم، ويتعاظموا بأنسابهم.
جاء الإسلام فرفع الهمم، وأنار الفكر، وأنشأهم إنشاءً جديداً. سلك بأتباعه مسلك عز لا يطاول، وقادهم إلى مجد لا يضاهى، جاءهم الكتاب، وتنزل عليهم الوحي؛ فكان لهم الذكر والخلود: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَـ?باً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:44]. في هذا الذكر، وهذا الكتاب أعطاهم الميزان: يأَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]. فميزان الرفعة والتكريم، ومقياس المفاخرة والذكر، التقوى والصلة بالله، والتلبس بذكره وشكره، والعمل الصالح.
إذا كان الأمر كذلك، فمن أحق بالذكر والشكر من أهل الإسلام، الذين أتم الله عليهم نعمته وأكمل لهم دينه، وجعله مهيمناً على الدين كله؟! فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
وحقنا ـ نحن أهل الإسلام ـ أن نقف مع مفهوم الذكر، لنتبين معناه؛ لعلنا أن نقوم بحقه فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ [البقرة:200].
الذكر هنا ـ أيها الأحبة ـ ذو دائرة واسعة، لا تُحدُّ مجالاتها، في ميادين عريضة من القول والعمل، والفكر والاعتقاد. الذكر ليس ساعة مناجاة محدودة في الصباح أو المساء، في المسجد أو في المحراب، لينطلق العبد بعدها في أرجاء الأرض يعبث كما يشاء ويفعل ما يريد. الذاكر الحي والمتدين الحق يرقب ربه في كل حال، وحيثما كان، وينضبط مسلكه ونشاطه بأوامر ربه ونواهيه، يشعر بضعفه البشري، فيستعين بربه في كل ما يعتريه أو يهمه.
وفي هذا يقول سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ: كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر لله تعالى.
ويقول عطاء: مجالس الذكر: الصلاة والصيام والحج، ومجالس الحلال والحرام: البيع والشراء، والنكاح والطلاق.
المسلم الذاكر يصحو وينام، ويقوم ويقعد، ويغدو ويروح، وفي أعماقه إحساس بأن دقات قلبه، وتقلبات بصره وحركات جوارحه كلها في قبضة الله وتحت قدرته، في أعماقه إحساس وإيمان بأن إدبار الليل وإقبال النهار، وتنفس الصبح وغسق الليل، وحركات الأكوان، وجريان الأفلاك.. كل ذلك بقدرة الله وأقداره ?لَّذِينَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ قِيَـ?ماً وَقُعُوداً وَعَلَى? جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـ?طِلاً سُبْحَـ?نَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:191].
لا يهنأ بالعيش، ولا يتذوق السعادة إلا امرؤ أحب الله، وأحب في الله، وأحب لله، واطمأن بذكره، وهش لمصالح خلقه، وتألم لآلامهم، وأعان على تحقيق آمالهم، لسانه الذاكر يقول: ((اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر)) [1].
أيها الإخوة المسلمون، ملائكة الرحمن يسبحون الله لا يفترون، ولكن البشر يأكلون وينامون، ويعملون ويفترون، غير أنهم يضاهئون الملائكة. حين يقومون إلى عباداتهم ومعاشهم.. حين يزرعون ويحصدون ويكافحون ويكدحون، باسم الله ومن الله وإلى الله. أوقات البشر التي يصرفونها تعادل أوقات الملائكة في التسبيح والتحميد والتمجيد، إذا هم آمنوا بربهم، وساروا على نهجه، ولحظوا قدرته، وتفكروا في آلائه، واعترفوا بفضله في الإطعام، والكساء، والصحة، والإيواء، والأمن، والأمان.
الذاكرون المخبتون يعيشون لربهم مصلين، حامدين، مجاهدين، عاملين.
قطعوا إغراءات العاجلة، وجواذب الإخلاد إلى الأرض، وساروا في الطريق إلى مراضي الله، يبتغون وجهه، ويذكرون اسم الله في جميع أحيانهم وشؤونهم قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
ويرقى الحال بهم إلى أن يباهي بهم ربهم ملائكته، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث معاوية رضي الله عنه قال: إن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟)) قالوا: ما أجلسنا إلا ذاك. قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنَّه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عزَّ وجلَّ يباهي بكم الملائكة)) [2].
وقد علمتم ـ أيها الإخوة ـ بمباهاة الله ملائكته بالحجاج في موقف عرفة، وما ذلك إلا لما يعيشه أهل الموقف من ذكر، ودعاء، وتعبد، وحسن توجه لله رب العالمين.
المسلم الذاكر صاحب قلب سليم مستسلم لله، وهو في جانب آخر صاحب كدح شريف، قدماه مغبرتان، ويداه كالَّتان في ميدان العمل من غير جزع أو هوان، ومن غير ذلة ولا استكبار مبتهل إلى ربه: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات)) [3] ، وفي رواية للبخاري : ((وضَلَع الدين وقهر الرجال)) واللفظ لمسلم من حديث أنس [4].
أيها الإخوة، وهذه إلمامة تطبيقية لمسيرة يوم مع المسلم الذاكر لربه، المستمسك بالصحيح المأثور عن نبيه محمد.
اليوم الإسلامي يبدأ مع بزوغ الفجر أو قبيل ذلك، ليمتد النهار سبحاً طويلاً، متقلباً في الغدو والآصال، والعشي والإبكار، يستيقظ المسلم مع طلائع الصبح المتنفس مستفتحاً بهذا الذكر ((الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وردَّ علي روحي، وأذن لي بذكره)) [5] ، من حديث أبي هريرة. ((أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين)) [6].
وفي أثناء ذلك ـ أيها الإخوة ـ يخترق حجاب الصمت، ويشقه صوت جهير جميل واضح الكلمات، ظاهر المعاني والمقاصد إنه صوت المؤذن ينادي بالتوحيد والفلاح في كلمات كلها ذكر ينادي بها بصوته الندي، ويرددها المسلمون من بعده.
اليوم الإسلامي يبدأ بخطوات السكينة والوقار إلى المسجد مع غبش الصبح؛ ليقف المسلم متبتلاً خاشعاً بين يدي ربه خلال اليوم خمس مرات وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:14]. وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
هذا المسلم الخاشع يقول عند خروجه إلى الصلاة: ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وعظِّم لي نوراً)) واللفظ لمسلم [7].
وإذا ازدلفت قدماه إلى المسجد لهج بذكر آخر، فقد قال رسول الله : ((إذا دخل أحدكم المسجد؛ فليسلم على النبي ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك)) [8] ، وعن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي أنه كان إذا دخل المسجد قال: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)). قال: أَقَطّ؟ُ [9] قلت: نعم. قال: ((فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم)) [10].
أخي المسلم، إذا تأملت كل ذلك أدركت السر في الاقتران بين تضييع الصلوات واتباع الشهوات.
أيها المسلمون، هذا اليوم الإسلامي يتخلله في سبحه الطويل أذكار للطعام والشراب، والسفر والإياب، والنوم والاستيقاظ، والمتاعب والمصاعب، والصحة والسقم، أذكار للدنيا وهمومها، والديون ومغارمها، في طلب المعاش، ومقاربة الأهل، وصلاح الذرية أذكار وتسبيحات ودعوات وابتهالات، مقرونة بتعاطي الأسباب، والكدح المشروع في هذه الدنيا؛ ليقوم المسلم بمهمة الاستخلاف على وجهها، إيمان وعمل، وعقيدة ومنهج، وانطلاق خاشع رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ [البقرة:201].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ ?لَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ طُوبَى? لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ [الرعد:28،29].
[1] إسناده ضعيف، أخرجه أبو داود: كتاب الأدب - باب ما يقول إذا أصبح، حديث (5073)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة - باب ثواب من قال حين يصبح وحين يمسي... حديث (9835)، وابن حبان: كتاب الرقائق -- باب الأذكار - ذكر الشيء الذي إذا قال المرء عند الصباح... حديث (861). وفي إسناده: عبد الله بن عنبسة لم يوثقه سوى ابن حبان (الثقات 5/53)، وقال فيه الذهبي: لا يكاد يُعرف. ميزان الاعتدال (2/469).
[2] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء... جاب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن... حديث (2701).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب ما يتعوذ من الجبن، حديث (2823)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء... باب التعوذ من العجز... حديث (2706).
[4] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب من غزا بصبي للخدمة، حديث (2893)، ولفظه: ((... وغلبة الرجال)).
[5] حسن، أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات - باب حدثنا ابن أبي عمر... حديث (3401)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة - باب ما يقول إذا انتبه من منامه، حديث (10702)، وفي عمل اليوم والليلة (1/496). وحسنه أيضاً السيوطي في الجامع الصغير (437) والألباني في صحيح سنن الترمذي (2707) والكلم الطيب (34).
[6] صحيح، أخرجه أحمد (3/406)، والدارمي: كتاب الاستئذان- باب ما يقول إذا أصبح، حديث (2688)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة - باب ذكر ما كان النبي يقول إذا أصبح، حديث (9829). قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح (10/116). وصححه الألباني في تعليقه على العقيدة الطحاوية (ص97)، حاشية (32).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، حديث (763).
[8] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب ما يقول إذا دخل المسجد، حديث (713) دون ذكر التسليم على النبي ، وأخرجه تاماً أبو داود: كتاب الصلاة - باب فيما يقول الرجل عند دخوله المسجد، حديث (465)، وابن ماجه: كتاب المساجد والجماعات - باب الدعاء عند دخول المسجد، حديث (772).
[9] أقطّ: الهمزة للاستفهام... أي انتهى الحديث الذي بلغك عني (قلت: نعم) هذا الذي بلغني عنك. انظر بذل المجهود في حل أبي داود (3/308).
[10] حسن، أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة - باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، حديث (466)، ورمز له السيوطي بالحسن، الجامع الصغير (6669)، ووافقه المناوي فيض القدير (5/129)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (441).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق حمده، والشكر له حق شكره. أحمد وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره. وأسأله العون على حسن عبادته وذكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله قام بحق ربه في سره وجهره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى آخر دهره.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله، الذين جهلوا ربهم، ونسوا الذكر، وما كانوا إلا قوماً بوراً، يتصرفون بغير هدى، ويتقلبون في هذه الأرض بدوافع الهوى، يمكرون مكراً كُبَّاراً، ولا يرجون لله وقاراً ماذا جنَوا؟ وماذا كسبوا؟ انظروا إلى من أجهدوا أنفسهم من أذكياء الشرق ودهاة الغرب، استخرجوا من كنوز الأرض ما استخرجوا ظاهراً وباطناً، وعلموا من علوم الفضاء ما علموا، ولكن صرفت نتائج كل ذلك في أسلحة الدمار الشامل، أُورثوا خوفاً ورعباً في المستقبل ومن المستقبل. وأمم الأرض تلهث من ورائهم؛ تبتغي الضروري من لقمة العيش المضنية ذلكم هو شؤم الغفلة عن الله، ذلكم هو عاقبة نسيان الذكر مهما كان لصاحبه من الذكاء والعلم والدهاء، ومهما اكتسبوا وتدثروا بقشور من مظاهر الحضارة، وتقنيات المادة. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124].
كيف يكون الحال ـ أيها الإخوة ـ لو أن هذا الجهد المضني، والكد الكادح المبذول في تحصيل الأقوات وتأمين المعاش ماذا لو صاحبَه أدب مع الله، وحسن قصد في ابتغاء مراضيه، واقترن بحب الخير للناس؟ لو كان كذلك؛ لكسب صاحبه سعادة الدنيا، وفلاح الآخرة، وفي الحديث: ((من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) [1].
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وقوموا بحق الله وذكره، وأمِّنوا على هذا الدعاء: اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً، اللهم بارك لنا فيما قدِّر لنا حتى لا نحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت، ونسألك اللهم القصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين.
[1] صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة... باب حدثنا هناد.. حديث (2465)، وابن ماجه: كتاب الزهد - باب الهم بالدنيا، حديث (4105)، والدارمي: المقدمة - باب في فضل العلم والعالم، حديث (331) بمعناه. قال البوصيري في الزوائد : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. (4/212). وقال المنذري: رواه ابن ماجه ورواته ثقات. الترغيب (4/56). وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (949، 950).
(1/43)
المؤمن القوي
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, فضائل الإيمان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
في الحديث بيان جانب من منهاج القوة - أثر العقيدة الصحيحة على قوة الأعمال وجديتها
ونماذج من القوة المنشودة : في الأخذ بالدين , في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
في ضبط النفس , في أخذ العدة ضد العدو , في الصبر واليقين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ ففي تقوى الله الفرج من كل هم، والمخرج من كل ضيق، وفيها صلاح أمر الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة، أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله، وما شاء فعل. فإن "لو" تفتح عمل الشيطان)) [1].
إنه حديث عظيم من كلامه يرسم فيه جانباً من منهاج القوة، وحرص المؤمن على ما ينفع، واقتران ذلك بالبعد عن العجز مع صدق التوكل والرضا بما يجري به القضاء.
أيها الإخوة في الله، ومن أجل مزيد تعليق على هذا التوجيه النبوي الكريم، فلتعلموا أن العقيدة حين تتمكن من القلوب فهي معين لا ينضب للنشاط المتواصل، والعمل الدؤوب، والحماس الذي لا ينقطع.
إن صدق العقيدة وصحتها تضفي على صاحبها قوة تظهر في أعماله كلِّها، فإذا تكلم كان واثقاً، وإذا عمل كان ثابتاً، وإذا جادل كان واضحاً، وإذا فكر كان مطمئناً. لا يعرف التردد ولا تميله الرياح. يأخذ تعاليم دينه بقوة لا وهن معها: خُذُواْ مَا ءاتَيْنَـ?كُم بِقُوَّةٍ [البقرة:63]. ي?يَحْيَى? خُذِ ?لْكِتَـ?بَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]. فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145]. إنه أخذٌ بعزيمة لا رخاوة معها، لا قبول لأنصاف الحلول، ولا هزال ولا استهزاء.
هذا هو عهد الله مع أنبيائه والمؤمنين، جدٌ وحقٌ، وصراحةٌ وصرامةٌ.
هذا جانب من القوة في رجل الإيمان، وجانبٌ آخر يتمثل في ثبات الخطى. حين يكون المؤمن مستنير الدرب، يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إذا رآهم على الحق أعانهم، وإن رآهم على الخطأ جانبهم، ونأى بنفسه عن مسايرتهم، متمثلاً التوجيه النبوي: ((لا تكونوا إمَّعةً؛ تقولون: إنْ أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا. ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)) [2].
إنه توطين للنفس، وقسرٌ لها على المسار الصحيح، وإذا أردت أن تمتحن قوة الرجل في هذا فأستخبره أما الأعراف والتقاليد التي لا تستند إلى شرع: إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى? أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى? ءاثَـ?رِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23].
ينضمُّ إلى ذلك ـ أيها الإخوة ـ القوة في الحق، والقوة في المصارحة فيه. حين يبتعد المؤمن القوي عن المداهنة والمجاملة المذمومة؛ فتراه يواجه الناس بقلبٍ مفتوحٍ، ومبادئ واضحةٍ، لا يصانع على حساب الحق. ومن يحيا بالحق لا يتاجر بالباطل. المؤمن القوي غنيٌّ عن التستر بستار الدجل والاستغلال. سيرته مبنية على ركائز ثابتة من القوة والفضيلة والكمال.
ومن أجل هذا، فإن الصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبثق من هذا السمو النفسي والقوة الإيمانية، وقوة الاستمساك بالحق والرضا به ولو كره الكارهون ((لتأخذن على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطراً)) [3] ، من حديث أبي عبيدة واللفظ للترمذي.
إنها قوة في مصارحة المخالفين وتنبيه الخاطئين، إنها نقد للعيوب المعلنة، لا خوف من وجيهٍ، ولا حياء من قريبٍ، ولا خجل من صديقٍ. وبعبارة جامعةٍ مانعةٍ: لا تأخذه في الله لومة لائم.
هذا ضرب من القوة محمود في معاصي معلنة، ومذنبين مجاهرين. ولا تكون قوة بصدق، خالصة بحق إلا حين تبتعد عن مشاعر الشماتة، وحب الأذى، وقصد التشهير.
ويقترن بذلك ـ أيها الإخوة ـ نوعٌ من القوة آخر، إنه القوة في ضبط النفس والتحكم في الإرادة التي تنشأ من كمال السجايا وحميد الخصال. كإباء الضيم، وعزة النفس، والتعفف، وعلوِّ الهمة، وإنك لترى فقيراً قليل ذات اليد ولكنه ذو إرادةٍ قويةٍ، ونفسٍ عازمةٍ. شريف الطبع، نزيه المسلك، بعيدٌ عن الطمع والتذلل.
إن القوة في ضبط النفس، آخذة بصاحبها بالسير في مسالك الطهر، ودروب النزاهة، والاستقامة على الجادة. أما الرجلُ الخربُ الذمةِ، الساقط المروءةِ فلا قوة له ولو لبس جلود السباع، ومشى في ركاب الأقوياء.
وقد قال هودٌ عليه السلام لقومه آمراً لهم بالاستغفار، والبعد عن مزالق الخاطئين: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52]. وابن آدم إذا انحرف؛ فقد يتعرض للعنة أهل الأرض والسماء، ويكون في ضعفه وحقارته أقل من الذر والهباء.
ولمثل هذا جاء الحديث الصحيح: ((ليس الشديد بالصرعة. إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) [4].
وقد قال بعض أهل العلم في هذا الباب: إن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، وإذا ملك الإنسان نفسه فقد قسر شيطانه.
أما القوة العسكرية فمطلب في الشريعة معلوم: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60].
إنها القوة التي تحفظ الإسلام وأهل الإسلام، فلا يُصدون عن الإسلام ولا يُفتنون. قوةٌ ترهب أعداء الله فعلى ديار الإسلام لا يعتدون. قوة ترهب أعداء الله فلا يقفون في وجه الدعوة والدعاة. وهي قوةٌ كذلك من أجل الاستنصار للمستضعفين والمغلوب على أمرهم؛ ليظهر أمر الله، ويحق الحق ويبطل الباطل.
وفي جميع مجالات القوة - أيها الإخوة- يكون الخير والمحبة الإلهية: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)).
أما قوله : ((استعن بالله ولا تعجز)). فإنه يمثل صورةً أخرى من صور القوة. إنها قوة العزم والأخذ بالأسباب على وجهها، يستجمع المؤمن في ذلك كل ما يستطيع في سبيل تحقيق غاياته، باذلاً قصارى جهده في بلوغ مآربه غير مستسلم للحظوظ: ((استعن بالله ولا تعجز)).
إن المرء مكلف بتعبئة قواه وطاقاته: لمغالبة مشكلاته إلى أن تنزاح عن طريقه، فإذا استطاع تذليلها فذلك هو المراد. وما وراء ذلك فيكله إلى ربه ومولاه.
أما التردد والاستسلام للهواجس، وتغليب جوانب الريب والتوجس. فهذا مجانب للقوة، وصدق العزيمة، فالقوة في الجزم، والحزم والأخذ بكل العزم.
ولهذا كان من أعظم المصائب الهدامة العجز، والكسل، والجبن، والبخل، إنها صورٌ من صور الضعف والخور، وقد استعاذ منها جميعاً نبيكم محمد في دعاءٍ رفعه إلى مولاه، قائلاً: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) [5]. إنها كلها تصب في مصاب الضعف، والانهزام النفسي والعملي.
أما استعادة الأحزان، والتحسر على ما فات، والتعلق بالماضي، وتكرار التمني بـ (ليت) والتحسر في الزفرات بـ (لو) فليس من خلق المؤمن القوي؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، وما عمله إلا الهواجس، والوساوس، فهو الوسواس الخناس. فلا التفات إلى الماضي إلا بقدر ما ينفع الحاضر ويفيد المستقبل.
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ واستمسكوا بعرى دينكم، وخذوا أمركم بقوة، وسيروا في درب الحق بعزيمة، متوكلين على ربكم، معتصمين بحبله؛ تكونوا من الراشدين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتاب الله وبسنة محمد رسول الله ، وهدانا الصراط المستقيم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] صحيح، أخرجه مسلم، كتاب: القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز والاستهانة (2264).
[2] ضعيف: أخرجه الترمذي، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الإحسان والعفو (2007)، فيه محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي، قال البخاري: رأيتهم مجتمعين على ضعفه، انظر (تاريخ بغداد 3/377) وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (8 - ت 578): ضعيف، يتكلمون فيه.
[3] ضعيف لانقطاعه، أبو عبيدة - وهو ابن عبد الله بن مسعود - لم يسمع من أبيه. وهو جزء من حديث أخرجه أحمد (1/391)، والترمذي كتاب: تفسير القرآن، باب: سورة المائدة (3047)، وأبو داود في: التلاحم، باب: الأمر والنهي (4336)، وابن ماجه في: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4006)، وأبو يعلى (8 - 448/5035) وغيرهم.
[4] صحيح: أخرجه البخاري في: الأدب، باب: الحذر من الغضب (6114)، ومسلم في: البر والصلة والآداب، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب (2609).
[5] صحيح، أخرجه البخاري في: الدعوات، باب: الاستعاذة من الجبن والكسل (6369)، ومسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من العجز والكسل وغيره (2706) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده سبحانه وأشكره، على نعمه الباطنة والظاهرة؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جمع الله به القلوب المتنافرة، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الدجى والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله، لازلنا مع هذا الحديث العظيم وهو يرسم جانباً آخر من جوانب القوة إلى جانب قوة الأخذ بالأسباب وشد العزائم. إنها قوة اليقين، المتمثلة في عقيدة المسلم أمام الأحداث والغير : ((وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا)).
ثقةٌ بالله واعتمادٌ عليه حين تتوالى الظروف المحرجة، وتنعقد الأجواء المدلهمة، ويلتفت المرء يمنة ويسرة فلا يرى عوناً ولا أملاً ولا ملجأ ولا ملاذاً إلا إلى الله وبالله وعلى الله. ذلكم هو مسلك النبيين والمرسلين والصالحين من بعدهم: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ?للَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى? مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُتَوَكّلُونَ [إبراهيم:12].
وجماع ذلك ـ أيها الأخوة ـ أن القوة هي عزيمة النفس، وإقدامها على الحق في أمور الدنيا والآخرة. إنها إقدام على العدو في الجهاد، وشد عزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصبر على الأذى في الدعوة إلى الله، واحتمال المشاق في ذات الله، واصطبار على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وسائر المفروضات، ونشاط ودأب في طلب الخيرات، والمحافظة عليها، وهي ـ بعد ذلك ـ قوة في القيام بمهمة الاستخلاف في هذه الأرض واستعمارها كما طلب ربنا الذي أنشأنا فيها.
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وخذوا بعزائم الأمور، واعتصموا بحبل الله وتوكلوا عليه.
(1/44)
الحجاب والجلباب
الأسرة والمجتمع
المرأة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
من أعظم مقاصد الدين إقامة مجتمع طاهر عفيف - عفة المؤمنة نابعة من دينها ظاهرة في
سلوكها - الأمر بالحجاب وآدابه وأهميته - معنى الجلباب وإدنائه , ومعنى ( إلا ما ظهر منها )
وحكم ستر وجه المرأة - شبهات حول الحجاب - وظيفة المرأة ودورها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فمن اتقى الله حفظه، ويسر له أمره، وهداه إلى رشده.
عباد الله، لقد بعث الله نبيه محمداً بالهدى ودين الحق، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. فشمل دينه أحكاماً ووصايا، وأوامر وتوجيهات في نظام متكامل مربوط برباط الفضيلة بجميع أنواعها وشتى كمالاتها ووسائلها.
وإن من أعظم مقاصد هذا الدين؛ إقامة مجتمع طاهر، الخلق سياجه، والعفة طابعه، والحشمة شعاره، والوقار دثاره، مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تضيق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة.
ولقد خُصَّت المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة، ووصايا جليلة.
فعفة المؤمنة نابعة من دينها، ظاهرة في سلوكها، ومن هنا كانت التربية تفرض الانضباط في اللباس سترة واحتشاماً، ورفضاً للسيرة المتهتكة والعبث الماجن.
فشرع الحجاب ليحفظ هذه العفة ويحافظ عليها، شرع ليصونها من أن تخدشها أبصار الذين في قلوبهم مرض.
وأحكام الحجاب في كتاب الله، وفي سنة رسوله صريحة في دعوتها، واضحة في دلالته، ليست مقصورة على عصر دون عصر، ولا مخصوصة بفئة دون فئة.
ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59].
تقول أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما: ((لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية)) [1].
والجلباب: كل ساتر من أعلى الرأس إلى أسفل القدم، من ملاءة وعباءة، وكل ما تلتحف به المرأة فوق درعها وخمارها.
وإدناء الجلباب يعني: سدله وإرخاؤه على جميع بدنها، بما في ذلك وجهها. وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما: هوتغطية الوجه من فوق رأسها، فلا يبدو إلا عين واحدة.
وما خوطب به أمهات المؤمنين أزواج النبي مطالب به جميع نساء المؤمنين.
ي?نِسَاء ?لنَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ?لنّسَاء إِنِ ?تَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِ?لْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ?لَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لاْولَى? [الأحزاب:32، 33].
فنهى عن الخضوع بالقول والتبرج؛ تبرج الجاهلية الأولى، وأمر بالمعروف من القول، ولزوم القرار في البيوت.
نساء المؤمنين في ذلك كنساء النبي ، بل هو في حق نساء المؤمنين آكد وأولى كما لا يخفى.
وما قوله سبحانه: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ?لنّسَاء [الأحزاب:32]. إلا تأكيداً لهذا؛ إذ المقصود بيان أنهن محل الأسوة والامتثال الأول، ومن بعدهن أسوتهن.
وفي هذا يقول أبو بكر الجصاص: وهذا الحكم وإن نزل خاصاً في النبي وأزواجه، فالمعنى فيه عام فيه وفي غيره.
وفي مقام آخر ـ أيها المؤمنون والمؤمنات ـ يقول الله عز وجل: وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ [النور:31].
ولقد ذكر في الآية زينتان: إحداهما لا يمكن إخفاؤها وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولم يقل إلا ما أظهرن منها، فعُلم بهذا: أن المراد بالزينة الأولى زينة الثياب، أما الزينة الثانية، فزينة باطنة يباح إظهارها لمن ذكرتهم الآية: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ... إلخ الآية، وأنت خبير أيها المؤمن- وخبيرة أيتها المؤمنة- بأن ممن رخص في إبداء الزينة أمامهم: الأطفال، وغير أولي الإربة من الرجال. والوجه مجمع الحسن ومحط الفتنة، فهل يرخص كشفه للبالغين وأولي الإربة من الرجال. الأمر في هذا جلي.
وفي نفس الآية الكريمة: وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ [النور:31].
وهو ما يتحلى به في الأرجل من خلخال وغيره، فإذا كان صوت الخلخال بريداً إلى الفتنة، فكيف بالوجه الذي يحكي الجمال والشباب والنضارة؟! وصوت الخلخال يصدر من فتاة وعجوز، ومن الجميلة والدميمة.
أما الوجه فلا يحتمل إلا صورة واحدة.
يقول صاحب الدر المختار في فقه أبي حنيفة رحمه الله: وتُمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال لخوف الفتنة كمسِّه، وإن أُمن الفتنة. ويقول عليه الشارح ابن عابدين رحمه الله: المعنى أنها تُمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة؛ لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة، وأما قوله: (كمسه) أي: كما يمنع من مس وجهها وكفيها، وإن أمن الشهوة؛ لأنه سبيل إلى الشهوة والفتنة، فكذلك يُغطى الوجه؛ لأنه طريق إلى الفتنة.
وقبله قال أبو بكر الجصاص: والمرأة الشابة مأمورة بستر وجهها، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج؛ لئلا يطمع فيها أهل الريب.
وفي السنة أيها المؤمنون والمؤمنات حين أبيح للخاطب النظر من أجل الخطبة، فغير الخاطب ممنوع من النظر. والمقصود الأعظم من النظر هو الوجه؛ ففيه يتمثل جمال الصورة.
وحينما قال عليه الصلاة والسلام: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، قالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع الناس بذيولهن؟ - أي: الأطراف السفلى من الجلباب والرداء- قال: ((يرخين شبراً)) قالت: إذن تنكشف أقدامهن. قال: ((فيرخينه ذراعاً، ولا يزدن عليه)) [2].
فإذا كان هذا في القدم فالوجه أكثر فتنة فلا يعدو أن يكون تنبيهاً بالأدنى على الأعلى. والحكمة والنظر تأبيان ستر ما هو أقل فتنة، والترخيص في كشف ما هو أعظم فتنة.
أيها الإخوة والأخوات:
ومهما قيل في الحجاب، في كيفيته وصفته، فما كان يوماً عثرة تمنع من واجب، أو تحول دون الوصول إلى حق، بل كان ولا يزال سبيلاً قويماً يمكِّن المرأة من أداء وظيفتها بعفةٍ وحشمةٍ وطهرٍ ونزاهةٍ على خير وجهٍ وأتم حال.
وتاريخ الأمة شاهد صدق لنساء فُضْلَيات جمعن في الإسلام أدباً وحشمةً وستراً ووقاراً وعملاً مبروراً، دون أن يتعثرن بفضول حجابهن، أو سابغ ثيابهن.
وإن في شواهد عصرنا من فتياتنا المؤمنات، متحجبات بحجاب الإسلام، متمسكات بهدي السنة والكتاب قائمات بمسؤولياتهن، خيرٌ ثم خيرٌ ثم خير من قرينات لهن، شاردات كاسيات، عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، متبرجات بزينتهن تبرج الجاهلية الأولى.
وليعلم دعاة السفور، ومن وراءهم أن التقدم والتخلف له عوامله وأسبابه، وإقحام الستر والاحتشام والخلق والالتزام عاملاً من عوامل التخلف، خدعة مكشوفة، لا تنطلي إلا على غُفُلٍ ساذج، في فكره دخل، أو في قلبه مرض.
ودعاة السفور ليسوا قدوة كريمة في الدين والأخلاق، وليسوا أسوة في الترفع عن دروب الفتن، ومواقع الريب إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [المائدة:55، 56].
أيها الإخوة، إن وظيفة المرأة الكبرى، ومهمتها العظمى في بيتها وأسرتها وأولادها، وكل ما تتحلى به من علم ووعي يجب أن يكون موجهاً لهذه المهمة وتأهيلاً لهذه الوظيفة.
الرجل هو الكادح في الأسواق والمسؤول عن الإنفاق، والمرأة هي المربي الحاني، والظل الوارف للحياة، كلما اشتد لفحها، وقسا هجيرها.
وإن انسلاخ أحد الجنسين عن فطرته من أجل أن يلحق بجنس ليس منه؛ تمرد على سنة الله، واعوجاج عن الطريق المستقيم. ولن يفيد العالم من ذلك إلا الخلل والاضطراب، ثم الفساد والدمار. وما لُعن المتشبهون من الرجال بالنساء ولا المتشبهات من النساء بالرجال، إلا من أجل هذا.
وسوف تحيق اللعنة، ويتحقق الإبعاد عن مواقع الرحمة في كل من خالف أمر الله، وتمرد على فطرة الله.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه أبو داود في: اللباس، باب: في قوله تعالى: يدنين عليهن من جلابيبهن (4101)، وصححه الألباني في: صحيح أبي داود (3456).
[2] صحيح، أخرجه أوله البخاري في: المناقب - باب: قول النبي : ((لو كنت متخذاً خليلاً)) (3665)، ومسلم في: اللباس والزينة، باب: تحريم جر الثوب خيلاء وبيان حد ما يجوز (2085)، وتمامه عند الترمذي في: اللباس - باب: ما جاء في جر ذيول النساء (1731) وقال: حديث حسن صحيح، وكذا عند النسائي في: الزينة، باب: ذيول النساء (5336)، وصححه المناوي في: فيض القدير (6-113).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على جزيل النعماء، والشكر له على ترادف الآلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وسيد الأولياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأتقياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون، كما أُمرت المؤمنة بلزوم الحجاب عند خروجها ومقابلة غير المحارم فقد أمرت أن تقر في بيتها فبيتها خيرٌ لها، ووظيفتها في بيتها من أشرف الوظائف في الوجود، وما يُحسنها ولا يتأهل لها إلا من استكمل أزكى الأخلاق، وأنقى الأفكار.
إن من الخطأ في الرأي والفساد في التصور، الزعم بأن المرأة في بيتها قعيدة لا عمل لها، فما هذا إلا جهل مركب، وسوء فهم غليظ، سوء فهم بمعنى الأسرة، وجهلٌ بطبيعة المجتمع الإنساني، والتركيب البشري.
والأشد والأنكى: الظن بأن هذه الوظيفة قاصرة على الطهي والخدمة... إنها تربية الأجيال والقيام عليها؛ حتى تنبت نباتاً حسناً ذكوراً وإناثاً، إنها في الإسلام تعدل شهود الجُمَع والجماعات في حق الرجال، وتعدل حج التطوع والجهاد.
جاءت أسماء بنت السكن الأنصارية الأشهلية رضي الله عنها الملقبة بخطيبة النساء. جاءت إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إن الله بعثك للرجال وللنساء كافة فآمنا بك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات، مقصورات مخدورات، قواعد بيوتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فضلتم علينا بالجُمَع والجماعات، وفضلتم علينا بشهود الجنائز، وعيادة المرضى، وفضلتم علينا بالحج بعد الحج، وأعظم من ذلك الجهاد في سبيل الله. وإن الرجل منكم إذا خرج لحجٍ أو عمرةٍ أو جهادٍ؛ جلسنا في بيوتكم نحفظ أموالكم، ونربي أولادكم، ونغزل ثيابكم، فهل نشارككم فيما أعطاكم الله من الخير والأجر؟ فالتفت النبي بجملته [1] وقال: ((هل تعلمون امرأة أحسن سؤالاً عن أمور دينها من هذه المرأة؟)) قالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تسأل سؤالها. فقال النبي : ((يا أسماء، افهمي عني، أخبري من وراءك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لرغباته يعدل ذلك كله)) فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر وتردد: يعدل ذلك كله، يعدل ذلك كله [2].
فهل يفقه هذا نساء المؤمنين؟!
[1] أي: بجسده كله.
[2] أخرجه ابن عبد البر في: الاستيعاب (4-1788)، والبيهقي في: شعب الإيمان (8743)، وفي إسناده مسلم بن عبيد الراوي عن أسماء لم أجد له ترجمة.
(1/45)
ابن آدم: مرضت فلم تعدني
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
انتظام الإسلام كل وجوه البر – من محاسن الشريعة المحافظة على حقوق الأخوة وآدابها -
عيادة المريض , أثرها وفضلها , وآدابها وحكمها – بعض العادات الخاطئة التي تعوق عن
زيارة المريض
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ، فبتقوى الله تُنال الدرجات، وتزكو الأعمال، وأكثروا من ذكره وشكره، فبذكره تطمئن القلوب، وبشكره تحفظ النعم، وتزودوا من الصالحات فخير الزاد التقوى.
معاشر الإخوة، الخير في الإسلام ينتظم كل وجوه البر، ويشمل كل عمل صالح، ويتناول كل خلق كريم، طاعةً لله عزَّ وجلَّ، وحباً في الفضائل في إخلاصٍ وصدقٍ حسنٍ.
ففي الحديث قولٌ جميلٌ، وفي البلاء صبرٌ جميلٌ، وعند الخلاف صفحٌ جميلٌ.
أقوالٌ وأفعالٌ تغرس المحبة، وتورث المودة، وتوثق الروابط، نجدةٌ وإغاثة، وتراحمٌ وملاطفةٌ، وإخلاصٌ ووفاءٌ، مشاركةٌ في السراء، ومواساة في الضراء، كل ذلك من توجيهات الإسلام، ونواميس الأخلاق.
أيها الإخوة، ويتجلى صفاء الدين، وتظهر محاسن الشريعة، أكثر ما تتجلى في خلقٍ كريمٍ، وسلوكٍ مستقيم، ينتهجه المسلم مع إخوانه، القريب منهم والبعيد.
إنها أخلاقٌ كريمة، ولكنها في ذات الوقت حقوقٌ محفوظة، عُني الإسلام بها وحثَّ عليها، ودعا إليها، ورسم منهاجها، وأوضح آدابها.
وفي مثل ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ((حق المسلم على المسلم ستٌ)) قيل: ما هنَّ يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّتْه، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتبعه)) [1] في حقوق أخرى كثيرة حفلت بها سنة المصطفى قولاً وعملاً وتوجيهاً.
ولقد كان من أدب السلف ـ رضوان الله عليهم ـ إذا فقدوا أحداً من إخوانهم سألوا عنه، فإن كان غائباً دعوا له، وخلفوه خيراً في أهله، وإن كان حاضراً زاروه، وإن كان مريضاً عادوه.
يقول الأعمش رحمه الله: كنا نقعد في المجلس، فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه، فإن كان مريضاً عدناه.
وفي عيادة المريض ـ أيها الإخوة ـ يتجلى سموُّ الخلق، وحفظ الحق حين يكون أخوك في حالةٍ من العجز، وانقطاعٍ عن مشاركة الأصحاب، حبيس المرض، وقعيد الفراش.
في عيادة المريض إيناسٌ للقلب، وإزالة للوحشة، وتخفيفٌ من الألم، وتسليةٌ للنفس والأقارب.
وفي توجيهات المصطفى حثٌّ عظيمٌ على حفظ هذا الحق، والالتزام بهذا الخلق، ومراعاة آدابه.
أخرج الإمام أحمد ومسلمٌ واللفظ له والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة حتى يرجع)) قيل: يا رسول الله، وما خُرفة الجنة؟ قال: ((جناها)) [2] – أي: ثمارها.
وفي حديث قدسي يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: ((يا بن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟)) [3].
و ((ما من مسلم يعود مسلماً غدوةً، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريفٌ في الجنة)) [4].
وفي موطأ مالك بلاغاً ومسند أحمد مسنداً واللفظ له، ورواته رواة الصحيح، والبزار، وابن حبان في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من عاد مريضاً لم يزل يخوض في الرحمة حتى يرجع، فإذا جلس اغتمس فيها)) [5] وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((من عاد مريضاً ناداه منادٍ من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً)) [6] أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، واللفظ له.
ومن أدب الزيارة أن يقف عند رأسه ويضع يده على جبينه أو على مكان الألم ويقول: ((لا بأس طهور إن شاء الله)) [7] فقد كان نبيكم محمد يفعل ذلك.
كما كان عليه الصلاة والسلام يرشد إلى ما يتعوذ به من الألم. يقول عثمان بن أبي العاص الثقفي قدمت على النبي وبي وجع قد كان يبطلني فقال لي النبي : ((اجعل يدك اليمنى عليه وقل: بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. سبع مرات)) فقلت ذلك فشفاني الله [8].
وينبغي أن يجتهد له في الدعاء، ومما ورد في ذلك: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرار: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عافاه الله من ذلك المرض)) [9].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى جنازة)) [10] ، وفي رواية ((صلاة)) [11]. ويقول: ((اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً)) [12].
وقد عاد جبريل النبي وقال: ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفسٍ أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك)) رواه مسلم من حديث أبي سعيد [13].
ومن الآداب المرعية: ألا يطيل الزيارة، ولا يثقل بكثرة المساءلة، وإطالة الحديث، ولا يذكر له ما يحزنه، أو يزيده وجعاً إلى وجعه، ولا يذكر صديقاً له بما يكره، أو عدواً له بما يحب، ولا يتحدث عن أهله وأولاده إلا بكل خير، رفقاً به وملاطفةً له.
وإن في الإطالة إثقالاً على المريض، ومنعاً له من تصرفاتٍ قد يحتاج إليها.
قال بعض الظرفاء لقوم عادوه في مرضه، فأطالوا الجلوس: المريض يعاد، والصحيح يزار.
ودخل رجلٌ على عمر بن عبد العزيز يعوده في مرضه فسأله عن علته فأخبره، فقال الزائر: إن هذه العلة ما شفي منها فلان، ومات منها فلان. فقال عمر: إذا عدت مريضاً فلا تنع إليه الموتى، وإذا خرجت عنا فلا تعد إلينا. ويقول سفيان الثوري: حماقة العائد أشر على المرضى من أمراضهم، يجيئون من غير وقتٍ، ويطيلون الجلوس.
وإذا كان المريض يحب تكرار الزيارة، ولا مشقة عليه فلا بأس، ومردُّ ذلك إلى الطبائع ومقتضيات الأحوال، وقد يأنس ببعضٍ من قريب أو صديق حميم، ويملُّ آخرين. وإذا طمع الزائر في شفاء المريض صبَّره وبشَّره، وساعده في التمريض وإحضار الطبيب، وفي قضاء حوائجه التي يعجز عن الوصول إليها، وطيَّب نفسه وسعى في إدخال السرور عليه، وفتح أبواب الأمل لديه.
وقد وصف الحسن رحمه الله المريض فقال: أما والله ما هو بِشَرِّ أيام المسلم، قورب أجله، وذكِّر فيه ما نسي من معاده، وكُفِّر فيه عن خطاياه.
وكان إذا دخل على مريض قد عوفي قال له: يا هذا، إن الله قد ذكَّرك فاذكره، وأقالك فاشكره.
فهذه الأسقام والبلايا كفاراتٌ للذنوب، ومواعظ للمؤمنين، يرجعون بها عن كل شرٍَ كانوا عليه.
ويقول الفضيل: إنما جعلت العلل ليؤدب بها العباد.
ليس كل من مرض مات. وعُدَّ من ذلك قوله تعالى: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].
وإذا يئس من حاله ذكَّره بالله، ورغَّبه فيما عنده، وحسَّن ظنه بربه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة، ويفتح له أبواب التوبة، واغتنام الوقت بالذكر والقراءة والتسبيح والاستغفار، وكل ما يقرب إليه، ويذكره بالوصية، فهي لا تقطع أجلاً، وإنما تحفظ بها الحقوق، وتقضى بها الديون، ويَتوصل بها أهل الحقوق إلىحقوقهم.
لما طعن عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس ـ وكأنه يجزعه ـ: ((يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبابكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت صحبتهم [14] فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون. قال: أمَّا ما ذكرت من صحبة رسول الله ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله جلَّ ذكره منَّ به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله جلَّ ذكره منّ به علي، وأما ما ترى من جزعي؛ فهو من أجلك وأجل أصحابك. والله لو أن لي طلاع الأرض [15] ذهباً لافتديت به من عذاب الله عزّ وجلَّ قبل أن أراه)) رواه البخاري من حديث المسور بن مخرمة [16].
وفي البخاري أيضاً من حديث القاسم بن محمد أن عائشة – رضي الله عنها – اشتكت؛ فجاء ابن عباس فقال: ((يا أم المؤمنين، تقدمين على فَرَط صدق، على رسول الله وعلى أبي بكر)) [17].
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واحفظوا لإخوانكم حقوقهم، قوموا بها على وجهها، راعوا آدابها، وحققوا مقاصدها، يعظمِ الأجر، ويصلحِ الشأن، ويفشُ الخير، وتَسُدِ المودة.
اللهم تب على التائبين، واغفر ذنوب المذنبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، واغفر لنا حوبنا وخطايانا يا رب العالمين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجنائز – باب الأمر باتباع الجنائز، حديث (1240).
[2] صحيح، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل عيادة المريض، حديث (2568)، مسند أحمد (5/283).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل عيادة المريض، حديث (2569).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (1/81)، والترمذي: كتاب الجنائز – باب ما جاء في عيادة المريض، حديث (969) وقال: حسن غريب، وأبو داود :كتاب الجنائز – باب في فضل العيادة على وضوء، حديث (3098) وقال: أُسند هذا عن علي عن النبي من غير وجه صحيح. وصححه الحاكم (1/341-342)، وصحح إسناده الضياء في الأحاديث المختارة (2/231)، وقال في المجمع: رجال أحمد ثقات (3/30).
[5] صحيح، موطأ مالك: كتاب العين – باب عيادة الريض والطيرة، حديث (1694)، مسند أحمد (3/304)، مسند البزار، حديث (620)، صحيح ابن حبان: كتاب الجنائز – باب المريض وما يتعلّق به – ذكر خوض عائد المريض الرحمة... حديث (2956)، وصححه الحاكم (1/349-350)، وصحح إسناده الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (2/260).
[6] حسن، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في زيارة الإخوان، حديث (2008)، وقال: حسن غريب. سنن ابن ماجه: كتاب ما جاء في الجنائز – باب ما جاء في ثواب من عاد مريضاً، حديث (1443)، وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (2/354)، وصححه ابن حبان (2961) وقوّاه الحافظ في الفتح وقال: له شاهد عند البزار من حديث أنس بسند جيد. وحسنه الألباني، صحيح سنن الترمذي (1633).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب علامات النبوة في الإسلام، حديث (3616).
[8] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب السلام – باب استحباب وضع يده على موضع الألم... حديث (2202) دون قوله: ((فشفاني الله))، وأخرجه ثمامه: الترمذي: كتاب الطب – باب ما جاء في دواء ذات الجنب، حديث (2080)، وقال: حسن صحيح، وأبو داود: كتاب الطب – باب كيف الرقى، حديث (3891)، وابن ماجه: كتاب الطب – باب عَوّذ به النبي وما عُوّذ به، حديث (3522) واللفظ له.
[9] صحيح، أخرجه أحمد (1/239)، والترمذي: كتاب الطب – باب ما جاء في التداوي بالعسل، حديث (2083) وقال: حسن غريب. وأبو داود: كتاب الجنائز – باب الدعاء للمريض عند العيادة، حديث (3106)، وصححه ابن حبان (2975) من فعل النبي ، وصححه الحاكم (1/342) والسيوطي. الجامع الصغير (8106)، والألباني، صحيح سنن الترمذي (1698).
[10] حسن، أخرجه أبو داود: كتاب الجنائز – باب الدعاء للمريض عند العيادة، حديث (3107)، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (1304).
[11] حسن، أخرجه أحمد (2/172)، وابن حبان: كتاب الجنائز – باب المريض وما يتعلق به – ذكر ما يستحب للمرء أن يدعو لأخيه العليل... حديث (2974)، والحاكم (1/344)، وانظر السلسلة الصحيحية للألباني (1304).
[12] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب – دعاء العائد للمريض، حديث (5675)، ومسلم: كتاب السلام – باب استحباب رقية المريض (2191) واللفظ له.
[13] صحيح، صحيح مسلم: كتاب السلام – باب الطب والمرض والرقى، حديث (2186).
[14] أي أصحاب النبي وأبي بكر رضي الله عنه.
[15] طلاع الأرض: أي ملء الأرض.
[16] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المناقب – باب مناقب عمر بن الخطاب... حديث (3692).
[17] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المناقب – باب فضل عائشة رضي الله عنها، حديث (3771).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، ربط بين المؤمنين برابطة الإيمان، فكانوا إخوةً متحابين، يشد بعضهم بعضاً، كالمرصوص من البنيان. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ معاشر المسلمين ـ واعلموا أن زيارة المريض مستحبةٌ، ولو كان مغمىً عليه، ((فقد زار النبي وأبو بكر – رضي الله عنه – جابر بن عبد الله، ووجداه مغمىً عليه)) [1] ، وفي مثل هذه الزيارة جبرٌ لخاطر أهله مع ما يرجى من إجابة الدعاء.
مرِض يحيى بن خالد فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا دخل عليه يعوده – وهو مغمىً عليه – وقف عند رأسه ودعا له ثم يخرج؛ فيسأل مرافقه عن منامه وشرابه وطعامه، فلما أفاق يحيى، قال: ما عادني في مرضي إلا إسماعيل بن صبيح.
ومما ينبه إليه في هذا المقام ـ أيها الأخوة ـ أن بعض الناس يثقلون على أنفسهم؛ فيحملون إلى المريض هدايا وغيرها، وقد يحملون أموراً من عادات غير أهل الإسلام، وهذا ليس من آداب الزيارة في شيء، بل هو تكلُّف ظاهر، ومجاملات ثقيلة، تقليد أعمى، وهو قد يدفع من لا قدرة لهم إلى التقاعس عن الزيارة الشرعية التي أمر الله بها ورسوله.
وحاجة المريض إلى الدعاء، والكلمات الطيبة، والملاحظات الرقيقة أولى من هذه المحمولات.
أما ما كان صدقةً لفقير، أو مساعدة لمحتاج، فهذا له شأن آخر لا ينبغي أن يكون مربوطاً بالزيارة أو شرطاً فيها.
فاتقوا الله؛ يرحمكم الله؛ والتزموا بهدي نبيكم محمد فهو أقوم هديٍ وأسلم نهجٍ.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الوضوء – باب حب النبي وضوءه، حديث (194)، وكتاب تفسير القرآن – باب قوله: ((يوصيكم الله...)) حديث (4577)، ومسلم: كتاب الفرائض – باب ميراث الكلالة، حديث (1616).
(1/46)
طيب الكسب
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية كسب الرزق الحلال وطلب العيش الطيب وفضله , والأمر به – ارتباط نزاهة اليد
واللسان والقلب بالإيمان – التحذير من الكسب الخبيث وأثره على الفرد والمجتمع -
أهمية الورع وترك المشتبه وحال السلف في ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، اتقوه في أنفسكم وأهليكم، اتقوه في أعمالكم وأموالكم، اتقوه فيما تأكلون وما تدخرون: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى ?لأرْضِ حَلَـ?لاً طَيّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:168].
عباد الله، كسب الرزق وطلب العيش شيء مأمور به شرعاً، مندفعة إليه النفوس طبعاً، فالله قد جعل النهار معاشاً، وجعل للناس فيه سبحاً طويلاً. أمرهم بالمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه. وقَرَنَ في كتابه بين المجاهدين في سبيله والذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله، يَضْرِبُونَ فِى ?لأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَ?قْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20]. وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ((ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) رواه البخاري [1] ، ولقد قال بعض السلف: إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهمُّ في طلب المعيشة. وفي أخبار عيسى عليه السلام أنه رأى رجلاً فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبد. قال: ومن يعولك؟ قال: أخي. قال: وأين أخوك؟ قال: في مزرعة. قال: أخوك أعبد لله منك.
وعندنا – أهلَ الإسلام -: ليست العبادة أن تَصُفَّ قدميك، وغيرك يسعى في قوتك؛ ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد.
والاستغناء عن الناس ـ أيها الإخوة ـ بالكسب الحلال شرفٌ عالٍ وعزٌّ منيفٌ. حتى قال الخليفة المحدَّث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي؛ أبيع وأشتري. ومن مأثور حكم لقمان: يا بنيَّ، استغن بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحدٌ قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقةٌ في دينه، وضعفٌ في عقله، وذهاب مروءته.
إن في طيب المكاسب وصلاح الأموال سلامة الدين، وصون العرض، وجمال الوجه، ومقام العز.
ومن المعلوم ـ أيها الأحبة ـ أن المقصود من كل ذلك الكسب الطيب، فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين؛ فقال عزَّ من قائل: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحاً [المؤمنون:51] وقال عزَّ شأنه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ وَ?شْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].
ومن أعظم ثمار الإيمان طيب القلب، ونزاهة اليد، وسلامة اللسان. والطيبون للطيبات، والطيبات للطيبين. ومن أسمى غايات رسالة محمد أنه يُحلُّ الطيبات، ويحرم الخبائث.
وفي القيامة يكون حسن العاقبة للطيبين ?لَّذِينَ تَتَوَفَّـ?هُمُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُمُ ?دْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32].
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي : ((من أكل طيباً وعمل في سنَّة، وأمن الناس بوائقه دخل الجنة)) [2]. وأخرج أحمد وغيره بأسانيد حسنة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((أربعٌ إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفةٌ في طعمة)) [3].
إن طلب الحلال وتحريه أمرٌ واجبٌ وحتمٌ لازمٌ، فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. إن حقاً على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطيب من الكسب، والنزيه من العمل؛ ليأكل حلالاً وينفق في حلال. انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يجيئه غلامه بشيء فيأكله فيقول الغلام: أتدري ما هو؟ تكهنت في الجاهلية لإنسان وما أُحسن الكهانة: ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت. فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه [4] ، وفي رواية أنه قال: ((لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها. اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالطه الأمعاء)). وشرب عمر لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء، فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء. وتوصي بعض الصالحات زوجها وتقول: يا هذا اتق الله في رزقنا فإننا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار.
أولئك هم الصالحون يُخرجون الحرام والمشتبه من أجوافهم، وقد دخل عليهم من غير علمهم. وخَلَفَت من بعدهم خلوف يعمدون إلى الحرام ليملأوا به بطونهم وبطون أهليهم.
أيها المسلمون، أرأيتم الرجل الذي ذكره النبي : ((يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء؛ يا رب يا رب، ومطعمه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)) [5]. لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة ما يدعو إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره، تقطعت به السبل، وطال عليه المسير، وتغربت به الديار، وتربت يداه، واشْعَثَّ رأسه، واغبرَّت قدماه، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحرم نفسه من مدد مولاه، فحيل بين دعائه والقبول. أكل من حرام، واكتسى من حرام، ونبت لحمه من حرام، فردَّت يداه خائبتين.
بربكم ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحُجب دعاؤه، وحيل بينه وبين الرحمة؟! لمثل هذا قال بعض السلف: لو قُمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك.
وإن العجب كل العجب ـ أيها الأخوة ـ ممن يحتمي من الحلال مخافة المرض ولا يحتمي من الحرام مخافة النار.
عباد الله، إن أكل الحرام يُعمي البصيرة، ويوهن الدين، ويقسي القلب، ويُظلم الفكر، ويُقعد الجوارح عن الطاعات، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاء، ولا يتقبل الله إلا من المتقين.
إن للمكاسب المحرمة آثاراً سيئة على الفرد والجماعة؛ تُنزع البركات، وتفشو العاهات، وتحل الكوارث. أزمات مالية مستحكمة، وبطالة متفشية، وتظالم وشحناء.
أيها المسلمون، ويل للذين يتغذون بالحرام، ويُربون أولادهم وأهليهم على الحرام، إنهم كشارب ماء البحر كلَّما ازدادوا شرباً ازدادوا عطشاً، شاربون شرب الهيم، لا يقنعون بقليل، ولا يغنيهم كثير. يستمرئون الحرام، ويسلكون المسالك المعوجة؛ رباً وقمارٌ، وغصبٌ وسرقةٌ، تطفيفٌ في الكيل والوزن والذرع، كتمٌ للعيوب، سحرٌ وتنجيمٌ وشعوذة، أكلٌ لأموال اليتامى والقاصرين، أيمان فاجرة، لهو وملاه، مكرٌ وخديعة، زور وخيانة، مسالك معوجة، وطرق مظلمة، في الحديث الصحيح عند البخاري والنسائي: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام)) [6]. زاد رزين: ((فإن ذلك لا تجاب لهم دعوة)) [7].
أيها العمال والموظفون، أيها التجار والصناع، أيها السماسرة والمقاولون أيها المسلمون والمسلمات، حقٌ عليكم تحري الحلال والبعد عن المشتبه، احفظوا حقوق الناس، أنجزوا أعمالهم، أوفوا بالعقود والعهود، اجتنبوا الغش والتدليس، والمماطلة والتأخير، اتقوا الله جميعاً، فالحلال هنيء مريء، ينير القلوب، وتنشط به الجوارح، وتصلح به الأحوال، وتصحُّ به الأجسام، ويستجاب معه الدعاء.
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، ونسألك اللهم الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، وبارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النار، استجب اللهم يا ربنا دعاءنا.
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب البيوع – باب كسب الرجل وعمله بيده، حديث (2072).
[2] ضعيف، أخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة – باب حدثنا هنّاد... حديث (2520)، وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث إسرائيل... وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث إسرائيل، ولم يعرف اسم أبي بشر. اهـ. قلت: أبو بشر هذا قال فيه الحافظ في التقريب: مجهول. وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط (3520)، والحاكم (4/104)، قال ابن الجوزي: قال أحمد: ما سمعتُ بأنكر من هذا الحديث. فيض القدير (6/86)، وضعّفه السيوطي، الجامع الصغير (8522).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (2/177)، والحاكم (4/314) وسكت عنه، والبيهقي في شعب الإيمان (4801)، قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد والطبراني وإسنادهما حسن (2/345)، وكذا قال الهيثمي في المجمع (10/295)، والحديث وإن كان في إسناده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف إلا أن رواية عنه هو عبد الله بن وهب وروايته عنه صحيحه كما ذكر الحافظ في التقريب. ورمز له السيوطي بالحسن في صحيح الجامع (912)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (733).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – أيام الجاهلية، حديث (3842).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزكاة – باب قبول الصدقة من الكسب الطيب... حديث (1015).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب البيوع – باب من لم يبال من حيث كسب المال، حديث (2059).
[7] ذكر هذه الزيادة المنذري في الترغيب ()2/347) وسكت عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أحلَّ لنا الطيبات، وحرَّم علينا الخبائث، وجعلنا على المحجة البيضاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأوفياء، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون، خير سبيل للبعد عن المحرم ترك المشتبه، وسلوك مسالك الورع عند التردد، وفي الحديث: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس)) [1]. رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب، ((فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) جزء من حديث رواه البخاري، ومسلم واللفظ له من حديث النعمان بن بشير [2]. ولقد قال الحسن البصري رحمه الله: مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: تمام التقوى أن يتقي العبد ربه؛ حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً؛ حجاباً بينه وبين الحرام. ولتعلموا رحمكم الله أن المشتبهات يحصل للقلوب عندها القلق والاضطراب الموجب للشك، والورِع هو الوقَّاف عند المشتبهات يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه.
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وأطيبوا مطاعمكم ومشاربكم، واتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، اتقوا ناراً وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
[1] ضعيف، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة... باب ما جاء في صفة أواني الحوض، حديث (2451)، وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب الزهد – باب الورع والتقوى، حديث (4215). وفي إسناده عبد الله يزيد الدمشقي، وهو ضعيف كما في التقريب.
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الإيمان – باب فضل من استبرأ لدينه، حديث (52)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة – باب أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث (1599).
(1/47)
آداب نبوية
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الحميد التركستاني
الطائف
8/4/1419
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث فيه بعض الآداب النبوية. 2- فضيلة حسن الخلق. 3- النهي عن إحدى الصيغ في
السلام. 4- كيفية السلام على أهل المقابر. 5- بعض آداب السلام وأحكامه. 6- الأمر بإنزال
الحوائج بالله دون خلقه. 7- امتثال الصحابي كما سمعه من الهدي. 8- ذم اللعن والسب.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وتأدبوا بآداب الإسلام والتزموا بما أمر لعل الله أن يرحمكم، سوف أتحدث في هذه الخطبة عن جملة آداب وردت في حديث صحيح عن النبي حيث روى أبو داود في سننه والترمذي في جامعه بسند صحيح أن أبا جري جابر بن سليم، قال: رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه، لا يقول إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله ، قلت :عليك السلام يا رسول الله، مرتين، قال: ((لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك، قال: قلت :أنت رسول الله ؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فضلّت راحلتك فدعوته ردها عليك، قال: قلت: اعهد إلي، قال: لا تسبّن أحدا قال: فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة، قال: ولا تحقرن شيئا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيّره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه)).
إن هذا الحديث العظيم يشتمل على عدة آداب وكريم أخلاق وجميل شمائل يستحب لكل مسلم صادق أن يلتزم بها ويتخلق بأحسنها لأنه ليس شيء أثقل في موازين العبد يوم القيامة من حسن الخلق، وفي الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء)). وقال أيضا: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة القائم الصائم)) رواه أبو داود وهو صحيح.
إذا علم هذا الأصل وهو محاولة تأديب المرء نفسه بالتزام أحسن الأخلاق واجتناب أسافل الأخلاق، نجد في هذا الحديث كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام أدب هذا الرجل من بداية لقيّه عندما سلّم عليه ولم يحسن السلام فدله على الصيغة الأفضل في تحية الإسلام، ولهذا في رواية الترمذي قال له عليه الصلاة والسلام: ((إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)).
وقد يشكل على البعض قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن عليك السلام تحية الميت)) أنه إذا ذهب إلى المقابر لزيارتها فإنه يسلم بقوله: عليك السلام وهذا فهم خاطيء ولكن النبي بين له أن هذه الصيغة تحية الموتى لما كان يفعله العرب فيما جرت به عادتهم في تحية الأموات إذ كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء كقول الشاعر:
عليك سلام الله قيس بن عاصم
ورحمته ما شاء أن يترحّما
وكقول لشمّاخ:
عليك سلام من أديم وباركت
يد الله في ذاك الأديم الممزّق
فالنهي هنا عن مشابهة هؤلاء القوم مع أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام عندما ذهب إلى المقبرة أنه قال: ((السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين)).
ولهذا فالسنة لا تختلف في تحية الأحياء والأموات بدليل هذا الحديث الذي ذكرناه.
قال ابن القيم رحمه الله: (وكان هديه في ابتداء السلام أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وكان يكره أن يقول المبتدئ عليك السلام وبين أنها تحية الموتى وقد أشكل هذا الحديث على طائفة وظنوه معارضا لما ثبت عنه في السلام على الأموات بلفظ السلام عليكم بتقديم السلام فظنوا أن قوله عليك السلام تحية الموتى، إخبار عن المشروع في الإسلام عليهم في زيارتهم وغلطوا في ذلك وإنما عنى بذلك إخبار عن الواقع الذي اعتاده الناس والشعراء من تحيتهم للموتى بهذا اللفظ فكرهه لئلا يشابههم) أ.هـ. ولهذا بوّب الترمذي في جامعه: باب ما جاء في كراهية عليك السلام مبتدئا، والذي يجزيء من السلام: السلام عليكم، والسلام عليك أو سلام عليك فإن أتى المرء بأحد هذه الصيغ حصّل السلام وأجزأه.
والأفضل من هذه الصيغ أن يأتي بضمير الجمع وإن كان المسلّم عليه واحدا، ويقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ويأتي بواو العطف في قوله: وعليكم.
فإن حذف الواو فقال: عليكم السلام أجزأه ذلك وكان جوابا على أصح الأقوال وأقل الجواب أن يقول: وعليك السلام، أو وعليكم السلام فإن قال المسلم عليه وعليكم أو عليكم فقط لم يكن ذلك جوابا أورد للسلام.
والمستحب للمسلم أن يرفع صوته رفعا يسمعه المسلم عليه أو عليهم سماعا محققا وإذا تشكك في أنه لم يسمعهم زاد في رفعه.
ويكره السلام بالإشارة باليد أو الرأس ونحوهما بلا لفظ فإن جمع بين اللفظ والإشارة فلا يكره، وأما حكم السلام فإنه سنة مستحبة ليس بواجب.
وأما رد السلام فإن كان المسلم عليه واحدا وجب عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان رد السلام فرض كفاية عليهم، فإن رد واحد منهم سقط الحرج عن الباقين وإن تركوه كلهم أثموا كلهم، والسنة أن يبدأ الإنسان بالسلام قبل كل شيء لا كما يفعله كثير من الناس اليوم من التلاعن والشتم وقلة الأدب والحياء نتيجة بعدهم عن امتثال شرع الله وتطبيقه في معاملاتهم وعباداتهم في شئون حياتهم والبعض الآخر يبدأ بقوله: صباح الخير أو حياك الله أو هلا هلاَ أو مرحبا أو نهارك سعيد، وغير ذلك من تحية أهل الجاهلية التي أبدلنا الله خيرا منها وهو السلام ومما ينبغي أن يعلم أن الرجل المشهور بفسق وببدعة فهذا لا يسلم عليه من باب التأديب له والزجر عما هو فيه حتى يتأدب، ومن يكون متلبسا بمعصية كمن يكون شاربا للدخان حال المرور به فهذا لا يسلم عليه حتى يقلع عن معصيته.
هذه بعض آداب السلام ذكرتها للفائدة وللتخلق والتأدب بها.
نرجع للحديث: ثم قال هذا الصحابي: أنت رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ( (أنا رسول الله)) أكد له وبين له حتى لا يرتاب ولا يشك بأنه رسول الله حقا وصدقا.
ولأن العرب كانوا يعبدون غير الله أراد أن يوقظ فيه حسن الفطرة وأن يدله على الواحد الأحد فقال له: وكما أني رسول الله فاعلم أن الإله الذي آمرك بعبادته وتوحيده وعدم الإشراك به هو الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك أي دفعه عنك، وإن أصابك عام سنة أي قحط وجدب فدعوته أنبتها لك بإنزال المطر لتصبح الأرض مخضرة وإذا كنت بصحراء فهربت راحلتك وضّلت وابتعدت عنك فدعوته ردّها عليك، كما ذكرنا في خطبة الأسبوع الماضي قصة صلة بين أشيم عندما هربت بغلته بثقلها فدعا الله أن يردها عليه فجاءت حتى وقفت عنده، من الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ إنه الله الواحد الأحد لا شريك له في ملكه ولا شبيه له في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فكيف يليق بمن يعرف ربه بالقدرة التامة والملك الكامل والقوة المطلقة والغنى التام أن يدعو غيره وأن يلجأ لأحد سواه سواء كان من الأنبياء أو الأولياء المزعومين الذين نصبت على أضرحتهم القباب فصار الناس يدعونهم من دون الله في كشف ضر أو جلب نفع فأشركوا بالله وعبدوا معه غيره إذ أن حقيقة العبادة هي الدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام: ((الدعاء هو العبادة)) فنجد كثيرا من الناس اليوم ينزلون حوائجهم بعبد القادر الجيلاني أو الرفاعي أو التيجاني أو البدوي أو السيدة زينب أو الحسين أو غيرهم وهذا شرك أكبر مخرج من الملة لا ينفع صاحبه إن أتى به صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا. وقال أيضا: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.
أيها المسلمون: الجئوا إلى الله في جميع حاجاتكم فإنه قريب مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويكشف السوء.
أيها الإخوة: إن هذا الصحابي آمن مباشرة وعرف توحيد الله في كلمتين كما بينها له النبي عليه الصلاة والسلام لم يحتج إلى فلسفات كلامية ولم يقل: أحتاج إلى أدلة أكثر حتى أقتنع كما يفعل بعض متمسلمي هذا العصر، بل آمن دون تردد إيمان الصادق في مسألته، فبادر في الحال ليعمل، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: اعهد إلي، أي أوصني بما أنتفع به، فقال له: لا تسبن أحدا، قال: فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة. الله أكبر انظروا كيف الامتثال من صحابة رسول الله والتطبيق الفعلي لما أمروا به فلم يشتم هذا الصحابي أي شيء كائنا ما كان من إنسان وحيوان، فعلا إنهم كانوا يريدون الجنة فعملوا لها.
أما اليوم فالكل يتمنى الجنة ولكن دون عمل ولا تطبيق يسمعون الخطب والمواعظ والمحاضرات ولكن لا يتغير من سلوكهم المنحرف شيء، ليس لهم هم سوى اتباع رغباتهم وشهواتهم شهوات البطن والفروج ومشاهدة الأفلام الساقطة والدعايات الماجنة التي تبث عبر قناة البث المباشر وغيرها من وسائل الإعلام، لا يهتمون بدين ولا مروءة، أعدى أعاديهم الشباب الملتزم وأبغض داعيه إليهم هو الذي يطول عليهم بذكر الله فهو يجلس أمام شاشة التلفاز الساعات الطوال دون ملل ويثقل عليه سماع خطبة يوم الجمعة إن زادت على نصف الساعة، لقد قست القلوب، والسبب عدم الصدق مع الله والاستهتار بشعائر الدين ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
أيها الإخوة: لقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام هذا الصحابي عن سب الناس أتدرون لماذا؟ لأن ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) ، كما ورد في الحديث المتفق عليه.
وقال في حديث آخر: ((لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعاناً)) رواه الترمذي وهو صحيح.
وفي رواية أيضا: ((ليس المؤمن بالطعان (أي عيابا للناس) ولا اللعان (أي كثير اللعن) ولا الفاحش (أي فاعل الفحش وقائله بمعنى أنه الذي يشتم الشتم القبيح) ولا البذيء (وهو الذي لا حياء له بذيء اللسان لا يسلم منه أحد من شر لسانه) )).
وبين في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود: ((أن من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)) ، فمن خصال أهل الإيمان الحياء وعدم السباب ومواجهة الإساءة بالإحسان فقد قال : ((الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والجفاء شعبتان من النفاق)).
أيها المسلمون: ابتعدوا عن الشتائم والسباب واللعن واحفظوا ألسنتكم من السوء فمن أكثر من شيء عرف به، فإنه ليس بين الإنسان والشر إلا الخطوة الأولى، والانحدار يسير وهين ولكن الصعود صعب شديد وحسبنا أن نجتهد في إصلاح أنفسنا وعلى الله التوكل وهو الهادي إلى سواء الصراط. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة: إن شرف الأصل، وطيب المنبت، تأبى على المرء إلا التخلق بالمكارم والاتصاف بمعالي الأمور، اقتداء بآبائه الصالحين وتأسيا بأشراف قومه ولو أراد شرا، أو ارتكاب منكر، لأبت عليه أصوله وعاتبه ضميره وقال الناس: ما قالوا لمريم البتول حين اتهموها ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا والذهب لا يكون صفرا ولا نحسا والفضة لا تتحول رصاصا والمعتز بدينه وكريم نسبه لا يفعل إلا ما يشكر عليه شعاره قول الشاعر:
وينشأ ناشيء الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
أما الذي خبث أصله، ونبت جذره في الأوحال والأقذار، فلا يثمر إلا قبحا، ولا ينتج إلا خبثا، يفعل ما يشاء من سفاسف الأمور ومخازيها، وليس له زاجر من دين ولا حياء، يذكر لؤم أبيه وسفاهة أمه، فتهون عليه الرذيلة ولا يترفع عن كل نقيصه، لأنه تعود الذنوب ودرج بين العيوب، وتخلق بكل مكروه، ونشأ منذ فتح عينيه، ومد يده، وحرك رجليه على ما كان أهله وذووه، يعيشون عليه ويعرفون به من خسّة طبع ودناءة نفس والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا والشيء من معدنه لا يستغرب:
تلك العصا من تلكم العصية
لا تلد الحية إلا حويّة
ولذلك نجد أحب الناس للدين وأصدقهم إيمانا في يقين وأثبتهم عقيدة وأحسنهم طريقا إلى الخير هم الذين تربوا على الطاعة من الصغر فرضعوا حب الله ورسوله مع حليب أمهاتهم وتوجيه آبائهم فلم تشق عليه التكاليف ولا أتعبتهم الواجبات ولا المندوبات ولا نفرت طبائعهم، كلا ولا ضاقت صدورهم عما جاء به الإسلام من آداب سامية وأخلاق فاضلة ولا بما نهوا عنه من الملذات، واتباع الشهوات بل كانوا سادة في الخير يتسابقون للظفر برضي الله ولهذا كانوا يمتثلون أوامر الله فيعملون بها ويجتنبون ما نهى الله ورسوله عنه كما في الحديث الذي ذكرناه في خطبتنا هذه وللحديث بقية لأنا لم ننته منه بعد، وقد بقي بعض الآداب لعلنا نكملها في الجمعة الأخرى إن مد الله لنا في العمر ونسّأ لنا في الأجل لعلنا ندرك فيه بعض الأمل ونرغّب الناس في العمل إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
(1/48)
حقوق الطريق وآدابه
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
شمول الإسلام لكافة شؤون الحياة – من مظاهر شمول الدين ما اشتمل عليه من آداب الطريق
وحقوقه – فضل إماطة الأذى عن الطريق , وإثم من يتعمد إيذاء الناس , وجملة من حقوق
الطريق وآدابه – من مظاهر أذية الناس في طريقهم – الاشتغال بذكر الله – آداب خروج المرأة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ وعظموا أمره، واشكروا نعمه. وأعظم هذه النعم وأجلها.. الهداية لهذا الدين بَلِ ?للَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَـ?نِ [الحجرات:17].
أيها الإخوة في الله: إن شرائع الإسلام استوعبت شتى جوانب الحياة وشؤونها. وانتظمت كل ما يعرض للمرء من مهده إلى لحده.
إن الدين الذي يبني أمة ذات رسالة لتبقى قائدة رائدة.. صالحة لكل زمان ومكان – إن ديناً هذا شأنه لا يدع مجالاً في السلوك العام، أو السلوك الخاص، إلا وجاء فيه بأمر السداد.
ومن هنا فلا غرو أن تدخل توجيهات الإسلام وأحكام الشريعة في تنظيم المجتمع، في دقيقه وجليله، في أفراده وجموعه، وفي شأنه كله. ولا تزال مدونات أهل الإسلام في الفقه والأخلاق مشحونة بالحكم والأحكام في فكر أصيل، ونظرٍ عميق، واستبحار في فهم الحياة، وشؤون الإنسان، وسياسة المجتمع، مع نماذج حية وسير فذة، وتطبيقات جليلة طوال تاريخ الأمة المجيد.
وإن مما يظهر فيه شمول هذا الدين، وجلاء حكمه وأحكامه، ما أوضحه الكتاب والسنة وآثار الأئمة.. من آداب الطريق، ومجالس الأسواق، وحقوق المارة، وأدب الجماعة. جاء في محكم التنزيل: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً [الفرقان:63]. وَإِذَا سَمِعُواْ ?للَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَـ?لُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـ?لُكُمْ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى ?لْجَـ?هِلِينَ [القصص:55]. وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ?لأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ?لْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذ?لِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:36-38].
وفي السنة المطهرة من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النبي قال: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، قال رسول الله : ((فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)) قالوا: وما حقه؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)) [1]. متفق عليه واللفظ لمسلم.
وفي حديث أخرجه الترمذي والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان عدَّ النبي من أبواب الخير: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)) [2].
إن مصادر الشريعة الموثوقة قد طفحت بأمثال هذه النصوص مؤكدة هذه الحقوق، ومرشدة إلى هذه الآداب.
فعباد الرحمن: هم خلاصة البشر يمشون في الطريق هوناً، لا تصنُّع ولا تكلف، ولا كبر ولا خيلاء، مشية تعبر عن شخصية متزنة، ونفس سوية مطمئنة تظهر صفاتها في مشية صاحبها. وقارٌ وسكينةٌ، وجدٌّ وقوةٌ من غير تماوتٍ أو مذلة، تأسياً بالقدوة الأولى محمد فهو غير صخَّابٍ في الأسواق حين يمشي يتكفَّأ تكفؤاً، أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها، هكذا وصفه الواصفون، تلك هي مشيةُ أولي العزم والهمة والشجاعة، يمضي إلى قصده في انطلاقٍ واستقامةٍ لا يُصعر خده استكباراً، ولا يمشي في الأرض مرحاً. لا خفق بالنعال، ولا ضرب بالأقدام، لا يقصد إلى مزاحمة، ولا سوء أدب في الممازحة، يحترم نفسه في أدب جمٍّ، وخلقٍ عالٍ لا يسير سير الجبارين، ولا يضطرب في خفة الجاهلين. إنه المشي الهون المناسب للرحمة في عباد الرحمن، وحين يكون السير مع الرفاق فلا يتقدم من أجل أن يسير الناس خلفه، ولا يركب ليمشي غيره راجلاً.
أما غض الصوت وخفضه فهو من سيما أصحاب الخلق الرفيع، وذلك في الطريق، وأدب الحديث أولى وأحرى. إنه عنوان الثقة بالنفس، وصدق الحديث، وقوة الحجة يصاحب ذلك حلم وصفح، وإعراض عن البذاء من القول، والفحش من الحديث تجنباً لحماقة الحمقى، وسفاهة السفهاء.
ولا يرفع صوته من غير حاجة إلا سيء الأدب ضعيف الحجة، يريد إخفاء رعونته بالحدة من الصوت، والغليظ من القول.
يُضمُّ إلى ذلك أيها الإخوة، غض البصر، فذلك حق لأهل الطريق من المارة والجالسين.. تحفظ حرماتهم وعوراتهم، فالنظر بريد الخطايا، وإنك لترى في الطرقات والأسواق من يُرسل بصره محمَّلاً ببواعث الفتنة، ودواعي الشهوة، وقد يُتبع ذلك بكلمات وإشارات قاتلة للدين والحياء مسقطة للمروءة والعفاف.
وكف الأذى عن الطريق من أبرز الحقوق. والأذى كلمة جامعة لكل ما يؤذي المسلمين من قول وعمل، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)) [3].
وحينما طلب أبو برزة – رضي الله عنه – من رسول الله أن يعلمه شيئاً ينتفع به قال: ((اعزل الأذى عن طريق المسلمين)) [4].
وفي خبر آخر: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخَّره، فشكر الله له؛ فغفر له)) [5].
أخرج ذلك كله مسلم في صحيحه رحمه الله.
وإذا كان هذا الثواب العظيم لمن يكف الأذى، فكيف تكون العقوبة لمن يتعمد إيذاء الناس في طرقاتهم ومجالسهم، ويجلب المستقذرات، وينشر المخلفات في متنزهاتهم، وأماكن استظلالهم.
أخرج الطبراني من حديث حذيفة بن أسيد – رضي الله عنه – أن النبي قال: ((من آذى المسلمين في طرقهم؛ وجبت عليه لعنتهم)) [6] وقال: حديث حسن صحيح.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: ((اتقوا اللعَّانين)) قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: ((الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلِّهم)) [7].
أما إفشاء السلام – أيها الإخوة – ابتداءً ورداً؛ فأدب كريم يتخلق به أبناء الإسلام، وحقٌ يحفظونه لإخوانهم، يغرس المحبة، ويزرع الألفة، ويغسل الأحقاد، ويزيل الإحن، ويستجلب به رضا الله وغفرانه، وفي الحديث: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة [8].
والجامع لهذه الآداب والحقوق – أيها المسلمون – هي تلك الكلمة الجامعة المانعة: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يدخل في ذلك ما شئت من مكارم الأخلاق والآداب والمروءات.
فالحمل الثقيل ينوء به صاحبه فتعينه عليه.
تهدي ابن السبيل الضال بعبارة ملؤها الأدب، وإشارة كلها لطف ورقة من غير فظاظة ولا ملال، لا تقول هجراً ولا تنطق فحشاً، والبشاشة والتبسم في وجه أخيك من الصدقات.
تعين صاحب المتاع في حمل متاعه ورفعه ووضعه، وإن كنت تحمل شيئاً فاحترس أن تصيب أحداً بأذى. تفضُّ النزاع بين المتخاصمين، وتُصلح ذات البين، وتحفظ اللقطة، وتدلُّ على الضالة تعين على رد الحقوق لأصحابها، والذبِّ عن أعراض المسلمين، والأخذ على أيدي الظالمين، ونصرة المظلومين.
لا تعرض لأحدٍ بمكروه، ولا تذكر أحداً بسوء، لا تهزأ بالمارة، ولا تسخر من العابرين.. لا تشر ببنان، لا تستطل بلسان، ولا تحتقر صغيراً، ولا تهزأ من ذي عاهة. وإياك والجلوس في مضايق الطريق وملتقى الأبواب ومواطن الزحام، ويتأكد ذلك أثناء قيادة المركبات بأنواعها مع حفظٍ تامٍ لحقوق المشاة والراكبين والقاعدين، وإهمال ذلك يصيب المسلمين بفساد عريض.
أمة الأدب والخلق: إن من الناس من يتخذون من الطرق وأماكن البيع.. مقاعد وأندية ينشرون الأرائك والفرش ليتتبعوا العورات، ويمزقوا الأعراض، ويُحرجوا أهل الأدب والمروءة، فضوليون يدسُّون أنوفهم فيما لا يعنيهم.
يتناولون السابلة غمزاً بالأبصار، وطعناً باللسان: هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ [القلم:11-14].
إنه لا يحل لهؤلاء أن يجعلوا أماكنهم أوكاراً تمتد منها النظرات المحرمة، وطريقاً إلى الرذيلة والمقابلات المريبة. وقد ورد في الخبر أن النبي سئل عن قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ?لْمُنْكَرَ [العنكبوت:29]. فقال: ((كانوا يحذفون أهل الطريق ـ أي: يرمونهم بالحجارة ـ ويسخرون منهم، فذاك المنكر الذي كانوا يأتون)) [9] ، ذكره أحمد من حديث أم هانئ.
وإن أمثال هذه المجالس يترفع الفضلاء وذوو المروءات عن المرور بها، فضلاً عن الجلوس فيها، تلك أسواق لا يرتادها إلا الأراذل من الناس، الذين لا يتحرجون من البذاء ولا يعرفون الاحتشام.
أيها المسلمون: إن من لم يعط الطريق حقه يُتبع نفسه هواها، ويريد أن يملأ عينه بمناها، فيَذلُّ بعد عز، ويفسق بعد عفة، وينحدر بعد الكمال. إن هذه المواطن إن لم تُرْعَ فيها آداب الإسلام؛ فهي مرتع خصيب للغِيبة والنميمة والسخرية والكذب والإفك المبين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَ?قْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ?لاْصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ [لقمان:17-19].
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المظالم والغصب – باب أفنية الدور والجلوس فيها... حديث (2465). صحيح مسلم: كتاب اللباس والزينة – باب النهي عن الجلوس في الطرقات... حديث (2121).
[2] حسن، ((الأدب المفرد)) رقم (891)، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في صنائع المعروف، حديث (1956) وقال: حسن غريب، صحيح ابن حبان: كتاب البر والإحسان – باب فصل من البر والإحسان – ذكر بيان الصدقة للمرء... حديث (529) وأخرجه أحمد (5/168) بنحوه، وحسنه الألباني، السلسلة الصحيحة (572).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل إزالة الأذى عن الطريق، حديث (1914).
[4] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل إزالة الأذى عن الطريق، حديث (2618).
[5] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الإمارة – باب بيان الشهداء (1914)، وأخرجه أيضاً البخاري: كتاب الأذان – باب فضل التهجير إلى الظهر، حديث (654).
[6] إسناده حسن، أخرجه الطبراني في الكبير (3050)، وحسّن إسناده المنذري في الترغيب (1/81)، والهيثمي في المجمع (1/204)، والألباني في صحيح الترغيب(148).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الطهارة – باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال، حديث (269).
[8] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، حديث (54).
[9] ضعيف الإسناد، مسند أحمد (6/341)، وأخرجه أيضاً الترمذي: كتاب التفسير – سورة العنكبوت، حديث (3190) وعنده ((أهل الأرض)). وفي إسناده أبو صالح باذام – ويقال باذان – مولى أم هانئ رضي الله عنها، ضعيف مدلس. كما في التقريب (639)، وانظر ضعيف الترمذي (623).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على ما مََنَحَ من الإنعام وأسدى. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره من خطايا وذنوب لا تحصى عداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أعظم به رسولاً وأكرم به عبداً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه كانوا أمثل طريقة وأقوم وأهدى، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا أن من أولى الآداب وأكرم الأعمال الاشتغال بذكر الله كثيراً. ففيه الانبعاث على الخيرات، والعون على الطاعات، والقيام بالحقوق، وحفظ النفس من الشيطان.
جاء في حديث عند الترمذي وصححه واللفظ له، وأبي داود وغيره عن أنس – رضي الله عنه – عن النبي أنه قال: ((من قال ـ يعني: إذا خرج من بيته ـ بسم الله، توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كُفيتَ ووقيتَ، وتنحى عنه الشيطان)) [1]. ولا ينبغي أن يغفل المسلم عن الدعاء المأثور عند خروجه من منزله: ((اللهم إني أعوذ بك أن أَضِل أو أُضَل، أو أَزِل أو أُزَل، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أجهل أو يجهل علي)) [2] رواه الأربعة، واللفظ لأبي داود.
والمرأة إن احتاجت إلى الخروج، فتخرجُ محتشمةً في لباسها، حييةً في مشيتها، بعيدةً عن حركات الريبة، ومواضع التهم، غير متعطرة ولا متلفتة، سريعة العودة إلى منزلها، بعد انقضاء حاجتها وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ [النور:31].
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ والتزموا بآداب دينكم، واحفظوا حقوق إخوانكم.
[1] صحيح، سنن الترمذي: كتاب الدعوات تابع لباب ما جاء ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (3426) وقال: حسن صحيح غريب. سنن أبي داود: كتاب الأدب – باب ما يقول إذا خرج من بيته (5095)، وصححه ابن حبان (822)، والضياء في الأحاديث المختارة (4/373) والألباني، صحيح سنن الترمذي (2724).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (6/306)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (5094)، والترمذي: كتاب الدعوات – تابع لباب ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (3427)، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (822) والضياء في المختارة (4/373)، والسيوطي، الجامع الصغير (6655)، والألباني، صحيح الترمذي (2725).
(1/49)
خطبة عيد الأضحى (وقفات مع خطبة الوداع)
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
مشهد الحجيج ودلالته على انتماء أفراد الأمة إلى هدف واحد – حاجة الأمة في أيام محنتها
إلى دروس من تاريخها , ومن ذلك حجة الوداع , وما فيها من خطب جامعة -
في حجة الوداع تثبيت لأصول الديانة وقواعد الشريعة ومنها : 1- تأكيد النهي عن الشرك
والتأكيد على التوحيد 2- تأكيد ميزان تفاضل الناس , وأنهم متساوون في التكاليف 3- التأكيد
على حفظ النفوس والدماء 4- التأكيد على الوصية بالنساء 5- النهي عن الخلاف المذموم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، هاهم حجاج بيت الله يخطون خطواتهم على هذه الأرض الطيبة الآمنة بأمان الله، ثم بيقظة مسؤوليها، هذه الأرض التي تحكي تاريخ الإسلام المجيد، تاريخ نشأة هذا الدين في هذه البطاح. قصة الانتصار والكفاح، سيرة النماذج المثالية العالية، ومصارع الشهداء في سبيل الحق، بلدٌ وتاريخٌ، قفزت فيه البشرية إلى أبعد الآفاق، ديناً ودنيا، علماً وعملاً فقهاً وخلقاً.
أرضٌ طيبةٌ، وجوٌ عابقٌ، تزدحم فيه هذه المناظر والمشاهد، حيةٌ نابضةٌ، تختلط فيه مشاعر العبودية، وأصوات التلبية، والإقبال على الربِّ الرحيم.
في هذه الأجواء يغمر قلب المتأمل، شعورٌ كريمٌ فياضٌ، بانتماء أفراد هذه الأمة إلى هدفٍ واحدٍ وغايةٍ واحدةٍ، إنها أمة محمد ، دينها دين الإسلام دين الله رب العالمين.
ما أحوج الأمة في أيام محنتها وشدائدها، وأيام ضعفها وتيهها، إلى دروسٍ من تاريخها تتأملها، وإلى وقفاتٍ عند مناسباتها، تستلهم منها العبر، ويتجدد فيها العزم على الجهاد الحق، ويصح فيها التوجه على محاربة كل بغي وفساد.
ما أحوجها إلى دروس تستعيد فيها كرامتها، وتردُّ على من يريد القضاء على كيانها.
وإن في حجة نبيكم محمد الوداعية التوديعية لعبراً ومواعظ، وإن في خطبها لدروساً جوامع.
فلقد خطب عليه الصلاة والسلام خطباً في موقف عرفة، ويوم الحج الأكبر وأيام التشريق – أرسى فيها قواعد الإسلام، وهدم مبادئ الجاهلية، وعظَّم حرمات المسلمين. خطب الناس وودعهم، بعد أن استقرَّ التشريع، وكمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله هذا الإسلام ديناً للإنسانية كلها، لا يقبل من أحدٍ ديناً سواه: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].
ألقى نبيكم محمد في هذا المقام العظيم كلماتٍ جامعةً موجزةً، تحكي المبادئ الكبرى لهذا الدين.
وأنبياء الله حين يبلغون رسالات الله ليسوا تجار كلام، ولا عارضي أساليب، فكلماتهم حق وأوعية معانٍ، وشفاءٌ لما في الصدور، ودواءٌ لما في القلوب.
في حجة الوداع ثبَّت النبي في نفوس المسلمين أصول الديانة، وقواعد الشريعة، ونبَّه بالقضايا الكبرى على الجزئيات الصغرى.
ولقد كانت عباراتٍ توديعيةً بألفاظها ومعانيها وشمولها وإيجازها، استشهدَ الناسَ فيها على البلاغ.
كان من خلال تبليغه كلمات ربه يمتلئ حباً ونصحاً وإخلاصاً ورأفةً: لَعَلَّكَ بَـ?خِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3].
لقد عانى وكابد من أجل إخراجهم من الظلمات إلى النور، حتى صنع منهم – بإذن ربِّه – أمةً جديدةً، ذات أهدافٍ واضحةٍ، ومبادئ سامية، هداهم من ضلال، وجمعهم بعد فرقةٍ، وعلَّمهم بعد جهل.
أيها الإخوة في الله، إخواني حجاج بيت الله:
وهذه وقفات مع بعض هذه الأسس النبوية، والقواعد المصطفوية، والأصول المحمدية.
إن أول شيء أكد عليه في النهي من أمر الجاهلية الشرك بالله، فلقد جاء بكلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) شعار الإسلام وعلّم الملة، كلمة تنخلع بها جميع الآلهة الباطلة، ويثبت بها استحقاق الله وحده للعبادة.
فالله هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق وما سواه مرزوق، وهو القاهر وما سواه مقهور. هذا هو دليل التوحيد وطريقه: ?للَّهُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَـ?لَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40].
والأموات قد أفضوا إلى ما قدموا، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً: إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
ومن القضايا المثارة في الخطاب النبوي التقرير بأن الناس متساوون في التكاليف حقوقاً وواجباتٍ، لا فرق بين عربيٍ ولا عجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسب، ولا تمايز في لون، فالنزاعات العنصرية والنعرات الوطنية ضربٌ من الإفك والدجل.
ومن الواقع الرديء في عصرنا أن توصف حضارة اليوم بحضارة العنصريات والقوميات. والشعوب الموصوفة بالتقدم تضمر في نفسها احتقاراً لأبناء القارات الأخرى، ولم تفلح المواثيق النظرية، ولا التصريحات اللفظية، فإنك ترى هذا التمييز يتنفس بقوةٍ من خلال المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويأتي نبينا محمد لينبه منذ مئات السنين على ضلال هذا المسلك، ويعلن في ذلك المشهد العظيم: ((أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى)). وفي رواية عند الطبراني عن العدَّاء بن خالد قال: قعدت تحت منبره يوم حجة الوداع، فصعد المنبر فحمد الله، وأثنى عليه وقال: ((إن الله يقول: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13] ، فليس لعربي على عجمي فضل، ولا لعجمي على عربي فضل، ولا لأسود على أحمر فضل، ولا لأحمر على أسود فضل إلا بالتقوى. يا معشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم، وتجيء الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً. أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية [1] الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان: رجل تقي كريم على الله، وفاجرٌ شقي هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب)) [2] رواه الترمذي واللفظ له، وأبو داود وغيرهما. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
معاشر الحجاج، أيها الأحبة، حفظ النفوس وصيانة الدماء قضية خطيرة يثيرها خطاب الرسول عليه السلام إلى الأمة في كلماته التوديعية التأصيلية: ذلكم أن حكم القصاص في النفس والجراحات، كان من حكمه التشريعية: زجر المجرمين عن العدوان.
وقد عجزت الأمم المعاصرة بتقدمها وتقنية وسائلها أن توقف سيل الجرائم، وإزهاق النفوس، وزاد سوؤها وانكشفت سوأتها، حين ألغت عقوبة الاقتصاص من المجرمين، واكتفت بعقوبات هزيلة بزعم استصلاح المجرمين، وما زاد المجرمين ذلك إلا عتواً واستكباراً في الأرض ومكر السيئ. ولكنه في شرع محمد محسوم بالقصاص العادل: وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ [البقرة:179]. إن في القصاص حياة حين يكفُّ من يَهمُّ بالجريمة عن الإجرام، وفي القصاص حياةٌ حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لم يكن يقف عند حدٍّ لا في القديم ولا في الحديث. ثأرٌ مثيرٌ للأحقاد العائلية، والعصبيات القبلية، يتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيلٍ، لا تكفُّ معه الدماء عن المسيل.
ويأتي حسمٌ عمليٌّ ومباشرة تطبيقية من محمد في هذا الموقف العظيم، وفي إلغاء حكم جاهلي في مسألة الثأر، فاستمع إليه وهو يقول: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث. كان مُسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل)) [3].
أيها الإخوة، إن في القصاص والحدود وأحكام الجنايات في الشريعة، حياةً ورحمةً، حياةً أعم وأشمل، حياة تشمل المجتمع كله، رحمة واسعة غير مقصورة على شفقة ورِقَّة تنبت في النفس نحو مستضعفٍ أو أرملةٍ أو طفلٍ، ولكنها رحمةٌ عامةٌ للقوي والضعيف والقريب والبعيد، والأمن المبسوط في بلاد الحرمين خير شاهد صدقٍ لقوم يتفكرون، الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
معاشر الإخوة، أما قضية المرأة، وما أدراك ما قضية المرأة، وكأنها قضية كل عصر وكل جيل وكل أمة، يأتي الخطاب النبوي في هذا الحشد الهائل ممن عاصر الجاهلية، ليضع الناس على الحق، والطريق المستقيم.
إن مواريث العرب والجاهلية قبل الإسلام احتقرت المرأة وازدرتها، بل لعلها رأت أنها شرٌ لابد منه، وفي أمم التقدم المعاصر أسلفَّت بها في شهواتها إلى مدىً منحطٍ. وإذا كانت مواريث الجاهلية قد جعلت المرأة في قفص الاتهام ومظاهر الاستصغار، فإن مسلك التقدم المعاصر قد جعلها مصيدةً لكل الآثام، ولكنَّ هدي محمد أعطى كل ذي حق حقه، وحفظ لكلٍّ نصيبه: لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبْنَ [النساء:32]. في مسلك وسط، ومنهجٍ عدلٍ، فالنساء شقائق الرجال: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فَ?سْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195]، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]. وفي التوجيه النبوي: ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح، ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) [4]. إن إصلاح عوج المرأة راجع إلى زوجها؛ ليمنع العوج والنشوز، وليعيد الاستقرار إلى جوانب البيت في معالجة داخلية.
الله أكبر لا إله إلا الله، والله اكبر الله أكبر ولله الحمد.
وثمة وقفةٌ نبويةٌ – أيها الإخوة – في هذا المشهد التوديعي العظيم. إنها قضية وحدة الأمة، وقضية الخلاف المذموم. يوقف فيها الرسول أمته على أمر حاسم، وموقف جازم: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده- إن اعتصمتم به- كتاب الله)) [5].
((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) [6] متفق عليه من حديث جرير. ((ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم)) [7] رواه مسلم والترمذي واللفظ له.
إنه تحذير مبكر من الرؤوفٍ الرحيم بالمؤمنين من فناءٍ ذريع، إذا هي استسلمت للخلاف، واسترسلت في الغفلة عن سنن الله، والجهل بما يحيكه الشيطان وإخوان الشيطان من مؤامرات.
إنها وصايا أودعها النبي ضمائر الناس. لا تتضمن قضايا فلسفية ولا نظريات خيالية. مبادئ بسطها النبي الكريم المبلغ البليغ في كلماتٍ سهلة سائغة، وإنها على وجازتها أهدى وأجدى من مواثيق عالمية طنانةٍ لا واقع لها. ذلك أن قائلها وواضعها محمداً كان عامر الفؤاد بحب الناس، والحرص عليهم والرأفة بهم. شديد التأكيد على ربطهم بالله وسننه وإعدادهم للقائه.
وإذا كان الإسلام في العهد النبوي قد دفن النعرات الجاهلية، والعصبيات الدموية، والشيطان قد يئس أن يُعبد في ذلك العهد، لكننا نخشى تجدد آماله في هذه العصور المتأخرة. تتجدد آماله في الفرقة والتمزيق. فالعالم الإسلامي اليوم تتوزعه عشراتُ القوميات، وتمشي جماهيره تحت عشرات الرايات، وهي قوميات ذات توجهات مقيتة. ما جلبت لأهلها إلا الذل والصغار، والفرقة والتمزق.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، حجاج بيت الله، أمة الإسلام: ما أحوج الأمة اليوم إلى مثل هذه الدروس النبوية، أما تتكرر الروح التي سادت حجة الوداع، لكي تتشبع هذه الكثرة العددية للمسلمين اليوم بكثافةٍ نوعيةٍ، وطاقات روحيةٍ؟ أما يحج المسلمون ليشهدوا منافع لهم تمحو فرقتهم، وتسوي صفوفهم، وترد مهابتهم؟!
إن الحج العظيم في معناه الكبير يكون فيه الشيطان وأعوانه أصغر وأحقر. فيغيظ أعداء الله ويرجعون خاسئين، ناكصين على أعقابهم مذمومين مدحورين، يغيظ الكفار حين يرون جموع هذه الأمة، وقد استسلمت لربها، وأطاعت نبيها، واجتمعت كلمتها.
فياأيها الناس: ((اعبدوا ربكم ـ كما أوصى نبيكم ـ وأقيموا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) [8].
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
[1] عُبِّيَّة الجاهلية: الكبر والفخر والنخوة.
[2] صحيح، سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن – باب سورة الحجرات، حديث (3270)، سنن أبي داود: كتاب الأدب – باب في التفاخر بالأحساب، حديث (5116)، وأخرجه أيضاً أحمد (5/411)، والطبراني في الكبير (16)، وصححه ابن حبان (3828)، وحسّن أحد أسانيده المنذري في الترغيب (3/376)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (2700).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الحج – باب حجة النبي ، حديث (1218).
[4] صحيح، أخرجه مسلم في الموضع السابق.
[5] صحيح، أخرجه مسلم في الموضع السابق.
[6] صحيح، صحيح البخاري: كتاب العلم – باب الإنصات للعلماء، حديث (121) صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب بيان معنى قول النبي : ((لا ترجعوا بعدي كفاراً...))، حديث (65).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة... باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه... حديث (2812)، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في التباغض، حديث (1937)، وقال: حديث حسن.
[8] صحيح، أخرجه أحمد (5/251)، والترمذي ح (616) وقال: حسن صحيح، والحاكم (1/9) وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر (سبعاً)، الله أكبرُ أوجدَ الكائنات بقدرته فأتقن ما صنع، الله أكبر شرع الشرائع فأحكم ما شرع، الله أكبر لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
الحمد لله أهلِ الحمد ومستحقِّه، والصلاة والسلام على نبينا محمد مصطفاه من رسله، ومجتباه من خلقه، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ضعف حال المسلمين، واضطراب أمورهم، لم يكن إلا من عند أنفسهم، تسلط الأعداء لا يكون إلا بسبب الأعمال والإهمال، فيا حكام الإسلام ويا ولاة أمور المسلمين، اتقوا الله فيما وُلِّيتم، وأقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه، ارفعوا راية الكتاب والسنة، اتقوا الله في توجيه الرعية، وجِّهوهم إلى ما فيه ترسيخ الإيمان وحب الإسلام.
(1/50)
تتمة آداب نبوية
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الحميد التركستاني
الطائف
11/7/1414
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أخلاق المسلم بسطة الوجه. 2- الصدقة بالكلمة الطيبة. 3- النهي عن الإسبال والكبر.
4- ازرة المسلم كما جاء في السنة. 5- الأمر ستر العورات. 6- دفع إساءة الناس بالإحسان
والصفح. 7- سباب المسلم ولعنه. 8- النهي عن لعن المخلوقات والأموات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وتأدبوا بآداب دينكم وتمسكوا بسنة نبيكم، واعلموا أنا لا نزال بصدد شرح حديث جابر بن سليم وقد وصلنا إلى وقوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا تحقرن من المعروف شيئا وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف)) ، فالمعروف أبوابه كثيرة من مساعدة الضعفاء والمساكين والإحسان إليهم، والسعي في مصالحهم وكف الأذى عنهم وإدخال السرور عليهم وكشف كرباتهم وستر عوراتهم وغير ذلك مما هو مبين ومبسوط في موضعه وأقل شيء من المعروف هو طلاقة الوجه وهو أقل القليل الذي يستطيع الإنسان عمله بغير جهد منه ولا بذل طاعة، وهو أفضل شيء لكسب قلوب الآخرين، أن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك دون أن تكون عبوسا قمطريرا، مكفهر الوجه، قاطب الجبين فإن ذلك ليس من أخلاق المؤمنين، قال لقمان لابنه: يا بني لتكن كلمتك طيبة ووجهك منبسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة.
وقد كان لا يواجه أحدا بما يكره في وجهه ولم يكن فاحشا متفحشا بل كان يقابل الكل الصديق والقريب والصاحب والعدو بوجد طليق حتى يظن كل أحد أنه أحب الناس إلى رسول الله.
قال جرير بن عبد الله البجلي: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم وكان ابن عمر ينشد:
بنيّ إن البر شيء هين
وجه طليق وكلام لين
وقال الشافعي رحمه الله:
يغطى بالسماحة كل عيب
وكم عيب يغطيه السخاء
فطلاقة الوجه وتبسم الإنسان في وجه أخيه ولين الكلام دليل على حسن خلق فاعله ودليل على علو درجة إيمانه فأحسن الناس خلقا أكملهم إيمانا. ورؤي بعض السلف في المنام فسئل عن بعض إخوانه فقال: وأين ذلك منا، رفع في الجنة بحسن خلقه، وليست هذه الأخلاق بالأخلاق الرياضية أو الدوبلوماسية كما يزعمون، إنما هي الأخلاق الإسلامية التي تنبع من هذا الدين يغضب لانتهاك حرمات الدين ولا يغضب لنفسه ويفرح لانتصار دين الإسلام ولا يفرح لغير ذلك من الانتصارات التافهة التي لا تقدم الأمة إلى الإمام بل تؤخرها إلى الوراء قرونا وهو يغلظ القول لمن يتجرأ على حدود الله ويلين القول على من وقعت منه هفوة أو هفوات وهو يحب المرء لا يحبه إلا في الله وإن أبغضه لا يبغضه إلا لله وإن أعطى يعطي لله وإن منع يمنع لله وهكذا فهو في جميع أمواله وأخلاقه وتعاملاته مرتبط بدينه لا يرتبط بشيء آخر سواه ولهذا كان كما قالت عائشة عنه: كان خلقه القرآن، ومما ورد في فضل طلاقة الوجه وطيب الكلام، عن أبي ذر قال: قال رسول الله : ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)) رواه مسلم. وفي رواية للترمذي: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة)) ، وعن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) متفق عليه.
فالذي ليس لديه شيء يتصدق به يقدم كلمة طيبة تنفعه في يوم الحشر وتبعده من النار، والكلمة الطيبة تتعدد أنواعها بحسب حال قائلها فمن ذلك ما روى الترمذي أن النبي قال ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوك عن الطريق لك صدقة)). وهكذا فالكلمة بشتى أنواعها إن كانت طيبة من رجل طيب غير مشاكس ولا صاحب مشاكل يحب الخير للناس هذه الكلمة تكون صدقة يؤجر عليها، ولهذا كانت الكلمة الطيبة مع طلاقة الوجه سبب لدخول الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن في الجنة غرفا يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها)) ، فقال أبو مالك الأشعري لمن هي يا رسول الله، قال: ((لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام، وبات قائما والناس نيام)) هذا فضل الكلمة الطيبة فيا أيها المؤمن: قل خير فتغنم أو اسكت فتسلم.
ونرجع للحديث، ثم قال له عليه الصلاة والسلام: ((وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة)) ، وهذا توجيه نبوي كريم لكل من يسبل إزاره إلى تحت الكعبين لأن البعض إذا قيل له: إن ذلك لا يجوز، قال: أنا لا أفعل ذلك تكبرا، سبحان الله ففي هذا الحديث يبين عليه الصلاة والسلام أن ذلك هو من الكبر حيث قال: فإن إسبال الإزار من المخيلة أي من الخيلاء والتكبر والدلالة على أن ذلك من الكبر أن ذلك المسبل لا يستطيع تقصير ثوبه إلى ما دون الكعبين ويشعر أن ذلك لا يليق به أو إلى غير ذلك من الأعذار الواهية والكبر كما بينه عليه الصلاة والسلام هو ((بطر الحق وغمط الناس)) ، بطر الحق أي عدم قبوله والالتزام به فمن علم أن الإسبال لا يجوز ثم يصر بعد ذلك فهذا فيه من خصال المتكبرين وإن لم يقصد ذلك فإن قصد فالجرم أعظم، إذاً فإن كل إسبال من المخيلة كما بين ذلك الحديث.
قال : ((بينما رجل يجر إزاره إذ خسف به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة)) رواه البخاري، وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: ((من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المخيلة، فإن الله عز وجل لا ينظر إليه يوم القيامة)) ، وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة أن النبي قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم - قالها ثلاث مرات- قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) وفي رواية: ((المسبل إزاره)).
أيها المسلمون: ومع هذا الوعيد الشديد العظيم الوارد في المسبل إزاره نرى بعض المسلمين لا يهتم بهذا الأمر فيترك ثوبه أو بشته أو سراويله تنزل عن الكعبين وربما تلامس الأرض وهذا منكر عظيم وظاهر وأمر شنيع وكبيرة من كبائر الذنوب فيجب على من فعل ذلك أن يتوب إلى الله ويرفع إزاره وثيابه على الصفة المشروعة، واعملوا أن الله لا يحب من كان مطيلا لثيابه وسراويله تحت الكعبين كما في الحديث عن المغيرة بن شعبة قال: رأيت رسول الله آ خذ بحجزة سفيان بن أبي سهل: فقال: ((يا سفيان لا تسبل إزارك، فإن الله لا يحب المسبلين)) رواه ابن ماجه وابن حبان وهو حديث حسن.
وأما مقدار حد الإزار والمشروع إلى نصف الساق وهكذا كانت ثيابه عليه الصلاة والسلام إلى أنصاف ساقيه كما ثبت ذلك في صفة لباسه وكما ثبت في أمره بذلك فإن أحب المرء أن يطيل فإلى الكعبين ولا يجوز له أن يطيل أكثر من ذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((أزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك فهو في النار)) رواه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان وهو حديث صحيح.
وروى البخاري والنسائي عن أبي هريرة عن النبي قال: ((ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار)).
فاتقوا الله أيها المسلمون: ولا تستهتروا بقضية اللباس وارفعوا ثيابكم فوق الكعبين حتى تبتعدوا عن غضب ربكم وتنالوا رضاه وتجتنبوا سخطه.
وهناك فريق آخر غير المسبلين فريق من المستهترين وممن ضعف وقار الله في قلوبهم فهؤلاء يرفعون لباسهم فوق الركبتين فتبدوا أفخاذهم أو بعضها كما يفعله بعض من يلعبون الكرة وبعض العمال أيضا وهذا أيضا لا يجوز لأن الفخذين عورة يجب تغطيتها وسترها ويحرم مع ذلك كشفها، وقدر ورد عن النبي أنه قال: ((غط فخذك فإنها من العورة)) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث حسن.
وروى الترمذي بسند حسن أن النبي قال لعلي: ((يا علي لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت)) وفي رواية: ((نهاني رسول الله عن كشف الفخذ وقال: لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت)) حسن.
أيها المسلمون: يقول الله تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ، فالله سبحانه يمتن على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش والمراد به ستر العورات وهي السوءات والريش ما يتجمل به ظاهرا، فاللباس من الضروريات والريش من الكماليات ولما امتن سبحانه باللباس الحسي الذي يتخذ لستر العورة وتدفئة الجسم وتجميل الهيئة فيه نبه على لباس أحسن منه وأكثر فائدة وهو لباس التقوى الذي هو التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، ولباس التقوى هو الغاية وهو المقصود، ولباس الثياب معونة عليه ومن فقد لباس التقوى لم ينفعه لباس الثياب:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى
تقلّب عريانا وإن كان كاسيا
ولباس التقوى يستر العبد فلا يبلى ولا يبيد، وهو جمال الروح والقلب وخشية الله في السر والعلن، ولباس الثياب إنما يستر العورة الظاهرة في وقت من الأوقات ثم يبلى ويبيد.
ولهذا كان لزاما على من لبس الثياب أو البنطلونات أن تكون ثيابه وفق السنة ووفق ما أمر به رسول الله ليس فيها إطالة تحت الكعبين وليس فيها تشبه بالكفار والمنافقين أعداء الدين.
أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون: ونختم وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام لجابر بن سليم في آخر الحديث حيث قال له: ((وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه)) ، وهذا من باب مقابلة الإساءة بالإحسان ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.
ولأن الشتم والسباب ليس من خصال أهل العلم والإيمان حذّر النبي عليه الصلاة والسلام هذا الصحابي وأدبه ودله على الفعل اللائق به، إن شتمك أي إنسان وإن كان ما يقوله الشاتم حقا وما ذاك إلا لأن هناك ملكا ينافح عن المشتوم ويدافع عنه كما في قصة أبي بكر عندما شتمه رجل عند رسول الله فلما أكثر عليه رد عليه أبو بكر ، فقام عليه الصلاة والسلام وذهب فلحقه أبو بكر وقال: يا رسول الله ألم تسمع ما يقول؟ فقال : ((لقد كان ملك ينافح عنك فلما رددت عليه دخل الشيطان فما أحببت أن أجلس)) بل قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا)) ، أي لا ينبغي لمن صدق في عبادته بقوله وعمله أن يكون كثير السب والغضب حتى لا تزلّ قدمه ويرديه لسانه. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) متفق عليه، والسباب: مصدر سب وهو من أبلغ السب وهو أن يقول فيمن يسبه بما فيه وما ليس فيه فبين عليه الصلاة والسلام أن ذلك فسوق أي خروج عن طاعة الله ورسوله. واللعن من أعظم الشتم فمن لعن أخاه فقد ارتكب أمرا عظيما حيث ذكر عليه الصلاة والسلام: ((أن لعن المؤمن كقتله)) متفق عليه، وعن سلمة بن الأكوع قال: كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه رأينا أنه قد أتى بابا من الكبائر. وقد روى أبو داود أن رسول الله قال: ((إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها)).
بل نهى عن سب كل شيء فقد نهى مثلا عن شتم الحيوانات فمن ذلك الديك فقد روى ابن حبان بسند صحيح قال رسول الله : ((لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة)) ونهى عن سب المحدودين فعن أبي هريرة قال: أتى رسول الله بشارب، فقال: اضربوه، فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله، فقال بعض القوم: أخزاك الله فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان)) رواه البخاري في صحيحه.
ونهى عن سب الريح فقال: ((إن الريح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فلا تسبوها وسلوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرها)) صحيح.
وفي رواية قال لرجل لعن الريح: ((لا تلعن الريح، فإنها مأمورة، من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)) رواه أبو داود والترمذي وابن حبان وإسناده صحيح.
ونهى أيضا عن سب الأموات فقال: ((لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)) رواه الترمذي بإسناد صحيح.
وروى الطبراني بإسناد جيد أن رسول الله قال: ((من ذكر امرئً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه)).
وخلاصة القول ينبغي لكل واحد منا أن يحفظ لسانه عن النطق بالسباب والفحش فيه والبذاءة:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى
إن البلاء موكل بالمنطق
بل ينبغي للمؤمن أن يكون عفيف اللسان غاض الطرف عن الناس وإيذاءهم يعمل هذا وهذا كل ذلك ابتغاء الأجر من الله سبحانه وتعالى ليس ذلك ضعفا ولا خورا بل ضبط للنفس وكبح لجماح الغضب وإمساك لزلة اللسان ولهذا نجد أن الصحابي الجليل جابر بن سليم عندما وصاه النبي عليه الصلاة والسلام استجاب فلم يشتم بعد ذلك شيئا، فيا ليت الناس اليوم يحفظون ألسنتهم من الشتم والتنقص لإخوانهم المسلمين، ويا ليتهم يعملون بهذه الوصية حتى يسود الوئام والألفة والمحبة بيننا معشر المؤمنين.
(1/51)
خطبة الاستسقاء
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آثار الذنوب والمعاصي, التوبة, الصلاة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
الحث على التوبة والاستغفار – فضل الاستغفار من الأمة , وارتباطه بدفع النقم والبلايا
وقوة الأمة – أفضل الاستغفار وسبب ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله؛ فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة. المتقون من عذاب الله هم الناجون: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]. ولِجنة الله هم الوارثون: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]. والقبول في أهل التقى محصورٌ ومقصورٌ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
أيها المسلمون، تبارك اسم ربنا وتعالى جده، هو غفار الذنوب، وستار العيوب، ينادي عباده وله الحمد: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. ويناديهم في ملئه الأعلى: ((يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم)) [1]. سبحانه وتقدس هو أعلم بخلقه، علم عجزهم وضعفهم ونقصهم وتقصيرهم، فتح لهم باب الرجاء في عفوه والطمع في رحمته. والأمل في مرضاته: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]. الرحمات من ربنا فياضة لا ينقطع مددها، والنعم من عنده دفاقة لا ينقص عطاؤها. ومن ذا الذي يتألى على الله ألا يغفر ذنوب عباده: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ [آل عمران:135].
أيها الأخوة، إذا كثر الاستغفار في الأمة، وصدر عن قلوب بربها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرف عنها صنوفاً من البلايا والمحن: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
بالاستغفار تتنزل الرحمات: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].
أيها الأحبة، إن هناك صلة قوية بين طهارة الفرد والمجتمع من الذنوب والخطايا وقضاء الحاجات، وتحقيق الرغبات، وتوافر الخيْرات. هناك ارتباط متين بين الثروة والقوة وبين مداومة الاستغفار؛ اسمعوا إلى مناشدة نوح عليه السلام قومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
وأفضل الاستغفار ـ أيها الإخوة ـ أن يبدأ العبد بالثناء على ربه ثم يثَنِّي بالاعتراف بالنعم، ثم يقر لربه بذنبه وتقصيره، ثم يسأل بعد ذلك ربه المغفرة. كما جاء في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي قال: ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء [2] لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) [3]. قال أهل العلم: وقد كان سيد الاستغفار لأنه تضمن الاعتراف بربوبية الله سبحانه وإلهيته وتوحيده، والاعتراف بعجز العبد وتقصيره، واعترافه بأنه في قبضة مولاه، لا مهرب منه ولا مفر، وتضمن اجتهاد العبد بدخوله تحت عهد ربه ما استطاع وأطاق، لا بحسب حق الله وجلاله وعظمة مقامه، ولكنه جهد المقل.
أيها الإخوة المسلمون، لقد دعاكم إلى المبادرة مولاكم، وفتح باب الإجابة ثم ناداكم، وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]. فاتقوا الله ربكم، واستغفروه ذنبكم، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.
بابه مفتوح للطالبين، وجنابه مبذول للمقبلين، وفضله ينادي: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
سارعوا مسارعة الخائفين، واعترفوا اعتراف المقصرين: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
لله در أقوام بادروا الأوقات، واستدركوا الهفوات، عيونهم بالدمع مملوءة. وألسنتهم عن الزلات محفوظة، وأكفهم عن المحرمات مكفوفة، وأقدامهم بقيد المحاسبات موقوفة. يجأرون في ليلهم بالدعوات، يقطعون أوقاتهم بالصلوات.
صدقوا في المحبة والولاء، وصبروا على نزول البلاء، شكروا سوابغ النعماء، وأنفقوا في السراء والضراء، بذلوا ما عندهم لربهم بسخاء. ووقفوا بباب مولاهم بكل الأمل والرجاء يرجون وعد ربهم بجزيل العطاء: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الدهر:12،13].
عباد الله: إنكم مخلوقون اقتداراً، وكائنون رفاتاً، ومبعوثون أفراداً، فحاسبوا أنفسكم رحمكم الله، فرحم الله عبداً اقترف فاعترف، وحاذر فبادر، وعمِّر فاعتبر، وأجاب فأناب، ورجع إلى ربه وتاب، تزود لرحيله، وتأهب لسبيله.
عباد الله: هل ينتظر الشباب إلا الهرم؟ وهل يؤمِّل الصحيح إلا السقم؟ وماذا بعد طول البقاء إلا مفاجأة الفناء والفوت، وحلول الأجل، ونزول الموت؟
جعلنا الله وإياكم ممن أفاق لنفسه، واستدرك في يومه ما مضى من أمسه، وأعاذنا الله وإياكم ممن ذهب عمره، وقلَّ عمله، واقترب أجله، وساء بربه ظنُّه.
ألا فاتقوا الله ربكم، وتوجهوا إليه بقلوبكم، وأحسنوا الظن، وجدوا في المحاسبة، واصدقوا في اللجوء؛ فمن صدق في اللجوء صحت عنده التوبة. جانبوا أهل الفحش والتفحش، ومجالسة ذوي الردى، ومماراة السفهاء. احفظوا للناس حقوقهم، ولا تبخسوهم أشياءهم. صلوا الأرحام، واسوا الأرامل والأيتام، وتصدقوا بالدرهم والدينار والمد والصاع، واتقوا النار ولو بشق تمرة. فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11-16].
واحذروا تقلبات الزمن، فما الدنيا إلا أملٌ مخترمٌ، سرورها بالحزن مشوب، وصفوها بالكدر مصحوب، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبُسطت لغيرهم اغتراراً.
تعجلوا الإنابة، وبادروا بالتوبة، وألحوا في المسألة، فبالتوبة النصوح تغسل الخطايا، وبطهور الاستغفار تُستمطر السماء، وتُستدر الخيرات، وتُستنزل البركات.
وها أنتم عباد الله قد حضرتم في هذا المكان الطاهر بين يدي ربكم تشكون جدب دياركم، وتبسطون إليه حاجتكم، وذلكم بصالح العمل لديه، فأظهروا رقة القلوب، وافتقار النفوس والذل بين يدي العزيز الغفار، استكينوا لربكم، وارفعوا أكف الضراعة إليه، ابتهلوا وادعوا، وتضرعوا واستغفروا، فالاستغفار مربوط بما في السماء من استدرار.
وأكثروا من الصلاة والسلام على المصطفى الهادي البشير إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فالدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يُصلى على النبي كما جاء في الأثر؛ اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً طبقاً سحاً مجللاً، عاماً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم تُحي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد. اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرق. اللهم اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا بركاتك، واجعل ما أنزلته قوةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع بذنوبنا فضلك.
سبحان الله على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، اللهم ارفع عنا الجوع والجهد والعُري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين.
اللهم ارحم الأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع، وارحم الخلائق أجمعين. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. اللهم ادفع عنا الغلاء والبلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم من أرادنا وأراد بلادنا ومقدساتنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره، اللهم إنا ندرء بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم رد عنا كيد الكائدين وعدوان المعتدين واقطع دابر الفساد والمفسدين، اللهم آمِنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وأعزه بطاعتك، وأعز به دينك، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله اقلبوا أرديتكم تأسياً بنبيكم محمد ، واجتهدوا في الدعاء، وألحوا في المسألة. ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، وأكثروا من الاستغفار والصدقة وصلة الأرحام، واحفظوا الحقوق، ولا تبخسوا الناس أشياءهم عسى ربكم أن يرحمكم فيغيث القلوب بالرجوع إليه والبلد بإنزال الغيث عليه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظلم، حديث (2577).
[2] ابوء: أي أقرّ وأعترف.
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الدعوات – باب أفضل الاستغفار، حديث (6306).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/52)
أسباب الوقوع في الزنا
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريم الخلوة بالأجنبية. 2- ركوب السيارة مع السائق. 3- حكم سفر المرأة بغير محرم.
4- فساد الجلسات المختلطة خاصة العائلية منها. 5- من أسباب الوقوع في الزنا غلاء المهور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون ومن أسباب الوقوع أيضا، في جريمة الزنا، خلو الرجل بالمرأة التي ليست من محارمه لأن ذلك مدعاة إلى إغراء الشيطان لهما بالفاحشة مهما بلغا من التقوى والدين، فإن من أخطر الأمور التي حذر الله منها المسلمين اختلاط الجنسين الرجل والمرأة حيث إنه من أكبر الأسباب الميسرة للفاحشة وأخطر من ذلك الخلوة بالمرأة من غير ذات المحارم فإن في ذلك مدخلا للشيطان ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم)).
فمن خلا بامرأة لا تحل له فقد عصى الله ورسوله وعرض نفسه للفتنة سواء خلا بها في بيت أو مكتب كما يفعل تلاميذ الغرب ومقلدوهم من تشغيل المرأة مع الرجل وخلوته بها في العمل والمكتب والمتجر، وكذا ركوب المرأة مع الرجل الأجنبي في السيارة خاليين كما يفعل بعض أصحاب سيارات الأجرة وبعض أصحاب الثروة والترف الذين يجعلون لنسائهم سائقين أجانب تركب إحداهن مع السائق وحدها ويذهب بها حيث شاءت وكذا ما يفعل بعضهم من جعل خادم في البيت من الرجال الأجانب يخلو مع النساء في البيت وترى الرجل يخرج من بيته وقد ترك زوجته مع الخادم الشاب الذي يتفجر حيوية ونشاطا وقوة لا يكون معهما أحد من الناس وهي لا تستتر منه وقد رفعت الكلفة بينهما وهي تأمره وتنهاه وتناديه وهو يجيب بحكم عمله والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، يحببه إليها ويحببها إليه حتى تقع الجريمة قال أحد السلف: (لو كنت خاليا بامرأة سوداء شمطاء خرقاء ما أمنت على نفسي منها)، فكيف بالله إذا كان السائق أو الخادم وسيما وقد يكون الزوج مسنا أو قبيحا أو ضعيفا فماذا تكون النتيجة إن لم يكن خوف الله مسيطر على الجانبين؟
وقد كان أحد الخدم يعمل لدى عائلة من كبار العائلات وكانت سيدته تأمره بمسدس تضعه في رأسه بأن يمارس معها الفاحشة وقد سأل هذا الخادم الشيخ عبد العزيز بن باز في محاضرة ضمن الأسئلة الموجهة إلى الشيخ ويقول: ماذا أعمل إذا كان جواز سفري لديها وهي تهددني بهذه الطريقة، فبكى الشيخ حفظه الله.
ومن الخلوة أيضا ما شاع لدى فئة من أتباع الغرب ممن لا يخافون الله ولا يرعون حرماته، من استقبال المرأة صديق زوجها في حال غيابه، والسماح له بالدخول إلى بيتها والجلوس معه ومؤانسته والتبسط معه في القول وممازحته وما إلى ذلك، إن هذه خلوة محظورة شرعا ولا يجوز التساهل بها بحجة الثقة بالصديق والزوجة ولا يمكن أن يرضى بها إلا إنسان مريض القلب فاقد الغيرة، عديم المروءة، ومثله وأشد منه أن تسافر المرأة وحدها أو مع السائق أو مع الخادم لأن في ذلك ضياعا لها وغيابا عن الرقيب من أوليائها والغيورين عليها وهي المرأة الضعيفة التي سرعان ما تخضع لافتراس الذئاب البشرية رغبة أو رهبة وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها))، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقال له رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني كتبت في غزوة كذا وكذا فقال له : انطلق فحج مع امرأتك)).
إن المرأة التي تسافر وحدها من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد قد خرجت على هذه التعاليم النبوية وأسخطت ربها عليها.
وأحب أن أنبه على أن سفر المرأة ولو كان بالطائرة إذا لم يكن معها محرم لا يجوز حتى لو كان في المدينة الأخرى من يستقبلها من محارمها وقد أفتى بذلك الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله.
وكذلك ذهاب المرأة إلى الطبيب وحدها فإنه يحقق بذلك خلوة محظورة فيكشف بحكم مهنته عن مواضع في جسدها فهذه خلوة لا تجوز أيضا بدون محرم وكذلك فإن الجلسات العائلية كما يسمونها التي يختلط فيها الرجال والنساء وهن في أتم زينه، وقد ألغين الحجاب وأظهرن المفاتن بحجة الصداقة وقد يكون في هذه الجلسات تبادل الحديث المبتذل والمزاح الهابط والنكتة اللاذعة والتعريض بأمور خاصة إن كل ذلك مما لا يجيزه دين الله وهو يعرض كيان الأسرة إلى الانهيار ويبدل الود بين الزوجين إلى تناحر فلقد تقوضت علاقات التراحم والانسجام العائلي في عدد من الأسر بسبب الاختلاط المستهتر.
قالت الكاتبة الإنجليزية (اللادي كوك) في جريدة الأيكو (إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا وههنا البلاء العظيم للمرأة) أ. هـ.
ومن أعظم أنواع الخلوة التي تكون مع قريب الزوج كأخيه وابن عمه وابن خالته أو ابن عمها وابن خالتها وكذلك خلوة الرجل مع ابنة عمه وابنة خالته وهكذا فقد قال : ((إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال : الحمو الموت)) رواه البخاري ومسلم.
والحمو هو قريب الزوج قال القرطبي: ومعناه أن دخول قريب الزوج على امرأة الزوج وهذا القريب ليس من محارمها يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة.
ومعناه احذروا الاختلاط بالنساء والخلوة بغير المحارم.
وأعظم أنواع الخلوة أن يخلوا أقارب الزوج بزوجة قريبهم في سفره أو خروجه من البيت وبين الكصطفى أن ذلك كالموت لما يحدث فيه من أمور لا تحمد عقباها وقد ذكر أحد المشايخ مرة أنه أتاه رجل وقال له: إن أبناء أخي كلهم مني فاسترجع الشيخ وقال له: انظر ما تقول قال: هو ما أقول لك إني أسكن مع أخي في داره وأنا عاطل عن العمل فإذا خرج أخي إلى العمل تزينت لي زوجته ثم أزني بها وهكذا فكل أبنائه مني فما العمل؟ وهذا أيها الأحبة غيض من فيض فالشارع الحكيم لم يحرم شيئا إلا وفيه مصلحة للفرد والمجتمع ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن الإسلام لم يفرض الحجاب على المرأة إلا ليصونها عن الابتذال والتعرض للريبة والفحش وعن الوقوع في الجريمة.
فكيف يجوز لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخالف أمر الله وترفع الحجاب أمام رجل أجنبي عنها بحجة أنه خادم أو سائق أو طبيب أو بائع أو خياط أو صديق الزوج أو قريب له أو أستاذ سواء كان في درس خاص أو في قاعة المحاضرات أو ما إلى ذلك؟ وكيف يرضى امرؤ يتقي الله ويخشاه بأن تخلو زوجته أو ابنته مع رجل أجنبي عنها؟ إن الإسلام أيها الإخوة حذر من خطر الجريمة ومنع أسبابها المؤدية إليها لأن من فرط في الأسباب وقع في الجريمة ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.
فلنتنبه يا عباد الله، ولندرأ عن أنفسنا الوباء والخطر قبل حلوله لنحذر مكر الشيطان، فإن شره مسيطر على أنفسنا وعلى أهلينا وأمتنا ولنستجب لدعوة الله فنسعد في الدنيا والآخرة قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب.
ومن الأسباب أيضا: المغالاة في المهور وهذا سبب رئيسي في إحجام كثير من الشباب عن الزواج مما يسبب الإكثار من النساء العوانس في البيوت والشباب طاقة تتوقد من الشهوة وكذلك الفتيات اللاتي لم يتزوجن فإذا كان الأب عائقا في زواج بناته فسوف يلجأن إن كن ضعيفات الدين إلى فعل الفاحشة والرذيلة وهناك سؤال أحب أن أطرحه هل تزويج الفتاة أفضل أم فعلها للفاحشة أفضل؟ بل الزواج أفضل وهو سنة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، لهذا يجب أن يعلم الأب الذي يعيق زواج ابنته أنه يجب عليه هو أن يكافئ خطيب ابنته لأنه أراد أن يعفها عن الحرام وأحب أن أذكر هذه القصة التي وقعت وذلك أن رجلا حضرته الوفاة وكانت جواره ابنته العانس فقالت لأبيها: قل آمين قال: آمين قالت، قل: آمين، قال: آمين، قل: آمين، قال: آمين، ثم قالت: أسأل الله أن يحرمك الجنة كما حرمتني من الزواج.
هل هذا يرضي الآباء أن يدعوا عليهم أبناؤهم من بعدهم.
فاتقوا الله يا أيها الآباء اتقوا الله في بناتكم ويسروا ولا تعسروا وسهلوا ولا تشددوا وكونوا مفاتيح للخير مغاليق للشر قال : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير)) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/53)
الوصية
فقه
الفرائض والوصايا
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
تقلب أحوال الإنسان في مراحل عمره وحاجته إلى الوصايا والتوجيه , والتوبة النصوح -
مشروعية الوصية عند الموت – وتأكدها لمن عليه حقوق وديون – التحذير من وصية الإثم
والمضارة بالوصية , وصور ذلك – آداب الوصية , ونموذج لوصية أوصى بها بعض السلف
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وعظموا أمره واجتنبوا مساخطه، وخذوا من أيامكم عبراً، واستوصوا بأنفسكم وأهليكم خيراً.
أيها المسلمون، ابنُ آدم يتقلب في هذه الحياة ـ ما أمد الله له من العمر ـ يتقلب مراحل وأطواراً من الطفولة والشباب، والكهولة والهرم، يمر خلالها بأحوال من العسر واليسر، والفقر والغنى، والحزن والسرور، والصحة والمرض، والقوة والضعف، وهو في جميع هذه الأطوار، وفي كل تلك الأحوال بحاجة إلى التذكر والتذكير، والوصايا والتوجيه. بحاجةٍ إلى التوبة النصوح، والثبات على الحق، وتحري العدل، واحتساب الثواب، وإحسان الظن بربه، متقلباً بين الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ ?لْعَذَابُ ?لاْلِيمُ [الحجر:49،50]، أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ?لَّيْلِ سَـ?جِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ?لاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ [الزمر:9].
كل ابن آدم بحاجة إلى هذا.. غير أن هناك فئاتٍ من الغافلين والمرضى والعجزة والمسنين ذوي حقوقٍ وأموالٍ. قد ينسيهم حرصهم على حقوقهم، وتنميتهم أموالهم ـ ينسيهم ذلك ـ حقوق الآخرين من أصحاب الديون والودائع، أو ذوي الفقر والحاجة من الأقربين وغير الأقربين، فإذا ما أصابته مصيبةٌ أو أحسَّ بدنوِّ أجله؛ راجع نفسه، وندم على ما أسلف، ولقد علم الله اللطيف المنان ضعف هذا المخلوق، فهيأ له برحمته فسحة، وفتح له باب أمل من أجل أن يعمل صالحاً، وكما شرع له ميدان حسنات حال الحياة؛ فقد شرع له فرصاً بعد الممات، وفي مثل هذا جاء قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [1] رواه مسلم وغيره واللفظ له.
وفي حديث آخر: ((إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم)) [2] رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة.
ولمثل هذا شرعت الوصية، وتكاثرت النصوص في الحث عليها. إذا وُجد مقتضيها: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَـ?دَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ حِينَ ?لْوَصِيَّةِ ?ثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106].
وفي الحديث الصحيح: عن ابن عمر - رضي الله عنهما – عن النبي أنه قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين)) [3] وفي رواية: ((ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة)). قال عبد الله بن عمر: ((ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله قال ذلك، إلا وعندي وصيتي)) [4] متفق عليه، واللفظ لمسلم، وفي حديث آخر حسن الإسناد: ((المحروم من حرم وصيته)) [5] ، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من صواب الأمر للمرء أن لا تفارقه وصيته. ((ومن مات وقد أوصى مات على سبيلٍ وسنة)) حديث عند ابن ماجه [6].
معاشر الأحبة، من لزمته حقوق شرعية لله أو لعباد الله، من زكواتٍ وكفاراتٍ وديونٍ وودائع، فليسارع في أدائها، وليبادر إلى قضائها، ما دام قادراً على الأداء، متمكناً من القضاء. وإلا فليوصِ بذلك وصيةً واضحةً في لفظها ومعناها، مجودة في كتابتها، عادلةً في شهودها، من أجل أن تُحمد سيرتُه، وتُحفظ حقوقُه، ولا يبقى أهله من بعده في منازعات، ويلقى ربه وقد أدى ما عليه، وأبرأ ذمته، وابيضت صحيفته، وحسنت بإذن الله خاتمته، وخف في الآخرة حسابه، ومن قصَّر فقد تعرض لحرمان الثواب، وأهمل في براءة الذمة.
ومن لم تكن عليه حقوق، ولا تلزمه واجبات وله ورثة محتاجون وذرية ضعفاء، فليبدأ بهم، ولا يقدِّم عليهم وصيته؛ لأنهم أحق بماله وأولى بمعروفه، وأعظم في ثوابه وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]. وقد قال عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ((إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس)) متفق عليه [7] ، واللفظ للبخاري. وفي الخبر الآخر : ((ابدأ بنفسك ثم بمن تعول)) أصل ذلك في الصحيحين [8]. وأراد رجل أن يوصي فقال له علي – رضي الله عنه -: (إنك لم تترك مالاً طائلاً، إنما تركت شيئاً يسيراً فدعه لورثتك). وسأل رجل عائشة رضي الله عنها فقال: إن لي ثلاثة آلاف، وعندي أربعة أولاد أفأوصي؟ قالت: اجعل الثلاثة للأربعة. أما إذا فاض مال الله عندك، وبسط الله لك في الرزق، فلتدخر لنفسك عملاً صالحاً، وصدقة جارية، يمتد لك ثوابها، ولتبدأ بالأقربين من غير الوارثين، فهم أحق ببرك وأولى بفائض مالك، حتى لا يتعرضوا لمهانة الفقر، وذل الحاجة، وإنه لك في ذلك صدقة وصلةٌ، وليحزم المسلم أمره، ولا يؤخر إلى شهود أمارات الموت. جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: ((أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان..)) متفق عليه واللفظ للبخاري [9].
وليُعلم ـ وفقكم الله ـ أن وجوه البر كثيرة، من فقراء الأقارب غير الوارثين، وعمارة المساجد وخدمتها، وبناء الأربطة والمساكن للمحتاجين من أهل العلم والفضل والصلاح، وقضاء ديون المعسرين، والصدقة على المحاويج، والإنفاق على طلبة العلم، وتعليم القرآن، وسقي الماء، وتعبيد طرق المسلمين، وطبع الكتب المفيدة ونشرها، والوصية بالحج والأضاحي عن نفسه وغيره، وهذا الباب بفضل الله واسع ووجوه البر فيه لا تنحصر.
ثم احذروا وصية الإثم والجَنف، وإياكم والمضارة بالوصية، وقد قال نبيكم محمد : ((إن الرجل ليعمل- والمرأة- بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار)) ثم قرأ أبو هريرة راوي الحديث: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى? بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَرُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [النساء:12، 13]. روى الحديث أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وهو عند ابن ماجة بلفظ مقارب [10].
سبحان الله ـ يا عباد الله ـ كيف يتجرأ هذا المخذول ليضار في وصاياه، وهو في حالة إدبار الدنيا وإقبال الآخرة. في حال يصْدق فيها الكذوب، ويتوب فيها الفاجر، وأي قسوة أشد من هذه القسوة. فنعوذ بالله من الخذلان.
في الأوصية الجنف يغلب الجشعُ، ويحل الطمع، ويضيع الحلال، وإن ربك لبالمرصاد. ألا وإن من جار في وصيته وظلم؛ مات على جهالة، وسلك مسالك الضلالة.
إن من صور الإضرار بالوصية ـ عياذاً بالله ـ أن يقرَّ بكلِّ ماله أو بعضه لغير مستحقٍّ، أو يُقِرَّ على نفسه بدين لا حقيقة له من أجل أن يمنع الوارث من حقِّه، أو يبيع شيئاً بثمنٍ بخسٍ، أو يبيع بيعاً صورياً، أو يشتري بثمنٍ فاحشٍ من أجل أن يضر بالورثة ويمنعهم حقوقهم أو يبخسها، وتحرم الوصية للوارث، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم.
والوصية لا تصح في الأمور المبتدعة، والمسائل المحرمة كالنياحة، والتبذير، والبناء على القبور، والتكفين بالحرير والديباج والدفن في المسجد أو في بيت خاصٍ، إلا أن يجعل ذلك مقبرةً عامةً للمسلمين. ذكر ذلك فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم رحمة الله على الجميع.
ألا فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واتق الله يا عبد الله، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، رواه البخاري [11]. ولقد قال الله في أقوام: مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً و?حِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى? أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:49، 50]، أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ [فاطر:37].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب ما يلحق الإنسان من الثواب... حديث (1631).
[2] حسن، سنن ابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الوصية بالثلث، حديث (2709)، وأخرجه أيضاً أحمد (6/400)، والطبراني في الكبير (4129). قال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن. مجمع الزوائد (4/212). وحسنه الألباني إرواء الغليل (1641).
[3] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الوصايا – باب الوصايا، حديث (2738)، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب حدثنا أبو خثيمة زهير بن حرب... حديث (1627).
[4] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب حدثنا هارون بن معروف... حديث (1627).
[5] ضعيف، أخرجه ابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الحث على الوصية، حديث (2700)، وفي إسناده دُرُسْت بن زياد ويزيد بن أبان الرقاشي وهما ضعيفان، كما في التقريب (1825، 7683). وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (5916).
[6] ضعيف، أخرجه ابن ماجه، كتاب الوصايا – باب الحث على الوصية، حديث (2701). قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد ضعيف لتدليس بقية، وشيخه يزيد بن عوف لم أرَ من تكلم فيه (3/140)، وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (5848).
[7] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الوصايا – باب أن يترك ورثته أغنياء... (2742)، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب الوصية بالثلث، حديث (1628).
[8] صحيح، أخرجه مسلم بنحوه: كتاب الزكاة – باب الابتداع في النفقة بالنفس... حديث (997). وانظر صحيح البخاري: كتاب الزكاة – باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى... حديث (1426)، وصحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى... حديث (1034).
[9] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الزكاة – باب فضل صدقة الشحيح الصحيح... حديث (1419)، وصحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، حديث (614).
[10] ضعيف، أخرجه أبو داود: كتاب الوصايا – باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية، حديث (2867)، والترمذي: كتاب الوصايا – باب ما جاء في الضرار في الوصية، حديث (2117)، وابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الحيف في الوصية، حديث (2704)، وأخرجه بلفظ ابن ماجه أحمد في مسنده (2/278)، ومدار إسناده على شهر بن حوشب، وهو ضعيف. وانظر: نيل الأوطار للشوكاني (6/147)، وضعيف الجامع (1457، 1458). وضعيف أبي داود للألباني (614).
[11] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الرقاق – باب قول النبي : ((كن في الدنيا كأنك غريب...)) حديث (6416).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله إقراراً بوحدانيته، والشكر له على سوابغ نعمته، اختصَّ بها أهل الصدق والإيمان بصدق معاملته، ومنَّ على العاصي بقبول توبته، ومدَّ للمسلم عملاً صالحاً بوصيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المفضَّل على جميع بريته. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن من أدب الوصية أن يوصيَ المسلم بنيه وأهله وأقاربه، ومن حضره واطَّلع على وصيته – يوصيهم بتقوى الله وطيب العمل، وإن لكم في إبراهيم وبنيه عليهم السلام أسوةً، وفي نبيكم محمد أعظم قدوة وَوَصَّى? بِهَا إِبْر?هِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـ?بَنِىَّ إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَى? لَكُمُ ?لدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]، وأوصى محمدٌ بكتاب الله، وقال: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) [1] ، وحذَر من الفتن، وأمر بالطاعة ولزوم الجماعة، وأوصى بأصحابه السابقين وبالمهاجرين وأبنائهم، كما أوصى ابنته فاطمة رضي الله عنها إذا هو مات أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها الأخوة، وهذه صيغة مأخوذة من جملة ما أوصى به بعض أئمة الإسلام من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم. حيث رأوا أن يقول الموصي مخاطباً أهله، ومن حضره واطَّلع على وصيته: أوصى فلانٌ، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إلهاً واحداً. فرداً صمداً. لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً. ولم يشرك في حكمه أحداً. ويشهد أن محمداً عبده ورسوله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ويشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنة حق وما أعده الله لأوليائه حقٌ، والنار حقٌ، وما أعده الله لأعدائه حقٌ، وهو قد رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، على ذلك يحيا، وعليه يموت إن شاء الله، ويشهد أن الملائكة حق، والنبيين حقٌ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
ثم يقول: اعلموا أني مفارقكم وإن طال المدى، فهذه أدوات السفر تُجمع، ومنادي الرحيل يُسمع، والمرء لو عُمِّر ألف سنة لا بدَّ له من هذا المصير كما ترون.
إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه وأعملهم ليوم معاده. وهذه وصية مودع ونصيحة مشفق، حسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملاً، ولكن ليبلوكم أيكم أحسن عملاً يَـ?بَنِىَّ إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَى? لَكُمُ ?لدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]. ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لاْمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:17، 18]. أعظم فرائض الله بعد التوحيد: الصلاة، الله الله في الصلاة، فإنها خاصة الملة، وأم العبادة، والزكاة أختها الملازمة، والصوم عبادة السر لمن يعلم السر وأخفى، والحج مع الاستطاعة ركنٌ واجبٌ، هذه عُمُد الإسلام وفروضه، فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناوئكم ظاهرين. وتلقوا ربكم غير مبدلين ولا مغيرين. واسلكوا في الاعتقاد مسلك السلف الصالح وأئمة الدين، ولا تخوضوا فيما كره السلف الخوض فيه، وعليكم بالعلم النافع، فالعلم وسيلة النفوس الشريفة، وشرطه الإخلاص والخشية لله مع الخيفة. وخير العلوم علوم الشريعة، وانبذوا العلوم المذمومة فإنها لا تزيد إلا تشكيكاً. وأطيعوا أمر من ولاه الله عليكم، واجتنبوا الفتن وأسبابها، ولا تدخلوا في الخلاف، والزموا الصدق فإنه شعار المؤمنين، والكذب عورة لا تُوارى، وحافظوا على الحشمة والصيانة، وأوفوا بالعهد، وابذلوا النصح، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تطغوا في النعم، ولا تنسوا الفضل بينكم، ولا تنافسوا في الحظوظ السخيفة، وإذا أسديتم معروفاً فلا تذكروه، وإذا برز قبيحٌ فاستروه، وأصلحوا ذات بينكم، واحذروا الظلم، وصلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الجيران، واعرفوا حقَّ الأكابر، وارحموا الأصاغر، واحذروا التباغض والتحاسد، واعلموا أن جماع الأمر تقوى الله، كان الله خليفتي عليكم في كل حال، وموعد الالتقاء دار البقاء، والسلام عليكم من حبيبٍ مودع، والله يجمع إذا شاء هذا الشمل المتصدع... ألا فاتعظوا أيها المسلمون.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/117)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في حق المملوك، حديث (5156)، وابن ماجه: كتاب الوصايا – باب هل أوصى رسول الله ؟ حديث (2698). وذكره الضياء في الأحاديث المختارة (6/158)، (7/35-37)، وقال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين (2/55)، وصححه الحافظ في الفتح (5/361).
(1/54)
التدخين
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحميد التركستاني
الطائف
19/3/1413
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار التدخين بين المسلمين. 2- أضرار التدخين الطبية. 3- حكم التدخين. 4- أسباب
انتشار التدخين. 5- حكم الاتجار بالدخان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واشكروه أن أغناكم بحلاله عن حرامه وأباح لكم من الطيبات ما تقوم به مصالحكم الدينية والبدنية وحرم عليكم الخبائث لأنها تضركم ولا تنفعكم.
أيها الإخوة: إن التغذي بالطيبات يكون له أثر حميد في صحة الإنسان وسلوكه لأنها تغذي تغذية طيبة، والتغذي بالخبائث يكون له أثر خبيث في الأبدان والسلوك لأنها تغذي تغذية خبيثة.
ألا وإن من الخبائث التي ابتلي بها مجتمع المسلمين اليوم هذا الدخان الخبيث الذي فشى شربه في الصغار والكبار وصار شرابه يضايقون به الناس ويؤذون به الأبرياء من غير خجل ولا حياء بحيث أن أحدهم يملأ فمه منه ثم ينفثه في وجوه الحاضرين من غير احترام لهم ولا مبالاة بحقهم، فيخيم على الحاضرين حوله سحابة قاتمة من الدخان الخانق الملوث بالريق القذر والرائحة الكريهة ومصدر ذلك كله فم المدخن البذيء لا يراعي لمجالسه حرمة، ولا يفكر في وخيم فعله ولو أن إنسانا تنفس في وجه هذه المدخن أو امتخط أمامه كم يكون تألمه واستنكاره لهذا الفعل وهو يفعل أقبح من ذلك بمجالسه، فنفخ الدخان في وجوه الناس أعظم من ذلك بأضعاف ولكن الأمر كما جاء في الحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
ومع تنوع أضرار الدخان وآفاته وعدم الفائدة والمنفعة فيه ولو من أبعد الوجوه فقد أكب عليه الجماهير في مشارق الأرض ومغاربها وأصبح مما يتفكّه به ويتلذذ بشربه وتعبق بأنتانه المجالس والمجتمعات وذلك ما حملني على تحرير هذه الخطبة واختيار الكتابة في هذا الموضوع وتأليف ما اجتمع لديّ فيه من معلومات قياما ببعض ما أوجب الله من النصيحة والبيان، ورجاء الانتفاع والتأثر والله ولي التوفيق.
نقل الشيخ محمد بن إبراهيم عن الأطباء قولهم: والدخان مكون من مادة التبغ وهو نبات حشيش مخدر مرّ الطعم وبعد التحقيق والتجربة ظهر أن التبغ بنوعيه، التوتون، والتنباك، من الفصيلة الباذنجانية، التي تشمل على أشر النباتات السامة كالبلادونا والبرش والبنج وهما مركبان من أملاح البوتاس والنوشادر ومنه مادة صمغية ومادة حريقة تسمى: نيوكتين. قالوا: هي من أشد السموم مفعولاً، والمدخن يعتبر الدخان مكملا للرجولة وحبا لتقليد نجوم السينما عندما يراهم يشربون الدخان ومجالسة للأصدقاء فتبدأ السيجارة الأولى ثم الإدمان.
أيها المسلمون: إن شرب الدخان حارق للبدن والدين والمال والمجتمع ومعلوم أن نوعا واحدا من هذه المضار كافٍ وسوف نتكلم عنها واحدة واحدة:
أما ضرره على البدن: فهو يضعفه بوجه عام ويضعف القلب ويسبب مرض سرطان الرئة ومرض السل ومرض السعال في الصدر ويجلب البلغم والأمراض الصدرية، ويضعف العقل بحيث يصبح المدخن ذا حماقة ورعونة غالبا، ويسبب صداع الرأس ويقلل شهوة الطعام ويفسد الذوق والمزاج، ويفتر المجموع العصبي ويضعف شهوة النكاح، ويشوه الوجه بحيث يجعله كالا وتظهر على صاحبه زرقة وصفرة تعم بدنه.
ولقد ذكر الأطباء السبب في إحداثه لهذه الأمراض ونحوها وهو اشتماله على المادة السامة وهي النيكوتين، بل إن الشركات المصنعة تحذر وتقول: تحذير رسمي التدخين يضر بصحتك ننصحك بالابتعاد عنه، ومع هذا نجد الإصرار ممن يتعاطونه، ولا تقتصر مضار التدخين على ما ذكر، فقد أظهرت التجارب المجراة على الأرانب المسممة بالنيكوتين تأثر المخ والمخيخ فضلا عن اضطراب العصب السمباتي، لذلك يشكو مدمنو التدخين الأرق والقلق والتحسس والكآبة ووهن الإرادة وضعف الذاكرة وقد يظهر عليهم الكسل والخمول والتعب والنصب وغير ذلك من العاهات المصاحبة له.
ولقد أكثر الأطباء والحكماء الكتابة في التدخين، وما ينتج عنه وانتشرت أقوالهم وطبعت مؤلفاتهم وكلها تدندن حول أضراره الصحية للبدن.
وأما ضرره في الدين:
قال تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فذكر الله تعالى من أسباب تحريم الخمر والميسر الصد عن الذكر وعن الصلاة وهذه العلة تتحقق في الدخان فإن شاربه في العادة يهرب عن حلق الذكر والقراءة ويألف اللهو والباطل عادة، وهو غالبا السبب الرئيسي لبعد المدخنين عن حضور المساجد إلا من شاء الله وهكذا سائر العبادات وبالأخص الصيام فإنه أثقل على المدخنين من غيره لأنهم به ينفطمون عن لذتهم وسلوتهم ولهذا يفطر كثير منهم بالتدخين وبعضهم لا يصبر بل يشربه في نهار رمضان بلا مبالاة وخشية من الله.
وما كرّه العبد للخير فهو شر، وكذلك فهو يدعو متعاطيه إلى مخالطة الأراذل والسفهاء والابتعاد عن الأخيار فهذا يكون سببا لما هو أكبر منه وهو تعاطي المخدرات نسأل الله السلامة.
وأما ضرره في المال:
فاسأل من يتعاطاه كم ينفق فيه من الريالات في كل يوم وقد يكون فقيرا ليس عنده قوت يومه وليله ومع هذا فهو يقدّم الدخان على شراء غيره، من الضروريات ولو ركبته الديون الكثيرة ولو فكر هذا المسكين في ما ينفق في هذا السم الخبيث وصرف هذا المال لمستحقيه لإخوانه المنكوبين ليجدوا لقمة يسدون بها رمقهم لكسب بذلك الأجر والمغفرة من الله والمثوبة ولكن من يتذكر ويتعظ؟
وأما ضرر شرب الدخان في المجتمع:
فإن شارب الدخان يسيء إلى مجتمعه ويسيء إلى كل من جالسه وصاحبه بحيث ينفخ الدخان في وجوه الناس فيخنق أنفاسهم ويضايقهم برائحته الكريهة حتى يفسد الجو من حولهم وامتد هذا الأذى فصار يلاحق الناس في المكاتب والمتاجر وفي السيارات والطائرات حتى عند أبواب المساجد بل إن بعضهم ما إن يخرج حتى يشعل السيجارة عند باب المسجد، بل إن التدخين يؤذي الملائكة الكرام ففي الصحيحين عن جابر أن النبي قال: ((إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) ، ومن مضار الدخان الاجتماعية أنه يستنزف ثروة الأمة وينقلها إلى أيدي أعدائها من الشركات التي تصدر هذا الأذى الخبيث.
ومن مضاره أنه يسبب الحرائق المروعة التي تذهب بالأموال وتخرب البيوت، فكم حصل بسبب أعقاب السجائر التي تلقى وهي مشتعلة من إضرام حريق أتى على الأخضر واليابس وأتلف أموالا وأنفسا بغير حق، تولى كبرها ذلك المدخن الذي قذف بسيجارته دون مبالاة.
هذه بعض أضرار التدخين الاجتماعية والبدنية والدينية والمالية فهل يستطيع المدخنون أن يذكروا لنا فائدة واحدة أو بعض فائدة في شرب الدخان تقابل هذه المضار؟ فيا أسفاه كيف غابت عقولهم وسفهت أحلامهم وضاقت صدورهم من قبول الحق، بل إن التدخين ليس له حسنة واحدة يمكن أن تقال فيه، بل على العكس فكله مضار كما ذكرنا والتدخين في الحقيقة هو سفه ودناءة ولو رأى أحدنا إماما أو واعظا أو رجلا من أهل القدر والرفعة يشرب الدخان لاستنكر هذا الفعل ولشهّر به في المجالس ويقول منتقدا: رأيت الشيخ فلان يشرب الدخان وما ذاك إلا لأنه ليس من مقام المروءة ومكارم الأخلاق، ومن رأى مجالس المدخنين ومن يرتادها ومجالس الصالحين ومن يحضرها لعرف الفرق.
ومن أهم أسباب انتشار التدخين أقولها باختصار نظرا لضيق الوقت:
أولا: وسوسة الشيطان.
ثانيا: رفقاء السوء.
ثالثا: المقاهي والاستراحات العامة ولا إشكال في ذلك لأن من أقامها أناس قليلو الديانة والأمانة لا يهمهم سوى جمع المال بأي وسيلة.
رابعا: الآباء والمربون وخاصة إذا كانوا يتعاطون الدخان فإنهم يؤثرون فيمن يربونهم ولابد.
وأخيرا فما هو حكم التدخين أو الدخان.
ولعلك أيها المسلم بتحكيم عقلك وتفكيرك في شيء اتصف بالضرر على الدين والبدن والمال وتعدّى ضرره إلى الغير وعدمت فيه المنفعة أصلا لا تتوقف في تحريمه قبل أن تسمع النصوص النقلية ولكن لتقوية مدلول العقل تحقق أن الشرع قد نص على التحريم إجمالا وتفصيلا ولا شك أن الشرع هو الدليل القاطع في مسألة النزاع وبهذه النظرة العامة يتضح أن استعمال التدخين محرم وممنوع شرعا ولا يباح بحال من الأحوال وأما كلام العلماء وقولهم بالتحريم وأدلتهم فأكثر من أن تحصره وقد قال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية سابقا رحمه الله في فتواه: (مما يعلم كل أحد تحريمنا إياه نحن ومشايخنا ومشايخ مشايخنا ومشايخهم، وكافة المحققين من أئمة الدعوة وسائر المحققين سواهم من العلماء في سائر الأمصار من له من وجوده بعد الألفِ بعشرة أعوام إلى يومنا هذا) انتهى كلامه.
وفي الختام أعتذر إليكم أيها المدخنون إذا قسوت عليكم فما أردت إلا تخليصكم من عدو عنيد قد تسلط عليكم وفتك بكم وأبعدكم عن الخير وأهله وقربكم من الشر وأهله.
فيا من ابتليت بشرب الدخان أسأل الله لنا ولك العافية إنني أدعوك بدافع النصيحة الخالصة أن تبادر بالتوبة منه وأن تتركه طاعة لربك وحفاظا على صحتك، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ثم لا تنسى أيها المدخن أنك ستكون قدوة سيئة لأولادك إن كنت والدا ولتلاميذك إن كنت مدرسا ولأصحابك ومخالطيك فتكون قد جنيت على نفسك وغيرك وإذا تركته وتبت منه صرت قدوة حسنة لغيرك فكن قدوة في الخير ولا تكن قدوة في الشر.
والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ولا يحملنك التقليد الأعمى والمجاملة الخادعة أن تتعاطى هذا الدخان وقد عافاك الله منه أو تستمر فيه وقد عرفت أضراره وأمامك باب التوبة مفتوح فبادر قبل أن يغلق.
وأحب أن أنبه إلى أن الشيشة تأخذ نفس الحكم في الحرمة لمن يتعاطاها فلا يجوز شربها ولا اقتناؤها بالمنزل ولا الجلوس في المقاهي من أجل شربها والله أعلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه أما بعد:
أيها المسلمون: وكما يحرم شرب الدخان يحرم بيعه والاتجار به واستيراده فثمنه سحت والاتجار به مقت وقد قال : ((إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) رواه الإمام أحمد وأبو داود وهو صحيح، وعلى هذا فالاتجار به لا يجوز وثمنه يحرم أكله كثمن الخمر ومن تاجر فيه أي باعه بعد معرفته بالتحريم ففيه شبه من اليهود؛ لما حرمت عليهم الشحوم إذابوها فباعوها وأكلوا ثمنها فاستحقوا اللعن على هذا الفعل، فالذي يبيع هذا الدخان قد ارتكب جريمتين عظيمتين:
الأولى: أنه عمل على ترويجه بين المسلمين فجلب إليهم مادة فساد.
الثانية: أن بائع الدخان يأكل من ثمنه مالا حراما ويجمع ثروة محرمة، فالحرام لا يدوم وإن دام لا ينفع وقد شاهد الناس أن كل متجر فيه دخان وإن استدرج ونما ماله في وقت ما فإنه يبتلى بالقلة في آخر أمره وتكون عواقبه وخيمة.
فاتقوا الله عباد الله وانظروا في العواقب فإن في الحلال غنية عن الحرام وقد وردفي الحديث عنه قوله: ((إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا يطلب إلا بطاعته)).
(1/55)
حلاوة الإيمان
الإيمان
فضائل الإيمان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
الأدلة على أن للإيمان طَعْماً – منافذ الوصول إلى حلاوة الإيمان – أثر صحة الإيمان على
الحياة – أثر ضعف الإيمان وفقدانه على حياة الناس ومصداق ذلك في واقع الحضارة المعاصرة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فتقواه خير زاد، وهي نعم العدة ليوم المعاد.
أيها المسلمون، يجد المتبصر في أمور الحياة وشؤون الأحياء يجد فئات من الناس تعيش ألواناً من التعب والشقاء، وتنفث صدورها أنواعاً من الضجر والشكوى، ضجر وشقاء يعصف بالأمان والاطمئنان، ويفقد الراحة والسعادة، ويتلاشى معه الرضى والسكينة. نفوس منغمسة في أضغانها وأحقادها وبؤسها وأنانيتها، ويعود المتبصر كرة أخرى ليرى فئاتٍ من الناس أخرى قد نعمت بهنيء العيش وفيوض الخير، كريمة على نفسها، كريمة على الناس، طيبة القلب سليمة الصدر طليقة المحيا. ما الذي فرق بين هذين الفريقين؟ وما الذي باعد بين هاتين الفئتين؟ إنه الإيمان وحلاوة الإيمان. ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً)) [1]. بذلك أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كما أخبر أن ((ثلاثاً من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) [2].
أيها الإخوة، للإيمان طعم يفوق كل الطعوم، وله مذاق يعلو على كل مذاق. ونشوة دونها كل نشوة.
حلاوة الإيمان حلاوة داخلية في نفس رضية وسكينة قلبية تسري سريان الماء في العود، وتجري جريان الدماء في العروق.
لا أرقَ ولا قلق ولا ضيق ولا تضييق، بل سعة ورحمة، ورضىً ونعمة: ذ?لِكَ ?لْفَضْلُ مِنَ ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ عَلِيماً [النساء:70]. وذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:12].
الإيمان بالله هو سكينة النفس، وهداية القلب، وهو منار السالكين وأمل اليائسين، إنه أمان الخائفين ونصرة المجاهدين. وهو بشرى المتقين ومنحة المحرومين. الإيمان هو أب الأمل وأخ الشجاعة وقرين الرجاء. إنه ثقة النفس ومجد الأمة وروح الشعوب.
وأول منافذ الوصول إلى حلاوة الإيمان وطعم السعادة الرضى بالله عز وتبارك رباً مدبراً فهو القائم على كل نفس بما كسبت، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، قيوم السماوات والأرضين، خالق الموت والحياة والأكوان. مسبغ النعم، مجيب المضطر إذا دعاه وكاشف السوء. أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، سوَّى الإنسان ونفخ فيه من روحه، أطعمه من جوع، وكساه من عري، وآمنه من خوف، وهداه من الضلالة، وعلمه من بعد جهالة.
إيمان بالله تستسلم معه النفس لربها، وتنزع الى مرضاته، تتجرد عن أهوائها ورغباتها، تعبده سبحانه وترجوه، تخافه وتتبتل اليه، بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، رضىً بالله ويقين يدفع العبد الى أن يمد يديه متضرعاً مخلصاً: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) [3].
ومذاق الحلاوة الثاني ـ أيها الإخوة ـ: الرضى بالإسلام ديناً، دين من عند الله أنزله على رسوله ورضيه لعباده ولا يقبل ديناً سواه.
اسمعوا إلى هذا التجسيد العجيب للرضى بدين الله؛ غضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه على زوجته عاتكة فقال لها: والله لأسوأنك. فقالت له: أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله إليه؟ فقال: لا. فقالت: أي شيء يسوءني إذن؟! الله أكبر... إنها واثقة مطمئنة راضية مستكينة مادام دينها محفوظاً عليها حتى ولو صب البلاء عليها صباً.
بل إن إزهاق الروح مستطاب في سبيل الله على أي جنب كان في الله المصرع. الإسلام منبع الرضاء والضياء، ومصدر السعادة والاهتداء.
ومذاق الحلاوة الإيمانية الثالث: الرضى بمحمد رسولاً ونبياً. محمد الناصح الأمين، والرحمة المهداة، والأسوة الحسنة، فلا ينازعه بشر في طاعة، ولا يزاحمه أحد في حكم: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65].
الرضى بمحمد اهتداءً واقتداءً. وبسنته استضاءةً وعملاً.
أيها الإخوة، إذا صح الايمان ووقر في القلب فاض على الحياة، فإذا مشى المؤمن على الأرض مشى سوياً، وإذا سار سار تقيا، ريحانة طيبة الشذى، وشامة ساطعة الضياء. حركاته وسكناته إيمانية مستكينة: ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) [4].
من ذاق حلاوة الايمان طاب عيشه، وعرف طريقه، ومن عرف طريقه سار على بصيرة، ومن سار على بصيرة نال الرضى وبلغ المقصد.
نعم يمضي في سبيله لا يبالي بما يلقى، فبصره وفكره متعلق بما هو أسمى وأبقى يأَيَّتُهَا ?لنَّفْسُ ?لْمُطْمَئِنَّةُ ?رْجِعِى إِلَى? رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً [الفجر:27، 28]. أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ [الزمر:22].
هل رأيت ـ رحمك الله ـ زياً ومنظراً أحسن وأجمل من سَمْت الصالحين؟!
وهل رأيت ـ وفقك الله ـ تعباً نصباً ألذ من نعاس المتهجدين؟!
وهل شاهدت ـ حفظك الله ـ ماءً صافياً أرق وأصفى من دموع النادمين على تقصيرهم والمتأسفين؟!
وهل رأيت ـ رعاك الله ـ تواضعاً وخضوعاً أحسن من انحناء الراكعين وجباه الساجدين؟!
وهل رأيت ـ عافاك الله ـ جنة في الدنيا أمتع وأطيب من جنة المؤمن وهو في محراب المتعبدين؟! إنه ظمأ الهواجر ومجافاة المضاجع... فيالذة عيش المستأنسين.
هذه حلاوتهم في التعبد التحنث.
أما حلاوتهم في سبح الدنيا وكدها وكدحها. فتلك عندهم حلاوة إيمانية تملأ الجوانح بأقدار الله في الحياة. اطمئنان بما تجري به المقادير، رضىً يسكن في الخواطر فيقبل المؤمن على دنياه مطمئناً هانئاً سعيداً رضياً. مهما اختلفت عليه الظروف وتقلبت به الأحوال والصروف. لا ييأس على ما فات ولا يفرح بطراً بما حصل. إيمان ورضىً مقرون بتوكل وثبات، يعتبر بما مضى ويحتاط للمستقبل ويأخذ بالأسباب، لا يتسخط على قضاء الله، ولا يتقاعس عن العمل، يستفرغ جهده من غير قلق، شعاره ودثاره: وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
موقن أن ((ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه)) [5]. لو اجتمع أهل الأرض والسماوات على نفعه بغير ما كتب له فلن يستطيعوا، ولو اجتمعوا على منعه عما قدر له فلن يبلغوا. لا يهلك نفسه تحسراً، ولا يستسلم للخيبة والخذلان. معاذ الله أن يتلمس الطمأنينة في القعود والذلة والتخاذل والكسل، بل كل مسارات الحياة ومسالكها عنده عمل وبلاء، وخير وعدل، وميدان شريف للمسابقات الشريفة. جهاد ومجاهدة في رباطة جأش، وتوكل وصبر. ظروف الحياة وابتلاءاتها لا تكدر له صفاءً ولا تزعز له صبراً ((عجبا لأمر المؤمن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا لمؤمن)) [6].
بالإيمان الراسخ يتحرر المؤمن من الخوف والجبن والجزع والضجر قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
((لا مانع لما أعطى ربنا، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد)) [7].
و رَبَّكَ يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ [الإسراء:30].
حلاوة ورضاً تقوم في حياة الكفاح على هذه الأصول والمبادئ؛ إذا أعطي تقبل وشكر، وإذا منع رضي وصبر، وإذا أمر ائتمر، إذا نهي ازدجر، وإذا أذنب استغفر.
بهذا الإيمان وبهذا المذاق ينفك المؤمن من ربقة الهوى، ونزعات النفس الأمَّارة بالسوء وهمزات الشياطين وفتن الدنيا بنسائها ومالها وقناطيرها ومراكبها وسائر مشتهياتها وزينتها، سعادة وحلاوة ملؤها القناعة. سعادة وحلاوة يتباعد بها عن الشح والتقتير والبخل والإمساك، وينطلق في معاني الكرم والإيثار والعطاء.
إن في حلاوة الإيمان ترطيباً لجفاف المادة الطاغية، وحداً من غلواء الجشع والجزع، وغرساً لخلال البر والمرحمة. ومن ثم تتنزل السكينة على القلوب، وتغشى الرحمة النفوس: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].
أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لإيمَـ?نَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ [المجادلة:22].
فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123].
مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الإيمان – باب الدليل على أن من رضي الله رباً... حديث (34).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الإيمان – باب حلاوة الإيمان، حديث (16)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، حديث (43).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الصلاة – باب ما يقال في الركوع والسجود، حديث (486) عن عائشة قالت: فقدت رسول الله ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدمه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: ((اللهم أعوذ...)).
[4] صحيح، جزء من حديث قدسي أخرجه البخاري: كتاب الرقاق – باب التواضع، حديث (6502).
[5] صحيح، جزء من حديث أخرجه الترمذي: كتاب القدر – باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره، حديث (2144)، وقال: حديث غريب، وأبو داود: كتاب السنة – باب في القدر، حديث (4699، 4700)، وابن ماجه : المقدمة – باب في القدر، حديث (77). قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني، وأبو الحجاج لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح (7/199)، وصححه الألباني بشواهده. انظر السلسلة الصحيحة (2439).
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق – باب المؤمن أمره كله خير، حديث (2999).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأذان – باب الذكر بعد الصلاة، حديث (844)، ومسلم: كتاب الصلاة – باب اعتدال أركان الصلاة... حديث (471)، وباب ما يقول إذا رفع رأسه.... حديث (477).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، أحمده سبحانه وأشكره، فضله مرتجىً وفي عفوه الطمع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، منح الخير وللمكروه دفع، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، دعا إلى الحق وجاهد في الله وأشاد منار الإسلام ورفع، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الإيمان والرضى والتقى والورع والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الفزع.
أما بعد: فاتقوا الله رحمكم الله، فالسعيد من خاف يوم الوعيد وراقب ربه واتقاه فيما يبدئ وما يعيد.
أيها المسلمون، من ضعف إيمانه يضج من البلاء؛ لأنه لا يعرف المبتلي، ويخاف السفر؛ لأنه لا زاد له، ويضل الطريق؛ لأنه لا دليل معه.
فيالخسارة المستوحشين: فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ [الزمر:22].
من فقد الإيمان انفرط أمره وانحل عقده، يقول ويفعل من غير رقيب، ويسير في دنياه من غير حسيب، سيرته مطبوعة بطابع الأثرة والأنانية. معدوم الثقة بنفسه وبالناس يحل التدابر عنده محل التراحم، التفرق محل التعاون.
بغير الإيمان وحلاوة الإيمان يعود الناس وحوشاً ضارية، يقطعون حبالهم مع الله ومع الناس، انقادوا لنفوسهم الأمارة بالسوء، واجتالتهم شياطين الجن والإنس.
والحضارة المعاصرة بمادياتها المغرقة وتقنياتها الجافة خير شاهد على أن السعادة والحلاوة لا تحققها شهوات الدنيا ولا مادياتها، لا ترى المرء فيهم إلا منهوماً لا يشبع، شهواته مستعرة ورغباته متشعبة، يجره الحرص على الخصام فيشقى ويشقي، ويغرس العداوة والعدوان حيثما حل وارتحل.
لقد أورثتهم حياتهم هذه أمراضاً نفسية، واضطرابات إجتماعية، وتقلبات فكرية، كان مفزعهم إلى المخدرات والمهدئات والعيادات النفسية والعلاجات العصبية وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124]. وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ?لسَّمَاء [الأنعام:125].
ألا فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ، وآمنوا بربكم، وأطيعوا رسولكم، واستمسكوا بدينكم (رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناَ وبمحمدٍ رسولاً ونبياً).
(1/56)
كفالة اليتيم
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
واجب الأمة في القيام برعاية مصالح الأفراد وحقوقهم والأدلة على ذلك , وعاقبة التفريط
في ذلك – كذب دعاوى حقوق الإنسان في ظل المجتمعات الحديثة – يُتْم النبي صلى الله عليه
وسلم وما في ذلك من فوائد ودِلالات – اهتمام الشرع باليتيم والوصية به – التحذير من أكل
أموال اليتيم بالباطل
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله فإن تقوى ربكم عليها المعول، والزموا سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصدر الأول.
أيها المسلمون، الأمة مكلفة برعاية مصالحها وحقوقها، مأمورة بالتعاون فيما بينها على البر والتقوى، والمودة والنصرة.
التفاضل فيما بينها بالتقوى والعمل الصالح، والتسابق في البر والمعروف، والتنافس في الفضل والإحسان.
ودين الإسلام أثبت لها حقوقاً وواجبات في فئاتها وطبقاتها.
إنها حقوق وواجبات ثابتة، مقرونة بحق الله سبحانه في الإفراد بالعبادة:
وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36].
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَـ?دَكُمْ مّنْ إمْلَـ?قٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، الآيات إلى آخر الحقوق العشرة في قوله سبحانه: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
وقوله سبحانه في مقام آخر: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [الإسراء:23]، في سبع عشرة آية مختتمة بقول الحق سبحانه: ذ?لِكَ مِمَّا أَوْحَى? إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ?لْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هًا ءاخَرَ فَتُلْقَى? فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:39].
حقوق عظمى، ووصايا كبرى، التقصير فيها من الكبائر، والتفريط فيها من الموبقات. حقوق للوالدين والأقربين، واليتامى والمساكين، وأبناء السبيل والجيران، والأصحاب والأغراب.
وهذه وقفة ـ معاشر الأحبة ـ مع حق من هذه الحقوق تضمنته هذه الآيات الكريمات، حق عظيم يتأكد التذكير به، والمسلمون بمشكلاتهم ومحنهم يتزايد فيهم صاحب هذا الحق وتتنوع في تكاثره الأسباب، إنه حق اليتيم؛ يتيم أفغانستان، ويتيم البوسنة والهرسك، ويتيم الصومال، واليتيم المسلم في كل مكان.
أيها الإخوة، ومن أجل إبراز محاسن الإسلام، والتذكير بسبقه في هذا الميدان وكل ميدان، تحسن الإشارة إلى تعاظم النفاق الدولي المعاصر حول حقوق الانسان. لقد أعلنوا عن هذه الحقوق حين كان الدب الأحمر الشيوعي فاغراً فاه ليلتقم ديموقراطيتهم، وما تسيطر عليه من أرزاق الناس وأسواق العالم. يا ترى من هو هذا الإنسان الذي نادوا بحقوقه، وأظهروا التعاطف معه؟!
إن المتبصر يرى أناساً كثير تهدر حقوقهم في أحضان دعاة هذه الحقوق وبين ظهرانيهم، يا ترى ما حال أهل البوسنة والهرسك؟!
إن كثيراً من هذه الشعوب بواقع حالها وما يجري أمام أعينها تدرك أن الإنسان المقصود أعلاه، هو عندهم جنس من المواد الخام، يولد ليستثمر أو يستهلك. في مقياسهم لكل لون من البشر قيمته، ولكل ملة من الملل حسابها.
القوي عندهم له حق وليس عليه واجب، والضعيف عليه واجب وليس بإزائه حق.
وليعلم حق العلم أن الرعاية الدقيقة للحقوق لا تتحقق على وجهها بمجرد قانون من عندهم يصدر، أو دستور ملزم، فكم من تشريعات وضعت، ومعاهدات أبرمت، وظل السلب والنهب على أيدي اللصوص يسطون بقوتهم وتلاعبهم، ويستطيلون بمكرهم وتلونهم.
لا يمنع إلا التقوى الصادقة والوازع الديني الخالص. إن مظلة العدالة في الإسلام تحمي الضعاف، وتحنوا على الصغار، وتحفظ حقوقهم، وتنظم علاقاتهم، فلا يُستذل ضعيفٌ لضعفه، ولا يُعتدى على عاجز لعجزه.
ولقد ذلت ـ ولسوف تذل ـ كل أمة تضيع ضعيفها ويتيمها، وتجعل من نفسها مسبعة لا يعيش فيها إلا الوحوش الضارية، أو الثعالب الماكرة.
إذا كان الأمر كذلك ـ أيها الإخوة ـ فحسب اليتامى أن يكون أسوتهم محمداً فتلك ـ وربك ـ هي الإنسانية بجلالتها، وهي الحقوق بأسمى معانيها.
وحسب الأوصياء أن يعلموا أن يُتْمَ محمدٍ قد رعاه ربه وتولاه، فآواه وهداه أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى? [الضحى:6].
وحسب كافل اليتيم أن يكون مع النبي في جنات عدن كهاتين، وأشار عليه الصلاة والسلام بإصبعه السبابة والوسطى [1].
وقد يرغب محب الخير أن يعرف السر في بلوغ الكافل هذه المنزلة العظيمة، والرتبة الشريفة ليكون قريناً لنبيه في المقام العظيم.
يقول أهل العلم: إن محمداً كتب الله على يديه هداية قوم كانوا في ضلال مبين، قام عليهم، وأصلح شأنهم، علمهم وأرشدهم، ودلهم على الحق والطريق المستقيم.
وكذلك كافل اليتيم، يحفظ يتيمه في حال صغره لا يعقل ولا يفقه، فيدله ويهديه، ويهذبه ويربيه، فإذا ما بلغ مبلغ الرجال، كان رجلاً سوياً، محفوظ الحقوق، موفور الكرامة، مع ما يتحمل الكافل من تبعات الوصاية والرعاية، وشؤون التربية وحسن العناية، وما يحف بذلك من تقوى ونزاهة وعفاف.
هذه هي الإنسانية، وهذه هي حقوقها في دين الله.
أيها الإخوة في الله: إن لليتيم حظاً موفوراً في نصوص الكتاب والسنة، رعاية وحفظاً، وتربية وتأديباً، وعناية شديدة في الكف عن إيذائه وقهره، وزجره أو نهره.
لقد تنزلت الآيات في حقه في أوائل ما تنزل من القرآن المكي: فَأَمَّا ?لْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ [الضحى:9]. أَرَءيْتَ ?لَّذِى يُكَذّبُ بِ?لدّينِ فَذَلِكَ ?لَّذِى يَدُعُّ ?لْيَتِيمَ [الماعون:1،2]. كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ?لْيَتِيمَ [الفجر:17]. فَلاَ ?قتَحَمَ ?لْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا ?لْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ [البلد:11-15].
وفي الحديث: ((إني أُحَرِّجُ عليكم حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة)) [2].
وفي حديث عند مسلم: ((كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة)) [3]. قال الإمام ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي في الجنة. ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يجلس على طعام إلا على مائدته أيتام.
أيها الإخوة المسلمون، اليتيم فرد من أفراد الأمة ولبنة من لبناتها. غير اليتيم يرعاه أبواه، يعيش في كنفهما تظلله روح الجماعة، يفيض عليه والداه من حنانهما، ويمنحانه من عطفهما، ما يجعله ـ بإذن الله ـ بشراً سوياً، وينشأ فيه إنشاءً متوازناً.
أما اليتيم فقد فَقَدَ هذا الراعي، وفاحش بالعزلة، ومال إلى الانزواء، ينشد عطف الأبوة الحانية، ويرنو إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه، يتطلع إلى من ينسيه مرارة اليتم وآلام الحرمان.
كم من أم لأيتام يحوم حولها صبيتها وعينهم شاخصة نحوها، لعلهم يجدون عندها إسعافاً.
وإن شئتم أن تذرفوا الدمع ساخناً فاذكروا ساعة الاحتضار وَدُنوِّ الأجل، وتذكروا حال الصبية الصغار والذرية الضعاف الذين يتركهم هذا المحتضر وراءه، يخشى عليهم ظروف الحياة، وبلاء الدهر، يتمنى لهم ولياً مرشداً يرعاهم كرعايته، ويربيهم كتربيته، يعوضهم بره وعطفه.
من تذكر هذه الساعة، وعاش هذه الحالة، فليذكر حال اليتيم وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].
إن اليتيم إذا لم يجد من يستعيض به حنان الأب المشفق والراعي الرافق، فإنه سيخرج نافر الطبع، وسيعيش شارد الفكر، لا يحس برابطة، ولا يفيض بمودة.
وقد ينظر نظر الخائف الحذر، بل قد ينظر نظر الحاقد المتربص، وقد يتحول في نظراته القاتمة الى قوة هادمة.
أيها المسلمون، من خيار بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه.
خفض الجناح لليتامى والبائسين دليل الشهامة، وكمال المروءة. ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء)) [4] ، وتحفظ من المحن والبلايا. إن كنت تشكو قسوة في قلبك فأدْن منك اليتامى، وامسح على رؤوسهم، وأجلسهم على مائدتك، وألن لهم جانبك.
إذا رجوت أن تتقي لفح جهنم فارحم اليتامى وأحسن إليهم وَيُطْعِمُونَ ?لطَّعَامَ عَلَى? حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ?للَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (1/57)
الإصلاح بين الناس
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية إصلاح ذات البين وارتباطه بالإيمان , وخطورة إغفاله وأثر ذلك في الواقع -
فقه إصلاح ذات البين ومسالكه وكيفيته – التحذير من الخصومة والتمادي فيها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
أيها المسلمون، أصلحوا ذات بينكم، فالإصلاح عنوان الإيمان في الإخوان: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].
الإصلاح مصدر الطمأنينة والهدوء ومبعث الاستقرار والأمن، وينبوع الألفة والمحبة.
أيها الإخوة، لقد أقضت مضاجع القضاة القضايا، وامتلأت كثيراً من السجون بالبلايا، ناهيك بما في مراكز الشرطة وأسرة المشافي من المآسي. بل إن مشكلات الأمة الكبرى في الصومال وأفغانستان، ومواقع من ديار المسلمين أخرى تحتاج كل الحاجة إلى الصالحين المصلحين.
ألا ينبري خيرون بمساعي حميدة هنا وهناك ليطفئوا نار الفتن وينزعوا فتيل اللهب؟!
إن التنازع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، سافك للدماء، مبدد للثروات. وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46]. بالخصومات والمشاحنات تنتهك حرمات الدين، ويعم الشر القريب والبعيد. ومن أجل ذلك سمى رسول الله فساد ذات البين بالحالقة، فهي لا تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين.
إن الأمة تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين، ويعيد الوئام إلى المتنازعين. إصلاح تسكن به النفوس، وتأتلف به القلوب. إصلاح يقوم به عصبة خيرون، شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت منابتهم، وإنهم بمثل هذه المساعي الخيرة يبرهنون على نبل الطباع وكرم السجايا.
فئات من ذوي الشهامة من الرجال والمقامات العلية من القوم، رجال مصلحون ذو خبرة وعقل وإيمان وصبر، يخبرون الناس في أحوالهم ومعاملاتهم، حذاق في معالجة أدوائهم، أهل إحاطة بنفوس المتخاصمين وخواطر المتباغضين والسعي بما يرضي الطرفين.
أيها الإحبة، إن سبيل الإصلاح عزيمة راشدة، ونية خيرة، وإرادة مصلحة.
وبريد الإصلاح، حكمة المنهج، وجميل الصبر، وطيب الثناء، سبيل وبريد يقوم به لبيب تقي يسره أن يسود الوئام بين الناس: وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:129].
أيها الإخوة، وللإصلاح فقه ومسالك دلت عليها نصوص الشرع وسار عليها المصلحون المخلصون.
إن من فقه الإصلاح النية، وابتغاء مرضاة الله، وتجنب الأهواء الشخصية والمنافع الدنيوية. إذا تحقق الإخلاص حل التوفيق وجرى التوافق وأنزل الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.
أما من قصد بإصلاحه الترؤس والرياء وارتفاع الذكر والاستعلاء فبعيد أن ينال ثواب الآخرة، وحري ألا يحالف التوفيق مسعاه وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114].
ومن فقه الإصلاح سلوك مسلك السر والنجوى. فلئن كان كثير من النجوى مذموماً فإن ما كان من صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهو محمود مستثنى: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114].
أيها الإخوة، وهذا فقه في الإصلاح دقيق، فلعل فشل كثير من مساعي الصلح ولجانه بسبب فشو الأحاديث، وتسرب الأخبار، وتشويشات الفهوم مما يفسد الأمور المبرمة والاتفاقيات الخيرة.
إن من الخير في باب الإصلاح أن يسلك به مسلك النجوى والمسارة، فمن عرف الناس وخبر أحوالهم لاسيما فيما يجري بينهم من منازعات وخصومات وما يستتبع ذلك من حبٍ للغلبة وانتصار للنفس أدرك دقة هذا المسلك وعمق هذا الفقه. إن من الناس من يأبى أن يسعى في الصلح فلان أو فلانةٌ، وآخر يصر على أن تكون المبادرة من خصمه. وتمشياً مع هذه المسالك السرية والتحركات المحبوكة أذن الشارع للمصلح بنوع من الكذب في العبارات والوعود.
((فليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيراً، أو يقول خيراً)) [1]. هذا هو حديث رسول الله ، وفي خبر آخر عنه يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يصلح الكذب إلا في ثلاث؛ رجل يصلح بين اثنين، والحرب خدعة، والرجل يصلح امرأته)) [2]. ويقول نعيم بن حماد: قلت لسفيان بن عيينة: أرأيت الرجل يعتذر من الشيء عسى أن يكون قد فعله ويُحرِّف فيه القول ليرضي صاحبه أعليه فيه حرج؟ قال: لا. ألم تسمع قوله : ((ليس بكاذب من قال خيراً، أو أصلح خيراً، أو أصلح بين الناس)) [3] ، وقد قال الله عز وجل: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء:114]. إنها النفوس الشحيحة التي تحمل صاحبها وغيرها على ما تكره.
ولكن في مقابل هذه النفوس الشحيحة يترقى أصحاب المروءات من المصلحين الأخيار ليبذلوا ويغرموا، نعم يبذلون الوقت والجهد، ويصرفون المال والجاه، ولقد قدر الإسلام مروءتهم، وحفظ لهم معروفهم، فجعل في حساب الزكاة ما يحمل عنهم غرامتهم ـ بارك الله فيهم ـ لئلا يُجْحِفَ ذلك بسادات القوم المصلحين.
أيها الإخوة في الله، وميدان الصلح واسع عريض؛ في الأفراد والجماعات والأزواج والزوجات، والكفار والمسلمين، والفئات الباغية والعادلة، في الأموال والدماء، والنزاع والخصومات.
ومن أجل ذلك فقد عظم ثوابه، وكبر أجره، فهو أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدِّينَ)) [4]. ولقد باشر الصلح بنفسه عليه الصلاة والسلام حين تنازع أهل قباء، فندب أصحابه وقال: ((اذهبوا بنا نصلح بينهم)) [5].
وخرج عليه الصلاة والسلام للإصلاح بين أناس من بني عوف حتى تأخر عن صلاة الجماعة [6].
والإمام الأوزاعي رحمه الله يقول: (ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين).
إذا كان الأمر كذلك ـ أيها الاخوة ـ، فمن ذا الذي لا يقبل الصلح ولا يسعى فيه، ليسوا إلا أناس قد قست قلوبهم، وفسدت بواطنهم وخبثت نياتهم؛ حتى كأنهم لا يحبون إلا الشر، ولا يسعون إلا في الفساد، ولا يجنحون إلا إلى الظلم.
والأشد والأنكى أن ترى فئات من الناس ساءت أخلاقها، وغلظت أكبادها، لا يكتفون بالسكوت والسكون، بل في أجوائهم يستفحل الخصام، ويقسو الكلام، وما أشبه هؤلاء بأعداء الإسلام وأهل النفاق، إنهم يلهبون نار العداوة ويوقدون سعير البغضاء كلما خبت نار الفتن أوقدوها. ولا غرو بعد ذلك أن تضيع الحقوق، وتهدر الحرمات، ويرق الدين، وتنزع البركات.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، اتقوه وأصلحوا ذات بينكم.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلح – باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، حديث (2692)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الكذب... حديث (2605).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (6/459)، والترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في إصلاح ذات البين، حديث (1939)، وقال: حديث حسن، وأبو داود بنحوه، كتاب الأدب – باب في إصلاح ذات البين، حديث (4921)، حديث (4921)، وأخرجه مسلم بالمعنى: كتاب البر والصلة – باب تحريم الكذب... حديث (2605).
[3] هذه رواية المعنى للحديث المتفق عليه الذي تقدم في الحاشية رقم (1).
[4] صحيح دون قوله: ((لا أقول...))، أخرجه أحمد (6/444)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في إصلاح ذات البين، حديث (4919)، والترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع – باب حدثنا هناد... حديث (2509)، وقال: حديث صحيح، وأشار إلى ضعف الرواية المذكورة بقوله: ويُروى عن النبي أنه قال: ((هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)). وصححه ابن حبان (5092)، وحسنه المنذري في الترغيب (3/321)، ونقل الحافظ ابن حجر عن البزار تصحيحه لإسناده، الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/270)، وانظر غاية المرام للألباني (414).
[5] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلح – باب قول الإمام لأصحابه... حديث (2693).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأذان – باب من دخل ليؤم الناس... حديث (684)، ومسلم: كتاب الصلاة – باب تقديم الجماعة من يصلي بهم... حديث (421).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، لا تحصى نعمة ولا تحد، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا رسول الله محمد، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، فتقوى الله خير زاد.
أيها الإخوة، الكريم لا يحقد ولا يحسد ولا يبغي ولا يفجر، إن بلغه عن أخيه ما يكرهه التمس عذراً، فقد علم أن الاعتذار يذهب الهموم، ويجلي الأحزان، ويرفع الأحقاد، ويزيل الصدود.
إن حقاً على ـ إخوة الإيمان ـ أن يسود بينهم أدب المحبة، أدب ينفي الغش والدغل مع استسلام لله بما يصنع، ورضاً بما يكتب.
اسمعوا رحمكم الله إلى هذا الحديث: روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر الله لكل عبد مسلم لا يشرك إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)) [1]. قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: يدل هذا الحديث على أن الذنوب إذا كانت بين العباد فسامح بعضهم بعضاً سقطت المطالبة بها من قبل الله عز وجل. الله أكبر يا عباد الله: مَّا يَفْعَلُ ?للَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ [النساء:147].
وسمع رسول الله صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما؛ إذا أحدهم يستوضع الآخر ويسترفقه – أي يطلب منه أن يخفف عنه دينه -، وهو يقول: والله لا أفعل. فخرج عليهما رسول الله وهو يقول: ((أين المتألي على الله ألا يفعل المعروف؟)) فقال: أنا يا رسول الله. فله أي ذلك أحب [2]. فعدل الرجل عن يمينه، واستجاب لتذكير رسول الله ، طاعة لله ورسوله، واستجابة لداعي الحق.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله؛ فمن أراد الثواب الجزيل الذكر الجميل وراحة القلب فليحلم على الجاهل، وليعفو عن المعتدي وليقبل الصلح فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ?للَّهِ [الشورى:4].
هذا وصلوا وسلموا على نبي الهدى ودين الحق، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب النهي عن الشحناء والتهاجر، حديث (2565).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلح – باب هل يشير الإمام بالصلح، حديث (2705)، ومسلم: كتاب المساقاة – باب استحباب الوضع من الدين، حديث (1557).
(1/58)
صلوا أرحامكم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية صلة الرحم وأثره – كيف تتحقق صلة الرحم – من هم أولو الأرحام ؟ - فضل صلة
الرحم وعاقبة القطيعة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله ربكم، اتقوه تقوى من خاف ورجا فاستقام، وأدوا حقوقه التي افترضها عليكم في دين الإسلام، واشكروا المولى على ما أولى من الأفضال وجزيل الإنعام.
أيها الإخوة: صلاح الأسرة طريق أمان الجماعة، وصلة الرحم سبيل حفظ الأمة. فالزوجان وما بينهما من وطيد العلاقة، والوالدان وما يترعرع في أحضانهما من الولدان، والأقربون وأولو الأرحام وما ينتشر بينهم من وئام، كل أولئك يمثل الجماعة المجتمعة والأمة المؤتلفة في طبيعتها وبنائها وحاضرها ومستقبلها، من خلال هذا البناء تمتد وشائج القربى، وتتقوى أواصر التكافل، ترتبط النفوس بالنفوس، وتتعانق القلوب، في هذه الروابط المتماسكة والرحم الموصولة تنموا الخصال الكريمة وتنشأ الأجيال الوفية: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
لقد شاء المولى تعالى وتبارك بلطفه وتدبيره وحكمته وتقديره أن يكون بناء الإنسانية على وشيجة الرحم وقاعدة الأسرة من ذكر وأنثى من نفس واحدة وطبيعة واحدة. رحم وقربى تتوثق عراها، ويتجدر نباتها ليقوم على سوقه بإذن ربه، فيحمي من المؤثرات ويحفظ من العاديات.
وفي كتاب الله اقترن حق الله وحق الوالدين وحق الأقربين في أكثر من آية ووصية: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? [النساء:36]، وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23] ثم قال سبحانه: وَءاتِ ذَا ?لْقُرْبَى? حَقَّهُ وَ?لْمِسْكِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء:26].
وفي مقام آخر قرنت الرحم بحق الله في التقوى وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] اتقوها أن تقطعوها، واعرفوا حقها أن تهضموها.
يقول بعض أهل العلم: ما بعث أنبياء الله في أواسط البيوت من أقوامهم إلا لما يقدر الناس من أمر الرحم، ويعرفون من شأن القرابة: قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ?لْمَوَدَّةَ فِى ?لْقُرْبَى? [الشورى:23].
وحينما قلت عشيرة نبي الله لوط عليه السلام وضعف ركن قرابته أعذر نفسه بقوله: قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إِلَى? رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]. ومن ثم قال نبينا محمد : ((يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه)) [1].
ومن بعد لوط قال قوم شعيب لشعيب عليه السلام: وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـ?كَ [هود:91] وامتن الله على نبيه محمد بقوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى? [الضحى:6].
أيها الإخوة، ما سميت الرحم رحما إلا لما فيه من داعية التراحم وأسباب التواصل ودوافع التضامن.
وقد قال علي رضي الله عنه: (عشيرتك هم جناحك الذي بهم تحلق، وأصلك الذي به تتعلق، ويدك التي بها تصول، ولسانك الذي به تقول، هم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعُد سقيمهم، ويسر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك).
وما المرء ولا المروءة إلا رحم موصولة، وحسنات مبذولة، وهفوات محتملة، وأعذار مقبولة.
بصلة الرحم تقوى المودة وتزيد المحبة وتشتد عرى القرابة وتضمحل البغضاء ويحن ذو الرحم إلى أهله.
وفي الخبر عنه : ((إن صلة الرحم محبة في الأهل، ومثراة في المال، ومنسأة في الأثر)) [2]. بصلة الرحم تزيد الأعمار، وتعمر الديار وتبارك الأرزاق، وتستجلب السعادة، وتتقى مصارع السوء.
أيها الأحبة، إذا كتب الله لعبده التوفيق فكان ألفا مألوفا محبا لأهله،رفيقا بأقربائه، حفيا بعشيرته، انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع بالإحسان من حاسديه، فسلمت له نعمته، وصفت له معيشته فيجتمع عليه الشمل،ويمتنع عنه الذل، وخير الناس أنفعهم للناس.
ولقد علم العقلاء والحكماء وأصحاب المروءات أن تعاطف ذوي الأرحام وتواد أهل القربى يبعث على التناصر والألفة ويجنب التخاذل والفرقة.
النفس الرحيمة الواصلة، الكريمة الباذلة، يورث الله لها ذكرا حسنا في الحياة وبعد الممات، الألسن تلهج بالثناء والأيدي تمتد بالدعاء. تعيش بين الناس بذكرها وذكراها أمداً طويلا.يبارك لها في الحياة فتكون حافلة بجليل الأعمال وجميل الفعال وعظيم المنجزات وكثرة الآثار. من وصل أقاربه أحبه الله وأحبه الناس ووضع له الذكر والقبول. وجبلت النفوس على حب من أحسن إليها، ألم تقل الرحمُ وهي متعلقة بعرش الرحمنِ: ((من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله)) [3] ؟؟.
وقال لها رب العزة في الحديث القدسي: ((من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته)) [4]. وإنكم لتعلمون أن من وصلة الله فلن ينقطع أبدا.
((فمن سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) [5].
أيها المسلم، من حق أهلك وأرحامك أن تعود مريضهم وتواسي فقيرهم، وتتفقد محتاجهم، وترحم صغيرهم، وتكفل يتيمهم، تبشُّ بهم عند اللقاء وتلين لهم في القول، وتحسن لهم في المعاملة، ما بين زيارة وصلة، وتفقدٍ واستفسارٍ، ومهاتفة ومراسلة، تبذل المعروف، وتبادل الهدايا والتحيات. في حب وعدل وإحسان وفضل، وخفض جناح ودعاء.
أيها الأخ الفاضل: ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن عليك أن تصلهم وإن جفوا، وتحلم عليهم وإن جهلوا، وتحسن إليهم ولو أساءوا، فقد قال نبيك محمد : ((ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قَطعتْ رحمهُ وصلها)) [6].
نعم ـ حفظك الله ـ إن من صلة الرحم أن تغفر الهفوة، وتستر الزلة ؛ فأي صارم لا ينبو؟ وأي جواد لا يكبوا؟ وما العقل والفضل والنبل إلا إن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحلم على من جهل عليك. ويزداد النبل ويعظم الفضل وتسمو النفس حين تحسن الظن بهم وتحمل أخطاءهم على المحمل الحسن. وتنظر في عثراتهم نظر العاذر الكريم.
اسمع ـ رعاك الله ـ إلى هذه القصة التي تنضح نبلا وشرفاً:
حكي عن بنت عبد الله بن مطيع أنها قالت لزوجها طلحة بن عبدالرحمن بن عوف – وكان أجود قريش في زمانه- قالت: يا طلحة ما رأيت قوما ألأمَ من اخوانك؟؟؟ قال: ولم ذاك ؟ قالت: أراهم إذا أيسرتَ وكثر مالك زاروك ولزموك، واذا أعسرت تركوك ؟؟؟ قال: هذا والله من كرمهم ؛ يأتوننا في حال القوة بنا عليهم، ويتركوننا في حال الضعف بنا عنهم.
فانظروا – كيف تأوَّل بكرمه هذا التأويل، وفسر بنبيل أخلاقه هذا التفسير، حتى جعل قبيح فعلهم حسنا وظاهر غدرهم وفاءا. وهذا محض الكرم ولباب الفضل وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأولوا الهفوات ويمحوا الزلات من إخوانهم وأرحامهم وأصهارهم، انه تغافل مع فطنه، وتآلف صادر عن وفاء. وعلاقات الرحم ووشائج القربى لا تستقيم ولا تتوثق إلا بالتغافل، فمن شدد نفَّر، ومن تغاضى تآلف، والشرف في التغافل، وسيد قومه المتغابي.
أين هذا – أيها الناس – من أناس ماتت عواطفهم، وغلب عليهم لؤمهم؟؟ فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب، ولا يود عشيرة، إن قربوا أقصاهم، وإن بعدوا تناساهم، بل يبلغ به اللؤم أن يقرب أصحابه وزملاءه، ويجفوا أهله وأقرباءه، يحسن للأبعدين، ويتنكر للأقربين، بطون ذوي رحمه جائعة، وأمواله في الأصدقاء والصِحاب ضائعة. تراه يحاسب لهفوة صغيرة، ويقطع رحمه لزلة عابرة، إما بسبب كلمة سمعها، أو وشايه صدقها، أو حركة أساء تفسيرها.
معاذ الله عباد الله ربما كان بين الإخوة والأقارب من القطيعة ما يستحقون به لعنة الله من فوق سماواته إقرؤا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23]. نعم يستحقون اللعنة، وتحل بهم النقمة وتزول عنهم النعمة. والجنة تبلغ ريحها خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحمٍ.
من لم يصل رحمه ويتعاهد بخيره أقاربه فلا خير فيه ولا نفع منه. من ذا الذي قد فاض ماله يأكل ويشرب ويكتسي ويتمتع وأقاربه الضعفاء عراة جائعون، ورحمه البؤساء مهملون ضائعون؟؟؟.
ولقد قال علي بن الحسين رضي الله عنه وعن آبائه: (يا بني لا تصحبن قاطع رحم فإني رأيته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع، ومن لم يصلح لأهله لم يصلح لك ومن لم يذب عنهم لم يذبَّ عنك).
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واحذروا سخط ربكم وصلوا أرحامكم وَأُوْلُو ?لاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى? بِبَعْضٍ فِى كِتَـ?بِ ?للَّهِ [الأحزاب:6].
[1] حسن بهذا اللفظ، أخرجه أحمد (2/533)، وأخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن – سورة يوسف، حديث (3116) بنحوه وحسنه. وذكره الحافظ في الفتح (6/415-416)، والحديث أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء – باب لوطاً إذ قال لقومه... حديث (3375)، ومسلم: كتاب الفضائل – باب من فضائل إبراهيم الخليل حديث (151) كلاهما دون قوله: ((ولكنه عنى قومه...)).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/374)، والترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في تعليم النسب، حديث (1979)، والطبراني في الأوسط بنحوه (7810)، وصححه الحاكم (4/161). وقال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني من حديث العلاء بن خارجة كلفظ الترمذي بإسناد لا بأس به (3/227)، وذكره الحافظ في الفتح (10/415). ورمز له السيوطي بالحسن في الجامع الصغير (5003)، وصححه الألباني في الصحيحة (276).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب صلة الرحم وتحريم قطعها، حديث (2555).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأدب – من وصله وصله الله، حديث (5988).
[5] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب البيوع – باب من أحب البسط في الرزق، حديث (2067)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب صلة الرحم وتحريم قطعها، حديث (2557).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأدب – باب ليس الواصل بالمكافئ، حديث (5991).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا، أحمده سبحانه على كل فضل وأشكره على كل نعمة، وأتوب إليه وأستغفره إعلانا وسرا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أحاط بكل شيء خبرا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله أعلى الناس منزلة وقدرا، وأوصلهم رحما وبرا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها الناس: صلة الرحم حق لكل من تربطك به صلة نسب أو قرابة، وكل من كان من كان أقرب كان حقه أولى وألزم ((أمك وأباك ثم أدناك أدناك)) [1]. وأسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم. ألم تعرفوا أن شريف خصال نبيكم محمد ؟ - وخصاله كلها شريفه – ألم تقرأوا نعت خديجة لحبيبها محمد ؟: ((كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتحمل الكل وتصل الرحم وتقري الضعيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق)) [2]. صلة كريمة تحوطها السماحة، ويظللها الحلم، ويحيط بها العفو، ويحكمها ضبط النفس. حسن معاملة تعلو بها المراتب ويكثر بها الأحباب، وتستجلب بها المودات، وتحسن بها العواقب.
فحذار حذار رحمكم الله من التساهل مع أحق الناس بحسن صحبتكم. وإياكم إياكم أن تتظارفوا [3] وتتكايسوا [4] مع الأبعدين وتنسوا الأقربين فإنكم إن فعلتم غبنتم أنفسكم وظلمتم الحق الذي عليكم، وقد علمتم أن تقطيع الأرحام يهدم كيان الأسرة، ويزلزل أركان العشيرة ويجعل أفرادها مرتعا للفتن ونهبا للأحقاد وفريسة للتمزق. وقد قيل في مأثور الحِكَم: لا تقطع القريب وإن أساء فإن المرء لا يأكل لحمَه وإن جاع.
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ واستعينوا بالله على مرضاته واستمسكوا بآداب شريعته تولانا الله جميعا في أنفسنا وذوينا ومحبينا، وأعاننا على امتثال أمره وطاعته واتباع نبيه بمنه وكرمه.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب بر الوالدين وأنهما أحق به... حديث (2548)، وأحمد (2/226)، والنسائي: كتاب الزكاة – باب أيتهما اليد العليا، حديث (2532) واللفظ لهما.
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي – باب بدء الوحي، حديث (4)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بدء الوحي إلى رسول الله ، حديث (160).
[3] تتظارفوا: مأخوذ من الطُرف وسماحة النفس.
[4] تتكايسوا: مأخوذ من الكيس وحسن التعامل.
(1/59)
فاحشه الزنا: مقدمات وروادع
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
سليمان بن حمد العودة
بريدة
28/6/1415
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سقوط الأمم عند ولوغها مستنقع الشهوة والرذيلة. 2- التحذير من فاحشة الزنا. 3- لا
يجتمع إيمان وزنى في قلب الإنسان. 4- فضيحة الزنا في الدنيا وعقوبته في الآخرة. 5- الزنا
سبب لانتشار الأمراض الفتاكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين واعلموا أن من علامات التقى كف النفس عن موارد الهلكة والشهوات والشبهات.
أيها المسلمون: جاء الإسلام حريصا بتشريعاته على سمو الأنفس وطهارتها ناهيا عن مواطن الريب وأماكن الخنا، فبين الحلال وشرف صاحبه، ونهى عن الحرام، ووضع الحدود الزاجرة لمقارفته، إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين ءامنوا لهم عذاب أليم [النور:19]. أجل لقد قضت سنة الله أن الأمم لا تفنى والقوى لا تضعف وتبلى إلا حين تسقط الهمم وتستسلم الشعوب لشهواتها، فتتحول أهدافها من مثل عليا وغايات نبيلة وإلى شهوات دنيئة وآمال حقيرة متدنية، فتصبح سوقا رائجا للرذائل ومناخا لعبث العابثين، وبها ترتفع أسهم اللاهين والماجنين فلا تلبث أن تدركها السنة الإلهية بالهلاك والتدمير، وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً [الإسراء:16].
أى مسلم يرغب أن يخان في أهله... وأي عاقل يرضى أن يكون سببا في اختلاط الأنساب من حوله، وأي مؤمن يرضى بالخيانة والخديعة والكذب والعدوان؟ ومن ذا الذى يتبع عدوه الشيطان ويحقق حرصه على انتهاك الأعراض، وقتل الذرية؟ وإهلاك الحرث؟
تلكم معاشر المسلمين وغيرها أعراض وآفات مصاحبة لفاحشة الزنا، هذه الجريمة التى جعلها الله قرينة للشرك بالله في سفالة المنزلة وفي العقوبة والجزاء فقال تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين [النور:3].
ويقول في الجزاء والعقوبة وهو يقرن بين الزنا وغيره من الموبقات: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً (1/60)
هذا أبو بكر (رضي الله عنه)
سيرة وتاريخ
تراجم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل الصحابة رضي الله عنهم وأثرهم في البشرية – أبو بكر رضي الله عنه ومناقبه -
أهمية دراسة التاريخ والاستفادة منه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ.
أيها المسلمون، ما كان تزويق ألفاظ، وما كان حديثا يفترى ذلك الحديث الذي روى به التاريخ أنباء أعظم ثلة ظهرت على وجه الأرض في دنيا الناس وفي ميدان العقيدة والإيمان.
إن التاريخ الإنساني بعرضه وطوله لم يشهد من الصدق والتوثيق وتحري الحق والحقيقة مثل ما شهد تاريخ الإسلام في سير رجاله السابقين.
إن التاريخ لم يشهد رجالاً اشتد بالله عزمهم، وصدقت لله نواياهم،، في غايات شريفة من الإيمان والإصلاح، نذروا لها حياتهم، صدقوا ما عاهدوا الله عليه في جسارة وتضحية. إنه لم يشهد كما شهد في الرجال من صحب رسول الله رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
كيف أنجز هؤلاء الأبرار هذا الإنجاز، وفتحوا هذه الفتوح في بضع سنين؟! كيف شادوا بقرآن الله وكلماته نظامًا جديدًا، وعالمًا فريدًا يهتز نضرة ويتفوق قوة وقدرة، في لمح البرق وضيائه؟! أضاءوا الإنسانية بحقيقة التوحيد وصفاء العقيدة ونور الشريعة. إن هذا وربك الإعجاز في الإنجاز، ويقود هذا الإعجاز إلى إعجاز آخر يتمثل في سيرهم الذاتية وطبائعهم النفسية التي صاغ الدين فضائلها، وهذب القرآن سجاياها. عاشوا مع نبيهم محمد ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَ?تَّبَعُواْ ?لنُّورَ ?لَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]. نفوس صدقت في إيمانها، فتولدت فيها قوة الثبات، وحقيقة الولاء، فكان ذلك البذل العظيم الذي بذلوا، والهول الشديد الذي احتملوا، والفوز الكبير الذي حازوا. لقد حرروا البشرية من وثنية العبودية، وتيه الضمير، وضلال المسير وضياع المصير.
في دراسة السير والتاريخ لسلفنا الصالح نشهد كتائب الحق وهي تطوي العالم بإيمانها، ترفع رايات الحق لتعلن توحيد الرب وتحرير الخلق.
أيها الإخوة، وهذه وقفة مع سيرة رجل من هؤلاء الرجال، بل إنه رجل لا كالرجال، إنه الصديق أبو بكر خليفة رسول الله الأول، والمؤمن برسول الله من الرجال الأول. رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً. سبق إلى الإيمان، وبادر إلى الرفقة، ولازم الصحبة واختص بالمرافقة في الغار والهجرة: ثَانِيَ ?ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ?لْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ?للَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا [التوبة:40].
فمن سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر. كيف لا وقد أعلن المصطفى وهو على المنبر خطيبًا: (( إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقى باب في المسجد إلا باب أبي بكرٍ)) [1].
وفي أفراد البخاري: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذب، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟!)) [2].
ويزداد الأمر وضوحًا ووضاءً حين يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما لأحد عندنا يد إلا وكافيناه بها ما خلا أبا بكر؛ فإن له يدا يكافيه الله بها يوم القيامة)) [3].
أبو بكر الأبيض النحيف اللطيف، خفيف العارضين، جعد الشعر، دقيق الساقين، خفيف اللحم، يخضب الحناء والكتم.
هو الوقور جميل السمت، يغر على مروءته، ويتجنب ما يريب، لم يشرب الخمر في الجاهلية؛ لأنها تخل بوقار مثله. وقد سئل عن ذلك يومًا فقال: كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي.
أيها الإخوة في الله، أصحاب المقامات والقيادات وذوو الشرف والوجاهات يعتصمون بالوقار والاحتشام، ويستزيدون من خلائق الصدق والمروءة والوفاء، في شفافية نفس، ورهافة حس. لقد بلغت نفسه قصارى ما تبلغه نفس طيبة من رعاية حقوق الناس، ومسارعة إلى الخيرات، ودرء للشرور وساقط الأمور.
يقول ربيعة الأسلمي رضي الله عنه: جرى بيني وبين أبي بكر كلام فقال لي كلمة كرهتها، وندم أبو بكر عليها، فقال: يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصًا. قلت: لا أفعل. قال: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله. فقلت: ما أنا بفاعل. فانطلق أبو بكر إلى رسول الله. وجاءني ناس من قومي من أسلم فقالوا: رحم الله أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك، وهو الذي قال لك ما قال؟! فقلت: أتدرون من هذا؟ أبو بكر ثاني اثنين، وهو ذو شيبة في الإسلام، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما، فيهلك ربيعة. وانطلق أبو بكر وتبعته وحدي، حتى أتى رسول الله فحدثه الحديث كما كان، فرفع رسول الله إلي رأسه فقال: ((يا ربيعة مالك وللصديق؟)) فقلت: يا رسول الله كان كذا وكذا، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، وطلب مني أن أقول كما قال حتى يكون قصاصًا فأبيت. فقال عليه الصلاة والسلام: ((أجل لا ترد عليه. ولكن قل: قد غفر الله لك يا أبا بكر)) [4].
أبو بكر يكره أن يسيء إلى أحد؛ لأنه – وهو الودود المؤدب – يعلم ما توقعه الإساءة في النفس من ألم قد يخرجها عن طورها في حلمها وأناتها. لقد كان يتحاشى السقط من الكلام، وإذا مدحه مادح قال: اللهم أنت أعلم مني بنفسي، واغفر اللهم لي ما لا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون.
لقد كان كريم النزعات والطوايا، سريع التأثر بمآسي من حوله، مع طموح عجيب إلى المثل العليا، يسابق إلى الخيرات، ويبادر إلى صنوف البر والإحسان، ومواساة ذوي الحاجات.
صلى رسول الله الفجر ذات يوم بأصحابه، فلما قضى صلاته قال: ((أيكم أصبح اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من أطعم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله : ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)) [5].
أيها الإخوة، إن أبا بكر رضي الله عنه بأفعاله الجميلة، ومبادراته المتنوعة يدخل الجنة ليس من باب واحد ولكن من أبواب الجنة جميعها؛ فلقد عدد رسول الله أبواب الجنة فكان مما قال: ((من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان. فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما على الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ وهل يدعى من كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم. وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر)) [6]. ومن أجل هذا فلا جرم أن يقول عمر وعلي رضي الله عنهما: ما سابقنا أبا بكر إلى خير قط إلا سبقنا عليه.
أيها الإخوة، ولئن كان أبو بكر أليفًا مألوفًا، سمحًا ودودًا، ليناً سهلاً، حسن الحديث أديب المجالسة ـ فلتعلموا أن هذا الرفيع من السجايا والجميل من المحامد يؤازره قسط وافر من رجاحة العقل، وحصيف الذكاء الذي يتميز به ويحتاجه ذوو الأقدار الكبيرة من الرجال، فقد قيل فيه وفي أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما: (هما داهيتا قريش)، ولقد كان أبو بكر أسرع إلى الفطنة والإدراك فيما يعرض به النبي لأصحابه من التلميح دون التصريح.
يحدث أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: جلس رسول الله على المنبر يوماً فقال: ((عبد خيره الله أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده)) [7] ، فبكى أبو بكر وبكى، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله هو المخير. وكان أبو بكر أعلمنا به.
ويقترن بدماثة الخلق وهدوء الطبع ورجاحة العقل قوة في الحق وشجاعة في النفس وإخلاص للمبدأ؛ فحين أسلم أعلن إسلامه، وجهر بصلاته، ولقي من الأذى في مكة ما لقي، وتحمل في ذلك ما تحمل.
وفي المعارك كان القريب من رسول الله ، شهد المشاهد كلها وكانت معه الراية يوم تبوك، ولم تذكر له قط هزيمة في ساعة من ساعات الشدة؛ لا في أحُد ولا الخندق ولا حنين، ولا ثبت أحد حيث يصعب الثبات إلا كان هو أول الثابتين، لم يفارق نبيه محمدًا لا حضرًا ولا سفرًا.
ولقد اجتمعت تلك الصفات كلها وبرزت في أجلى صورها وأبهى ممارساتها حينما تولى الخلافة بعد رسول الله ، فلقد كان خير خليفة، أرحم الناس وأحناهم عليهم في عفةٍ وصدق ودعةٍ وحزم، وأناةٍ وكيسٍ، ويقظةٍ ومتابعةٍ، ومن رد أهل الردة إلا أبو بكر؟! الضعيف عنده قوي حتى يأخذ الحق له والقوي عنده ضعيف حتى يأخذ الحق منه. نعم لقد كان قوة للضعيف ونصفة للمظلوم، ومفزعاً للملهوف، فهو الخليفة الشفيق، وهو الراعي الرفيق، يذود الأمة عن مراتع الهلكة، ويحمي من الحرِّ والقرِّ، يهتم بشؤونهم، ويغتم لشكايتهم، وصي اليتامى، وخازن المساكين، كالقلب بين الجوانح، تصلح بصلاحه كل الجوارح.
أيها الإخوة، والحديث يطول في مسيرة لا ينقضي منها العجب. فهل تعي الأمة في أعقاب الزمن، وفي مواضع الفتن المجيد من تاريخها ؟ أم هل يعي شبابها أن روح التاريخ يكمن في سير الرجال الأفذاذ ؟ ولكن ما الحيلة إذا كان الرجال لا يقدرون الرجال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ?لالْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلاة – باب الخوخة والممر في المسجد، حديث (466) واللفظ له، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حديث (2382).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المناقب – باب قول النبي : ((لو كنمت متخذاً...)) حديث (3661).
[3] صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب المناقب – باب مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه حديث (3661) وقال: حسن غريب وذكره الحافظ في الفتح (7/13) وصححه الألباني، صحيح الجامع (5537) وصحيح سنن الترمذي (2894).
[4] إسناده ضعيف، أخرجه أحمد (4/58)، والطيالسي (1174)، والطبراني في الكبير (4577)، والحاكم (2/172-173)وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: لم يحتج مسلم بمبارك. قلت: في إسناده المبارك بن فضالة قال الحافظ: صدوق يدلس ويسوي، تقريب (6506)، والتسوية حذف ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر ليوهم اتصال السند بالثقات، وهو أسوأ أنواع التدليس. وقد عنعن المبارك هنا، وتصريحه بالسماع عند الحاكم (3/521) إنما هو في قطعة من الحديث. ولم يصرح بالسماع في الرواية الأخرى. وانظر مسند أحمد بتحقيق شعيب الأرناؤوط وغيره (27/115).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزكاة – باب من جمع الصدقة وأعمال البر، حديث (1028).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصوم – باب الريان للصائمين، حديث (1897)، ومسلم: كتاب الزكاة – باب من جمع الصدقة وأعمال البر، حديث (1027).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلاة – باب الخوخة والممر في المسجد، حديث (466، 3654، 3904)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حديث (2382).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رفع قدر أولي الأقدار، أحمده سبحانه وأشكره على فضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده رسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار، من المهاجرين والأنصار والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله رحمكم الله أيها المسلمون، الأمم والشعوب كما تحقق العز والمجد يمسها الضعف والهوان. وتاريخ الإسلام ليس مجرد أحداث مدونة، ووقائع مسجلة، ولكنه عقيدة الأمة ودينها ومقياسها وميزانها وعظتها واعتبارها. التاريخ هو الكنز الذي يحفظ مدخرات الأمة في الفكر والثقافة والعلم والتجربة، وهو الذي يمدها ـ بإذن الله ـ بالحكم التي تحتاجها في مسيرة الزمن وتقلب الأحداث. والأمة التي لا تحسن فقه تاريخها ولا تحفظ حق رجالها أمة ضعيفة هزيلة ضالة عن حقائق سنن الله، مضيعة لمعالم طريقها.
أيها الإخوة: وإن شئتم مزيدًا من سيرة هذا الرجل المبارك، والقدوة الحسنة فلتعلموا أن هذا الإلف المألوف الرحيم بالغرباء قبل الأقربين غزير الدمعة شجي النشيج، هذه الرحمة والرقة لم تمنع المؤمن الصديق من أن ينهض لمبارزة ابنه الكافر يوم بدر حين شهد الحرب مع المشركين، فقد رأى من البر في الدين أن ينهض بنفسه لمبارزة ابنه، ولا يدع ذلك لأحد من المسلمين، ولكن النبي استبقاه وهو يقول: ((متعنا بنفسك يا أبا بكر)) [1].
ولم تكتمل القصة بعد فلقد أسلم الابن عبد الرحمن فقال لأبيه أبي بكر: ((يا أبتِ لقد أهدفت إلي يوم بدر فانحرفت عنك. فقال أبوه: ولكنك لو هدفت إلي لم انحرف عنك)) [2]. الله أكبر ما هذه الحدة؟! وما هذا الجد والصرامة؟! وما هذا الحزم والحسم؟!
أما وصايا الحكمة وتوجيهات القيادة فلأبي بكر رضي الله عنه منها القدح المعلى. يقول لعكرمة بن أبي جهل في وصية: مهما قلت إني فاعل فافعل، ولا تجعل قولك لغوًا، لا في عقوبة ولا في عفوٍ، لا تتوعد على معصية بأكثر من عقوبتها؛ لأنك إن فعلت أثمت، وإن تركت كذبت.
رضي الله عن أبي بكر وأرضاه، وطاب ذكره حيًا وميتًا ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
[1] إسناده ضعيف، أخرجه الحاكم (3/474-475)، والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب فقال أهل البغي – باب ما يكره لأهل العدل... (8/186) كلاهما من طريق الواقدي، وهو متروك.
[2] إسناده ضعيف، أخرجه الحاكم (3/475) من ابن المبارك عن معمر عن أيوب عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي لله عنهما، وإسناده منقطع أيوب بن أبي تميمة السختياني لم يدرك عبد الرحمن رضي الله عنه.
(1/61)
التنافس الصحيح
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد الحميد التركستاني
الطائف
23/5/1420
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إذا نافسك الناس في الدنيا فنافسهم في الآخرة. 2- المنافسة في أمور الآخرة سبب لارتفاع
أرواح المتنافسين فيما المنافسة في الدنيا سبب لدنو الهمة. 3- دعوة للمنافسة على الجنة.
4- دعوة لاغتنام الأوقات قبل انصرامها. 5- عوائق تمنع تمنع من المنافسة على الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أيها الإخوة: ها نحن الآن قد انطوت صفحات من أعمارنا وانقضت الإجازة الصيفية بما فيها من الخير والشر، لنبدأ مشوار العام الدراسي الجديد فمن شمر واجتهد من البداية نال مبتغاه ومن قصّر وغفل ولهى ولعب لم ينل مراده وخسر عاما كاملا لم يستفد منه شيئا.
وهكذا الدنيا معشر الأحبة هي دار العمل والجد في طاعة الله فنحن في الدنيا كأننا في سنة دراسية فمنا الرابح ومنا الخاسر والإنسان ما دام يحيا على هذه الأرض ينبغي له أن يغتنم فرصة الصحة والقوة والشباب والراحة ليجعل أوقاته كلها طاعة لله عز وجل فها هي أسواق الجنة تفتح أبوابها لترى منافسة العباد في المتاجرة مع الله عز وجل، متاجرة ومنافسة كما قال بعض السلف: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة. قال تعالى: وفي ذلك فليتنافس المنافسون فأصحاب الدنيا يتنافسون من أجل مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد، يريد كل منهم أن يسبق إليه وأن يحصل على أكبر نصيب منه ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل وفان.
وأما أصحاب الآخرة الذين يريدون الجنة الذين يبحثون عن السعادة الحقيقية فهم الذين يجعلون حياتهم وقفا على معرفة الله ومرضاته، وإرادتهم مقصورة على محابه فتنافسهم في الدنيا من أجل تحصيل النعيم المقيم في الدار الآخرة وهذه الهمة أعلى همة شمر إليها السابقون وتنافس فيها المتنافسون، فهو مطلب يستحق المنافسة وهو أفق يستحق السباق والتنافس هو التسابق والتغالب وأصله من المنافسة وهي مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم.
ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا حتى يصل بهم الحال إن قتل أحدهم في سبيل الله يقول في لحظة فراقه للدنيا: (فزت ورب الكعبة). إنه الفوز بالشهادة لدخول دار الكرامة بل يصل الأمر ببعضهم أن يشم رائحة الجنة ويأتيه من روحها ونسيمها وهو في هذه الدار كما حدث لأنس بن النضر في أُحدٍ عندما قال: إني لأجد ريح الجنة دون أحد فقاتل حتى قتل ، بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بنا جميعا، والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع، والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا وبيئاً تأكل منه النفوس الحاقدة والدنيئة بعضها البعض، أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين، والتنافس في نعيم الآخرة يجعل الدنيا مزرعة للآخرة مما يجعل منها عبادة تحقق غاية وجود هذا الإنسان كما قررها الله سبحانه وهو يقول: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وإن قوله: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لهو توجيه مد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة إلى الدار الآخرة، كما كان يفعل أبو مسلم الخولاني عندما كان يقوم الليل فإذا تعبت قدماه ضربها بيديه قائلا: أ يحسب أصحاب محمد أن يسبقونا برسول الله والله لنزاحمنهم عليه في الحوض، فهو يريد المنافسة ويريد أن يزاحم صحابة رسول الله في الدار الآخرة، وهنيئا له بهذه المنافسة الشريفة.
أيها المسلمون: إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود وعمره في الآخرة ليس له نهاية ولا حدود، وإن متاع الدنيا في ذاته محدود، ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر، وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم في الآخرة يليق بالخلود فأين مجال من مجال؟ وأين غاية من غاية؟ متى يحاسب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب لا توجد مقارنة ألا إن السباق إلى هناك، فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى فيها المخيم، ولهذا حض النبي عليه الصلاة والسلام أمته للعمل الصالح، فوصف لهم الجنة جلاّها لهم ليخطبوها فقال: ((ألا من مشمر للجنة؟ فإنها ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانه تهتز، وزوجة حسناء، وفاكهة نضيجة، وقصر مشيد نهر مطّرد، فقال الصحابة: يا رسول الله نحن المشمرون لها فقال: قولوا إن شاء الله)) وقال عليه الصلاة والسلام لمن سأله مرافقته في الجنة: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) وذلك لأن مقامات الناس في الجنة حسن أعمالهم.
أيها المسلمون: إن العمل الجاد في طاعة الله لطلب الجنة محبوب للرب مرضي له ولو لم يكن هذا مطلوباً له سبحانه وتعالى لما وصف الجنة للعباد وزينها لهم وعرضها عليهم، وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها وما عداه أخبرهم به مجملا، كل هذا تشويقا لهم إليها وحثا لهم على السعي لها سعيا حثيثا.
أيها الإخوة: إن الله عز وجل يسوق الفرص للبشر لاغتنامها وهي أسواق تعقد ثم تفض يربح منها من يربح ويخسر فيها من يخسر والمسلم سبّاق للخير ولا يدع لحظة من لحظات حياته تمر دون فائدة والزمن له قيمة كبرى في حياة المسلم بل الزمن هو حياة الإنسان، وقيل قديما: "الوقت من ذهب" والحقيقة أن الوقت أغلى من الذهب لأن الوقت هو الحياة والحياة لا تقدر بثمن وكما قال الوزير الصالح يحي بن هبيره:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه
وأراه أسهل ما عليك يضيع
وما أجمل كلام أمير الشعراء شوقي حين قال:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
معشر المسلمين من صغار وكبار إن لم تعبدوا الله اليوم فمتى تعبدون؟ وإن لم تصلوا اليوم فمتى تصلون؟ وإن لم تجتهدوا في العبادة اليوم فمتى تجتهدون؟ إن لم تدخلوا مضمار السباق في الطاعة فمتى تدخلون؟
فهيا إلى المبادرة للأعمال الصالحة قبل ظهور العوائق وقبل فجأة الموت وإستتمام الرحيل كما جاء في وصية النبي عليه الصلاة والسلام: ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)).
فلماذا تدخر هذه الصحة عن طاعة الله؟ ولماذا تبخل بهذا الجسم عن عبادة الله؟ ماذا تنتظر؟ حتى يضعف جسمك ويرق عظمك وتخور قوتك، ثم إذا بلغت الروح التراقي قلت: أفعل وأفعل وأتصدق وأنى أوان العمل حينئذ، فإن كنت باكيا فابك على نفسك من الآن:
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
لست بالباق وإن عمّرت كنوح
وأما السبيل إلى التنافس:
أولا: أن نعظم أمر الآخرة: ونلحظ سمت الأنبياء قال تعالى: إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار.
ومعنى الآية: أنا خصصناهم بخصيصة عظيمة وجسيمه وجعلنا ذكر الدار الآخرة في قلوبهم والعمل لها صفوة وقتهم والإخلاص والمراقبة لله وصفهم الدائم، فالمؤمن ثمرة وقته وشدة انشغاله إنما يكون بربه سبحانه وما يرضيه وما يقرب إليه يقول بعض السلف: (من كان اليوم مشغولا بنفسه فهو غدا مشغول بنفسه ومن كان اليوم مشغولا بربه فهو غدا يسر بلقاء ربه).
الأمر الثاني: العناية بآخرتنا فكل طاعة نعملها إنما هي إعمار للآخرة فلا تنشغل بتنافس أهل الدنيا. يقول أحد السلف: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة. ودع عنك موازين الناس لبعضهم وناج ربك وقل:
ويا ليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود يا غاية المنى
فكل الذي فوق التراب تراب
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: وإن من عوائق سلوك طريق المنافسة لطلب رضى الله والدار الآخرة:
أولا: الغفلة، داء عضال يقع فيه الكثيرون وهو من أهم أسباب فساد الخلق فمن غفل عن الله واتجه إلى ذاته، وإلى ماله، وإلى أبنائه، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته، فلم يعد في قلبه متسع لله، - والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله - فيزيده الله غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه ويكون أمره فرطا ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: (خراب القلب من الأمن والغفلة وعمارته بالخشية والذكر). فالحذر الحذر من غفلة الغافلين والاغترار بها.
ثانيا: اتباع الهوى وهو السبب الثاني في فساد الخلق وهو يصد عن قصد الحق وإرادته واتباعه فيكون فيه شبها من اليهود، وكم من الناس اليوم من يعلمون الحق ولكنهم لا يريدون أن يطبقوه في واقع حياتهم يريدون سبيل الغي ليتخذوه سبيلا أرأيت من اتخذ إلهه هواه.
قال الحسن: هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه. ليس له وازع من ضمير، ولا رادع من دين، ولا حياء من الناس إن هناك من كان يضع على سطح منزله دشا فإذا به بدل أن يزيله يصبح على سطحه دشين فضول نظره في المحرمات التي تبث عبر هذه الدشوش فيفسد بذلك قلبه وتنعدم الغيرة منه فيعيش بلا هدف ليس له هم في منافسة أهل الخير في الطاعة والعبادة بل منافسة لأهل الشر في الفسق والمجون نسأل الله السلامة والعافية.
ثالثا: الانهماك في تحصيل المال والتجارة وحيازة المال النافع للإسلام وأهله، لا يلبث هذا الأمر أن ينقلب إلى تحصيل محض وحب للدنيا والانغماس فيها، ومن ثم يقسو قلب الشخص وتنحط همته.
رابعا: كثرة التمتع بالمباح والترف الزائد والترفل في النعيم وكل هذه الأمور من العوامل الفتاكة القاضية على التنافس في ميدان الآخرة مهما قيل في تدبيرها وتعليلها.
قال ابن القيم رحمه الله: (قال لي شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة فالعارف يترك كثيرا من المباح برزخا بين الحلال والحرام).
هذا والذي لام عليه الإمام ابن تيميه تلميذه ابن القيم (شيء من المباح) فما بالكم بما نراه اليوم من تمتع الناس بمباحات ونعيم لا يعرفها الملوك السالفون.
خامسا: التسويف: وهو داء عضال ومرض قتال، إذ أن (سوْف) جند من جنود إبليس وقد قيل: إن عامة دعاء أهل النار: يا أف للتسويف.
وكم من الناس من سوّف وسوّف فانقضى أجله ولم يدرك شيئا من أمانيه الدنيوية ولم يحصل شيئا لحياته الأخروية.
سادسا: الانغماس في الدنيا والركون إليها، فالانغماس في الدنيا وترفها وملذاتها وتعلق القلب بها ينتج عنه، غفلة عن الآخرة، وتشتت للذهن والقلب، وإهمال الفكر في الاستزادة فيها والخوف على فواتها وهذا يؤدي إلى قسوة القلب ورقة الدين، ومن هنا تبدأ النفس في الاستجابة لتزيين الشيطان، وتثور الشبهات والشهوات في القلب، وتضعف الهمة في التنافس للآخرة وتقوى للتنافس على الدنيا بأي وجه من الوجوه.
فاتقوا الله عباد الله وليتفقد كل منا نفسه، وليكن همنا الأول والأخير هو وجه الله والدار والآخرة والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين.
(1/62)
فريضة الحج في أعماق الزمن
سيرة وتاريخ, فقه
الحج والعمرة, القصص
سليمان بن حمد العودة
بريدة
20/11/1412
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة إبراهيم مع قومه وهجرته إلى فلسطين. 2- زواجه من هاجر وتركها في رحاب الله
الحرام. 3- تفجر ماء زمزم لسقيا الأسرة المؤمنة. 4- نشأة إسماعيل في الحجاز. 5- بناء
إبراهيم وإسماعيل للبيت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: فاتقوا الله وراقبوه، وتأملوا في حقيقة دينكم، واعبدوا الله على بصيرة، فلم يعد هناك فرصة للجهل أو للتقليد في أحكام الدين.
إخوة الإسلام: والمتأمل في فريضة الحج في أعماق الزمن يرى عجبا ويزداد إيمانا، ويحس بترابط الأديان، والصلة بين الأنبياء والمرسلين، على الرغم من تباعد الأزمان واختلاف الأقوام والأوطان، ويحس كذلك بأن العبادة لله عميقة الجذور قديمة قدم التاريخ والإنسان.
وفريضة الحج – التي تقترب أيامه ونعيش الآن في أحد شهوره – نموذج لهذا العمق وذلك الترابط، فما هو تاريخ الحج؟ وكيف بدأت فرضيته؟ وما هي أدله وجوبه، وما الشروط المعتبرة للوجوب؟
تبدأ رحلة في أعماق الزمن منذ ضاقت الحياة بإبراهيم عليه السلام مع قومه الوثنيين الجاحدين في العراق، فرحل منها إلى فلسطين، ومعه زوجته سارة وابن أخيه لوط – عليهم السلام – كما قال تعالي: فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم [العنكبوت:26].
وأقام الخليل عليه السلام في فلسطين، ثم رحل إلى مصر وأقام فيها ما شاء الله له أن يقيم، ووقعت له هناك قصة الابتلاء لزوجته سارة من قبل ظالم مصر، الذى حالت قدرة الله دون الاعتداء على المؤمنة العفيفة، وكان ذلك سببا في إهدائها جارية لخدمتها، ألا وهي (هاجر) لتبدأ قصة أخرى أكثر صلة بالحج، وبناء البيت العتيق.
حيث رجع إبراهيم – عليه السلام – مرة أخرى إلى فلسطين، وكانت زوجته سارة عاقرا لا تلد، فأشارت على زوجها إبراهيم بالزواج من جاريتها (هاجر) لعل الله أن يهبه منها ولدا، فكان، وولدت (هاجر) إسماعيل عليه السلام، كما شاء الله أن تلد (سارة) إسحاق عليه السلام.
ومع البقاء، وطبيعية النساء غارت سارة من هاجر ولم تطق رؤيتها، وصارحت إبراهيم بما تجد في نفسها، فكان ذلك سببا في هجرته بهاجر وإسماعيل إلى مكة.
وهناك في أرض لا زرع فيها ولا ماء، ولا أنيس ولا جليس ترك إبراهيم المرأة وطفلها، وهمّ بالعودة إلى فلسطين مرة أخرى، فتعلقت به الأم (هاجر) وهي تقول: إلى من تكلنا ونحن في هذا الوادي المقفر الموحش؟ فقال النبي الخليل عليه السلام: إلى الله، واستوحت المرأة أن ذلك بأمر الله، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا..
وانصرف الخليل عليه السلام وصوت دعائه يجلجل في السماء: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون [إبراهيم:37].
واستجاب الله دعاء خليله عليه السلام، بعد أن عاشت هاجر وابنها إسماعيل لحظات عصبية أوشك الرضيع فيها على الهلاك، وكادت الوحشة وقلة الطعام والشراب أن تودي بالمرأة وطفلها لولا فضل الله ورحمته.
وهل يخيب من رجاه، وهل يضيع من تولاه.
ومن هذه اللحظات الحرجة تبدأ قصة بناء البيت، وقصة سعي الناس بين الصفا والمروة كلما حجوا أو اعتمروا، وكلما طوفوا بالبيت العتيق.
ومن هنا كذلك تبدأ قصة زمزم، ذلك الماء العذب الزلال والبلسم الشافي للأسقام بإذن الله.
وإليكم هذه القصة بتمامها- كما أخرجها البخاري في صحيحه- وهى قصة جديرة بالاهتمام، وجديرة بالتذكر، كلما سعي الناس بين الصفا والمروة، كلما شربوا من زمزم، حتى لا تكون المشاعر مجردة من الفقه والإيمان، حتى لا يكون الحج مجرد طقوس يقلد الأحفاد فيها الأجداد، دون علم أو بصيرة أو هدى.
عن سعيد بن جبير، قال ابن عباس: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها عن سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها – وهى ترضعه- حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعها هناك، ووضع جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً، فتتبعته أم إسماعيل فقالت هناك: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بذلك؟ قال نعم قالت: إذن لا يضيعنا.
ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لايرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه وقال: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون [إبراهيم :37].
وجعلت أم إسماعيل ترضع وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ماء السقاة عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت بالصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحد، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحد، فلم ترى أحد، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلذلك سعى الناس بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه- تريد نفسها- ثم تسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غوث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحثت بحقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً)).
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم-أو أهل بيت من جرهم- مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائر عانقاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه بماء، فأرسلوا جرياً أو جرين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا- قال: وأم إسماعيل عند الماء- وقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد أن تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج ولم يبتغ لنا، ثم سألها عن العيش وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه.
قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فاخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة.
قال فهل أوصاك بشيء. قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيّر عتبة بابك قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، إلحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاه بعد، فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، فقال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.
قال: اذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء اسماعيل عليه السلام، قال هل أتاكم من أحد؟ قالت نعم، أتانا شيخ حسن الهيئةـ وأثنت عليه ـ فسألني عنك فخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك.
قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد.
ثم قال: يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك.
قال فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا ـ وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها ـ قال: فعند ذلك رفعاً القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وابراهيم يبني، حتى اذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم [البقرة:127].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/63)
هذه هي الرشوة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
الرشوة من شر ما يصيب الأمة – خطورة الرشوة وآثارها – صور الرشوة المختلفة -
النصوص في التحذير من الرشوة والوعيد عليها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، اتقوه وأخلصوا له الدين وأحسنوا العبادة.
أيها المسلمون، تبتلى الأمم في أيام محنتها وانتقاص أطرافها وضعف نفوس ابنائها بأمراض كثيرة، تضعف شأنها، وتقوض صفاء عيشها وطمأنينة مسيرتها وسلامة طرق الكسب فيها، وتقضي على حياتها.
إن من شر ما تصاب به الأمم في أهلها وبنيها أن تمتد أيدي فئات من عُمَّالها وأصحاب المسؤوليات فيها إلى تناول ما ليس بحق. فصاحب الحق عندهم لا ينال حقه إلا إذا قدم مالاً، وذو الظلامة فيهم لا ترفع مظلمته إلا إذا دفع رشوة.
أيها الإخوة: وفي قراءة تاريخ الأمم: لقد نعت الله قوماً من قبلكم بأنهم: سَمَّـ?عُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـ?لُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]. إنهم أقوام طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وانطفأت جذوة الإيمان في صدورهم، وثقلت عليهم التكاليف وكرهوا الشرائع، فأحبوا الكذب، وألفوا الزور وسمعوه وسعدوا به، وكرهوا الحق، ونبذوا الصدق: ي?أَيُّهَا ?لرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ?لَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ?لْكُفْرِ مِنَ ?لَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْو?هِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ?لَّذِينَ هِادُواْ سَمَّـ?عُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـ?عُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَو?ضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـ?ذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَ?حْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ?للَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ?للَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ?للَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى ?لدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّـ?عُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـ?لُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:41،42].
هذه طبيعة القلوب حين تفسد، والأرواح حين تطمس، تحب الباطل والزور قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْو?هِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ [المائدة:41]. يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَو?ضِعِهِ [المائدة:41].
نعم أيها الإخوة: مسالك الباطل وأساليب السحت رائجة في المجتمعات المنحرفة، أما طرق الحق وأنوار الصدق فهي عندهم مظلمة معتمة.
وفي نعت آخر لهؤلاء وأمثالهم: وَتَرَى? كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ ?لسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَـ?هُمُ ?لرَّبَّـ?نِيُّونَ وَ?لاْحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ?لإثْمَ وَأَكْلِهِمُ ?لسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:62،63]. مسئولية مشتركة بين الواقع في الإثم والمقتصر في الأمر والنهي.
سور قرآنية لنفوس مريضة قد استشرى الفساد في أحشائها، وسقطت القيم من حسابها.
مسارعة بارتكاب الآثام، واجتراء في العدوان على الحقوق، وتهارش وتكالب على أنواع السحت لقد سيطر الشر على تفكيرها، وامتلأت بالحرام أجوافها، فاستباحت حمى الله ومحارمه. ولا تسل ـ عافاك الله ـ عما ينجم من الأضرار التي لا حصر لها من أكل السحت وبذل الرشاوى؛ فالكرامة ضائعة، والحقوق مهضومة، والنبوغ مقبور، والجد مدفون، والغيرة على مصالح الأمة مضمحلة. والأمانة في خدمتها غائبة، وتقدير المخلصين متلاشٍ.
الرشوة خيانة عند جميع أهل الأرض وهي في دين الله أعظم إثمًا وأشد مقتًا: (( لعن رسول الله الراشي والمرتشي)) [1].
إنها تخفي الجرائم، وتستر القبائح وتزيف الحقائق.
بالرشوة يفلت المجرم ويدان البريء، بها يفسد ميزان العدل الذي قامت به السموات والأرض، وقام عليه عمران المجتمع، هي المعول الهدام للدين والفضيلة والخلق.
الرشوة ـ أيها الناس ـ تلبس عند أهلها ثيابًا مستعارة، فتأخذ صورًا متلونة، وأغراضًا متعددة. فهذه هدية وتلك إكرامية، وهذه محاباة في بيع أو شراء، وذلك إبراء من الدين. والصور في ذلك لا تتناهى، وسبل الشياطين وأعوانهم في ذلك عريضة واسعة.
في القطاع العام والقطاع الخاص، وفي المؤسسات وفي الشركات.
أما أغراضها عندهم فمتعددة: طمس لحق أو سكوت على باطل، وتقديم لمتأخر وتأخير لمتقدم، ورفع لخامل، ومنع لكفءٍ، وتغيير للشروط، وإخلال بالمواصفات، وعبث بالمناقصات، وتلاعب في المواعيد، في أغراض لا تتناهى.
أما الراشي والمرتشي والرائش فإنهم ـ لا بارك الله فيهم ولا لهم ـ متساعدون على تضييع الحقوق ويروجون لأكل أموال الناس بالباطل، ويزرعون السيئ من الأخلاق، ومن ثم تستمرئ الأمة هذا المرعى الوبيل.
الراشي والمرتشي والرائش ملعونون عند الله على لسان رسول الله ، مطرودون من رحمة الله ممحوق كسبهم، زائلة بركتهم، خسروا دينهم وأضاعوا أمانتهم، استسلموا للمطامع، واستعبدتهم الأهواء. وأغضبوا الرب، وخانوا الإخوان، وغشوا الأمة، في نفوس خسيسة وهمم دنيئة.
كم من مظالم انتهكت، وكم من دماء ضيعت، وكم من حقوق طمست، ما أضاعها وما طمسها إلا الراشون والمرتشون فحسبهم الله الذي لا تنام عينه، وويل لهم مما عملت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
أيها الإخوة، الرشوة فخ المروءة، ومصيدة الأمانة، وغرق الديانة وحبائل الشرف.
بفشوِّ الرشوة تصاب مصالح الأمة بالشلل، وعقول النابغة بالقصم، ومواهب المفكرين بالجمود، وجهود العاملين بالفتور وعزائم المجدين بالخور.
أي خير يرجى في قوم مقياس الكفاءة فيهم ما يتزلف به المرءوس لرؤسائه من قرابين؟! وأي إنتاج يرتجى لأعمال لا تسير عندهم إلا بعد هدايا الراشين والمرتشين؟!
نفدت ثروات، وهدمت بيوت، وأهينت نفوس، وفرقت جماعات، وارتفع باطل، وغاب حق، وما كان ذلك إلا بسبب الرشاوى المحرمة والخصومات الفاجرة والإدلاء إلى الحكام بالباطل.
وإنك لترى في المفتونين من هؤلاء من يزعم أنه ذو شطارة ودهاء، وقد عمي عمَّا أصابه من الأرزاء وتعب النفس والقلب وإيذاء عباد الله والاستغراق في الحرام، فتراه مع أقرانه بالفسق يتنابذون، بالحسد والكيد يتعاملون، ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الخاسرون.
ولقد جاء في الخبر عنه : ((وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)) [2] ، ((والراشي والمرتشي في النار)) [3].
وقد وأخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: ((استعمل رسول الله رجلاً من بني أسد يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام النبي فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا أهدي لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته؛ إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيْعَِر. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي [4] إبطيه. ألا هل بلغت ـ ثلاثا ـ )) [5].
بلى لقد بلغ عليه الصلاة والسلام. فوالله ((لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله؛ من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)) [6] ، وإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن. فأنى صلاح، وهم ذوو جرأة على الله، حتى إنهم ليأخذون من الحرام الصراح، لا يتوبون ولاهم يذكرون؟!
يقول يوسف بن أسباط: إن الرجل إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه. قال الحافظ الذهبي رحمه الله: ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث رسول الله : ((في الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!)) [7].
لهذا قال بعض السلف: لو قمت قيام السارية ما نفعك حتى تعلم ما يدخل بطنك؛ أحلال أم حرام؟
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وراقبوا ربكم، فرُب متخوضٍ في مال الله له النار يوم القيمامة، ألا يخشى أكَلة السحت أن يسحتهم الله بعذاب؟! وقد خاب من افترى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ?لْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ?لنَّاسِ بِ?لإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188 ].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود: كتاب الأقضية – باب في كراهية الرشوة، حديث (3580)، والترمذي: كتاب الأحكام – باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، حديث (1336، 1337) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه: كتاب الأحكام – باب التغليظ في الحيف والرشوة، حديث (2313). وصححه ابن الجارود (585)، وابن حبان (5076) ولفظهما: ((لعن الله...)) والحاكم (4/102-103)، باللفظ المذكور في الخطبة. قال المنذري (3/125) والهيثمي في المجمع (4/199): رجاله ثقات. وصححه ابن حجر في الفتح (5/221) والألباني في صحيح الترمذي (1073، 1074).
[2] ضعيف، أخرجه أحمد (4/205)، قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد بإسناد فيه نظر (3/7)، وقال الهيثمي: فيه من لم أعرفه مجمع الزوائد (4/118). وانظر: فيض القدير (5/494)، والسلسلة الضعيفة للألباني (1236).
[3] ضعيف، أخرجه البزار (1037)، والطبراني في الأوسط (2026)، والصغير (58)، قال الهيثمي: رواه البزار، وفيه من لم أعرفه، مجمع الزوائد (4/199). وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (3146).
[4] عرفتي إبطيه: بضم العين وفتحها والأشهر الضم، انظر لسان العرب (4/585) مادة (عفر)، وعفره الإبط: هي البياض ليس الناصح.
[5] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الهبة وفضلها... باب من لم يقبل الهدية لعلّة، حديث (2597)، وأخرجه أيضاً مسلم: كتاب الإمارة – باب تحريم هدايا العمال، حديث (1832).
[6] صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع – باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص، حديث (2417)، والدارمي: المقدمة – باب من كره الشهرة والمعرفة، حديث (537، 539)، والطبراني في الكبير (20/60)، وقواه المنذري في الترغيب بشواهده (1/73)، وقال الهيثمي: رجال الطبراني رجال الصحيح غير صامت بن معاذ، وعدي بن عدي الكندي وهما ثقتان. مجمع الزوائد (10/346)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (946).
[7] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزكاة – باب قبول الصدقة... حديث (1015).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالحق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أنوار الحق ومصابيح الدجى والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعد أيها الناس: خاطب النبي صاحبه كعب بن عجرة رضي الله عنه فقال له: ((يا كعب ابن عجرة: إنه لا يدخل الجنة لحم أو دم نبت من سحت، النار أولى به. يا كعب: الناس غاديان؛ فغاد في فكاك نفسه فمعتقها، وغاد فموبقها)) [1].
وفي الخبر الآخر: ((إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله عمله أربعين يومًا، وأيُّما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)) [2].
فاتقوا الله رحمكم الله وليتق الله هؤلاء المقصرون، فهلا أخذوا بأوامر ربهم، واستمسكوا بتوجيهات نبيهم ففي ذلك ما يحفظ حقوقهم، ويطهر قلوبهم ويملأ بالرضا والإيمان نفوسهم، ويمنع تقاطعهم وشحناءهم وتحاسدهم وبغضاءهم.
فطوبى لمن أكل طيباً وعمل في سنة، طوبى لمن حَسُنَ تعامله وعفَّ في طعمته، حفظ الأمانة وصدق في الحديث، وأمِنَ الناس بوائقهُ.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/321) واللفظ له، وأخرجه القسم الأول منه: الترمذي: كتاب الجمعة – باب ما ذكر في فضل الصلاة، حديث (614)، والدارمي: كتاب الرقاق – باب في أ-كل السحت، حديث (2776). وصححه ابن حبان (1723)، والحاكم (4/422)، قال المنذري: رواتهما محتج بهم في الصحيح. الترغيب (3/134)، وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار وزاد ((لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به)) ورجالهما رجال الصحيح مجمع الزوائد (5/247). وصححه الألباني، صحيح سنن الترمذي (501)، صحيح الترغيب (2242). وأخرج مسلم: كتاب الطهارة – باب فضل الوضوء، حديث (223) قوله: ((الناس غاديان...)).
[2] ضعيف، أخرجه الطبراني في الأوسط (6495)، وذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص100) أن إسناده فيه نظر. وقال الهيثمي: فيه من لم أعرفهم، مجمع الزوائد (1/291). وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (1812).
(1/64)
لا... يا مؤتمر السكان
الأسرة والمجتمع
المرأة, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
سر تكريم الله , وجوهر الإنسانية , العقل والإرادة وقبول الشرع – حضارة اليوم في طريقها إلى الهاوية – أهداف مؤتمر السكان الحقيقية – نظرة الإسلام إلى الرزق والتكاثر – أسباب الأزمات
في الدول الفقيرة , ونظرة القوى الكبرى إليها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى.
أيها المسلمون: كرم الله بني آدم وحملهم في البر والبحر والجو، ورزقهم من الطيبات، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً. بشر مكرم جعله الله أهلاً لهدايته، ومحلاً لتكاليفه، هو الوحيد بين المخلوقات عاقل ذو إرادة، متحكم في رغباته، قادر على كبح جماح شهواته. نعم إن سر التكريم وجوهر الإنسانية العقل والإرادة وقبول التشريع. بغير كبح جماح النفس، والتقدير الصحيح للمضار والمنافع، والسير على هدى الله ـ يكون الإنسان وحشًا كاسرًا في غابة مخيفة.
كم من أمة ابتعدت عن نور الله، واستسلمت لنزواتها، وانطلقت لاهثة وراء مشتهياتها فزلت بها القدم، ثم زالت إلى العدم، زلت ثم زالت: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه :123،124].
وحضارة اليوم بملاحدتها وماديِّيْها على هذا الطريق المنحرف تنجرف، كفار بالله وكفار بالغيب، لا يرجون لله وقارًا، استسلموا لعقولهم واستعبدتهم آلاتهم وحاسباتهم، يخططون للدنيا ويدبرون في الكون بعيدًا عن الله وذكره وشكره. لسان حالهم ومقالهم يقول: (ربنا لقد أخطأت التقدير وأسأت التدبير؛ فالأقوات غير كافية، والموارد عندنا متناقصة، والأرض لنا غير متسعة)، تعالى الله عما يقول الظالمون الكافرون الجاحدون علواً كبيراً. لَخَلْقُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ ?لنَّاسِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الحجر:21].
يد ربنا ملأى، لا تغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، سوق الرزق بإذن الله، وتوزيعه بحكمة الله. خلق الأرض وبارك فيها وقدر فيها أقواتها... فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ وَ?شْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17].
يقال ذلك أيها الإخوة: وفي الأيام القريبة سوف يعقد مؤتمر [1] يتظاهر أصحابه بالحب للبشرية والخوف عليهم. وهو ينضح بالكفر ويطفح بالإلحاد ويناوئ في الله حكمه وأحكامه. وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ?لْحَقّ [الممتحنة:1]. وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء [النساء:89].
مؤتمر يهدد – فيما يزعمون – بالانفجار السكاني، ويخوف بنقص خزائن الله، مؤتمر يزعم أن الحل لمشكلات البشر بنشر الإباحية المطلقة، وإقرار اللواط، وزواج الشواذ، وفوضى الجنس بين المراهقين والأحداث والعزاب والمتزوجين، وشرعية الإنجاب من غير زواج، وتمرد الأبناء على ولاية الآباء، والتنفير من الزواج المبكر، وإباحة الإجهاض كله.
تمرد على كل الشرائع السماوية، والقوانين الشريفة، والأخلاق السامية، والفطر السليمة، وإلحاد صارخ وكفر بواح.
لقد أجلبوا بخيلهم ورجلهم وعدتهم وعتادهم، وكتبوا واستكتبوا، تنادوا من كل جانب، لقد زعموا أن قلة السكان تؤدي إلى زيادة التنمية. وهذا ميزان معكوس، ومعالجة سلبية. إن الانسان هو الوحيد من بين المخلوقات على هذه الأرض الذي يتعامل – بإذن الله وهدايته – بالتنمية والزيادة والمزج والخلط والتركيب والتوليد والجمع والتفريق.
الصين أكثر الدول سكانًا، وهي أرفعها في التنمية معدلاً... هذا هو الحديث إليهم حسب مقاييسهم.
أما أهل الإسلام فينظرون إلى القضية بمقياس أكبر وأدق؛ إن استدرار الأرزاق، واستجلاب الخيرات، ورفع معدلات التنمية، لا يكون ولن يكون إلا بالإيمان بالله ربًا مدبرًا، خالقًا حكيمًا، عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير. ومن مقتضيات هذا الإيمان اتباع الأوامر واجتناب النواهي، نؤكد الميثاق مع ربنا ولا ننقضه، ومن ثم يكون الخضوع لله وتحكيم شرعه، والبعد عن الظلم والتظالم، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكل الربا، ومنع الزكاة وحقوق المال، وتقطيع الأرحام، وبخس الناس أشياءهم، وتضييع الموارد والثروات، وتبديدها فيما لا يرضي الله، والحذر من ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
هذه مقتضيات الإيمان ثم يكون الأخذ بسنن الله في العلم والعمل وحسن الاستثمار، ومراجعة السياسات الاقتصادية والخطط التنموية وبرامج التعليم والإعلام والاستفادة الكاملة من الفرد والجماعة على نور من الله وهدي الإسلام.
إن البلاء في سياساتهم وليس في أناسيهم، خزائن الله لا تنفد، وإنما شحت أنظمتهم الجائرة وحاقت بهم خططهم الماكرة. ليس الحل بمعاقبة الإنسان، وإهلاك الشعوب، والتعامل مع البشر كما يتعامل مع النفايات ليلقى الفائض منها في الزبالات... ألا ساء ما يحكمون!!!
أيها المسلمون أيها العقلاء: إن الأعداد البشرية وزيادتها ونقصها وتوازنها كل ذلك خاضع لسنة الله وحكمته، وقدره وعلمه: ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى? وَمَا تَغِيضُ ?لاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ [الرعد:11]. وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى? وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ [فاطر:11].
وخضوعًا لهذه السنن الإلهية والحكم الربانية جعل نبينا محمد : ((من أعظم الذنوب وأكبرها أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)) [2]. إن حق الحياة محفوظ لكل نسمة، ولما أذن النبي بالعزل لمن سأله قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) [3] ، وفي رواية: ((اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) [4]. هذه هي العقيدة والواقع.
أيها الإخوة: هذا جانب من القضية، وثمت جانب آخر: إنه حكم الظالم على المظلوم والقوي على الضعيف، فلقد صبوا جام غضبهم على الدول الضعيفة والفقيرة، واستبدوا بالثروات واحتكروا الصادرات، ثم اتهموا الدول الفقيرة بأن فقرها وعوزها لكثرة سكانها؛ أليسوا هم الذين يتلفون فائض الإنتاج حتى لا تنخفض الأسعار؟! أليس أسعار ما يرد منهم في تزايد وأسعار ما يصدر إليهم في تناقص؟! اتفاقيات ومعاهدات جائرة يبرمونها مع هؤلاء الضعاف الفقراء منحازة مع دول الشمال وما يرد من الشمال وما ينتجه الشمال، مساعداتهم التي يمنون بها لا تصل إلا مخنوقة بالديون، ومثقلة بفوائد الربا، ومكبلة بالشروط ومحدودية الصرف بما لا يرفع رأسًا أو يورث تنمية. أما الستار الحديدي الغليظ فمضروب على التقنيات ووسائل تحسين الإنتاج وتطوير وجوه الاستثمار، ناهيك بسياساتهم المسعورة في التسلح وإنفاق البلايين في إنتاج السلاح وترويجه، وافتعال الحروب ونشرها، وزعزعة الاستقرار السياسي، والمذابح الجماعية والفتن الطائفية. لقد ربينا أبناءنا صغارًا فقتلتموهم كبارًا قتلاً حسيًا ومعنويًا.
إن عندهم من مخزون السلاح ما يكفي لتدمير الأرض وإهلاك الحرث والنسل عشرات المرات، ولو أنهم اكتفوا بمخزون يكفي لتدمير العالم مرة واحدة لفاض في ميزانياتهم ما يغطي مشروعات الإنتاج والخدمات في العالم أجمع. ولكنه الإجرام الغليظ، والأنانية المستحكمة والجور في التوزيع، والاستئثار المقيت بما يملكون من صادر وما يقدرون عليه من وارد. ومع ذلك يتبجحون ويأمرون ويوصون ويقررون، ثم ينحون باللائمة في المشكلة الإنمائية والسكانية على هذه الدول الضعيفة، ولكنه الثور يضرب لما عافت البقر.
وإن أردتم شيئًا من الحقيقة – أيها الأحبة – فلتعلموا أن تكاثر الدول الضعيفة والفقيرة وبخاصة دول الإسلام يخيفهم ويفزعهم، طفحت بذلك وثائقهم وملفاتهم. لقد قررت تلك الوثائق والملفات أن تزايد السكان يهدد مصالحهم ويزعزع أمنهم، ولقد قالوا فيما قالوا: إن أقطارهم أصبحت تذوب كالجليد تحت الشمس أمام تزايد الشعوب الأخرى، ولقد كان بعضهم أكثر صراحة حين قال: إنهم يواجهون في المستقبل خطر الأسلمة (أي الدخول في الإسلام). لقد تعالت نداءات كتابهم ومنظِّريهم في التحذير من اختلال ميزان القوى بين الشرق والغرب، حتى صرحوا بأن لدى مناطق المسلمين خصوبة ما لديهم بأضعاف، مما سوف ينقل السلطة والقوة في مدة لا تتجاوز بضعة عقود، هذا ما حفلت به حساباتهم ونسبهم المئوية.
نعم – أيها الإخوة – لقد تناقصت أعدادهم، وقلت نسب المواليد فيهم، فأصبحوا يدفعون الإعانات للأسر لزيادة الإنجاب، ولن تزداد أعدادهم وقد استباحوا ما حرم الله على ألسنة رسله ومانزلت به كتبه، فأحلوا السفاح، واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فصار حالهم مترددًا بين شذوذ وسحاقٍ.
ألا فاشكروا الله أيها المسلمون إذ كثركم، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين؟
ثم ألا فليخسأ الماديون: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6].
ليُثْبر الملاحدةُ: وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [العنكبوت:60]. وليندحر الكافرون بالغيب وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـ?قٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31].
والصَّغار والذلة للإباحيين؛ فلقد بايع المؤمنات رسول الله على: ألا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن.
ولنهنأ بديننا ولنتمسك بالحق من عند ربنا: وَلَوِ ?تَّبَعَ ?لْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ [المؤمنون:71]. قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ?لإِنفَاقِ وَكَانَ ?لإنْسَـ?نُ قَتُورًا [الإسراء:100]. أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ ?لْمُسَيْطِرُونَ [الطور:37].
كلا خابوا وعزَّتِك ياربنا وخسروا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الكفرة والملاحدة وكل من خذل الدين. اللهم أصلح أحوال المسلمين، وبارك لهم في أرزاقهم وذرياتهم، واجعلهم شاكرين لنعمك قابليها.
[1] هو مؤتمر السكان، انعقد في القاهرة في الفترة من 29/3/1415هـ الموافق 5/9/1994م حتى 8/4/1415هـ الموافق 13/9/1994م.
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن – باب قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أنداداً... حديث (4477). ومسلم: كتاب الإيمان – باب كون الشرك أقبح الذنوب... حديث (86).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب العتق – باب من ملك العرب رقيقاً... حديث (2542)، ومسلم: كتاب النكاح – باب حكم العزل، حديث (1438).
[4] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب النكاح – باب حكم العزل، حديث (1439).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/65)
صوموا لعلكم تتقون
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصوم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
الوصية بتقوى الله وبيان فضلها – غاية الصوم تقوى الله , ومعنى ذلك -
كيف يصوم القلب , وأثر صلاحه على الجوارح – حال الصائمين المتقين -
كيف يكون الاستعداد لرمضان ؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي ـ أيها الناس ـ بتقوى الله، فالعز والشرف في التقوى، والسعادة والعلا عند أهل التقوى. التقوى ـ أيها السلمون ـ كنز عظيم، وجوهر عزيز. خير الدنيا والآخرة مجموع فيها: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197].
القبول معلق بها: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]. والغفران والثواب موعود عليها وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:5]. أهلها هم الأعلون في الآخرة والأولى: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
غير أن أزمنتنا المتأخرة، وعصورنا المادية كست قلوب أصحابها طبقات من الغفلة، وغشت على أبصارها سحب من الصدود كثيفة. فعموا عن الطريق، وحسن ظنهم بالترقي في جاه الدنيا وسلطانها، فالشقي في ميزانهم من قلت مادته وقدر عليه رزقه. وهذا لعمر الحق غفلة شنيعة، وجهل في المقاييس عريض. وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:131،132].
نعم أيها الإخوة، المتقون تقر أعينهم بالطاعات في الدنيا، وبعلى الدرجات من الجنة في الأخرى.
يقال ذلك أيها المسلمون وقد أظلكم هذا الشهر الكريم المبارك، شهر فرض الله عليكم صيامه لعلكم تتقون.
أيها الإخوة، غاية الصيام تقوى الله عز وجل. تقوى يتمثل فيها الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. تقوى صادقة دقيقة يترك فيها الصائم ما يهوى حذرًا مما يخشى. ولئن كانت فرائض الإسلام وأحكامه وأوامره ونواهيه كلها سبيل التقوى، فإن خصوصية الارتباط بين الصيام والتقوى شيء عجيب.
أيها الإخوة، جوارح الإنسان عين وأذن ويد ولسان، وبطن وفرج، والقلب من ورائها أصلها وحاكمها.
صام القلب واتقى إذا جرد العبودية لله وحده، خضع لجلاله، وسعى لقربه، وأنس بمناجاته. خلص من الشرك، وسلم من البدع، وتطهر من المعاصي. قلب تقي يرى الهوى والشهوة والظن والبغي، والعداوة والبغضاء، والغل والحسد والجدل والِمراَء أمراضًا قلبية فتاكة تقتل الأفراد وتهلك الأمم. القلب التقي يرفضها ويأباها ويتقيها ويتقيَّؤُها، وصيامه ينفيها ويجفوها.
قلب صائم متدين لله بالطاعة، مستسلم له بالخضوع والاستجابة، منقاد لتنفيذ الشرع في الأمر والنهي. عبودية لله خالصة لا يصرفه عنها شهوة ولا شبهة، ولا يشوش عليه فيها أمان ولا طمع، قلب قوي تقي، لله صلاته وصيامه ونسكه ومحياه ومماته. ((فمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [1].
وإذا صلح القلب صلحت الجوارح، فقامت بحق الطاعة وكفت عن الآثام. فالبطن محفوظ وما حوى، ترك الطعام والشراب والشهوة من أجل الله، تقىً عالٍ يقي النفس جماح غرائزها، وإرادة مستعلية مستحكمة تأخذ أمر ربها بقوة، وتزدجر عن النواهي باستسلام.
لقد كان على الهدى، وائتمر بالتقوى من منع جسده تخمة الغذاء ليمنع جوارحه السوء والأذى. قلة الشبع تكبح الجماح، وتبعد نزغات الشياطين، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم [2].
قلة الشبع تجعل الجوارح أقرب لفعل القربة، يرق القلب، ويغزر الدمع، ويخذل الشيطان. وانظر ـ حفظ الله دينك وزاد في تقاك ـ في ضعافٍ مهازيلَ؛ ممن جاع نهاره، وملأ في الليل بطنه، فهو صريع لذة عارمة، وعبد لشهوة جامحة. هل حقق معنى التقوى حين تفنن بأطايب الطعام وألوان الموائد؟! بينما قليل منه قد يشبع جياعًا ويسعد أسرًا، قليل منه قد يكفكف دموعًا ويوقف عبراتٍ؟هل أعطى واتقى ـ أم كيف أعطى؟ وماذا اتقى؟ ـ من جعل رمضان تبذيرًا، وفطره تخمة؟! مسكين بائس لا يرى في الصوم إلا جوعًا لا تتحمله معدته، وعطشًا لا تقوى عليه عروقه.
أي تقوى وأي مقاومة عند أمثال هؤلاء المهازيل؟! أولئك أقوام انهزمت عزائمهم أمام جوع بطونهم. لقد أورثهم الشبع قسوة، فجعلهم نَؤُومِين، وأقعدهم كسالى.
ألا فاقعدوا أنتم الطاعمون الكاسون، من أعلن استسلامه في معركة لقيمات لا تدوم سوى سويعات فليس جديرًا بأن يعيش عزة المتقين، وعلياء الشهداء والمجاهدين.
الله أكبر؛ لقد فرض الصيام لتمحيص التقوى، وليصبح المسلم صائمًا بقيامه بترك مطعمه ومشربه؛ قصده رضا محبوبِه: ((الصوم لي وأنا أجزي به)) [3].
هذا حال البطن وما حوى. فيا ترى ما بال الرأس وما وعى؟ من لم يدع قول الزور والعمل به كيف صام؟ وماذا اتقى؟ حظه من صيامه الجوع والعطش ونصيبه من قيامه السهر والنصب. أين التقوى في أسماعهم وأبصارهم؟ لغو ولهو وقيل وقال، وأصوات معازف، وصور ماجنة، وقصص خالعة. في النهار نوم في تقصير، وفي الليل سهر في غير طاعة، متبرمون في أعمالهم، سيئون في معاملاتهم، ويتثاقلون في أداء مسؤولياتهم، نشاط في اللهو والسمر، وكسل في الجد والعبادة.
أيها الأحبة، شهركم شهر التقوى، شهركم موسم عظيم للمحاسبة، وميدان فسيح للمنافسة، تصفو فيه نفوس من داخلها، وتقترب فيه قلوب من خالقها. تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، وتكثر دواعي الخير وأسباب المثوبة.
رحمة ومغفرة وعتق من النار. فأقبلوا على الطاعة، وتزودوا من التقى، واستروحوا روائح الجنة، وتعرضوا للنفحات.
الصائمون المتقون لا يزالون في صلاة وصيام وتلاوة وذكر وصلة وإحسان وجدٍ وعملٍ. فاطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات ربكم، فخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
أيها المتقون الصائمون، فتشوا عن المحتاجين من أقربائكم والمساكين من جيرانكم والغرباء من إخوانكم، لا تنسوا برهم وإسعادهم، أشركوهم معكم في رزق ربكم. اذكروا جوع الجائعين، ولوعة الملتاعين، وعبرات البائسين، وغربة المشردين ووحشة المهجرين.
اسألوا في شهر التقوى والمحاسبة: هل قام بحق التقوى من بات شبعان وحوله جائع يستطيع إشباعه فلم يفعل؟ وهل قام بحق الشهر من رأى نفسًا مؤمنة بائسة يستطيع إسعادها فلم يفعل؟
أيها المسلمون، صوموا حق الصيام لعلكم تتقون. ومن يتق الله يكن معه، ومن كان الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، وإذا كان الله معك يا عبد الله فمن تخاف ؟ وإذا كان عليك فمن ترجو؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ?لَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:183-185].
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الإيمان – صوم رمضان احتساباً من الإيمان، حديث (38)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب الترغيب في قيام رمضان... حديث (760 و_2203-2205).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الاعتكاف – باب زيارة المرأة زوجها... حديث (2038)، ومسلم: كتاب السلام – بيان أنه يستحب لمن رئي... حديث (2174).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصوم – باب فضل الصوم، حديث (1894)، ومسلم: كتاب الصيام – باب فضل الصيام، حديث (1151).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جعل الصيام جنة، وسببًا موصلاً إلى الجنة، أحمده سبحانه وأشكره؛ هدى إلى خير طريق وأقوم سنة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله بعثه إلينا فضلا منه ومنة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، فالشهور والأعوام والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تمر سريعًا، وتنقضي جميعًا. إنها أيام الله خلقها وأوجدها وخص بعضها بمزيد من الفضل، فما من يوم إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته، ولطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بفضله ورحمته من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم. وإن بين أيديكم شهرًا عظيمًا، وأيامًا فاضلة ولياليَ شريفة، فأحسنوا فيها الوفادة وجدُّوا فيها بالعمل. فلم يكن سلفكم يستعدون لها بمزيد من الأكل والشرب، ولكن بالطاعة والعبادة والجود والسخاء، فهم مع ربهم عباد طائعون، ومع إخوانهم بررة محسنون، والأسوة في ذلك والإمام نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام فهو أجود ما يكون في رمضان [1] ، ويجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره، يحيي ليله ويوقظ أهله ويشد المئزر [2]. ذلكم هو مسلك التقوى، وهذه مراسم الاستقبال فاعملوا وأحسنوا وأبشروا.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي – باب بدء الوحي (6)، ومسلم: كتاب الفضائل – باب كان النبي أجود الناس (2308).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب صلاة التراويح – باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، حديث (2024)، ومسلم: كتاب الاعتكاف – باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، حديث (1174).
(1/66)
الحث على العلم
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
العلم الشرعي, تراجم
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
نور للدنيا وسبب لخشية الله. 4- مكانة أهل القرآن وتقدمتهم في الدنيا. 5- ما هو العلم الشرعي
الذي ينبغي طلبه. 6- السحر والشعوذة من العلوم المحرمة. 7- العلوم الكونية والطبيعية من
فروض الكفاية. 8- سيرة أبي عمر المقدسي. 9- فشو الجهل وقلة العلم سبب لانتشار المعاصي
والفساد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله سبحانه حث على طلب العلم حيث أن أهل العلم من أفضل الناس ورغب فيه وجعل العالم أفضل ممن هو دونه في العلم نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ، يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ، وجعل سبحانه العلم ضد الجهل فكل من ليس بعالم فهو جاهل وكل إنسان منا عالم بما علم جاهل بما جهل، ومنذ القدم عاب أهل الرأي والحكمة، الجهل، وحسب الجهل خسة وضعة. وبين سبحانه أن أعداء الدين وأعداء الرسل وأعداء المصلحين لا يرضى أحد منهم أن ينسب إليه ولو كان فيه.
أهل الجهل هم من الذين لم يرد الله بهم خيرا فابتعدوا عن العلم والعلماء وكان الجهل صفة لازمة لهم واجتمع فيهم الغي والضلال فكانوا من أظلم الخلق اعتداءا على الله حيث حاربوا دينه وابتعدوا عن شريعته قال تعالى: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ، وبين سبحانه أنه لا يؤتي العلم من كان متجبرا متكبرا عاصيا مبغضا لأوليائه محبا لأعدائه فقال سبحانه: سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ، وكما قال الشافعي:
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
و أخبرني بأن العلم نور
و نور الله لا يؤتاه عاصي
وبين سبحانه أن سبب تمسك الناس بالباطل، وشراؤهم للهو وإنفاق أموالهم في مساخط الله هو عدم العلم فقال سبحانه: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ، فبعد الناس عن العلم واستحواذ الجهل عليهم سبب للضلال والبعد عن الله والسير في الطرق المنحرفة سواء في الاعتقاد أو السلوك أو التصور أو في الفهم الصحيح لهذا الدين.
ولهذا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة وقد أمر الله سبحانه بالعلم قبل العمل فقال عز شأنه: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل.
فالإنسان بلا علم ليس له قيمة في هذه الحياة فهو غير معدود من الناس إذا عاش، وغير مفقود إذا مات، فبالعلم الراسخ والإيمان المنير تضيء الحياة وكما قيل:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
ويعرف الإنسان منا قيمته، ويعرف من أجل ماذا خلق؟ وإلى أين المصير؟ فالعلم الراسخ هو السبيل إلى المعرفة الصحيحة والثبات على الإيمان والسمو بهذا الدين والتلذذ بحلاوته والاعتزاز به والتمسك بعروته الوثقى، ونحن نشهد في كل زمان أن أهل العلم الذين يتعمقون فيه ويقرؤون ويبحثون ويعلمون يجدون أنفسهم أمام دلائل الإيمان الكونية التي ترفع من إيمانهم ولهذا يثني الله على أهل العلم ممن هو من أهل هذا الوصف فقال عنهم: إنما يخشى الله من عباده العلماء ، فبالعلم تزداد خشية الإنسان لربه قال الإمام أحمد رحمه الله: (كل من كان بالله أعرف كان من الله أخوف).
فالعلم هو النور الذي يبدد ظلام الجهل وهو القوة والعزة والمنعة، بالعلم تزداد العقول هدى ورشدا، وترتقي النفوس فتمتلئ بالثقة والثبات.
ولقد بلغت عناية الله عز وجل بنا لرفع الجهل عنّا أن كان أول ما نزل من الوحي لنبينا أعظم كلمة هبط بها جبريل هي قوله تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق ، وقالها لأصحابه وانطلقت بعد ذلك لتصبح شعارا للمسلمين ليكونوا حملة المشعل، مشعل العلم الهادي وأمر الله عز وجل في أول آية نزلت من القرآن دليل واضح على أهمية العلم في تكوين عقل الإنسان وفي رفعه إلى المكانة السامية وأما النصوص التي وردت في السنة التي تحث على طلب العلم فهي كثيرة جدا وهذه الأدلة الآتية هي كالبرهان الساطع والإثبات القاطع على ذلك منها:
ما رواه الطبراني والبزار بإسناد صحيح قال : ((فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)).
وما رواه الإمام مسلم في صحيحه: ((من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده)).
وما ورد في الترمذي بسند صحيح:
أنه ذكر لرسول الله رجلان أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: ((فضّل العالم على العابد، كفضلي على أدناكم)). ثم قال : ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلمي الناس الخير)).
وروى ابن ماجة بإسناد حسن عن النبي أنه قال: ((من علّم علما فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل شيء)).
ويبلغ من فضل العلم أنه يرفع قدر أناس ليس لهم حسب ولا نسب فوق كثير من الأكابر كما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن أبي الطفيل: أن نافع بن عبد الحارث أمير مكة خرج واستقبل عمر بن الخطاب بعسفان، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، فقال عمر: ومن ابن أبزى فقال رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم قد قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)). وكما قال الأول:
والجهل يزري بالفتى في قومه
وعروقه في الناس أي عروق
وكما قيل:
العلم يرفع بيتا لا عماد له
والجهل يهدم بيت العز والشرف
بل قد يصل الأمر بالناس لخدمة العالم والسعي في إنهاء أموره وقضاء حاجاته كما قال الشافعي رحمه الله:
العلم من فضله لمن خدمه
أن يجعل الناس كلهم خدمه
ومما ورد في الحث على طلب العلم وتحصيله ورفع الجهل وتقليله: تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة، والخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، يرفع به أقواما فيجعلهم في الخير، قادة قائمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلّتهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام وهو إمام العمل والعمل تابعه، ويلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء.
فينبغي ليطالب العلم أن ينوي عند طلبه للعلم رفع الجهل عن نفسه وعن غيره حتى يؤجر على ذلك ويؤتى ثمرة العلم وبعد أن عرفنا فضل العلم علينا أن نعلم أنه ينبغي لطالبه ألا يمل في طلبه، فهذا أحمد وقد رؤي يكتب العلم فقيل له: إلى متى وأنت تحمل المحبرة؟ فقال رحمه الله: (مع المحبرة إلى المقبرة). يعني أنه يكتب ويطلب في العلم حتى الموت. وقد قيل لابن المبارك: إلى متى وأنت تحصل العلم وتكتبه؟ قال: (لعل الكلمة التي تنفعني لم أصل إليها بعد).
وحد العلم الشرعي الواجب معرفته والذي ينبغي صرف الهمة إلى تحصيله والبحث عنه قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والمراد بالعلم، العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عبادته، ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص).أ.هـ.
فالعلم الذي رغّب فيه الشارع هو علم الفقه إذ به يتوصل إلى الحلال والحرام وهو أيضا علم الكتاب والسنة إذ بهما يتوصل إلى العلم كله إضافة إلى ذلك أنه علم معاملة العبد لربه.
والمعاملة التي كلّفها العبد على ثلاثة أقسام:
اعتقاد وفعل وترك:
فأما الفعل: فإذا بلغ الصبي سن التمييز فيجب أن يتعلم كلمتي الشهادة وفهم معناها فإذا جاء وقت الصلاة، عُلّم الصلاة والصيام والحج وهكذا يتعلم كل حكم في وقته.
وأما التروك، فهو بحسب ما يتجدد من الأحوال فلا يجب على الأعمى تعلم ما يحرم النظر إليه ولا على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام وهكذا.
وأما الاعتقاد: فيجب عليه معرفة ربه ويجب أن يتعلم التوحيد الصافي.
كتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات ويكون اعتقاده كعقيدة السلف الصالح، ويجب عليه مجانبة أهل البدع والأهواء، وينبغي أن يتعلم الإيمان بالبعث وبالجنة والنار فهذا هو المراد بطلب العلم الذي هو فرض عين، وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب والحساب والصيدلة والهندسة، وغير ذلك، وقد يكون بعض العلم مباحا كالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها ولا طعن فيها بالدين أو العقيدة، وكذلك تواريخ الأخبار.
وقد يكون بعض العلوم محرما كعلم السحر والشعوذة وغير ذلك.
وأما الآثار التي تترتب على من طلب العلم فمن تلك الآثار:
الخشية: وكما قيل: إنما العلم الخشية. فحقيقة العلم النافع وثمرته النهائية هي معرفة الله والعلم به وما يقّرب منه ثم العمل بالعلم فإن أخلص القصد فيه لوجه الله واستعان بالله أعانه وهداه ووفقه وسدده وفهمّه، وألهمه، وحينئذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به وهي خشية الله. وقد سئل أحمد بن حنبل رحمه الله: هل كان مع معروف الكرخي شيء من العلم؟ فقال: (كان معه رأس العلم، خشية الله تعالى).
ومن الآثار أيضا اكتساب الفضائل بشتى أنواعها من فعل للطاعات وترك للمنكرات والاجتهاد في العمل الصالح كما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: (ما حفظت حديثا عن رسول الله إلا عملت به ولو مرة).
فمن قرأ مثلا سير العلماء العاملين يجد أنهم نتيجة علمهم كانوا يتسابقون في الخيرات وكان الواحد منهم مقدما في جميع أعمال الخير فهذا مثلا أبو عمر المقدسي رحمه الله قال عنه الذهبي: كان قدوة صالحا عابدا قانتا لله، ربانيا، خاشعا مخلصا عديم النظير، كبير القدر، كثيرا الأوراد والذكر، والمروءة والفتوة والصفات الحميدة، قل أن ترى العيون مثله، كان كثيرا التهجد وكان يكثر الصيام ولا يكاد يسمع بجنازة إلا شهدها، ولا مريض إلا عاده، ولا جهاد إلا خرج فيه ويتلو كل ليلة ُسبعا مرتلا في الصلاة وفي النهار سبعا بين الصلاتين وإذا صلى الفجر تلا (يس) و(الواقعة) و(تبارك) ثم يقريء ويعلم الناس إلى ارتفاع النهار، ثم يصلي الضحى، فيطيل ويصلي طويلا بين العشائين، ويصلي صلاة التسبيح كل ليلة جمعة، فقيل: كانت نوافله في كل يوم وليلة اثنتين وسبعين ركعة، وله أذكار طويلة، وله أوراد عند النوم واليقظة وتسابيح، ولا يترك غسل الجمعة وله معرفة بالفقه والعربية والفرائض وكان قاضيا لحوائج الناس، ومن سافر من الناس يتفقد أهاليهم وكان الناس يأتونه في القضايا فيصلح بينهم وكان ذا هيبة ووقع في النفوس وكان ربما تصّدق بالشيء وأهله محتاجون إليه رحمه الله.
هذه الفضائل التي نالها الشيخ أبو عمر المقدسي رحمه الله إنما نالها بالعلم والعمل والجد والمثابرة محتسبا الأجر عند الله تعالى وهذه الفضائل وأعمال الخير أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اعلموا أنه ما انتشرت الجرائم وكثرت الفواحش، وتجرأ الناس على دين الله إلا بسبب قلة العلم وتفشي الجهل وما ظهر الجهل في أمة شأنها خطير وأمرها عظيم إلا تهدم بنيانها، وتزعزعت أركانها وحل بها الخراب والتدمير والجهل من الشيطان حيث أنه أول ما يلبّس على الناس أن يصدهم عن العلم ويأمرهم بالجهل لأن العلم نور، فإذا أطفأ مصابيحهم خبّطهم في الظلم كيف يشاء، فالعلم نور وإبليس يحسن للإنسان إطفاء النور ليتمكن منه في الظلمة فثمرة الجهل أساس كل ثمرة قبيحة من الكفر والفساد والشرك والظلم والبغي والعدوان والجزع والهلع والكنود والعجلة والطيش والحدة والفحش والبذاء والشح والبخل ومن ثمرته الغش للخلق والكبر عليهم والفخر والخيلاء والعجب والرياء والسمعة والنفاق والكذب، والغلظة على الناس وحب الانتقام، ومقابلة الحسنة بالسيئة وترك القبول من الناصحين وحب غير الله ورجائه والتوكل عليه وإيثار رضاه على رضا الله، وتقديم أمره على أمر الله، والدعوة إلى سبيل الشيطان، وإلى سلوك طرق البغي واتباع الهوى وإيثار الشهوات على الطاعات فلا هو قوي في أمره ولا هو بصير في دينه. هذه بعض ثمار الجهل فحريٌ بنا أن نحرص على أن لا نكون من الجاهلين فليس في الوجود شيء أشرف من العلم كيف لا؟ وهو الذي تتم به سعادة البشرية جمعاء وما نراه اليوم من تقدم في جميع مجالات الصناعة والتطور الحضاري إنما هو بسبب العلم، فنحن ليس غرضنا من التعليم أن يتخرج من مدارسنا وجامعاتنا معلّم الصبيان والمؤذن والإمام وفقط، ، ولكن نريد أن يكون منا الصانع والطبيب والتاجر والجندي، والقاضي والخطيب، والشاعر المجيد، والناثر الأديب، والصالح لدينه ودنياه، والعضو العامل في جسم أمته التي تعتز بكتابها القرآن وتفتخر بدينها الإسلام، وذلك لا يكون إلا بمعرفة ما جاء به الكتاب والسنة من القوانين والأحكام، ومختلف العلوم التي بها تستقيم المدينة ويسود النظام، فالدين الصحيح يأمر أهله بالعلم ويحثهم عليه ويجعله شرط العبادة وقِوام الملك والعمران، ويرغّب في العناية به والإنفاق عليه ومعاونة أهله في كل زمان وقديما كان المسلمون يبنون المعاهد والمدارس ويقفون عليها العقار والكتب وما تحتاج إليه وذلك من أعظم الإحسان، ونحن نعيش اليوم في هذه البلاد نهضة علمية قوية فأنشئت المدارس والمعاهد والجامعات كل ذلك لرفع مستوى التعليم لدى جميع أفراد الشعب من رجال ونساء وصغار وكبار كل ذلك لمحو الأمية وليصبح الجميع يقرؤون ويكتبون بلا عناء ولا مشقة فحريٌ بمن كان أميا أن يسرع للالتحاق بأقرب مدرسة إليه ليتعلم وخاصة أن أبواب المدارس مشرعة والدولة ما فتئت تحث على التعليم فجعلته بالمجان حتى لا يحجم أحد ولا يتردد أي أحد ولا يتردد أي شخص من رفع مستواه التعليمي فلله الحمد أولا وآخراً يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
(1/67)
قربات في العشر الأواخر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل العشر الأخيرة من رمضان وهديه فيها صلى الله عليه وسلم – أهمية الدعاء وفضله وأثره-
فضل الاعتكاف وأثره – ليلة القدر وتحريها – التحذير من التفريط في هذه الأيام والمواسم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله أكرم ما أسررتم، وأجمل ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم، أعاننا الله على لزومها، وأوجب لنا ثوابها.
أيها المسلمون، هذه أيام شهركم تتقلص، ولياليه الشريفة تتقضَّى، تتقلص تتقضى شاهدة بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محصنة، ومستودعات محفوظة، تدعون يوم القيامة: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ [آل عمران:30] ينادي ربكم: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) [1].
هذا هو شهركم، وهذه هي نهاياته، كم من مستقبل له لم يستكمله... وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركه... هلا تأملتم الأجل ومسيره، وهلا تبينتم خداع الأمل وغروره.
أيها الإخوة، إن كان في النفوس زاجر، وإن كان في القلوب واعظ، فقد بقيت من أيامه بقيةٌ. بقية وأي بقية، إنها عشره الأخيرة. بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء. في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر [2]. هجر فراشه، أيقظ أهله [3] ، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً: ((ألا تقومان فتصليان)) [4] يطرق الباب وهو يتلو: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمرا: ((أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)) [5].
((ألم يكن النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام لا يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه)) [6].
أيها المسلمون، اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم لا تضيعوا فرصة في غير قربة.
إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان ضرب من الحمق الخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع ولكن الخوف بترك ما يخاف منه العقوبة.
أيها الأحبة، قدموا لأنفسكم وجدوا وتضرعوا. تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله: أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها ؟ قال قولي: ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى)) [7].
نعم أيها الإخوة: الدعاء الدعاء. عُجُّوا [8] في عشركم هذه بالدعاء. فقد قال ربكم عز شأنه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. أتعلمون من هم هؤلاء العباد؟ الخلائق كلهم عباد الله. ولكن هؤلاء عباد مخصوصون إنهم عباد الدعاء، عباد الإجابة، إنهم السائلون المتضرعون سائلون مع عظم رجاء ومتضرعون في رغبة وإلحاح: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ [البقرة:18].
إن للدعاء ـ أيها الإخوة ـ شأنا عجيبا، وأثرا عظيما في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل والتوفيق في الأعمال والبركة في الأرزاق.
أرأيتم هذا الموفق الذي أدركه حظه من الدعاء ونال نصيبه من التضرع والالتجاء يلجأ إلى الله في كل حالاته، ويفزع إليه في جميع حاجاته ،يدعو ويدعى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفان، وأبناؤه البررة والناس من حوله كلهم يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحسن منه الخلق وزان منه العمل، فامتدت له الأيدي وارتفعت له الألسن تدعو له وتحوطه، ملحوظ من الله بالعناية والتسديد، وبإصلاح الشأن مع التوفيق.
أين هذا من محروم مخذول لم يذق حلاوة المناجاة يستنكف عن عبادة ربه، ويستكبر عن دعاء مولاه. محروم سد على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.
أيها الإخوة، إن نزع حلاوة المناجاة من القلب أشد ألوان العقوبات والحرمان. ألم يستعذ النبي من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعاء لا يسمع؟؟؟.
إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجُّون إلى ربهم بالدعاء، يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا بابا واحدا هو باب السماء. باب مفتوح لا يغلق أبدا، فتحه من لا يرد داعيا ولا يخيب راجيا. فهو غياث المستغيثين، وناصر المستنصرين، ومجيب الداعين.
أيها المجتهدون، يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة. العشر الأخيرة، جوف الليل من رمضان، والأسحار من رمضان، دبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود، وتلاوة القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه. فأين المتنافسون؟؟؟.
ألظوا [9] بالدعاء – رحمكم الله – سلوا ولا تعجزوا ولا تستبطؤا الإجابة. فيعقوب عليه السلام فقد ولده الأول ثم فقد الثاني في مدد متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقا: عَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [يوسف:83] ونبي الله زكريا عليه السلام؛ كبر سنه واشتعل بالشيب رأسه ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققا: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً [مريم:4].
لا تستبطئ الإجابة ـ يا عبد الله ـ فربك يحب تضرعك، ويحب صبرك، ويحب رضاك بأقدراه، رضا بلا قنوط، يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال نبيك محمد : ((يستجاب لأحدكم مالم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي)) [10].
أيها الإخوة، ويجمل الدعاء وتتوافر أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يقترن الاعتكاف، فقد اعتكف رسول الله هذه الأيام حتى توفاه الله.
عجيب هذا الاعتكاف في أسراره ودروسه؟؟؟.
المعتكف ذكر الله أنيسه، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجات الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته.
إذ أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم، ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم لازم هذا المعتكف بيت ربه وحبس من أجله نفسه، ويقف عند أعتابه يرجوا رحمته ويخشى عذابه، لا يطلق لسانه في لغو ولا يفتح عينه لفحش ولا تتصنت أذنه لبذاءٍ. سلم من الغيبة والنميمة جانب التنابز بالألقاب، والقدح في الأعراض، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، استغنى عن الناس وانقطع عن الأطماع، علم واستيقن أن رضا الناس غاية لا تدرك.
في درس الاعتكاف انصرف المتعبد إلى التفكير في زاد الرحيل وأسباب السلامة، السلامة من فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول المخالطة.
في مدرسة الاعتكاف يتبين للعابد أن الوقت أغلى من الذهب فلا يبذله في غير حق، ولا يشتري به ما ليس بحمد، يحفظه عن مجامع سيئة، بضاعتها أقوال لا خير في سماعها، ويتباعد به عن لقاء وجوه لا يسر لقاؤها.
أيها المسلمون، أوقاتكم فاضلة تشغل بالدعاء والاعتكاف، وتستغل فيها فرص الخير وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى ليلة القدر: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ [القدر:2] من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.
ليلة خير من ألف شهر، خفي تعينها اختبارا وابتلاء، ليتبين العاملون وينكشف المقصرون، فمن حرص على شيء جد في طلبه، وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه.
إنها ليلة تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء وشقاء الأشقياء: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] ولا يهلك على الله إلا هالك.
فاتقوا الله رحمكم الله واعملوا وجددوا وأبشروا وأملوا.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ (1/68)
الحج
فقه
الحج والعمرة
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة في استقبال الحج. 2- أنواع النسك. 3- صفة الحج وسننه. 4- معاصي يرتكبها
بعض الحجاج. 5- فضيلة الأيام العشر من ذي الحجة. 6- صوم يوم عرفة. 7-سنن الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: إنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى بيت الله الحرام ترجون من ربكم مغفرة الذنوب والآثام وتؤملون الفوز بالنعيم المقيم في دار السلام وتؤمنون بالخلف العاجل من ربكم.
أيها المسلمون: إنكم تتوجهون في زمان فاضل إلى أمكنة فاضلة ومشاعر معظمه تؤدون عبادة من أجلّ العبادات لا تريدون بذلك فخرا ولا رياءً ولا نزهة ولا طربا وإنما تريدون وجه الله والدار الآخرة فأدوا هذه العبادة كما أمرتم من غير غلو ولا تقصير ليحصل لكم ما أردتم من مغفرة الذنوب والفوز بالنعيم المقيم في جنات عدن.
قوموا في سفركم وإقامتكم بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة وغيرهما من شعائر الدين.
فإذا وصلتم الميقات فاغتسلوا وتطيبوا في أبدانكم في الرأس واللحية والبسوا ثياب الإحرام غير مطيبة إزارا ورداءا أبيضين للذكور وللنساء ما شئن من الثياب غير متبرجات بزينة.
والأنساك ثلاثة: التمتع، والقران، والإفراد.
فالتمتع: أن يحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج فإذا وصل الحاج إلى مكة طاف وسعى سعي العمرة وحلق أو قصر فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج وحده وأتى بجميع أفعاله.
وأما القرآن: هو أن يحرم بالعمرة والحج معا ولا يحل من إحرامه إلا يوم النحر.
والإفراد: هو أن يحرم الحاج بالنسك الذي يريد يقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، يرفع بها الرجل صوته بدون تلبية جماعية والمرأة تقول بقدر ما يسمع من بجوارها، وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية خصوصا عند تغيير الأحوال والأزمان، لأن بعض الناس عندما يبدؤون بالسير إلى مكة بعد إحرامهم يستمعون للأغاني ويشربون الدخان ويخوضون في القيل والقال كالغيبة والاستهزاء بالآخرين ونحوها يبقى هذا شأنهم حتى يصلون إلى مكة وهذا لا يليق وهو من الفسوق فكيف يريد أن يرجع من حجه كيوم ولدته أمه إذا كان هذا شأنه؟
فإذا بلغ الحاج البيت الحرام فليطف به سبعة أشواط مبتدأ بالحجر الأسود يشير إليه أو يستلمه أو يقبله حسبما تيسر قائلا: بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك.
ثم يأخذ الحاج ذات اليمين ويجعل البيت عن يساره فإذا بلغ الركن اليماني استلمه من غير تقبيل فإن لم يتيسر فلا يزاحم عليه ولا يشير إليه إن لم يستلمه ويقول بين الركنين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه قائلا: الله أكبر.
ويقول في طوافه ما أحب من ذكر ودعاء وفي طواف القدوم يفعل شيئين أحدهما: الاضطباع من بداية الطواف حتى انتهائه وصفته أن يجعل وسط ردائه داخل إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر.
الأمر الثاني: الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط والرمل هو سرعة المشي مع مقاربة الخطوات وأما الأشواط الأربعة الباقية ليس فيها رمل وإنما يمشي كعادته، فإذا تم الطواف سبعة أشواط تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ثم يصلي ركعتين خلفه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة قل يا أيها الكافرون وفي الثانية قل هو الله أحد فإذا فرغ من صلاة الركعتين رجع إلى الحجر الأسود يستلمه إن تيسر له ثم يخرج إلى المسعى فإذا دنا من الصفا قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله ثم يرقى الصفا حتى يرى الكعبة فيستقبلها ويرفع يديه فيوحد الله ويكبره ثلاثا ويقول: (لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ثم يدعو بين ذلك ويكرر هذه الصيغة من الدعاء ثلاث مرات.
ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشيا فإذا بلغ العلم الأخضر ركض ركضا شديدا بقدر ما يستطيع ولا يؤذي فإذا بلغ العلم الأخضر الثاني مشى كعادته حتى يصل إلى المروة فيرقى عليها ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول مثل ما قاله على الصفا حتى يكمل سبعة أشواط، وفي نهاية الشوط السابع لا يرفع يديه ولا يدعو بل ينصرف.
فإذا تم سعيه حلق رأسه أو قصر إن كان متمتعاً والمرأة تقصر من كل قرن قدر أنملة أما القارن والمفرد فإنه لا يقصر ويبقى على إحرامه حتى يوم النحر وبهذا تمت العمرة.
فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم المتمتع بالحج ضحى من مكانه الذي أراد الحج منه فينوي الإحرام بالحج ويلبي لبيك اللهم حجا، ثم يخرج الحاج إلى منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفجر يوم عرفة قصراً بلا جمع، فإذا طلعت الشمس يوم عرفة سار من منى إلى عرفات فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر ركعتين يجمع بينهما جمع تقديم، ثم يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل ويدعو بما أحب رافعا يديه مستقبلا القبلة وعرفة كلها موقف.
وقال : ((أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)).
وروى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟)).
ولا يدفع الحاج من عرفات إلى مزدلفة إلا بعد غروب شمس يوم عرفة فإذا غربت الشمس سار إلى مزدلفة فإذا وصلها صلى المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ثم يبيت بها ويصلي الفجر ويقعد بعد الصلاة يذكر الله عز وجل حتى يسفر الصبح جدا، ويجمع سبع حصيات ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى فإذا وصلها رمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فإذا فرغ إن كان متمتعا أو قارنا ذبح هديه ثم يحلق أو يقصر ثم ينزل مكة فيطوف طواف الإفاضة ويسعى إن كان متمتعا ثم يرجع بعد ذلك إلى منى فيبيت بها ليلتي الحادي عشر والثاني عشر ويرمي الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس في اليومين المذكورين يبدأ بالصغرى التي تلي مسجد الخيف ثم الوسطى ثم جمرة العقبة ويكبر مع كل حصاة.
فإذا أتم رمي الجمار في اليوم الثاني عشر فإن شاء تعجل ونزل من مني، وإن شاء تأخر وبات بها ليلة الثالث عشر ورمى الجمرات بعد الزوال فإذا أراد الحاج الخروج من مكة إلى بلده طاف طواف الوداع لقوله : ((لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت)).
أيها المسلمون: هذا تفصيل لكيفية أداء مناسك الحج وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني مناسككم)) ، فينبغي للحاج الذي يشكل عليه شيء من أمور الحج أن يسأل أهل العلم فيما أشكل عليه حتى لا يقع في المحظور ويكون حجه وفق السنة الصحيحة.
فإذا رجع الحاج إلى بلاده فليشكر نعمة ربه على توفيقه له بأن يسر له الحج ووفقه له ولا يرجع إلى المعاصي والسيئات بعد أن محيت بالحج. قال تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
أيها الإخوة: إن كثيرا ممن يريدون الحج يرتكبون مخالفات كثيرة هي من مبنى الفسوق كحلق اللحية مثلا فلا يجوز للمسلم أن يحلق لحيته في الحج ولا في غيره لقوله : ((إن الله أمرني بإعفاء لحيتي وحف شاربي)) والأمر هنا للوجوب، وبعضهم وهو بإحرامه لا يتورع عن شرب الدخان والشيشة بدل أن يذكر الله عز وجل في الأيام المعلومات فيؤذي إخوانه بالرائحة الكريهة.
وبعضهم لا يغض بصره عن النساء ولا عن الصور الجميلة وبعضهم لا يحفظ لسانه عن الشتم والسب وسوء الخلق وغير ذلك من المعاصي، وما ذاك إلا لأنهم لا يشعرون أنهم قد تلبسوا بعبادة تفرض عليهم الابتعاد عما حرم الله من المحرمات عليهم خاصة وعلى كل مسلم عامة وكذا تراهم يحجون ويفرغون من الحج ولم يتغير من سلوكهم المنحرف شيء وذلك دليل عملي على أن حجه ليس كاملا إن لم نقل ليس مقبولا، ولذلك فإن على كل حاج أن يتذكر هذا وأن يحرص جهد طاقته أن لا يقع فيما حرم الله من الفسق والمعاصي لأن الله تعالى يقول: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ، والرفث هو الجماع: وقد تكلمت في الجمعة الماضية عن معنى الحج المبرور.
ومما سبق يتبين أن المعصية من الحاج، إما أن تفسد عليه حجه على قول ابن حزم، وإما أن يأثم به ولكن هذا الإثم ليس كما لو صدر من غير الحاج بل هو أخطر بكثير فإن من آثاره أن لا يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه فبذلك يكون كما لو فسد حجه لأنه لم يحصل على الثمرة المرجوة منه وهي مغفرة الله تعالى والله المستعان.
أيها الإخوة: إننا في هذه الأيام الفاضلة في أيام عشر ذي الحجة وهي أيام فاضلة أقسم الله عز وجل بها في كتابه حيث قال: والفجر وليال عشر والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا: ((ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام)) يعني عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بماله ونفسه ولم يرجع منهما بشيء)).
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما من أيام أعظم ولا أحب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام العشر )) فأكثروا فيهن من التهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصيام ونوافل العبادات؛ كالصلاة والجهاد والقراءة والتعليم والتعلم والصدق وغير ذلك من الطاعات، ويشرع في هذه الأيام التكبير المطلق في جميع الأوقات من ليل أو نهار حتى صلاة العيد ويشرع التكبير المقيد وهو الذي يكون بعد الصلوات المكتوبة التي تصلى في جماعة ويبدأ لغير الحجاج من فجر يوم عرفة وللحجاج من ظهر يوم النحر ويستمر إلى صلاة العصر، آخر أيام التشريق.
ومن أراد أن يضحي فلا يجوز أن يأخذ من أظفاره ولا من شعره شيئا حتى يضحي في عيد الأضحى والنهي هنا للتحريم عند الحنابلة، والجمهور على الكراهية لقول النبي : ((إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا)) وفي رواية: ((فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا)) وفي رواية: (( من رأى هلال ي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره)) رواه مسلم. وأما الإخوة الذين لا يريدون الحج فأحب أن أنبههم إلى صيام يوم عرفة فقد فقال : ((يكفر السنة الماضية والباقية)) رواه مسلم.
وعن سعيد بن جبير قال: سأل رجل ابن عمر عن صوم يوم عرفة فقال: ((كنا ونحن مع رسول الله نعدله بصوم سنتين)) رواه الطبراني بسند حسن.
فلا تغلبوا أيها الإخوة على هذه الفضائل فإن السعيد من وفق لاغتنام مواسم الخيرات في أوقاتها والشقي من حرم ذلك.
(1/69)
الخمر وأضرارها
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحميد التركستاني
الطائف
16/6/1418
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وحدة الحكم الشرعي في الخمر والمخدرات. 2- الخمر أم الخبائث والكبائر. 3- الملعونون
في الخمر. 4- التدرج في تحريم الخمر. 5- الحكمة من تحريم الخمر والحكم في التدرج في
تحريمه. 6- عقوبة شارب الخمر في الدنيا والآخرة. 7- أضرار الخمر وآفاتها الدينية
والاجتماعية والصحية والمالية. 8- نصيحة وقصة للمدمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: سوف يكون حديثي في هذه الخطبة عن الخمر وسوف أتكلم بمشيئة الله تعالى في الجمعة القادمة عن المخدرات وليس هناك فرق بين النوعين ولكن لتوضيح شأن هذا المسكر الخبيث وتبيين ضرره دون الإخلال بأهمية هذا الموضوع الذي هو من الأهمية بمكان، حيث أصبح الكثير من الناس يدمنون تعاطي هذه المسكرات وعمت المصيبة به جميع الأقطار وابتلي به الشيوخ والشباب والرجال وبعض النساء ولهذا جعلتها في خطبتين لتبيين ضرر كل من الخمر والمخدرات فأقول وبالله التوفيق.
سميت الخمر بهذا الاسم لأنها تخمر العقل أي: تستره ومنه خمار المرأة لستره وجهها، وأثر الخمر على الإنسان هو إزالة العقل وأفضل ما في الإنسان عقله ولهذا إذا دبت الخمر في رأس شاربها وفقد الشعور، زنى ولاط وجاء بأنواع الفحش والفجور وسب وشتم ولعن الدين والمسلمين وربما اقترف الإثم مع إحدى محارمه وارتكب الموبقات وكذلك يفعل المخمور ومن أجل ما يترتب على شرب الخمر مما ذكرنا من الشرور حرمها كثير من الناس على أنفسهم في الجاهلية قبل بعثة الرسول.
ومنهم قيس بن عاصم المتقري فقد شربه يوما فغمز ابنته وشتم والديه وضرب امرأته فلما أفاق أخبر بما صنع أنشد قائلا:
رأيت الخمر فاسدة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فإن الخمر تفضح شاربيها وتجنيهم بها الأمر العظيما
فلا والله أشربها صحيحا ولا أشفي بها أبدا سقيما
والخمر أم الخبائث تجر شاربها إلى ارتكاب الجرائم وانتهاك المحرمات روى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: (قال سمعت عثمان بن عفان يقول: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة، فدخل معها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وآنية خمر فقالت: إني والله ما دعوتك لشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي أو تقتل هذا الغلام أو تشرب الخمر فسقته كأسا، فقال: زيدوني فلم يبرح حتى وقع عليها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنه لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه) رواه البيهقي وفي الجملة إذا زال العقل حصلت الخبائث بأسرها.
وأما حكم شرب الخمر فإنه حرام وشاربها عاص لله فاسق عن طاعته ويستحق اللعن والعقوبة من الله في الدنيا والآخرة إن لم يتب وقد ذكر ابن حجر الهيثمي في كتاب "الزواجر": أما شرب الخمر ولو قطرة منها فكبيرة من كبائر الذنوب إجماعا.
وقد لعن رسول الله في الخمر عشرة: ((عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشترى له)).
وقد حرم الله عز وجل الخمر بالتدريج ففي أول الأمر كان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ثم إن عمر ومعاذا وآخرين قالوا يا رسول الله: أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل قوله تعالى: يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعها ، فتركها قوم لقوله: إثم كبير ثم نزل بعد ذلك قوله تعالى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فحرم السكر في أوقات الصلاة ولما نزلت هذه الآية حرمها قوم وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة، وفي آخر الأمر نزل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ، فقال عمر : انتهينا يا رب.
والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيرا، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فمن رحمته بهم درجهم في التحريم رفقا بهم.
وفي آية التحريم جملة أمور:
أولا: أن الله قرن الخمر والقمار بالأوثان وعبادة الأصنام وهي عين الشرك ولهذا جاء في الحديث: ((من مات وهو يشرب الخمر مات كعابد وثن)).
ثانيا: جعل الله الخمر والقمار رجسا والرجس ما يستقذر عقلا وشرعا وذلك ليشمئزّ المؤمن ويبتعد عنها.
ثالثا: أنهما من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلا الشر.
رابعا: أن الله جعل اجتنابهما سبيلا للفلاح فقال: فاجتنبوه لعلكم تفلحون وإذا كان اجتنابهما فلاحا كان ارتكابهما خيبة وهلكة.
خامسا: أنهما يؤديان إلى وقوع العداوة والبغضاء بين الأخوان والأصدقاء.
سادسا: أنهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة والصلاة هي عماد الدين.
ثم في الختام جاء الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله فيما أمر به ونهى عنه ومن ذلك النهي عن الخمر والميسر فقال: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول.
والتحذير من مخالفتها فقال: واحذروا.
لقد كان جواب الصحابة عند نزول هذه الآية أن قالوا: انتهينا يا رب.
الله أكبر ما أروعه من امتثال لأمر الله عز وجل وذلك عندما تستقر العقيدة الصحيحة في النفس يكون نداء الإيمان حبيبا إليها يهز مشاعرها ويحملها على الطاعة والانقياد والتخلص مما يتنافى مع هذه العقيدة، لقد امتثل الصحابة لهذا القرار السماوي لأنه من عند الله وامتثلوا هذا النهي لأنه في الدين وحرصوا على تنفيذه رغبة في مرضاة الله وأما ما ورد عن النبي في تأكيد حرمة الخمر ما ذكرنا في لعنه عشر أصناف من الناس ممن لهم صلة بها سواء بالشرب أو الإعانة عليها من قريب أو بعيد.
وقال : ((لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)).
وقال أيضا: ((الخمر أم الخبائث، ومن شربها لم يقبل الله منه صلاة أربعين يوما فإن مات وهي في بطنه مات ميتة جاهلية)) وسنده حسن.
وأما عقوبة شارب الخمر في الآخرة فقد أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله : ((من شرب الخور فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر، لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر، لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة. قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار)) ، وقال أيضا: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة:.. - وذكر منهم:- مدمن الخمر)) والتحريم يشمل أنواع الخمر كافة القليل منها والكثير ((فالخمر ما خامر العقل))، و((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) ويشارك الخمر في هذا الحكم المواد التي تعرف بالمخدرات كالحشيش والكوكايين والأفيون والهيروين ونحوها وهذه المسكرات أشد ضررا وفتكا من الخمر.
وسوف أفرد للمخدرات خطبة مستقلة في الجمعة القادمة إن شاء الله وأما العقوبة الشرعية لشارب الخمر في الدنيا إن شربها عالما مختارا فعليه الحد ثمانون جلدة عند جمهور العلماء وقد استشار عمر في الخمر فقال له علي بن أبي طالب (أرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فجلد عمر في الخمر ثمانين جلدة) وصار هذا كالإجماع بين الصحابة.
بل أمر النبي بقتل شارب الخمر إن أصر عليها فعن ابن عمر أن النبي قال: ((من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه)) رواه ابن ماجه والنسائي وأحب أن أنبه الذين يجالسون شاربي الخمر وإن كانوا لا يشربون نقول لهم: الحذر الحذر فقد نهى النبي عن الجلوس على مائدة يشرب فيها الخمر وقد أوقع عمر بن عبد العزيز حد الخمر في شاربيها وفي من جلس معهم وأمر بجلدهم مع أنهم كانوا صائمين.
وأما أضرار الخمر وآفاتها فما أكثرها.
فلها أضرارها الجسمية، حيث تضعف مناعة الجسم وتجعله عرضة للأمراض المختلفة ولذا ترتفع نسبة الوفيات بين المدمنين لها وكل المؤسسات العلمية متفقة على أن آثاره معروفة بصورة لا شك فيها.
ولها أضرارها العقلية، في الإصابة بالأمراض العصبية والتأثير على المخ وفقد الوعي والبلاهة.
ولها أضرارها المالية، في إتلاف مال الشارب والقعود به عن الكسب وإهدار الثروة العامة.
ولها أضرارها الخلقية فيما يتبعها من جرائم العرض والشرف.
ولها أضرارها النفسية، فيما تقضي إليه من الاضطراب النفسي والشذوذ الخلقي والغضب والبلادة وقلة المبالاة وفقد السيطرة والسلوك.
ولها أضرارها الأسرية، في تمزيق الروابط العائلية وتدمير الأسرة وما تورثه في النسل من آثار وخيمة العاقبة.
ولها أضرارها الاجتماعية في تدمير المجتمع وتبديد طاقاته وإفساد علاقاته الاجتماعية وشيوع الجريمة وانتشار السوء.
ولها أضرارها الدينية في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله آفات الخمر في معرض حديثه عن الفرق بين خمر الدنيا وخمر الآخرة التي أعدها الله لعباده في الجنة فقال عن آفات الخمر في الدنيا: (أنها تغتال العقل ويكثر اللغو على شربها وتستنزف المال وتصدع الرأس وهي كريهة المذاق وهي رجس من عمل الشيطان توقع العداوة والبغضاء بين الناس وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتدعو إلى الزنا وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم وتذهب الغيرة وتورث الخزي والندامة والفضيحة وتلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان وهم المجانين وتسلبه أحسن الأسماء والسمات وتكسوه أقبح الأسماء والصفات وتسهل قتل النفس وإفشاء السر ومؤاخاة الشياطين في تبذير المال الذي جعله الله قياما له ولم يلزمه مؤنته، وتهتك الأستار وتظهر الأسرار وتدل على العورات وتهون ارتكاب القبائح والمآثم وتخرج من القلب تعظيم المحارم ومدمنها كعابد وثن، وكم أهاجت من حرب وأفقرت من غني وذلت من عزيز ووضعت من شريف، وسلبت من نعمة وجلبت من نقمة، وفسخت مودة ونسجت عداوة وكم فرقت بين رجل وزوجته فذهبت بقلبه وراحت بلبّه، وكم أورثت من حسرة أوجرت من عبرة وكم أغلقت في وجه شاربها بابا من الخير وفتحت له بابا من الشر وكم أوقعت في بليه وعجّلت من منية وكم أورثت من خزية، وجرت على شاربها من محنة فهي جماع الإثم ومفتاح الشر وسلاّبة النعم وجالبة النقم ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد لكفى بها من مصيبة وآفات الخمر أضعاف أضعاف ما ذكرنا وكلها منتفية في الجنة)أ.هـ.
وقد ذكر الشيخ البيحاني أيضا في آفاتها: (وبالخمر تقع العداوة والبغضاء وتصور لشاربه خلاف الواقع، ويتوهم وهو سكران القدرة على مصارعة الأسود وأنه السيد المطاع والحاكم المطلق والبحر الخضم في الكرم والجود والحقيقة أنه يكون وقت شربها أضعف من دجاجة وأخبث من جمل وأبلد من حمار وأديث من خنزير، يصده الشيطان بشرابه الخبث عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقعه في معصية الله وسخطه، يرتكب الكبائر، ويقترف الجرائم ويقع في الآثام ويخبط في الحرام، ويترك ما يجب عليه، من الأحكام فيفعل نكرا، وينطق كفرا يسب ربه وأمه وأباه، ويطلق ويزني ويلوط ويعبث بالأعراض والكرامات ويتلف أثاثه ويوسخ ثيابه على نفسه ويبكي بلا سبب ويضحك من غير عجب فتهزأ به الصبيان ويسخر به السفهاء ويمقته العقلاء ويبغضه أهله وجيرانه ورحم الله عدي بن حاتم، إذ قيل له: مالك لا تشرب الخمر؟ فقال: ما أحب أن أصبح حكيم قومي وأمتي وسفيههم) أ.هـ.
أيها المسلمون: وبعد هذا كله وقد أدركنا آفات الخمر ومضارها وحكمها فإن هذا يفرض على شبابنا المسلم أن يقدر خطورتها وأن يحرص عن الابتعاد عن أن يتعاطاها وأن يطهر المجتمع من أدرانها والتلوث بها محافظة على سلامة الأمة وصيانة لها من الدمار النفسي والخلقي والعقلي والاقتصادي.
وفي الختام أناشد من ابتلي بهذا الخبث أن يتوب إلى الله قبل أن يفجأه الموت وأن يسأل الله السداد والهدى وأن يعمل بالصالحات فيما بقي من العمر لعل الله أن يتوب عليه ويغفر له.
جعلني الله وإياكم ممن إذا خوف بالله ندم وخاف ورزقني وإياكم الإنابة والإنصاف وأن يلحقنا بصالح الأسلاف آمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
أيها المسلمون: علينا نحن جميعا واجب النصيحة لكل من تجرأ وأدمن الخمر بأن نذكره بالله فمن كان له أخ أو صديق أو قريب يصر على شرب الخمر فليذكره قائلا: إن كانت عقوبة الدنيا حقيرة في نظرك لا ترعوي بها عن غيك فاعلم أن الله محاسبك وسائلك عن عمرك فيم أفنيته وعن شبابك فيم أبليته وعن مالك فيم أنفقته؟ فبماذا ستجيب يا مسكين وقد عصيت الله ورسوله وتعديت على حدوده؟ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين يا شارب الخمر هل تسوغ طينة الخبال التي هي شراب من شرب المسكر ومات من غير توبة؟ يا شارب الخمر هل تبيع نصيبك من الجنة الخالدة بكأس نجس مذهب للعقل تذهب لذته وتبقى حسرته والرسول يقول: ((لا يدخل الجنة مدمن خمر))؟ يا شارب الخمر أترضى أن يخرج منك الإيمان وأنت تتجرع ولا تقبل لك صلاة أربعين يوما؟ يا شارب الخمر إنك لست متروكا لذاتك ولا للذاتك فإن عليك تكاليف في كل لحظة تكاليف لربك ولنفسك وتكاليف لأهلك وأولادك وأمتك وهي تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة؟ يا شارب الخمر إنك لا تدري ما يحدث لك في ليلك أو نهارك فحذار أن يأخذك الله على ذنبك فلعل أجلك قد قرب فتفارق الدنيا في حالة سكرك فتستحق حينئذ غضب الله والطرد من رحمته وترمى في جهنم لتشرب من عرق أهل النار وتذوق مرارة صديدهم؟
وإليك أسرد هذه القصة: رجل يزيد على الستين عاما ذهب إلى أحد البلاد واستأجر غرفة في أحد الفنادق وأخذ يشرب من الخمر ويعب عبا، ففي اليوم الأول شرب ست قوارير، ثم اتبعها بثلاث ثم ألحقها باثنتين حتى شعر بالامتلاء، وأحس بوضع غير طبيعي فذهب إلى دورة المياه لكي يتقيأ وسقط هناك ولما طالت به المدة، طرقوا عليه الباب فلم يرد عليهم ففتحوه بالقوة فوجدوا الرجل ميتا بأخس مكان وإذا برأسه في نفس كرسي دورة المياه، ومات على سوء خاتمة فمن منا يريد أن يموت مثل هذه الميتة والعياذ بالله فاتقوا الله يا شاربي الخمر، اتق الله ولا تكن أحدوثة الناس، اتق الله فإن الله ناظر إليك وهو سبحانه يمهل ولا يهمل، اتق الله وتب إلى رشدك قبل أن تقبض عليك يد العدالة أو يأخذك الله على ذنبك فتذوق العذاب الهون بما كنت تعمل.
أتأمن أيها السكران جهلا بأن تفجأك في السكر المنية
فتضحى عبرة للناس طرا وتلقى الله من شر البرية
(1/70)
سلعة الله الغالية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية الحديث عن نعيم الجنة وأثره – صور من نعيم الجنة – من هم أصحاب الجنة ؟ -
سبيل الجنة والأعمال المؤدية إليها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته ،وسارعوا إلى مغفرة ربكم ومرضاته، وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته، والعمر سريع الذهاب بساعاته وأوقاته.
أيها المسلمون، الحديث عن النعيم المقيم، والإيمان الراسخ بالنزل الكريم من الغفور الرحيم هو سلوة الأحزان، وحياة القلوب، وحادي النفوس ومهيجها إلى ابتغاء القرب من ربها ومولاها. الحديث عن النعيم والرضوان لا يسأمه الجليس ولا يمله الأنيس.
عزت دار الفردوس من دار، وجل فيها المبتغى والمرام، دار وجنات تبلغ النفوس فيها منيتها ومناها. غرف مبنية طابت للأبرار منازلها وسكناها. جل وتقدس من سواها وبناها، غرسها الرحمن بيده، وجعلها مستقرًا لأهله وخاصته، وملأها برضوانه ورحمته، فيها الفوز العظيم والملك الكبير والنعيم المقيم. ولموضع سوط فيها خير من الدنيا وما فيها: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
أيها الإخوة، وهذا حديث ذكرى وتذكير من آي الكتاب وخبر سيد الأخيار والأحباب نبينا محمد عليه الصلاة والسلام عما أعده ربنا جل وتقدس لعباده المتقين من جنات وعيون ومقام كريم.
أيها الإخوة، يحشر المتقون إلى الرحمن وفدًا، ويساقون إلى الجنة زمرًا. لقد وجدوا ما وعدهم ربهم حقًا، رضي عنهم ورضوا عنه. ناداهم عز جلاله: ي?عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ?لْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَـ?تِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ?دْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْو?جُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:68-70].
أول زمرة منهم يدخلون الجنة على صورة القمر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دريٍّ، على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله بكرةً وعشيًا دَعْو?هُمْ فِيهَا سُبْحَـ?نَكَ ?للَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [يونس:10].
يناديهم المنادي: لكم النعيم سرمدًا، تحيون ولا تموتون أبدًا، وتصحون ولا تمرضون أبدًا، تشبون ولا تهرمون أبدًا، وتنعمون ولا تبأسون أبدًا، يحل عليكم رضوان ربكم فلا يسخط أبدًا.
جنات عدن يدخلونها، غرفاتها من أصناف الجوهر كله، يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها، فيها من النعيم واللذائذ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. اقرؤوا إن شئتم : فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:17]. وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ?لاْنْفُسُ وَتَلَذُّ ?لاْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [الزخرف:71]. فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَـ?رٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـ?رِبِينَ وَأَنْهَـ?رٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ ?لثَّمَر?تِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ [محمد:34].
رياضها مجمع المتحابين، وحدائقها نزهة المشتاقين، وخيامها اللؤلؤية على شواطئ أنهارها بهجة للناظرين، عرش الرحمن سقفها، والمسك والزعفران تربتها، اللؤلؤ والياقوت والجوهر حصباؤها، والذهب والفضة لبناتها: غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ [الزمر:20]. عاليات الدرجات في عاليات المقامات، بهيجة المتاع، قصر مشيد وأنوار تتلألأ، وسندس وإستبرق، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، هم فيها على الأرائك متكؤُن. ظلها ممدود، وطيرها غير محدود، فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون. قطوفها دانية للآكلين، وطعمها لذة للطاعمين. قد ذللت قطوفها تذليلاً.
نعيم البدن بالجنان والأنهار والثمار. ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ونعيم القلب وقرة العين بالخلود والدوام، عيش ونعيم أبد الآباد، عطاء من ربك غير مجذوذ.
فيها أزواج مطهرة، خيرات حسان الوجوه، جمعن الجمال الباطن والظاهر من جميع الوجوه. في الخيام مقصورات، وللطرف قاصرات، تقصر عن حسنهن عيون الواصفين عُرُباً أَتْرَاباً (1/71)
الذهاب للكهان والمشعوذين
التوحيد
نواقض الإسلام
عبد الحميد التركستاني
الطائف
11/3/1417
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكتاب والسنة مصدر العقيدة الإسلامية. 2- الإسلام فقط هو العقيدة الصحيحة. 3- في ظل
انتشار الجهل عادت مظاهر الشرك والوثنية. 4- فرق بين الرقية الشرعية والشعوذة والدجل.
5- سبب قصد المشغوذين والدجاجلة. 6- الوقاية والعلاج هي الرجوع إلى دين الله. 7- حكم
قصد العرافين والمنجمين. 8- حقيقة دعوى معرفة الغيب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتمسكوا بعقيدة التوحيد التي هي معنى لا إله إلا الله ومدلوها ومقتضاها، واحذروا مما ينافي هذه العقيدة أو ينقضها من الشرك الأكبر أو الأصغر وابتعدوا عن الوسائل المفضية إلى الشرك.
أيها الإخوة: إن العقيدة الإسلامية الصحيحة يرجع بها إلى مصدرين أصيلين رئيسين هما كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، وهذان المصدران اللذان بينا عقيدة الرعيل الأول من هذه الأمة، ولا أظن أحدا يخالف في أن عقيدة أولئك الرجال وهم صحابة رسول الله ، كانت هي العقيدة السليمة الصافية صفاء ماء البحيرة حال سكون الرياح، القوية قوة الجبال الرواسي، المتينة متانة العروة الوثقى، وقد غير الله بأصحاب تلك العقيدة مسار التاريخ الإنساني.
والعقيدة ليست أمورا عملية، بل أمور علمية يجب على المسلم أن يعتقدها في قلبه لأن الله أخبرنا بها بطريق كتابه أو بطريق وحيه إلى رسوله وأصولها هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى.
والعقيدة السليمة الصحيحة اليوم لا توجد إلا في الإسلام لأنه الدين المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه وما عدا الإسلام فهو باطل ليس فيه حق يجد الإنسان فيه ضالته.
فمن أراد أن يعرف العقيدة السليمة فإنه لن يجدها في اليهودية ولا النصرانية ولا في كلام الفلاسفة وإنما يجدها في الإسلام في أصليه الكتاب والسنة ندية طرية صافية مشرقة تقنع العقل بالحجة والبرهان، وتملأ القلب إيمانا ويقينا ونورا وحياة وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.
والعقائد تنقسم منذ بدء الخليقة إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إلى قسمين:
الأول: يمثل العقيدة الصحيحة وهي تلك العقائد التي جاءت بها الرسل الكرام في أي زمان ومكان وهي عقيدة واحدة لأنها منزلة من العليم الخبير وتتمثل في الإسلام.
القسم الثاني: يشمل العقائد الفاسدة على كثرتها وتعددها، وفسادها ناشئ من كونها نتاج أفكار البشر ومن وضع مفكريهم ومهما بلغ البشر من عظم الشأن فإن علمهم يبقى محدودا مقيدا، كالشيوعية والهندوسية والبوذية وكالأفكار الإلحادية كالحداثة والعلمانية والقومية والوطنية إلى غير ذلك.
وعندما نقص حظ الناس من العلم الشرعي ازداد جهلهم بعقيدتهم الصافية فأصبحوا يتخبطون ذات اليمين وذات الشمال يطوفون بالقبور والأضرحة يستغيثون بالموتى من أمثال البدوي والحسين والرفاعي والتيجاني وعبد القادر الجيلاني وغيرهم مما هو معلوم بأنه شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام ولا ينفع صاحبه إن فعل بعد ذلك صلاة أو صيام أو أي طاعة من الطاعات قال تعالى: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ، وقال أيضا: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين.
ومن الأمور والأعمال التي تخالف العقيدة السليمة وتخدش في توحيد صاحبها الذهاب إلى الكهان والسحرة والمشعوذين لأجل العلاج والتداوي يلتمسون عندهم الشفاء ولو على حساب عقيدتهم ودينهم، وهؤلاء الكهان والسحرة يأمرونهم بالذبح لغير الله فيذبحون، ويحددون لهم بأن يكون تيساً أسود ويذبح دون أن يذكر اسم الله عليه حين الذبح حتى يستعيذ بغير الله من الجن والشياطين.
ويدعي هؤلاء الكهان - والذين سمّوا أنفسهم كذبا وزورا بأنهم مشائخ تضليلا للناس وترويجا لمكرهم وخداعهم - أنهم يعلمون الغيب فيصدقهم من يذهب إليهم وتنطلي عليه حيلة هؤلاء الدجالين والسبب هو جهل الكثير من الناس بدينهم وعدم تمسّكهم به، حتى أن هؤلاء المشعوذين يأمرونهم بأشياء يتلقونها عن الجن والشياطين فيصدقونهم ويعملون بتوجيهاتهم وإن كانت كفرا وشركا ويتجاهلون قول النبي : ((ليس منا من تطير أو تُطيّر له، أو تكهّن أو تُكهّن له أو سحر أو سُحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه البزار بإسناد جيد. وكل من فعل هذه الأمور أو فعلت له راضيا بها فقد كفر بالقرآن وبرئ منه رسول الرحمن، لأن هذه الأمور كفر وشرك فمن رضي بها فهو كالفاعل لها، فالأمر خطير وقد يتسمى هؤلاء المشعوذين كذبا وزورا بالأطباء الشعبين، وهم في الحقيقة كهنة وسحرة يستخدمون الجن ويغررون بالناس باسم الطب الشعبي، الطب الشعبي برئ من هذه الجرائم حتى إن بعض هؤلاء الدجالين قاتله الله ليس له هم إلا الضحك على النساء فلو أتاه رجل بزوجته أو أخته أو إحدى قريباته قال لمحرمها: أخرج حتى أقرأ عليها، فبعض الأغبياء يخرجون فيأتي هذا المشعوذ بحجة القراءة فيمس جسم المرأة ويمسح على جسدها حتى تلين له لغرض خبيث في نفسه ((وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) ، بل بعضهم تعدّى به الأمر إلى الزنى بكثير من النساء بحجة أنها تحتاج إلى علاج سفلي فيخرج قريبها ليتسنى له علاجها بالعلاج السفلي فإذا به يزني بها حينئذ لا تستطيع المرأة أن تتكلم أو تشتكي لأنه أسقط في يدها عندما انتهك عرضها هذا المجرم الأثيم ثم يهددها بعد ذلك وكذب عدو الله ولا يستطيع، بأنها لو تكلمت سوف يسلّط عليها نفرا من الجن فهو بهذا التهديد يلجم لسانها عما جرى لها معه، وقد قبض على كثير من هؤلاء ولله الحمد فالواجب الحذر والتحذير ممن كان هذا شأنه.
والبعض يذهب إلى هؤلاء المشعوذين وأشباههم لمعرفة المستقبل والحظ وقراءة الفنجان أو لدفع مكروه أو لجلب محبوب أو لتحضير الأرواح كما يزعمون وغير ذلك من أمور الغيب التي لا يعملها إلا الله قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ، فيطلب هذا المشعوذ مبلغا كبيرا من المال قد يصل إلى عشرات الألوف فيأتيه هذا المغفل بالمبلغ فيقول له المشعوذ، ائتني غدا وخذ الأحراز مدعيا أن هذه سوف تأتي له بما يريد أو تدفع عنه ما يخاف مما كفاه إثما بل زاده إثما آخر وهو الشرك بتعليقه التميمة، وقد قال : ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)) وفي النهاية يكون قد خسر دينه وماله وخرج صفر اليدين لم يشفّ مريضه، ولم تقض حاجته والسبب في رواج هذا الدجل على عقول الكثيرين وبعدهم عن الله وعن اتباع شرعه وبعدهم عن العلماء ممن لهم المكانة العالية في العلم الشرعي وخاصة علماء هذه البلاد.
وأحب أن أبين لكم أن من يتصدّر لرقية الناس له صفات معلومة يعرفه كل مؤمن متمسك بكتاب الله وسنة رسوله فمن هذه الصفات: أن يكون الراقي مشهورا بالصلاح والتقوى والذكر الحسن بين جيرانه وعند أهل العلم الجيدين وعند عامة الناس لا أن يكون مجهول الحال، الأمر الثاني أن تكون الرقية التي يرقيها ثابتة في كتاب الله وسنة رسوله ، الأمر الثالث: أن تكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره لا تمتمات ولا همهمات ولا دجل ولا كذب يضحك بها هؤلاء المشعوذون على عقول السذّج من الناس، ولهذا يجب أن تكون الرقية بعبارات ومعنى مفهوم فإن ما لا يعقل معناه وما لا يفهم لا يؤمن أن يكون فيه شرك وما كان مظنّة الشرك فلا يجوز العلاج به.
ويجب أن لا يكون هنالك خلوة بين الراقي والمرقي عليه إذا كانت امرأة بل يجب أن يكون هناك محرم لها وأن تكون المرأة بكامل حجابها الشرعي لا تتكشّف ولا تظهر شيئا من زينتها، بعكس ما يفعله المشعوذون اليوم من حبّهم للخلوة مع المرأة المريضة حتى يدجل عليها كما أشرت إلى ذلك قبل قليل.
فإذا كان الراقي بهذه الصفات فهو الذي يكون أهلا للقراءة لا الدجالون ولا المشعوذون الذين يضحكون على الناس.
أيها الإخوة: وأحب أن أبين نقطة مهمة قبل هذا وهي ما الداعي لذهاب الناس إلى الكهان والمشعوذين والعرافين والدجالين؟
السبب هو: أن الكثير ممن بعد عن الله قد استحوذت عليه الشياطين من كل جانب وبعضهم قد تلبسّت به فهو لا يذكر الله لا في نفسه ولا في بيته ولا في عمله، تجده مكبا على شرب وتعاطي الدخان والشيشة وما هو أكثر كالمخدرات وتجده لا يصلي ولا يحافظ على صلاة الجماعة وتجده يبغض الدين وأهله وتجده لا يغض بصره عن المحارم وتجده يأكل الحرام كالربا والرشوة وغير ذلك من المحرمات وتجده يصر على بعض كبائر الذنوب كالزنا واللواط والظلم ولعب الورق وشهادة الزور والكذب والغش والنميمة والغيبة وأكل مال اليتيم وتجده لا يسلم من أذاه أحد فهو يؤذي الناس ويضيّق عليهم ويشتمهم ويخاصمهم وتجده يؤذي ويستهزئ بالشباب المتدينين سواء بقصر ثيابهم أو بطول لحاهم ويكون جل همه واهتمامه هو الطعن فيهم واللمز في صفاتهم. وتجد البعض يؤذي جاره ولا يأمن جاره بوائقه والبعض الآخر فيه تميع وتشبه بالنساء في حركته ومشيته وكلامه أو العكس وقد تجد البعض قد انعدمت لديه الغيرة فأصبح ديوثا والعياذ بالله وتجد البعض أيضا يكثر من استماع الأغاني في البيت وفي السيارة وفي كل مكان وتجد بيته مليئا بالصور ذوات الأرواح معلقة في جدران البيت وبعد هذا كله يقول: أشعر بضيق أشعر بملل أشعر بشقاوة أو أشعر بقلق كأن شيئا تلبّس في أحد أبنائي أو...إلى آخره من الهواجيس والوساوس التي يشعر بها نتيجة تلبسه بالمعاصي ونتيجة بعده عن الله وعن الصلاة فعوقب بهذا الضيق وبهذه الوحشة يقول أحد السلف: إن للمعصية سوادا في الوجه ووحشة في الصدر وبغضا في قلوب الخلق وإن للطاعة نورا في الوجه وطمأنينة في الصدر ومحبة في قلوب الخلق. نعم بالطاعة يشعر الإنسان بقيمته في هذه الحياة، بالطاعة يشعر بالطاعة وتلوح نضرة النعيم على وجهه ويستأنس بربه لا يحتاج إلى أحد سواه، وبالمعصية يكون العكس يذهب إلى هنا وهناك وإلى هذا أو ذاك كل ذلك من أجل أن يبحث عن الطمأنينة والراحة النفسية.
وما علم المسكين أن ذلك مرجعه هو التزام دين الله تمسكا به وتطبيقا له في شئون حياته كلها حينئذ يسعد ويطمئن وترتاح نفسه.
يقول الدكتور أسامة الراضي عندما كان مديرا لمستشفى الأمراض النفسية بالطائف: لقد مكثت عشر سنوات وما أذكر أن جاء إلى المستشفى رجل متدين مستمسك بدينه يشكو من مرض نفسي أو ملل أو ضيق في الصدر بل جميع من كانوا يأتون إلينا هم من المنحرفين عن الصراط المستقيم.أ.هـ.
فها قد بان لك الطريق يا أخي المسلم، طريق الالتزام والتدين هو طريق السعادة والاطمئنان في الدنيا والآخرة قال تعالى: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى وقال أيضا: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وقال أيضا: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
فمن التزم طريق الهدى فهو في أمان من الضلال والشقاء، ومن ابتعد عن طريق الهداية فهو إلى شقاء، فالشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقا في المتاع فهذا المتاع ذاته شقوة، شقوة في الدنيا وشقوة في الآخرة، وما يضل الإنسان عن هدى الله إلا ويتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف لا يستقر ولا يتوازن في خطاه، والشقاء قرين التخبط ولو كان في المرتع الخصيب.
والحياة المقطوعة الصلة عن الله حياة ضنك مهما كان فيها من سعة ومتاع، إنها ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه، ضنك الحيرة والقلق والشك، ضنك الحرص والحذر، ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت.
ولهذا لا يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، فطمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان.
ولهذا إذا كان يوم القيامة يكون المعرض عن الذكر في شقوة كبرى ويحشر مع هذا الشقاء أعمى وذلك ضلال من نوع ضلاله في الدنيا، وذلك جزاء على إعراضه عن الذكر في الأولى حتى إذا سأل رب لم حشرتني أعمى ؟ كان الجواب كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ، وأما المؤمن الذي اتبع الهدى فهو في نجاة من الضلال والشقاء في الدنيا، وفي الآخرة له الفردوس يتنقل فيها قائلا: الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين.
نعم يا أخي المسلم إن طيب الحياة وسعادة النفس والنجاة في الآخرة لا تكون إلا بسلوك الصراط المستقيم من غير اعوجاج عنه يمنة ولا يسره.
فهل تستطيع يا أخي المنحرف عن الجادة هل تستطيع أن تستقيم وتعبد ربك كما أمرك؟ أعتقد أن الأمر سهل إذا جاهدت نفسك وشيطانك والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه أما بعد:
أيها المسلمون: بعد أن عرفنا حيل المشعوذين ومكرهم وخداعهم بقي علينا الآن أن نعرف حكم الذهاب إليهم.
أما مجرد الذهاب إلى المشعوذين للتسلية أو مجرد تضييع الوقت بالنظر فيما يفعلونه أو مجرد الذهاب للمشاهدة يذهبون لمن يسمى نفسه قارئ الفنجان فمجرد الذهاب من أجل هذه الأمور لا لتصديقه وسؤاله فهذا محرم ولا يجوز وهو كبيرة من كبائر الذنوب التي يجب على العبد إن فعلها أن يستغفر الله ويتوب إليه وأن لا يعود إلى ذلك مرة أخرى والدليل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما)) وإذا كان هذا حال السائل فكيف بالمسؤول؟ وظاهر الحديث أن هذا الوعيد مرتّب على مجيئه وسؤاله وإن شك في خبره لأن إتيان الكهان منهي عنه كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي قلت: يا رسول الله إن منا رجالا يأتون الكهان قال: ((فلا تأتهم)) رواه مسلم.
ولأنه إذا شك في خبره، فقد شك في أنه لا يعلم الغيب، وذلك موجب للوعيد بل يجب عليه أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله وحده.
هذا إن لم يصدقه وأما إن صدقة بما يقول من دجل وكذب وادعاء علم الغيب فقد كفر بما أنزل على محمد والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن النبي قال: ((من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) وبما رواه البزار بسند جيد عن عمران بن الحصين أن النبي قال: ((ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) ، وفي هذه الأدلة دليل على كفر الكاهن والساحر والمصدق لهما لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضا، بل مجرد أن يعتقد الإنسان أن غير الله يعلم ولو شيئا من أمور الغيب فقد كفر قال تعالى: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلف رصدا. وقال أيضا: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو بل نبي الله ليس له علم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه قال تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن اتبع إلا ما يوحى إلي. هذا حكم من يذهب إلى الكهان وأما الكهان فما حكمهم؟ أولا ينبغي أن يعلم أن هؤلاء الكهان والمنجمين والعرافين والمشعوذين من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن وإن كانوا يخبرون عن بعض الغيبيات التي تلقيها عليهم الشياطين فيصدقون أحيانا وإن كانت أسبابا محرمة كاذبة في الغالب ولهذا قال في وصف الكهان: ((فيكذبون معها مائة كذبة)) فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة مرة.
ولهذا قال تعالى: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ، وقد نص القرآن على أن الذين تنزل عليهم الشياطين هم أولياء الشيطان وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم.
وأحب أن أنبه أن الجن الذي يستعين بهم هؤلاء المشعوذون لا يعلمون شيئا من الغيب قال تعالى: فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
ثانيا: حكم من ادعى ولو شيئا من الغيب أنه يكفر كفرا ينقل من الملة ولهذا ذم العلماء الكهان وحذروا منهم وكفروهم، قال ابن عابدين: (دعوى علم الغيب معارضة لنص القرآن فيكفر بها إلا إذا أسند ذلك صريحا أو دلالة إلى سبب من الله تعالى كوحي أو إلهام).
وقال: (والكاهن من يدعي معرفة الغيب بأسباب مختلفة فلذا انقسم إلى أنواع متعددة كالعراف والرمال والمنجم وهو الذي يخبر عن المستقبل بطلوع النجم وغروبه والذي يضرب بالحصى والذي يدعي أن له صاحبا من الجن يخبره عما سيكون وكل هؤلاء مذموم شرعا محكوم عليهم وعلى مصيرهم بالكفر وفي "البزازية": يكفر بإدعاء علم الغيب وبإتيان الكاهن وتصديقه وفي "التتار خاتية": يكفر بقوله: أنا أعلم المسروقات، أو أنا أخبر عن إخبار الجن إياي)، ومذهب الحنابلة أن الكاهن، والعراف والساحر يكفر بكهانته وعرافته ويقتل بذلك، فإذا علم أيها الإخوة حكم هؤلاء في شرع الله فكيف بالله يذهب إليهم ويسألون في خصائص الغيب التي لا يعلمها إلا الله؟ فهل فقدت عقولكم وسفهت أحلامكم أم ماذا؟ وفي الختام أحب أن أنبه أن المريض أحيانا يكون مريضا مرضا حسيا، فهذا يجب عليه أن يذهب إلى أحد المستشفيات ليتم علاجه قال : ((ما أنزل الله من داء إلا جعل له دواء )) هذا هو الصحيح أما إذا كان مرضه نفسي أو تلبس به بعض الجان فهذا يذهب إلى من علم صلاحه وتمسّكه من العلماء أو طلبة العلم ليقرأ عليه، ويوجد الآن ولله الحمد كثير من القراء المشهورين فليس هناك حرج في الذهاب إلى أمثال هؤلاء ومن استطاع أن ينفع أخاه فليفعل كما ورد بذلك الحديث.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه.
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
(1/72)
الحث على العلم والعمل به
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الحث على العلم وبيان فضله في الحياة وبعد الممات.
الواجب على الطلاب في دراستهم ، والاستعداد للعام الدراسي الجديد-
أهمية العمل مع العلم-
الواجب على المعلمين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتعلّموا أحكام شريعته بطلب العلم النافع، فإن العلم نور وهدى، والجهل ظلمة وضلال، تعلموا ما أنزل الله على رسوله من الوحي، فإن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء ما ورثوا درهما ولا دينارا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر من ميراثهم، تعلموا العلم فإنه رفعة في الدنيا والآخرة، وأجر مستمر إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقال النبي : ((إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) انظروا إلى آثار العلماء الربانيين لم تزل موجودة إلى يومنا هذا طوال الشهور والسنين، آثارهم محمودة وطريقتهم مأثورة، وذكرهم مرفوع، وسعيهم مشكور، إن ذكروا في المجالس ترحم الناس عليهم ودعوا لهم، وإن ذكرت الأعمال الصالحة والآداب العالية فهم قدوة الناس فيها. أيها الناس تعلموا العلم واعملوا به فإن تعلم العلم جهاد في سبيل الله والعمل به نور وبصيرة من الله: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.
أيها الناس: إننا على أبواب عام دراسي جديد يستقبل فيه المتعلمون ما يلقى إليهم من العلوم ويستقبل فيه المعلوم من يتلقى عنهم العلوم والآداب والأخلاق، فيا ليت شعري ماذا أعد كل واحد منهم لما يستقبله؟ إن على المتعلمين أن يعدوا لهذا العام الجد، والنشاط، وأن يحرصوا ما استطاعوا على تحصيل العلم من كل طريق وباب، وأن يبذلوا غاية الجهد لرسوخ العلوم في قلوبهم فيجتهدوا عليها من أول العام ففي ذلك سبب لرسوخ العلم وتيسير حصوله لأنه إذا اجتهد من أول العام أخذ العلم شيئا فشيئا فَسَهُل عليه، وأما إذا توانى في أول السنة فإنه يصعب عليه بعد ذلك وتتراكم عليه العلوم ويكون تصوره لها تصورا سطحيا لا يرسخ في قلبه ولا يبقى في ذهنه وإن من واجب المتعلم إذا أحاط علما بالمسألة أن يطبقها على نفسه ويعمل بها ليكون علمه نافعا له فإن العلم النافع هو ما طبقه الإنسان عمليا والعمل بالعلم هو ثمرة العلم ولجاهل خير من عالم لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فإن العلم سلاح فإما أن يكون سلاحا لك على عدوك وإما أن يكون سلاحا عليك؟
أيها المتعلم: إذا علمت مسألة دينية فاعمل بها وإلا فما فائدة العلم أرأيت لو أن شخصا تعلم الطب ولكن لم يتطبب ولم يعالج نفسه ولا غيره فما فائدة علمه، إذن فهكذا العلوم الشرعية إذا لم تطبقها بل هي أبلغ فإنك إذا عملت بها كانت أنفع العلوم وإن خالفتها كانت حجة عليك.
أيها المعلمون: إن عليكم لأمتكم ومن يتعلمون منكم حقوقا عظيمة فقوموا بها لله مخلصين وبه مستعينين ولنفع أبنائكم ومن يتلقون العلم منكم قاصدين، أخلصوا في التعليم واسلكوا أسهل السبل وأقربها للتفهيم ونزلوا الفصول منازلها فليس تعليم المنتهين مثل المبتدئين وعليكم أن تمثلوا أمام الطلبة بكل خلق فاضل كريم وأن تتجنبوا كل خلق سافل لئيم فإن المتعلم يتلقى من معلمه الأخلاق كما يتلقى منه العلوم ووجهوا أبناءكم الطلبة في كل مناسبة ترون فيها الفرصة لذلك فإن المعلم الناصح من يجمع بين التعليم والتربية الحسنة والله يحب المحسنين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: آلر (1/73)
النار أهلها وأهوالها
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
حال الخائفين حقاً من النار – صفة النار وحال أهلها أعاذنا الله منها – بعض الأعمال المتوعد
عليها بالنار – بعض الأعمال المُنجية من النار
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل: وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.
أيها الإخوة المسلمون، كل نفس لا تحمل إلا حملها، ولا تكسب إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولسوف تأتى كل نفس تجادل عن نفسها.
أهلكت كثيرًا من الناس الأماني، إيمان بلا أثر، وقول بلا عمل، ترى فيهم رجالا ولا ترى عقولا، وتسمع حسيسًا ولا ترى أنيسًا، عرفوا ثم أنكروا، وحرموا ثم استحلوا. يقول الحسن البصري رحمه الله: أمؤمنون بيوم الحساب هؤلاء؟!! كلا، كذبوا ومالك يوم الدين.
لا يدخل الجنة إلا من يرجوها، ولا يسلم من النار إلا من يخافها، ورود النار متيقَّن: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً [مريم:71] ولكن هل الخروج منها متيقن؟!
أين الخوف من هول ذلك المورد؟ ومن ترى بالنجاة والفكاك يحظى ويسعد؟ يقول موسى بن سعد: كنا إذا جلسنا إلى سفيان كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه. من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل: قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَـ?نَا عَذَابَ ?لسَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ?لْبَرُّ ?لرَّحِيمُ [الطور:26-28]. حقًا وصدقًا، إن هدى الله ورحمته للذين هم لربهم يرهبون.
أيها الإخوة في الله، وهذا حديث ذكرى وتذكير، وإنذار وتخويف عما أخبر به الكتاب وصحت به الأخبار عن رسولنا محمد من الوعيد للمكذبين، والخوف على المقصرين، حديث عن النار وأهلها وأهوالها أعاذنا الله منها بمنِّه وكرمه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
يقول الحسن البصري رحمه الله: والله ما صدق عبد بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره ما صدق بها حتى يتجهم [1] في دركها. والله ما أنذر العباد بشيء أدهى منها. فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى? لاَ يَصْلَـ?هَا إِلاَّ ?لاْشْقَى ?لَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى? [الليل:14-16]. إنها نار السعير، لا ينام هاربها، وجنة الفردوس لا ينام طالبها.
الخوف من النار فلذ أكباد الصالحين: إِنَّهَا لإِحْدَى ?لْكُبَرِ نَذِيراً لّلْبَشَرِ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:35-37].
ألم تعملوا أن التخويف من النار نال الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين؟! اقرأوا في شأن الملائكة : وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَـ?هٌ مّن دُونِهِ فَذ?لِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:29]. واقرأوا في حق الأنبياء: وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هًا ءاخَرَ فَتُلْقَى? فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:39].
أيها الناس، اتقوا النار، اتقوا النار ولو بشق تمرة اتقوا النار بكلمة طيبة. أكثروا من ذكرها، واعملوا للنجاة منها: ذ?لِكَ يُخَوّفُ ?للَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ي?عِبَادِ فَ?تَّقُونِ [الزمر:16]. والنار شر دار، وعذابها شر عذاب، حرها شديد وقعرها بعيد، ومقامعها حديد، يهوي الحجر من شفيرها سبعين خريفًا ما يدرك قعرها. مسالكها ضيقة، ومواردها مهلكة، يوقد فيها السعير، ويعلو فيها الشهيق والزفير، أبوابها مؤصدة، وعمدها ممددة، يرجع إليها غمها، ويزداد فيها حرها، هي غضب الجبار ورجزه، وسخطه ونقمته.
جثت الأمم على الركب، وتبين للظالمين سوء المنقلب، انطلق المكذبون إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، وأحاطت بهم نار ذات لهب، سمعوا الزفير والجرجرة، وعاينوا التغيظ والزمجرة، ونادتهم الزبانية: فَ?دْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـ?لِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى ?لْمُتَكَبّرِينَ [النحل:29]. الهاوية تجمعهم، والزبانية تقمعهم، في مضايقها يتجلجلون، وفي دركاتها يتحطمون. ترى المجرمين مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران، وتغشى وجوههم النار. الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، وبالنواصي والأقدام يؤخذون، وفي الحميم ثم في النار يسجرون.
يصب من فوق رءوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد فوق رءوسهم. تكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم.
ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ [القمر:48]. طعامهم الزقوم والضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع. شرابهم الحميم والغساق والماء الصديد، يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء، ويملأ البطون: يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم:17]. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:38]. كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـ?هُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ?لْعَذَابَ [النساء:56].
يتمنون الموت والهلاك، ولكن أين المفر؟ ومتى الفكاك؟
وَنَادَوْاْ ي?مَـ?لِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ لَقَدْ جِئْنَـ?كُم بِ?لْحَقّ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَـ?رِهُونَ [الزخرف:77،78].
ثم يعلو شهيقهم، ويزداد زفيرهم، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فيعظم يأسهم، ويرجعون إلى أنفسهم: سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ [إبراهيم:21]. نعوذ بالله ربنا من غضبه وأليم عقابه وعذابه.
أيها الإخوة، هذه أخبار صدق عن جهنم ولظى، وأنباء حق عن السعير والحُطمة، والله لتملأن والله لتملأن: وَلَـ?كِنْ حَقَّ ?لْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ ?لْجِنَّةِ وَ?لنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].
فويل لكل مشرك ومشركة، وويل لكل خبيث وخبيثة ممن طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، ولم يؤمن بيوم الحساب: يُعْرَفُ ?لْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـ?هُمْ [الرحمن:41]. حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم:10-13]. لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين، لم يكُ من المصلين، ولم يكُ يطعم المسكين، يخوض مع الخائضين، ويكذب بيوم الدين. هؤلاء هم أصحاب الجحيم عياذا بالله.
عباد الله، النار موعود بها مدمن الخمر وقاطع الرحم والمصدق بالسحر والمنان والنمام، وما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار [2] ، موعود بها الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، ومن أشد الناس عذابًا طائفتان: المصورون الذين يضاهئون خلق الله [3] ، والذين يعذبون الناس في الدنيا.
يا ترى ما حال المرائين من القراء والعلماء والمجاهدين؟! يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، يقولون ما لا يفعلون إذا وعظوا عنفوا وإذا وعظوا أنِفُوا.
وأصناف من القضاة في النار، ((ومن غش رعيته فهو في النار)) [4] ، ((ومن بايع إمامه لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعط لم يفِ)) [5] ، ((ومن اقتطع مال أخيه بيمين فاجرة فليتبوأ مقعده من النار)) [6] ، ((والذي يشرب في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) [7]. والذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا.
وويل لأكلة الربا ثم ويل لأكلة الربا، و((كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)) [8].
((وصنفان من أهل النار: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، والكاسيات العاريات المائلات المميلات على رءوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) [9] ، ((والنائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) [10] ، ((والمكر والخداع في النار)) [11] ، ((والفجور يهدي إلى النار)) [12] ، ((وشر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه)) [13] ، وويل للذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة، رحمني الله وإياكم ووقانا عذاب السموم: هذه ألوان من أهوال النار، وصنوف من أهلها؛ فاتقوا الله واتقوا النار، اتقوا النار بالبكاء من خشية الله؛ فلن يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، وعينان لا تمسهما النار؛ عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله. ومن صام يومًا زحزحه الله عن النار سبعين خريفًا.
تعوذوا بالله من النار؛ فهذا دأب الصالحين الذاكرين.
ملائكة الله السياحون يمرون بمجالس الذكر ثم يسألهم ربهم عن أحوال الذاكرين فيقول لهم وهو أعلم بهم: مِمَّ يتعوذون؟ فيقولون: من النار. فيقول: وهل رأوها ؟ قالوا: لا. والله ما رأوها. فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد منها مخافة؟ قال فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم [14].
وجاء في خبر آخر: ((ما سأل رجل مسلم الجنة ثلاثًا، إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة. ولا استجار رجل مسلم من النار ثلاثًا، إلا قالت النار: اللهم أجره مني)) [15].
اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار.
رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ [آل عمران:16].
رَبَّنَا ?صْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:66، 67].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
[1] يتجهم: أي يقع.
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب اللباس – باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار، حديث (5787).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب اللباس – باب ما وطئ من التصاوير، حديث (5954)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة – باب تحريم تصوير صورة الحيوان... حديث (2107).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأحكام – باب من استُرعي رعية فلم ينصح، حديث (7150، 7151)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب استحقاق الوالي الغاش... حديث (142) عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعيّة، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرّم الله عليه الجنة))، واللفظ لمسلم.
[5] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المساقاة – باب إثم من منع ابن السبيل من الماء، حديث (2358)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار... حديث (108) واللفظ له.
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الإيمان – باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، حديث (137) وانظر البخاري: كتاب المساقاة – باب إثم من منع ابن السبيل من الماء، حديث (2358).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأشربة – باب آنية الفضة، حديث (5634)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة – باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب، حديث (2065).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (3/321)، والترمذي: كتاب الجمعة – باب ما ذُكر في فضل الصلاة، حديث (614)، والدرامي: كتاب الرقاق – باب في أكل السحت، حديث (2776) بنحوه. وصححه ابن حبان (1723)، والحاكم (4/422). وقال المنذري: رواتهما محتج بهم في الصحيح. الترغيب (3/134)، وقال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح (5/247).
[9] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب اللباس والزينة – باب النساء والكاسيات العاريات – حديث (2128).
[10] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الجنائز – باب التشديد في النياحة، حديث (934).).
[11] صحيح، أخرجه الطبراني في الكبير (10234) وابن عدي في الكامل (2/161) في ترجمة: جراح بن ميليح، والحاكم (4/607)، والبيهقي في الشعب (5268)، وصححه ابن حبان (567) وجوّد المنذري إسناده. الترغيب (2/359). وقال الحافظ في الفتح (4/256): إسناده لا بأس به. ثم قوّاه. وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (1057).
[12] صحيح، جزء من حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأدب – باب قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله... ، حديث (6094) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب – باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، حديث (2607).
[13] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأدب – باب لم يكن النبي فاحشاً، حديث (6032) و(6054)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب مداراة من يتقى فحشه، حديث (2591).
[14] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الدعوات – باب فضل ذكر الله عز وجل، حديث (6408)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار – باب فضل مجالس الذكر، حديث (2689).
[15] صحيح، أخرجه أحمد (3/117)، والترمذي: كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة أنهار الجنة، حديث (2572)، والنسائي: كتاب الاستعاذة – باب الاستعاذة من حر النار، حديث (5521)، وابن ماجه: كتاب الزهد – باب صفة الجنة، حديث (4340). وصححه ابن حبان (1014) والحاكم (1/534-535) وذكره الضياء في الأحاديث المختارة (4/388-390). وقال المنذري: رواه أبو يعلى بإسناد على شرط البخاري ومسلم. الترغيب (4/243)، وصححه الألباني، صحيح سنن الترمذي (2079) وصحيح الترغيب (3653، 3654).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المبدئ المعيد، ذي البطش الشديد، الفعال لما يريد، أحمده سبحانه وأشكره؛ فبالشكر تدوم النعم وتزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله أنذر القريب والبعيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، أزعج ذكر النار قلوب الخائفين، وأطار النوم من عيون المتعبدين.
أيها الإخوة، شاهدوا موقف القيامة بقلوبكم، وانظروا في منصرف الفريقين إلى الجنة والنار بهممكم.
أشعروا أفئدتكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها، وأطباقها ودركاتها ووقودها وحجارتها، السلاسل والأغلال، والسعير والحميم، والغساق والغسلين، وسقر والهاوية.
اذكروا بعد القعر، واشتداد الحر. ابكوا وتباكوا، اعرضوا على قلوبكم تقلب الظالمين بين أطباق النيران: لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ ?لنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16]. كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]. خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ ?لْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32] فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ [الواقعة :42-44].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله: اللهم إنا نعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. واتقوا النار التي أعدت للكافرين.
(1/74)
الزنا وآثاره
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النتشار الفحواحش سبب لمقت الله وعقوبته. 2- الزنا أقبح الفواحش. 3- التحذير من
مقاربة الزنا. 4- حد الزنا. 5- آثار جريمة الزنا في المجتمع. 6- عقوبة الزنا في الآخرة.
7- ذكر أحوال تعظم بها جريمة الزنا. 8- أمور محرمة دون الزنا. 9- الزنا دين يقضى
للزاني في أهله. 10- حرمة أعراض المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فيا أيها المؤمنون: قضت سنة الله سبحانه وتعالى أن الأمم لا تفنى والقوى لا تضعف إلا حين تسقط الهمم وتستسلم الشعوب لشهواتها فتتحول أهدافها من مثل عليا إلى شهوات دنيئة فتسود فيها الرذائل وتنتشر الفواحش بل تفتك بها الأمراض الخبيثة فلا تلبث أن تتلاشى وتضمحل وتذهب ريحها ويحق عليها قول الله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا.
أيها المسلمون: إن من أفحش الفواحش وأحط القاذورات جريمة الزنا، حرمه ربكم وجعله قرينا للشرك في سفالة المنزلة وفي العقوبة والجزاء.
قال تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين.
ويقول في الجزاء والعقوبة: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا.
وما ذلك إلا لأنه من أقبح القبائح يبدد الأموال وينتهك الأعراض ويقتل الذرية ويهلك الحرث والنسل، عاره يهدم البيوت ويطأطئ عالي الرؤوس، ويسود الوجوه البيضاء ويخرس ألسنة البلغاء، ويهبط بالعزيز إلى هاوية الذل والحقارة والإزدراء، هاوية ما لها من قرار ينزع ثوب الجاه مهما اتسع ويخفض عالي الذكر مهما علا، إنه لطخة سوداء إذا لحقت بتاريخ أسرة غبّرت كل صحائفها التقيه إنه شين لا يقتصر تلويثه على من قارفه بل يشين أفراد الأسرة كلها ويقضي على مستقبلها جميعها، إنه جرم فظيع وعمل شنيع وذنب عظيم وانحراف خلقي وانحطاط أدبي، وكبيرة من كبائر الذنوب، إنه العار الذي يطول حتى تتناقله الأجيال جيلا بعد جيل وبانتشاره تغلق أبواب الحلال ويكثر اللقطاء وتنشأ طبقات بلا هوية، طبقات شاذة حاقدة على المجتمع لا تعرف العطف ولا العلاقات الأسرية، فيعم الفساد ويتعرض المجتمع للسقوط، أليس الزنا يجمع خلال الشر كلها من الغدر والكذب والخيانة؟ أليس ينزع الحياء ويذهب الورع والمروءة ويطمس نور القلب ويجلب غضب الرب؟ قال تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ، وفي هذه الآية يحذر الله عباده المؤمنين من النظرة الحرام ومن الابتسامة والكلام والموعد واللقاء من مجرد الاقتراب من الزنا رحمة بهم لأن الزنا فاحشة منكرة عقلا وشرعا، وطريق سوء موصّل إلى النار والدوافع عنيفة والعبد عليه أن يخفف هذه الدوافع أو يعدمها ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.
أيها الإخوة في الله: إن التقدير لحمى ذمار الأهل يفرض الاهتمام بالحرمات ولابد من تقوى الله ومراقبته، ولابد من الأخذ على أيدي السفهاء من باب الحرص على سلامة المسلم وعلى طهارة نفوس المسلمين والإبقاء على كرامتهم والحفاظ على شرف أنسابهم من أجل هذا نهى الله عباده المؤمنين أن تأخذهم بالزناة والزواني رأفة في دين الله وحكم عليهم بأشد العقوبات، فقال سبحانه: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين فمستحل الزنا كافر خارج من الدين، والواقع فيه غير المستحيل له فاسق أثيم، يرجم إن كان محصنا ويجلد ويغرب إن كان غير محصن أي متزوج لقول النبي : ((البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)) متفق عليه.
وأما الزانية والزاني اللذان سبق لهما الزواج وعرفا طريقه وجرباه ولو مرة، بنكاح صحيح ثم عدلا عنه إلى الزنا مسلمين كانا أو ذميين وهما بالغان عالمان حران فعقوبتهما الرجم بالحجارة حتى الموت هذا ما ثبت في السنة من أمر الرسول وفعله وأجمعت الأمة عليه بالنسبة لعقوبة الزنا.
ويشدد القرآن بتطبيقه عليهما دون ضعف ولا خور ولا نكوص عن أوامر الله في مشهد من الناس ليكون أوجع وأوقع وأشد في نفوس الفاعلين والمشاهدين وذلك لما يترتب على هذه الجريمة من اختلاط الأنساب، وتوريث الأجانب، وانتهاك الأعراض، وفقر الأغنياء، وانتشار الأمراض وما الزهري والسيلان والهربس والإيدز إلا من أسباب هذه الفاحشة اللعينة.
فالزنا هو الفاحشة الكبرى والسيئة العظمى، الذي حذّر منه القرآن وخوفت منه السنة، وترفعت عنه نفوس الأحرار، ومالت إليه ورغبت فيه نفوس الأشرار من الخبيثين والخبيثات، وأعداء الفضيلة والدين، وهو محرم في جميع الشرائع ومذموم في عامة القوانين، بل حتى عند القرود كما ورد بذلك الدليل، لا يفعله إلا من تجرد عن المروءة والحياء لا يقع فيه إلا أشد الناس فجورا من الرجال والنساء فالزنا كله خبيث لا يفعله إلا خبيث، وحسبك أيها المؤمن دليلا على حرمته وشدة النهي عنه قوله تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا.
واعلم يا مسلم أن الله تبارك وتعالى لا يحرم شيئا، ولا يمنع من شيء إلا لما فيه من ضرر، وما يترتب عليه من البلاء، فالإنسان إذا زنا وتعلق قلبه بالزنا، تبددت ثروته ومحق ماله وجنى على شرفه، وأصبح أسير شهوته، وطوع إرادة الشيطان تتحكم فيه المومسات وينصرف عن زوجته الطاهرة إلى امرأة بغي خبيثة لا ترد عن نفسها يد لامس ولا تبالي بمن أتاها، ويكفي في دناءة الزنا أن الله يسلب الإيمان من الزاني. عن أنس عن النبي أنه قال: ((إن الإيمان سربال يسربله الله على من يشاء فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان فإن تاب رد عليه)) رواه أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي واللفظ له.
بل ونفي الإيمان عن الزاني حيث قال في الحديث المتفق عليه: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) ، وهذا كمال الإيمان لا أصل الإيمان.
وقال ابن القيم رحمه الله: (ويكفي في قبح الزنى أن الله سبحانه وتعالى مع كمال رحمته شرع فيه أبشع وأفحش القتلات وأصعبها وأفضحها، وأمر أن يشهد عباده المؤمنون تعذيب فاعله، والزنى يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين وذهاب الورع وفساد المروءة وقلة الغيرة، فلا تجد زانيا معه ورع، ولا وفاء بعهد ولا صدق في حديث ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء وعدم المراقبة وعدم الأنفة للحُرُم وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته.
ومن موجباته غضب الرب ومنها الفقر اللازم وفي الأثر يقول الله تعالى: (( أنا الله مهلك الطغاة ومفقر الزناة)) ومنها أنه يذهب حرمة فاعله ويسقطه من عين ربه ومن أعين عباده، ومنها أنه يسلبه أحسن الأسماء وهو اسم العفة والبر والعدالة ويعطيه أضدادها كاسم الفاجر والفاسق والزاني والخائن.
ومنها أن يجرئه على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وكسب الحرام وظلم الخلق وإضاعة أهله وعياله، وربما قاده قسرا إلى سفك الدماء وربما استعان عليه بالسحر والشرك من حيث يدري أو لا يدري، فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها، ويتولد عنها أنواع أخرى من المعاصي بعدها.
فهي محفوفة بجندٍ من المعاصي قبلها وبعدها، وهي أجلب لشر الدنيا والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة، وإذا علقت بالعبد فوقع في حبائلها وأشراكها عز على الناصحين استنقاذه، وأعيا الأطباء دواؤه فأسيرها لا يُفدى وقتيلها لا يُودى وقد وكلها الله بزوال النعيم فإذا ابتلي بها عبد فليودع نعم الله فإنها ضيف سريع الانتقال وشيك الزوال قال تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم.
وأما عذاب الآخرة فأشد وأبقى، عذاب تذهل له النفوس وتتقطع له الأفئدة وتشيب من هوله الرؤوس عذاب شديد وموجع وأليم ومهين.
وهذا بالنسبة للزناة والزواني اللذين لم يستوف منهم القصاص الدنيوي وماتا من غير توبة فإنهم يعذبون في قبورهم بالنار، كما في حديث سمرة بن جندب حديث خبر منام النبي أن جبريل وميكائيل جاءاه قال: ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع فيه لغط وأصوات قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا (أي صاحوا من شدة العذاب) ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني، فهذا عذابهم إلى يوم القيامة)) ، وقد جاء من غير طريق عن النبي أنه قال: ((إن ريح فروج الزناة والزواني يؤذي أهل النار شدة نتنها)) ، وأخرج النسائي وغيره: ((محشر الزاني يوم القيامة أنتن من ريح الجيفة)).
وفي حديث عند أحمد وأبي يعلى وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه عن أنس قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر، ومن مات مدمنا للخمر سقاه الله عز وجل من نهر الغوطة، قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات أي، الزواني، يؤذي أهل النار ريح فروجهن)).
فأهل النار يعذبون بنتن ريح الزناة.
وعن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله يقول: ((بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذاني فأتيا بي جبلا وعرا وقالا لي: اصعد قلت: لا أطيقه، فقال :سهلة لك،... الخ حتى قال:... ثم انطلق بي فإذا بفوج أشد شيء انتفاخا، وأنتنه ريحا كأن ريحهم المراحيض فقلت: من هؤلاء، قال: هؤلاء الزانون والزواني)) ، فهذا بعض ما ورد في عذاب الزناة في القبور، وفي الآخرة أعظم عذابا وأشد تنكيلا.
فاتقوا الله عباد الله ولا تغتروا بطيب العيش ورغده وأنتم قائمون في معاصي الله وسخطه قال الشاعر:
مآرب كانت في الحياة لأهلها
متاعاً فصارت لهم في الممات عذابا
فذهبت تلك اللذات وأعقبت الحسرات، وانقضت الشهوات، وأورثت الشقوات تمتعوا قليلا وعذبوا طويلا رتعوا مرتعا وخيما فأعقبهم عذابا أليما أسكرتهم خمرة تلك الشهوات فما استفاقوا منها إلا في ديار المعذبين وأردتهم تلك الفعلة فما استيقظوا منها إلا وهم في منازل الهالكين فندموا والله أشد الندامة حين لا ينفع الندم وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم نعم ندموا والله، لأنهم رأوا حقيقة عذاب الله بعد أن كانوا يسمعون عنه رأوا تلك النار التي هي سبعون ضعفا من نار الدنيا ندموا في وقت لا ينفع فيه الندم وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي. وقال تعالى: ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (1/75)
أهمية العلم وآداب الاستفتاء
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية التفقه في دين الله -
أهمية التفرغ لطب العلم ، وحاجة الأمة إلى العلماء في هذا الوقت -
لا يجوز ترك العمل بقول العالم لمجرد الهوى ، والواجب على المستفتي وآدابه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى وتفقهوا في دين الله لتعبدوا الله على بصيرة فإن من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، فالفقه في الدين أساس الخير والعمل الصالح، فبه يعرف العبد كيف يعبد ربه، به يعرف كيف يتوضأ وكيف يغتسل، به يعرف كيف يصلي وكيف يصوم وكيف يزكي وكيف يحج وكيف يعتمر، به يميز بين الواجبات وبين السنن، به يعرف كيف يسير إلى ربه في نور العلم إذا انعقدت غيوم الجهل والفتن، به يعرف كيف يعامل، كيف ينكح وكيف ينفق وكيف يُكفّر عن آثامه، وكيف يعتقذ، به يكون العبد سراجا في أمته يهديهم الصراط المستقيم ويبين لهم النهج القويم بالعلم يستنير في حياته وبعد وفاته فهو نور القلب ونور القبر ونور الحشر ونور الصراط، العالم حي بعد مماته والجاهل ميت في حياته: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب. إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له، وما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى، من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء: وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
أيها الناس : من استطاع منكم أن يتفرغ للعلم وتحصيله فليفعل فإنه ليتأكد في هذا الزمان الذي قل فيه الفقهاء في دين الله وكثر فيه طلب الدنيا بشتى الوسائل والإقبال عليها ومن لم يستطع منكم ذلك فليستمع إلى الذكر وليجلس إلى أهل العلم فيستفيد منهم ويفيد غيره ومن لم يستطع فلا أقل من أن يسأل عن دينه؟ وعن طهارته وصلاته وزكاته وصيامه وحجه وبيعه وشرائه وأخذه وعطائه ونكاحه وغير ذلك مما له صلة بدينه إذا عرض له فيه إشكال واشتباه.
عباد الله :إن بعض الناس يصنع أمرا محرما لا يجوز في الاستفتاء، تجده يأتي إلى أحد ليستفتيه راضيا بفتواه معتقدا أن ما يقوله هو دين الله، وهو الحق الذي يجب عليه التزامه فإذا أفتاه بشيء ولم تناسبه الفتوى إما لاستبعاده لها وإما لصعوبتها عليه في نظره ذهب يطلب مفتيا آخر، لعله يكون أنسب له، وهذا العمل حرام عليه فإن المطلوب في حق المستفتي أن يتحرى من يظنه أقرب إلى الحق لكثرة علمه وقوة ورعه فإذا غلب على ظنه أنه أقرب إلى الحق من غيره فليسأله ثم ليأخذ بقوله ولا يستفتي غيره إلا أن يتبين له بعد ذلك أنه مخطئ مخالف للكتاب أو السنة فحينئذ يأخذ بما دل عليه الكتاب والسنة وقد ذكر الله تعالى في كتابه وظيفة الإنسان إذا لم يكن له علم فقال فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر [النحل:43-44]. فإذا كنت مأمورا بسؤال أهل العلم فإن العاقل لا بد أن يتحرى لدينه من هو أعلم وأورع، الأمثل فالأمثل، فاتقوا الله أيها الناس ولا تتلاعبوا بدينكم تسألون هذا وهذا وهذا فتختلف عليكم الأمور وتكونوا ممن اتبعوا أهواءهم، والإنسان متى قام بالواجب فسأل من يظنه أقرب إلى الحق فقد برئت ذمته فيما بينه وبين الله: قال في المنتهى وشرحه: ومن لم يجد إلا مفتيا لزم أخذه بقوله وكذا ملتزم قول مفت وثم غيره أي فإنه يلزمه الأخذ بفتوى من التزم بقوله وقال في نقلا عن شرح مختصر التحرير: لو أفتى المقلد مفت واحد وعمل به المقلد لزمه قطعا وليس له الرجوع إلى فتوى غيره في تلك الحادثة بعينها إجماعا نقله ابن الحاجب وغيره وقد ذكر ذلك صاحب الإقناع وشرحه والغاية وشرحها. نعم لو سأل أمثل من يجد من غير أن تسكن إليه نفسه ويطمئن إليه قلبه ولكن للضرورة فهذا يجوز أن يسأل غيره فيما بعد ممن يظن أنه أقرب إلى الخلق منه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم [آل عمران:18].
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/76)
كفى بالموت واعظا
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
غفلة الناس عن الاتعاظ بالموتى حولهم – الدنيا وسرعة زوالها والتحول عنها – طول الأمل
وأثره – الوصية بالإكثار من ذكر الموت وأثر ذلك – وجوب المبادرة بالتوبة والاستعداد للموت
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله فمن لا يتقي الله تشابهت عليه السبل: إن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].
عباد الله: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب.
إن ربكم لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدا، فتزودوا من دنياكم ما تحرزون به أنفسكم غدا. فالأجل مستور، والأمل خادع.
تمر الجنائز بالناس يجهزونها ويصلون عليها ويسيرون خلفها يشيعونها محمولة إلى مثواها الأخير. فتراهم يلقون عليها نظرات عابرة، وربما طاف بهم طائف من الحزن يسير. أو أظلهم ظلال من الكآبة خفيف. ثم سرعان ما يغلب على الناس نشوة الحياة وغفلة المعاش.
أيها الإخوة: أهل الغفلة أعمارهم عليهم حجة، وأيامهم تقودهم إلى شقوة. كيف ترجى الآخرة بغير عمل ؟ أم كيف ترجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل؟؟.
ويل لأهل الغفلة: إن أعطوا لم يشبعوا، وان منعوا لم يقنعوا، يأمرون بما لا يفعلون، ينهون وهم لا ينتهون، هم للناس لوامون ولأنفسهم مداهنون.
يا أهل الغفلة: هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟؟؟ وكم من مطمئن إليها صرعته؟؟ وكم من محتال فيها خدعته؟؟ وكم من مختال أصبح حقيرا؟؟ وذي نخوة أردته ذليلا؟؟ سلطانها دول [1] ، وحلوها مر، وعذبها أجاج، وعزيزها مغلوب، العمر فيها قصير، والعظيم فيها يسير، وجودها إلى عدم، وسرورها إلى حزن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر. دارها مكارة، وأيامها غرارة، ولأصحابها بالسوء أمارة. الأحوال فيها إما نعم زائلة وإما بلايا نازلة وإما منايا قاضية. عمارتها خراب، واجتماعها فراق، وكل ما فوق التراب تراب.
أهل الغفلة لا يشبعون مهما جمعوا، ولا يدركون كل ما أملوا. ولا يحسنون الزاد لما عليه قد أقدموا، يجمعون ولا ينتفعون، ويبنون ما لا يسكنون. ويأملون ما لا يدركون: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ?لاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
طويل الأمل: يبني ويهدم، وينقض ويبرم، ويقدر فيخطئ التقدير. يقول ويفعل، ويخطط ويدبر، وتأتي الأمور مخالفة للتدبير. يسيء في الاكتساب ويسوف في المتاب ثم هاهو قد تم أجله وانقطع عمله وأسلمه أهله وانقطعت عنه المعاذير: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـ?هُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
يا أهل الغفلة أيها المسلمون أيها المسلمات: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات)) [2] بهذا أوصى نبيكم محمد. كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة؛ فمن ذكر الموت حق ذكره حاسب نفسه في عمله وأمانيه ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة – كما يقول القرطبي رحمه الله – تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ.
أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، ((فما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا سعة إلا ضيقها)) [3].
وايمْ الله ليوشكن الباقي منا ومنكم أن يبلى، والحي منا ومنكم أن يموت وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها، فتأكل لحومنا وتشرب دماءنا، كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمرها وشربنا من مائها ثم تكون كما قال الله: وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَن فِى ?لأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ?للَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى? فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر:68].
لقد وقف نبيكم محمد على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال: ((يا إخواني لمثل هذا فأعدوا)) [4] ، وسأله عليه الصلاة والسلام رجل فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال: ((أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)) [5]. ((الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت)) [6].
يقول الحسن رحمه الله: إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ بها فرحا.
ويقول يونس بن عبيد: ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال.
ويقول مطرِّفٌ: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيما لا موت فيه. لقد أمِنَ أهل الجنة الموت فطاب لهم عيشهم وأمنوا الأسقام فهنيئا لهم طول مقامهم.
أيها المسلمون: اذكروا الموت والسكرات، وحشرجة الروح والزفرات، اذكروا هول المطَّلعَ. من أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
كفى بالموت للقلوب مقطعا، وللعيون مبكيا، وللذات هادما. وللجماعات مفرقا. وللأماني قاطعا.
استبدل الأموات بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، جاءوها حفاة عراة فرادا.
اللحود مساكنهم، والتراب أكفانهم، والرفات جيرانهم لا يجيبون داعيا، ولا يسمعون مناديا. كانوا أطول أعمارا وأكثر آثارا، فما أغناهم ذلك من شيء لما جاء أمر ربك، فأصبحت بيوتهم قبورا، وما جمعوا بورا، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين. حلَّ بهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
هل تفكرت يا عبد الله يوم المصرع، يوم ليس لدفعه حيلة، ولا ينفع عند نزوله ندم. أزِلْ عن قلبك غشاوة الغافلين، فإنك واقف بين يدي من يعلم وسواس الصدور، ومن يسأل عن لحظات العيون، ويحاسب على إصغاء الأسماع: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويمنع الركون إلى الدنيا، ويهون المصائب.
تذكروا الموت لعلكم تسلمون من حسرة الفوت.
يقول الحسن رحمه الله: اتق الله يا بن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان: سكرة الموت وحسرة الفوت.
احذر السكرة والحسرة يفجأك الموت وأنت على غرة فلا يصف واصف قدر ما تلقى ولا قدر ما ترى.
احذر لا يأخذك الله على ذنب فتلقاه ولا حجة لك.
أيها الإخوة: أين الخائف من قلة الزاد؟ وأين المتخفف من أثقال الدنيا ؟ أين الوجل من بعد السفر ووحشة الطريق ؟ اكتفى من الدنيا بطِّمريه [7] ، ومن طعامه بقرصيه. استعان على دنياه بالعفة والسداد فكفاه في دنياه القليل من الزاد. لقد استحيا من ربه حق الحياء تذكر الموت والبلى فحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى أراد الآخرة فترك زينة الحياة الدنيا. آثر ما يبقى على ما يفنى ذلكم هو كيِّس الأكياس.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واحفظوا الله ما إستحفظكم وكونوا أمناء على ما استودعكم، فإنكم عند ربكم موقفون، وعلى أعمالكم مجزيون وعلى تفريطكم نادمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
[1] أي متداول لا يبقى على حال، ولا يختص به أحد دون أحد.
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/292)، والترمذي: كتاب الزهد – باب ما جاء في ذكر الموت، حديث (2307)، وقال: حديث حسن صحيح غريب. والنسائي: كتاب الجنائز – باب كثرة ذكر الموت، حديث (1824)، وابن ماجه: كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4258)، وصححه ابن حبان (2992)، وذكره الضياء في المختارة (1701-1702). وحسّن المنذري إسناده. الترغيب (4/117)، وقال الهيثمي: رواه البزار والطبراني وإسنادهما حسن، (10/308)، وصححه الألباني بشواهده، إرواء الغليل (682).
[3] حسن، وهو زيادة على الحديث السابق، أخرجها ابن حبان (2993)، وحسن الهيثمي إسنادهما، مجمع الزوائد (10/308). والألباني كذلك، إرواء الغليل (682).
[4] حسن، أخرجه أحمد (4/294)، وابن ماجه: كتاب الزهد – باب الحزن والبكاء، حديث (4195)، وحسّن إسناده المنذري في الترغيب (4/120)، والألباني في السلسلة الصحيحة (1751).
[5] حسن، أخرجه ابن ماجه: كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4259)، والطبراني في الكبير (13536)، والبيهقي في الزهد الكبير (456). وصححه الحاكم (4/540). وقوّاه البوصيري في مصباح الزجاجة (1/249-250)، وحسن المنذري إسناد الطبراني، وجوّد إسناد ابن ماجه. الترغيب (4/119)، وكذا حسن الهيثمي إسناد الطبراني مجمع الزوائد (10/309). وحسّن الألباني الحديث بطرقه. السلسلة الصحيحة (1384). أما الجملة الأولى منه صحيحة، أخرجها البخاري: كتاب الأدب – باب لم يكن النبي فاحشاً، حديث (6029) وغيره.
[6] ضعيف، أخرجه أحمد (4/124)، والترمذي: كتاب صفة القيامة – باب حدثنا سفيان بن وكيع... حديث (2459) وقال: حديث حسن. وابن ماجه: كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4260) ن والحاكم (1/57) وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: لا والله، أبو بكر واهٍ، قلت: أبو بكر هو ابن أبي مريم الغساني، ضعّفه أيضاً ابن حجر. التقريب (8031)، ومدار الإسناد عليه، فالحديث ضعيف، وضعفه الألباني، ضعف الجامع (4305)، ضعيف سنن الترمذي (436).
[7] الطِّمر: بالكسر الثوب الخلق البالي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله غير مقنوط من رحمته، ولا مأيوس من مغفرته، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمته، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ومصطفاه من رسله، وخيرته من بريته. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن سار على نهجه واستمسك بسنته وحافظ على شريعته وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها المسلمون: توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، ((بادروا بالأعمال قبل أن تشغلوا، فهل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فشرٌّ غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرُّ)) [1].
لا تكونوا – رحمكم الله – ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل. وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة.
أكثروا من زيارة القبور فإنها تذكر الآخرة. اعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب، جاءه الموت في وقت لم يحتسبه وهول لم يرتقبه.
وليتأمل الزائر حال من مضى من أقرانه، أكثَروا الآمال وجمعوا الأموال انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم، محا التراب محاسن وجوههم، وتفرقت في القبور أشلاؤهم، وترملت من بعدهم نساؤهم وقسمت أموالهم ومساكنهم: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى? كَمَا خَلَقْنَـ?كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـ?كُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
اتقوا الله رحمكم الله وارجوا الدار الآخرة فتلك دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يبلى نعيمها، ولا يتغير حسنها وإحسانها وحِسانُها، يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين: دَعْو?هُمْ فِيهَا سُبْحَـ?نَكَ ?للَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [يونس:10].
[1] ضعيف، أخرجه الترمذي: كتاب الزهد – باب ما جاء في المبادرة بالعمل، حديث (2306) وقال: حسن غريب، والعقيلي في الضعفاء (4/230) في ترجمة محرز بن هارون، والطبراني في الأوسط (3945) وأبو يعلى (6542) وكلاهما رواه بنحوه. وفيه محرز بن هارون نقل العقيلي – في المصدر السابق – عن البخاري أنه قال: منكر الحديث. وقال المنذري: رواه الترمذي من رواية محرز، ويقال: محرز بالزاي، وهو واهٍ. الترغيب (4/125). وأخرجه أيضا الحاكم (4/321)، وفيه علّة خفية ذكرها الألباني، انظر: السلسلة الضعيفة (1666).
(1/77)
شرح بعض أسماء الله الحسنى
التوحيد
الأسماء والصفات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفرده سبحانه في أسمائه وصفاته. 2- بعض أسمائه سبحانه ومعاينها: (الله – الرحمن -
الملك – القدوس – القوي القهار – العليم – الرقيب – العلي الأعلى – الغفور – الخلاق القدير
- الحكيم – الغني – الكريم). 3- فضل إحصاء أسمائه تعالى ومعناه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله لا شريك له في جميع صفاته ولا مضاهي له في أسمائه وتقديراته فهو (الله) الذي تألهه القلوب بالمحبة والود والتعظيم وهو (الرحمن الرحيم) الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها فما من نعمة وجدت إلا من رحمته وما من نقمة دفعت إلا من آثار رحمته، وهو (الملك) مالك العالم كله علوه وسفله لا يتحرك متحرك إلا بعلمه وإرادته، وهو (القدوس) الذي تقدس وتنزه عن النقائص والعيوب فلقد خلق السماوات بما فيها من النجوم والأفلاك وخلق الأرض بما فيها من البحار والأشجار والجبال والمصالح والأقوات خلق كل ذلك وما بين السماوات والأرض في ستة أيام سواء للسائلين وما مسه من تعب ولا آفات، وهو (القوي القهار) فما من مخلوق إلا وتحت قدرته وقهره وما من جبروت إلا وقد ذل لعظمته وسطوته، وهو (العليم) الذي يعلم السر وأخفى ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه، يعلم ما توسوس به نفس العبد قبل أن يتكلم به، وهو (الرقيب) الشاهد عليه في كل حالاته وما يغيب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وهو (العلي والأعلى) هو العلي في ذاته فوق عرشه العلي في صفاته فما يشبهه أحد من خلقه، وهو (الجبار) الذي يجبر الكسير والضعيف ويأخذ القوي بالقهر المنيف، وهو (الغفور) الذي يغفر الذنوب وإن عظمت ويستر العيوب وإن كثرت وفي الحديث القدسي عنه تبارك وتعالى قال : يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بملء الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بمثلها مغفرة. وهو (الخلاق القدير) الذي أمسك بقدرة السماوات والأرض أن تزولا ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو (الحكيم) في شرعه وقدرته فما خلق شيئا عبثا ولا شرع عبادة لهوا ولعبا، ومع ذلك فله الحكم آخرا وأولا، وهو (الغني) بذاته عن جميع مخلوقاته، وهو (الكريم) خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وفي الحديث قال الله تعالى : ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر وفي رواية :ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما تريد... ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري لشي إذا أردته أن أقول له كن فيكون)).
إخواني : هذا شيء يسير من أسماء الله تعالى وما لها من المعاني وإن أسماءه تعالى لا يحصى لها تعداد وله منها تسعة وستعون من أحصاها دخل الجنة وإحصاؤها هو معرفتها لفظا ومعنى والتعبد لله بها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون [الأعراف:180]
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/78)
ذكر بعض الآيات الكونية
التوحيد
الربوبية
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
آيات الله عز وجل ودلالتها على وحدانيته -
دلالة خلق السموات والأرض ، وما فيها من آيات باهرات على قدرته سبحانه -
آية الليل والنهار - الشمس والقمر - الكواكب والنجوم العظيمة -
لابد لهذا الكون من خالق
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واحمدوه على ما أراكم من آياته الدالة على وحدانيته وعلى كمال ربوبيته فإن في كل شيء له آية تدل على أنه إله واحد كامل العلم والقدرة والرحمة فمن آياته خلق السماوات والأرض فمن نظر إلى السماء في حسنها وكمالها وارتفاعها وقوتها عرف بذلك تمام قدرته تعالى: أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها [النازعات:27-28]. والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون [الذاريات:47]. فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [الملك:3-4]. أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ق:6].
ومن نظر إلى الأرض كيف مهدها الله وسلك لنا فيها سبلا وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ويسرها لعباده فجعلها لهم ذلولا يمشون في مناكبها ويأكلون من رزقه فيحرثون ويزرعون ويستخرجون منها الماء فيسقون ويشربون وكيف جعلها الله تعالى قرارا للخلق لا تضطرب بهم ولا تزلزل بهم إلا بإذن الله: وفي الأرض آيات للموقنين ، وفي الأرض قطع متجاورات [الرعد:4]. مختلفة في ذاتها وصفاتها ومنافعها وفي الأرض جنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، فمن تأمل ذلك علم كمال قدرة الله تعالى ورحمته بعباده.
ومن آياته ما بث الله تعالى في السماوات والأرض من دابة ففي السماء ملائكته لا يحصيهم إلا الله تعالى ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله تعالى أو راكع أو ساجد يطوف منهم كل يوم بالبيت المعمور في السماء السابعة سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، وفي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يُحْصَى أجناسه فضلا عن أنواعه وأفراده، هذه الدواب مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال فمنها النافع للعباد الذي به يعرفون كمال نعمة الله عليهم ومنها الضار الذي يعرف الإنسان به قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله وهذه الدواب المنتشرة في البراري والبحار تسبح بحمد الله وتقدس له وتشهد بتوحيده وربوبيته: تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [الإسراء:44]. وكل هذه الدواب رزقها على خالقها وبارئها: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها [هود:6].
ومن آياته تعالى الليل والنهار، الليل جعله الله تعالى سكنا للعباد يسكنون فيه وينامون ويستريحون، والنهار جعله الله تعالى معاشا للناس يبتغون فيه من فضل الله: قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيها ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [القصص:71-73].
ومن آيات الله تعالى الشمس والقمر حيث يجريان في فلكهما منذ خلقهما الله تعالى حتى يأذن بخراب العالم يجريان بسير منتظم لا تغير فيها ولا انحراف ولا فساد ولا اختلاف: والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [يس:38-40]. ومن آياته تعالى هذه الكواكب والنجوم العظيمة التي لا يحصيها كثرة ولا يعلمها عظمة إلا الله تعالى فمنها السيارات ومنها الثوابت ومنها المتصاحبات التي لا تزال مقترنة ومنها المتفارقات التي تجتمع أحيانا وتفترق أحيانا تسير بأمر الله تعالى وتدبيره زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها فالكون كله من آيات الله جملة وتفصيلا هو الذي خلقه وهو المدبر له وحده لا يدبر الكون نفسه ولا يدبره أحد غير الله يقول الله تعالى مبرهنا على ذلك: أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون [الطور:35-36]. نعم فالعالم لم يخلق نفسه ولم يكن مخلوقا من غير شيء بل لا بد له من خالق يخلقه ويقوم بأمره وهو الله سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه، أيها الناس: لو حُدّثتم بقصر مشيد مكتمل البناء قد بنى نفسه لقلتم هذه من أكبر المحال ولو قيل لكم إن هذا القصر وجد صدفة لقلتم هذا أبلغ محالا إذن فهذا الكون الواسع كون العالم العلوي والعالم السفلي لا يمكن أن يوجد نفسه ولا يمكن أن يوجد صدفة بلا موجد بل لا بد له من موجد واحد عليم قادر وهو الله سبحانه وتعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين [الجاثية:3]. إلى قوله تعالى: فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون [الجاثية:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/79)
توحيد الله أولاً
التوحيد
أهمية التوحيد, نواقض الإسلام
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
حال البشرية عندما تضل عن سبيل الله – توحيد الله عز وجل , وإسلام الوجه له معناه وأهميته
وعناية القرآن والسنة به – علاقة الأركان الخمسة بالتوحيد – التحذير من الشرك وأنواعه -
صور جديدة من الخلل في التوحيد – الحديث عن الشرك وقوادح التوحيد لتحذير المسلمين
منه لا للحكم عليهم بالكفر – خطأ منهج إغفال الحديث عن الأصول والإغراق في الفروع
والمسائل النادرة , والتحذير من المسالك الكلامية
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله؛ فاتقوا الله الذي خلقكم، واستعينوا على طاعته بما رزقكم، فربُّكم جلَّت حكمته لم يخلقكم هملاً، ولم يترك أمركم في هذه الحياة مهملاً، بل خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.
أيها المسلمون: إن بني الإنسان حين يضلون عن سبيل الله يتخبطون في فوضى التدين، ويغرقون في ألوان الشرك وأوحال الجاهلية: وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ مِنَ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32]. وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:116].
البشر عقولهم قاصرةٌ عن أن تدرك طريق الصلاح بمفردها، أو تستبين سبيل الرشاد بذاتها. إنها لا تستطيع أن تجلب لنفسها نفعاً أو تدفع ضراً.
لا يرتفع عن النفوس الشقاء، ولا يزول عن العقول الاضطراب، ولا ينزاح عن الصدور القلق والحرج إلا حين تُوقن البصائر، وتُسلم العقول بأنه سبحانه هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الجبار المتكبر له الملك كله، وبيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله؛ بَلَى? مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]. وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْر?هِيمَ حَنِيفاً [النساء:125].
أيها الإخوة: إن إسلام الوجه لله وإفراده بالعبادة يرتقي بالمؤمن في خلقه وتفكيره، يُنقذه من زيغ القلوب، وانحراف الأهواء، وظلمات الجهل، وأوهام الخرافة، ينقذه من المحتالين والدجالين، وأحبار السوء ورهبانه ممن يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً. التوحيد الخالص المخلص يحفظ الإنسان من الانفعالات بلا قيد أو ضابط.
أيها الإخوة، توحيد الله هو العبودية التامة له وحده سبحانه تحقيقاً لكلمة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله : في لفظها ومعناها والعمل بمقتضاها، يقيم المسلم عليه حياته كلها، صلاته ونسكه ومحياه ومماته.
توحيدٌ في الاعتقاد، وتوحيدٌ في العبادة، وتوحيدٌ في التشريع. توحيدٌ تُنَقَّى به القلوب والضمائر من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله، وتُنَقَّى به الجوارح والشعائر من أن تُصرف لأحد غير الله، وتُنَقَّى به الأحكام والشرائع من أن تتلقاها من أحدٍ دون الله عزَّ وجلَّ.
التوحيد هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، وقطب رحاه، وذروة سنامه. قامت عليه الأدلة، ونادت عليه الشواهد، وأوضحته الآيات، وأثبتته البراهين، نصبت عليه القبلة، وأُسست عليه الملة، ووجبت به الذمة، وعُصمت به الأنفس، وانفصلت به دار الكفر عن دار الإسلام، وانقسم به الناس إلى سعيدٍ وشقيٍّ ومهتدٍ وغوي.
أيها الإخوة: لقد كانت عناية القرآن بتوحيد الله عظيمة فهو القضية الكبرى، ومهمة الرسل الأولى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]. وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ?لرَّحْمَـ?نِ ءالِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]. فالقرآن كله حديثٌ عن التوحيد، وبيان حقيقته والدعوة إليه، وتعليق النجاة والسعادة في الدارين عليه. حديثٌ عن جزاء أهله وكرامتهم على ربِّهم، كما أنه حديثٌ عن ضدِّه من الشرك بالله وبيان حال أهله وسوء منقلبهم في الدنيا، وعذاب الهون في الأخرى؛ وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]. إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].
والأوامر والنواهي ولزوم الطاعات وترك المحرمات هي حقوق التوحيد ومكملاته.
القرآن العظيم يخاطب الكفار بالتوحيد ليعرفوه ويؤمنوا به ويعتنقوه؛ يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]. فَفِرُّواْ إِلَى ?للَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هاً ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الذاريات:50-51].
وكل نبي يقول لقومه: يَـ?قَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]. وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25]. ويُخاطَب به المؤمنون ليزدادوا إيماناً، وليطمئنوا إلى تحقيق توحيدهم، وليحذروا النقص فيه أو الخلل؛ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى نَزَّلَ عَلَى? رَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ [النساء:136].
ومن صفات عباد الرحمن: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ [الفرقان:68]. ومن نعوت أهل الإيمان الموعودين بالتمكين في الأرض: يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55].
بل لقد خاطب الله أنبياءه ورسله بنبذ الشرك والبراءة من أهله والإعراض عنه وعنهم فقال عز وتبارك: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْر?هِيمَ مَكَانَ ?لْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْقَائِمِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ [الحج:26]. وقال عز وجل: وَوَصَّى? بِهَا إِبْر?هِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـ?بَنِىَّ إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَى? لَكُمُ ?لدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ?لْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـ?هَكَ وَإِلَـ?هَ آبَائِكَ إِبْر?هِيمَ وَإِسْمَـ?عِيلَ وَإِسْحَـ?قَ إِلَـ?هًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:132-133]. وقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ بَلِ ?للَّهَ فَ?عْبُدْ وَكُن مّنَ ?لشَّـ?كِرِينَ [الزمر:65-66]. قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ?للَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَابِ [الرعد:36]. وَ?دْعُ إِلَى? رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [القصص:87]. ?تَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ?لْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106].
قال أهل العلم رحمهم الله تعليقاً على هذه الآيات وأمثالها: فإذا كان يُنهى عن الشرك من لا يمكن أن يباشره فكيف بمن عداه؟؟ ولقد قال إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام: وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ?لنَّاسِ [إبراهيم:35-36]. قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟؟.
هذا بعض خبر القرآن.
أما السنة فإن بعثة رسول الله ورسالته وسيرته من أولها إلى آخرها؛ مكيِّها ومدنيّها، حضرها وسفرها، سِلمها وحربها، كلها في التوحيد منذ أن أُمر بالإنذار المطلق في سورة المدثر : وَ?لرُّجْزَ فَ?هْجُرْ [المدثر:5] إلى الأمر بإنذار العشيرة فَلاَ تَدْعُ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هاً ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ?لْمُعَذَّبِينَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ?لأَقْرَبِينَ [ الشعراء:213-214]. إلى الأمر بالصدع بالدعوة فَ?صْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ?لْمُشْرِكِينَ [الحجر:94]. ثم من بعده الأمر بالهجرة لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] والإذن بالقتال والجهاد: ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ [الحج:40]. إلى فتح مكة حين كسرت الأصنام وَقُلْ جَاء ?لْحَقُّ وَزَهَقَ ?لْبَـ?طِلُ [الإسراء:81]. إلى الإعلام بدنو الحِمام فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ [النصر:3]. وقال وهو في مرض موته: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) [1].
لم تخلُ فترةٌ من هذه الفترات البتة من إعلان التوحيد وشواهده ومحاربة الشرك وظواهره، ويكاد ينحصر عرضُ البعثة كلِّها في ذلك؛ فما ترك عليه الصلاة والسلام تقريرَ التوحيد وهو وحيدٌ، ولا ذهل عنه وهو محصورٌ في الشعب، ولا انصرف عنه وهو في مسالك الهجرة والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمره ظاهر في المدينة بين أنصاره وأعوانه، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرار عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك؛ فهذه سيرته المدونة وأحاديثه الصحيحة، والقرآن من وراء ذلك كله.
من أجل هذا كان التوحيد أولاً ولا بد أن يكون أولاً في كل عصر وفي كل مصر.
أما أركان الإسلام الخمسة الكبرى ومعالمه العظمى فشرعت لتعلن التوحيد وتجسده وتقرره وتؤكده تذكيراً وتطبيقاً، وإقراراً وعملاً. فالشهادتان إثبات للوحدانية، نفيٌ للتعدد وحصر للتشريع والمتابعة في شخص المرسَل المبلِّغ محمد.
الصلاة مفتتحةٌ بالتكبير المنبئ عن طرح كل من سوى الله عز شأنه واستصغار كل من دون الله عز وجل. ناهيك بقرآن الصلاة وأذكارها في منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
أما الزكاة فهي قرينة الصلاة في التعبد والاعتراف للرب الجليل وإخراجها خالصة لله طيبة بها النفس براءةً من عبادة الدرهم والدينار: وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ بِ?لآخِرَةِ هُمْ كَـ?فِرُونَ [فصلت:6-7].
أما الصيام الحق فهو الذي يدعُ الصائمُ فيه طعامه وشرابه وشهوته من أجل ربه ومولاه.
أما الحج فشعار الأمة كلها في هذه البطاح والبقاع فهو التلبية بالتوحيد ونفي الشرك.
يقول أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في ذلك كله: (نحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب إلى الله والرجوع إليه وإفراده بالتعظيم والإجلال، ومطابقة القلب للجوارح من الطاعة والانقياد).
وفي مأثور نبينا محمد في الورد اليومي الذي يجعله المسلم في حزبه: ((أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين)) [2]. وفي الدعاء النبوي: ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)) [3].
عباد الله: ما كانت هذه الأدلة المتكاثرة، والحجج المتظافرة، والبراهين المتوافرة، إلا لعظم الأمر، وخطر شأن القضية،وشدة الخوف على الناس من الانحراف والقلوب من الزيغ. ولماذا لا يُخاف عليهم؟ والشياطين ما فتئت تترصد لبني آدم تجتالهم وتُغويهم.
وفي الحديث القدسي: ((خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أنزِّل به سلطاناً)) [4]. أخرجه مسلم من حديث عياض المجاشعي.
كيف لا يكون الخوف والرسول خاطب أصحابه الصفوة المختارة من الأمة: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) ؟؟ [5].
ويزداد الخوف حين يتأمل المتأمل قوله : ((الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل)) [6] ، بل لقد أخبر عليه الصلاة والسلام: ((أن فئاماً من الأمة تعبد الأوثان وقبائل تلحق بالمشركين)) [7].
والحافظ ابن كثير رحمه الله يعلِّق على قول الله تعالى: ذ?لِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]. قال رحمه الله: فيه تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته.
لماذا – يا عباد الله – لا يُخاف الخلل في التوحيد والنقص في صدق التعبد والتعلق؟ لماذا لا يُحذر من الشرك وأنواعه وأسبابه والله يقول في محكم تنزيله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِ?للَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:106]. قال بعض أهل العلم في هذه الآية دلالةٌ على ما يتخلل بعض الأفئدة، وتنغمس فيه بعض النفوس من الشرك الخفي الذي لا يشعر به صاحبه غالباً؛ فمثل هذا وإن اعتقد وحدانية الله لكنَّه لا يخلص له في عبوديته فيتعلق بغير ربه، بل ويعملُ لحظِّ نفسه أو طلب دنياه أو ابتغاء رفعةٍ أو منزلة أو قصدٍ إلى جاهٍ عند الخلق فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، والله أغنى الشركاء عن الشرك.
أيها الإخوة في الله: الأمر خطير ودقيق، شرك خفيٌ في المحبة والتألُّه والخضوع والتذلل، من أعطى حبَّه وذله وخضوعه وتسليمه وانقياده وطاعته لغير الله فكيف يكون حقَّق التوحيد؛ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]. ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ [التوبة:31].
هذا شرك في الخوف والرجاء، وآخر في الجهاد والتضحية، وذاك شرك في باب الأسباب، وذلك في باب النفع والضرر.
وانظروا في السحر والشعوذة والتطير والتشاؤم والرقى والتمائم، والحلف بغير الله في صور لا تكاد تُحصر. والغلو في الصالحين، ناهيك بدعاء غير الله، وطلب الغوث من المقبورين، والطواف حول الأضرحة، يدعون عندها ثم يدعونها، ويعلقون عليها القناديل والسرج والستور، ويذبحون عندها ولها، ويتمسحون، ويتطور الحال حتى يتخذونها أعياداً ومنسكاً فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة: وصورةٌ جديدةٌ من صور الخلل في التوحيد باءت بها فئات من المنتسبين إلى الإسلام تزعم الثقافة والاستنارة لا ترضى بحكم الله ولا تسلم له، بل إن في قلوبها لحرجاً، وفي صدورها لغيظاً وضيقاً؛ إذا أقيم حدٌ من حدود الله ارتعدت فرائصهم، واشمأزت قلوبهم، قاموا وقعدوا، وأرغوا وأزبدوا، ولهم إخوان يمدونهم في الغي، يزعمون الحفاظ على حقوق الإنسان، وما ضاعت حقوق الإنسان وحقوق الأمم إلا بهم وبأمثالهم.
الإسلام عندهم ظلم المرأة وهضم حقوقها، والحدود قسوة وبشاعة وتخلف، وحكم الردة تهديد لحرية الإبداع والفكر، وأحكام الشرع كلها عودة إلى عصور الظلام والتعصب والانغلاق؛ بل لقد أدخلوها في نفق الإرهاب المقيت. فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
الله أكبر: التوحيد صعب على الأذلاء ومن سِيموا الخسف والذل والتبعية: أَجَعَلَ ?لاْلِهَةَ إِلَـ?هاً و?حِداً إِنَّ هَـ?ذَا لَشَىْء عُجَابٌ [ص:5].
صعبٌ على من استمرؤوا الفساد وولغوا في الأوحال: وَإِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَحْدَهُ ?شْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?لآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ?لَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45].
إنهم لا يعرفون التوحيد، ولا يعرفون صفاء الدين مستعبدون في فكرهم، مشركون في تفكيرهم. وكأنهم قالوا للذين كفروا وكرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر، بل في كلِّ الأمر، إنهم حين لم يعرفوا التوحيد ولم يحققوه أصبحوا وكأنهم فئة منفصلة عن أمة الإسلام بفكرها وسمتها ورؤيتها وغايتها، مشدودة من خارجها من الشرق والغرب في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب. وقد تجلى ذلك في تجاهلهم بل تمردهم على تاريخ الأمة وأصالتها وتراثها.
وبعد أيها الإخوة: فإن نعمة التوحيد يخرج بها قلب العبد من ظلمات الشرك وجهالاته إلى نور الإيمان بالله وتوحيده، يخرج من التيه والحيرة والضلال والشرود إلى المعرفة واليقين والطمأنينة والرضا والهداية يخرج من الدينونة المذلة لأرباب متفرقين إلى الدينونة الموحِّدة لرب الأرباب لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ?لْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?لَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَـ?رِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَهُمْ لَهَا سَـ?بِقُونَ [المؤمنون:57-61].
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلاة – باب الصلاة في البيعة (436)، ومسلم: كتاب المساجد وموضع الصلاة – باب النهي عن بناء المساجد على القبور... حديث (529).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (3/406)، والدارمي: كتاب الاستئذان – باب ما يقول إذا أصبح، حديث (2688)، وابن أبي شيبة: كتاب الأدب – باب في الرجل ما يقول إذا أصبح (243). قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح. مجمع الزوائد (10/116)، وصححه النووي والعراقي. فيض القدير (5/105) والألباني في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية (ص97)، حاشية (32).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (4/403)، وابن أبي شيبة: كتاب الدعاء – باب في التعوذ من الشرك... (7/88)، والبخاري في الأدب المفرد: باب فضل الدعاء، حديث (716). قال المنذري: رواته إلى أبي علي محتج بهم في الصحيح، وأبو علي وثقه ابن حبان، ولم أرَ أحداً جرحه. الترغيب (1/40)، وصححه الألباني، صحيح الأدب المفرد (551)، وصحيح الترغيب (36).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (4/125)، (5/428)، والطبراني في الكبير (4301)، والبزار (2663)، وابن ماجه: كتاب الزهد – باب الرياء والسمعة، (4205) بنحوه. بشاهد (4/237)، وجوّد المنذري إسناد أحمد، وتكلم على الحديث بكلام جيد. انظر الترغيب (1/34)، وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. المجمع (1/102)، وصححه الألباني، صحيح الترغيب (32).
[5] صحيح، أخرجه أحمد (5/428)، والطبراني في الكبير (4301)، والبزار (2663)، وجوّد إسناد المنذري في الترغيب (1/34). قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (1/102). وصححه الألباني، صحيح الترغيب (32).
[6] صحيح، جزء من حديث سبق تخريجه في حاشية رقم (3).
[7] صحيح، أخرجه أحمد (5/278، 284)، وأبو داود: كتاب الفتن والملاحم – باب ذكر الفتن ودلائلها، حديث (4252)، والترمذي: كتاب الفتن – باب ما جاء ((لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون)) حديث (2219) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه: كتاب الفتن – باب ما يكون من الفتن، حديث (3952). وصححه الحاكم (4/448)، وذكره الحافظ في الفتح (13/85)، وصححه الألباني، صحيح سنن أبي داود (3577).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله حَمى حِمى التوحيد وسدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك، فأظهر الله به دينه على الدين كله ولو كره المشركون صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: تحقيق التوحيد يحتاج إلى يقظة قلبية دائبةٍ دائمةٍ تنفي عن النفس كلَّ خاطرة تقدح في عبودية العبد لربه، وتدفع كلَّ خالجة شيطانية في كل حركة أو تصرفٍ، ليكون ذلك كلَّه خالصاً لله وحده دون من سواه.
ومع شديد الأسف – أيها الإخوة – فإن قوادح التوحيد ومنقصاته صارت عند كثير من الناس من أخفى المعاصي معنى وإن كانت من أجلاها حُكماً، فلظهور حكمها ترى المسلمين عامَّتهم يتبرؤون منها ويغضبون كلَّ الغضب إذا نسبوا إليها وهم في هذا الغضب محقون، ولكن لخفاء معناها وقع فيها من وقع وهم لا يشعرون.
ولقد قرر أهل العلم أن الخوض في قوادح التوحيد والحديث عن مظاهر الشرك هي طريقة القرآن. وذلك من أجل تحذير المسلمين وليس الحكم عليهم به؛ فأهل السنة والجماعة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه، ولا يزال أهل العلم يتكلمون عن أحكام الردة وأسبابها، وطرق الزيغ والضلال، ومسالك الابتداع والتحذير منها، فمن علم العقائد الصحيحة وعلَّمها ودل عليها وحذر من طرق الزيغ والكفر والبدع فقد سلك مسلك حقٍّ، ونهج منهجَ نُصحٍ.
وإن مما ينبغي التنبيه إليه أن من الخطأ في المنهج وعدم التوازن في العرض وطرق التعليم أن ترى كثيراً من الكتب والمؤلفات تُفَصِّل في الفروع وأحكام المسائل حتى النادر منها وبعيد الوقوع؛ وهذا شيء في بابه حسن، ولكنهم لا يُعنون بالأصول مما يحتاجه الناس والناشئة فلا يُفضلون في التوحيد وأنواعه وحقوقه ولا يبينون ضدَّه من الشرك وأنواعه ومظاهره وأسبابه.
وثمَّت خطأ منهجي آخر وهو أن المتقدمين رحمهم الله سلكوا في باب العقائد مسالك كلامية ومصطلحات منطقية فخفي على الناس كثير من مهمات العقائد وأصول الدين، ولو سلكوا مسلك القرآن في البيان لكان المتعلمون والناس أحرى بهداية الله وفضله في هذا الباب؟!.
يقول ابن حجر الهيثمي رحمه الله: (ينبغي منع من يُشهر علمَ الكلام بين العامة لقصور أفهامهم ولأنه لا يؤمن بهم إلى الزيغ والضلال، ولابدَّ من أخذ الناس بفهم الأدلة على ما نطق به القرآن ونبه عليه، إذ هو بين واضح يُدرك ببداهة العقل).
ألا فاتقوا الله رحمكم الله: وأخلصوا دينكم لله، وحققوا توحيدكم واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
(1/80)
بدعة المولد
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
نعمة إرسال الرسل ، ومكانة نبينا صلى الله عليه وسلم -
حال الأمة المسلمة عند تمسكها بكتاب ربها وسنة نبيها ، وعند إعراضها عنها -
السبيل إلى استعادة الأمة مجدها -
من تمام تطبيق الدين ألا يشرع شيء من العبادات والمواسم غير ما ثبت عنه صلى الله عليه
وسلم ، بدعة الاحتفال بالمولد وما فيه من مخالفات -
حال أصحاب البدع مع سنته صلى الله عليه وسلم -
الأعياد والمواسم الدينية من العبادات فلا يحدث فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن أعظم منة وأكبر نعمة من الله على عباده أن بعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وكان من أعظمهم قدرا وأبلغهم أثرا وأعمهم رسالة محمد ، الذي بعثه الله تعالى لهداية الخلق أجمعين وختم به النبيين، بعثه الله على حين فترة من الرسل والناس أشد ما يكونون حاجة إلى نور الرسالة، فهدى الله به من الضلالة، وألف به بعد الفرقة، وأغنى به بعد العيلة، فأصبح الناس بنعمة الله إخوانا، وفي دين الله أعوانا، فدانت الأمم لهذا الدين وكان المتمسكون به غرة بيضاء في جبين التاريخ، فلما كانت الأمة الإسلامية حريصة على تنفيذ شرع الله، متمشية في عباداتها ومعاملاتها وسياستها الداخلية والخارجية على ما كان عليه قائدها وهاديها محمد ، لما كانت الأمة الإسلامية على هذا الوصف كانت هي الأمة الظاهرة الظافرة المنصورة، ولما حصل فيها ما حصل من الانحراف عن هذا السبيل، تغير الوضع فجعل بأسهم بينهم، وسلط عليهم الأعداء، وكانوا غثاء كغثاء السيل، فتداعت عليهم الأمم، وفرقتهم الأهواء، ولن يعود لهذه الأمة مجدها الثابت وعزها المستقر حتى تعود أفرادا وشعوبا إلى دينها الذي به عزتها، وتطبق هذا الدين قولا وعملا وعقيدة وهدفا على ما جاء عن رسول الله وأصحابه الكرام، وإن من تمام تطبيقه أن لا يشرع شيء من العبادات والمواسم الدينية إلا ما كان ثابتا عن رسول الله ، فإن الناس إنما أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، فمن تعبد لله بما لم يشرعه الله فعمله مردود عليه؛ لقول النبي : ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) ، وهو في نظر الشارع بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وإن من جملة البدع ما ابتدعه بعض الناس في شهر ربيع الأول من بدعة عيد المولد النبوي، يجتمعون في الليلة الثانية عشرة منه في المساجد أو البيوت فيصلون على النبي بصلوات مبتدعة ويقرؤون مدائح للنبي ، تخرج بهم إلى حد الغلو الذي نهى عنه النبي ، وربما صنعوا مع ذلك طعاما يسهرون عليه فأضاعوا المال والزمان، وأتعبوا الأبدان فيما لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا عمله الخلفاء الراشدون ولا الصحابة ولا المسلمون في القرون الثلاثة المفضلة، ولا التابعون بإحسان، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، ولو كان خيرا ما حرمه الله تعالى سلف هذه الأمة وفيهم الخلفاء الراشدون والأئمة، وما كان الله تعالى ليحرم سلف هذه الأمة ذلك الخير لو كان خيرا، ثم يأتي أناس في القرن الرابع الهجري فيحدثون تلك البدعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم): "ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى، وإما محبة للنبي وتعظيما له، من اتخاذ مولد النبي عيدا مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع، ولو كان خيرا محضا أو راجحا كان السلف أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة للنبي وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كانت محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته، واتباع أمره وإحياء سنته ظاهرا وباطنا، ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حرصاء على هذه البدع تجدهم فاترين في أمر الرسول مما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتّبعه" ا.هـ كلامه رحمه الله تعالى.
أيها المسلمون: إن بدعة عيد المولد التي تقام في شهر ربيع الأول في الليلة الثانية عشرة منه ليس لها أساس من التاريخ؛ لأنه لم يثبت أن ولادة النبي كانت تلك الليلة، وقد اضطربت أقوال المؤرخين في ذلك، فبعضهم زعم أن ولادته في اليوم الثاني من الشهر، وبعضهم في الثامن، وبعضهم في التاسع، وبعضهم في العاشر، وبعضهم في الثاني عشر، وبعضهم في السابع عشر، وبعضهم في الثاني والعشرين، فهذه أقوال سبعة ليس لبعضهم ما يدل على رجحانه على الآخر، فيبقى تعيين مولده من الشهر مجهولا إلا أن بعض المعاصرين حقق أنه من اليوم التاسع.
وإذا لم يكن لبدعة عيد مولد النبي أساس من التاريخ، فليس لها أساس من الدين أيضا، فإن النبي لم يفعلها ولم يأمر بها، ولم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقد قال النبي : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)). وكان يقول في خطبة الجمعة: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)).
والأعياد والمواسم الدينية التي يقصد بها التقرب إلى الله تعالى بتعظيمه وتعظيم نبيه هي من العبادات، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى ورسوله، ولا يتعبد أحد بشيء منها إلا ما جاء عن الله ورسوله. وفيما شرعه الله تعالى من تعظيم رسوله ووسائل محبته ما يغني عن كل وسيلة تبتدع وتحدث.
فاتقوا الله عباد الله، واستغنوا بما شرعه عما لم يشرعه، وبما سنه رسول الله عما لم يسنه.
أيها المسلمون: إننا لم نتكلم عن هذه البدعة لأنها موجودة في بلادنا، فإنها ولله الحمد لم تعرفها، ولا تعمل بها اقتداء برسول الله وأصحابه، ولكن لما كان الكثير قد يسمع عنها في الإذاعات، أردنا أن نبين أصلها وحكمها حتى يكون المسلمون على بصيرة منها، وأن يأخذوا من دينهم باللب دون القشور التي لا أصل لها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [الأنعام:153].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/81)
الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الزواج سنة جعلها الله في مخلوقاته. 2- ضبط الشرع لغرائز الإنسان. 3- حرص
الصحابة على القيام بهذه الشريعة. 4- حرص الصحابة على القيام بهذه الشريعة. 5- النكاح
سبيل الفتن. 6- التبتل والرغبة عن النكاح. 7- النكاح سبب للكثير من ثواب الله. 8- الحكم من
الزواج. 9- مشكلة غلاء المهور ونفقات الزواج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل واعلموا أنه سبحانه قد شرع الزواج وحث عليه ورغّب فيه تأسيا بالمرسلين وابتعادا عن الرهبنة والتقوقع في حياة العزوبية وهروبا من الفواحش التي تجر إليها الشهوة المسعورة غير المنضبطة بدين ولا حياء ولا مروءة.
فالزواج سنة من سنن الله في الخلق والتكوين وسبب في التكاثر والازدياد لا يشذ عنها عالم الإنسان أو الحيوان أو النبات قال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون وقال أيضا: سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم وعما لا يعلمون.
والزواج هو الأسلوب الذي اختاره الله للتوالد والتكاثر واستمرار الحياة، ولم يشأ الله أن يجعل الإنسان كغيره من العوالم فيدع غرائزه تنطلق دون وعي، ويترك اتصال الذكر بالأنثى فوضى لا ضابط له، بل وضع النظام الملائم لسيادته والذي من شأنه أن يحفظ شرفه ويصون كرامته، فجعل اتصال الرجل بالأنثى اتصالا كريما مبنيا على رضاهما وعلى إيجاب وقبول وعلى إشهاد على أن كلا منهما قد صار للآخر، وبهذا وضع للغريزة سبيلها المأمونة، وحمى النسل من الضياع، وصان المرأة من أن تكون كلأً مباحا لكل راتع، هذا هو النظام الذي ارتضاه الله وأبقى عليه الإسلام وهدم كل ما عداه من الزيجات التي كانت في الجاهلية.
وأما أدلة مشروعية الزواج:
فمن القرآن قوله تعالى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم وقوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم وأما أدلة مشروعية النكاح من السنة فكثيرة جدا فمنها:
قوله : ((النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس منى، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) رواه ابن ماجه.
وحديث ابن مسعود المتفق عليه: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) وقوله : ((تناكحوا تكاثروا)) ففي هذه الأحاديث الأمر بالنكاح والترغيب فيه، لأنه من سنته ومن رغب عنه فقد ترك سنة نبيه وطريقته التي سلكها.
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على مشروعية النكاح من عهد رسول الله إلى يومنا هذا.
وقد كان من حرص الصحابة رضي الله عنهم على هذه السنة قول ابن مسعود : (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام لتزوجت مخافة الفتنة) ويقول ابن عباس : (لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج) وقال عمر لرجل لم يتزوج: (إنما يمنعك من الزواج عجز أو فجور)، ولهذا قال العلماء بأن الزواج يكون واجبا لمن استطاعه وخشي على نفسه العنت والوقوع في الفاحشة وذلك لأن صيانة النفس عن الحرام واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بل قد يقدّم على الحج الواجب إذا كان اشتياقه إليه شديدا.
عباد الله: ولما كان الزواج بهذه الأهمية في الكتاب، والسنة، وفيه هذه الفوائد العظيمة، فإنه يجب على المسلمين أن يهتموا بشأنه ويسهلوا طريقه، ويتعاونوا على تحقيقه، ويمنعوا من يريد تعويقه من العابثين والسفهاء والمخذلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
أيها المسلمون: لقد رغّب الله عز وجل في كتابه في الزواج بصور متعددة فتارة يذكر أنه من سنن المرسلين قال تعالى: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية.
وتارة يذكره في معرض الامتنان: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات.
وأحيانا يذكره أنه آية من آياته فيقول عز وجل: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
وقد يتردد المرء في الزواج، فيحجم عنه خوفا من الاضطلاع بتكاليفه وهروبا من احتمال أعبائه، فيلفت الإسلام نظره، إلى أن الله سيجعل الزواج سبيلا إلى الغنى، قال تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم.
وقد بين ذلك النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: ((ثلاثة حق على الله عونهم... وذكر منهم: الناكح يريد العفاف)).
بل إن الإسلام يحث على الزواج حثا شديدا حتى في لحظات اليقظة الروحية عندما يريد الإنسان أن يتبتل وينقطع للعبادة فيبين أن ذلك مناف للفطرة ومغاير لسنة الأنبياء والمرسلين وقد أتى ثلاثة رهط إلى منزل النبي فسألوا عن عبادته، فكأنهم تقالّوها - أي رأوها قليلة - فقال أحدهم: أما أنا أصوم فلا أفطر، وقال الآخر، وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام بمقالتهم، قال لهم - مبينا السبيل الأقوم-: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما والله إني أقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) رواه البخاري ومسلم.
فالدين الإسلامي دين يسر وليس دين عسر ودين فسحه لا دين شده ولهذا لم يرض النبي بفعل هؤلاء الثلاثة وبين لهم الاعتدال في العبادة ونبههم إلى أن العبادة لا تكون عائقا أمام الملذات المباحة بل تكون هذه الملذات من العبادة ذاتها كما قال : ((وفي بضع أحدكم صدقة؟ فقال أحد الصحابة: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال: نعم، أرأيت لو وضعها في حرام أما كانت عليه وزر؟ قالوا: بلى قال: كذلك إذا وضعها في الحلال)).
ولهذا أيها الإخوة: كان الزواج عبادة يستكمل به الإنسان نصف دينه ويلقى ربه على أحسن حال من الطهر والنقاء، قال عليه الصلاة والسلام: ((من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي)). فالزوجة الصالحة من العوامل التي تساعد على تقوى الله فهي فيض من السعادة يغمر البيت ويملؤه سرورا وبهجة وإشراقا.
ولهذا امتدح النبي المرأة إذا كانت صالحة قانتة صينةً عابدة تقية فقال: ((خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية إذا اتقين الله)) وفي رواية لمسلم قال: ((الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)) وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة من السعادة: المرأة الصالحة تراها تعجبك وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة فتلحقك بأصحابك والدار تكون واسعة كثيرة المرافق، وثلاث من الشقاء: المرأة تراها فتسوؤك وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون قطوفا فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحقك بأصحابك والدار تكون ضيقة قليلة المرافق)) رواه الحاكم وهو حديث صحيح.
وأما الحكمة من الزواج فهي تتمثل في فوائد وحكم كثيرة أذكر منها ما يلي:
أولا: أنه يصرف النظر عن التطلع إلى ما لا يحل له ويحصّن الفرج ويحفظه كما قال : ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)).
ثانيا: أنه يبعث الطمأنينة في النفس، ويحصل به الاستقرار والأنس، قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
ثالثا: أنه سبب لحصول الذرية الصالحة التي ينفع الله بها الزوجين وينفع بها مجتمع المسلمين، قال : ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)).
رابعا: أن الزواج سبب لنموّ غريزة الأبوة والأمومة لدى الزوجين في ظلال تربية الأطفال، وتنمو مشاعر الود والعطف الحنان.
خامسا: الشعور بتبعة الزواج مما يبعث على النشاط والجد في طلب الرزق وبذل الوسع في ذلك، حتى يستطيع الزوج القيام بكفالة زوجته ونفقتها وتوفير الراحة لها وصيانتها ورفعتها عن التبذل والامتهان في طلب مؤنتها وإعزازها من الذلة والعنوسة والكساد في بيت أهلها.
سادسا: ومن حكم الزواج وضع الغريزة الجنسية في موضعها الطبيعي في الحلال وهو أنسب مجال حيوي لإشباع الغريزة الجنسية.
قال : ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه فليأت أهله فإن ذلك يردما في نفسه)) رواه مسلم.
هذه بعض حكم الزواج وإلا فحكمه كثيرة جدا لمن تأملها وأمعن فكره فيها.
أيها الإخوة: وبعد الذي ذكرت من الترغيب في الزواج وفوائده وحكمه هل بعد هذا يتردد أعزب عن الزواج؟ أو هل يحجم ولي امرأة عن تزويج ابنته ويعضلها ويجلسها في البيت حتى العنوسة؟
أرجو ألا يكون شيء من ذلك وأتمنى أن يسهل أولياء الأمور تزويج أبنائهم وبناتهم حتى لمن أراد التعدد لكي تقل الفواحش من معاكسات وزنى واختطاف وغير ذلك من الجرائم التي من أهم أسبابها هو الصد عن الخير وإعاقة أمر الزواج وتصعيبه أمام شبابها المستهدف من أعداء الدين الذين يتربصون بهم الدوائر من إغراء وتهييج وإثارة حتى يقع هؤلاء الشباب ضحية المرأة العارية التي ليس لها هم سوى إغواء الشباب البعيد عن الزواج حتى يصبح هذا الشاب ليس له همّ ولا طموح ليكون لنفسه حياة زوجية سعيدة بل يذهب إلى هنا وهناك ليطفئ سعار الشهوة المتهيجة في نفسه، فالله الله في فتيانكم وفتياتكم يسّروا أمر الزواج ولا تعسروه وكونوا مفاتيح للخير مغاليق للشر.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد:
أيها الإخوة: اعلموا أن هناك معوقات أمام الشباب تصده وتعوقه عن الزواج ومن أهم هذه المعوقات:
غلاء المهور: فغلاء المهر سبب رئيسي لإحجام الكثير من شبابنا وعزوفهم عن الزواج خوفا من أن يثقل أحدهم كاهله بدين يصعب على الجبال الراسيات حمله، ولقد استنكر النبي المغالاة في المهور، كما ورد ذلك عنه في الحديث الصحيح أنه قال لرجل: ((على كم تزوجت)) ؟ قال الرجل: على أربع أواق يعني من الفضة، فقال له عليه الصلاة والسلام: ((على أربع أواق، كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل)) قال العلماء: أنكر عليه هذا المبلغ لأنه كان فقيرا، فالفقير يكره له تحمل الصداق الكثير بل يحرم عليه إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة، والغني يكره له دفع المهر الكثير إذا كان من باب المباهاة، ولأنه يسن سنة سيئة لغيره.
وقال عمر بن الخطاب : (لا تغلوا في صدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة، كان أولاكم بها النبي ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية)، رواه الخمسة وصححه الترمذي، والاثنتا عشرة أوقية تساوي مائة وعشرين ريالا سعوديا من الفضة، وأين هذا المبلغ من مبالغ المهور الباهظة التي تعلمونها اليوم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((خير الصداق أيسره)) رواه أبو داود وهو صحيح، وقال أيضا: ((أكثر النساء بركة أيسرهن مؤونة)).
وأكثر الناس في قضية المهر طرفان ووسط غال وجاف وكلاهما مذموم فبينما نرى رجلا يبالغ في التبسط حتى يصل مهر ابنته إلى ريال واحد نجد آخر يغلو ويسرف حتى تبلغ نفقات ليلة الزواج ما يكفي لزواجات كثيرة.
فالتوسط هو الأفضل كما يقول أحد الكتاب: إن التوسط والبعد عن الإفراط والخيلاء وحب المظاهر من أسباب السعادة الزوجية وهو أمر مطلوب من الأغنياء والوجهاء قبل غيرهم، لأنهم هم الذين يصنعون تقاليد المجتمع والآخرون يتشبهون بهم أ.هـ.
ومع غلاء المهور نجد هناك أيضا المباهاة في إقامة الحفلات، واستئجار أفخم القصور مما لا مبرر له إلا إرضاء النساء والسفهاء، ومجاراة المبذرين والسخفاء، مع أن الوليمة بمناسبة الزواج مستحبة فقد قال النبي لبعض أصحابه لما تزوج: ((أولم ولو بشاة)) وهي على قدر حال الزوج فلا ينبغي الأغنام الكثيرة أو الإبل ثم لا تؤكل ويلقى بلحمها إلى القمامة أو يهدر في التراب، بل وصل الأمر إلى أن بعض الناس دعوا إلى حفل زفافهم خمسة آلاف شخص وانظروا كم أنفق فيها من أموال لو دفعت إلى جياع المسلمين ومنكوبيهم لوسعتهم.
أيها الإخوة: إن بساطة المهر، وقلة تكاليف حفل الزفاف، خطوة تحتاج إلى عزيمة صادقة وهمة عالية، لا تبالي بأقوال سفهاء الناس ودهمائهم.
ومن معوقات الزواج: تبذل المرأة وسفورها وكثرة خروجها من المنزل مما يلقي الريبة في قلوب الخطاّب.
ونظراً لكثرة المعاكسات وانتشار الفواحش لا سيما فاحشة الزنا، أصبح كثير ممن يمارسون هذه الجرائم لا يثقون بأي امرأة كانت، وذلك لأن محيطهم المليء بالمنكرات يعمي عليهم أبصارهم وأفئدتهم فيصبحون لا يرون إلا بمنظارهم الأسود الذي لا يريهم إلا الخبيثات من النساء وكأن المجتمع قد خلا من الصالحات.
وقد يكون هؤلاء معدورين شيئا ما، وذلك لكثرة خروج النساء وهن متبذلات سافرات أو متنقبات مائلات مميلات يصدن بسهامهن كل من في قلبه مرض والسبب في تصّيد المرأة للرجال الأجانب وفعلها معهم فاحشة الزنا هو منعهن من الزواج المبكر مما يثير فيها سعار الشهوة إذا كانت قليلة الدين ولا توجد رقابة لها، فتذهب إلى الأسواق أو إلى هنا أو هناك من أجل أن تطفئ ما بها من الهيجان.
وقد قيل قديما: الفراغ للرجل غفلة وللنساء غلمة (أي محرك للغريزة).
فنحن نطالب أولياء الأمور أن يتقوا الله في بناتهن وألا يكونوا حجر عثرة أمام تزوجهن، وأن يبادر أحدهم بالبحث عن الزوج الكفء لابنته إن لم يتقدم إليها أحد ولا عيب في ذلك كما فعل عمر بن الخطاب عندما بحث بنفسه عن زوج لابنته حفصة رضي الله عنها فتزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه أفضل من أن يمانع من زواج ابنته ويعرضها بعد ذلك لأمور لا تحمد عقباها فلنتنبه لهذا الأمر جيدا.
ومن العقبات أيضا: تأخير زواج البنت بحجة الدراسة حتى يصير عمرها خمسا وعشرين أو ثلاثين سنة فلا يفكر حينئذ أي أحد أن يتقدم للزواج منها لأنها قد كبرت ولم تصبح أهلا للزواج، وليس معنى هذا أننا لا نرى دراسة المرأة بل تدرس وتطلب الشهادات العليا لكن إن تقدم إليها عريس وكان كفؤا فلترض به ولتتزوج ولا تتعذر بالدراسة لأنه قد يكون أول عريس وآخر عريس ويفوتها القطار وتعض بعد ذلك أصابع الندم.
ومن العقبات :ما يفعله بعض الناس من تحجير المرأة على ابن عمها أو قريبها لا يزوجها إلا به ولو كانت لا تريده وهذا من الخطأ ومن الظلم.
ومن الظلم العظيم للنساء وعرقلة طريق الزواج عليهن أن يمتنع الولي من تزويج ابنته إلا بشرط أن يزوجه الآخر ابنته، وهذا ما يسمى نكاح البدل أو الشغار فإن لم يسمِ فيه مهرا لهما، وجعلت المرأة في مقابل المرأة فهو نكاح باطل بإجماع أهل العلم، وإن سمي فيه المهر فقد اختلف العلماء في صحته.
أيها الإخوة: اتقوا الله ولا تمنعوا زواج بناتكم من أجل أهوائكم ورغباتكم الشخصية أو من أجل أطماعكم الدنيئة أو عدم مبالاتكم، فإنهن أمانات في أعناقكم وقد استرعاكم الله عليهن ((وكل راع مسؤول عن رعيته)).
وربما يسبب منع تزويج الفتيات أو تأخيره عارا وخزيا لا تغسله مياه البحار.
ولا يكن همكم الطمع في المهور أو المباهاة والمفاخرة في الظاهر واستئجار أفضل القصور ونسيان العواقب واعتبروا بالمجتمعات التي اشتغلت نساؤها بالدراسات والوظائف وعطلت الزواج أو قللت الاهتمام به، ماذا حصل فيها من فساد الأخلاق وانتهاك الأعراض، وتفكك الأسر وفساد التربية وخواء البيوت من الزوجات الصالحات حتى صارت النساء كالرجال: ربات أعمال لا ربات بيوت، ولا مربيات أطفال، بيوتهن كبيوت العزاب بحاجة إلى من يقوم بها، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من لم تنفعه المواعظ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم.
(1/82)
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته ووفاته
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
حاله صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الوحي ، وكلام ورقة بن نوفل له -
قيامه صلى الله عليه وسلم بدعوة الأقربين ، وأول من أسلم -
الجهر بالدعوة ، وإيذاء المشركين له ، ورحلته إلى الطائف وإيذاؤهم له -
هجرته صلى الله عليه وسلم وما كان فيها من أحداث وقدومه المدينة ، وجهاده أعداء الله حتى
أظهره الله عليهم- مرضه صلى الله عليه وسلم واختياره الرفيق الأعلى -
وفاته صلى الله عليه وسلم واضطراب الناس لذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واحمدوا ربكم على ما أنعم به عليكم من بعثة هذا النبي الكريم الذي أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور وهداكم به من الضلالة وبصركم به من العمى وأرشدكم به من الغي فلله الحمد رب العالمين.
لقد بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل على رأس الأربعين من عمره فجاءه الوحي وهو يتعبد في غار حراء وهو الغار الذي في أعلى الجبل المسمى جبل النور شرقي شمال مكة على يمين الداخل إليها، فأول ما نزل عليه قوله: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم [العلق:1-5]. ثم ذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل وكان ورقة قد دخل في دين النصارى وعرف الكتاب فأخبره النبي بما حصل له من الوحي، فقال: ورقة يا ليتني فيها جذعا يا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال النبي : ((أو مخرجي هم)). استبعد أن يخرجه قومه من بلاده فقال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم أنزل الله تعالى على رسوله بعد أن فتر الوحي مدة: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر [المدثر:1-5]. فقام بأمر ربه فبشر وأنذر وكان أول من أجابه من غير أهل بيته أبو بكر وكان صديقا له قبل النبوة فلما دعاه بادر إلى التصديق به وقال بأبي وأمي أهل الصدق أنت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصار من دعاة الإسلام حينئذ فأسلم على يديه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم ومكث يدعو الناس سرا حتى نزل قوله تعالى: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. فصدع بأمر الله تعالى وجهر بدعوته فجعلت قريش تسخر به وتستهزئ به ويؤذونه بالقول وبالفعل، وكان من أشد الناس إيذاء له وسخرية به عمه أبو لهب الذي قال الله فيه: تبت يدا أبي لهب وتب [المسد:1]. إلى آخر السورة حتى بلغ من إيذائهم له أن ألقوا عليه فرث الناقة وسلاها وهو ساجد فلم يقدر أحد على رفعه عنه فلم يزل ساجدا حتى جاءت ابنته فاطمة فألقته فلما رأى استهانة قريش به وشدة إيذائهم له ولأصحابه خرج إلى أهل الطائف يدعوهم فقابل رؤساءهم وعرض عليهم، فردوا عليه ردا قبيحا، وأرسلوا غلمانهم وسفهاءهم يقفون في وجهه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه فرجع عنهم ومد يد الافتقار إلى ربه فدعا بدعاء الطائف المشهور: ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك أو أن ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك))، ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على عبادة الله وحده لا شريك له وأن يمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم فأذن الله لرسوله بالهجرة إليهم فهاجر في شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من مبعثه وكان بصحبته أبو بكر فاختفيا في غار ثور ثلاثة أيام والمشركون يطلبونهم من كل وجه حتى كانوا يقفون على الغار الذي فيه رسول الله وأبو بكر فيقول أبو بكر يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا فيقول رسول الله : ((لا تحزن إن الله معنا ما ظنك باثنين الله ثالثهما))، فلما سمع بذلك الأنصار جعلوا يخرجون كل يوم إلى حرة المدينة يستقبلون رسول الله حتى يردهم حر الظهيرة، فكان اليوم الذي قدم فيه رسول الله إليهم هو أنور يوم وأشرفه فاجتمعوا إلى رسول الله محيطين به متقلدين سيوفهم وخرج النساء والصبيان وكل واحد يأخذ بزمام ناقة رسول الله يريد أن يكون نزوله عنده وهو يقول دعوها فإنها مأمورة حتى إذا أتت محل مسجده اليوم بركت، فيذكر أنه لم ينزل فقامت فسارت غير بعيد ثم رجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله وسكن دار أبي أيوب الأنصاري حتى بنى مسجده ومساكنه، ثم بعد ذلك أذن الله له بقتال أعدائه الذين كانوا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون فأظهره الله عليهم وأيده بنصره وبالمؤمنين ولما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين اختاره الله لجواره واللحاق بالرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فابتدأ به المرض في آخر شهر صفر وأول شهر ربيع الأول فخرج إلى الناس عاصبا رأسه فصعد المنبر فتشهد وكان أول ما تكلم به بعد ذلك أن استغفر للشهداء الذين قُتلوا في أحد ثم قال: ((إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله))، ففهمها أبو بكر فبكى وقال : بأبي وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وأنفسنا وأموالنا فقال النبي : على رسلك يا أبا بكر ثم قال : إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن خلة الإسلام ومودته وأمر أبا كبر أن يصلي بالناس، ولما كان يوم الاثنين الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة اختاره الله تعالى لجواره، فلما نزل به جعل يدخل يده في ماء عنده ويمسح به وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم شخص بصره نحو السماء وقال: اللهم في الرفيق الأعلى فتوفي يوم الاثنين فاضطرب الناس عند ذلك وحق لهم أن يضطربوا حتى جاء أبو بكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [آل عمران:144]. إنك ميت وإنهم ميتون [الزمر:30]. فاشتد بكاء الناس وعرفوا أنه قد مات فغسل في ثيابه تكريما له ثم كفن وصلى الناس عليه أرسالا بدون إمام ثم دفن ليلة الأربعاء صلوات الله وسلامه عليه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين [آل عمران:144]. وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين [آل عمران:145].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/83)
في ذكر شيء من آيات الرسل الكرام
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, معجزات وكرامات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
من تمام ملك الله وكماله أنه لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض-
من تمام حمد الله وكماله أنه لم يشرع شيئا إلا لحكمة ، ومن ذلك معجزات الرسل:
النار كانت برداً وسلاماً على إبراهيم – معجزات موسى عليه السلام: العصى-
معجزات عيسى عليه السلام وإحياء الموتى بإذن الله-
معجزات نبينا : انشقاق القمر – تفجر الماء – حنين الجذع-
دلالة هذه المعجزات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله تعالى له تمام الملك وكمال الحمد فمن تمام ملكه وكماله أنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض وأنه ما من شيء في السماوات والأرض إلا وهو خالقه ومالكه ومدبره ومن تمام حمده وكماله أنه لم يقدر شيئا ولم يشرع مشروعا إلا لحكمة وعلى وفق الحكمة ومن ذلك ما يقدره الله تعالى من الآيات الدالة على صدق الرسل تأييدا لهم وإقامة للحجة على أممهم فهذه النار الحارة المهلكة كانت بردا وسلاما على إبراهيم نبي الله وخليله عليه الصلاة والسلام حين ألقاه فيها كفار قومه، قال ابن عباس رضي الله عنهما لولا أن الله قال: سلاماً لآذى إبراهيم بردها وهذا نبي الله موسى ضرب بعصاه البحر فانفلق اثني عشر طريقا حتى ظهرت أرض البحر يبسا وكان الماء السائل من بين هذه الطريق كالجبال راكدا لا يسيل ولما استسقى لقومه أمر أن يضرب بعضها الحجر فتفجر الحجر عيونا اثنتي عشرة عينا وكان يضع عصاه فتنقلب حية تسعى فإذا أخذه رجع على حاله الأولى وهذا عيسى ابن مريم كان يُحيي الموتى بإذن الله فيأتي إلى القبر فيدعو صاحبه فيخرج بإذن الله وهذا رسول الله وخليله محمد جرى له من الآيات الدالة على صدقه شيء كثير فمن ذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما ثبت ذلك بطرق متواترة قطعية واتفق عليه العلماء والأئمة وكان إذا قحط المطر يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب، قال أنس : رفع النبي يديه يستسقي وما رأينا في السماء قزعة فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال: فمطرنا إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله يديه وقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا)) فما يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة في مثل الأكليل والمطر حولها يمينا وشمالا، وعطش الناس يوم الحديبية وبين يدي النبي ركوة (الركوة إناء من جلد يشرب منه الماء) يتوضأ منها فجهش الناس نحوه فقال مالكم قالوا ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا، قيل لجابر: كم كنتم قال لو كنا مئة ألف لكفانا، كنا ألفا وخمسمائة أو قال ألفا وأربعمائة وكان معهم فدعا الله فيها بالبركة ثم أمرهم أن يأتوا بأوعيتهم فجاؤوا بها فملأها وفَضَل فضلٌ كثير فقال رسول الله عند ذلك: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني عبد الله ورسوله ومن لقي الله عز وجل بهما غير شاك دخل الجنة)). وكان له جذع نخلة يسند ظهره إليه يوم الجمعة فلما صنع له المنبر وخطب عليه جعل الجذع يئن كما يئن الصبي حتى نزل النبي فسكّنه كما يسكّن الصبي حتى سكن. ولله تعالى من الآيات وخوارق العادات ما يشهد بتمام ملكه وقدرته وما هو أعظم برهان على علمه وحكمته قال الله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد [فصلت:53].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/84)
التوكل
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
طلب الرزق غريزة عند كل الأحياء – مزالق السعي وراء الكسب والرزق ,والمخرج من ذلك-
أهمية التوكل وبواعثه ومصادره وفضله – حقيقة التوكل والفرق بينه وبين التواكل وهديه صلى
الله عليه وسلم في ذلك – حاجة الدعاة إلى التوكل – كيف يقوى التوكل ويصح
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله، واعتصموا بحبله حقَّ الاعتصام، واستمسكوا بالعروة الوثقى التي ليس لها انفصام. حبل الله الإقرار بتوحيده، وأداء فرائضه، وإقامة حدوده، والتصديق بوعده ووعيده؛ وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7].
أيها المسلمون: طلب الرزق غريزةٌ عند كل الأحياء، فما إن تَبدوَ بوادرُ الصباح حتى يستعد الفلاحون والتجار، وأصحاب الصنائع والحرف، وأرباب الوظائف والإدارات، يستعدون للدخول في كدحٍ طويلٍ كي يحرز كلُّ امرئٍ منهم قوته وقوت عياله.
وهذا الكدح الطويل والسعي الحثيث محكٌّ قاسٍ للأخلاق والمسالك، والثبات واليقين، والطمأنينة والرضى.
إن اللهف على تأمين العيش، واللهاث من أجل سدِّ أفواه الصغار والضعاف قد يلجئ بعض النفوس إلى الختل والتلون، والكذب والحيف، والتدليس والغش. وربما وُجد ضعاف يتملقون أقوياء، وأذلاء يذوبون في أعتاب كُبراء.
إن إلحاح الرغبة في طلب الكفاف أو طلب الثراء مع وعورة الطريق، وطول المراحل والمنازل في هذه الحياة، وشعور المرء بالحاجة إلى ناصرٍ ومؤنسٍ مع ما قد يلاقي من أعداء ومتربصين؛ كل ذلك قد يدفع إلى اللؤم والذلة وسلوك المسالك الملتوية.
ولكن دين الإسلام يأبى ثم يأبى أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقةً لهذه الآثام كلِّها، وينهى ويكره أن يلجأ المسلم أبداً إلى غشٍ أو ذلٍَ أو ضيم ليجتلب به ما يشاء من حطامٍ.
وفي سدِّ هذا الطريق يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوا بمعصية الله فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته)) [1].
إذن ما هو المخرج؟ وما هو الحل من هذه المعضلة التي يعيشها فئامٌ من الناس على ظهر هذه البسيطة؟ يتهارشون ويأكل بعضهم بعضاً، ويظلم بعضهم بعضاً؟؟ وفي عصرنا شاهدٌ كبيرٌ وأنموذج ماثلٌ على هذه الصورة المزرية!!.
اسمعوا إلى هذا الحديث من نبيكم محمد ؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)) [2].
وابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن من ضعف اليقين أن ترضيَ الناس بسخط الله وأن تحمدهم على رزق الله، لا يجرُّه حرصُ حريصٍ ولا ترده كراهية كاره، وإن الله بقسطه وعدله جعل الرَّوْحَ والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهمَّ والحزن في الشك والسخط.
أيها الإخوة: إنه التوكل على الله. التوكل شعورٌ ويقينٌ بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجود والأفلاك والأكوان. فكل ذلك محكومٌ بحوله وقوته سبحانه.
التوكل قطع القلب عن العلائق، ورفض التعلق بالخلائق، وإعلان الافتقار إلى محوِّل الأحوال ومقدِّر الأقدار لا إله إلا هو. إنه صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار ولا ينفع ذا الجد منه الجد.
التوكل صدقٌ وإيمانٌ، وسكينةٌ واطمئنان، ثقةٌ بالله في الله، وأملٌ يصحب العمل، وعزيمةٌ لا ينطفئ وهجُها مهما ترادفت المتاعب. بالتوكل تُرفع كبوات البؤس، وتُزجر نزوات الطمع. لا يكبح شَرَهَ الأغنياء ولا يرفع ذل الفقراء سوى التوكل الصادق على الحي الذي لا يموت.
يقول سعيد بن جبير رحمه الله: التوكل على الله جماع الإيمان. المتوكل على الله ذو يقظةٍ فكريةٍ عاليةٍ ونفسٍ مؤمنةٍ موقنةٍ. قال بعض الصالحين: متى رضيت بالله وكيلاً وجدت إلى كل خير سبيلاً.
وقال بعض السلف: بحسبك من التوسل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك عليه.
التوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد الوسائل المشروعة في عالم الشهادة. تسليم لله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوباتٍ وواجباتٍ.
أيها الإخوة: وأول بواعث التوكل ومصادره توحيد الله وإفراده بالعبادة؛ فالرب المعبود سبحانه: له الأسماء الحسنى والصفات العلى: ?للَّهُ خَـ?لِقُ كُلّ شَىْء وَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء وَكِيلٌ (1/85)
غزوة أحد
سيرة وتاريخ
غزوات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
بذل السلف وجهادهم في سبيل هذا الدين-
أسباب غزوة أحد ، وعدد الكفار-
خروج المسلمين لملاقاة المشركين ، وانخذال المنافقين-
تجهيز الرسول الجيش ، وأمره للرماة بعدم ترك أماكنهم-
انهزام المشركين أول الأمر ، ومخالفة الرماة أمره صلى الله عليه وسلم ، وانهزام المسلمين
وجرحه صلى الله عليه وسلم -
اجتماع المشركين حول النبي صلى الله عليه وسلم لقتله ، والتفاف الصحابة حوله لحمايته ، ومواقف بطولية. شهداء المسلمين في أحد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا ما أبلاه سلف هذه الأمة من بلاء حسن في نصرة هذا الدين وما صبروا عليه من الشدائد في إعلاء كلمة رب العالمين فإنهم جاهدوا في سبيل الله لم يجاهدوا لعصبية ولا لوطنية ولا لفخر وخيلاء، وفي شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة كانت غزوة أحد وهو الجبل الذي حول المدينة والذي قال فيه : ((أحد جبل يحبنا ونحبه)) وذلك أن المشركين لما أصيبوا بفادحتهم الكبرى يوم بدر خرجوا ليأخذوا بالثأر من النبي وأصحابه في ثلاثة آلاف رجل ومعهم مائتا فرس مجنبة فلما علم بهم رسول الله استشار أصحابه في الخروج إليهم فخرج بنحو ألف رجل فلما كانوا في أثناء الطريق انخذل عبد الله بن أبَي رأس المنافقين بمن اتبعه من أهل النفاق والريب وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم فتعبأ رسول الله للقتال في سبعمائة رجل فقط ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وأمر على الرماة عبد الله بن جبير، وقال: انضحوا عنا الخيل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبتوا مكانكم فأنزل الله نصره على المؤمنين وصدقهم وعده فكشفوا المشركين عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها ولكن الله قضى وحكم ولا معقب لحكمه وهو السميع العليم، فإن الرماة لما رأوا هزيمة الكفار ظنوا أنهم لا رجعة لهم فتركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله بلزومه فكر فرسان المشركين ودخلوا من ثغر الرماة ففاجئوا المسلمين من خلفهم واختلطوا بهم حتى وصلوا إلى النبي فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته اليمنى السفلى وهشموا البيضة بيضة السلاح على رأسه ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه فعض عليهما أبو عبيدة فنزعهما وسقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجه النبي ونادى الشيطان بأعلى صوته أن محمدا قد قتل فوقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين وفر أكثرهم فبقي النبي في سبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين فقال النبي : ((من يردهم عنا وله الجنة)). فتقدم الأنصار واحدا واحدا حتى قُتلوا وترس أبو دجانة في ظهره على النبي والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك واستشهد في هذه الغزوة سبعون رجلا من أصحاب النبي منهم أَسَد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب عم النبي وسيد الشهداء ومنهم عبد الله بن جحش دفن هو وحمزة في قبر واحد ومنهم مصعب بن عمير صاحب اللواء ومنهم سعد بن الربيع بعث إليه النبي زيد بن ثابت يقرئه السلام فوجده في آخر رمق وفيه سبعون ضربة فقال له : إن الرسول يقرأ عليك السلام ويقول كيف تجدك قال: وعلى رسول الله السلام قل له أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف ثم فاضت نفسه ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا ما بأيديهم فقال ما تنتظرون قالوا: قتل رسول الله فقال: ما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم لقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد فقاتل حتى قتل ووجد به نحو من سبعين ضربة فلما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان وكان رئيس المشركين يومئذ ثم أسلم بعد أشرف على الجبل يسأل عن النبي وأبي بكر وعمر فلم يجيبوه إهانة له واحتقارا قال أبو سفيان لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال: ((كذبت يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله لك ما يسوؤك)) ثم قال أبو سفيان مفتخرا بصنمه اعل هبل فقال النبي قولوا: ((الله أعلى وأجل)) ثم قال أبو سفيان لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبي : ((قولوا الله مولانا ولا مولى لكم)) ثم انصرف أبو سفيان بأصحابه فلما كانوا في أثناء الطريق تلاوموا فيما بينهم ليرجعوا إلى النبي وأصحابه فيستأصلونهم فبلغ ذلك النبي فنادى في الناس ليخرجوا إلى عدوهم وقال: ((لا يخرج معنا إلا من شهد القتال في أحد)) فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح والبلاء المبين حتى بلغوا حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة فأنزل الله فيهم: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم [آل عمران:173-174].
رزقني الله وإياكم محبة النبي وأصحابه واتباعهم ظاهرا وباطنا أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/86)
الكهنة والمشعوذون
الإيمان, التوحيد
الجن والشياطين, الشرك ووسائله
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
الاعتصام بالله والاستعانة به وأثره – انتشار الخرافات والأوهام مرتبط بضعف الإيمان
ويقابلها المادية المفرطة التي تنكر الغيب – طبيعة الإنسان وتأثره بالمؤثرات المادية والروحية-
تسلط الشيطان على الإنسان وأثره والأدلة على ذلك – الوقاية والعلاج من تسلط الشيطان -
التحذير من الدجالين والمشعوذين وبيان ضررهم , والواجب على أولياء الأمور تجاههم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا أيها الناس اتقوا الله ربكم، فهو سبحانه أحق أن يطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.
أيها المسلمون: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمه، ولا إله غيره. من اعتصم به هُدي إلى صراط مستقيم، ومن استعان به واستعاذ أوى إلى ركنٍ شديدٍ. نزَّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. أعظم ما تتعلق به القلوب رجاؤه. وأعذب ما تلهج به الألسن ذكره ودعاؤه. سبحانه وتقدس وتبارك لا شفاء إلا شفاؤه.
خلق الأجساد وعللها، والأرواح وأسقامها، والقلوب وأدواءها، والصدور ووسواسها.
أيها الإخوة: صلاح الجسد مرتبطٌ بصحة المعتقد، بل متى يصلح الجسد إذا لم يصلح المعتقد؟؟.
حين يضعف وازع الإيمان، ويختل ميزان الاعتقاد تختلطُ الحقائق بالخرافة، وتنتشر الخزعبلات والأوهام، ويفشو الدجل والشعوذة. ويضيع الحق بين فريقين؛ ضلاَّلٌ ماديون ينكرون الغيب وعالمه ويكفرون بما جاءت به رسل الله من الحقِّ، وكلُّ ما عدا المادة فهو عندهم أساطير وأوهامٌ من معتقدات المجتمعات البدائية، أساطير تخطَّاها الإنسان المتحضر. الإيمان بالغيب عندهم ردة حضاريةٌ إلى عصور الظلام.
يقابلهم فريق آخر عششت الخرافات في رؤوسهم وامتلأت بالخزعبلات صدورهم، تعلقت قلوبهم بالسحر والكهانة، ارتبطت مصائرهم بالتنجيم والعرافة، ضربٌ بالكف والرمل، ونظرٌ في الوَدَع والخرز، واستشفاء بالأنواء.
وكلا الفريقين قد سلك مسلك الجاهلية. أما الأولون فجاهليتهم الإعراض عن العلم المتنزل على رسل الله، ورفض ما جاء به المرسلون. فلاسفة وملاحدة وزنادقة: فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِ?لْبَيّنَـ?تِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ ?لْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ [غافر:83].
وأما الآخرون فاعتمدوا على التقاليد الفاسدة وبنوا حياتهم على الظنون والتخرصات وتعلقوا بأهل الكهانة والسحر والتنجيم فهم في لون آخر من الجاهلية الجهلاء؛ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ?للَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:40].
أيها المسلمون: إن الإنسان جسدٌ وروحٌ، فكما يتأثر بالمادة وأسبابها من طعامٍ وشراب، وحَرٍ وقَرٍ، وغذاءٍ ودواءٍ، فإنه يتأثر بالمؤثرات الروحية بإذن الله.
فالشيطان وجنوده جعل الله لهم تسلطاً على بني آدم؛ وَ?سْتَفْزِزْ مَنِ ?سْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لأولَـ?دِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:64]. ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ?نِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ?كِرِينَ [الأعراف:17].
وأخبر نبيكم محمد : ((أنه ما من أحدٍ من بني آدم إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلمَ فلا يأمرني إلا بخير)) [1] ، أخرجه مسلم. وفي خبر عند مسلم أيضاً: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه)) [2].
بل إن هذا التأثير – أيها الإخوة – منه ما هو وسوسةٌ وإيحاءٌ، ومنه ما هو محسوسٌ وملموسٌ.
وتظهر الوسوسات والإيحاءات في صورٍ وأحوالٍ من الدوافع والانفعالات ففي هاجس الفقر وحب المال ومسالك الفحشاء: ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء [البقرة:268]. وفي حب الأولاد والعواطف: وَشَارِكْهُمْ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لأولَـ?دِ [الإسراء:64]. ((والنظرة سهم من سهام إبليس)) [3]. وفي انفعالات الغضب يتغلغل الشيطان ليخرج المرء عن طوره المعتدل فيسبُّ ويشتم ويقطع الرحم ويُطلِّق. وفي الحديث: ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) [4] متفق عليه.
حتى انفعالات الغيرة النسائية أيتها الأخوات المسلمات للشيطان فيها نصيب. فحينما افتقدت عائشة رضي الله عنها حبيبها محمداً ذات ليلة أدركتها الغيرة. فقال لها عليه الصلاة والسلام: ((أو قد جاءك شيطانك؟ فقالت: أو معي شيطان؟ قال: نعم. قالت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم)) [5] رواه مسلم.
بل إن الشيطان قد يبث المخاوف في النفس، ويهز القلوب بالقلق والحَزَن: إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ [آل عمران:175]. إِنَّمَا ?لنَّجْوَى? مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ لِيَحْزُنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [المجادلة:10].
ويترقى ذلك إلى بثِّ النزعات العدوانية: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53]. وفي الخبر الصحيح: ((إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)) [6].
أما التأثير المحسوس الملموس فقد أخبر عليه الصلاة والسلام: ((أن كل بني آدم يطعن في جنبه بإصبعه حين يولد – أي بإصبع الشيطان)) [7]. رواه البخاري، وقال أيضاً: ((إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي)) [8] رواه مسلم.
وهذه الآثار – أيها الأحبة – معنويها وحسيها لها علاجها ووقايتها إذا رزق العبد إرادة قوية مؤمنة متعلقة بربها واثقة به: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى? ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَـ?نُهُ عَلَى? ?لَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ?لَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [ النحل:99-100].
جيء إلى النبي بصبي به مس من الشيطان فنفث عليه الصلاة السلام في فيه ثلاثاً وقال: ((بسم الله أنا عبد الله اخسأ عدو الله)) [9].
واشتكى ابن أبي العاص إلى النبي شيئاً يأتيه يصرفه عن صلاته، فقال : ((ذاك شيطان ثم ضرب على صدر ابن أبي العاص وقال: اخرج عدو الله - ثلاثاً - )) [10] رواه ابن ماجه بسند صحيح.
وإذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل [11]. وإذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر فإن الشيطان يبيت على خيشومه [12].
إذا كان الأمر كذلك – أيها المسلمون – فلتعلموا أن الناس تختلف في ضعف نفوسها، وقوة إرادتها، وصدق يقينها وتعلقها بربها، وقوة تأثير الوساوس عليها.
فأهل الإيمان والتقوى: إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201]. تذكروا ورجعوا إلى ربهم، موقنين أنه النافع الضار الحكيم المدبر: فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ يهديهم ربهم بإيمانهم، فيعتدل حالهم ويستقيم مزاجهم، اتقوا ربهم فجعل لهم نوراً يمشون به: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:2-3]. إنهم مؤمنون غير متذبذبين، متزنون غير مترددين، إيمانٌ راسخٌ، ومعتقدٌ ثابتٌ لا تقعدهم الضغوط، ولا تستفزهم الأوهام، شيطانهم في وسواسه خناس. نفوس طيبة بذكر الله مطمئنة، ترضى بربها، وتؤمن بما جاء من عنده، متطهرة من الغل صادقة في التعامل.
وثمَّت نفوس ذات تردد وتعجل، وقلة صبر وقلق، متسرعة في مواقفها، متقلبة في انفعالاتها، تتعرض للمزعجات النفسية، والمقلقات الداخلية، يتلبسها الخوف والاضطراب، والعدوان والغضب، ضعيفة الإبصار، مهتزة الجنان: وَإِخْو?نُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ?لْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]. سرعان ما ينساقون وراء الأوهام، بل ينجرون إلى ألوان من الانحرافات والمعاصي، فيكثر وسواسهم، ويعظم بغير الله تعلقهم، ويشتد بالخزعبلات اهتمامهم فيما يسمعون، وفيما يرون، وفيما يُعطون.
أيها الأحبة: إن عقيدة المسلم في كتاب الله واضحة وفي سنة رسول الله بينة. القرآن لهذه الأدواء هو الشفاء ولكنه لأهل الإيمان خاصة: وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء [فصلت:44].
علاج أدوائكم في قرآنكم وفي سنة نبيكم محمد. وطلب العلاج مشروع، والأخذ بالأسباب المباحة مطلوب، فقد أخبر رسول الله : أن ((لكل داء دواءً، فإذا أصاب الدواء الداء برأ بإذن الله)) [13] وقال أيضاً: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً)) [14] ، هذا هو لفظ البخاري، وزاد أحمد: ((عَلِمه من علمه وجهله من جهله)) [15]. وهذا الدواء لا يكون ولن يكون فيما حرَّم الله ورسوله، فتداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام.
((وليس منا من تَطَيَّر أو تُطُيِّر له، أو تَكَهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له)) [16] ، ((ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) [17].
وحصول البرء والشفاء بيد الله وإذنه، فلا يأس من رَوح الله، ولا استبعاد لفرج الله، ((وعجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ولا يكون ذلك إلا لمؤمن)) [18].
هذه هي العقيدة وهذا هو المنهج، ولكن أين العقيدة من أناس خفافيش القلوب ضعاف النفوس تعلَّقوا بالدجالين، ولحقوا بركاب المشعوذين؟ ضلُّوا في متاهات الكذب والكهانة، فساد معتقدٍ، وضياع مالٍ، ودوام مرضٍ.
إنكم تعلمون والمرضى يعلمون أنهم قلَّ ما يجدون عند هؤلاء الدجاجلة شفاء، ولكنهم قد يجدون عندهم راحةً نفسية لفترة قصيرة، ثم لا يلبثون أن ينتكسوا إلى حالٍ أشد، فلا شُفي لهم مريض، ولا ارتفعت عنهم حيرة. أضاع نفسه وخسر ماله، وهل سلم له دينه؟
غرقوا في دجل ومشعوذات وعُقَدٍ وهمهمات وعزائم وطلاسم وتلطخٍ بالنجاسات، في المقابر والخربات وبيوت الخلاء، يعقدون الخيوط، وينفثون العُقَد، ويوقدون المباخر، ونعوذ بالله من شر النفاثات في العقد. كثير منهم معالجون ذوو قلة في الديانة، وخبثٍ في النفس، وشرٍ في العمل، وفتنة للذين في قلوبهم مرض.
ناهيك بما يظهر من مخالفات في الدين بينة، في تكاسل عن الصلاة، وخلل في السلوك، وجرأة على الحرمات، وأكل لأموال الناس بالباطل، وخلوات بالنساء محرمة، بل قد يباشر ما لا يحل له من نظر ومس.
إن ضرر هؤلاء يتعاظم، وخطبهم يشتد، فحقٌ على أهل العلم والإيمان أن يشتد نكيرهم، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فعلى ولاة أمور المسلمين أن يُخلِّصوا هؤلاء الضعاف العامةً من أشباه الرجال والنساء والصبيان، يخلصوهم من براثن الأفاكين الأكالين لأموال الناس بالباطل، عبدة الدرهم والدينار، الذين ينازعون الله رب العالمين ما اختصَّ به من الربوبية وعلم الغيب، ويُضبط ذلك وينظم بضوابط الشرع وما ينفع الناس.
ولقد حمد كل صاحب سنةٍ ودين ما قام به ولاة أمور هذه البلاد وفقهم الله من متابعة لهؤلاء المشعوذين [19] والدجالين، وإنزال العقاب الرادع بهم بما تقضي به الشريعة المطهرة، سدد الله الخطى، وبارك في الجهود وزادهم إحساناً وتوفيقاً وحفظ الله على أمة الإسلام دينها وحسن معتقدها وأصلح بالها إنه سميع مجيب.
[1] صحيح، صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار – باب تحريش الشيطان... حديث (2814).
[2] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الأشربة – باب استحباب لعق الأصابع... حديث (2033).
[3] ضعيف جداً، أخرجه الطبراني في الكبير (2/1036)، والحاكم (4/313-314) وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: إسحاق واهٍ، وعبد الرحمن هو الواسطي، ضعفوه. انظر السلسلة الضعيفة للألباني (1065).
[4] صحيح، صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق – باب صفة إبليس وجنوده، حديث (3282)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل من يملك نفسه عند الغضب... حديث (2610).
[5] صحيح، صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار – باب تحريش الشيطان... حديث.
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار – باب تحريش الشيطان... حديث (2812).
[7] صحيح، صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق – باب صفة إبليس وجنوده، حديث (3286)، وأخرجه أيضاً مسلم: كتاب الفضائل – باب فضائل عيسى عليه السلام، حديث (2366).
[8] صحيح، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة... حديث (542).
[9] حسن، أخرجه أحمد (4/170) وابن أبي شيبة (31753) وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد العزيز وهو ليس بالمشهور، كما قال الحسيني. تعجيل المنفعة لابن حجر (ص 253).
محمد بن مسلم المكي وهو مدلس، وقد عنعن. وأخرجه الطبراني في الأوسط (9112) من طريق عبد الحكيم بن سفيان بن أبي نمر عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن جابر. وله شاهد من حديث عثمان بن أبي العاص. أخرجه ابن ماجه (3548). قال البوصيري في الزوائد (4/80): إسناده صحيح، رجاله ثقات. وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2858)، فالحديث حسن. وانظر مسند أحمد بتحقيق الأرناؤوط (29/91-92).
[10] تقدم تخريجه في الحاشية السابقة.
[11] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق – باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب، حديث (2995)، وأخرجه البخاري نحوه: كتاب الأدب – باب إذا تثاءب فليضع... حديث (6226).
[12] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق – باب صفة إبليس وجنوده، حديث (3295)، ومسلم: كتاب الطهارة – باب الإيثار في الاستنثار والاستجمار، حديث (238).
[13] صحيح، أخرجه مسلم (2204) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[14] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الطب – باب ما أنزل الله داء... حديث (5678)، ومسلم: كتاب السلام – باب لكل داء دواء... حديث (2204).
[15] صحيح، مسند أحمد (1/377)، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير (10331) والأوسط (2534) والحاكم (4/196-197) وصححه، وذكره الحافظ في الفتح (10/135)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (451).
[16] صحيح، أخرجه البزار (3578)، والطبراني في الكبير (18/162)، وجوّد المنذري إسناد البزار، وحسّن إسناد الطبراني. الترغيب (4/17)، وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (5/117). وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (2195).
[17] صحيح، أخرجه أحمد (2/429)، وأبو داود: كتاب الطب – باب في الكاهن، حديث (2904)، والترمذي: كتاب الطهارة – باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض، حديث (135)، وابن ماجه: كتاب الطهارة – باب النهي عن إتيان الحائض، حديث (639). وصححه الحاكم (1/8). وذكره الهيثمي موقوفاً على ابن مسعود، ثم قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، خلا هبيرة بن مريم، وهو ثقة. مجمع الزوائد (5/118). وجوّد المنذري إسناد البزار، وحسّن إسناد الطبراني. الترغيب (4/17). وصححه الألباني. إرواء الغليل (2006).
[18] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق – باب المؤمن أمره كله خير، حديث (2999).
[19] وافق ذلك إقامة حد على ساحر بالقتل.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كفى وشفى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل البر والوفا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على هديهم واقتفى.
أما بعد فيا أيها الناس: من تعلق شيئاً وُكل إليه، فمن تعلق بربه ومولاه رب كل شيء ومليكه كفاه ووقاه وحفظه وتولاه، فهو نعم المولى ونعم النصير، ومن تعلق بالكهنة والسحرة والشياطين والمشعوذين وغيرهم من أفاكي المخلوقين وكله الله إلى من تعلق به.
والتعلق يكون بالقلب وبالفعل ويكون بهما جميعاً، فالمتعلقون بربهم المُنْزِلون حوائجَهم به، المفوضون أمورهم إليه، يكفيهم ويحميهم يقرِّب لهم البعيد، وييسر لهم العسير، ومن تعلق بغير ربه، وسكن إلى رأيه وعقله واعتمد على دوائه وتمائمه وكله الله إلى ما تعلق به وخذله.
يقول عطاء الخراساني: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت، فقلت: حدثني حديثاً أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى نبيه داود، يا داود: أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجاً، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأَسَخْتُ الأرض من تحت قدمه ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك.
ألا فاتقوا الله ربكم. وأحسنوا به الظن والمعتقد وأحسنوا العمل، فربكم سبحانه رب الأرباب ومسبب الأسباب، وتداووا ولا تداووا بحرام.
(1/87)
غزوة الخندق
سيرة وتاريخ
غزوات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
من سنن الله عز وجل أنه ينصر من ينصره -
دور يهود بني النضير في تأليب المشركين على المسلمين ، واجتماع عشرة آلاف منهم لغزو
المسلمين- استشارته صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، ومشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق-
حال المسلمين من الشدة والجوع ، وبعض معجزاته صلى الله عليه وسلم -
غدر يهود بني قريظة ونقضهم العهد واشتداد الأمر على المسلمين -
انقسام الناس فريقين: 1- منافقون قالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً. 2- مؤمنون قالوا:
هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله. إرسال الله ريح على الكفار زلزلتهم وردتهم-
الخروج إلى بني قريظة ومحاصرتهم ونزولهم على حكم سعد بن معاذ- حكم سعد فيهم بقتل
الرجال وسبي النساء والأطفال- بعض دروس الغزوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمة الله عليكم بما أمد به رسوله وأصحابه من النصر العزيز والفتح المبين، وهذه سنة الله التي لا تبديل لها فمن ينصر الله ينصره إن الله لقوي عزيز. أيها المسلمون في هذا الشهر، أعني شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة كانت وقعة الخندق التي اجتمع فيها أحزاب الشيطان على أولياء الرحمن، وذلك أن يهود بني النضير حين أجلاهم النبي من المدينة أرادوا أن يأخذوا بالثأر من رسول الله فذهب جمع منهم إلى قريش وغطفان وحرضوهم على حرب النبي فتحزب الأحزاب لقتال رسول الله فخرجت قريش بأربعة آلاف مقاتل وخرجت غطفان ومعهم ألف فارس وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة وخرجت بنو أشجع وبنو سليم في نحو سبعمائة مقاتل وخرجت بنو أسد وكان عدد الأحزاب عشرة آلاف مقاتل فلما سمع بهم النبي استشار أصحابه أيخرج إليهم أم يبقى في المدينة، فأشار عليه سلمان الفارسي أن يحفر خندقا على المدينة يمنع العدو، عنها فأمر بحفرة شمالي المدينة من حرتها الشرقية إلى حرتها الغربية وشاركهم في حفره وكان المسلمون ثلاثة آلاف رجل وقد لحقهم من الجهد والجوع ما يصفه جابر بن عبد الله قال: كنا نحفر يوم الخندق فعرضت كدية شديدة فجاءوا إلى النبي فقالوا يا رسول الله: هذه كدية عرضت في الخندق فقام وبطنه من الجوع معصوب بحجر، فلبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي المعول فضربه فكان كثيبا مهيلا قال جابر فاستأذنت النبي فأتيت أهلي وقلت لامرأتي لقد رأيت بالنبي شيئا ما كان عليه من صبر، فهل عندك من شيء قالت صاع شعير وعناق وهي الصغيرة من المعز فذبحتها وطحنت الشعير فأتيت النبي فقلت: يا رسول الله طعيّم لي فقم أنت ورجل أو رجلان معك فقال: ((ما هو)) فقلت: شعير وعناق فقال: ((كثير طيب)) ثم دعا النبي المهاجرين والأنصار وقال: ((ادخلوا ولا تزاحموا)) فجعل يكسر من هذا الخبز ويجعل عليه من اللحم وكلما أخرج شيئا من اللحم غطى القدر ومن الخبز غطى التنور، فما زال كذلك حتى شبع المهاجرون والأنصار وبقيت بقية.
واشتدت الحال بالمسلمين وكان مما زاد الأمر أن يهود بني قريظة وكانوا شرقي المدينة نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي فضاق الأمر بالمسلمين كما قال تعالى إذ جاءوكم من فوقكم يعني الأحزاب ومن أسفل منكم يعني بني قريظة وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [الأحزاب:10-11]. وانقسم الناس إلى قسمين فالمنافقون والذين في قلوبهم مرض قالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا والمؤمنون قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما.
ومكث الأحزاب محاصرين للنبي قريبا من شهر فدعا النبي عليهم فأرسل الله عليهم ريحا شديدة قوية أسقطت خيامهم وأطفأت نيرانهم وزلزلت بهم، وفي ذلك يقول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا [الأحزاب:9].
وبعد تفرق الأحزاب توجه النبي إلى بني قريظة الذين نقضوا عهده فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، حتى طال عليهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فلما اشتدت بهم الحال طلبوا من النبي أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ وكان سيد الأوس الذين هم حلفاء بني قريظة في الجاهلية وكان سعد قد أصيب بسهم يوم الخندق في أكحله فدعا الله تعالى أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة الذين نقضوا العهد فاستجاب الله دعاءه فطلبه النبي من المدينة ليحكم في بني قريظة فلما أقبل قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فلما جلس إلى النبي قال له النبي : ((إن هؤلاء وأشار إلى اليهود قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت )) ، قال: وحكمي نافذ عليهم؟ قال: ((نعم)) وقال: وعلى من هاهنا وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله قال: ((نعم)) قال: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم فقال النبي لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
ثم أمر رسول الله بالأخدود فخدت فجيء باليهود مكتفين فضربت أعناقهم وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة رجل وسبيت ذريتهم ونساؤهم وأموالهم وهكذا انتهت هذه الغزوة العظيمة بهذا النصر العزيز، بعد أن لحق المسلمين ما لحقهم من المشقة والبلاء فكانت العاقبة لهم لأنهم يقاتلون لله وبالله لا يقاتلون رياءً ولا سمعة ولا عصبية ولا يقاتلون بإعجاب بأنفسهم واعتماد على قوتهم دون الله عز وجل وإنما يقاتلون دفاعا عن الحق وإذلالا للباطل وإعلاءً لكلمة الله وصيانة لدين الله فكان الله معهم يتولاهم بولايته ويعزهم بنصره وهو نعم المولى ونعم النصير وكانت النتيجة كما قال تعالى ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا.
أقول قولي هذا وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويجمع المسلمين على الحق وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/88)
بعض أشراط الساعة
الإيمان
أشراط الساعة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب الإيمان بأشراط الساعة وأماراتها-
من أشراط الساعة أمور ماضية وحاضرة ومستقبلية-
عظم فتنة المسيح الدجال وصفته ، واتباع اليهود له وحراسة الملائكة المدينة منه -
نزول عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، وقتل الدجال -
حكمة الله عز وجل وابتلاؤه لعباده.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن ما أخبر به النبي من أشراط الساعة وأماراتها حق يجب اعتقاده، وقد ذكر للساعة أشراطا كثيرة، منها ما مضى ومنها ما هو حاضر ومنها ما هو مستقبل، وأبلغ ما يكون من أشراطها وأعظمه فتنة هي فتنة المسيح الدجال، فقد صح عن النبي أنه قال: ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال وأنه ما من نبي إلا وقد أنذر به أمته، وأنه يجيء معه بمثل الجنة والنار، فالتي يقول: إنها جنة نار تحرق، والتي يقول إنها نار ماء عذب طيب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع فيه، وقال : ((إنْ يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإنْ يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم)). إنه شاب قطط أعور العين اليسرى مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه بفواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته، إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، قلنا يا رسول الله فاليوم الذي كسنة يكفينا فيه صلاة واحدة قال لا، اقدروا له قدره، وأما إسراعه في الأرض فكالغيث استدبرته الريح يأتي فيردون دعوته فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين يمر بالخربة فيأمرها فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويؤتى برجل فيقول أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله فيأمر به الدجال فيوسع ظهره وبطنه ضربا ثم يقول أوما تؤمن بي فيقول أنت المسيح الكذاب فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقِه حتى رجليه ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له قم فيستوي قائما ثم يقول أتؤمن بي فيقول ما ازددت فيك إلا بصيرة فيأخذه الدجال ليذبحه فلا يسلط عليه، وقال النبي ليفرّن الناس من الدجال حتى يلحقوا بالجبال، قالت أم شريك فأين العرب يومئذ قال هم قليل ويتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفا فيخرج همته المدينة فتصرف الملائكة وجهه عنها، لأن على كل باب منها ملكين يمنعانه من الدخول، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين (أي حلتين مصبوغتين بورس أو زعفران) واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منها مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد من ريح نَفَسِه إلا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي إليه طرفه، فيطلب الدجال حتى يدركه بباب لْدُ فيقتله، فسبحان من مكَّن هذا الدجال من هذه المعجزات فتنة لعباده، وبين لهم العلامات التي تُبين بطلان ما ادعاه وفساده، فإنه أعور ناقص في ذاته، وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن إنه إذا قتل الرجل ثم أحياه لم يقدر عليه بعد ذلك فهو ناقص في قدرته، إنَّ جنته نار وناره ماء طيب عذب فما جاء به باطل إنه مخلوق وجُد بعد أن لم يكن، إنه يَفْنَى ويقتل وإنه في الأرض لا في السماء وكل هذه صفات المخلوق الناقص التي تُبَرْهِنُ على أنه ليس بإله: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حق إنه يبدأ الخلق ثم يعيده [يونس:3-4].
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/89)
حياة القلوب وأمراضها
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, اغتنام الأوقات
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
لا بد من وقفة صادقة مع النفس ومحاسبتها – سرعة مرور الأيام وانقضاء الأعمار , وأهمية
محاسبة النفس لإدراك حقيقة الدنيا – أهمية القلب وتفقده ومعرفته , وتزكية النفس -
أنواع القلوب , وصفات كل نوع – أسباب حياة القلوب ومرضها وموتها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله حيثما كنتم، وقوموا بالأمر الذي من أجله خُلقتم؛ وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
أيها المسلمون في مستفتح العام يحسن التذكير. وما يتذكر إلا من ينيب، من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت عليه حسراته. لا بد من وقفةٍ صادقةٍ مع النفس في محاسبةٍ جادةٍ، ومساءلةٍ دقيقةٍ، فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون. هل الأعمار إلا أعوام؟ وهل الأعوام إلا أيام؟ وهل الأيام إلا أنفاس؟ وإن عمراً ينقضي مع الأنفاس لسريع الانصرام.
أفلا معتبر بما طوت الأيام من صحائف الماضين؟ وقلَّبت الليالي من سجلات السابقين؟ وما أذهبت المنايا من أماني المسرفين؟ كل نفس من أنفاس العمر معدود. وإضاعة هذا ليس بعده خسارة في الوجود.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها. تتخطفها وهي راقدة في منامها. تعاجلها وهي تمشي في طرقاتها. تقبضها وهي مكبة على أعمالها. تتخطفها وتعاجلها من غير إنذار أو إشعار. فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَئَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61].
ها هو ابن آدم يصبح سليماُ معافى في صحته وحُلَّته، ثم يمسي بين أطباق الثرى قد حيل بينه وبين الأحباب والأصحاب.
ويلٌ للأغرار المغترين. يأمنون الدنيا وهي غرارة. ويثقون بها وهي مكارة. ويركنون إليها وهي غدارة. فارقهم ما يحبون، ورأوا ما يكرهون. وحيل بينهم وبين ما يشتهون. ثم جاءهم ما يوعدون. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون.
إنها الدنيا: تُبكي ضاحكاً، وتضحك باكياً. وتُخيف آمناً، وتؤمن خائفاً، وتفقر غنياً، وتغني فقيراً. تتقلب بأهلها، لا تُبقي أحداً على حال. العيش فيها مذموم، والسرور فيها لا يدوم، تُغيِّر صفاءها الآفات، وتنوبها الفجيعات، وتفجع فيها الرزايا، وتسوق أهلها المنايا. قد تنكرت معالمها، وانهارت عوالمها.
أيها الإخوة: لا يعرف حقيقة الدنيا بصفوها وأكدارها، وزيادتها ونقصانها إلا المحاسب نفسه. فمن صفَّى صُفِّيَ له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله. ومن سرَّه أن تدوم عافيته فليتق الله ربَّه، فالبر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان. وإذا رأيت في عيشك تكديراً وفي شأنك اضطراباً، فتذكر نعمةً ما شُكرت، أو زلة قد ارتكبي فجودة الثمار من جود البذار، ومن زرع حصد، وليس للمرء إلا ما اكتسب، وهو في القيامة مع من أحب.
يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: من عرف أنه عبدٌ لله وراجعٌ إليه فليعلم أنه موقوف. ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليُعد لكل سؤال جواباً. قيل: يرحمك الله فما الحيلة؟ قال: الأمر يسير. تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى. فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.
أيها الإخوة: وهذه وقفة محاسبة مع النفس، بل مع أعز شيء في النفس، مع ما بصلاحه صلاح العبد كله، وما بفساده فساد الحال كله. وقفةٌ مع ما هو أولى بالمحاسبة وأحرى بالوقفات الصادقة يقول نبيكم محمد : ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) [1]. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه)) [2].
ويقول الحسن رحمه الله: داوِ قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، ولن تحب الله حتى تحب طاعته.
أيها المسلمون: من عرف قلبه عرف ربَّه، وكم من جاهل بقلبه ونفسه، والله يحول بين المرء وقلبه. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: هلك من لم يكن له قلبٌ يعرف المعروف وينكر المنكر.
أيها الإخوة: لا بد في هذا من محاسبةٍ تَفُضُّ تغاليق الغفلة، وتوقظ مشاعر الإقبال على الله في القلب واللسان والجوارح جميعاً.
من لم يظفر بذلك فحياته كلها والله هموم في هموم، وأفكارٌ وغموم، وآلامٌ وحسرات. بل إن الله لم يبعث نبيه محمداً إلا بالمهمتين العظيمتين: علم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس. هُوَ ?لَّذِى بَعَثَ فِى ?لأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
بل لقد علَّق الله فلاحَ عبده على تزكية نفسه وقدم ذلك وقرره بأحد عشر قسماً متوالية؛ اقروؤا إن شئتم وتأملوا: وَ?لشَّمْسِ وَضُحَـ?هَا وَ?لْقَمَرِ إِذَا تَلـ?هَا وَ?لنَّهَارِ إِذَا جَلَّـ?هَا وَ?لَّيْلِ إِذَا يَغْشَـ?هَا وَ?لسَّمَاء وَمَا بَنَـ?هَا وَ?لأَرْضِ وَمَا طَحَـ?هَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:1-10].
أيها الإخوة: إن في القلوب فاقةً وحاجةً لا يسدها إلا الإقبال على الله ومحبته والإنابة إليه، ولا يلم شعثها إلا حفظ الجوارح، واجتناب المحرمات، واتقاء الشبهات.
معرفة القلب من أعظم مطلوبات الدين، ومن أظهر المعالم في طريق الصالحين. معرفة تستوجب اليقظة لخلجات القلب وخفقاته، وحركاته ولفتاته، والحذر من كل هاجس، والاحتياط من المزالق والهواجس، والتعلق الدائم بالله؛ فهو مقلب القلوب والأبصار. جاء في الخبر عند مسلم رحمه الله من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((سمعت رسول الله يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه حيث يشاء. ثم قال رسول الله : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) [3].
ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]. ومن دعاء رسول الله : ((وأسألك قلباً سليماً)) [4].
والقلوب – أيها الإخوة – أربعة: قلب تقي نقي فيه سراج منير فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف مظلم؛ فذلك قلب الكافر: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ?للَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88]. وقلب مرتكس منكوس؛ فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي: فَمَا لَكُمْ فِى ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ?للَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ [النساء:88]. وقلبٌ تمده مادتان؛ مادة إيمان، ومادة نفاق فهو لِما غلب عليه منهما. وقد قال الله في أقوام: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـ?نِ [آل عمران:167].
وفي القلب قوتان: قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل. وقوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل. فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه. ومن عرفه واتبعه فهو المنعم عليه السالك صراط ربه المستقيم. يقول ابن القيم رحمه الله: وهذا موضع لا يفهمه إلا الألبّاء من الناس والعقلاء، ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العالية والنفوس الأبية الزاكية.
ورجل الدنيا وواحدها هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، وأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم، ولا يبالون بموت قلوبهم.
إذا كان الأمر كذلك أيها الأحبة. فاعلموا أن صاحب القلب الحي يغدو ويروح، ويمسي ويصبح وفي أعماقه حسٌ ومحاسبة لدقات قلبه، وبصر عينه، وسماع أذنه، وحركة يده، وسير قدمه، إحساس بأن الليل يدبر، والصبح يتنفس، والكون في أفلاكه يسبح بقدرة العليم وتدبير الحكيم؛ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى [لقمان:29]. قلب حي تتحقق به العبودية لله على وجهها وكمالها، أحب الله وأحب فيه. يترقى في درجات الإيمان والإحسان فيعبد الله على الحضور والمراقبة، يعبد الله كأنه يراه، فيمتلئ قلبه محبةً ومعرفةً، وعظمةً ومهابةً وأُنساً وإجلالاً. ولا يزال حبه يقوى، وقربه يدنو حتى يمتلئ قلبه إيماناً وخشية، ورجاء وطاعة، وخضوعاً وذلة؛ ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) [5]. كلما اقترب من ربه اقترب الله منه: ((من تقرب إليّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً)) [6]. فهو لا يزال رابحاً من ربه أفضل مما قدم، يعيش حياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]. ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) [7]. من بذل شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وجازاه أفضل ما قدم.
أصحاب القلوب الحية صائمون قائمون، خاشعون قانتون، شاكرون على النعماء، صابرون في البأساء، لا تنبعث جوارحهم إلا بموافقة ما في قلوبهم، تجردوا من الأثرة والغش والهوى. اجتمع لهم حسن المعرفة مع صدق الأدب، وسخاء النفس مع مظانة العقل. هم البريئة أيديهم، الطاهرة صدورهم، متحابون بجلال الله، يغضبون لحرمات الله، أمناء إذا ائتمنوا، عادلون إذا حكموا، منجزون ما وعدوا، موفون إذا عاهدوا، جادون إذا عزموا، يهشون [8] لمصالح الخلق، ويضيقون بآلامهم، في سلامة من الغل، وحسن ظن بالخلق، وحمل الناس على أحسن المحامل. كسروا حظوظ النفس، وقطعوا الأطماع في أهل الدنيا.
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)) [9] ، فهي سليمة نقية، خالية من الذنب، سالمة من العيب. يحرصون على النصح والإخلاص، والمتابعة والإحسان. همتهم في تصحيح العمل أكبر منها في كثرة العمل: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]. أوقفهم القرآن فوقفوا، واستبانت لهم السنة فالتزموا، يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ [المؤمنون:60].
رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات، بواطنهم كظواهرهم بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلى، وهمتهم عند الثريا بل أعلى. إن عُرفوا تنكَّروا، تحبهم بقاع لأرض، وتفرح بهم ملائكة السماء.
هذه حياة القلوب وهذه بعض آثارها.
أما القلوب المريضة فلا تتأثر بمواعظ، ولا تستفزها النذر، ولا توقظها العبر. أين الحياة في قلوب عرفت الله ولم تؤد حقه؟؟ قرأت كتاب الله ولم تعمل به. زعمت حب رسول الله وتركت سنته. يريدون الجنة ولم يعملوا لها، ويخافون من النار ولم يتقوها.
رُب امرئ من هؤلاء. أطلق بصره في حرام فحُرم البصيرة، ورب مطلق لسانه في غيبة فحرم نور القلب، ورب طاعم من الحرام أظلم فؤاده، لماذا يُحرم محرومون قيام الليل؟ ولماذا لا يجدون لذة المناجاة؟ إنهم باردو الأنفاس، غليظو القلوب، ظاهرو الجفوة؟؟.
القلب الميت: الهوى إمامه، والشهوة قائده، والغفلة مركبه، لا يستجيب لناصح، يتَّبع كل شيطان مريد. الدنيا تُسخطه وترضيه، والهوى يصمه ويعميه. ماتت قلوبهم ثم قبرت في أجسادهم، فما أبدانهم إلا قبور قلوبهم. قلوب خربة لا تؤلمها جراحات المعاصي، ولا يوجعها جهل الحق. لا تزال تتشرب كل فتنة حتى تسود وتنتكس، ومن ثم لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً.
عباد الله. غفلة القلوب عقوبة، والمعصية بعد المعصية عقوبة، والغافل لا يحس بالعقوبات المتتالية ولكن ما الحيلة؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:24-25].
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الإيمان – باب فضل من استبرأ لدينه، حديث (52)، ومسلم: كتاب المساقاة – باب أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] حسن، أخرجه أحمد (3/198)، والطبراني في الكبير (10553)، والبيهقي في شعب الإيمان (8). قال الهيثمي: في إسناده علي بن مسعدة، وثقة جماعة، وضعفه آخرون، مجمع الزوائد (1/53)، وحسّن الألباني إسناده. صحيح الترغيب (2554، 2865).
[3] صحيح، صحيح مسلم: كتاب القدر – باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، حديث (2654).
[4] ضعيف، أخرجه أحمد (4/123)، والترمذي: كتاب الدعوات – باب حدثنا محمود بن غيلان... حديث (3407)، وقال: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه. وأخرجه أيضا النسائي: كتاب السهو – باب نوع آخر من الدعاء، حديث (1304). قال العراقي: منقطع وضعيف. فيض القدير للمناوي (2/131). ورمز له السيوطي بالضعف. الجامع الصغير (1501). وانظر مشكاة المصابيح (955) وضعيف سنن الترمذي (675).
[5] صحيح، قطعة من حديث قدسي أخرجه البخاري: كتاب الرقاق – باب التواضع، حديث (6502). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح، قطعة من حديث قدسي أخرجه البخاري: كتاب التوحيد – باب قول الله تعالى: ويحذركم الله نفسه ، حديث (7405)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث (2675).
[7] صحيح، قطعة من الحديث السابق.
[8] يهشّون: تنشرح صدورهم سروراً بها.
[9] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب يدخل الجنة أقوام... حديث (2840).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المستحق للحمد والثناء، له الخلق والأمر، يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأعوذ بالله من حال أهل الشقاء. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل الرسل وخاتم الأنبياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: من خاف الوعيد قصُر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آتٍ قريب، وما شغل عن الله فهو شؤم.
التوفيق خير قائد، والإيمان هو النور، والعقل خير صاحب، وحسن الخلق خير قرين.
يقول الحسن رحمه الله: المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله. وإنما خف الحساب يوم القيامة على أقوام حاسبوا أنفسهم في الدنيا. وشق الحساب على أقوام يوم القيامة أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة. فحاسبوا أنفسكم رحمكم الله وفتشوا في قلوبكم.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشرِبها نكتت فيه نكتة سوداء. وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين قلب أسود مربادٌّ كالكوز مُجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض)) [1].
يقول بعض الصالحين: يا عجباً من الناس يبكون على من مات جسده، ولا يبكون على من مات قلبه. شتان بين من طغى وآثر الحياة الدنيا، وبين من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
تمرض القلوب وتموت إذا انحرفت عن الحق وقارفت الحرام؛ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ?للَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]. تمرض القلوب وتموت إذا افتتنت بآلات اللهو وخليع الصور؛ نَسُواْ ?للَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67].
كل الذنوب تميت القلوب، وتورث الذلة، وضيق الصدر ومحاربة الله ورسوله.
يقول الحسن رحمه الله: ابن آدم: هل لك بمحاربة الله من طاقةٍ؟ فإن من عصى الله فقد حاربه، وكلما كان الذنب أقبح كان في محاربة الله أشد. ولهذا سمى الله أكلة الربا وقطاع الطريق محاربين لله ورسوله لعظم ظلمهم وسعيهم بالفساد في أرض الله. قال وكذلك معاداة أوليائه فإنه تعالى يتولى نصرة أوليائه ويحبهم ويؤيدهم فمن عاداهم فقد عادى الله وحاربه.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتوبوا إلى ربكم وأصلحوا فساد قلوبكم.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الإيمان – باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً... حديث (144).
(1/90)
الشباب
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية دور الشباب. 2- صور من مؤامرة الأعداء على شبابنا وصور من ضياعهم.
3- سبب ظهور الظواهر الشاذة في مجتمعنا غفلة الآباء وصحبة السوء. 4- دور الشباب في
صدر الإسلام. 5- اغتنام مرحلة الشباب وبقية الأوقات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله حق التقوى وليتذكر كل منكم مسئوليته عن الإسلام والمسلمين، وسوف يكون حديثي في هذا اليوم عن الشباب ومشكلات الشباب.
ولا شك أيها الإخوة أن دور الشباب في الحياة دور مهم، فهم إذا صلحوا ينهضون بأمتهم ويقومون بنشر دينهم والدعوة إليه ولهذا اهتمّ الإسلام بتنشئة الشباب اهتماما بالغا، ومن يطالع السيرة النبوية يجد أن معظم أصحاب النبي كانوا شبابا، ومعظم الذين اتبعوه بادي الرأي هم الشبيبة الفتية وأولوا الهمم العلية والنفوس الطاهرة الزكية الذين زعزع الله بهم العروش القيصرية والأسر الكسروية، فحياهم الله من شباب ورضي الله عنهم.
ما كان أصحاب النبي محمد
إلا شبابا شامخي الأفكار
من يجعل الإيمان رائده يفز
بكرامة الدنيا وعقبى الدار
أيها المسلمون: إن الشباب في كل مرحلة من مراحل التاريخ هم سّر قوة الأمة وعماد نهضتها ومبعث عزها وكرامتها وهم عدة مستقبلها وأهم ثرواتها، وأغلى رأس مال لديها، حيث إن الشباب بما يتصف به من روح الإقدام والإقبال، وصفاء الذهن والعقل، ووفرة الطاقة والقوة تجعله هو الأقدر على قيادة الأمة وبنائها والعمل على صناعة حضارتها ولقد علم أعداء الله أهمية الشباب ودوره في بناء الأمة فخططو ودبروا لتبديد هذه الثروة وتعطيلها وتسميم أفكار الشباب وعقولهم وزرع روح الميوعة والخلاعة في نفوسهم وذلك من خلال المسلسل الذي يستلم الأجيال من الجنسين ليربيهم على الاقتناص والحب الهابط ويعطيهم الأسوة والقدوة بهؤلاء الممثلين الذين هم من أحط طبقات المجتمع المسلم والكافر.
وأيضا عمل أعداء الإسلام من خلال المجلة التي تتاجر بالمرأة في الأزياء والفن والسينما والفيديو والرياضة والدعاية والإعلان.
ومن خلال الأغنية الهابطة التي تخاطب في الإنسان أحط ما فيه ومن خلال الدواوين الشعرية التي قصرت نفسها على دغدغة الأحاسيس الجنسية، ومن خلال القصص والروايات الغرامية التي تباع على قارعة الطريق وغير ذلك من المخططات.
وقد نجح أعداء الإسلام فيما خططوا له من إضلال الشباب المسلم ولهذا من يمعن النظر ويتأمل أحوال شبابنا اليوم يصاب بالدهشة وخيبة الأمل يجد أمامه أنواعا من الشباب على طرق كثيرة من الأهواء والفساد والضلال فنجد أن بعضهم اهتموا بالتزين والتعطر حتى أفرطوا في ذلك فتشبهوا بالنساء بل تدنى بهم الحال حتى لبسوا الملابس الرقيقة التي هي أقرب للأنوثة من الرجولة وتبع ذلك تسريحات الشعر التي يشمئز من أسمائها فضلا عن رسمها فمن ذلك: (تسريحة قصة الأسد، مايكل جاكسون.. الخ) ولعل في المستقبل يكون للحمار والكلب نصيبا من هذه التسريحات، فانعدمت في هؤلاء معالم الذكورة وصفات الرجولة حتى أصبحت لا تفرق بينهم وبين النساء فهذا والله من أعجب العجب وكما قيل:
ولا عجب أنّ النساء ترجّلت
ولكنّ تأنيث الرجال عُجاب
وأين ذهب هؤلاء من الوعيد الشديد للمتشبهين من الرجال بالنساء وبالعكس؟ قال : ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال)) ، فيا شباب الإسلام من يصبر على لعن الله سبحانه وتعالى؟ واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وبعض الشباب على العكس من هؤلاء تماما يظنون أن الرجولة هي بأذية الخلق في الطرقات والأسواق والمنتزهات وتجدهم يمشون في الأرض مرحا وكبرا وتيها، تعرفهم بسيماهم فسياراتهم ترتفع عن الأرض مقدار خمسة أصابع ثم يصبغونها بشحم ويتلثمون أو يلفون الأشمغة على رؤوسهم ويلبسون النظارات السوداء أو يميلون العُقُل حتى يكاد أن يسقط عقال أحدهم من رأسه وهم مع ذلك يظنون أنفسهم من أصحاب الكرم والشهامة والغيرة، إذا لم تستح فاصنع ما شئت، أو ما علموا أن ما هم فيه هو الجفاء وقلة الحياء وعدم الاحترام للآخرين، والمجاهرة بشرب الدخان وما يتبعه من المسكرات فليذهبوا إلى قتال أعداء الله في ساحات الجهاد فهي الرجولة كل الرجولة لا أذية المسلمين.
وبعض الشباب تجد قبلته هي الكرة فهو دائما يخرج فيلعب ويلعب حتى منتصف الليل ثم يرجع لينام ليبدأ مشواره من جديد في اليوم الثاني وهكذا حياته لا يدري لم خلق، ولا يفكر حتى أن يصلي، أو يساعد والديه، لكنه كما قال عنه وعن أمثاله: ((جيفة بالليل وحمار بالنهار عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة)) ، فلو سألته من صاحب القدم الذهبية والرأس الذهبي والكأس الفضي وغير ذلك من الثقافة الهابطة، لتشدق بملء فمه وأجاب إجابة العارف ولكن لو سألته عن الفاتحة تجده لا يحسن قراءتها إن لم يكن لا يحفظها ولو سألته عن بعض أصحاب النبي بل عن بعض السلف والتابعين تجده يتخبط ذات اليمين وذات الشمال ويتلعثم ثم لا يحير جواباً.
وبعض الشباب قد انشغل بالتفحيط والخمسات والدوران إلى الخلف وحركة السلسلة، وتخصص في هذا العبث الذي قد يودي بحياته في لحظة، والأمر الذي لابد أن يعلمه كل شاب أن بداية هذا العبث له لذة لكن نهايته مشؤومة، ولذلك يعترف أحد المفحطين فيقول: تعلمت التفحيط على أيدي رفقاء السوء وأنا حين أذكر التفحيط أذكر ما يجر إليه من مشكلات ومصائب، مخدرات، سرقات، فواحش الخ، فكما أن الخمر أم الخبائث فالتفحيط هو أبوها. فهذه كلمات مجرب وفي المثل: اسأل مجربا ولا تسأل حكيما.
وبعض الشباب من المثقفين ولكن بغير الثقافة الدينية تجده يزدري الناس وبالأخص المتدينين وتجده يتندر بذكرهم في المجالس بأنهم معقدون ومتشددون... الخ، ويظن نفسه أنه من أهل الوسط وأنه على الحق وما علم المسكين أنه من أصحاب الكمال المزيف الذي يتوصل من تمكن منه إلى أردأ الأخلاق وهو خلق الكبر، فالكبر كما أخبر : ((أنه غمط الناس (أي احتقارهم) وبطر الحق أي الصد عن قبول الحق)).
هذه بعض النماذج الظاهرة من الشباب وما خفي أعظم على أن البعض منهم همّه الوحيد هو مغازلة النساء في التلفون أو في الشارع أو في الأسواق ولو سئل هذا الخبيث: أترضى أن يفعل هذا مع أمك أو أختك أو زوجتك أو إحدى قريباتك؟ قال: لا، فيكف إذاً يرضاه لغيره، هذا هو الضلال البعيد.
ثم نسأل بعد هذا كله ما هي أهم الأسباب لهذه الظواهر الشاذة، في المجتمع؟ ترجع إلى أمرين مهمين هما:
أولا: ضعف سلطة أولياء الأمور على أبنائهم أو إهمال التربية السليمة تجاههم فتجد الأب يرى ابنه لا يصلي، فلا يأمره بالصلاة ويراه يصاحب الفسقة من الشباب المنحرف فلا تجد الأب ينهى ابنه عن المشي مع هؤلاء وهكذا فنجد أباء لا يريدون أن يتحملوا مسؤولية أبنائهم أو حتى توجيههم نحو الطريق المستقيم.
ثانيا: الرفقة السيئة قال الشاعر:
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم
ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
فالصاحب ساحب، وكثير ممن انحرف من الشباب كان سبب انحرافه الشلة الفاسدة التي من صفاتها أن أصحابها لا يأمرون بالمعروف وإنما يأمرون بالمنكر، ويزينون الفواحش ويهونونها بل يجاهرون بها، إنهم لا يرضون بالفضيلة بل يمقتون الاستقامة فاليسير من مخالطتهم يكون سببا في ضعف الإيمان، وأخطر نتائجها إخراج المسلم من إسلامه وقد مثلهم النبي بنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تشم منه رائحة خبيثة فاحذروا أيها الإخوة ممن هذه صفاته فهم شياطين الإنس فاستعيذوا بالله منهم.
أيها الشباب إنني أناديكم من على هذا المنبر يا أسس المجد والشرف ويا خير خلف لخير سلف، لا يجرمنكم سيل المدنيّة الخبيثة فيمن حرف، ولا تشتغلوا عن الواجبات بأسباب الراحة والترف، ولا يصرفنكم الشيطان عن صفات الرجولة فيمن صرف، فيذهب حينئذ عزكم ويحل بكم الدمار والتلف، ولا تتشبهوا بالنساء في تصفيف الشعور وتنسيق الثياب فإن أبغض الناس إلى الله السبهلل الذي يضيع دينه ونفسه وعياله، وأوصيكم بوصية محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه لابن عباس: ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)).
جعلني الله وإياكم ممن عرف الحق وشهد به وحبب إليه الخير وعمل به أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي لكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد ورد في الحديث المتفق عليه: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...)) وذكر من هؤلاء السبعة: ((شاب نشأ في طاعة الله)).
إن هذا الشاب المسلم القوي المالك أمر نفسه في طاعة الله، استعمل جسمه وروحه وماله وما أنعم الله به عليه في مرضاته فقد استحق من الله خير الجزاء وكان محبوبا في أهله وقومه ومواطنيه لأنه يريد الخير ويفعله، وإن عجز عنه دعا إليه ورغّب فيه وأثنى على فاعله وإن عرضت له معصية وزينها له الشيطان لم يمنعه منها إلا دينه وخوف الله وما جبل عليه من طاعة الله والاشتغال بعبادته، وهو الذي يستطيع الجهاد في سبيل الله وكسب المال من حله وبر والديه وتربية أبنائه وصغار إخوانه وخدمة بلاده ونفع أمته فهو الجندي في الميدان والتاجر في السوق والفلاح في المزرعة والطبيب في المستشفى والعامل في المصنع والعضو الصحيح في المجتمع، إذا دعي إلى الخير لبى وإذا رأى الشر أو سمع به أزاله وحارب أهله وإن لم يستطع التغيير ابتعد عن المنكر وأنكره بقلبه ولسانه.
أيها الناس ما ظهر الدين وعرف الناس شرائع المرسلين إلا بفضل الشباب الصالحين الذين استجابوا لله والرسول، والتاريخ أصدق شاهد بفضل الشباب الناشئين في طاعة الله أمثال علي وأسامة بين زيد وعبد الله بن عباس وابن عمر ومحمد بن القاسم وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم فهنيئا لشاب تقي تعلق قلبه بالمساجد ومجالس الخير وعمل الصالحات واغتنم شبابه قبل هرمه وصحته قبل سقمه وغناه قبل فقره وفراغه قبل شغله وحياته قبل موته.
ومن علم أن الشباب ضيف لا يعود وفرصة إذا مرت لا رجوع لها شغله بطاعة الله واستعان به على الصالح لدينه، ودنياه، ومن اتبع نفسه هواها وقاده الشيطان بزمام الشباب إلى الذنوب والمعاصي والمهالك ندم حين لا ينفع الندم حين يرى العذاب يقول: لو أن لي كرة فأكون من المحسنين وأكرم الناس نفسا وأنداهم كفا وأطيبهم قلبا وأرقهم عاطفة وأصدقهم عزما هو الشاب المؤمن التقي الذي يجل الكبير ويحترمه ويحن على الصغير ويرحمه لا تسمعه إلا مهنئا أو معزيا أو مشجعا أو مسليا أو مسلّما ولا تراه إلا هاشا باشا طلق الوجه يحليه إيمانه بمكارم الأخلاق وجميل الصفات فجدير بشاب هذا شأنه أن يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله في ذلك اليوم العصيب يوم المحشر يقف فيه الناس حفاة عراة غرلا وتدنوا الشمس من رؤوسهم قدر ميل ويكونوا في العرق حسب أعمالهم لا يوجد ظل إلا ظل عرش الرحمن جل وعلا وتقدس، فالشاب الذي نشأ في طاعة الله يجد له مكانا تحت ظل العرش ويكون آمنا إذا فزع الناس أجمعون وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فمرحلة الشباب إذاً فرصة عظيمة لا تعوّض يجب اغتنامها في ما ينفع الإنسان في دينه ودنياه وآخرته، وهو فرصة ثمينة تمر بسرعة فإن لم تُشغل بخير شغلت بشر ولابد فالأوقات محدودة والأنفاس معدودة.
وسوف تسأل يا أيها الشاب عن أوقاتك في أي شيء قضيتها؟ فإن قضيتها في طاعة الله كانت لك مكسبا وإن قضيتها في معصية الله كانت عليك وبالا وخسرانا وإن قضيتها في غفلة تحسّرت عليها في قبرك ويوم حشرك.
وسوف تسأل في قبرك من ربك وما دينك ومن نبيك؟ ولا يستطيع الإجابة الصحيحة إلا من كان في حياته طائعا لله، وسوف تسأل يوم القيام عن عمرك فيما أفنيته وعن شبابك فيما أبليته وعن مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته وعن علمك الذي تعلمته ماذا عملت به؟
وسوف تسأل عن حركاتك وسكناتك وأقوالك وأفعالك وسوف يشهد عليك لسانك وسمعك وبصرك ويدك ورجلك، فإن هذه الحواس شاهدة عليك لا لك عند ربك، وسوف يسأل الأولون والآخرون ماذا أجبتم المرسلين؟ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
فأعد للوقوف بين يدي ربك جوابا تستطيع به النجاة وأنت في دار المهلة والعمل.
أخي المسلم: إن مهمتك في الحياة أن تعبد الله حق عبادته لا تلهو ولا تلعب أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون تكون مؤمنا جادا مستقيما على أمر الله ونهيه ولا ترغ روغان الثعلب حينئذ تكون حياتك كلها طاعة وتكون بإذن الله في الآخرة من الناجين الفائزين.
أيها الإخوة: نحن اليوم بأشد الحاجة إلى شباب مؤمن يشعر بواجبه تجاه دينه وأمته وبما عليه من تبعات تجاه بناء الدين وإشادته، نحن بأشد الحاجة إلى شباب مؤمن يحمل نفسا مطمئنة يشعر بأن أكبر سروره في إخلاص العمل لله وتحصينه شباب يحوّل الخيبة إلى أمل واللهو واللعب إلى عمل ، نحن لا نريد شبابا همّه الأول الشهوة، وقبلته الكرة، وأكبر آماله الدخول في عالم الفن هذا الشباب الذي لا يجيد إلا الكرة والغناء وتصفيف الشعور والحواجب لمن أكبر عومل انهيار الأمة وسقوط والمجتمع.
نحن لا نريد أمثال هؤلاء بل نريد شبابا مؤمنا يعتز بدينه وينصح لأمته، وأخيرا لا تتردد أخي الشاب في التوبة والرجوع إلى الله والإقلاع عما أنت فيه وكن من عوامل قوة الأمة ورفعة الدين.
شباب الجيل للإسلام عودوا
فأنتم روحه وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديمسا
وأنتم فجره الزاهي الجديد
(1/91)
الجنة ونعيمها
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وصف الجنة ومفتاحها ، وأسنان المفتاح-
أبواب الجنة الثمانية ، ووصف أهل كل باب-
وصف بناء الجنة وحصبائها وترابها وأشجارها ، وثمارها ، وأنهارها ، وخدمها ، وأكوابها ،
وطعامها ، وشرابها ، وحورها-
رؤية المؤمنين ربهم في الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين [آل عمران:133-136]. سارعوا إلى دار فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مفتاحها قول لا إله إلا الله ،وأسنانه شرائع الإسلام فمن جاء بمفتاح له أسنان فتح له ومن جاء بمفتاح بلا أسنان أوشك أن لا يدخل أبوابها الثمانية، فمن أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ،وقد يدعى الإنسان في جميع الأبواب ما بين مصراعين من مصاريعها كما بين مكة وهجر بناؤها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران، فيها غرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها للمؤمن فيها خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا، في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مئة عام لا يقطعها قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وظل ممدود [الواقعة:30]. قال الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في نواحيها مئة عام يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فيها جنتان فيهما من كل فاكهة زوجان وجنتان فيهما فاكهة ونخل ورمان وليست الفواكه والنخل والرمان كهيئتها في الدنيا وإنما الاسم هو الاسم والمسمى غير المسمى، قد ذللت قطوفها تذليلا إن قام تناولها بسهولة وإن قعد تناولها بسهولة وإن اضطجع تناولها بسهولة كلما قطع منها شيئا خلفه آخر، كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها في اللون والهيئة مختلفا في الطعم، ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا يدعون فيها بكل فاكهة آمنين من الموت آمنين من الهرم آمنين من المرض آمنين من كل خوف ومن كل نقص في نعيمهم أو زوال، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ، فيها أنهار من ماء غير آسن، أي لم يتغير ولا يتغير أبدا، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه بحموضة ولا فساد، وأنهار من خمر لذة للشاربين لا يصدع الرؤوس ولا يزيل العقول، وأنهار من عسل مُصَفَّى، تجري هذه الأنهار من غير حفر سواه ولا إقامة أخدود، يصرفونها كما يشاؤون يطوف عليهم ولدان مخلدون، إذا رأيتهم حسبتهم في جمالهم وانتشارهم في خدمة أسيادهم لؤلؤا منثورا، يطوفون عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين، بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا، قواريرا من فضة قدروها تقديرا، يعطى الواحد منهم قوة مئة في الطعام والشراب ليأكلوا من جميع ما طاب لهم ويشربوا من كل ما لذ لهم ويطول نعيمهم بذلك ثم يخرج طعامهم وشرابهم جشاء ورشحا من جلودهم كريح المسك فلا بول ولا غائط ولا مخاط، لهم فيها أزواج مطهرة من الحيض والنفاس والبول وكل أذى وقذر، هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون، لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم أنشأهن الله إنشاءَ فجعلهن أبكارا، كلما جامعها زوجها عادت بكرا وجعلهن عربا أترابا والعروب هي المرأة المتوددة إلى زوجها؛ أترابا على سن واحد، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون، لا يبغون عنها حولا ولا هم منها مخرجون ينادى مناد أن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا وفوق ذلك كله أن الله أحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا، وفوق ذلك كله ما يحصل لهم من النعيم برؤية ربهم البر الرحيم، الذي منّ عليهم حتى أوصلهم بفضله إلى دار السلام والنعيم فإنهم يرونه عيانا بأبصارهم كما قال تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقال النبي : ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا)).
فإن سألتم عن أهل هذه الجنات وساكني تلك الغُرُفَات فهم الذين وصفهم الله في محكم الآيات بقوله: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [المؤمنون1-11]
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل اللهم تب علينا واغفر لنا وارحمنا إنك أنت التواب الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/92)
الإيمان بالقدر
الإيمان
القضاء والقدر
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
الإيمان بالقدر من أركان الإيمان-
الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأربعة أمور:
1- علم الله المحيط بكل شيء.
2-كتابة ذلك في اللوح المحفوظ.
3- الإيمان بمشيئة الله النافذة.
4- الإيمان بأن الله خالق كل شيء-
الواجب على العبد إذا جرت الأقدار على ما لا يحب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وآمنوا بقضائه وقدره، فإن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان فلن يتم الإيمان حتى يؤمن العبد بالقدر خيره وشره، ولا يتم الإيمان بالقدر حتى يؤمن الإنسان بأربعة أمور.
الأول: علم الله المحيط بكل شيء فإنه سبحانه بكل شيء عليم. عليم بالأمور كلها دقيقها وجليلها سرها وعلنها فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء.
الأمر الثاني: أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة من قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فإن الله لما خلق القلم قال له اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب ما هو كائن فكتب بعلم الله وإذنه ما هو كائن إلى يوم القيامة فما كتب على الإنسان لم يكن ليخطئه وما لم يكتب عليه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف قال الله تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [الحديد:2]. فعلى العبد إذا جرت الأقدار على ما لا يحب أن يرضى بقضاء الله وقدره، وأن يستسلم للقضاء المكتوب فإنه لا بد أن يكون ويقع فلا راد لقضاء الله وقدره، لكن الفخر كل الفخر لمن يقابل ذلك بالرضا ويعلم أن الأمر من الله إليه وأنه سبحانه له التدبير المطلق في خلقه فيرضى به ربا ويرضى به إلها، وبذلك يحصل له الثواب العاجل والآجل، فإن من أصيب بالمصائب فصبر هدى الله قلبه، وشرح الله صدره، وهون عليه المصيبة لما يرجو من ثوابها عند الله ثم إذا بعث يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى الأجر والثواب وجد أجر مصيبته وصبره عليها مدخرا له عند الله إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10] وكما أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء فكذلك يكتب سبحانه ويقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة كلها كما قال تعالى فيها يفرق كل أمر حكيم [الدخان:4] وكذلك يكتب على الإنسان وهو في بطن أمه ما سيجري عليه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق فقال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، نطفة؛ ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه المَلَكَ فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد: فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها وهذا الرجل الذي كان يعمل بعمل أهل الجنة ثم ختم له بعمل أهل النار إنما كان يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ولم تكن نيته في الإخلاص والقصد نية مستقيمة فلذلك عوقب بسوء الخاتمة كما جاء ذلك مفسرا في حديث آخر.
الأمر الثالث مما يتم به الإيمان بالقدر: أن تؤمن بمشيئة الله فوق كل مشيئة وقدرته فوق كل قدرة، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الأمر الرابع: أن تؤمن بأن الله خالق كل شيء ومدبر كل شيء وأن ما في السماوات والأرض من صغير ولا كبير ولاحركة ولا سكون إلا بمشيئة الله وخلقه، فمن الأشياء ما يخلقه الله بغير سبب معلوم لنا ومنه ما يكون سببه معلوما لنا، والكل من خلق الله وإيجاده، فنسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجعلنا وإياكم ممن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، يُقدَّر لنا بفضله ما فيه صلاحنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم وصل الله وسلم على عبده ونبيه محمد وآله وأصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/93)
الصلاة وفضلها
فقه
الصلاة
عبد الحميد التركستاني
الطائف
17/4/1420
طه خياط
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية المحافظة على الصلاة. 2- حضور الروح في الصلاة. 3- الصلاة عبادة طهر
وطهارة ونظافة. 4- دور الصلاة في تهذيب المسلم وغفران ذنوبه. 5- التحذير من التهاون
في صلاة الجماعة. 6- علامات النفاق المتعلقة بالصلاة. 7- حكم ترك الصلاة في الدنيا
والآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اتقوا الله عباد الله وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين.
إن حديثي في هذا اليوم سوف يكون عن الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام وعموده الذي به يرتكز هذا الدين وبدون الصلاة ليس لنا فضل وليس لنا أي قيمة تذكر لأنه لا خير في أي أحد كان إذا ترك الصلاة.
وهي أول ما أوجبه الله من العبادات، تولى إيجابها بمخاطبة رسوله ليلة المعراج بغير واسطة.
وهي أول ما يحاسب عليها العبد يوم القيامة.
وهي آخر وصية وصى بها رسول الله أمته عند مفارقة الدنيا جعل يقول وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) وهي آخر ما يفقد من الدين فإن ضاعت ضاع الدين كله.
وقد بلغ من عناية الإسلام بالصلاة أن أمر بالمحافظة عليها في الحضر والسفر، والأمن والخوف بل وأمر بها حسب حالة الإنسان الصحية حيث قال : ((صل قائما فإن لم تستطع فصل قاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب)) ، الله أكبر ما أعظم شأن هذه الصلاة التي هي غذاء الروح وقوة البدن التي لولاها لما شعر المسلم بالصلة القوية بينه وبين ربه ولهذا كان لابد من الإتيان بها في وقتها حسب حالة الإنسان.
أيها الإخوة: إن ميزان الصلاة في الإسلام عظيم ومنزلتها عند الله عالية فهي عمود الدين كما ذكرت، ومفتاح الجنة وخير الأعمال.
وقد جعلها الرسول الدليل الأول على التزام عقد الإيمان والشعار الفاصل بين المسلم والكافر فقال: ((بين الرجل والكفر والشرك ترك الصلاة )) رواه مسلم.
تلك هي مكانة الصلاة في الإسلام ولهذه المكانة كانت بعد الشهادتين في المرتبة وكانت أول عبادة فرضت على المسلمين.
إخوة الإيمان: إن الصلاة التي يريدها الإسلام ليست مجرد حركات جسم بلا روح وليست مجرد أقوال يلوكها اللسان وحركات تؤديها الجوارح، بلا تدبر من عقل ولا خشوع من قلب ليست تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديكة، ويخطفها خطف الغراب، ويلتفت فيها التفات الثعلب.. كلا، فالصلاة المقبولة هي التي تأخذ حقّها من التأمل والخشية واستحضار عظمة المعبود جل جلاله.
وذلك لأن القصد الأول من الصلاة بل من العبادات كلها هو تذكير الإنسان بربه الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدّر فهدى.
هذه هي الصلاة التي كانت قرة عينه عليه الصلاة والسلام، والتي كان يحن إليها ويتلهف عليها ويقول لبلال: أرحنا بها يا بلال هذه هي صلاة الأنس والحب لا صلاة النقر والخطف التي يؤديها كثير من المسلمين اليوم.
فمثل هذه الصلوات تشبه أن تكون وجبات روحية دسمة ضخمة توجه الإنسان طول يومه إلى أن يبقى في طاعة ربه وإلى أن يتقيه ويخشاه.
ومع هذا فالصلاة في الإسلام ليست عبادة روحية فحسب، بل إنها أيضا نظافة وتطهر وتزين وتجمل، اشترط الله لها تطهير الثوب والبدن والمكان من كل خبث مستقذر وأوجب التطهر بالغسل والوضوء لأن مفتاح الصلاة الطهور ولهذا أمر المسلم أن يأخذ زينته للصلاة يذهب إلى المسجد طيب الرائحة حسن الملبس مجتنبا لكل ما يؤذي إخوانه من الروائح الكريهة والثياب المستقذرة، وهكذا كان المسلمون الأولون يفعلون، كان الحسن البصري إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فسئل عن ذلك فقال: إن الله جميل يحب الجمال وهو تعالى يقول: خذوا زينتكم عند كل مسجد.
والصلاة تغرس في مقيمها النشاط والحيوية وتقوي عضلات بدنه فهي تتطلب اليقظة المبكرة والنشاط الذي يستقبل اليوم من قبل طلوع الشمس وهي بكيفيتها المأثورة عن رسول الله أشبه التمرينات الرياضية التي يقوم بها الرياضيون المحدثون اليوم وكما قال أحمد شوقي: لو لم تكن من أفضل العبادات لعُدّت من صالح العادات رياضة أبدان وطهارة أردان وشتى فضائل يشب عليها الجواري والولدان أصحابها هم الصابرون وعلى الواجب هم القادرون عودتهم البكور وهو مفتاح باب الرزق وأفضل ما يتوجه به العبد إلى الخالق.
فالصلاة الحقيقة التي يريدها الإسلام تمد المؤمن بقوة روحية نفسية وبدنية تعين المسلم على مواجهة متاعب الحياة ومصائب الدنيا ولذا قال تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون.
في الصلاة يفضي المؤمن إلى ربه بذات نفسه يدعوه ويشكو إليه بثه وحزنه ويستفتح باب رحمته وفي الصلاة يشعر المؤمن بالسكينة والرضا والطمأنينة إنه يبدأ بالتكبير فيقول: الله كبر فيحس بأن الله أكبر من كل ما يخوفه في هذه الدنيا، ويقرأ فاتحة الكتاب فيجد فيها تغذية للشعور بنعمة الله وعظمته وعدله وتغذية للشعور بالحاجة إلى هداية الله اهدنا الصراط المستقيم.
فلا عجب أن تمد الصلاة المؤمن بحيوية هائلة وقوة نفسية فياضة وفي هذه القوة مدد أي مدد لضمير المؤمن يقوده إلى فعل الخير وترك الشر ومجانبة الفحشاء والمنكر ومقاومة الجزع عند الشر والمنع عند الخير فهي تغرس في القلب مراقبة الله تعالى ورعاية حدوده والحرص على المواقيت والدقة في المواعيد والتغلب على نوازع الكسل والهوى وفي هذا يقول الله عز وجل: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون ، وقال: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ، ولهذا ورد عن ابن مسعود بإسناد صحيح أنه قال: (من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدد بها إلا بعدا)، وما نرى من مصلين اليوم قد ضعفت أخلاقهم أو انحرف سلوكهم إلا لأن صلاتهم جسد بلا روح وحركات جسم بلا حضور عقل ولا خشوع قلب وإنما الفلاح للمؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون.
أيها المسلمون: إن الصلاة شأنها عظيم وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة منها ما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس، يمحوا الله بهن الخطايا)) ، وعن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينهما وبين الصلاة التي تليها)) رواه البخاري ومسلم وروى الطبراني بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((تحترقون تحترقون، (أي تقعون في الهلاك بسبب كثرة الذنوب) فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا)).
أيها الاخوة: إنها نار موقدة تطلع على الأفئدة وتلفح القلوب والعقول والصلاة هي مضخة الإطفاء التي تخمد هذه النار وتمسح دخانها وسوادها وتغسل أثرها من بين جوانح الإنسان.
ومع هذا فالإسلام لم يكتف من المسلم أن يؤدي الصلاة وحده في عزلة أو في بيته، ولكنه دعاه دعوة قوية إلى أدائها في المسجد جماعة ولقد همّ الرسول أن يحرق بيوت أناس يتخلفون عن صلاة الجماعة كما ورد ذلك في الحديث المتفق عليه، وما همّ بذلك إلا لأن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان يأثم من يتخلف عنها لغير عذر وهي مع هذا الأمر أفضل من صلاة الفرد سبع وعشرين درجة وقد روى الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود قوله: (من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عن صلاة الجماعة إلا منافق معلوم النفاق)، واليوم أيها المسلمون يرى من الناس تساهلا عظيما في الصلاة مع الجماعة، فمنهم من لا نراه في المسجد أبدا وهو يسكن بجوار المسجد يخرج من بيته لأعماله الدنيوية ولا يخرج من بيته لأداء الصلاة في المسجد، والبعض الآخر من الناس يصلي مع الجماعة بعض الصلوات ويترك بعضها كصلاة العشاء والفجر مثلا وقد أخبر النبي ، أن ذلك من علامات النفاق فقال: ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً)).
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله: ست صفات في الصلاة من علامات النفاق:
الكسل عند القيام بها وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى.
مراءاة الناس في فعلها يراءون الناس.
تأخيرها عن وقتها ونقرها وقلة ذكر الله فيها وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا)).
ومن العلامات التخلف عن أدائها في المسجد جماعة وقد تقدم فيها أثر ابن مسعود.
أيها الإخوة: إن المسلم الذي يتثاقل عن أداء الصلوات ليعذب في قبره ويوم محشره وقد رأى الرسول قوما ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء ((قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين ثقلت رؤوسهم عن الصلاة، ولا يزال هذا عذابهم)) نسأل الله العافية.
أيها الإخوة: إن مما يسبب النوم عن صلاة الفجر أن كثيرا من الناس يسهرون الليل إما على قيل وقال وإما على لهو ولعب ورق واستماع أغان ومزامير شيطان وإما على مشاهدة التلفزيون أو الفيديو وقد تكون أفلاما خليعة فإذا أقبل طلوع الفجر ناموا فهؤلاء سهروا على محرم وناموا عن واجب وقد يضيف إلى ترك الجماعة جريمة أخرى وهي إخراج الصلاة عن وقتها فلا يصليها إلا بعد طلوع الشمس فيكون من الذين هم عن صلاتهم ساهون.
أيها المسلمون: إن المسلم الذي تهمه الصلاة لا ينام عنها ولا يتخلف عن أي فرض فالمسلم يعمل الاحتياطات التي توقظه ومن ذلك النوم المبكر ومن ذلك أن يجعل عند رأسه ساعة تدق عند حلول الوقت.
بل إن الإنسان إذا نام وفي نيته الاستيقاظ للصلاة فإن الله يهيئ له ما يوقظه.
فاتقوا الله عباد الله في أمور دينكم وفي صلاتكم خاصة وراقبوا الله في جميع أحوالكم.
وأنت أيها المتخلف عن صلاة الجماعة لغير عذر، لقد عصيت ربك وحرمت نفسك ثوابا عظيما، وعرضتها لسخط الله وعقوبته، لقد شاركت المنافقين في صفاتهم وأصبحت أسيرا للشيطان لقد سمعت داعي الله فامتنعت عن إجابته مرارا ليلا ونهارا، فتب إلى الله وحافظ على الجمع والجماعات فإن الله يتوب على من تاب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله فرض الصلاة على العباد رحمة بهم وإحسانا وجعلها صلة بينهم وبينه ليزداد بذلك إيمانا وكررها كل يوم حتى لا يحصل الجفاء ويسرها عليهم حتى لا يحصل التعب والعناء وأجزل لهم ثوابها فكانت بالفعل خمسا وبالثواب خمسين فضلا منه وامتنانا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالقنا ومولانا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أخشى الناس لربه سرا وإعلانا.
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد فرضت الصلاة على نبينا محمد بلا واسطة وفرضت خمسين صلاة حتى خفضت إلى خمس صلوات بالفعل وخمسين بالميزان والأجر، وفرضها رسول الله بقوله وعمله وأجمع المسلمون على أنها فريضة محكمة من استراب في وجوبها خرج من الملة وفارق الإيمان ومن تعمد تركها أحيانا فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب قال تعالى مخبرا عن أصحاب الجحيم: ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين ، فمن ترك الصلاة بالكلية جحودا لوجوبها فهو كافر باتفاق العلماء وإن تركها تهاونا وكسلا فهو كافر على الصحيح من أقوال أهل العلم وأما الأدلة على ذلك فقد أخرج الإمام أحمد عن النبي قال: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) ، وروى مسلم أيضا عنه : ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) ، وروى أبو داود والنسائي عنه أيضا: ((ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة)) ، وروى الترمذي أيضا: ((بين الكفر والإيمان ترك الصلاة)) ، وقال أيضا: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ، وفي رواية للطبراني: ((بين العبد والكفر أو الشرك ترك الصلاة، فإذا ترك الصلاة فقد كفر))، وفي رواية أخرى سندها حسن: ((عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاث عليهن أسّ الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة وصوم رمضان)) وفي رواية أخرى: ((من ترك منهن واحدة فهو كافر بالله ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا وقد حل دمه وماله)).
وروى الترمذي عن أبي وائل شقيق بن سلمة: (كان أصحاب محمد لا يرون من الأعمال شيئا تركه كفر غير الصلاة). وروى البزار: ((لا سهم في الإسلام لمن لا صلاة له ولا صلاة لمن لا وضوء له)).
وروى ابن ماجه والبيهقي عن أبي الدرداء قال: ((أوصاني خليلي أن: لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت أو حرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة، ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر)).
وروى البخاري في تاريخه عن علي أنه قال ((من لم يصل فهو كافر)). وقال محمد بن نصر: سمعت إسحاق يقول: ((صح عن النبي أن تارك الصلاة كافر)).
وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر وقال أيوب السختياني: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه.
ويترتب على تارك الصلاة بعد أن عرفنا فيما سبق أنه كافر كفرا يخرجه من الملة أحكاما دنيوية وأحكاما أخروية.
فأما الأحكام الدنيوية:
أولا: أنه يكون من المرتدين عن الإسلام فيدعى إلى الإسلام فإن عاد وإلا وجب قتله لقول النبي : ((من بدل دينه فاقتلوه)).
ثانيا: لا يصح أن يزوج بمسلمة لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، ولهذا يجب على ولي أمر المرأة إن أتاها خطيب أن يسأل أول ما يسأل عن الصلاة قبل سؤاله عن عمله ووظيفته.
ثالثا: أنه إذا ترك الصلاة بعد أن تزوج وهو يصلي فإن النكاح ينفسخ وتكون المرأة حراما عليه، ويكون منها بمنزلة الأجنبي ما لم يعد إلى الإسلام ويصلي.
رابعا: أنه إذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلي عليه ويحرم أن يدعو له بأن يرحمه الله ولا يدفن في مقابر المسلمين ويخرج به إلى مكان من الأرض ويحفر له حفرة ثم يرمى فيها، قال تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله ، والعلة بترك الصلاة عليه هي الكفر.
خامسا: أن ذبيحته لا تحل أي لو ذبح وباشر الذبح بنفسه حرم علينا أن نأكل ذبيحته.
سادسا: أنه لو مات أحد أقاربه فلا يرثه الذي لا يصلي وكذلك لو كان الأب لا يصلي فإن الابن لا يرثه لقوله : ((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)) متفق عليه.
سابعا: أنه لا يكون وليا على أحد من بناته فلا يملك أن يزوج ابنته وإنما يزوجهن أقرب الأولياء بعده ممن يصلون.
ثامنا: أنه لا حضانة له على أحد من أولاده، فلو كان هذا الرجل الذي لا يصلي له أولاد انفسخ نكاحه من زوجته فإن الذي يحضن هؤلاء الأولاد هي الأم وليس الأب لأنه لا حضانة لكافر على مسلم.
وهناك أحكام أخرى لكنها أقل شأنا مما ذكرنا مثل وجوب هجره وأن لا يسلم عليه.... الخ.
ثانيا: الأحكام الأخروية:
فإنه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف كما جاء في ذلك الأثر، وإذا حشر مع هؤلاء الذين هم رؤوس الكفر فإن مقرّه نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا.
فاتقوا الله أيها المسلمون وحافظوا على صلاتكم تفلحوا وتفوزوا برضا الله في الآخرة.
قال تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا.
(1/94)
من حقوق المسلم على أخيه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الولاء والبراء
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
رابطة الأخوة الإيمانية أقوى الروابط وأدومها-
أسباب تحصيل هذه الرابطة (السلام - عيادة المريض – الإصلاح بين الناس – تشميت
العاطس -..) -
أسباب التفرق والاختلاف والنهي عنها (هجرة المسلم فوق ثلاث – النميمة – السباب).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعملوا أنكم في الدين إخوة وأن هذه الأخوة والرابطة الدينية أقوى من كل رابطة وصلة فيوم القيامة لا أنساب بينكم ولكن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، فحققوا أيها المؤمنين هذه الأخوة بالتحاب بينكم والتآلف ومحبة الخير بعضكم لبعض والتعاون على الخير وفعل الأسباب التي تقوي ذلك وتنميه، واجتناب الأسباب التي تضعف ذلك وتنقصه، فالأمة لا تكون أمة لا يجتمع لها قوة حتى تكون كما وصفها نبيها بقوله: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)).
أيها الأخوة: لقد شرع الله لكم ما يقوي اتحادكم وينمي المحبة بينكم ويزيل العداوة والفرقة، وشرع لكم أن يُسَلَّم بعضكم على بعض فالسلام يغرس المحبة والألفة، والهجر يوجب البغضاء والوحشة، فإذا لقي بعضكم بعضا فليسلم عليه، وخيركم من يبدأ بالسلام، ولْيجبه المسَّلم عليه ببشاشة وانطلاق وجه، بجواب يسمعه ويكون مثل سلامه أو خيرا منه، وشرع لكم أن يعود بعضكم بعضا إذا مرض فعيادة المريض تجلب المودة وترقق القلب وتزيد في الإيمان وتوجب الثواب. فمن عاد مريضا ناداه مناد من السماء طِْبَت وطاب ممشاك ومن عاد أخاه المسلم لم يزل في خَرْفة الجنة حتى يرجع قيل يا رسول الله وما خرفة الجنة قال جناها، وإذا عاد أحدكم المريض فليوسع عليه الأمر ويقول ما يفرحه من ذكر ثواب الصابرين وانتظار الفرج وأنه طيب ولا بأس عليه، ويفتح له باب التوبة واغتنام الوقت بالذكر والقراءة والتسبيح والاستغفار وغيرها مما يقرب إلى الله، ويرشده كيف يتطهر بالماء أو التيمم وكيف يصلي وكيف يوصي لأن كثيرا من المرضى يجهل ذلك، وشرع لكم الإصلاح بين الناس فقد قال الله تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس وفي الحديث أن النبي قال لأبي أيوب: ((ألا أدلك على تجارة)) قال بلى يا رسول الله قال: ((تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا)). فالموفق إذا رأى بين اثنين عداوة وتباعدا سعى بينهما في إزالة تلك العداوة والتباعد، حتى تنقلب العداوة صداقة والتباعد قربا، وفي هذه الحال يحصل على خير كثير وأجر كبير ولقد شرع النبي لكم إذا سمعتم العاطس المسلم يحمد الله أن تقولوا له يرحمك الله، ويرد عليكم: يهديكم الله ويصلح بالكم، وشرع لكم المهاداة فيما بينكم وأخبر أن الهدية تذهب السخيمة وتوجب المحبة وكل أمر يوجب ارتباط المسلمين واتحادهم فهو مشروع ومأمور به، ومن ذلك تشاور أهل الرأي في الأمور العامة التي تهم المسلمين فإذا اجتمع المسلمون على أمورهم وتشاوروا بينهم فيها فما أحراهم بالتوفيق إلى الصواب وما أقربهم من النجاح.
وفي مقابلة ذلك نهى النبي عن كل ما يوجب تفرق المسلمين وتباعدهم فنهى أن يهجر الرجل أخاه فوق ثلاثة أيام يدبر هذا ويدبر هذا فلا يسلم أحدهما على الآخر ولا يزيل الوحشة والعداوة التي بينهما وهذا خلق ذميم لعب الشيطان فيه على بعض الناس حتى أوقعهم فيه فنجد الرجلين كل منهما يحب الخير ويعلم ما يعلم منه، وُيعد من أهل الديانة ولكن الشيطان قد خدعه فكان يهجر أخاه لأغراض شخصية ومصالح دنيوية، ولم يعلم المسكين أن الإسلام أسمى من أن تؤثر الأغراض الشخصية أو المصالح الدنيوية في الصلة بين أبنائه.
ولقد قال النبي : ((لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)) وقال : ((تعرض الأعمال في كل يوم اثنين وخميس فيغفر الله في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا، إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا)). فهجر المسلم حرام إلا أن يكون مجاهرا بمعصية ويحصل بهجره ردع له عنها أو تخفيف أو ردع لغيره، فيهجر تحصيلا لهذه المصلحة.
وجاء الشرع بتحريم النميمة والسعي بين الناس بالإفساد بينهم فقال النبي : ((لا يدخل الجنة نمام)) ونهى عن السباب والشتم لأن ذلك يحدث العداوة والبغضاء فتآلفوا أيها المؤمنون بينكم وأزيلوا العداوة والبغضاء بينكم وكونوا عباد الله إخوانا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [الحجرات:10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/95)
الصبر وأقسامه
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
منزلة الصبر في الدين بمنزلة الرأس من الجسد ، وأهميته-
الصبر ثلاثة أقسام :
1- صبر على طاعة الله.
2- صبر عن محارم الله.
3- صبر على أقدار الله-
معنى كل قسم من أقسام الصبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد فلا إيمان لمن لا صبر له ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر، وبه يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف والخور، والصبر من مقام الأنبياء والمرسلين وحلية الأصفياء المتقين قال الله تعالى عن عباد الرحمن: أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما [الفرقان:75]. وقال عن أهل الجنة: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار [الرعد:23-24]. والصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله وصبر عن محارم الله وصبر على أقدار الله التي يجريها، إما مما لا كسب للعباد فيه وإما مما يجريه الله على أيدي بعض العباد من الإيذاء والاعتداء فالصبر على طاعة الله: أن يحبس الإنسان نفسه على العبادة ويؤديها كما أمره تعالى وأن لا يتضجر منها أو يتهاون بها أو يدعها فإن ذلك عنوان هلاكه وشقائه ومتى علم العبد ما في القيام بطاعة الله من الثواب هان عليه أداؤها وفعلها فالحسنة ولله الحمد إذا أخلص الإنسان فيها لله واتبع رسول الله كانت بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والله يضاعف لمن يشاء وفضل الله ليس له حد ولا انحصار.
وأما الصبر عن معصية الله فأن يحبس الإنسان نفسه عن الوقوع فيما حرم الله عليه مما يتعلق بحق الله أو حقوق عباده ومتى علم ما في الوقوع في المحرم من العقاب الدنيوي والأخروي والاجتماعي والفردي وأن ذلك مما يضر بدينه ويضر بعاقبة أمره بل ويضر بمجتمعه فإن الذنوب عقوباتها في الدنيا قد تعم ويبعث الناس على أعمالهم ونياتهم، متى علم العاقل ما يقع من جراء الذنوب أوجب ذلك أن يدعها خوفا من علام الغيوب.
وأما الصبر على أقدرا الله فمعناه أن يستسلم الإنسان لما يقع عليه من البلاء والهموم والأسقام وأن لا يقابل ذلك بالتسخط والتضجر وفعل الجاهلية المنكر في الإسلام وأن يعلم أن هذا البلاء لنزوله أسباب وحكم لا يعلمها إلا الله وأن يعلم أن لدفعه ولرفعه أسبابا من أعظمها لجوؤه ودعاؤه وتضرعه إلى مولاه فهذه الأمراض التي أرسلها الله تعالى على عباده إنما هي رحمة بهم ليرجعوا إليه وليعرفوا أنه هو المتصرف بعباده كما يشاء، فلا اعتراض عليه، له الملك وله الحمد وله الخلق وله الأمر وبيده الخير وهو على كل شيء قدير، ومع هذا فتلك الأمراض لم يحصل فيها ولله الحمد نقص في النفوس ولا هلاك وإنما هي أمراض يسيرة خفيفة قدَّرها المولى ولطف بعباده فلله الحمد رب السماوات والأرض.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [الشورى:30]. ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم [التغابن:11].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/96)
الوضوء والتيمم والمسح على الخفين
فقه
الطهارة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية التمسك بالدين-
وجوب الطهارة من الحدثين وصفة الوضوء وبعض أحكام المسح-
بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس في الوضوء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا ما أوجبه الله عليكم من أحكام دينكم فإنه لا قوام للآخرة بل ولا للدنيا إلا بالتمسك بدين الله والاقتداء برسول الله فقد أوجب الله عليكم الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر إذا أردتم القيام للصلاة، من أراد منكم أن يصلي فليتوضأ على الوجه المشروع، وصفة ذلك أن ينوي الوضوء ثم يقول : بسم الله ثم يغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يتمضمض ويستنشق ثلاث مرات، ثم يغسل وجهه كله ثلاثا من الأذن إلى الأذن عرضا ومن منابت شعر الرأس إلى أسفل اللحية طولا لا يجوز أن يفرط بشيء من ذلك ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا، ويجب أن يلاحظ المتوضئ كفيه عند غسل ذراعيه ثم يمسح رأسه كله بيديه من مقدمه إلى قفاه ويمسح أذنيه فيدخل سَّبابتيه في صماخيهما ويمسح بإبهاميه ظاهرهما ، ثم يغسل رجليه مع الكعبين ثلاث مرات، ومن نسي منكم أن يسمي حتى فرغ فوضوؤه صحيح، وإن ذكر في أثنائه سمى واستمر على وضوئه ومن كان منكم في يده أو غيرها من أعضاء الوضوء جرح يضره الغسل فلا يغسله، فإن وضع عليه دواء أو خرقة فيجب أن يكون ذلك بقدر الحاجة، وأما يفعله بعض الناس من أنه إذا كان جرح في رأس إصبعه فإنه يشد خرقة على إصبعيه كله من غير حاجة فهذا لا يجوز بل عليه أن يكون بقدر حاجته، ثم بعد ذلك يمسح عليه عند الوضوء، ولا يحتاج إلى التيمم بعد ذلك، ومن توضأ منكم فإنه ينتقض وضوؤه بالحدث من ريح أو بول أو غائط وبأكل لحم الإبل كله حتى الشحم والكبد والكلى والأمعاء وغير ذلك سواء أَكَلَهَ نياً أو مطبوخا وكذلك ينقض الوضوء النوم الكثير فأما النعاس أو النوم القليل الذي يغلب على ظنه أنه لم يحدث فيها فإنه لا ينقض ومن تطهر ثم شك هل أحدث أو لا فليبن على اليقين ولا يجب عليه أن يتوضأ لأن الأصل بقاء طهارته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم، وأرجلكَم إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون [المائدة5-6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/97)
خصال الفطرة وحكم الالتحاء
فقه
الطهارة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب التمسك بالفطرة وهي طهارة الباطن والظاهر-
طهارة الباطن معناها تطهير القلب من الإشراك ، والإخلاص في العبادة ، والطاعة-
طهارة الظاهر ومعناها كما في حديث سنن الفطرة ، وفضل المحافظة عليها-
حكم اللحية ، وحكم الأخذ منها-
النهي عن التشبه بالمشركين وبعض الشبهات عن اللحية-
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى؛ وأقيموا وجوهكم للدين حنفاء متمسكين بالفطرة التي فطر الناس عليها وهي طهارة الباطن والظاهر فأما طهارة الباطن فهي تطهير القلب من الإشراك وإخلاص العبادة لله وحده والقيام بالأعمال الصالحات، وأما طهارة الظاهر فمنها ما في الصحيح صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. يعني الاستنجاء)) قال الراوي ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، وفي حديث أبي هريرة أن الختان من الفطرة فهذه الأشياء العشرة كلها طهارة وتنظيف تقضي بها الفطرة وتستحسنها العقول، كما أن الشرع قد جاء بها وحث عليها فمنها قص الشارب وإحفاؤه فإن بقاءه يجمع الأوساخ التي تمر به من الأنف فإذا شرب الإنسان تلوث شرابه بها، فجاء الشرع والفطرة باحفائه. وأما إعفاء اللحية وهو عدم التعرض لها بقص أو حلق أو نتف فلأن الله خلقها تمييزا بين الذكور والإناث وإظهارا للرجولية والقوة ولذلك لا تظهر إلا عند الحاجة إليه في وقت قوة الإنسان وجلده وتكليفه بمهمات الأمور أما في حال صغره فلا تظهر، لأنه حينئذ لا يتحمل الأعباء فجاء الشرع والقدر والفطرة بوجودها وإبقائه،ا وقد أمر النبي بإعفائها وإرخائها وتوفيرها وقال خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب وكان وأصحابه قد هدوا إلى الفطرة فكانوا يوفرون لحاهم وخير الهدى هدى محمد وأصحابه فإنهم على النور المبين والصراط المستقيم فحلق اللحية حرام لأنه خروج عن الفطرة ومخالفة للرسل وأتباعهم وموافقة للمشركين وتغيير لخلق الله تعالى بلا إذن منه، وليس إبقاء اللحية من الأمور العادية كما يظنه بعض الناس، وإنما هو من الأمور التعبدية التي أمر بها رسول الله والأصل في أوامر النبي التعبد والوجوب حتى يقوم دليل على خلاف ذلك قال الله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور]. الفتنة فتنة الدين قد يرد المرء أمر النبي فيزيغ قلبه فيهلك والنبي أمر بإعفاء اللحية وأمر بمخالفة المشركين، فإذا فرض أن من المشركين الآن من يعفي لحيته فإننا لن نترك أمر النبي بإعفائها من أجل أن بعض المشركين يعفيها لأن المشرك الذي يعفيها هو المتشبه بنا ولسنا نحن المتشبهين به، ومن الفطرة السواك لأن فيه تنظيفا للأسنان وما يتسوك عليه من الفم، ويتأكد السواك عند المضمضة في الوضوء وعند الصلاة وعند القيام من النوم وإذا دخل الإنسان بيته، لأن النبي إذا دخل البيت فأول ما يبدأ- به السواك، ومن الفطرة استنشاق الماء لأنه ينظف الأنف من الأوساخ، وقص الأظفار من الفطرة لأن الأظفار إذا طالت اجتمع فيها من الأوساخ ما يكون ضررا على الإنسان، وغسل البراجم من الفطرة والبراجم هي الفروض التي بين مفاصل الأصابع لأنها قد تجمع أوساخا فمن الفطرة تعاهدها وغلها ومن الفطرة لنتف الآبط لأن الشعر فيها يتجمع أوساخاً تحدث منها رائحة كريهة والنتف يزيل الشعر ويضعف أصولها فمن لم ينتف الإبط فليحلقه أو يجعل فيها شيئا يزيله، وحلق العانة من الفطرة وهي الشعر النابت حول القبل لأن في ذلك تقوية للمثانة ولأن بقاء الشعر يجمع أوساخا قد يكون فيه ضرر على المثانة التي هي مجمع البول وقد وقتّ النبي في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة، وأما الاستنجاء فإنه من الفطرة لأنه تطهير للمحل الذي يخرج منه البول أو الغائط. وأما الختان وهو ما يسمى بالطهار فهو من الفطرة لأنه يكمل الطهارة وفعله في زمن الصغر أفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون [الروم:30-31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/98)
العناية بالصلاة والمحافظة عليها
فقه
الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب المحافظة على الصلوات وكيفية ذلك-
أهمية الصلاة ومنزلتها ودليل ذلك-
الصلاة صلة متجددة بين العبد وربه ، وأثر ذلك على القلب والجوارح-
حال كثير من الناس في الصلاة وعدم استشعارهم لذتها وسبب ذلك-
أهمية الخشوع في الصلاة ، والسبيل إلى ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى؛ وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، حافظوا على الصلوات بأداء أركانها وشروطها وواجباتها ثم كملوها بفعل مستحباتها فإن الصلاة عمود الدين ولا دين لمن لا صلاة له.
أيها المسلمون لقد فرضت الصلاة على نبيكم من الله تعالى إليه بلا واسطة، وفرضت فوق السماوات العلى، وفرضت خمسين صلاة حتى خفضت إلى خمس صلوات بالفعل وخمسين بالميزان، ألم يكن هذا أكبر دليل على فضلها والعناية بها. الصلاة صلة بين العبد وربه يقف بين يديه مكبرا معظما يتلو كتابه ويسبحه ويعظمه ويسأله من حاجات دينه ودنياه ما شاء جدير بمن كان متصلا بربه أن ينسى كل شيء دونه وأن يكون حين هذه الصلة خاشعا قانتا مطمئنا مستريحا ولذلك كانت الصلاة قرة أعين العارفين، وراحة قلوبهم لما يجدون فيها من اللذة والأنس بربهم ومعبودهم ومحبوبهم، جدير بمن اتصل بربه أن يخرج من صلاته بقلب غير القلب الذي دخلها فيه أن يخرج منها مملوءا قلبه فرحا وسرورا وإنابة إلى ربه وإيمانا، ولذلك كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما يحصل للقلب منها من النور والإيمان والإنابة، جدير بمن عرف حقيقة الصلاة وفائدتها وثمراتها أن تكون أكبر همه وأن يكون منتظرا لها مشتاقا إليها ينتظر تلك الساعة بغاية الشوق حتى إذا بلغها ظفر بمطلوبه واتصل اتصالا كاملا بمحبوبه.
أيها المسلمون: إن كثيرا من المصلين لا يعرفون فائدة الصلاة حقيقة ولا يقدرونها حق قدرها ولذلك ثقلت الصلاة عليهم ولم تكن قرة لأعينهم ولا راحة لأنفسهم ولا نورا لقلوبهم نرى كثيرا منهم ينقرون الصلاة نقر الغراب لا يطمئنون فيها ولا يذكرون الله فيها إلا قليلا، وهؤلاء لا صلاة لهم ولو صلوا ألف مرة لأن الطمأنينة في الصلاة ركن من أركانها ولذلك قال النبي للرجل الذي كان لا يطمئن في صلاته: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) فصلى عدة مرات وكل مرة يقول له النبي ارجع فصل فإنك لم تصل حتى علَّمه النبي وأمره بالطمأنينة.
وتجد كثيرا من الناس إن لم يكن أكثر الناس يصلي بجسمه لا بقلبه، جسمه في المصلى وقلبه في كل واد فليس في قلبه خشوع لأنه يجول ويفكر في كل شيء حتى في الأمور التي لا مصلحة له منها وهذا ينقص الصلاة نقصا كبيرا، وهو الذي يجعلها قليلة الفائدة للقلب بحيث يخرج هذا المصلي من صلاته وهي لم تزده إيمانا ولا نورا، وقد فشا هذا الأمر أعني الهواجيس في الصلاة، ولكن الذي يعين على إزالته هو أن يفتقر العبد إلى ربه ويسأله دائما أن يعينه على إحسان العمل وأن يستحضر عند دخوله في الصلاة أنه سيقف بين يدي ربه وخالقه الذي يعلم سره ونجواه ويعلم ما توسوس به نفسه وأن يعتقد بأنه إذا أقبل على ربه بقلبه أقبل الله عليه وإن أعرض أعرض الله عنه، وأن يؤمن بأن روح الصلاة ولبها هو الخشوع فيها وحضور القلب وأن الصلاة بلا خشوع القلب كالجسم بلا روح وكالقشور بلا لب.
ومن الأمور التي تستوجب حضور القلب أن يستحضر معنى ما يقول وما يفعل في صلاته وأنه إذا كبر ورفع يديه فهو تعظيم لله وإذا وضع اليمنى على اليسرى فهو ذل بين يديه وإذا ركع فهو تعظيم لله وإذا سجد فهو تطامن أمام علو الله، وإنه إذا قال: ((الحمد لله رب العالمين أجابه الله من فوق عرشه قائلا: حمدني عبدي فإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله: أثنى عليَّ عبدي فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله: مَجَّدَني عبدي فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل)) ، هكذا يجيبك مولاك من فوق سبع سماوات فاستحضر ذلك وإنك إذا قلت سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى وإن كنت تقولها بصوت خفي فإن الله تعالى يسمع ذلك وهو فوق عرشه، فما ظنك إذا آمنت بأن الله تعالى يقبل عليك إذا أقبلت عليه في الصلاة وأنه يسمع كل قول تقوله وإن كان خفيا، ويرى كل فعل تفعله وإن كان صغيرا، ويعلم كل ما تفكر فيها وإن كان يسيرا، إذا نظرت إلى موضع سجودك فالله يراك وإن أشرت بإصبعك عند ذكر الله في التشهد فإنه تعالى يرى إشارتك فهو تعالى المحيط بعبده علما وقدرة وتدبيرا وسمعا وبصرا وغير ذلك من معاني ربوبيته.
فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون وأقيموا صلاتكم وحافظوا عليها واخشعوا فيها فقد قال ربكم في كتابه: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [المؤمنون:1-11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/99)
شروط الصلاة وأركانها
فقه
الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
من شروط الصلاة:
1- الطهارة من الأحداث.
2- الطهارة من الأنجاس.
3- ستر العورة وأقسام العورة في الصلاة -
من فرائض الصلاة الطمأنينة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تتعدوها، فمن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه.
أيها الناس : لقد فرض الله عليكم في صلاتكم الطهارة من الأحداث والطهارة من الأنجاس، فمن صلى بغير وضوء فلا صلاة له ولو كان ناسيا لقول النبي : ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)).
ولو صلى وعلى بدنه نجاسة يعلم عنها أو على ثوبه نجاسة يعلم عنها فلا صلاة له، فإن كان لا يعلم عنها أو علم بها ونسى أن يغسلها فصلاته صحيحة.
وفرض الله عليكم ستر العورة في الصلاة قال الله تعالى يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [الأعراف31] فيجب على المصلي أن يستر عورته بثوب طاهر مباح لا يبين من ورائه لون الجلد، فإن صلى بثوب نجس عالمًا بنجاسته فلا صلاة له إلا أن يكون ناسيا، ومن صلى بثوب محرم عليه فلا صلاة له، فإذا صلى أحد بثوب فيه صورة فلا صلاة له إلا إن كان لا يدري.
ومن الثياب المحرمة ثياب الخيلاء فمن جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه ولا تصح له صلاة صلاها لابسا له، ومن نزل ثوبه عن كعبيه من الرجال فهو في النار قال النبي : ((ما أسفل من الكعبين فهو في النار)).
ومن صلى في ثوب خفيف يرى من ورائه لون الجلد فلا صلاة له، فعلى الذين يلبسون السراويل القصار التي تسمى الهاف، عليهم أن يلبسوا فوقها ثوبا ساترا لا يصف البشرة لأن الواجب عليهم أن يستروا ما بين السرة والركبة.
وقد قسم فقهاؤنا رحمهم الله العورة في الصلاة إلى ثلاثة أقسام: مخففة ومغلظة ومتوسطة، فالمخففة: عورة الذكر من سبع سنين إلى عشر، فهذا يكفي ستر فرجيه: القبل والدبر، والمغلظة: عورة المرأة الحرة البالغة، فيجب عليها أن تستر جميع بدنها حتى يديها ورجليها في الصلاة إلا الوجه، فلا يجب عليها ستره إلا أن يكون عندها رجال غير محارم لها فيجب عليها أن تستر وجهها عنهم.
أما العورة المتوسطة: فهي عورة من سوى ذلك مثل عورة الذكر إذا تم له عشر سنين فأكثر، ومثل عورة البنت الصغيرة.
وحد هذا القسم من العورة هو ما بين السرة إلى الركبة. وكلما كان اللباس أكمل في هيئته وسرته وحاله فهو أفضل، ولذلك قال أهل العلم: الأفضل للرجل أن يصلي ساتراً رأسه.
ومما فرض الله عليكم في الصلاة أن تطمئنوا بها، فمن صلى بلا طمأنينة فلا صلاة له، وإن صلى مائة صلاة لأن النبي قال لرجلٍ صلى بلا طمأنينة ((ارجع فصل فإنك لم تصل )). ونَقْرُ الصلاة من أفعال المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وإن كثيرا يُخُّلِون بالطمأنينة خصوصا في القيام بعد الركوع وفي الجلوس بين السجدتين، ولقد كان النبي يطيل فيهما حتى يقول القائل قد نسي.
فاتقوا الله أيها المسلمون والزاموا حدوده لعلكم تفلحون وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/100)
سجود السهو
فقه
الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
15/3/1417
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب الفقه في الدين وفضله-
وجوب معرفة أحكام الصلاة ومكانتها-
جهل كثير من المصلين بأحكام سجود السهو وسبب ذلك-
أسباب سجود السهو ثلاثة : زيادة أو نقص أو شك-
الواجب في كل نوع ودليل ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتفقهوا في دينكم واعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله فإن من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، واعلموا أن من أهم ما يجب عليكم معرفته أحكام الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام وعمود الدين.
ومن أكثر ما يقع الخلل فيها سجود السهو في الصلاة حيث كان يجهله كثير من المصلين، فسجود السهو له أسباب وأحكام ومواضع ينبغي على كل مسلم معرفتها حتى يكون على بصيرة من أمره إذا وقع له ذلك.
فأسباب سجود السهو إجمالا ثلاثة : الزيادة والنقص والشك.
فأما الزيادة فمتى زاد المصلي في صلاته ركوعا أو سجودا أو قياما أو قعودا أو ركعة كاملة فأكثر وجب عليه سجود السهو، ومحله بعد السلام كما وقع ذلك للنبي قال ابن مسعود : (صلى النبي الظهر خمسا فقيل له: أزيد في الصلاة ؟ قال: وما ذلك قالوا: صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم) رواه الجماعة.
ومتى علم المصلي بالزيادة وهو في أثناء الزيادة وجب عليه الرجوع عن الزيادة وسجود السهو، وإذا سلم المصلي قبل تمام الصلاة ناسيا فذكر قبل أن تمضي مدة طويلة وجب عليه أن يتمم صلاته ويسجد للسهو بعد السلام، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى بهم الظهر أو العصر ركعتين ثم سلم، فأخبروه بأنه نسي فتقدم وصلى ما بقي من صلاته ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم، وأما إذا طال الفصل أو أحدث المصلي قبل أن يذكر نقص الصلاة فإنه يعيد الصلاة من أولها، لأنه لا يمكن أن يبنى آخر الصلاة على أولها مع طول الفصل أو انتقاض الطهارة.
وأما النقص فمتى نقص المصلي شيئا من واجبات الصلاة ناسيا وجب عليه سجود السهو جبرا لما نقص من صلاته ويكون قبل السلام، فإذا نسي التشهد الأول وقام إلى الركعة الثالثة واستتم قائما فليمض في صلاته ولا يرجع ثم يسجد سجدتين للسهو قبل السلام، فعن عبد الله بن بحينه أن النبي صلى فقام في الركعتين فسبحوا به فمضى في صلاته فلما كان في آخر الصلاة سجد قبل أن يسلم ثم سلم متفق عليه ، ومثل ذلك إذا نسي أن يقول سبحان ربي الأعلى في السجود أو نسي شيئا من التكبير غير تكبيرة الإحرام.
وأما الشك فإذا شك المصلي كم صلى ثلاثا أم أربعا ولم يترجح عنده شيء فليطرح الشك وليبن على ما استيقن وهو الأقل، فليتم عليه ثم يسجد سجدتين قبل السلام، قال النبي : ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يَدِْركم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا شفعن صلاته وإن كان صلى إتماما كانتا ترغيما للشيطان)) رواه أحمد ومسلم ، وإذا شك المصلي هل صلى ثلاثا أو أربعا وترجح عنده أحد الأمرين بنى عليه وأتم الصلاة على ما ترجح عنده ثم سلم ثم سجد سجدتين بعد السلام لما في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي قال : ((إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين )).
هذه أيها المسلمون هي الأصول في سجود السهو، وقد تبين منها أن سجود السهو له موضعان: موضع قبل السلام، وموضع بعده.
فمواضع سجود السهو بعد السلام ثلاثة، الأول: إذا زاد في صلاته ، الثاني: إذا سلم قبل إتمامها وهو من الزيادة في الواقع ، الثالث: إذا شك فلم يدركم صلى وترجح عنده أحد الأمرين، وما عدا ذلك فمحله قبل السلام.
أيها الناس إن كثيرا من المصلين ينكرون سجود السهو بعد السلام ويستغربونه، وذلك لأنهم يجهلون هذا الحكم الشرعي الذي يرى بعض العلماء أن ما كان من سجود السهو قبل السلام فهو واجب قبل السلام وما كان بعده فواجب أن يكون بعده، وسبب جهلهم عدم تعلمهم لذلك وعدم العمل به من أئمة المساجد، وأئمة المساجد منهم من لا يدري بذلك ويحسب أن سجود السهو قبل السلام في كل حال، ومنهم من يدري ولكن لا يعمل يقول: أخشى من التشويش، وهذا ليس بعذر في ترك ما أمر به النبي ،بل الحق الذي يكون به براءة الذمة ونشر السنة أن يسجد بعد السلام إذا كان موضع السجود بعد السلام حتى يعرف الناس ذلك ويفهموه ويعملوا به ويزول عنهم التشويش ويكون لفاعله أجر من أحيا سنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً [النساء:26-28].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/101)
فتنة المسيح الدجال
الإيمان
أشراط الساعة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
عناية أهل السنة بمسائل الاعتقاد التي هي سبيل النجاة – وجوب الإيمان بالغيب الذي دلت
عليه النصوص – اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الساعة وأشراطها – فتنة المسيح
الدجال والأدلة عليها , والتحذير منه – علامات خروجه وصفاته وفتنته – موقف الماديين
والعلمانيين من قضايا الساعة والغيب – موقف أهل العلم والسلف من أحاديث الدجال , وسبل
النجاة منه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ فاتقوا الله ما استطعتم، واسلكوا بالنفوس مسالك الاعتبار: ي?قَوْمِ إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [غافر:39].
أيها المسلمون، لقد اعتنى أهل السنة بتحقيق المسائل عالية الرتب، فكان النصيب الأكبر والحظ الأوفر لمسائل الاعتقاد التي هي سبيل النجاة في الدنيا ويوم المعاد. تنوَّعت في ذلك أساليبهم وتعددت تآليفهم. سطروها بكلامٍ رصين، وتدوين متين، قائمٍ على الأدلة الجلية من كتاب الله وسنة رسوله محمد ، في نقولٍ موفقة، وأقوال محققة.
أيها الإخوة، إن الإيمان بما صح به النقل واجب محتم، فيما شهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه صدق وحق، سواء في ذلك ما عقلناه وما لم نطلع على حقيقته ومعناه من أنباء الإسراء والمعراج، وأشراط الساعة، وأمارات القيامة، وأحوال اليوم الآخر، وأهوال يوم الحشر، وكل ذلك مما صحت به الأخبار من آي الكتاب وبينه نبينا محمد ووضحه: فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ?لسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى? لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [محمد:18]. ?قْتَرَبَتِ ?لسَّاعَةُ وَ?نشَقَّ ?لْقَمَرُ [القمر:1]. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ?لسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب:63].
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: ((لقد خطبنا النبي خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علِمَه من عَلِمَه، وجهله من جهله، إن كنتُ لأرى الشيء قد نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه فرآه يعرفه)) [1] متفق عليه واللفظ للبخاري.
وعند البخاري أيضاً تعليقاً مجزوماً به من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((قام فينا النبي مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه)) [2].
أيها الإخوة، ولما كان أمر الساعة شديداً، وهولها مزيداً، وأمرها قريباً ليس بعيداً كان الاهتمام بشأنها أكبر، وبيان النبي لها أجلى وأبين، فقد أكثر عليه الصلاة والسلام من بيان أشرطها وأماراتها وأخبر عما بين يديها من الفتن القريبة والبعيدة، ونبَّه أمته وحذرها ليتأهبوا لتلك العقبة العظيمة: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي ليلة فزعاً يقول: ((سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل الله من الفتن، من يوقظ صواحب الحجر ـ يعني زوجاته من أجل الصلاة من الليل ـ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)) [3].
أيها الأخوة، إن بين يدي الساعة فتنة مخيفة هي أعظم الفتن ليس فتنة صغيرة ولا كبيرة إلا تصغر أمامها، وما تكون فتنة حتى تقوم الساعة أكبر من فتنتها. إنها فتنة المسيح الدجال؛ (ونعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال).
لقد تواترت الأخبار، وتكاثرت الأحاديث عن نبيكم محمد في التحذير منه، وبيان أوصافه، وعظم فتنته.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إنه لم يكن نبي إلا وقد أنذر الدجال قومه إني أنذركموه إنه أعور ذو حدقة جاحظة لا تخفى)) [4].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((قام رسول الله في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال: ألا أنذركموه، ما من نبي إلا وقد أنذر قومه ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبيٌ لقومه: إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور)) [5] زاد مسلم: ((مكتوب بين عينيه كافر يقرأه من كره عمله، أو يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب)) [6].
وتكاثرت الأحاديث عن رسول الله بهذا الدعاء: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال)) [7]. متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
إن فتنته لعظيمة حتى قال عليه الصلاة والسلام: ((من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتَّبعه مما يبعث معه من الشبهات)) [8].
أيها الإخوة الأحبة: ومن المخيف وعظيم الفتنة أنه يخرج في خفةٍ من الدين، وإدبارٍ من العلم، واختلافٍ بين الناس وفرقة.
وإن لقرب وقته وإبَّان خروجه علاماتٍ وأسباباً وهناتٍ يتلو بعضهن بعضاً حذو النعل بالنعل؛ من التهاون بالصلوات وإضاعة الأمانات، وفتن يكون فيها الظلم فخراً، ويكثر الفجرة والخونة، والظلمة والفسقة، ويفشو الزنا، ويظهر الربا، وتقطَّع الأرحام، وتتخذ القينات ـ أي المغنيات ـ وتشرب الخمور، وتنقضُ العهود، ويأكل الناس الرشوة، ويستخفون بالدماء، ويتطاول السفهاء، وتتَّجر المرأة مع زوجها حرصاً على الدنيا، ويشبه النساء الرجال ويشبه الرجال النساء، ويلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، وتكون القلوب أمر من الصبر، والألسنة أحلى من العسل، والسرائر أنتن من الجيف، ويلتمس الفقه لغير الدين، وتنقض عرى الإسلام عروةً عروةً، وتكون الدنيا بيد لُكع بن لُكع وهو الأحمق اللئيم. وترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ويتقلبون في أعطاف النعيم. وإن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بموت العلماء، ثم تبقى مقاماتهم فارغةً لا يملؤها إلا من دونهم، ولا يخلفهم إلا من لا يصلح أن يكون تلميذاً من تلاميذهم، يتقارب الزمان، ويلقى الشح، ويكثر الهرج وهو القتل. يتطاولون على الطعن في الإسلام والتشكيك في الدين. ومن أعظم الفتن أنه لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر، هكذا ورد الخبر مرفوعاً [9].
في هذه الأجواء المدلهمة يبعث الله عليهم الدجال فيسلط عليهم حتى ينتقم منهم، وينحاز المؤمنون إلى بيت المقدس.
الدجال منبعُ الكفر والضلال، وينبوع الفتن والأوجال، أنذرت به الأنبياء أقوامها، وحذرت منه الرسل أممها، ونعتته بالنعوت الظاهرة، ووصفته بالأوصاف البينة، وحذَّر منه نبينا المصطفي، وذكر له نعوتاً وأوصافاً لا تخفى.
واسمعوا إلى هذا الحديث الجامع الذي أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: ذكر رسولُ اللهِ الدجالَ ذات غداة فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رُحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ((ما شأنكم؟)) قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل. فقال: ((غير الدجال أخوفني عليكم؟ إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرؤٌ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم؛ إنه شابٌ قطط – يعني: جعد شعر الرأس – عينه طافئة، كأني أشبهه بعبد العزى بن قَطَن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه يخرج من خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً يا عباد الله فاثبتوا)). قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: ((أربعون يوماً؛ يومٌ كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيَّامكم)). قلنا: يا رسول الله؛ فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: ((لا؛ اقدروا له قدره)). قلنا: يا رسول الله؛ وما إسراعه في الأرض؟ قال: ((كالغيث استدبرته الريح. فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم [10] أطول ما كانت ذراً [11] ، وأسبغه ضروعاً، وأمدَّه خواصر [12]. ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردُّون عليه قوله، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم. ويمرُّ الخربة فيقول لها: أَخرجي كنوزك؛ فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض [13] ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك؛ فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مَهْرودَتين ـ أي ثوبين ـ واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدَّرمنه جمانٌ كاللؤلؤ، فلا يحلُّ لكافرٍ يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله. ثم يأتي عيسى بن مريم قومٌ قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة)) [14].
هذا هو الدجال ـ أيها الإخوة ـ وهذا شيء من خبره، نعوذ بالله من فتنته ومن جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن.
يقول أبو بكر بن العربي رحمه الله: الذي يظهر على يد الدجال من الآيات من إنزال المطر والخصب على من يصدِّقه، والجدب على من يكذِّبه، واتباع كنوز الأرض له، وما معه من جنة ونار ومياه وأنهار، يجري كل ذلك محنةً من الله واختباراً ليهلك المرتاب وينجو المتيقن، وذلك كله أمرٌ مخوفٌ ولهذا قال : ((لا فتنة أعظم من فتنة الدجال)) [15] ، وكان يستعيذ منها في صلاته تشريعاً لأمته أ.هـ [16].
أيها الإخوة: كل ذلك من أنباء الغيب نؤمن به لِما قام عليه من الدليل والبرهان، ولو غاب عن شواهدنا وقَصُرت عنه حواسُّنا، ولكنه حاضرٌ بأدلته القطعية وبراهينه العلمية.
وإنكم لتعلمون أن الماديين من أهل هذا العصر والعلمانيين هم من أشدِّ الناس تجاهلاً للساعة وأشراطها، وأكثر الناس صدوداً عنها، وما كانوا في مراكز التوجيه والإعلام والتربية في كثير من الأقطار إلا دعاة لعبادة الجسد وعبادة الدنيا ما يذكرون الله ربهم في جليلٍ ولا خطيرٍ، ولا يُذكِّرون بلقائه لا في ليل ولا في نهار. لقد تواطأ على ذلك ملاحدة الشرق والغرب شيوعيوهم وزنادقتهم، إنهم لم يرفعوا أيديهم إلى السماء قط. لقد ولَّوا وجوههم عن الآخرة؛ في قلوبٍ فارغةٍ، وعقائد خربةٍ. عصرٌ ماديٌ طافحٌ بالرغبات الجامحة والغرائز المدللة.
ومن العجب أيها الإخوة: أن أكثر أتباعه اليهود. والمتأمل في حياتهم قديماً وحديثاً يجدهم قد رتبوا معايشهم على أن الدنيا حق، والآخرة وهم، ولقد توجه إليهم كتابنا بهذا التحدي: قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ عِندَ ?للَّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ ?لنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ?لْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَـ?دِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ بِ?لظَّـ?لِمينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ?لنَّاسِ عَلَى? حَيَو?ةٍ [البقرة:94-96].
وما النزعات المادية النزقة التي تسود الحضارة المعاصرة إلا صدىً لتغلغل اليهود فيها. إنه أثرٌ بيِّنٌ في إخلادهم إلى الأرض وفي صياغة تفكيرهم الماديِّ، فالدنيا هي جنتهم وهي نارهم.
إن التقدم المادي الكبير الذي أحرزه أهل هذا العصر في مضمار العلوم التجريبية زعزع عندهم كثيراً من العقائد الإيمانية والمعتقدات الغيبية.
لكن لماذا ينكرون هذه الأشراط والعلامات والأمارات؟ وفي علوم العصر ومعارفه ومكتشفاته ومخترعاته ومواصلاته واتصالاته ما يجعل هذه الأشياء جديرةً بالتصديق، ممكنة الوقوع، معقولة التصور مما لم يدركه السابقون أو يعرفه المتقدمون.
وما العجب وقد رأى أهل هذا العصر ما قرَّب البعيد وطوى المسافات وقارب الزمن، بل إن هناك آيات في الأنفس من أمراض لم تكن معروفة فيمن سبق وكثرة موت الفجأة، والحوادث والحروب والفتن والصراع على موارد المياه وما يسمُّونه بالسلع الاستراتيجية والموارد الطبيعية.
ألم يكن في الأشراط والأمارات والمتغيرات المتسارعات ما يذكِّر أهل الغفلة ويزيد في بصر أولي البصائر والأبصار؟؟ لعلهم أن ينتهوا من الذنوب، وتلين منهم قاسيات القلوب، ويغتنموا المهلة قبل الوهلة.
ولكن ما أشد جحود الجاحدين؟؟ وما أعظم إنكار المنكرين؟؟ ينعمون بفضل الله وَجودِه وينكرون عبوديته وَجودَه: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].
وبعد أيها الإخوة، فإن أهل العلم والإيمان يؤمنون بما جاء من عند ربهم وأخبر به نبيهم، تطمئن به قلوبهم، وتنشرح به صدورهم، سواء أدركته عقولهم أو لم تدركه: يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ?لالْبَـ?بِ [آل عمران:7].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءايَـ?تِ رَبّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَـ?تِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـ?نِهَا خَيْرًا قُلِ ?نتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام:158].
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب القدر – باب وكان أمر الله قدراً مقدوراً)، حديث (6604)، صحيح مسلم: كتاب الفتن – باب إخبار النبي فيما يكون إلى قيام الساعة، حديث (2891).
[2] صحيح، أخرجه البخاري تعليقاً في كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في قول الله تعالى: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده... ، تحت الحديث (3192). وقد وصله الطبراني كما ذكر الحافظ في الفتح (6/290) من حديث عمران بن حصن. وأخرجه أيضاً مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب إخبار النبي فيما يكون إلى قيام الساعة، حديث (2891) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجمعة – باب تحريض النبي على قيام الليل... حديث (1126).
[4] ضعيف، أخرجه أبو يعلى (1074)، قال الهيثمي: هو في الصحيح باختصار،رواه أبو يعلى والبزار، وفيه الحجاج بن أرطأة وهو مدلس، وعطية ضعيف وقد وُثّق مجمع الزوائد (7/337). قلت: لم أجده في المطبوع من مسند البزار. وانظر صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، حديث (3057).
[5] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، حديث (3057)، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه ، حديث (3337)، ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفة ما معه، حديث (2933).
[6] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة- باب ذكر الدجال وصفة ما معه، حديث (2934).
[7] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأذان – باب الدعاء قبل السلام، حديث (833)، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب ما يُستعاذ منه في الصلاة، حديث (588).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (4/431)، وأبو داود: كتاب الملاحم – باب خروج الدجال، حديث (4319)، والطبراني في المعجم الكبير (18/220) من حديث عمران بن حصين. وصححه الحاكم (4/531)، وصحح إسناد أبي داود الألباني. مشكاة المصابيح (5488).
[9] إسناده ضعيف، أخرجه أحمد (4/71)، وابن أبي عاصم في (الآحاد والمثاني) (907)، والطبراني في مسند الشاميين (992) من حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه.
[10] سارحتهم: السارحة هي الماشية التي تسرح، أي تذهب أول النهار إلى المرعى.
[11] ذرا: الذُري الأعالي والأسنمة، جمع ذُروة بالضم والكسر.
[12] أسبغه ضروعاً وأمده خواصر: أسبغه أي أطوله لكثرة اللبن، وكذا أمده خواصر: لكثرة امتلاءها من الشبع.
[13] رمية الغرض: أي يجعل بين الجزلتين مقدار رمية.
[14] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب ذكر الدجال وصفته... حديث (2937).
[15] ضعيف، أخرجه ابن ماجه: كتاب الفتن – باب فتنة الدجال وخروج عيسى.. حديث (4077)، وابن أبي عاصم في السنة (391)، والحاكم (1/24). وفي إسناده عمر بن عبد الله الحضرمي، لم يوثقه غير ابن حبان. انظر الثقات (5/179)، وانظر ضعيف ابن ماجه للألباني (884)، والسنة لابن أبي عاصم بتعليق الألباني. رقم (391)، ومشكاة المصابيح (6044).
[16] تقدم تخريجه، حاشية رقم (7).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى. أحمده سبحانه وأشكره له الحمد في الآخرة والأولى. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ذو الشرف الأسنى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد أيها المسلمون، لقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يداومون على تعليم تلك الأخبار والأحاديث، يذكِّرون بها الناس لما لها من الأثر الكبير في إصلاح الأعمال وحياة القلوب، وإن التقصير في العلم بها والاطلاع عليها يورث الغفلة، ويوقع في سوء العمل. ومن ثم تنسى تلك الحقائق على طول الزمن. بل لقد كان السلف رحمهم الله يعلمونها أولادهم في المدارس والكتاتيب؛ يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله يعلمنا هذا الدعاء كما يعلمنا السورة من القرآن. يقول: ((قولوا اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)) [1]. قال مسلم بن الحجاج: بلغني أن طاووساً وهو راوي هذا الحديث عن ابن عباس قال لابنه: دعوت بها في صلاتِك؟ فقال: لا. قال: أعد صلاتك. قالوا: وإنما أمر طاووس ابنه بإعادة الصلاة لأنه يرى وجوب الدعاء في الصلاة بهذه الدعوات الأربع. ولهذا جزم الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله في المحلى بفرضية قراءة هذا التعوذ بعد الفراغ من التشهد [2].
والإمام السفاريني رحمه الله يقول: ينبغي لكل عالم أن يبثَّ أحاديث الدجال بين الأولاد والنساء والرجال؛ قال: ولا سيما في هذا الزمان الذي اشرأبت فيه الفتن، وكثرت فيه المحن، واندرست فيه معالم السنن، وصارت السنن فيه كالبدع والبدعة شرعة تتبع [3].
واعلموا أن نبيكم عليه الصلاة والسلام قال: ((من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عُصم من الدجال)) [4]. وفي رواية أخرى: ((من أدركه فليقرأ فواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته)) [5].
ثم بادروا رحمكم الله بالأعمال الصالحة كما أرشد إلى ذلك نبيكم محمد : ((فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائبٍ ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر)) [6].
وقانا الله وإياكم فتنته وسائر الفتن.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب ما يستعاذ منه في الصلاة، حديث (590).
[2] انظر: المحلى لابن حزم (3/271).
[3] انظر: لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/106-107).
[4] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب فضل سورة الكهف... حديث (809).
[5] صحيح، أخرجه أبو داود: كتاب الملاحم – باب خروج الدجال، حديث (4321) واللفظ له، وأخرجه مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب ذكر الدجال وصفته وما معه، حديث (2937) دون قوله: ((فإنها جواركم من فتنته)). وانظر صحيح أبي داود للألباني (3631).
[6] ضعيف، أخرجه الترمذي: كتاب الزهد – باب ما جاء في المبادرة بالعمل، حديث (2306)، والعقيلي في الضعفاء (4/230) ترجمة (1822)، وفي إسناده محرز ويقال: محرر بن هارون. قال فيه البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير للبخاري (8/22) رقم [2012]. وأخرجه أيضاً الحاكم (4/320)، وفيه علة خفية. وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (1666).
(1/102)
صلاة الكسوف
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب التفكر في خلق الله وآياته ودلالتها على قدرة الله ورحمته-
الشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على قدرته وحكمته ورحمته-
حكمة الله في الكسوف-
صفة صلاة الكسوف ، والسنة عند حدوثه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتفكروا في آياته وما يخلقه في السماوات والأرض فإن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، تفكروا في هذه السماوات السبع الشداد التي رفعها الله بقوته وأمسكها بقدرته ورحمته أن تقع على العباد، تفكروا كيف أحَكَمَ الله بناءها فما لها من فروج ولا فطور، وكيف زينها الله بالمصابيح التي عمتها بالجمال والنور، وكيف جعل فيها سراجا وقمرا منيرا، ثم تفكروا كيف كانت هذه المصابيح والسراج والقمر تسير بإذن الله في فلكها الذي وضعها الله فيه منذ خلقها الله حتى يأذن بخرابها لا تنقص عن سيرها ولا تزيد ولا ترتفع عنه ولا تنزل ولا تحيد فسبحان من سيرها بقدرته وربت نظامها بحكمته وهو القوي العزيز.
عباد الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال قدرته وكمال حكمته ورحمته فإذا نظرت إلى عظمتهما وانتظام سيرهما عرفت بذلك كمال قدرة الله، وإذا نظرت إلى ما في اختلاف سيرهما من المصالح والمنافع تبين لك كمال حكمة الله ورحمته.
ألا وإن من حكمة الله في سيرهما ما يحدث فيهما من الكسوف وهو ذهاب ضوءهما كله أو بعضه فإن هذا الكسوف يحدث بأمر الله، يخوف الله به عباده ليتوبوا إليه ويستغفروه ويعبدوه ويعظموه وقد كسفت الشمس في عهد النبي فخرج فزعا يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس فتقدم النبي وصلى ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان، ثم كبر ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة نحو سورة البقرة حتى جعل أصحابه يخرون من طول القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى ثم ركع ركوعا طويلا دون الأول، ثم قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد وأطال القيام ثم سجد فأطال السجود، ثم جلس بين السجدتين وأطال، ثم سجد فأطال، ثم قام إلى الركعة الثانية فأطال القيام وهو دون القيام في الركعة الأولى، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع في الركعة الأولى، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قرأ فأطال القراءة وهي دون الأولى، ثم ركع الركوع الثاني فأطال وهو دون الركوع الأول، ثم سجد سجدتين ثم سلم وقد انجلت الشمس، وسُمع في سجوده يقول: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟
ثم خطب الناس ووعظهم موعظة بليغة فأثنى على الله بما هو أهل له سبحانه وتعالى ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، فافزعوا إلى المساجد، فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره)) وفي رواية: ((فادعوا وتصدقوا وصلوا)) ثم قال: ((يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وقال: ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، وأوُحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم قريبا أو مثل فتنة الدجال، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر وقال: لقد جيء بالنار يحطم بعضها بعضا وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، حتى رأيت فيها عمروا بن لحي يجر أقصابه أي أمعاءه في النار ورأيت صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا، قال: ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل)).
فيا أمة محمد إن كسوف الشمس أو القمر لحدث عظيم مخيف وأكبر دليل على ذلك ما حصل لرسول الله عند كسوف الشمس من الفزع والصلاة، وما حصل له فيها من أحوال ثم تلك الخطبة البليغة التي خطبها فعلينا أن نفزع لحدوث الكسوف وأن نلجأ إلى مساجد الله للصلاة والدعاء والاستغفار وأن نتصدق لندفع البلاء، وقد أمر النبي بالإعتاق في كسوف الشمس لأن عتق الرقبة فكاك للمعتق من النار، فأسباب البلاء والانتقام عند حدوث الكسوف قد انعقدت والفزع إلى الصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق يدفع تلك الأسباب.
أيها المسلمون: فإذا حصل الكسوف في أي وقت وفي أية ساعة من ليل أو نهار فافزعوا إلى الصلاة لأن النبي أمر بذلك ولم يستثن وقتا من الأوقات، ولأنها صلاة فزع ومدافعة بلاء وتصلى في أي وقت حصل ذلك وليس عنها نهي فتصلى بعد العصر وبعد الفجر وعند طلوع الشمس وكل وقت.
واعلموا أن السنة أن تصلى جماعة في المساجد كما صلاها النبي e وصلى خلفه الرجال والنساء فإن صلاها الإنسان وحده فلا بأس بذلك ولكن الجماعة أفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون [فصلت:37].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/103)
التحذير من بعض الألبسة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, المرأة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
قوله تعالى : ( قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ) والأمر بتقوى الله في النساء وتأديبهن-
قوامة الرجل على المرأة ولوازمها ، وضرورة تفقد حال الأهل-
خطورة خروج النساء إلى الأسواق مع تبرجهن -
مسؤولية الرجل عن أهل بيته وسؤاله عن ذلك-
من صفات نساء أهل النار أنهن عليهن كسوة لا تستر (كاسيات عاريات)-
خطورة الألبسة القصيرة على المرأة ، وكذلك التساهل في لباس البنات الصغار-
وجوب القضاء على هذه الألبسة ودور الرجال في ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها
ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6].
واتقوا الله في النساء، أدوا حقوقهن، قوموا بواجبهن، أدبوهن تأديبا شرعيا يكفل لهن مصالح الدنيا والآخرة، وجهوهن إلى سلوك ما كان عليه السلف الصالح من لزوم الشيمة والحياء فإن الحياء شعبة من الإيمان ومن لم يستح فليصنع ما يشاء.
أيها الرجال: لقد جعلكم الله قوامين على النساء فقوموا بهذه الوظيفة دبروا شؤونهن وأدبوهن ولا يكن أحدكم بين أهله كالمفقود لا يأمرهم بالخير والرشاد ولا ينهاهم عن الشر والفساد، فإن ذلك مفسدة من وجهين، أحدهما: إهدار كرامته وإبطال رجولته بين أهله، والثاني: إضاعة ما أوجب الله عليه من القيام عليهم فإن الله تعالى لم يجعله قواما على النساء إلا سيسأله عن هذه المسؤولية التي حمله إياها.
أيها الناس: لو أن راعي غنم أهملها ولم يسلك بها مواضع الخصب ألستم تعدونه مفرطا؟ ولو أن راعي غنم سلك بها أودية مهلكة ورعاها في مراعي ضارة ألستم تعدونه ظالما معتديا؟
إذن فلماذا يرضى أحدكم يا رجال أن يرى أهله مقصرين فيما وجب عليهم أو منهمكين فيما حرم الله عليهم، ثم لا يأمرهم بالواجب ولا ينهاهم عن المحَّرم مع أنه هو راعيهم الذي استرعاه عليهم نبيه وهو القائم عليهم بما فضله الله به عليهم.
أيها الناس: أيها الرعاة على أهليهم: إن في عوائلنا مشاكل عديدة يؤسفنا أن توجد فيهم ثم لا نجد تعاونا جديا لحلها، وإنما هو كلام في المجالس، وتلوم وتضجر لا عمل معه حتى نفس المتلومين المتضجرين تجدهم ينظرون إلى أهلهم واقعين في شيء من هذه المشاكل والله أعلم بما كانوا عاملين، هل حاولوا حلها أو كانوا عنها معرضين.
وإن من المشاكل لدينا وأعظمها خطرا ما وقع فيه بعض النساء من الخروج إلى الأسواق ومكان البيع والشراء متطيبات متبرجات يخرجن أيديا محلاة بالذهب، ويلبسن ثيابا قصيرة تنكشف بأدنى سبب، وربما وقفن على صاحب الدكان وضحكن معه، وهذا من أعظم الفتنة والشر.
وليس هذا أيها المسلمون واقعا في نساء كبيرات السن فقط بل من شواب لا يبلغن العشرين من العمر، وهذا أمر عجيب.
لقد كانت الشواب عندنا منذ زمن قريب لا يحدثن أنفسهن بالخروج إلى الأسواق أبدا، وإذا احتجن إلى الخروج لم يخرجن إلا في أطرف النهار في غاية من التحفظ والتستر ثم انقلبت الحال إلى ما ترى بهذه السرعة كأنما نقفز إلى التبرج والسفور قفزا، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون :لقد ثبت عن النبي أنه قال: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)).
هذه صفات نساء أهل النار كاسيات عاريات أي عليهن كسوة لا تفيد ولا تستر إما لقصرها أو خفتها أو ضيقها، مائلات مميلات مائلات عن الحق وعن الصراط المستقيم مميلات لغيرهن، وذلك بسبب ما يفعلنه من الملابس والهيئات الفاتنة التي ضلت بها بنفسها وأضلت غيرها.
أيها المؤمنون بالله ورسوله: أيها المصدقون بما أخبر به محمد أيها القابلون لنصيحته: لقد أخبركم الناصح الأمين بصفة لباس أهل النار من النساء لأجل أن تحذروا من هذا اللباس وتمنعوا منه نساءكم، فهل تجدون أحدا من المخلوقين أنصح لكم من رسول الله ؟ هل تجدون هديًا أكمل من هديه؟ هل تجدون طريقا لإصلاح المجتمع ومحاربة ما يهدم دينه وشرفه أتم من طريقه وأحسن؟
كلا والله لا تجدون ذلك أبدا، وإن كل مؤمن بالله ورسوله ليعلم أنه لا أحد أتم نصحا ولا أكمل هديا ولا أحسن طريقا من محمد ، ولكن الغفلة والتقليد الأعمى أوجبا أن نقع فيما وقعنا فيه.
أيها الناس: إن هذه الألبسة القصيرة التي تلبسها بناتكم فتقرونهن عليها وربما ألبستموهن إياها أنتم، ليست والله خيرا لهن، بل هي شر لهن، تُذهب الحياء عنهن وتجلب إليهن الفتنة، وتوجب هجر اللباس الشرعي الساتر لباس الحشمة والحياء والسلف الصالح.
إننا نشاهد بنات في الثامنة من العمر أو أكثر عليهن شلحة أو كرته تبلغ نصف الفخذ فقط وعليها سراويل لا أفخاذ له، إنك لترى القريب من السوأة خصوصا إذا كانت الشلحة مقمطة من فوق فإنها ترتفع أطرافها من أسفل فيبين من العورة.
يا إخواني ما الفائدة من هذا اللباس للمجتمع هل فيه تهذيب لأخلاقه أو تتميم لإيمانه أو إصلاح لعمله أو تقدم ورقي لشأنه أو صحة لبدن لابسه؟
كلا ففيه المفاسد وزوال الحياء واعتياد هذا اللباس عند الكبر كما هو مشاهد، فإن هذا اللباس لم يقتصر شره على الصغار جدا من البنات بل سرى إلى شابات في سن الزواج كما تراه أحيانا إذا كشفت الريح عباءتها.
أيها المسلمون: إن الواجب الديني والخلقي يحتم علينا القضاء على هذه الألبسة والتناهي عنها وأن نحفظ نساءنا عن التبرج وأن نكون قوامين عليهن كما جعلنا الله كذلك نقوم عليهن ونلزمهن بما يجب ونمنعهن ما يحرم، وإذا أمكن أن نأتي إليهن بما يحتجن من السوق أتينا به فإن لم يمكن فلتأت به أعقلهن وأبعدهن من الفتنة.
إن الواجب علينا أن نتناصح ونتعاون. ينصح القريب قريبه والجار جاره، فإن لم نفعل هلكنا جميعاً ووصل الشر إلى من لا يريده.
أيها المسلمون: إن هذه الألبسة لا تنكر لأنها غريبة وجديدة من نوعها فليس كل جديد ينكر إلا إذا تبين ضرره ومخالفته لما يجب السير عليه، ولقد شاهدتم بأنفسكم وسمعتم من غيركم ما يترتب عليها من أضرار، فلذلك أنكرناها وحذرنا عنها.
أسأل الله تعالى أن يعيننا جميعا على الخير وأن يمنعنا من الشر وأن يرزقنا العافية في الدنيا والآخرة وأن يجعلنا ممن قال فيهم: فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب [الزمر:17-18].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/104)
الزكاة وأحكامها وأنواعها
فقه
الزكاة والصدقة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب الزكاة وكفر من جحد ذلك ، وحكم منعها بخلاً-
الترهيب من منع الزكاة-
نصاب الذهب والفضة ، وحكم زكاة حلي المرأة وأدلة القائلين بالوجوب:
1- عموم الأدلة. 2- الأدلة الخاصة في إيجاب الزكاة فيه. 3- عدم المعارض الصحيح لها.
حكم العقارات المعدة للسكن-
وجوب إخراج الزكاة في مصارفها الشرعية لإبراء الذمة-
تعريف الفقراء والمساكين ، وحكم شراء شيء مما يحتاجه الفقراء ونفعه لهم بدلاً من إعطائهم
المال خوف تضيعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأدوا زكاة أموالكم، فإن الزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله، من جحد وجوبها كفر، ومن منعها بخلا وتهاونا فسق، ومن أداها معتقدا وجوبها راجيا ثوابها فليبشر بالخير الكثير والخلف العاجل والبركة، قال الله تعالى وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين [سبأ:39]. وقال مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [البقرة].
أيها المسلمون: أدوا الزكاة قبل أن تفقدوا المال مرتحلين عنه أو مرتحلا عنكم، فإنما أنتم في الدنيا غرباء مسافرون والمال وديعة بين أيديكم لا تدرون متى تعدمون، أدوا زكاة أموالكم قبل أن يأتي اليوم الذي يحمى عليه في نار جهنم فتكوى به الجباه والجُنُوب والظهور قبل أن يمثل لصاحبه شجاعا أقرع فيأخذ بشدقيه ويقول: أنا مالك أنا كنزك.
أيها المسلمون: لقد جاءت النصوص عامة مطلقة في وجوب الزكاة في الذهب والفضة، في الذهب إذا بلغ عشرين دينارا، وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم، وهذا هو نصاب الذهب والفضة فما كان أقل منه فلا زكاة فيه، وما كان منها فأكثر ففيه ربع العشر، ففي عشرين دينارا نصف دينار، وفي مائتي درهم خمسة دراهم، وهذه الأوراق النقدية التي تتعاملون بها بدلا عن الذهب والفضة لها حكم الذهب والفضة.
أيها المسلمون: لقد اختلفت العلماء رحمهم الله في الحلي حلي المرأة من الذهب والفضة إذا كانت تلبسه أو تعيره هل تجب فيه الزكاة أو لا وقد قال الله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً [النساء:59].
وإذا رددنا ذلك النزاع إلى الكتاب والسنة وجدنا الصواب مع العلماء الذين قالوا بوجوب الزكاة فيه: -
أولا: لعموم الأدلة الموجبة للزكاة في الذهب والفضة من غير استثناء.
ثانيا: للأدلة الخاصة الصريحة في وجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي ومعها بنت لها وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال النبي : ((أتؤدين زكاة هذا؟ قالت لا قال أيسرك أن يُسَوَّرَكِ الله بهما سوارين من نار فخلعتهما فألقتهما إلى النبي وقالت: هما لله ورسوله)) هذا حديث إسناده قوي وله شواهد.
ثالثا: عدم المعارض الصحيح لهذه الأدلة، وإذا ثبت الدليل وانتفى المعارض وجب القول بما قام الدليل عليه.
أيها المسلمون: إن القول بوجوب الزكاة في حلي النساء من الذهب والفضة ليس ببدع من الأقوال، فقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة والتابعين وذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله واختاره من المتأخرين شيخنا السلفي الأثري أبو عبد الله عبد العزيز بن باز.
وعلى كل حال فإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، إذا جاءت به الأحاديث عن النبي فلا قول لأحد بعدها. فأدوا زكاة الحلي إذا بلغ نصابا ربع عشر ما يساوي عند تمام الحول.
أيها المسلمون: وإن مما تجب به الزكاة عروض التجارة وهي ما أعده الإنسان للبيع والاتجار به من حيوان وعقار وأثاث ومتاع وأوان وغير ذلك، كل شيء عندك للتجارة فهو عروض تجارة إذا حال الحول فقومَّه كم يساوي ثم أخرج ربع عشر قيمته.
ومن عروض التجارة أيضا ما يكون عند الفلاحين من الإبل والبقر والغنم التي يربونها للبيع. فأما العقارات التي أعدها الإنسان له ولا يريد بيعها وإنما يريد أن يسكنها أو يؤجرها فهذه ليس فيها زكاة، ولا زكاة فيما أعده الإنسان لبيته من الأواني والفرش ونحوها، ولا فيما أعده الفلاَّح لحاجة الفلاحة من المكائن وآلات الحرث ونحوها. وخلاصة ذلك أن كل شيء تعده لحاجتك أو للاستغلال سوى الذهب والفضة فلا زكاة فيه، وما أعددته للاتجار والتكسب ففيه الزكاة.
أما الديون التي عند الناس فلا يجب عليك إخراج زكاتها حتى تقبضها فإذا قبضتها، فإن كان الدين على مليء وجب أن تخرج عنه زكاة كل السنوات الماضية ،وإن كان على فقير لم يجب أن تخرج إلا عن سنة واحدة فقط ،وإن أخرجت زكاة الدين قبل قبضه فلا بأس.
إخواني: لا تنفع الزكاة ولا تبرأ بها الذمة حتى يخرجها على الوجه المشروع بأن يصرفها في مصارفها الشرعية في الأصناف الثمانية التي ذكر الله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم فالفقراء والمساكين هم الذين لا يجدون كفايتهم وكفاية عائلتهم فمن كان له كفاية من صنعة أو حرفة أو تجارة أو راتب أو عطاء من بيت المال أو نفقة ممن تجب عليه نفقته أو غير ذلك فإنه لا يجوز إعطاؤه من الزكاة إلا أن يكون عليه طلب لا يستطيع وفاءه فلا بأس أن تعطيه لوفاء دينه، وكما يجوز لك أن تعطي المطلوب لقضاء الطلب فيجوز لك أن تذهب أنت بنفسك إلى من له الطلب وتقول هذا عن فلان فأسقطه من دينه ولو لم تخبر المطلوب بذلك.
وهاهنا مسألتان يقع السؤال عنهما كثيرا أحدهما أن بعض الفقراء يكون أخرق، إذا أعطيته المال أفسده فهل يجوز أن أشتري له بالزكاة حاجة وأعطيها إياه؟
والجواب على هذا أن ذلك لا يجوز، لكن لك أن تقول له اشتر حاجة من السوق فإذا اشترى جاز لك أن توفي عنه من الزكاة.
المسألة الثانية أن بعض الناس يكون له عادة بأخذ الزكاة ثم يغنيه الله، فإذا أعطي الزكاة أخذها وأعطاها الفقراء وهذا حرام لا يجوز، بل إذا أغناه الله وجب عليه ردها وصاحبها إن شاء أخذها وإن شاء وكَّلَه في دفعها إلى أحد.
وفقني الله وإياكم لمعرفة الحق واتباعه ومعرفة الباطل واجتنابه وهدانا وإياكم الصراط المستقيم إنه جواد كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/105)
حافظوا على الصلاة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية المداومة على الطاعة – الحكمة من تفاضل الأيام والشهور – الصلاة والمحافظة عليها في
جميع الأحوال وأهميتها , وفضلها واهتمام الشارع بها – التحذير من ترك صلاة الجماعة -
أمرُ الأهل والأقربين بها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي خير الزاد ليوم المعاد.
أيها المسلمون، هاهو الحج قد قُوِّضت خيامه. وها هي قوافل الحجيج قد انطلقت موليةً وجوهها شطر ديارها. امتطت ما سخّر الله لها جواً وبراً وبحراً. أحسن الله منقلبنا ومنقلبهم، وبلَّغهم ديارهم سالمين غانمين مأجورين غير مأزورين.
لقد أتم الله عليهم بفضله نعمته. حجوا بيت ربهم وأتموا نُسُكَهم في أمنٍ وأمانٍ، وراحةٍ واطمئنان. فالحمد لله على ذلك كثيراً.
وماذا بعد ـ أيها الإخوة ـ من أحق بالذكر والشكر ممن والى عليه ربه نعمه وهو يتأمل ويأمل في خبر المصطفى : ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [1] ، بادرَ في تلبيته النداء، وسارع في الإجابة (لبيك اللهم لبيك).
يا هذا لقد قال ربك: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ [البقرة:200] ليس لطاعة ربك زمن محدود، وليس لتقوى الله موسمٌ مخصوص، العبادة حقٌ على العباد لله مفروض، يعمرون بها كل أوقاتهم، ويستعملون فيها كل جوارحهم، ويخلصون فيها من كل قلوبهم.
كيف سيعود الحجاج إلى ديارهم؟ وما هي عزائم الخير التي انعقدت عليها قلوبهم؟ وكيف سيكون الكف عن نوازع الشر التي تختلج في نفوس بعضهم؟؟.
كيف يكون حال مسلم لا يعرف ربه إلا في أيام معلومات أو ساعات محدودات، ثم ينتكس بعدها في رجس المعاصي ويرتكس في أوضار [2] الآثام؟؟.
أيها الأخوة، لإن تفاضلت بعض الأيام والشهور، وتضاعفت في بعض المواسم الأجور، فما ذلك إلا من اجل مزيد العمل وتنشيط الهمم، ليزداد فيها حب الطاعة ويستيقظ فيها أهل الغفلة.
ومن أجل محاسبة دقيقة ومعالجة لأحوال النفس صادقة. واختبارٍ للعمل بيِّنٍ، فهذه وقفةٌ مع فريضة من فرائض الله ليست مرتبطة بموسم، ولا موقوفة على مناسبة، فريضة ليست في العمر مرة ولا في العام مرة، بل ولا في اليوم مرة ولكنها في اليوم والليلة خمس مرات.
مفروضة على كل مسلم مكلف الغني والفقير، والصحيح والمريض، والذكر والأنثى، والمسافر والمقيم في الأمن والخوف لا يستثنى منها مسلم مكلف ما عدا الحائض والنفساء.
إنها قرة عيون المؤمنين، ومعراج المتقين، بل إنها قبل ذلك قرة عين سيد المرسلين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
إنها الصلاة يا عباد الله. الصلاة الصلاة. أيها المسلمون!! ركن الدين وعموده، ((لا دين لمن لا صلاة له)) [3] ، ((ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة)) [4] ، ((وليس بين الرجل والكفر والشرك إلا ترك الصلاة)) [5] ، ((ومن ترك صلاة مكتوبة متعمداً برئت منه ذمة الله)) [6].
وكان أصحاب رسول الله (لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) [7] هذه كلها أخبار وزواجر وآثار صحت عن نبيكم عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام.
من أراد أن يحاسب نفسه صادقاً فليتفقد نفسه في صلاته وصلته مع ربه. ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، إنها آخر ما يفقد العبد من دينه فليس بعد ضياعها والتفريط فيها إسلام. ومن أجل هذا فإنها أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة فإن قبلت قبل سائر العمل، وإن ردت رد سائر العمل.
الصلاة ـ حفظك الله ـ أول ما فرض على نبيك محمد من الأحكام. فرضت في أشرف مقام وأرفع مكان، لما أراد الله أن يتم نعمته على عبده ورسوله محمد ، ويظهر فضله عليه أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله، ثم رفعه إليه وقربه فأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى. أعطاه من الخير حتى رضي، ثم فرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس.
هي أول ما فرض وهي آخر ما أوصى به النبي أمته وهو على فراش الموت منادياً: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) [8].
أيها المحاسب نفسه: الصلاة لم يُرخص في تركها لا في مرضٍ ولا في خوف، بل إنها لا تسقط حتى في أحرج الظروف وأشد المواقف في حالات الفزع والقتال والمسايفة والمنازلة: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [البقرة:238، 239]. الله أكبر رجالاً أو ركباناً، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها تومئون إيماءاً قدر الطاقة.
أما المريض فليصلِّ قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنبه، وإذا عجز عن شروطها من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة صلى بلا طهارة وبلا ستر عورة وإلى غير قبلة، فالصلاة ـ رعاك الله ـ لا تسقط بحالٍ ما دام العقل موجوداً.
الصلاة ـ أيها المحاسب نفسه ـ أكثر الفرائض ذكراً في القرآن، وإذا ذكرت مع سائر الفرائض قدمت عليها لا يقبل الله من تاركها صوماً ولا حجاً، ولا صدقةً، ولا جهاداً، ولا أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر، ولا أي عملٍ من الأعمال حتى يؤديها. هي فواتح الخير وخواتمه.
مفروضة في اليوم والليلة خمس مرات، يفتتح المسلم بالصلاة نهاره، ويختم بها يومه، يفتتحها بتكبير الله، ويختمها بالتسليم على عباد الله. بها افتتحت صفات المؤمنين المفلحين، وبها خُتمت: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، ثم قال في آخر صفاتهم: وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:9-11].
هذه هي الصلاة ـ يا عبد الله ـ وإنها لكذلك وأكثر من ذلك، ولماذا لا تكون كذلك؟ وهي الصلة بين العبد وربه، لذة ومناجاة تتقاصر دونها جميع الملذات، نورٌ في الوجه والقلب، وصلاحٌ للبدن والروح، تطهر القلوب، وتكفر السيئات، وتنهى عن الفحشاء والمنكر. مصدر القوة ومطردة الكسل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:153].
جالبة الرزق والبركة: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132].
خشوع وتعبد يمسح آثار الغفلة والتبلد، ونورٌ وهدايةٌ يحفظ ـ بإذن الله ـ من سبل الضلالة والغواية.
أيها المحاسب نفسه، يجتمع للمصلي شرف المناجاة وشرف العبادة وشرف البقعة في المسجد، لا يقعده عن الصلاة ظلمة ليل ولا وعورة طريق ولا صوارف دنيا: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) [9].
قد من الله عليهم فأقاموا الصلاة تكبيراً وتسبيحاً وذكراً وقرآناً في قيامٍ قانتٍ، وركوعٍ خاشعٍ، وتشهدٍ موحَّدٍ، سجود ومناجاة يتطلع معها إلى منزلة القرب من الله العلي الأعلى: وَ?سْجُدْ وَ?قْتَرِب [العلق:19].
الصلاة هي المَفْزَع إذا حزب الأمر، وهي الملجأ إذا مسَّ اللغوب؛ ((أرحنا بها يا بلال)) [10]. امتلأت أرجاء المصلى بالهيبة، وسطعت جوانحه بنور الإيمان، وخالطت بشاشة الإيمان قلبه، يتدبر في صلاته قرآنه، ويرفع إلى مولاه دعاءه، ويخشع لربه في مناجاته، اجتمع همه على الله، وقرَّت عينه بربه. فقربه وأدناه.
مؤمنون مفلحون، في صلاتهم خاشعون، إذا قاموا إلى الصلاة أقبلوا على ربهم، وخفضوا أبصارهم، ونظروا في مواضع سجودهم، قد علموا أن الله قبل وجوههم، فهم إلى غير ربهم لا يلتفتون، لقد دخلوا على رب الأرباب وملك الأملاك، كل خير عنده، وكل أمر بيده، إذا أعطى لم يمنع عطاءه أحد، وإذا منع لم يعط بعده أحدٌ.
أيها المحاسب نفسه، هذا حال أهل الفلاح حين يناديهم منادي الصلاة والفلاح.
أين هؤلاء من مصلٍ لاهٍ لا يدري أخمساً صلى أم أربعاً؟؟ تسلَّط عليه الشيطان، وعششت في رأسه الصوارف ينتقل من وادٍ إلى وادٍ، ومن همٍّ إلى همٍّ، يقوم إلى صلاته ـ إن قام ـ وقلبه بغير الله متعلق، وفكره بسواه مشغول، يحرك لسانه ما لا يعي قلبه.
ويلٌ لهم عن صلاتهم ساهون، ويلٌ لهم يراءون ويمنعون الماعون، تحولت الصلاة عندهم إلى عادة، قلَّ عندهم فيها الاكتراث، وابتعدوا فيها عن التفقه والتفقد.
فيا لطول حسرة من ضيع صلاته، ويله ماذا ضيع؟ لقد ضيع ركن دينه، ويحه ما أعظم خيبته، وما أشد غفلته، حُرِمَ قرة العين، وراحة البال، وبرد اليقين.
أما سمع الزواجر؟؟ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ [المدثر:42-43].
يسمع منادي الصلاة والفلاح ثم يدبر ويتولى وكأنه المعنيُّ بقوله تبارك وتعالى: فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى? وَلَـ?كِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى? ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى? أَهْلِهِ يَتَمَطَّى? أَوْلَى? لَكَ فَأَوْلَى? ثُمَّ أَوْلَى? لَكَ فَأَوْلَى? [القيامة:31-35]. وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ?رْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ [المرسلات:48-49].
أيها المحاسب نفسه، قد علمت أن التكاسل والتهاون وقلَّة الذكر والفكر صفاتُ المنافقين: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فلا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة ومن ضيع صلاته فهو لما سواها أضيع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة:45، 46].
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الحج – باب فضل الحج المبرور، حديث (1521)، ومسلم: كتاب الحج – باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، حديث (1350).
[2] الأوضار: الأدران والأوساخ.
[3] حسن موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) رقم (936، 937)، وحسنه الألباني، صحيح الترغيب (574).
[4] إسناده صحيح من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الطهارة – باب العمل فيمن غلبه الدم... حديث (84).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الإيمان – باب بيان إطلاق اسم الكفر... حديث (82).
[6] حسن، أخرجه أحمد (5/238)، وابن أبي شيبة في الإيمان (بتحقيق الألباني) رقم (50)، قال المنذري: لا بأس بإسناده في المتابعات. الترغيب (1/215). وحسنه الألباني بغيره، إرواء الغليل (2026)، صحيح الترغيب (567، 569، 570، 571).
[7] صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب الإيمان – باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث (2622)، والحاكم (1/7) وصححه، وقال الذهبي: إسناده صالح. وأخرجه المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) رقم (948) بإسناد حسن كما في صحيح الترغيب للألباني (565).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (1/78)، (3/117)، (6/290)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في حق المملوك، حديث (5156)، وابن ماجه: كتاب ما جاء في الجنائز – باب ما جاء في ذكر مرض النبي ، حديث (1625)، وذكره الضياء في المختارة (2155، 2420-2425). وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: إسناد صحيح على شرط الشيخين (2/55). وصححه الألباني في إرواء الغليل (2178).
[9] صحيح، أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة – باب ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلام، حديث (561)، والترمذي: كتاب الصلاة – باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة، حديث (223)، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، مرفوع هو صحيح مسند، وموقوف إلى أصحاب النبي ولم يُسند إلى النبي. وأخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب المساجد والجماعات – باب المشي إلى الصلاة، حديث (781)، وصححه ابن خزيمة (1498)، والحاكم (1/212)، وذكره الضياء في المختارة (1713، 1714)، وقال المنذري: رجال إسناده ثقات، الترغيب (1/133) قال الهيثمي: فيه عبد الحكم بن عبد الله، وهو ضعيف، مجمع الزوائد (2/30)، وضعفه البوصيري في الزوائد (1/100)، وذكره الحافظ في الفتح (1/558)، وصححه الألباني بشواهده، صحيح الترغيب (315، 316، 425)، مشكاة المصابيح (721، 722).
[10] صحيح، أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في صلاة العتمة، حديث (4985)، والطبراني في المعجم الكبير (6/276). وصححه الألباني. صحيح أبي داود (4171)، مشقاة المصابيح (1253).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأتوب إليه وأستغفره يغفر كبائر الإثم وصغائره. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، جمَّل الله خَلْقه وخُلُقه، وجمع به القلوب المتنافرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، هم النجوم السائرة والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد أيها المسلمون: للصلاة في الدين المنزلة العلية، والرتبة السنية، فهي عمود الإسلام، وركن الملة، من أدى حقها، وأتم ركوعها وسجودها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي ربه بقلبه وقالبه كانت قرة عينه وحلاوة قلبه وانشراح صدره. قد حفظها وحافظ عليها.
وفي حديث آخر: ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة)) [1].
ومن المحافظة عليها إتمام أركانها وشروطها وواجباتها وسننها، والطمأنينة فيها، واجتناب مسابقة الإمام أو مقارنته في أفعالها.
يقول ابن مسعود وسلمان رضي الله عنهما: (الصلاة مكيال، فمن أوفى استوفى، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين).
وإن من المحافظة عليها أمرَ الأهل بها والأقربين وبخاصة من تحت يده من البنين والبنات، والأخذ على يد المفرط منهم: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132].
حتى الصبي الذي لم يبلغ له فيها حق وعلى ولي أمره فيها تكليف: ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)) [2].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واستقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن [3] ، و((أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها)) [4] ، بذلك صح الخبر عن نبيكم محمد رسول الله الذي أمركم ربكم بالصلاة عليه والتسليم فصلوا عليه وسلموا كما أمركم الله إن الله وملائكته يصلون على النبي اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/244)، وأبو داود: كتاب الصلاة – باب فيمن لم يوتر، حديث (1420)، والنسائي: كتاب الصلاة – باب المحافظة على الصلوات الخمس، حديث (461)، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس... (1401)، وصححه ابن عبد البر وغيره. التلخيص الحبير (2/147) وذكره الضياء في المختارة (449) وصححه الألباني. صحيح أبي داود (1258)، مشكاة المصابيح (570).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود: كتاب الصلاة – باب متى يُؤمر الغلام بالصلاة، حديث (495)، وابن شيبة. وصححه الحاكم (1/197)، وذكره الحافظ في الفتح (9/348)، قال الهيثمي: رواه البزار، وفيه محمد بن الحسن العوفي، قيل فيه: ليّن الحديث ونحو ذلك، ولم أجد من وثقه. مجمع الزوائد (1/294). ونقل المناوي تحسين إسناده. فيض القدير (5/521). وصححه الألباني بالشواهد. إرواء الغليل (247).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (5/280، 282)، وابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها – باب المحافظة على الوضوء، حديث (277)، والدارمي: كتاب الطهارة – باب ما جاء في الطهور، حديث (655)، وصححه ابن حبان (1037)، والحاكم (1/130). قال المنذري: رواه ابن ماجه بإسناد صحيح... الترغيب (1/97). وقال البوصيري في الزوائد: هذا الحديث رجال ثقات أثبات، إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان، فإنه لم يسمع منه بلا خلاف. ثم قوّاه بشواهد. (1/41)، وصححه الألباني. إرواء الغليل (412).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب فضل الصلاة لوقتها، حديث (527)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بيان كون الإيمان... حديث (85).
(1/106)
ليلة القدر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
التحذير من إضاعة مواسم الخير وعدم اغتنامها ، ومن ذلك شهر رمضان-
وجوب تدارك ما سبق من التفريط بالتوبة والندم والعمل ، وخاصة في العشر الأواخر -
فضل الله عز وجل وكرمه وتفضله على عباده بإجابة دعائهم والنزول الإلهي-
فضل ليلة القدر ووقتها ، وحكمة إخفاء وقتها تحديداً-
ما ينبغي من الطاعات في هذه الليالي ، وآداب قيام الليل
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واغتنموا مواسم الخير بعمارتها بما يقرب إلى ربكم واحذروا من التفريط والإضاعة فستندمون على تفريطكم وإضاعتكم.
إخواني: من لم يربح في هذا الشهر الكريم ففي أي وقت يربح، ومن لم ينب فيه إلى مولاه ففي أي وقت ينيب ويصلح، ومن لم يزل متقاعدا عن الخيرات ففي أي وقت تحصل له الاستقامة ويفلح؟
فبادروا يرحمكم الله فْرَص هذا الشهر قبل فواتها، واحفظوا نفوسكم عما فيه شقاؤها وهلاكها، ألا وإن شهركم الكريم قد أخذ بالنقص والاضمحلال وشارفت لياليه وأيامه الثمينة على الانتهاء والزوال، فتداركوا أيها المسلمون ما بقي منها بصالح الأعمال وبادروا بالتوبة من ذنوبكم لذي العظمة والجلال.
واعلموا أن الأعمال بالخواتيم فأحسنوا الختام، لقد مضى من هذا الشهر الكريم الثلثان وبقي من الثلث وقت العشر الحسان، فاغتنموها بالعزائم الصادقة وبذلك المعروف والإحسان وقوموا في دياجيها لربكم خاضعين، ولبره وخيراته راجين ومؤملين، ومن عذابه وعقابه مستجيرين مستعيذين، فإنه تعالى أكرم الأكرمين وأرحم الرحمين، وهو الذي يقول: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقرة:186].
وهو الذي ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيعرض على عباده الجود والكرم والغفران، يقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له؟
وفي هذا العشر ليلة القدر المباركة التي يفُرْق فيها كل أمر حكيم ويقدر فيها ما يكون في تلك السنة بإذن العزيز العليم الحكيم، تنزل فيها الملائكة من السماء، وتكثر فيها الخيرات والمصالح والنعماء من قامها إيمانا وإحتسابا غفر له ما تقدم من الذنوب ومن فرط فيها وحرم خيرها فهو الملوم المحروم، أبْهَمَها الله تعالى في هذه العشر فلم يبين عينها ليتزود الناس في جميع ليالي العشر من التهجد والقراءة والإحسان، وليتبين بذلك النشيط في طلب الخيرات من الكسلان، فإن الناس لو علموا عينها لاقتصر أكثرهم على قيام تلك الليلة دون ما سواها.
ولو علموا عينها ما حصل كمال الامتحان في علو الهمة وأدناها، فاطلبوها رحمكم الله بجد وإخلاص واسألوا الله فيها الغنيمة من البر والخيرات والسلامة من الإفلاس، فإذا مررتم بآية رحمة فاسألوا الله من فضله، وإذا مررتم بآية وعيد فتعوذوا بالله من عذابه، وأكثروا في ركوعكم من تعظيم ذي العظمة والجلال، وأما السجود فاجتهدوا فيها بعد التسبيح بالدعاء بما تحبون فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، ويجوز للإنسان أن يدعو لنفسه ولوالديه وذريته وأقاربه ومن أحب من المسلمين.
وأطيلوا القيام بعد الركوع والجلوس بين السجدتين لتتناسب أركان الصلاة من القيام والركوع والجلوس والسجود، والقيام بعد الركوع محل حمد وثناء فأكثروا فيه من الحمد والثناء، والجلوس بين السجدتين محل دعاء بالمغفرة والرحمة فأكثروا فيه من الدعاء وافتتحوا قيام الليل بركعتين خفيفتين، لأن الشيطان يعقد على قافية العبد إذا نام ثلاث عقد فإذا قام وذكر الله انحلت عقدة فإذا تطهر انحلت الثانية ثم إذا صلى انحلت الثالثة، ولكن إذا جاء أحدكم المسجد وقد أقام الإمام فليدخل معه ولو لم يفتتح القيام بركعتين خفيفتين لأن متابعة الإمام أهم.
وهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن بعض الناس يجعل فرجة في الصف للمؤذن أو القارئ بعد الشروع في الصلاة، وهذا خلاف المشروع، فإن المشروع سد فرج الصفوف والمراصة إذا شرعت الصلاة، فإذا جاء المؤذن أو القارئ دخل حيث ينتهي به الصف.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر [سورة القدر].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/107)
الغيبة والمغتابون
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
شمول الدين واهتمامه بالسلوك والأخلاق – الغيبة , معناها , وموقف الإسلام منها – صفات
المغتاب وسَمْتُه – التحذير من غيبة ولاة الأمور والعلماء والدعاة – تعاظم الغيبة إذا صدرت
ممن ينتسب إلى العلم , ونماذج لذلك – الغيبة بالقلب وخطورتها – الواجب على من سمع الغيبة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله كفاه، ومن اتقى الناس لن يغنوا عنه من الله شيئًا. أوصيكم ونفسي بتقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، الواعظون بها كثير، والعاملون بها قليل، جعلنا الله وإياكم من المتقين.
أيها المسلمون، دين الله كاملٌ شاملٌ؛ تضمَّن حقائق العقيدة والشريعة، والتوحيد والعبادة، والمعاملة والعادة، يخاطب العقل والقلب، والحس والنفس، في مبادئ التشريع والأخلاق، والتربية والسلوك. دينٌ من عند ربنا، يرسم الأحكام والنظام لمسلم كريم طاهر الظاهر والباطن، سليم القلب، نقي المشاعر، عف اللسان وعف السريرة. متأدب مع ربه ونفسه، ومتأدب مع الناس أجمعين.
بل إنه لمتأدب مع هواجس الضمير وخلجات النفس: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ [الحجرات:12].
دين حق تتلاقى فيه أحكام الشرائع مع نزاهة المشاعر، وتتوازن فيه الأوامر مع الزواجر.
دين ينشئ مجتمعًا متدينًا، محفوظ الحرمات، مصون الغيبة والحضور، لا يؤخذ فيه أحدٌ بالظنة، ولا تتبع فيه العورات.
أيها الإخوة: وهذه صورة من الصور التي وقف منها ديننا موقفًا حازمًا حاسمًا. صورة يمثل فشوُّها في المجتمع مظهراً من مظاهر الخلل، وقلة الورع، وضعف الديانة. صورة تشوش على حفظ الحرمات وسلامة القلوب وصيانة الأعراض وتحري الحق. إنها كبيرة من كبائر الذنوب، وموبقة من موبقات الآثام، وحالقة من حالقات الدين يشترك في ذلك فاعلها والراضي بسماعها.
إنها الغِيبة يا عباد الله. إنها ذكر العيب بظهر الغيب، ذكرك أخاك بما يكره، سواء أكان فيه ما تقول أم لم يكن، هكذا بينها رسولنا محمدٌ.
يقول ربكم عز وجل في محكم تنزيله: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12].
أيها المسلمون، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم. الغيبة ـ أيها الإخوة ـ ذات أسماء ثلاثة، كلها في كتاب الله عز وجل الغيبة والإفك والبهتان. فإذا كان في أخيك ما تقول فهي الغيبة، وإذا قلت فيه ما بلغك عنه فهو الإفك، وإذا قلت فيه ما ليس فيه فهو البهتان. هكذا بين أهل العلم رحمهم الله.
الغيبة تشمل كل ما يفهم منه مقصود الذم سواء أكان بكلام، أم بغمزٍ، أم إشارة، أم كتابة؛ وإن القلم لأحد اللسانين.
والغيبة تكون في انتقاص الرجل في دينه وخَلْقه وخُلُقه، وفي حسبه ونسبه، ومن عاب صنعةً فإنما عاب صانعها.
وهذا هو نبيكم محمد ينادي هؤلاء المبتلين بهذا الداء المهلك: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) [1].
والحسن رحمه الله يقول: (والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد).
عجبًا لمن ينتسب لأهل الحق والإيمان كيف يركب مركب الغيبة، وقد علم أن المبتلى بها ذو قلبٍ متقلبٍ وفؤادٍ مظلمٍ، انطوى على بغض الخلق، وكراهية الخير، لا يعنيه نفع نفسه بقدر ما يعنيه ضرر غيره. راحته وهناؤه أن يرى النعمة عن أخيه زائلة، والمحنة فيه واقعة، يسره أن يرى الخير عن أخيه ممنوعًا والمصائب به نازلة.
هذا المبتلى غيظه وغمه أن يصيبك خيرٌ أو يحالفك توفيق، أو يتيسر لك رزقٌ، أو يجري على يديك نفع.
قلب مؤتفك مريض يحسد في السراء ويشمت في الضراء، على الهم مقيم، وللحقد ملازم، تسوءه المسرة، وتسره المساءة، غل وحقد وضغينة، أسماء مترادفة في عداوة متمكنة، يمتلئ بها صدر صاحبها، ويتربص بها الفرص لينفث سمومه ويرمي سهامه.
هل من شأن المؤمن أن ينطوي على كل هذه الضغينة لأخيه؟! وكأنه يأنس بخذلانه ووصول النقمة إليه، ولا تخطر له أخوة الإيمان ببال!! أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات:12].
ذو الغيبة ذلق اللسان، صفيق الوجه، لا يحجزه عن الاغتياب إيمانٌ، ولا تحفظه للمكارم مروءة. إذا وجد متنفسًا أشبع طبيعته النزقة الجهول. ينطلق على وجهه في المجالس لا ينتهي له حديث، ولا يتوقف له كلام. يسكب من لفظه ما تشمئز منه آذان أهل الإيمان، وأفئدة أهل التقى.
قد أوتي بسطةً في اللسان تغريه بالتطاول على الحاكم والعالم، والوجيه وذي المنزلة، بل على السفيه والجاهل، وعلى كل طبقة وفي كل نادٍ. الكلام عنده شهوة عارمة، إذا سلَّطه على شؤون الناس أساء الصورة، وإذا تكلم عن حقائق الدين والعلم شوَّه الحق وأضاع الهيبة.
إن لثرثرته ضجيجًا يذهب معه الرشد، يتصدر المجالس، ويتناثر منه الكلام حتى يجزم العاقل بأنه لا يتحدث عن وعيٍ يقظٍ، ولا فكرٍ عميقٍ، وكأن عنده انفصالاً رهيبًا بين لسانه وبين عقله وإيمانه. ألد خصم يلوك لسانه كما تلوك البقرة، يخوض في الدين وفي السياسة، والعلم والأدب، ولعل السبب في الانهيار العلمي والتحزب المذهبي، والانقسام الطائفي في حقائق الدين وشؤون الحياة هو هذا المسلك المذموم في توظيف اللسان جدلاً ومراءً، وغيبة وبهتانًا، وإفكًا مبينًا.
إنه في مقاعد المجالس يقطع وقته في تسقط الأخبار، وتتبع العيوب، وتلمس الزلات، ليس له لذة ولا مسلاة إلا في أحوال الناس. همزة لمزة، مشاء بنميم، ويل له ثم ويل له، يتكلم بالكلمة يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب.
أيها المسلمون، وأقبح ما يقع فيه هذا وأمثاله غيبة ولاة الأمور وأهل العلم والفضل ورجال الحسبة والصلاح والذين يأمرون بالقسط من الناس، يقعون في أعراض ذوي الوجاهة والمنزلة ورجال الخاصة والعامة، يحطون من أقدارهم ويجترئون على مقامهم، وينزعون من مهابتهم، ويرفعون الثقة بهم، يطعنون في أعمالهم وجهودهم، ويشككون في قدراتهم وكفاءاتهم، لا يذكر عظيم إلا انتقصوه، ولا يظهر كريم إلا شتموه، ولا يبرز صالح إلا اتهموه، ولا يتميز مسؤول إلا مقتوه، يمشون بالكذب والتدليس، والمغالطة والتشويش. يتهمون الثقات، ويقعون في الصالحين. يبعثون الفتن، ويزرعون الإحن، ويبلبلون على العامة، يقطعون الصلات، ويفرقون الجماعات، غربان بيْنٍ، ونُذُر شؤم، حمَّالو الحطب، ومشعلو اللهب، يوزعون الاتهامات، ويتتبعون المعايب؛ هذا طويل وهذا قصير، وهذا جاهل، وهذا فاسق، وهذا عميل، وهذا مشبوه، العين غمازة، واللسان همازة، والكلمات لمازة، مجالسهم شر، وصحبتهم ضر، وفعلهم عدوان، وحديثهم بذاء.
الله أكبر ـ يا عباد الله ـ هل من شأن المؤمن أن يحمل كل هذا الضغن لأخيه؟!
يا هذا ـ كل بشرٍ يحب ويكره، ويرضى ويغضب، ويوالي ويعادي، ولكن العاقل لا يوالي أحدًا بالجملة، ولا يعادي أحدًا بالكلية، ولكنه يحب منه شيئًا ويكره شيئًا، يرضى منه خلقًا ويسخط آخر، يحبذ فعلاً وينقم آخر، والعاقل من يحب حبيبه هونًا ما فعسى أن يكون بغيضه يومًا ما، ويبغض بغيضه هونًا ما فعسى أن يكون حبيبه يومًا ما.
العقل والإيمان يملي عليك فيمن تحب ألا تقلب عيوبه محاسن وكأنك لا ترى فيه إلا شرًا محضًا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8].
أيها الإخوة، ويشتد القبح والجرم ويتعاظم الذنب والذم ـ حينما تصدر الغِيبة ممن ينتسبون إلى العلم والصلاح، ويتزينون بسيما أهل الزهد والورع، فيجمعون في غيبتهم بين تزكية أنفسهم وذم غيرهم.
وانظر رعاك الله إلى دقة ما سجله الغزالي في "إحيائه" وابن قدامة المقدسي في "مختصر منهاجه" وابن حجر الهيثمي في "زواجره" وهم يتكلمون عن هذا الصنف من الناس؛ قالوا رحمهم الله: يُذكر عند هؤلاء المتزهدين إنسانٌ فيقولون: الحمد لله الذي ما ابتلانا بقلة الحياء والدخول في كذا وكذا، وليس قصده بدعائه إلا أن ينبه إلى عيب غيره. قالوا: وقد يزيد في خبثه فيقدم المدح لمن يغتابه حتى يظهر تنصله من الغيبة فيقول: كان مجتهدًا في العبادة والعلم والنزاهة والأمانة، ولكنه فتر وابتلي بما ابتلينا به كلنا. فيذكر نفسه ومقصوده ذم الغير والتمدح بالانتساب للصالحين في ذم نفوسهم فيجمع بين ثلاث فواحش: الغيبة والرياء وتزكية النفس، بل أربع لأنه يظن بجهله أنه مع ذلك من الصالحين المتعففين عن الغيبة فقد لعب به الشيطان وسخر منه فأحبط عمله وضيع تعبه وأرداه.
ومن ذلك أن يقول: ساءني ما وقع لصديقنا من كذا وكذا فنسأل الله أن يثبته. وهو كاذب في ذلك، وما درى الجاهل أن الله مطلع على خُبث ضميره، وأنه قد تعرض بذلك لمقت الله أعظم مما يتعرض الجهال إذا جاهروا. انتهى كلامهم رحمهم الله.
الله أكبر ـ أيها الأخوة ـ يقول بعض السلف: أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصوم والصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس.
يا هذا ـ رحمنا الله وإياك وعافاك وعفا عنك ـ ظُنَّ الخير بإخوانك وأقربائك، ولا تسمع أخبار من قل عند الله نصيبه. اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه مما تحب أن يعفيك منه. اعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالإجرام.
قيل لبعض الصالحين: لقد وقع فيك فلان حتى أشفقنا عليك ورحمناك، قال: عليه فأشفقوا وإياه فارحموا.
وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني، فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فطوبى لمن أمسك الفضل من قوله، ثم طوبى لمن ملك لسانه، ثم طوبى لمن حجزه عن الناس ما يعلم من نفسه، وطوبى لمن استمسك بتوجيهات كتاب ربه فتوجه إلى مولاه بقلب ضارع ولسان صادق وحب لإخوانه خالص: رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/421)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في الغيبة، حديث (4880)، والترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في تعظيم المؤمن، حديث (2032)، والطبراني في الأوسط (3778)، قال الهيثمي: رجاله ثقات بجميع الزوائد (8/93، 94)، وقال المنذري: إسناده حسن. الترغيب (3/169). وصححه الألباني. صحيح أبي داود (4082)، صحيح الترغيب (2339-2341).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء شهيد، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو أقرب إلى عبده من حبل الوريد. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله نشر أعلام التوحيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان من صالح العبيد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المسلمون، من أخطر ما ذكر أهل العلم من أنواع الغيبة تلك التي تحصل بالقلب. قالوا: وذلك هو سوء الظن بالمسلمين. والظن هو ما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب، أما الخواطر وحديث النفس العابر فمعفوٌ عنه.
إنه ليس لك أن تظن بأخيك شرًا، ومتى خطر لك خاطر سوءٍ على مسلم فينبغي أن تزيد في مراعاته والدعاء له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك. وإذا تحققت هفوة من مسلم فانصحه ولا تفضحه. وسوء الظن يدعو إلى التجسس والتحسس. والقلب إذا ترك له العنان لا يقنع بالظن، بل يطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وذلك منهي عنه لأنه يوصل إلى هتك ستر المسلم.
أيها الإخوة، والمستمع شريك للمغتاب ولا ينجو من الإثم إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، وإن قدر على القيام فليقم أو ليقطع الكلام بكلام آخر.
ناهيك ـ عياذًا بالله ـ من يستمع ويصغي على سبيل التعجب ليزيد من نشاط المغتاب، ولقد قال علماؤنا رحمهم الله: إن التصديق بالغيبة غيبة، والساكت شريك المغتاب.
يا ترى أين هو المؤمن القوي ذو الشكيمة الذي يأبى أن يُغتاب أحدٌ في مجلسه، ويأبى أن تسمع أذناه عيب أخيه المسلم؟! يقول ابن المبارك رحمه الله: فِرَّ من المغتاب فرارك من الأسد.
أين هو المؤمن القوي الذي يقيم المغتاب من مجلسه أو يقوم عنهم ليدعهم في مجلسهم؟! كان ميمون بن سياه لا يغتاب أحدًا عنده، ينهاه فإن انتهى وإلا قام من المجلس.
يا عبد الله إن لكل الناس عورات ومعايب، وزلات ومثالب فلا تظن أنك علمت ما لم يعلم غيرك، أو أنك أدركت ما عجز عنه غيرك. هلا شغلك عيبك عن عيوب الناس؟ وهلا سلكت مسلك النصيحة وعدلت عن الفضيحة؟ وهل علمت أن من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق؟
احفظ حق أخيك وصن عرضه، ففي الحديث: ((من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقًا على الله أن يعتقه من النار)) [1] ، وفي خبر آخر: ((من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)) [2].
((ومن كانت عنده لأخيه مظلمة من عرضٍ أو مالٍ فليتحلله منها من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم؛ تؤخذ من حسناته، فإن لم يكن أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته ثم طرح في النار)) [3].
فاتقوا الله رحمكم الله وسارعوا إلى التوبة واستحلال إخوانكم، وجانبوا الغل والحقد والضغينة والشحناء.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (6/461)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/184)، والطبراني في المعجم الكبير (24/176). قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، وإسناده أحمد حسن. المجمع (8/95). وكذا حسّن إسناده المنذري في الترغيب (3/333) وانظر غاية المرام للألباني (431).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/70)، وأبو داود: كتاب الأقضية – باب فيمن يعين على حقوقه.. حديث (3597)، والطبراني في الأوسط (6491)، وصححه الحاكم (2/27)، وقال المنذري: رواه أبو داود واللفظ له والطبراني بإسناد جيد. المجمع (3/137). وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (437).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الرقاق – باب القصاص يوم القيامة، حديث (6534) بنحوه من حديث أ بي هريرة دون قوله: ((ثم طرح في النار)) فقد وردت في الحديث الآخر عند مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظلم، حديث (2581) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون من المفلس؟))... الحديث، وفيه: ((فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار)).
(1/108)
خطبة عيد الفطر
الأسرة والمجتمع, فقه
الصوم, المرأة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله وشكره على نعمة الصيام والقيام ، وفضل صيام ست من شوال وبعض
الاعتقادات الخاطئة المتعلقة بصيامها-
التذكير بيوم الجمع الأكبر وما فيه من الأهوال ، والآيات في ذلك-
وجوب الاستعداد ليوم القيامة-
السنة في العيد-
زيارة القبور في الأعياد لا أصل لها-
نصيحة وتوجيه للنساء بتقوى الله والقيام بحقوق الزوج والأولاد ، والتحذير من التبرج والسفور والخروج على هذا النحو إلى الأسواق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من إتمام الصيام والقيام، فإن ذلك من أكبر النعم، واسألوه أن يتقبل ذلك منكم ويتجاوز عما حصل من التفريط والإهمال، فإنه تعالى أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
واعلموا أن النبي قال: ((من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر)) [1] ، وتفسير ذلك أن صيام رمضان يقابل عشرة أشهر، وصيام ست من شوال يقابل شهرين فذلك تمام العام.
وأما صيام يوم واحد بعد العيد وتسميته يوم الصبر فهذا غير صحيح، ويوم الصبر كل يوم تصوم فيه فهو يوم صبر، لأنك تصبر نفسك وتمنعها مما يمتنع في الصيام، وقد اعتقد بعض العوام أن من صام الست في سنة لزمه أن يصومها كل سنة وهذا غير صحيح، فصيام الست سُنَّة، فيها ما سمعتم من الفضل ولا بأس أن يصومها الإنسان سنة ويتركها أخرى، ولكن الأفضل أن يصومها كل سنة ولا يحرم نفسه من ثوابها.
أيها الناس: تذكروا بجمعكم هذا يوم الجمع الأكبر حين تقومون يوم القيامة من قبوركم لرب العالمين، حافية أقدامكم، عارية أجسامكم، شاخصة أبصاركم، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]. يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
يوم تفرق الصحف ذات اليمين وذات الشمال، فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى? أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـ?بَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى? سَعِيراً [الانشقاق:7-12]. يوم توضع الموازين، فَمَن ثَقُلَتْ مَو?زِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَو?زِينُهُ فأُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـ?لِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ?لنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـ?لِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ ءايَـ?تِى تُتْلَى? عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ [المؤمنون:102-105].
يوم ينصب الصراط على جهنم فتمرون عليه على قدر أعمالكم ومسابقتكم في الخيرات، فمن كان سريعا في الدنيا في مرضاة الله كان سريعا في مروره على الصراط، ومن كان بطيئا في الدنيا في مرضاة الله ومتثاقلا فيها كان مروره على الصراط كذلك، جزاءً وفاقا.
فاستبقوا الخيرات أيها المسلمون، وأعدوا لهذا اليوم عدته لعلكم تفلحون، واعلموا أن السنة لمن خرج إلى مصلى العيد من طريق أن يرجع من طريق [2].
ولقد جرت عادة الناس أن يتصافحوا ويهنئ بعضهم بعضا في العيد، وهذه عادة حسنة تجلب المودة وتزيل البغضاء.
أما زيارة القبور في هذا اليوم بالذات فلم أعلم لها أصلا من الشرع، فزيارة القبور مشروعة في كل وقت ولم يرد تخصيص يوم العيد بزيارتها.
أيها الناس - قبل انتهاء خطبتنا هذه - أحب أن أوجه موعظة للنساء كما كان النبي يعظهن في صلاة العيد بعد الرجال [3].
فأقول: أيتها النساء، إن عليكن أن تتقين الله في أنفسكن، وأن تحفظن حدوده، وترعين حقوق الأزواج والأولاد، فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ [النساء:34].
أيتها النساء، لا يغرنكن ما يفعله بعض النساء من الخروج إلى الأسواق بالتبرج والطيب وكشف الوجه واليدين أو وضع ستر رقيق لا يستر فلقد قال النبي : ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد)) ، وذكر: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) [4].
وإذا مشيتن في الأسواق فعليكن بالسكينة ولا تزاحمن الرجال ولا ترفعن أصواتكن، ولا تلُبسن بناتكن ألبسة مكروهة، ولا تتشبهن بالرجال فإن النبي لعن المتشبهات من النساء بالرجال وقال للنساء: ((رأيتكن أكثر أهل النار لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)) [5].
اللهم إن عبادك خرجوا إلى هذا المكان يرجون ثوابك وفضلك ويخافون عذابك، اللهم حقق لنا ما نرجو وأمِّنا مما نخاف، اللهم تقبل منا واغفر لنا وارحمنا، اللهم انصرنا على عدونا واجمع كلمتنا على الحق، ويسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى إنك جواد كريم.
[1] أخرجه مسلم في: الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
[2] أخرج البخاري في: الجمعة، باب: من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد (986) من حديث جابر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيدٍ خالف الطريق.
[3] وعظه عليه السلام للنساء بعد الرجال يوم العيد، أخرجه البخاري في الجمعة، باب: خروج الصبيان إلى المصلى (975)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومسلم في: صلاة العيدين، باب (885) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم في: اللباس والزينة، باب: النساء الكاسيات العاريات (2128) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في: الزكاة، باب: الزكاة على الأقارب (1462) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه، ومسلم في: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات (80) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/109)
صفة الحج والعمرة
فقه
الحج والعمرة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
بين يدي التوجه لأداء مناسك الحج-
التحذير من الغلو والتقصير والتفريط ، ووجوب المحافظة على الطهارة والصلاة وسائر
الواجبات- بعض أحكام صلاة المسافر وطهارته-
وجوب التحلي بالأخلاق الفاضلة ، وفضل ذلك-
آداب الإحرام وأحكامه ، وصفة الطواف والسعي-
أعمال الحج في يوم التروية وعرفة وسائر الأيام، والسنة في ذلك، وما يفعله الحاج عند عودته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: إنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى بيت الله الحرام راجين من الله تكفير ذنوبكم والآثام والفوز بدار السلام والخلف العاجل عما أنفقتموه في هذا السبيل من الأموال.
فيا أيها المسلمون إنكم تتوجهون إلى بيت ربكم وحرماته إلى أمكنة فاضلة تؤدون فيها عبادة من أفضل العبادات لستم تريدون بذلك نزهة ولا فخرا ولا رياء، بل تريدون عبادة تتقربون بها إلى الله وتخضعون فيها لعظمة ربكم، فأدوها أيها المسلمون كما أمرتم من غير غلو ولا تقصير ولا إهمال ولا تفريط.
وقوموا فيها بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة وغيرها من شرائع الدين إذا خرجتم مسافرين إليها فاستحضروا أنكم خارجون لعبادة من أجل الطاعات وفي سفركم التزموا القيام بالواجبات من الطهارة والجماعة للصلاة، فإن كثيرا من الناس يفرطون في الطهارة فيتيممون مع إمكان الحصول على الماء.
وإن من وجد الماء فلا يجوز له أن يتيمم، وبعض الناس يتهاون بالصلاة مع الجماعة فتجده يتشاغل عنها بأشياء يدركها بعد الصلاة، وإذا صليتم فصلوا قصرا تجعلون الصلاة الرباعية ركعتين من خروجكم من بلدكم حتى ترجعوا إليه إلا أن تصلوا خلف إمام يتم فأتموها أربعا تبعا للإمام سواء أدركتم الصلاة أو فاتكم شيء منها.
وأما الجمع فإن السنة للمسافر ألا يجمع إلا إذا جد به السير، وأما النازل في مكان فالسنة ألا يجمع.
وأما الرواتب التابعة للمكتوبات فالأولى تركها إلا سنة الفجر، وأما الوتر وبقية النوافل فإنهما يفعلان في الحضر والسفر.
وتحلوُّا بالأخلاق الفاضلة من السخاء والكرم وطلاقة الوجه والصبر على الآلام والتحمل من الناس، فإن الأمر لا يدوم، وللصبر عاقبة محمودة وحلاوة لذيذة.
وإذا وصلتم الميقات فاغتسلوا وتطيبوا في أبدانكم في الرأس واللحية ثم أحرموا بالعمرة متمتعين وسيروا إلى مكة ملبين فإذا بلغتم البيت الحرام فطوفوا سبعة أشواط طواف العمرة، واعلموا أن جميع المسجد مكان للطواف القريب من الكعبة والبعيد، لكن القرب منها أفضل إذا لم تتأذ بالزحام، فإذا كان زحام فابعد عنه، والأمر واسع ولله الحمد.
فإذا فرغتم من الطواف فصلوا ركعتين خلف مقام إبراهيم إما قريبا منها إن تيسر وإلا فصلوا بعيداً.
المهم أن يكون المقام بينك ويبن الكعبة ثم أخرجوا لسعي العمرة وابدؤوا بالصفا فإذا أكملتم الأشواط فقصروا من رؤوسكم من جميع الرأس، ولا يجزئ التقصير من جانب واحد لا تغتروا بفعل الكثير من الناس.
فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة فاغتسلوا وتطيبوا واحرموا بالحج من مكان نزولكم واخرجوا إلى منى وصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر قصرا من غير جمع لأن نبيكم كان يقصر بمنى وفي مكة ولا يجمع.
فإذا طلعت الشمس يوم عرفة فسيروا ملبين خاشعين لله إلى عرفة واجمعوا فهيا بين الظهر والعصر جمع تقديم على ركعتين ثم تفرغوا للدعاء والابتهال إلى الله واحرصوا أن تكونوا على طهارة واستقبلوا القبلة ولو كان الجبل خلفكم لأن المشروع استقبال القبلة وانتبهوا جيدا لحدود عرفة وعلاماتها، فإن كثيرا من الحجاج يقفون دونها.
ومن لم يقف بعرفة فلا حج له لقول النبي : ((الحج عرفة)) وكل عرفة موقف شرقيها وغربيها وجنوبيها وشماليها إلا بطن الوادي وادي عرنة لقول النبي : ((وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)) فإذا غربت الشمس وتحققتم غروبها فادفعوا إلى مزدلفة ملبين خاشعين والزموا السكينة ما أمكنكم كما أمركم بذلك نبيكم فلقد دفع من عرفة وقد شنق لناقته الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله وهو يقول بيده الكريمة: ((أيها الناس: السكينة السكينة)).
فإذا وصلتم مزدلفة فصلوا بها المغرب والعشاء ثم بيتوا بها إلى الفجر ولم يرخص النبي لأحد في الدفع من مزدلفة قبل الفجر إلا الضعفة، رخص لهم أن يدفعوا في آخر الليل فإذا صليتم فاتجهوا إلى القبلة وكبروا الله واحمدوه وادعوه حتى تسفروا جدا ثم سيروا قبل طلوع الشمس إلى منى ثم القطوا سبع حصيات واذهبوا إلى جمرة العقبة وهي الأخيرة التي تلي مكة وارموها بعد طلوع الشمس بسبع تكبرون الله مع كل حصاة خاضعين له معظمين.
واعلموا أن المقصود من الرمي تعظيم الله وإقامة ذكره ويجب أن تقع الحصاة في الحوض وليس بشرط أن يضرب العمود.
فإذا فرغتم من رمي الجمرة فاذبحوا الهدي ولا يجزئ في الهدي إلا ما يجزئ في الأضحية، ولا بأس أن توكل شخصا يذبح لك ثم احلقوا بعد الذبح رؤوسكم ويجب حلق جميع الرأس ولا يجوز حلق بعضه دون بعض، والمرأة تقتصر من أطراف رأسها بقدر أنملة.
وبعد ذلك حللتم التحلل الأول فالبسوا وقصوا أظفاركم وتطيبوا ولا تأتوا النساء ثم انزلوا قبل صلاة الظهر إلى مكة، وطوفوا للحج واسعوا ثم ارجعوا إلى منى.
وبالطواف والسعي مع الرمي والحلق حللتم التحلل الثاني وجاز لكم كل شيء حتى النساء. أيها الناس: إن الحاج يفعل يوم العيد أربعة أنساك: رمي الجمرة ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف والسعي.
وهذا هو الترتيب الأكمل ولكن لو قدمتم بعضها على بعض فحلقتم قبل الذبح مثلا فلا حرج، ولو أخرتم الطواف والسعي حتى تنزلوا من منى فلا حرج، ولو أخرتم الذبح وذبحتم في مكة في اليوم الثالث عشر فلا حرج، لا سيما مع الحاجة والمصلحة.
وبيتوا ليلة الحادي عشر بمنى، فإذا زالت الشمس فارموا الجمرات الثلاث مبتدئين بالأولى ثم الوسطى ثم العقبة كل واحدة بسبع حصيات تكبرون مع كل حصاة ووقت الرمي في يوم العيد للقادر من طلوع الشمس وللضعيف من آخر الليل وآخره إلى غروب الشمس، ووقته فيما بعد العيد من الزوال إلى غروب الشمس ولا يجوز قبل الزوال ويجوز الرمي في الليل إذا كان الزحام شديدا في النهار.
ومن كان لا يستطيع الرمي بنفسه لصغر أو كبر أو مرض فله أن يوكل من يرمي عنه ولا بأس أن يرمي الوكيل عن نفسه وعمن وكله في مقام واحد لكن يبدأ بالرمي لنفسه فإذا رميتم اليوم الثاني عشر فقد انتهى الحج، وأنتم بالخيار إن شئتم تعجلتم ونزلتم وإن شئتم فبيتوا ليلة الثالث عشر.
وارموا الجمار الثلاث بعد الزوال وهذا أفضل لأنه فعل النبي فإذا أردتم الخروج من مكة فطوفوا للوداع.
والحائض والنفساء لا وداع عليهما ولا يشرع لهما المجيء إلى باب المسجد والوقوف عنده. أيها المسلمون: هذه صفة الحج فاتقوا الله فيه ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [سورة الحج:27-29].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/110)
محظورات الإحرام وما يلحق بها
فقه
الحج والعمرة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله عز وجل وتعظيم شعائره ، وفضل ذلك- مناسك الحج والعمرة من شعائر الله ، ووجوب تعظيمها- من محظورات الإحرام :
1- حلق الشعر وقصه وأحكام ذلك. 2-إزالة الأظفار. 3- الطيب. 4- الرفث وهو الجماع
وما يتصل به. 5- عقد النكاح. 6- لبس القفازين. 7- لبس السراويل والمشالح وغيرها من الثياب للرجُل. 8- تغطية الرأس بملاحقه-
وجوب تغطية المرأة وجهها أمام الرجال الأجانب-
بعض مسائل وتوجيهات متعلقة بالإحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا لله تعالى وعظموا شعائره، فإن ذلك من تقوى القلوب ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه، يكفر عنه سيئاته، ويرفع درجاته، وينجيه من كل مكروب، ألا وإن من شعائر الله مناسك الحج والعمرة فعظموها واحترموها واجتنبوا محظوراتها لعلكم تفلحون.
واعلموا أيها الناس أن من محظورات الإحرام حلق الشعر أو قصه أو إزالته بأي مزيل كان، فلا يجوز للمحرم رجلا كان أو امرأة أن يزيل شيئا من شعره، ويجوز له أن يحك رأسه برفق فإن سقط بذلك شعر من غير قصد فلا حرج عليه، وإذا كان في عين الإنسان شعر يؤذيه فلا بأس أن يأخذه بالمنقاش.
ومن محظورات الإحرام إزالة الأظفار بتقليم أو قص، فلا بأس أن يقص المنكسر الذي يؤذيه خاصة، ولا شيء عليه.
ومن محظورات الإحرام الطَّيب فلا يجوز للمحرم أن يتطيب لا بثوبه ولا بدنه ولا بما يأكل أو يشرب، أما الطيَّب عند عقد الإحرام قبل أن ينوي الإحرام فهو سنة للرجال والنساء، ولا يضر بقاؤه بعد الإحرام.
ومن محظورات الإحرام الرفث وهو الجماع وما يتصل به، من مباشرة بشهوة أو نظر بشهوة أو تقبيل لشهوة ونحوها، فلا يجوز للمحرم أن يفعل شيئا من ذلك.
ومن محظورات الإحرام عقد النكاح فلا يجوز للمحرم عقده لنفسه ولا لغيره، ومن محظورات الإحرام لبس القفازين وهما شراب اليدين فلا يجوز للمحرم أن يلبسهما، وهذه المحظورات عامة للرجال والنساء.
وهناك محظورات خاصة فمنها لبس الثياب والأكوات والمشالح والفنايل والصدرية والشراب والكنادر والسراويل والغتر والطواقي، كل هذه الملبوسات لا يجوز للرجل خاصة إذا أحرم أن يلبسها على صفة ما يلبسها عليه عادة.
ومن محظورات الإحرام على الرجل خاصة تغطية رأسه بشيء ملاصق يقصد به الستر مثل الغترة والطاقية وغيرهما ممن يستر به الرأس متصلا به، فأما الشيء الذي ليس متصلا به مثل الشمسية والخيمة وسقف السيارة فلا بأس به، وكذلك لا بأس أن يحمل الرجل على رأسه فراشه وعفشه وإذا خشي المحرم من الضرر ببرد أو غيره إذا كشف رأسه، فإنه لا بأس أن تغطيه، ولكن يجب عليه أن يفدي، والفدية إما ذبح شاة يفرقها على المساكين أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة فقراء، لكل فقير ربع صاع من البر أو نصف صاع من غيره.
ويجوز للمحرم أن يلبس الساعة، والسبتة، والكمر الذي فيه النفقة، والمناظر التي على العين، وأن يشبك رداءه بمشبك، ولا شيء عليه بذلك خصوصا مع الحاجة.
أما المحظورات التي تختص بالمرأة فهي تغطية الوجه فلا تغطي المحرمة وجهها، إلا أن يمر الرجال قريبا منها فإنه يجب أن تتغطى عنهم إذا لم يكونوا من محارمها، ويجوز أن تتغطى ولو مس الغطاء وجهها وتلبس ما شاءت من الثياب إذا لم يكن فيها تبرج عندَ من لا يَجُوز التبرج له.
وهنا مسائل أحب أن أنبهكم عليها وهي:-
أنه يجوز للنساء وللرجال أن يلبسوا بدل الثوب الذي أحرموا به فإذا أحب الرجل أن يغير إزاره بإزار آخر أو رداءه برداء برداء آخر فلا بأس، وكذلك إذا أحبت المرأة أن تلبس غير ثيابها التي أحرمت بها فلا بأس.
يجوز للمحرم أن يقلع الشجر الأخضر وغير الأخضر إلا إذا كان داخل الأميال فإنه لا يجوز له قلع الشجر والحشيش وعلى هذا يجوز قلع الشجر بعرفة ولا يجوز في منى ومزدلفة لأن عرفة خارج الأميال ومنى ومزدلفة داخل الأميال.
يجوز للمرأة أن تلبس الشراب والكنادر ولو كانت عند عقد الإحرام حافية ولا يجوز للرجل أن يلبس الكنادر والشراب وإنما يجوز له لبس النعال ولو كان حافيا عند الإحرام.
يجوز للمرأة أن تعقد الإحرام وهي حائض وتغتسل وتتطيب عند الإحرام كما يفعل الناس وتحرم بالعمرة، فإذا وصلت بمكة فإن طهرت قبل الطلوع قضت عمرتها وحلت من إحرامها ثم أحرمت بالحج مع الناس، وإن جاء الطلوع قبل أن تطهر فإنها تنوي بالحج وتكون قارنة ويحصل لها حج وعمرة، فإذا طافت وسعت نوت الطواف للحج والعمرة والسعي للحج والعمرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب [البقرة:197].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/111)
الغيرة على الأعراض
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
أثر الأخلاق على قوة الأمة أو ضعفها – بم تُنال الأخلاق , وما مقياسها ؟ - صيانة الأعراض
والحرمات والغيرة عليها وأهميتها – انعدام الغيرة في قلوب الكثيرين اليوم ومظاهر ذلك ودلالته -
دور الأسرة والبيئة في تنشئة النشء على الفضيلة والعفة , ودور رب الأسرة – غيرة الله
سبحانه أن تنتهك محارمه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل وخشيته وطاعته وطاعة رسوله : وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ?للَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَائِزُون [النور:52].
أيها المسلمون: لا ترجع هزائم الأمم، ولا انتكاسات الشعوب إلى الضعف في قواها المادية ولا إلى النقص في معداتها الحربية.
من يظن هذا الظن ففكره قاصر ونظره سقيم.
إن الأمم لا تعلو ـ بإذن الله ـ إلا بضمانات الأخلاق الصلبة في سير الرجال. بل إن رسالات الله ما جاءت إلا بالأخلاق، وإتمام الأخلاق بعد توحيد الله وعبادته: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) [1].
الأخلاق الفاضلة، يضعف أمامها العدو، وينهار بها أهل الشهوات.
حينما يكون المجتمع صارمًا في نظام أخلاقه وضوابط سلوكه، غيورًا على كرامة فرده وأمته، مؤثرًا رضا الله على نوازع شهواته حينئذٍ يستقيم مساره في طريق الحق والصلاح والرفعة والإصلاح.
والأخلاق ـ أيها الإخوة ـ ليست شيئاً يكتسب بالقراءة والكتابة، ولا بالموعظة والخطابة، ولكنها درجة بل درجات لا تنال ـ بعد توفيق الله ورحمته ـ إلا بالتربية والتهذيب والصرامة والحزم وقوة الإرادة والعزم.
أيها الإخوة، وهذا حديث عن مقياس من مقاييس الأخلاق دقيق ومعيار من معايير ضبط السلوك جلي.
إنها الغيرة. الغيرة ـ يا عباد الله ـ الغيرة. الغيرة على الأعراض وحماية حمى الحرمات.
أيها الأحبة الغيورون، كل امرئٍ عاقلٍ، بل كل شهم فاضل لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرمًا مصونًا لا يرتع فيه اللامزون، ولا يجوس حماه العابثون.
إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة الشهم يقدم ثروته ليسد أفواهًا تتطاول عليه بألسنتها أو تناله ببذيء ألفاظها. نعم إنه ليصون العرض بالمال، فلا بارك الله بمال لا يصون عرضًا.
بل لا يقف الحد عند هذا فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مهجته، ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يرجم بشتيمة تلوث كرامته. يهون على الكرام أن تصان الأجسام لتسلم العقول والأعراض. وقد بلغ دينكم في ذلك الغاية حين أعلن نبيكم محمد : ((من قتل دون أهله فهو شهيد)) [2].
أيها الإخوة، بصيانة العرض وكرامته يتجلى صفاء الدين وجمال الإنسانية وبتدنسه وهوانه ينزل الإنسان إلى أرذل الحيوانات بهيمية.
يقول ابن القيم رحمه الله: (إذا رحلت الغيرة من القلب ترحَّلت المحبة، بل ترحل الدين كله). ولقد كان أصحاب رسول الله من أشد الناس غيرة على أعراضهم، روي عن رسول الله أنه قال يومًا لأصحابه: ((إن دخل أحدكم على أهله ووجد ما يريبه أَشْهَدَ أربعًا. فقام سعد بن معاذ متأثرًا فقال يا رسول الله: أأدخل على أهلي فأجد ما يريبني انتظر حتى أشهد أربعًا؟! لا والذي بعثك بالحق!! إن رأيت ما يريبني في أهلي لأطيحنَّ بالرأس عن الجسد ولأضربنَّ بالسيف غير مصفح [3] وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء. فقال عليه الصلاة والسلام: أتعجبون من غيرة سعد؟؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني؛ ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن...)) [4] الحديث وأصله في الصحيحين.
من حُرم الغيرة حرم طُهر الحياة، ومن حرم طُهر الحياة فهو أحطُّ من بهيمة الأنعام.
ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال وكرائم النساء.
إن الحياة الطاهرة تحتاج إلى عزائم الأخيار، وأما عيشة الدَّعارة فطريقها سهل الإنحدار والإنهيار، وبالمكاره حفت الجنة وبالشهوات حفَّت النار.
أيها الإخوة، إن الأسف كل الأسف، والأسى كل الأسى فيما جلبته مدنية هذا العصر من ذبح صارخ للأعراض، ووأدٍ كريه للغيرة. تعرض تفاصيل الفحشاء من خلال وسائل نشر كثيرة، بل إنه ليرى الرجل والمرأة يأتيان الفاحشة وهما يعانقان الرذيلة غير مستورين عن أعين المشاهدين والنظارة، لقد انقلبت الحال عند كثير من الأقوام بل الأفراد والأسر حتى صار الساقطون الماجنون يُمثلون الأسوة والقدوة ووسامَ افتخارٍ وعنوان رجولة.
تصوروا ـ رعاكم الله وحماكم ـ خبيثًا وخبيثة يقفان على قارعة الطريق ليمارسا الفاحشة علانية كما تفعل البهائم من الحمير والخنازير أعز الله مقامكم ونزَّه أسماعكم.
هل غارت من النفوس الغيرة؟ وهل غاض ماؤها؟ وهل انطفأ بهاؤها؟ هل في الناس دياثة؟ هل فيهم من يقر الخبث في أهله؟ لا يدري الغيور من يخاطب؟ هل يخاطب الزواني والبغايا؟ وإلا فأين الكرام والحرائر؟!!
إعلانٌ للفحشاء بوقاحة!! وإغراقٌ في المجون بتبجح!! أغانٍ ساقطةٌ، وأفلامٌ آثمة، وسهراتٌ فاضحة، وقصصٌ داعرةٌ، وملابس خالعة، وعباراتٌ مثيرة، وحركاتٌ فاجرة؛ ما بين مسموع ومقروء ومشاهد، في صور وأوضاع يندى لها الجبين في كثير من البلاد والأصقاع إلا من رحم الله. على الشواطئ والمتنزهات، وفي الأسواق والطرقات، فلا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل!!
حسبنا الله من أناس يهشون [5] للمنكر ويودون لو نبت الجيل كله في حمأة الرذيلة، وحسبنا الله من فئات تود لو انهال التراب على الفطرة المستقيمة والحشمة الرفيعة.
ما هذا البلاء؟ كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم، لفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمر من ابتكارات البث المباشر وقنوات الفضاء الواسع؟؟
أين ذهب الحياء؟ وأين ضاعت المروءة؟ أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئتها أجواء الفتنة، وجرتها إلى مستنقعات التفسخ جرًا، وجلبت لها محرضات المنكر تدفعها إلى الإثم دفعًا، وتدعُّها إلى الفحشاء دعًّا؟؟
اطلعت امرأة شريفةٌ على الخمر ثم سألت: هل تشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم. قالت: زنين ورب الكعبة!!
أيها الإخوة، إن طريق السلامة لمن يريد السلامة ـ بعد الإيمان بالله ورحمته وعصمته ـ ينبع من البيت والبيئة. فهناك بيئات تنبت الذل، وأخرى تنبت العز، وثمت بيوتات تظلها العفة والحشمة، وأخرى ملؤها الفحشاء والمنكر. لا تحفظ المروءة ولا يسلم العرض إلا حين يعيش الفتى وتعيش الفتاة في بيت محتشم محفوظ بتعاليم الإسلام وآداب القرآن، ملتزم بالستر والحياء، تختفي فيه المثيرات وآلات اللهو المنكر، يتطهر من الاختلاط المحرم. الغيرة الغيرة يا عباد الله؛ فالحمو الموت [6] ، واحذروا السائق والخادم وصديق العائلة وابن الجيران، ناهيك بالطبيب المريب والممرض المريض، وإياكم واحذروا الخلوة بالبائع والمدرس في البيت، حذار أن يظهر هؤلاء وأشباههم على عورات النساء. فذلكم اختلاط يتسع فيه الخرق على الراقع وتصبح فيه الديار من الأخلاق بلاقع.
هل تأملتم ـ وفقكم الله ـ لماذا توصف المحصنات بالغافلات؛ الغافلات: وصفٌ لطيفٌ محمودٌ، وصفٌ يُجسد المجتمع البريء والبيت الطاهر الذي تشب فتياته زهراتٍ ناصعاتٍ لا يعرفن الإثم، إنهن غافلاتٍ عن ملوثات الطباع السافلة.
وإذا كان الأمر كذلك فتأملوا كيف تتعاون الأقلام الساقطة والأفلام الهابطة لتمزق حجاب الغفلة هذا، ثم تتسابق وتتنافس في شرح المعاصي، وفضح الأسرار وهتك الأستار، وفتح عيون الصغار قبل الكبار؟! ألا ساء ما يزرون!!
أيها الإخوة والأخوات، الغيرة... إن لم تغاروا فاعلموا أن ربكم يغار، فلا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش، يا أمة محمد ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته.
وربكم يمهل ولا يهمل، وإذا ضُيِّع أمر الله فكيف تستنكر الخيانات البيتية والشذوذات الجنسية وحالات الاغتصاب وجرائم القتل وألوان الاعتداء؟!
إذا ضيع أمر الله طفح المجتمع بنوازع الشر وامتلأ بدوافع الأثرة، وتولدت فيه مشاعر الحسد والبغضاء، ومن ثمَّ قلَّ ما ينجو من فساد وفوضى وسفك دماء: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:22-24].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (2/318)، والبخاري في : الأدب المفرد، باب : حُسن الخلق، رقم (273)، من حديث أبي هريرة مرفوعاً، وابن أبي شيبة (31773) مرسلاً، وصححه الحاكم (2/613). قال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. المجمع (8/188)، وذكره الحافظ في الفتح (6/575)، وصححه الألباني. صحيح الأدب المفرد (207)، السلسلة الصحيحة (45).
[2] صحيح، أخرجه البخاري : كتاب المظالم والغصب - باب : من قاتل دون ماله، حديث (2480)، ومسلم : كتاب الإيمان - باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره... حديث (141).
[3] غير مصفَّح : أي بحدّه لا بعرضه.
[4] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الحدود - باب: من رأى مع امرأته رجلاً فقتله ، حديث (6846)، ومسلم: كتاب اللعان – باب حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة... حديث (1498).
[5] يهشّون : أي يأنسون ويحبون.
[6] صحيح، قطعة من حديث أخرجه البخاري : كتاب النكاح – باب لا يخلِوَنّ رجل بامرأة... حديث (5232)، ومسلم : كتاب السلام – باب تحريم الخلوة بالأجنبية... حديث (2172).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال والعزة، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره يتولى ببأسه ونقمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، جاء بكريم الخصال ومجامع الأخلاق الفاضلة فحفظ الأمانة وصان العفة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون، كم للفضيلة من حصنٍ امتنع به أولو النخوة فكانوا بذلك محسنين، وكم للرذيلة من صرعى أوردتهم المهالك فكانوا هم الخاسرين.
في ظلال الفضيلة منعة وأمان، وفي مهاوي الرذيلة ذلةٌ وهوان، والرجل هو صاحب القوامة في الأسرة وإذا ضعف القوَّام فسد الأقوام. وإذا فسد الأقوام خسروا الفضيلة، وفقدوا العفة وتاجروا بالأعراض وأصبحوا كالمياه في المفازات يلغ فيها كل كلبٍ، ويكدِّر ماءها كلُّ وارد.
جاء شاب إلى النبي فقال: ((يا رسول الله ائذن لي في الزنا. فأقبل عليه الناس يزجرونه، وأدنى رسول الله مجلسه ثم قال له: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال رسول الله : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. ولم يزل النبي يقول للفتى: أتحبه لأختك؟ أتحبه لعمتك؟ أتحبه لخالتك؟ كل ذلك والفتى يقول: لا والله جعلني الله فداك. فوضع النبي يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصِّن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء)) [1].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله وغاروا على حرمات الله يسلم لكم دينكم وعرضكم ويبارك لكم في أهلكم وذرياتكم.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (5/256)، والطبراني في الكبير (7679)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/161). قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (1/129)، وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (370).
(1/112)
الأضحية - خطبة العيد
فقه
الذبائح والأطعمة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله وشكره على نعمة مشروعية الأضاحي-
فضل الأضحية وأنها خير من الصدقة بثمنها ، وبعض أحكام الأضحية-
السنة في الأضحية ، وما يجزئ فيها-
العيوب التي تمنع من الإجزاء-
بعض مسائل متعلقة بالذبح والنية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله ربكم واشكروه على ما أنعم به عليكم من مشروعية الأضاحي التي تتقربون بها إلى ربكم وتنفقون بها نفائس أموالكم، فإن هذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والسلام وإن لكم بكل شعرة منها حسنة وبكل صوفة حسنة وفي الحديث أن النبي قال: ((ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة دم، وإنه لتأتى يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإنَّ الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا)) [1].
أيها المسلمون: إن بذل الدراهم في الأضاحي أفضل من الصدقة بها، وإن الأضحية سنة مؤكدة جدا لمن يقدر عليها فَضَحُّوا عن أنفسكم وأهليكم من الزوجات والأولاد والوالدين ليحصل الأجر العظيم للجميع وتقتدوا بنبيكم حيث ضحى عنه وعن أهل بيته.
ولقد كان بعض الناس يحرم نفسه ويتحجر فضل ربه حيث يضحي عن والديه فقط ويدع نفسه وأهله وذريته، والأولى أن يضحي للجميع وفضل الله واسع وهذا فيما يضحي به الإنسان من نفسه.
أما الوصايا فيمشي فيها على نص الوصية، ولكن إذا كان في الوصية الواحدة عدة ضحايا والريع لا يكفي إلا لواحدة فإنه لا بأس أن تجمع الأضاحي في أضحية واحدة ويجعل ثوابها للجميع إذا كان الموصي واحدا.
ولقد كان بعض الناس يضحي عن الميت في أول سنة من موته يسمونها ضحية الحفرة يجعلونها للميت خاصة، وهذه بدعة لا أعلم لها أصلا في الشريعة كما أن بعض العوام إذا أراد أن يُعَيَّنَ الأضحية أي يسميها لمن هي له يمسح ظهرها من وجهها إلى قفاها، والمشروع في تعيين الأضحية أن يعينها عند ذبحها باللفظ من غير مسح عليها كما فعل النبي لو ذبحها بالنية من غير تلفظ باسم من هي له أجزأت نيته.
والأضحية من بهيمة الأنعام. إما من الإبل أو البقر أو الضأن أو المعز على اختلاف أصنافها ولا تجزئ إلا بشرطين، الأول: أن تبلغ السن المعتبر شرعا، الثاني: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الأجزاء، فأما السن ففي الإبل خمس سنين، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الضأن نصف سنة.
وأما العيوب التي تمنع من الإجزاء فقد بينها النبي حيث قال: ((أربع لا تجوز في الأضاحي: العرجاء البَّين ظلعها، والعوراء البين عورها، المريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى)) [2]. فالعرج البين هو الذي لا تستطيع البهيمة معه معانقة الصحيحات، والعور البين هو الذي تبرز معه العين أو تنخسف فأما إذا كانت لا تبصر بها ولكن لا يتبين العور فيها فإنها تجزئ ولكنها تكره، والمرض البين هو الذي يطهر أثره على البهيمة إما في أكلها أو مشيها أو غير ذلك من أحوالها، ومن الأمراض البينة الجرب سواء كان قليلا أو كثيرا فأما المرض اليسير الذي لا يظهر أثره على البهيمة فإنه لا يمنع ولكن السلامة منه أفضل.
والعجف الهزال فإذا كانت البهيمة هزيلة ليس في عظامها مخ فإنها لا تجزئ عن الأضحية. فهذه هي العيوب التي تمنع من الإجزاء.
وهناك عيوب أخرى لا تمنع من الإجزاء ولكنها توجب الكراهة مثل قطع الأذن وشقها وكسر القرن، وأما سقوط الثنايا أو غيرها من الأسنان فإنه لا يضر، ولكن كلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل، والخصي والفحل سواء كلاهما قد ضحى به النبي لكن إن تميز أحدهما بطيب لحم أو كبر جسم كان أفضل من هذه الناحية.
والواحد من الضأن أو المعز أفضل من سبع البدنة أو البقرة، وسبع البدنة أو البقرة يقوم مقام الشاة في الإجزاء، فيجوز أن يشرك في ثوابه من شاء، كما يجوز أن يشرك في ثواب الشاة من شاء، والحامل تجزئ كما تجزئ الحائل.
ومن كان منكم يحسن الذبح فليذبح أضحيته بيده ومن كان لا يحسن فليحضر عند ذبحها، فذاك أفضل، فإن ذبحت له وهو غير حاضر أجزأت، وإن ذبحها إنسان يظن أنها أضحيته فتبين أنها لغيره أجزأت لصاحبها لا لذابحها يعني لو كان عنده في البيت عدة ضحايا فجاء شخص فأخذه واحدة يظنها أضحيته فلما ذبحها تبين أنها أضحية شخص آخر فإنها تجزئ عن صاحبها التي هي له ويأخذ صاحبها لحمها كأن هذا الذابح صار وكيلا له.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَـ?كَ ?لْكَوْثَرَ (1/113)
جريمة الزنا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحدود, الكبائر والمعاصي
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
مقياس تفاضل الناس في مراقي الشرف والمجد – شيوع الفواحش في هذا العصر , وانتشار
الزنا – موقف الإسلام من الزنا , والتدابير التي سنها للوقاية منه والترهيب منه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد : فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوه رحمكم الله تقوى من أناب إليه، واحذروه حذر من يؤمن بيوم العرض عليه، واعبدوه مخلصين له الدين، وراقبوه مراقبة أهل اليقين، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.
أيها المسلمون، لا يتفاضل الناس في مراقي الشرف والمجد، ولا تنزل الهمم وتسقط التطلعات إلا بمقدار ما تتمتع به النفوس من ضبط السلوك وقوة الإرادات. فالرجل ذو العزيمة يتجلى فيه مظهر الكرامة الإنسانية مطبوعًا على أجمل صورة من الكمال والنبل، وبسبب ضعفها وهوانها ينزل المرء من سماء الإنسانية العالي ليكون أشبه بالحيوان ساقطًا مهملاً.
قيمة المرء إباؤه وعزيمته، وميزانه نزاهته وسمعته، وشرفه في طهارة عرضه وبياض صفحته ونقاء ذيله.
لقد كان الشرفاء الأحرار في كل الأمم حتى في عصور الجاهلية المظلمة يعتزون بشرف سمعتهم، وصيانة أعراضهم، ويقفون دونها أسُودًا كاسرة، ونمورًا مفترسة، يغسلون إهانة أعراضهم بأسنَّة رماحهم وحد سيوفهم، لا ينامون على إهانة، ولا يصبرون على عار، ولا يقبلون ذلة، ولقد قالت هند بنت عتبة وهي تبايع رسول الله : (أَوَتزني الحرة يا رسول الله؟!!) [1].
أيها الإخوة، يُثار هذا الموضوع وتُقلَّب صفحاته وأهل هذا الزمان في كثير من الأقطار يعيشون في عصر يوشك أن تسود فيه الإباحية ليجعلوا ارتكاب الفواحش والموبقات حاجاتٍ بدنيةً لا يعاقب عليها القانون مادامت محفوفةً بالتراضي. ومما يكشف ذوبان الهمة وموت الإنسانية حين يشاهَد رجلٌ ينقاد للبهيمية فيأتي الفاحشة ويعانق الرذيلة، ويشتد الخزي ويعظم الشنار حين لا يكون مستورًا عن أعين المشاهدين والمشاهدات؛ إنها حضارة البهائم في تلك الديار بحدائقها ومتنزهاتها وشواطئها وأفلامها وقنواتها.
من أجل هذا أيها الإخوة، فهذا حديث عن جريمة من أبشع الجرائم، وفاحشةٍ من أكبر الفواحش، وموبقةٍ من أخطر الموبقات، تتجلى فيها هذه البهيمية المغرقة. جريمة تفقد فيها الشهامة، وتذهب بالمروءة، يحل مكان العفاف فيها الفجور، وتقوم فيها الخلاعة مقام الحشمة، وتطرد فيه الوقاحة جمال الحياء. إنها جريمة الزنا؛ كم جرَّعت من غصةٍ، وكم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة، وكم خبأت لأهلها من آلامٍ منتظرة، وغمومٍ متوقعة، وهمومٍ مستقبلة.
((العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السماع، والفم يزني وزناه الكلام والقبَل، واليد تزني وزناها البطش، والرِّجل تزني وزناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يُصدِّق ذلك أو يكذبه)) [2].
أيها الإخوة، الإسلام يقف من هذه الجريمة موقف حزم وحسمٍ، وصراحةٍ وصرامة؛ إنه يمتدح الشهمَ الكريمَ الذي يغارعلى نفسه ويغار على حرماته، ويندد بالديوث الذميم الذي يقر الخبث في أهله. لتبقى الأعراض مصونة، والشرف موفورًا عزيزًا.
لقد اقترن حال الزاني بحال المشرك في كتاب الله: ?لزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ?لزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذ?لِكَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:3].
الزنا محرم بقواطع الأدلة؛ في محكم القرآن وصحيح السنة وإجماع أهل الملة بل إجماع أهل الملل.
إنه قرينٌ لأعظم موبقتين الشرك بالله وقتل النفس: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحاً [الفرقان:68-70].
يقول الإمام أحمد: لا أعلم بعد القتل ذنبًا أعظم من الزنا.
والله سبحانه في محكم تنزيله نهى عن قربه والدنو منه مما يعني البعد عن بواعثه ومقدماته ودواعيه ومثيراته فقال سبحانه: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]. قال أهل العلم: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? هذا قبح شرعيٌ؛ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وهذا قبحٌ عقليٌ وَسَاء سَبِيلاً وهذا قبحٌ عادي. قالوا: وما جمع ذنبٌ هذه الوجوه من القبح إلا وقد بلغ الغاية فيها.
أيها الإخوة، ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) [3]. بهذا صح الخبر عن نبيكم محمد. زاد النسائي في رواية: ((فإذا فعل ذلك خلع ربقة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه)) [4]. وفي رواية للبزار: ((والإيمان أكرم على الله من ذلك)) [5].
وفي خبر عند أبي داود والترمذي والبيهقي: ((إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان كالظلة على رأسه، ثم إذا أقلع رجع إليه الإيمان)) [6].
وفي صحيح البخاري في حديث المنام الطويل وفيه أنه عليه الصلاة والسلام جاءه جبريل وميكائيل عليهما السلام قال: ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور؛ أعلاه ضيق وأسفله واسعٌ فيه لَغَطٌ وأصوات؛ قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراةٌ فإذا هم يأتيهم لهبٌ من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك ضوضوا ـ أي صاحوا من شدة الحر ـ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الزناة والزواني)) [7] فهذا عذابهم إلى يوم القيامة عياذًا بالله.
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عيسى عليه السلام: لا يكون البطالون حكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء. وفي جهنم نهر يقال له نهر الغوطة يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهم. وأخرج الخرائطي وغيره مرفوعًا: ((المقيم على الزنا كعابد وثن)). قال أهل العلم: ويؤيده ما صحَّ من أن مدمن الخمر إذا مات لقي الله كعابد وثن. قالوا: ولا شك أن الزنا أشد وأعظم عند الله من شرب الخمر.
الزنا يجمع خلال الشر كلها؛ قلة الدين، وذهاب ورع، وفساد مروءة. الغدر والكذب شعاره، وقلة الحياء والخيانة دثاره، وعدم المراقبة مسلكه، وضعف الأنفة ديدنه، وذهاب الغيرة من القلب بليته.
ناهيك بغضب الرب وفساد الحرم والعيال، وفضائح زنا، وقبائح خنا، تذهب اللذات وتبقى الحسرات.
الزنا انتكاسة حيوانية، وارتكاسة بهيمية، تذهب بمعاني الأسرة ومشاعر الإنسانية الراقية، يُطيح بكل أهداف السمو الأسري، وعلاقات الرحم وأواصر القربي، ترد ابن آدم المكرم إلى مسخ حيواني سافل. مسخ كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة وشهوة عارمة ونزوة حيوانية بحتة.
جريمة الزنا في المجتمعات الطاهرة تتعدى في سوئها وسوءتها إلى الأسرتين، وتجلب مآسي للفئتين.
الزنا نذير رعب وفزع في فشو الأمراض، ونزع البركات، ورد الدعاء. الزهري والسيلان من أمراضه، والهربس والإيدز من أوبئته في أمراض يرسلها الله لم تكن في الأسلاف، مما يعلمون ومما لا يعلمون.
نعم أيها الإخوة، انظروا في أحوال المأفونين من أهل هذه الحضارة والمغرورين بها، لقد أطلقوا لشهواتهم العنان، استباحوا كل ممنوع. ونبشوا كل مدفون، وكشفوا كل مستور. تنصلوا من مسؤوليات العائلة، وجروا خلف كل متهتكة وفاجرة هل أدى بهم ذلك إلى تهذيب الدوافع كما يقولون؟ وهل أنقذهم من الكبت كما يزعمون؟؟ لقد انتهى بهم إلى سعار مجنون لا يهدأ ولا يرتوي. لقد قلَّ نسلهم، وتوقف نموُّهم مما ينذر بفنائهم. لقد قل نسلهم لأنهم قضوا شهواتهم بغير الطريق المشروع، وتهربوا من المسؤولية، وتبرؤوا من سياج الأسرة. الحلال عندهم لا يفترق عن الحرام. لا يغارون على محارم، ولا يشمئزون من فواحش. العلاقات عندهم معزولة عن الخلق والروح والدين والعبادة. لقد كان حفيًا عند استقبال الآلاف المؤلفة من اللقطاء وأولاد التبني، لا يسألون من أين جاءوا، ولا يكترثون بالآثار الاجتماعية التي يُخلفها من لا آباء لهم ولا أمهات، وهم يزعمون أنهم أرباب العلوم والمعارف.
بلى، إنهم عبيدٌ لفنون الإثارات والتذوق التي يُروجها الإباحيون البهيميون، يدفعون إليها الذكور والإناث دفعًا خبيثًا في اختلاط مهلكٍ، وإعلامٍ فاضحٍ في رواياته ومسلسلاته مما ينضح فحشًا وخلاعةً وتهتكًا، ليس وراءه إلا لقاء البهائم.
إن أهل الإسلام يرفضون بحسم وحزم كل هذه المظاهر والنتائج، فالزنا فاحشة موبقة، وكبيرة من كبائر الذنوب، توصد كل الأبواب المفضية إليها. ويعاقب على وقوعها بالجلد والتغريب للبكر، والقتل للثيب بالرجم. الأسرة وحدها هي الملتقى المشروع لأشراف الناس وكرام بني آدم.
المجتمع المسلم الطاهر يمقت الزنا، ويمقت مقدماته، وينكر بواعثه ودواعيه، ليس فيه إلا علاقاتٌ طاهرةٌ على أساس من أحكام الشرع والمشاعر الإنسانية الراقية؛ يلتقي عليها قلبان وروحان وإنسانان، وليس متعتين مجردتين، وجسدين متباعدين؛ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:5، 6].
لقد قطعت شريعتنا دابر هذه الجريمة، ووضعت لها جزاءً حاسمًا في صرامة جادة، وحذرت من الرأفة بالفاعلين، وزجرت عن تعطيل الحد أو الترفق في إقامته؛ بل أمرت بإقامته في محضرٍ مشهود في طائفةٍ من المؤمنين: ?لزَّانِيَةُ وَ?لزَّانِى فَ?جْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:2].
ولقد علم الله والمؤمنون أن الدماء لا تحفظ، والأموال لا تصان، والأعراض لا تحترم، والبلاد لا تصلح، والعباد لا تستقيم، والأمن لا يسود إلا بإقامة الحدود وقطع الأكف الآثمة وسد الأفواه الأفاكة. حدود الله شرعت لتحفظ النفوس من التعديات الآثمة والنزوات الطائشة.
الزاني المحصن إذا ثبت زناه استبيح دمه فكان قرينًا لتارك دينه وقاتل النفس: ((لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) [8]. الله أكبر أيها المسلمون، وهل رأيتم أكبر من هذه الجرائم الثلاث؟!
أليس من السر الذي يلفت نظر العقلاء أن دين الإسلام ـ وهو دين الرحمة والرأفة حتى مع الحيوان ـ وقف هذا الموقف الشديد مع هؤلاء الزناة والزواني؟!
أليس هذا الدين الذي يحب الستر ويدعو إليه يقيم هذا الحد على مشهد من المؤمنين؟!
لماذا كل ذلك أيها الإخوة؟! إن الرأفة بالزناة ممن ثبت زناهم وتحققت جنايتهم إنما هي قسوة على المجتمع، وقسوة على الآداب الإنسانية، وقسوة على الضمير البشري، بل قسوة على حقوق الإنسان. إن القسوة في الحد أرأف ثم أرأف بالمجتمع مما ينتظره من شيوع الفواحش لتفسد الفطرة وترتكس في حمأة الرذيلة ويعيش في بيئة الأدواء والأمراض.
نعم إن الحدود جلدٌ وقتلٌ وقطعٌ، فلتشمئز نفوس الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولتغظ صدور الذين لا يرضون بحكم الله.
تبًا لهم لقد قالوا: إن إقامة الحدود غلظة وقسوة ووحشية لا تليق بحضارة اليوم. ويحهم ماذا فعلوا بالأبرياء؟! وما هو مصير الضعفاء؟! ألم ينسفوا بمخترعاتهم الجهنمية مدنًا آمنة؟ ألم يدكوا عواصم عامرة تعج بالألوف والملايين لا ذنب لهم ولا خطيئة سوى الظلم والهمجية. فيالوحشية هذا المتحضر!! ويالخراب هذا المتنوِّر!! هل علومهم ومعارفهم أتت بكل هذه البلايا؟!
وبعد أيها الإخوة، فلو حُفظت شريعة الله في كل بلاد المسلمين، وأقيمت حدود الله، وحيل بين الذين يتعدونها لما رأيت في كثير من البلاد مظاهر السقوط في الحضيض، ولما تغير عليهم ما تغير: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
ألم يعلموا أن حفظ الفروج سبيلٌ للفَرَج في الدنيا والتوفيق في المسيرة؟! واذكروا إن شئتم قصة صاحب الغار حين فرج الله عليه بعفته عن الحرام. ألم يعلموا أن حفظ الشهوات سبيلٌ للاستظلال بظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله؟! واذكروا ذلك العفيف الذي دعته ذات الحسن والجمال فاعتصم بخوفه من الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?لْخَبِيثَـ?تُ لِلْخَبِيثِينَ وَ?لْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـ?تِ وَ?لطَّيّبَـ?تُ لِلطَّيّبِينَ وَ?لطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَـ?تِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26].
[1] مرسل، أخرجه الطبري في تفسيره (28/78) عند تفسير قول الله تعالى: يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يباعينك على أن لا يشركن بالله شيئاً... [الممتحنة:12]، وأبو يعلى في مسنده (4754)، قال الهيثمي: رواه أبو يعلى ، وفيه من لم أعرفهن. مجمع الزوائد (6/37) وكذا قال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/300). وذكره الحافظ في الفتح (7/141)، وصحح إسناده مرسلاً في الإصابة (8/155) في ترجمة هند بنت عتبة رضي الله عنها.
[2] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الاستئذان – باب زنا الجوارح دون الفرج، حديث (6243)، ومسلم: كتاب القدر – باب قدر على ابن آدم... حديث (2657).
[3] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب المظالم والغصب – باب النهي بغير إذن صاحبه، حديث (2475)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بيان نقصان الإيمان... حديث (57).
[4] منكر، سنن النسائي : كتاب قطع السارق – باب تعظيم السرقة ، حديث (4872)، وهي زيادة منكرة لأن راويها يزيد بن زياد الهاشمي مولاهم ضعيف كما في التقريب (7768). وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (6/ القسم الثاني ص 1270)، ضعيف – سنن النسائي (344).
[5] ضعيف، لم أجده في المطبوع من مسند البزار، وعزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد (1/101) حيث قال : رواه البزار ، وفيه إسرائيل الملائي ، وثقه يحيى بن معين في رواية، وضعّفه الناس.
[6] صحيح، سنن أبي داود : كتاب السنة – باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، حديث (4690)، سنن الترمذي : كتاب الإيمان – باب ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن، حديث (2625) تعليقاً. شعب الإيمان للبيهقي (5364)، وصححه الحاكم (1/22)، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (12/61)، وصححه أيضاً الألباني في السلسلة الصحيحة (509).
[7] صحيح، صحيح البخاري : كتاب التعبير – باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، حديث (7047).
[8] صحيح، أخرجه البخاري : كتاب الديات – باب قول الله تعالى: أن النفس بالنفس... حديث (6878)، ومسلم : كتاب القسامة والمحاربين – باب ما يباح به دم المسلم ، حديث (1676).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده سبحانه وأشكره وهو الحليم الشكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الشافع المشفع يوم النشور، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الظلام والنور.
أما بعد: أيها المسلمون: الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة، ولا يلغي الوظائف التي ركبها الله في الإنسان، ولا يكبت الغرائز ولا يستقذرها، ولكنه يهذبها وينظمها ويسيرها في مسالك الطهر، ويرفعها من مستوى الحيوانية المحضة لتصبح محورًا تدور عليه الآداب النفسية والإجتماعية. إنه يحارب الحياة البهيمية الساقطة التي لا تقيم بيتًا، ولا تبني أسرة، ولا تنشئ حياةً كريمةً ومجتمعًا طاهرًا.
إن الإسلام يقصد إلى حياة أسرية كريمة محترمة تشترك فيها الآمال والآلام، ويؤخذ بها حساب الحاضر والمستقبل. محضنٌ لذرية صالحةٍ ومنشأٌ لجيلٍ طاهرٍ، فيه الأبوان حارسان أمينان لا يفترقان.
هذا المجتمع الكريم النابت في تعاليم الإسلام يتميز بآدابه، ويلتزم بأحكامه، هذا المجتمع يجعل جريمة الزنا قصيةً في ركن لا يطالها إلا فئات شاذة لا يؤبه لها.
إن الذي يكبح هذه الجريمة، ويضيق دائرتها هو كل الإسلام بأحكامه وآدابه وعقائده بدءًا من الإيمان بالله وخشيته وتقواه وحسن مراقبته سبحانه، ثم تنقية المجتمع من بواعث الفتن، ومواطن الريب؛ التزامٌ للملابس السابغة المحتشمة التي تكرم ابن آدم وتحميه: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] أدب غض البصر، وكف العيون الخائنة من البحث عن العورات قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ [النور:30، 31].
تحريم الخلوة بين الرجل والمرأة غير ذات المحرم طهارة لقلوبهم وقلوبهن. وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عاً فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]. ((ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما)) [1] ، و((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم)) [2].
المباعدة بين مجالس الرجال ومجالس النساء، حتى في المساجد ـ دور العبادة ـ فللرجال صفوفهم وللنساء صفوفهن.
منع الاختلاط المحرم في التعليم والعمل وكل مجال يقود إلى الفتنة، تيسير سبل الزواج: وَأَنْكِحُواْ ?لايَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]. التزام الاستئذان والاستئناس حتى لا تقع على عورات أو تلتقي بمفاتن.
ومن أعظم الآداب في هذا الباب الكف عن إشاعة الفاحشة في المؤمنين ومحبة ذلك والرغبة فيه عياذًا بالله. إذا انتشر بين الأمة الحديث عن الفواحش ووقوعها فإن الخواطر تتذكرها ويخف على الأسماع وقعها، ومن ثم يدبُّ إلى النفوس التهاون بوقوعها ولا تلبث النفوس الضعيفة والخبيثة أن تُقدم على اقترافها ولا تزال تتكرر حتى تصير متداولة. وانظر إلى ما تفعله كثيرٌ من وسائل الإعلام في الناس والنفوس. إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ [النور:19].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واستمسكوا بدينكم، والزموا آدابه وحدوده، عبوديةً خالصةً، وسلوكًا لمسالك الطهر والعفة يصلح الفرد كما يصلح المجتمع، فتسعدوا في الدنيا، وتسلموا وتفوزوا في الآخرة وتفلحوا، ثم صلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة والهدى فقد أمركم ربكم جل وعلا فقال عز قائلاً عليمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وذريته.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (1/18)، والترمذي : كتاب الفتن – باب ما جاء في لزوم الجماعة، حديث (2165)، وقال : حديث حسن صحيح غريب. والبزار (167). وصححه ابن حبان (4576) ، والحاكم (1/114-115) ، وذكره الضياء في المختارة (96) وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (430).
[2] صحيح، أخرجه البخاري ، كتاب تقصير الصلاة – باب في كم يقصر الصلاة، حديث (1086).
(1/114)
وجوب الإعداد للأعداء
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله والاستجابة لله والرسول إذا دعانا لما يحيينا ، وسؤال الله الثبات-
إعداد العدة لأعداء الإسلام مما دعانا الله ورسوله إليه-
القوة المطلوب إعدادها :
1- قوة في الجهاد باللسان. 2- المال. 3- بالعتاد. 4- قوة الحجة والبرهان. 5- بالتدريب
التمرن على معدات الحرب ، وتعلم أساليب الحرب العصرية-
الآثار والأحاديث في فضل تعلم الرمي والتحذير من تركه ، ودلالة ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيقلبه سبحانه وتعالى كما يشاء بحكمته، فاسألوا الله الثبات على الإيمان، والصبر في شرائع الإسلام، ألا وإن مما دعاكم الله ورسوله إليه أن تعدوا ما استطعتم من قوة لأعداء الإسلام الذين يريدون أن تكون كلمة الله هي السفلى وكلمتهم الباطلة هي العليا ولكن سيأبى الله ذلك بقوته وحوله وسينصر دينه بأوليائه وحزبه.
أعدوا لهم ما استطعتم من قوة في الجهاد باللسان والمال والعتاد، فإنكم لذلك ترضون ربكم وتذبون عن دينكم وتحمون أنفسكم وأهليكم ودياركم ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز تذبون عن دينكم من يريد القضاء عليه ومن يدعو إلى التحلل والتخلص منه، فإن الدين رأس الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
أعدوا لهم ما استطعتم من قوة الحجة والبرهان ورد شبههم الباطلة بالتفنيد وهدم الأركان، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة بالتدريب والتمرن على المعدات الحربية والتعلم لطرق الأساليب الحربية التي تلائم العصر الحاضر.
وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله وهو على المنبر يقول: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)) وقال : ((ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا، ومن ترك الرمي بعدما عمله رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو قال كفرها)).
وعن سلمة بن الأكوع قال: مر النبي على قوم ينتضلون أي يترامون أيهم يغلب فقال: ((ارموا بني إسماعيل - وإسماعيل أبو العرب- فإن أباكم كان راميا، وأنا مع بني فلان)) فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال النبي : ((ما لكم لا ترمون قالوا :كيف نرمي وأنت معهم؟ قال النبى : ارموا وأنا معكم كلكم)).
وقال : ((ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه)) فبين النبي في هذا الحديث أنه لا ينبغي ترك الرمي حتى ولو لم يكن إليه حاجة وقال: ((من بلغ بسهم في سبيل الله يعني من رمى فأصاب فهو له درجة في الجنة)).
والرمي الذي فسر به النبي الآية يشمل كل رمي في كل زمان ومكان بحسبه فكما أن الرمي في وقته بالنبل والنشاب والمنجنيق، فالرمي المناسب في هذا الوقت يكون بالبارود والمدافع على اختلاف أنواعها والقنابل والصواريخ لأن النبي أطلق الرمي ولم يعين ما يرمى به.
وإن مما جاء به الإسلام من الحث على تعلم الرمي أن أباح أخذ الرهان عليه فيجوز للإنسان أن يرامي صاحبه بالسلاح على عوض من الدراهم أو نحوها لما في ذلك من الحث والإغراء على تعلم الرمي.
ولقد أحسنت حكومتنا وفقها الله حيث أمرت بفتح مراكز للتدريب على الفنون الحربية في المملكة، وإننا لنرجو أن يكون هذا عاما في جميع البلدان ليتكون من هذه البلاد شبابها وكهولها أمة حاملة للسلاح تقوى على الدفاع عن دينها وحماية أوطانها كما نسأل الله تعالى أن يوفق المواطنين للتسارع والتنافس في هذا الميدان النافع وأن يلهبوا شعور الأمة للتسابق إليه امتثالا لأمر الله تعالى وتمشيا مع رغبة ولاة الأمور.
ونسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويوفق ولاة أمورنا للقيام بما أوجب الله عليهم من رعاية من ولاهم الله عليهم رعاية تامة ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ويوجهونهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون [الأنفال:59-60].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/115)
اليهود وخياناتهم
أديان وفرق ومذاهب
أديان
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله والصدق في النية والقول والعمل وكيفية ذلك-
الجهاد جهادان: 1- جهاد النفس. 2- جهاد العدو-
تربص الأعداء بنا ، ودورهم في إفساد العقيدة والفكر والأخلاق-
عداوة اليهود للمسلمين ، وصفاتهم الخبيثة ، وقتلهم الأنبياء ، وموقفهم من دعوة الإسلام ورسوله
صلى الله عليه وسلم (بنو قينقاع – بنو النضير – بنو قريظة)-
وجوب إعداد العدة لجهاد اليهود وكل أعداء الأمة ، والأخذ بأسباب النصر وهي:
1- إخلاص النية لله في الجهاد. 2- الصبر والتقوى. 3- عدم الاغترار بالنفس-
الاستفادة من مراكز التدريب التي تنشئها الدولة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين كونوا مع الصادقين الذين عاملوا ربهم بصدق، فصدقوا في النية، وصدقوا في القول، وصدقوا في العمل، حققوا هذا الصدق بالقيام بما أوجب عليكم من نصرة دينه وإعلائه، وتقديمه على هوى النفس وشهواتها، فالجهاد جهادان: جهاد النفس، وجهاد العدو، ومرتبة الجهاد الأول قبل الثاني.
أيها المسلمون: يا أمة محمد يا أمة دين الإسلام، الدين الذي جمع بين العزيمة والقوة والشهامة والكرامة جمع بين خيري الدنيا والآخرة، إن دينكم هذا له أعداء يتربصون به الدوائر ويتحينون الفرص ويغزونه من كل وجه يغزونه من ناحية العقيدة والفكر فيغيرون العقيدة الصحيحة والأفكار القويمة إلى عقائد فاسدة وأفكار عوجاء إن أعداء الإسلام يغزونه من ناحية الأخلاق فيفتحون لأبنائه كل باب يغير الأخلاق الفاضلة والمثل العليا.
إن أعداء الإسلام يغزون الإسلام أيضا من الناحية العسكرية ليوهنوا أبناءه ويشردوهم كل مشرد ويمزقوهم كل ممزق، وفي هذه الأيام اعتدى اليهود على البلاد العربية الإسلامية، أولئك اليهود الذين ما زاولوا في عداوة شديدة للإسلام لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا.
أولئك اليهود الذين وصفوا الله سبحانه بالنقص فقالوا- لعنهم الله- يد الله مغلولة أي بخيل لا ينفق فقال الله تعالى: غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا [المائدة:64]. فغل الله أيديهم غلا معنويا بحيث كانوا أبخل الناس لا يبذلون الأموال إلا إذا كانوا يرجون من ورائها أكثر مما بذلوا أولئك اليهود الذين نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشترو ا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون. أولئك اليهود الذين قتلوا أنبياء الله بغير حق وسعوا في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين. وأولئك اليهود الذين غدروا بخاتم النبيين محمد ونقضوا عهده، فإنه لما هاجر إلى المدينة قدمها وفيها ثلاث قبائل من اليهود فعقد معهم أن لا يخونوا ولا يؤذوا، ولكن أبى طبعهم اللئيم وسجيتهم السافلة إلا أن ينقضوا ويغدروا، فأظهر بنو قينقاع الغدر بعد أن نصر الله نبيه في بدر، فأجلاهم النبي من المدينة على أن لهم النساء والذرية ولرسول الله أموالهم.
وأظهر بنو النضير الغدر بعد غزوة أحد فحاصرهم النبي وقذف الله في قلوبهم الرعب وسألوا من رسول الله أن يجليهم على أن لهم ما تحمله إبلهم من أموالهم إلا آلة حرب فأجابهم إلى ذلك فنزل بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام.
وأما قريظة فنقضوا العهد يوم الأحزاب فحاصرهم النبي فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بقتل رجالهم وقسم أموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم فقتل رجالهم وكانوا ما بين الستمائة إلى سبعمائة.
هذا لون من ألوان غدرهم بخاتم الأنبياء ومن غدرهم وخيانته أنه لما فتح خيبر أهدوا له شاة مسمومة فأكل منها ولم يحصل مرادهم ولله الحمد، ولكنه كان يقول في مرض الموت: ((ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر وهذا أوان انقطاع أبهري)).
أيها المسلمون: إن اليهود أهل غدر ومكر وخيانة، إنهم أهل غضب ولعنة من الله، استحلوا محارم الله بأدنى الحيل فلعنهم وجعل منهم القردة والخنازير لقد ضرب الله عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس.
أيها المسلمون: إن علينا أن نعد القوة لهؤلاء الأعداء ولكل عدو للإسلام وأبنائه مهما كان وأيا كان، علينا أن نعد ما استطعنا من قوة بمحاربته بنوع السلاح الذي فتح الثغرة به على الإسلام. وإن علينا في مثل هذا الموقف أن نأخذ بأسباب النصر وهي: -
أولا: إخلاص النية لله بأن ننوي بجهادنا إعلاء كلمة الله وتثبيت شريعته وتحكيم كتابه وسنة رسول الله.
ثانيا: أن نلتزم بالصبر والتقوى فإن الله مع الصابرين وإن الله مع المتقين، علينا أن نصبر على الجهاد وأن نتقي الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإن مخالفة أمر الله ورسوله من أسباب الخذلان، فهؤلاء صحابة محمد مع رسول الله خالف بعضهم في أمر واحد من أوامر رسول الله في غزوة أحد فكانت الهزيمة عليهم بعد أن كان النصر لهم في أول الأمر ولكن بعد ذلك تداركهم عفو الله فعفا الله عنهم.
ثالثا: أن نعرف قدر أنفسنا وأن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله، فلا يأخذنا العجب بقوتنا وكثرتنا، فإن الإعجاب بالنفس والاعتزاز بها من دون الله سبب للخذلان، ولقد أعجب الصحابة بكثرتهم في يوم حنين، فلم تغن عنهم شيئا، ثم ولوا مدبرين، ولكن الله أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا من الملائكة فكانت العاقبة للمؤمنين.
رابعا: أن نعد العدة للأعداء مستعملين في كل وقت وحال ما يناسب من الأسلحة والقوة لنرد على سلاح العدو بالمثل فإذا تحققت هذه الأمور الأربعة فإن الله يقول: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [محمد:7].
أيها المواطنون: لقد ألهم الله حكومتنا في هذه الأيام – وفقها الله تعالى – أن تفتح مكاتب للدفاع الوطني في كل بلد، وهذه أيها المواطنون فرصة أتيحت لكم وستكون بحول الله تعالى فاتحة خير لما بعدها.
فهيا أيها الشباب انتهزوا هذه الفرصة انفعوا أنفسكم انفعوا مواطنيكم فأنتم رجال المستقبل أنتم أهل العزيمة أنتم أهل الاقدام مرنوا أنفسكم ما دمتم في طور التعلم والتمرن لا تكونوا جاهلين بأبسط أنواع الدفاع، أترضون لأنفسكم بالتأخر وأنتم الشباب الذين خلقكم الله في هذا العصر وجعلكم نشأ هذا العصر لتقوموا بما تتطلبه أمور هذا العصر من أساليب الدفاع عن دينكم وعن أمتكم، وإني لأرجو الله تعالى أن ترى أمتكم منكم ما تقر به عينها وينشرح له صدرها وأن يجعلنا جميعا من المجاهدين في سبيله الناصرين لدينه إنه جواد كريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا المعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:40-41].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/116)
العدل أساس قيام الدول وسعادة الأمم
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
العدل ومكانته في الشرائع وأثره في عز الأمم وبقائها – مكانة العدل في الإسلام والأمر به
وسعته وشموله – أقسام العدل – العدل في الأقوال – أثر العدل , وعاقبة الظلم – العدل بين الأبناء والزوجات
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوه رحمكم الله، وأحسنوا فهو سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
أيها المسلمون، احترام العدل تقليدٌ تتوارثه الأمم المحترمة، وتقيم له الضمانات، وتبني له السياجات، من أجل أن يرسخ ويستقرَّ.
وإن الحضارات الإنسانية لا تبلغ أوج عزها، ولا ترقى إلى عز مجدها إلا حين يعلو العدل تاجها، ويتلألأ به مفرقها. تبسطه على القريب والغريب، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والحاضر والباد.
العدل تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، والفطر السوية. وتمدح بادعاء القيام به ملوك الأمم وقادتها، وعظماؤها وساستها.
حسن العدل وحبه مستقر في الفطر، فكل نفس تنشرح لمظاهر العدل مادام بمعزلٍ عن هوى يغلبها في قضية خاصة تخصها.
لقد دلت الأدلة الشرعية وسنن الله في الأولين والآخرين أن العدل دعامة بقاء الأمم، ومستقر أساسات الدول، وباسط ظلال الأمن، ورافع أبنية العز والمجد، ولا يكون شيء من ذلك بدونه.
القسط والعدل هو غاية الرسالات السماوية كلها: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِ?لْبَيّنَـ?تِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْمِيزَانَ لِيَقُومَ ?لنَّاسُ بِ?لْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا ?لْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَـ?فِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِ?لْغَيْبِ إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].
إن أية أمة تعطلت من هذه الخلة الجليلة فلا تجد فيها إلا آفاتٍ جائحةً، وزوايا قاتلةً، وبلايا مهلكةً، وفقرًا معوزًا، وذلاً معجزًا، ثم لا تلبث بعد ذلك أن تبتلعها بلاليع العدم وتلتهمها أمهات اللَّهم [1].
بالعدل قامت السموات والأرض، وللظلم يهتز عرش الرحمن. العدل مفتاح الحق، وجامع الكلمة، ومؤلف القلوب.
إذا قام في البلاد عمَّر، وإذا ارتفع عن الديار دمَّر. إن الدول لتدوم مع الكفر مادامت عادلة، ولا يقوم مع الظلم حقٌ ولا يدوم به حكم.
أيها الإخوة، العدل في حقيقته تمكين صاحب الحق ليأخذ حقه. في أجواء العدل يكون الناس في الحق سواء لا تمايز بينهم ولا تفاضل، بالعدل يشتد أزر الضعيف ويقوى رجاؤه، وبالعدل يهون أمر القوي وينقطع طمعه. لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:279].
أيها الإخوة في الله، وإن أمة الإسلام هي أمة الحق والعدل، والخير والوسط، نصبها ربها قوامةً على الأمم في الدنيا، شاهدةً عليهم في الآخرة، خير أمةٍ أخرجت للناس، يهدون بالحق وبه يعدلون، يتواصون بالحق والصبر، ويتنافسون في ميادين الخير والبر، ويتسابقون إلى موجبات الرحمة والأجر.
أمةٌ أمرها ربها بإقامة العدل في كتابه أمرًا محكمًا وحتمًا لازمًا: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لامَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ إِنَّ ?للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58].
يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لاْقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَ?للَّهُ أَوْلَى? بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لْهَوَى? أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:135].
لا أعدل ولا أتم ولا أصدق ولا أوفى من عدل شريعة الله، فهي مبنية على المصالح الخالصة أو الراجحة، بعيدة عن أهواء الأمم وعوائد الضلال، لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بتقاليد الفساد. إنها لمصالح النوع البشري كله ليس لقبيلة أو بلد أو جنس.
فَلِذَلِكَ فَ?دْعُ وَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ مِن كِتَـ?بٍ وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ ?للَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَـ?لُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـ?لُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ?للَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ?لْمَصِيرُ [الشورى:15].
إن الإسلام صدقٌ كله، خيره وحكمه عدلٌ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لِكَلِمَـ?تِهِ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الأنعام:115].
عدل الإسلام يسع الأصدقاء والأعداء، والأقرباء والغرباء، والأقوياء والضعفاء، والمرؤوسين والرؤساء. عدل الإسلام ينظم كل ميادين الحياة ومرافقها ودروبها وشؤونها. في الدولة والقضاء، والراعي والرعية، والأولاد والأهلين. عدلٌ في حق الله. وعدل في حقوق العباد في الأبدان والأموال، والأقوال والأعمال. عدلٌ في العطاء والمنع، والأكل والشرب. يُحق الحق ويمنع البغي في الأرض وفي البشر. ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) [2].
وفي الحديث الآخر: ((ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله في النار)) أخرجه الحاكم، وقال صحيح الإسناد من حديث ابن يسار رضي الله عنه [3].
وإن من أولى ما يجب العدل فيه من الحق حق الله سبحانه في توحيده وعبادته، وإخلاص الدين له كما أمر وشرع خضوعًا وتذللاً، ورضًا بحكمه وقدره، وإيمانًا بأسمائه وصفاته. وأظلم الظلم الشرك بالله عز وجل، وأعظم الذنب أن تجعل لله ندًا وهو خلقك.
ثم العدل في حقوق العباد تُؤدى كاملة موفورة، ماليةً أو بدنية، قولية أو عملية. يؤدي كل والٍ ما عليه مما تحت ولايته في ولاية الإمامة الكبرى ثم نواب الإمام في القضاء والأعمال في كل ناحية أو مرفق.
في الحديث الصحيح: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن – وكلتا يديه يمين – الذين يعدلون في حكمهم وفي أهلهم وما ولوا)) [4].
وإن ولاة أمور المسلمين حق عليهم أن يقيموا العدل في الناس. وقد جاء في مأثور الحكم والسياسات: لا دولة إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.
حكم كله عدل ورحمة في خفض الجناح ولين الجانب، وقوة الحق، عدلٌ ومساواة تكون فيه المسؤوليات والولايات والأعمال والمهمات تكليفًا قبل أن تكون تشريفًا، وتبعات لا شهوات، ومغارم لا مغانم، وجهادًا لا إخلادًا، وتضحيةً لا تحليةً، وميدانًا لا ديوانًا، وأعمالاً لا أقوالاً، وإيثارًا لا استئثارًا. إنصافٌ للمظلوم، ونصرة للمهضوم، وقهرٌ للغشوم، وردع للظلوم، رفع المظالم عن كواهل المقروحة أكبادهم، ورد الاعتبار لمن أذلهم البغي اللئيم، لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا تعويق واهم، وإن حدًا يقام في الله خير من أن يمطروا أربعين صباحًا.
وفي مثل هذا صح الخبر عنه أنه قال: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال)) [5]. والإمام العادل سابع سبعةٍ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [6].
أما نزاهة القضاء ونقاء ضمائر القضاة فحسبك به من عدل وقسط، صاحب الحق في جو القضاء العادل يشعر بالثقة والأمان، في أروقة المحاكم وفي دواوين القضاء، مطمئنٌ إلى عدالة القضية ونزاهة الحكم وشرف سرائر الحكام. والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولأن يخطئ الحاكم في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة، هذا تعرفه دنيا الحضارات ودين أهل الإسلام. القاضي العادل يواسي الناس بلحظه ولفظه، وفي وجهه ومجلسه، لا يطمع شريف في حيفه، ولا ييأس ضعيف من عدله، لا يميل مع هوى، ولا يتأثر بود، ولا ينفعل مع بغض. لا تتبدل التعاملات عنده مجاراةً لصهر أو نسب، ولا لقوة أو ضعف، يزن بالقسطاس، وبالعدل يقضي. يدني الضعيف حتى يشتد قلبه وينطلق لسانه، وبتعاهد الغريب حتى يأخذ حقه، وما ضاع حق غريب إلا من ترويعه وعدم الرفق به.
جاء في الخبر عنه : ((إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى الله عنه ولزمه الشيطان)) [7] ، وفي رواية الحاكم: ((فإذا جار تبرأ الله منه)) [8].
أيها الإخوة، عدلٌ في كل ميدان، وقسط يكفل الحق للناس كل الناس ولو كان من غير المسلمين والأعداء المناوئين: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8].
هذا هو العدل العالمي الذي جاء به محمد منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا عدلٌ يتم فيه ضبط النفس والتحكم في المشاعر. إنه القمة العليا والمرتقى الصعب الذي لا يبلغه إلا من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًا ورسولاً، وبدينه دستورًا وحكمًا. إنه عدل محمد ، مكيالٌ واحدٌ وميزانٌ واحدٌ.
ولقد انتظر بكم الزمان ـ أيها الأخوة ـ وطالت بكم الحياة حتى رأيتم أممًا آتاها الله بسطة في القوة والسيطرة فما أقامت عدلاً، ولا حفظت حقًا، ويلٌ لهم وما يطففون، إذا اكتالوا لأنفسهم يستوفون، وإذا كالوا لغيرهم أو وزنوهم يخسرون. ولكن هدي محمد يأبى إلا الحق: وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ مِن كِتَـ?بٍ وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى:15]. إن الأمة لا تصل إلى هذا القدر من السمو ونصب ميزان العدل إلا حينما تكون قائمةً بالقسط لله خالصةً مخلصة، قد تلبست بلباس التقوى: ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
والفئة الباغية إذا فاءت إلى أمر الله ودخلت في الطاعة فإن حقها في العدل محفوظ: فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِ?لْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].
والعدل ـ أيها الأخوة ـ كما يكون في الأعمال والأموال فهو مطلوب في الأقوال والألفاظ: وَإِذَا قُلْتُمْ فَ?عْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى? [الأنعام:152]. ولعل العدل في الأقوال أدق وأشق. وصاحب اللسان العدل يعلم أن الله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهلٍ وظلم: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَ?لإِثْمَ وَ?لْبَغْىَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?ناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
تأملوا هذا الإنصاف النبوي في القول حينما أعلن النبي حكمه على كلمة قالها شاعر حال كفره حين قال عليه الصلاة والسلام: ((أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)) [9]. ثم هاهو صاحبه عثمان بن مظعون رضي الله عنه يسمع البيت كاملاً؛ يترسم النهج في نفسه في التقويم والعدل فُيحق الحق ويقول القسط، فقال في شطره الأول صدقْتَ، ولما قال الشطر الثاني: (وكل نعيم لا محالة زائل) قال: كذبت، نعيم الجنة ليس بزائل.
أيها الإخوة، لم يكن كذب الشاعر في الشطر الثاني بمانع عثمان رضي الله عنه من أن يقر له بالصدق والحق في شطره الأول.
وهذا علي رضي الله عنه يقاتل من خرج عليه، فلما سئل عنهم: أمشركون هم؟ قال: هم من الشرك فروا. قيل: أفمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: هم إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم.
ومن لغير هذا العدل من القول غير أبي الحسن رضي الله عنه وعن ذريته الطيبين الطاهرين؟! وهل بعد هذا الإنصاف من إنصاف؟!
والنووي رحمه الله يقول: وينبغي ذكر فضل أهل الفضل ولا يمنع منه شنآن أو عداوة. والعبد إذا رزق العدل وحب القسط علم الحق، ورحم الخلق، واتبع الرسول، واجتنب مسالك الزيغ والبدع، هكذا يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله.
أيها الأخوة، إذا ساد العدل حُفظت الحقوق، ونصر المظلوم وولت الهموم، وأدبرت الغموم.
أما حينما يتجافى الناس عن العدل ويقعون في حمأة الظلم ينبت فيهم الحقد والقطيعة والفرقة وذهاب الريح.
من تجافى عن العدل دخل دائرة الظلم، يأخذ ولا يعطي، ويطلب ولا يبذل، يأخذ الذي يستحق، ويمتنع عما يحق، تغلبه مسالك المنافقين: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ ظَنَّ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ [آل عمران:154]، وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ?لْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:48، 49].
إن الحَيْف وسلب الحقوق وإهدار الكرامات مبعث الشقاء ومثار الفتن. إن قومًا يفشو فيهم الظلم والتظالم، وينحسر عنهم الحق والعدل إما أن ينقرضوا بفساد، وإما أن يتسلط عليهم جبروت الأمم يسومونهم خسفًا، ويستبدون بهم عسفًا، فيذوقون من مرارة العبودية والاستذلال ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال. إن الظلم خراب العمران، وخراب العمران خراب الأمم والدول.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغني، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين استجب اللهم يا رب العالمين.
[1] اللّهم: المنايا والحتوف.
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجمعة – باب الجمعة في القرى والمدن، حديث (893)، ومسلم: كتاب الإمارة – باب فضيلة الإمام العادل... حديث (1829).
[3] ضعيف ، أخرجه الحاكم (4/91)وصححه، والطبراني في الأوسط (6629) بنحوه. قال المنذري: رواه الطبراني في الأوسط من رواية عبد العزيز بن الحصين وهو واهٍ... وهو في الصحيحين بغير هذا اللفظ. الترغيب (3/121). وكذا قال الهيثمي في المجمع (5/213)، وضعفه أيضاً الألباني في ضعيف الجامع (5144)، وضعيف الترغيب (1328).
[4] صحيح، أخرجه مسلم، كتاب: الإمارة – باب فضيلة الإمام العادل... حديث (1827).
[5] صحيح، قطعة من حديث أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب الصفات التي يُعرف بها في الدنيا أهل الجنة، حديث (2865).
[6] صحيح، قطعة من حديث أخرجه البخاري، كتاب: الأذان – باب : من جلس في المسجد... حديث (660)، ومسلم: كتاب: الزكاة – باب فضل إخفاء الصدقة، حديث (1031).
[7] حسن، أخرجه الترمذي، كتاب : الأحكام – باب : ما جاء في الإمام العادل، حديث (1330)، وقال : حسن غريب. وابن ماجه، كتاب: الأحكام – باب: التغليظ في الحيف والرشوة، حديث (2312) بنحوه. وصححه ابن حبان (5062) دون قوله: ((فإذا جار...))، وذكره الحافظ في التلخيص الحبير وقوّاه، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1069)، وصحيح الترغيب (2196).
[8] حسن، مستدرك الحاكم (4/93)، وانظر الحديث السابق.
[9] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب : أيام الجاهلية، حديث (3841)، ومسلم : كتاب الشعر - حديث (2256).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله شمل الأنام بواسع رحمته، وصرَّف العالم ببالغ حكمته، لا يشغله شأنٌ عن شأن وهو الحكيم الخبير. أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أصدق الناس في الأقوال، وأسدهم في الأفعال، وأعدلهم في الأحكام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، واستقيموا إليه واستغفروه، وأعدوا من الأعمال الصالحة ما يقرب لديه.
أيها الإخوة، وكما يكون العدل في الأبعدين فهو في الأهلين والأقربين حق وحتم. وأحق الناس بالعدل أبناؤك. فمن ابتغى بر أبنائه وبناته يحبونه في حياته ويترحمون عليه بعد مماته وتصفو قلوبهم فيما بينهم فليتق الله وليقم العدل فيما بينهم، يساوي بينهم في العطية والمعاملة والنظرة والابتسامة. وليتق الله أولئك الذين يحرمون بعض المستحقين من الذرية في عطية أو وصية فذلك حرام وجور وظلم، والوصية به وصية ظلم وجنف، مخالفة للعدل والحق لا يجوز نفاذها، فتلك أفعالٌ شنيعة، وظلمٌ مهلك، تقوم به الخصومات، وتثور به الأحقاد، وتقع به المظالم، وتتقطع به الأرحام.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به رسول الله فقال: ((إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي. فقال رسول الله : أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا. قال عليه الصلاة والسلام: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم. قال: فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة)) [1]. وفي رواية: ((إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، فلا تُشهدني على جور)) [2] ؛ ((أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى. قال: فلا إذن)) [3] ، وفي رواية: ((سووا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يسووا بينكم في البر)) [4].
والعدل في المعاملات الزوجية فرضٌ وحقٌ واجبٌ في النفقة والكسوة والمعاملة والعشرة كما يفعل الكرماء من ذوي العقل والدين والمروءة والكمال. تطعمها مما تطعم، وتكسوها مما تكتسي.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط)) [5] وفي رواية ((وشقه مائل)) [6].
أيها الإخوة، حينما تتشرب النفوس العدل فيكون سجية لها فإنه يقودها إلى محاسن الأخلاق ومكارم المروءات، عدل في السلوك كله، وسط بين الإفراط والتفريط، جود وسخاء من غير سرف ولا تقتير، وشجاعة وقوة من غير جبن ولا تهور، وحلم وأناة من غير غضب ماحق أو مهانة مردية. وكل تعامل فَقَدَ العدل فهو ضرر وإضرار، وفساد وإفساد وَلاَ تَبْخَسُواْ ?لنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ?لاْرْضِ مُفْسِدِينَ [الشعراء:183].
وفي ديننا أيها الإخوة، مرتبة فوق العدل قد أمر الله بها مقترنة بالعدل. مرتبة تأتي لتجمل حدة العدل الصارم ووجهه الجازم الحازم، إنها مرتبة الإحسان حين تدع الباب مفتوحًا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقوقه إيثارًا لود القلب وشفاء غل الصدور، ليداوي جرحًا، ويكسب فضلاً، ويرتفع عند ربه درجاتٍ عُلا.
[1] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الهبة وفضلها.. باب الهبة للولد ، حديث (2586)، ومسلم : كتاب الهبات – باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، حديث (1623).
[2] ضعيف، أخرجه (4/270)، وأبو داود: كتاب البيوع – باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، حديث (3542). وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني ، وهو ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره، كما في التقريب. وانظر ضعيف أبي داود (3026). أما ذكر (الجور) فقد ثبت عند البخاري : كتاب الشهادات – باب: لا يشهد على شهادة جور... حديث (2650)، ومسلم : كتاب الهبات – باب : كراهة تفضيل بعض الأولاد... حديث (1623).
[3] صحيح، أخرجه مسلم : كتاب الهبات – باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، حديث (1623).
[4] صحيح، أخرجه ابن حبان: كتاب الهبة – ذكر خبر ثالث يصرح بأن الإيثار بين الأولاد.. حديث (5104)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/86) واللفظ له ، وأبو عوانة في مسنده (5686)، وأخرجه مسلم بلفظ : ((أليس تريد منهم البر مثل ما تريد من ذا؟..))، كتاب : الهبات – باب : كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.. حديث (1623).
[5] صحيح، أخرجه أحمد (2/347)، والترمذي : كتاب النكاح – باب : ما جاء في التسوية بين الضرائر ، حديث (1141)، وابن ماجه: كتاب النكاح – باب القسمة بين النساء، حديث (1969)، وصححه ابن الجارود في المنتقى (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2/186) والألباني. صحيح سنن الترمذي (912).
[6] صحيح، أخرجه أبو داود : كتاب النكاح – باب: في القسم بين النساء، حديث (2133)، والدارمي ، كتاب: النكاح – باب : في العدل بين النساء، حديث (2206)، وانظر الحديث السابق.
(1/117)
حال السلف في المعاملات وحالنا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الزهد والورع
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
فتنة الأموال والأولاد-
شرع الله لعباده طرقا لتحصيل الأرزاق وتصريفها مبنية على العدل والقصد-
انقسام الناس في ذلك -
حال السلف في تحصيل الأموال وتصريفها وورعهم في ذلك وموقف أبي بكر من الغلام،
وعمر-
حال الناس اليوم وعدم مبالاتهم بأكل الحرام وأكل أموال الناس بالباطل ، ونماذج لذلك-
(الغش في البيع – الحلف الكاذب – منع الأجير حقه – تفريط العامل في عمله)
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم.
عباد الله: الأموال فتنة في تحصيلها، فتنة في تصريفها، لقد شرع الله وهو العليم الحكيم لعباده طرقا لتحصيلها مبنية على العدل والقصد فلا ظلم ولا تفريط ولا إفراط، وشرع لعباده طرقا لتصريفها على الوجه النافع للعبد في دينه ودنياه، فانقسم الناس في ذلك أشتاتا وأسعد الناس بها من اكتسبها من طرقها المشروعة ثم بذله فيما ينفعه في دينه ودنياه، وأشقى الناس بها من اكتسبها على غير الوجه الشرعي ثم أمسكها عن بذلها فيما ينفع أو بذلها فيما هو ضار وبين هاتين المنزلتين منازل.
أيها المسلمون: لقد كان إخوانكم الأولون الذين ملكوا زمام الدنيا ومفاتيح الآخرة يعرفون قدر هذه الأموال فكانوا لا يحصلونها إلا من طريق مباح ولا يصرفونها إلا في طريق نافع سلكوا في تحصيلها سبيل الورع وفي تصريفها سبيل الكرم والبذل المحمود، كان لأبي بكر غلام فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام تدري ما هذا؟ تكهنت في الجاهلية لإنسان وما أحسن الكهانة ولكني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه. وشرب عمر بن الخطاب لبنا فأعجبه فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها فأدخل عمر يده فاستقاء. هكذا أيها المسلمون كان سلفنا يخرجون الحرام من بطونهم بعد أكله وهم جاهلون به حين أكلوه، وما ضرهم ذلك بل ملكوا به خزائن الدنيا ومفاتيح الآخرة وكانت حياتهم طيبة وعاقبتهم حميدة.
أيها المسلمون: الله أكبر ما أعظم الفرق بيننا وبين هؤلاء؟ ما أعظم الفرق بين قوم يخرجون الحرام من بطونهم وبين قوم يرون الحرام عيانا فيتجرئون عليه ويأكلونه؟ لا يبالون من أين أخذوا المال أمن حلال أم من حرام، فالحلال ما حل بأيديهم والطريقة المباحة للكسب ما أمْلته عليه أهواؤهم وشهواتهم، سواء وافق ما في كتاب الله وسنة رسوله أم خالفه، يأكلون أموال الناس بالباطل بالكذب بالغش بالخيانة لا يتورعون ولا يتنزهون إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.
أيها المسلمون: إن من البَّياعين من يظهر السلعة على أعلى ما يكون من الأوصاف الطيبة وهي في باطنها معيبة يجعل الطيب في أعلاها والرديء في أسفلها يغش الناس بذلك ومن غش فليس من أمة محمد، تبرأ منه رسول الله ، من البياعين من يكذب في ثمن السلعة يقول اشتريت السلعة بكذا أو تسام كذا، وهو كاذب فيأخذ بذلك زيادة في الثمن لكنها تمحق بركته ويأكلها سحتا، ومن المستأجرين من لا يوفي الأجير حقه يأتي الأجير فيعمل عنده العمل ولكنه يماطله بالأجرة، ولقد قال النبي : ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) وقال: ((مطل الغني ظلم)) ومن الأجراء من لا يعطي العمل حقه يتأخر في بدء العمل ثم يعمل ببطء وتأن وتأخر كأنما يساق سوقا وهو يريد أجرته كاملة كيف تريد الأجرة كاملة وأنت لا تعمل العمل كاملا؟ أليس هذا من الظلم؟ أليس هذا من أكل المال بالباطل؟ إن أجيرا كهذا لا يستحق في دين الله تعالى من أجرته إلا بمقدار عمله وما زاد من الأجرة فحرام عليه.
فاتقوا الله أيها المسلمون وعاملوا الناس بالعدل عاملوهم بما تحبون أن يعاملوكم به، حللوا مكاسبكم اجعلوها غنيمة لكم تعينكم على طاعة الله لا تجعلوها غرما عليكم فتفقدوا بركتها وتستحقوا عقوبة الله، وفي الحديث لا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدق به فيقبل منه ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث، إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون [البقرة:88].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/118)
الربا والتحايل عليه
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله والحذر من أسباب سخطه ومنها الربا-
الترهيب من الربا وبيان أنه سبب لعنة الله ومن الكبائر والأدلة على ذلك-
بيان النبي صلى الله عليه وسلم الربا وكيفيته-
أحكام بيع الذهب والفضة والأوراق النقدية وسائر الأصناف التي يجري فيها الربا-
التحايل على الربا وخطورة ذلك والترهيب منه ، وصور ذلك-
بيع المداينة وما فيه من محاذير-
البديل الشرعي لهذه المعاملة :
1-طريقة الإحسان وهي القرض بدون ربح.
2- طريقة السلم ، وبيانها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واحذروا أسباب سخطه وعقابه واحذروا الربا فإنه من أسباب لعنة الله ومن الكبائر التي حذر الله عنها ورسوله قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله [البقرة:278-279]. وقال النبي : ((الربا ثلاث وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه)) [رواه الحاكم وله شواهد].
وفي صحيح مسلم عن جابر قال : ((لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء يعني في الإثم)).
أيها المسلمون: إن الربا فساد في الدين والدنيا والآخرة، إنه فساد في المجتمع واستغلال مبني على الشح والطمع، ولكن المرابي قد زين له سوء عمله فرآه حسنا، فهو من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
أيها المسلمون: لقد بين النبي الربا وأين يكون وكيف يكون فقال : ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)) [رواه أحمد والبخاري].
فهذه هي الأصناف التي نص عليها رسول الله وألحق بها العلماء ما كان في معناه، بين النبي أن هذه الأصناف إذا بيع الشيء منها بجنسه فلا بد فيه من أمرين: الأول القبض من الطرفين في مجلس العقد، والثاني التساوي بأن لا يزاد أحدهما على الآخر، فإن اختل أحد الأمرين وقع المتعاقدان في الربا.
أيها الناس: إن من المعلوم أن أكثر الدول الآن لا تتعامل بالذهب والفضة وإنما تتعامل بالأنواط بدلا عن الدراهم والبدل له حكم المبدل، فيكون لهذه الأنواط حكم ما جعلت بدلا عنه من الذهب والفضة وإذا كان معلوما أنه لا يجوز أن يعطى الرجل مئة من هذه الأوراق بمائة وعشرة مثلا إلى أجل لأن هذا ربا صريح فإنه لا يجوز التحيل على ذلك بأي نوع كان من الحيل، ولكن الشيطان وهو عدو بني آدم فتح على كثير من الناس باب التحيل على محارم الله كما فتحها على اليهود وغيرهم، والحيلة على المحَّرم أن يتوصل الإنسان إلى المحرم بشيء صورته صورة المباح.
وقد حذر النبي أمته من التحيل على المحرمات فقال: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) وقال بعض السلف في المتحايلين أنهم يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون، والحيلة على المحرم لا ترفع التحريم عنه وإنما هي فعل للمحرم مع زيادة المكر والخداع لله رب العالمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والمتحايل على المحرم لا يقصد إلا المحرم فله ما نوى. قال النبي : ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).
أيها المسلمون: إن للتحايل على الربا صورا كثيرة أكثرها شيوعا بيننا طريقة المداينة التي يستعمله كثير من الناس وهي أن يتفق الدائن والمدين أولا على المعاشرة يتفق معه على الدراهم يقول أريد عشرة آلاف ريال العشرة بعشرة ونصف مثلا ثم يذهب الدائن المدين إلى صاحب دكان عنده أموال مكدسة إما سكر أو ربطات خام أو غيرها فيشتريها الدائن شراء صوريا ليس له بها غرض سوى الوصول إلى بيع العشرة بعشرة ونصف، والدليل أنه شراء صوري أنه لا يكاسر بالثمن ولا يقلب السلعة ولا يفتشها كما يفعل المشتري حقيقة وربما كانت هذه الأموال أفسدها طول الزمن أو أكلتها الأرض لأنها لم تنقل ولم تقلب ولم تفتش وبعد هذا الشراء الصوري يبيع الدائن هذه السلع على المدين بما اتفقا عليه من الربح ثم يعود المدين فيبيعها على صاحب الدكان ويخرج بدراهم وهذا العمل بعينه هو ما حكاه شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب أبطال التحليل من جملة صور الحيل حيث قال رحمه الله: وكذلك بلغني أن من الباعة من قد أعد بزا لتحليل الربا، فإذا جاء إلى من يريد أن يأخذ منه ألفا بألف ومائتين ذهبا إلى ذلك المحلل فاشترى منه المعطى ذلك البز ثم يعيده للآخذ ثم يعيده الآخذ إلى صاحبه وقد عرف الرجل بذلك بحيث أن هذا البز الذي يحلل به الربا لا يكاد يبيعه البيع البات انتهى.
وقد قال قبل ذلك فيا سبحان الله العظيم أن يعود الربا الذي عظم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وجاء فيه من الوعيد ما لم يجيء في غيره إلى أن يستحل بأدنى سعي من غير كلفة أصلا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب.
وقال في الفتاوي أيضا وكذلك إذا اتفقا على المعاملة الربوية ثم أتيا إلى صاحب حانوت يطلبان منه متاعا بقدر المال فاشتراه المعطى ثم باعه على الآخذ إلى أجل ثم أعاده إلى صاحب الحانوت بأقل من ذلك فيكون صاحب الحانوت واسطة بينهما بجُعْلٍ فهذا من الربا الذي لا ريب فيه انتهى.
أيها المسلمون: إن المداينة بهذا البيع الصوري- الذي يعلم الله جل وعلا ويعلم المتعاقدان أنفسهما أنهما لم يريدا حقيقة البيع، وإنما أرادا دراهم بدراهم فالدائن أراد الربح والمدين أراد الدراهم وأدخلا هذا العقد الصوري بينهما.
أقول: إن هذه المداينة تشتمل على عدة محاذير:
الأول: أنها تحيل على المحرم وخداع لله ورسوله، ونحن نقول لهذا المتحايل أن حيلتك لن تغني عنك من الله شيئا. ألم تعلم بأن الله يرى؟ ألم تعلم بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ ألم تعلم بأن الحساب يوم القيامة على ما في قلبك؟ أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر [الطارق].
المحذور الثاني: أن هذه المعاملة توجب قسوة القلب والتمادي في الباطل، فإن صاحبها يظن أنه على حق، فلو أتيته بكل دليل ما سمع منك لأن قلبه مغمور بمحبة هذه المعاملة السيئة لسهولتها، والنفس إذا اعتادت على الربح المحرم بهذه الطريقة السهلة صعب عليها تركها إلا أن يعينها الله بمدد منه، وتعرف حقيقة واقعها وشؤم عاقبة معاصيها، وأن هذه الأرباح التي تحصل لها بطريق التحايل على محارم الله ليس منها إلا الغرم والإثم.
المحذور الثالث: إن في هذه المعاملة السيئة معصية لله ولرسوله فقد نهى النبي عن بيع السلع حتى تنقل. قال ابن عمر رضي الله عنهما كان الناس يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق فنهاهم النبي أن يبيعوه حتى ينقلوه روه البخاري.
وعن زيد بن ثابت أن النبي نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم رواه أبو داود فكيف ترضى لنفسك أيها المسلم أن تتعامل بمعاملة يكون فيها معصية الله ورسوله والوقوع فيما حذر الله ورسوله منه من أجل كسب لا يعود عليك بالخير والبركة، فتب إلى ربك واتق الله في نفسك واعرف حقيقة الدنيا وأنها زائلة ولا تقدمها على الآخرة، قولوا سمعنا وأطعنا ولا تقولوا سمعنا وعصينا.
فكروا في هذه المعاملة تفكيرا سليما من الهوى يتبين لكم حقيقة أمرها، واسلكوا طريقتين سليمتين إحداهما طريقة الإحسان وهي القرض بدون ربح فإن أبيتم ذلك فاسلكوا الطريقة الثانية طريقة السلم وهي التي تسمى المكتب تعطون دراهم بسلع معينة إلى أجل معلوم كما كان الناس يفعلون ذلك على عهد النبي مثل أن تعطيه ألف ريال بعشرين كيس سكر مثلا يعطيك إياها بعد سنة، فهذا جائز.
وكذلك إذا احتاج إلى سلعة معينة كسيارة تساوي عشرة آلاف فبعتها عليه بأحد عشر ألفا أو أكثر إلى أجل معين، فلا بأس به سواء كان الأجل مدته واحدة أو كان موزعا على الأشهر والسنوات.
وفقني الله وإياكم لسلوك طريق الزهد والورع وجنبنا ما فيه هلاكنا من الشح والطمع وجعلنا ممن رأى الحق حقا واتبعه ورأى الباطل باطلا واجتنبه إنه جواد كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/119)
في البعث والنشور
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
عدم الاتعاظ بالموت ودلالة ذلك – قضية البعث والنشور وأهميتها واهتمام الرسل بها -
موقف المكذبين من هذه القضية , وأثر ذلك على حياتهم – أثر الإيمان بالبعث والنشور في
حياة المؤمن – صور حية لأرض المحشر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل : وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها الناس: تمر الجنائز محمولةٌ على الرقاب منقولةٌ إلى مثواها ومصيرها، تمر في منظر رهيب، ومشهد مهيب، تقشعر منه الأبدان، وترتجف له القلوب، ولكن نفوسًا أخرى تمر بها هذه المناظر فتلقي عليها قليلاً من دموع وعبرات في نظرات عابرات، وربما صاحب ذلك كآبة حزن أو سحابة أسى، ثم سرعان ما يطغى على النفوس لهو الحياة فتسهى ثم تنسى، وتذهل ثم تغفل.
هل يظن هؤلاء أن الموت نهاية الحياة؟! وهل يعتقدون أن سعي العالمين نهايته أن يُهال عليه التراب؟!
ذلكم هو ظن الذين كفروا. إنهم الماديون والملاحدة، والكفار والزنادقة لا يرون في الموت إلا انتهاء قصة الحياة، لا يبقى عندهم بعد ذلك إلا أخبار تروى، وآثار تحكى، والأخبار هذه مآلها النسيان، والآثار مصيرها الاندثار:
وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ?لدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ?لدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [الجاثية:24]. وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى ?لأرْضِ أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كَـ?فِرُونَ [السجدة:10].
إنها المسألة الكبرى بعد الإيمان بالله، والقضية العظمى بعد توحيد الله، تكفل بها الوحي، وبرهنت عليه الكتب، وبلَّغتها الرسل.
إنه البعث والنشور، والخروج من الأجداث والقبور، والوقوف بين يدي الكبير المتعال للحساب والجزاء وعرض الأعمال، ثم المصير إما إلى الجنة وإما إلى النار.
فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
ما من شيء في دعوة رسل الله استبعده الكفار وأنكرته الملاحدة واستهزأت به الزنادقة أشد من إنكارهم لليوم الآخر، فتراهم أجيالاً من بعد أجيال من أمم الكفر والإلحاد ينكرون ويستهزئون ويستبعدون، ولقد سجل القرآن الكريم افتراءهم العظيم، وإفكهم المبين: وَأَقْسَمُواْ بِ?للَّهِ جَهْدَ أَيْمَـ?نِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ?للَّهُ مَن يَمُوتُ [النحل:38]. أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظـ?ماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (1/120)
الوقف والوصية للورثة
فقه
الهبة والهدية والوقف
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله وشكره على ما خوله من أموال-
بيان الشرع كيفية اكتساب الأموال وتصريفها في الحياة والممات-
لا يجوز لأحد أن يوحي لبعض ورثته دون بعض ، وحكم من فعل ذلك-
حكم وقف شيء من المال وتخصيصه بأولاده:
1- من الناحية الشرعية : حرام ولا يجوز وأدلة ذلك.
2- من الناحية الاجتماعية: فيه مضاره : أ- الظلم والجور. ب- حرمان الورثة من حقهم.
ج- بث العداوة بين الورثة. د- الحرج على ناظر الوقف. و- دمار وإتلاف مال الوقف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما خولكم من هذه الأموال واتخذوها قربة لكم إلى الكبير المتعال.
عباد الله: لقد نظم لكم ربكم التصرف في هذه الأموال اكتسابا وتصريفا فبين لكم كيف تكسبونها وكيف تتصرفون فيها وتصرفونها نظم ذلك لكم في حياتكم وبعد مماتكم، ففي حياة الإنسان يستطيع الحر المكلف الرشيد أن يتصرف في ماله بيعا وشراء وإجارة ورهنا ووقفا وهبة ووصية، على حسب الحدود الشرعية التي بينها الشارع وذلك معلوم ولله الحمد.
وبعد ممات الإنسان حفظ الله له المال بأن تولى قسمه بنفسه على أولى الناس به ففرض المواريث وقسمها وقال: آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إن الله كان عليماً حكيماً [النساء:11]. وأخبر أن هذه حدوده وقال: ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالدا فيها وله عذاب مهين [النساء:13-14].
وقال نبيه : ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)) فلا يجوز لأحد أن يوصي لبعض ورثته دون بعض، لا بشيء من أعيان المال ولا بشيء من منافعه وغلاته، فلو أراد أحد أن يوصي لبعض الورثة بدراهم أو عقار لكان جائرا في الوصية، ولم يجز تنفيذها إلا بإجازة بقية الورثة المرشدين، وكذلك لا يجوز أن يوصي لبعض ورثته بأجرة شيء من عقاره أو مغلة سواء أوصى له بذلك دائما أو مدة معينة لقول النبي : ((لا وصية لوارث))، وقد أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وأن الوصية للوارث حرام، وفي الحديث أن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار.
أيها المسلمون: إنني أحب أن أتعرض في خطبتي هذه لموضوع لم يسبق أن تعرضنا له وأطبقه على ضوء هذه النصوص، وهو ما كان يعتاده بعض الناس من الوصية بوقف شيء من ماله وتخصيصه بأولاده وذريته من بين سائر الورثة نريد أن نطبق هذا العمل على النصوص الشرعية فننظر في حكمه ثم ننظر في فوائده الاجتماعية، هل فيه فائدة للموقوف عليهم، أو هو إلى الضرر والمفاسد أقرب؟
فبالنظر إلى النصوص الشرعية لا شك أن الوصية بوقف شيء من المال على بعض الورثة داخل في قوله : ((لا وصية لوارث)) فإذا كان لا يجوز أن يوصي لبعض الورثة بسكنى شيء أو استثمار شيء من عقاره لمدة سنة، فكيف يجوز أن يوصي له بما يقتضي بسكنى الدار واستثمار العقار دائما وأبدا، وإذا كان الله تعالى قدر فرض للورثة- ومن جملتهم أولادك الذين خصصتهم بالوصية بالوقف عليهم- إذا كان الله تعالى قد فرض لكل وارث حقه ونصيبه فكيف يجوز أن توصي لأولادك بوقف شيء من مالك عليهم؟ ألم يكن هذا تعديا لحدود الله واقتطاعا من حق بعض الورثة لورثة آخرين؟ وهذا معناه الجور في الوصية والمضارة للورثة.
إذاً فإذا قال الإنسان أوصيت بثلثي أو ببيتي أو بعقاري يكون وقفا على أولادي وله ورثة غير الأولاد فهذه وصية لوارث وتعدٍ لحدود الله فيكون حراما: قال شيخنا عبد الرحمن السعدي: لا يحل لأحد أن يوقف وقفا يتضمن المحرم، والظلم بأن يكون وقفه مشتملا على تخصيص أحد الورثة دون الآخرين، ثم قال فإن العبد ليس له أن يتصرف في ماله بمقتضى شهوته النفسية وهواه بل عليه أن لا يخالف الشرع ولا يخرج عن العدل، هذا كلامه في كتاب المختارات الجلية.
وقال في كتاب آخر- كتاب الإرشاد- إن أعظم مقاصد الوقف أن يكون معينا على البر والتقوى فيعلم من هذا أن الأوقاف التي يقصد بها حرمان بعض الورثة منافية لمقصود الوقف كل المنافاة، وأن وقف ثلث مال الإنسان على بعض ورثته مخالف لهذا الشرط ومناف لما انعقد عليه الإجماع من أن لا وصية لوارث. انتهى.
إذن، فهذا العمل من الناحية الشرعية حرام ومعصية لله ورسوله وتعد لحدوده، ويبقى النظر إليه من الناحية الاجتماعية ففيه مضار:
1- الظلم والجور، وضرر الظلم والجور ليس على فاعله فحسب بل على جميع الناس.
2- حرمان الورثة الخارجين من هذا الوقف من حقهم الثابت في التركة.
3- إلقاء العداوة بين الموقوف عليهم، فكم حصل بين الذرية من الخصومة والتقاطع والتشاتم والمرافعات إلى الحكام بسبب هذه الأوقاف ولو ترك المال لهم حرا لتمكنوا من الانفصال بعضهم عن بعض ببيع أو غيره، أو أبعد الوقف عنهم وكان على أعمال بر عامة من مساجد وإصلاح طرق وتعليم علم وطبع كتب نافعة وإطعام مساكين وكسوتهم وإعانة معسر وسقي ماء وغيره من المصالح لكان أنفع للواقف وأبرأ لذمته.
4- أن هذا الوقف إن كان بيد وَِرع تعب منه من النظر عليه وتصريفه ومواجهة مستحقيه وكونهم إن لم يخاصموه نظروا إليه نظرة غضب وكأنه ظالم لهم، أما إن كان بيد جشع أهلكه وأكله.
5- أن في هذا الوقف دمارا وإتلافا للأموال فإن بعض المستحقين له لا يهمهم إصلاحه، وإنما يهمهم أن يستغلوه حتى يستنفذوه، وإن تضرر الوقف وتلف على من بعدهم، فيتعلق في ذممهم حق للواقف وحقوق لمن بعدهم من الموقوف عليهم.
هذه خمسة مفاسد مع المفسدة الشرعية وهي عصيان لله وعصيان رسوله وتعدي الحدود الشرعية والمتأمل يجد فيه أكثر من هذا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب [المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن الحكيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/121)
حكم التصرف في الوقف
فقه
الهبة والهدية والوقف
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
وجوب تقوى الله وأداء الأمانات إلى أهلها ، والترهيب من الخيانة-
الأمانة تشمل معاملة العبد مع ربه ومع الناس-
الأمانة مع الله بالإخلاص في القيام بالأوامر والنواهي مع اتباعه صلى الله عليه وسلم-
الأمانة مع الخلق تكون في البيع والشراء والصناعة والولاية والودائع والأقوال-
توجيه القائمين على الوقف لأداء الحقوق والأمانة في عملهم-
من أحكام الوقف :
1- أحكام الناظر على الوقف ، وما يتعلق به من أحكام.
2- التصرف في الوقف ، وأحكامه ، وبعض صور التعدي في ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأدوا ما تحملتموه من الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، وقد أمركم الله في كتابه أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها على الوجه الذي تحملتموها عليه، وأن لا تخونوها بأخذ منها أو تصرف بها. وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) وقال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكمل غادر لواء فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان)).
أيها المسلمون: ولقد حدث النبي عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل نومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما اجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قبله مثقال حبة من خردل من إيمان)).
أيها المسلمون: إن الأمانة تكون في معاملة العبد مع ربه كما تكون في معاملة الخلق، فالأمانة في العبادة أن تقوم بأوامر الله مخلصا له متبعا لرسوله ، وأن تترك ما نهى الله عنه ممتثلا بذلك أمر الله ورسوله.
ألا وإن الأمانة تكون في البيع والشراء والصناعة وولاية النكاح والودائع التي تودع إياها والأقوال التي تكون سرا بينك وبين صاحبك والولايات التي تتولاها شرعا أو عرفا، فالوكيل أمين، وولي اليتيم أمين، وناظر الوقف أمين، والفلاح أمين، والراعي أمين، فالأمانة تكون في الدين كله، والأعمال كلها، فمن أدى الأمانة على الوجه المطلوب فهو من المفلحين، ومن خانها أو تهاون فيها كان من الخاسرين.
أيها المسلمون: أن بين أيديكم أوقافا أنتم الأمناء عليها، فأدوا الأمانة فيها، وراعوا فيها حقوق المستحقين من بعدكم، فإن لهم حقوقا فيها كما لكم فيها حقوقاً فليست الأوقاف لكم تتصرفون فهيا كما تحبون وإنما هي أمانة بين أيديكم تنفذونها بحسب شروط الموقفين.
أيها المسلمون: إني أحب أن أبين لكم في خطبتي هذه أمرين من أمور الوقف: أحدهما في الناظر على الوقف، والثاني في التصرف في الوقف.
أما الأمر الأول: وهو الناظر فإن كان الموقف قد عين ناظرا بشخصه أو بوصفه فالنظر لمن عينه وإن كان الموقف لم يعين ناظرا لا بشخصه ولا بوصفه فإنه إن كان الوقف على جهة عامة كالوقف على الفقراء وعلى المساجد ونحوها فالنظر للحاكم، وإن كان الوقف على معين كالأولاد ونحوهم كان النظر للموقوف عليهم جميعا.
ألا وإن من الجهة العامة وقف أماكن الوضوء والاغتسال التي تسمونها الحساوة، فإذا أوقف الإنسان حسواً للمسلمين والحاكم نائبهم، وعلى هذا فالآبار السبل التي في الأسواق ولم يذكر الواقف لها ناظرا فإنه يتولاها القاضي دون غيره، وقد سمعنا أن بعض الناس لما غارت ماء بئر الحسو السبيل سده ولم يعرف كيف يتصرف فيه، والواجب عليه إذا تعطلت منافعه ولم يمكن إصلاحه أن يبيعه أو يصبره ويصرف العوض في نفع عام بعد مراجعة القاضي.
أما الأمر الثاني الذي أريد بيانه فهو التصرف في الوقف، فالوقف إذا تم لا يجوز بيعه ولا التصرف فيه إلا على الوجه الذي شرطه الموقف ما لم يكن في ذلك مصلحة شرعية أنفع مما عينه الموقف فإنه يسأل أهل العلم أو القاضي ويعمل بما يقولون، إلا أنه إذا تعطلت مصالح الوقف وصار لا ينتفع به لا بسكنى ولا بإجارة فإنه يجوز بيعه أو تصبيره ويشتري بعوضه إن بيع ما يكون بدلا عنه.
أيها المسلمون: لقد سمعنا أن بعض الناس بدأوا يصبرون الأوقاف من دور أو دكاكين مع أنها لم تتعطل منافعها ويمكن إجارتها بدراهم تكفي ما عين فيها من تنافيذ، وهذا غلط منهم وتعَدٍ على حق الواقف وحق من بعدهم من المستحقين، فلا يجوز لهم أن يحكروها بالصبرة عمن بعدهم فإنه ربما تكون الأجرة في المستقبل أضعاف أضعاف الصبرة فيحولون بتصبيرهم بين هذه الزيادة وبين مستحقيها من البطون المستقبلة فيلحقهم الإثم في قبورهم وربما دعا عليهم من بعدهم لظلمهم إياهم ودعاء المظلوم مستجاب.
فاتقوا الله أيها المسلمون وأدوا الأمانة واسلكوا سبيل السلامة ولا تتبعوا أنفسكم شيئا يشغل ذمتكم فلقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم لا يعدلون بالسلامة شيئا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [الأنفال:27].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/122)