أما اليمين لغير صاحب حق سواء كان استحلف أو تبرع به لاعتذار ونحوه، فله أن يوري عن ذلك، وله نيته، بأن يحلف أنه لا يملك مالاً ويعني بذلك في جيبه أو بيته، وقد يكون له مال في مكان آخر، ونحو ذلك، والله أعلم.
?
من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً فليأت التي هي خير وليكفر عن يمينه
من حلف على حرام أو مكروه أو مباح، ثم رأى غيرها خيراً منها، فعليه أن يأتي التي هي خير ويكفر عن يمينه، ولا إثم عليه في ذلك، بل الإثم في إصراره على فعل الحرام وامتناعه عن الحلال.
ودليل ذلك ما خرجه مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. وإني والله ، إن شاء الله، لا أحلف على يمين ثم أرى خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي خير".
وقد ورد هذا الحديث بروايات مختلفة مع اتحاد المعنى.
قال الإمام النووي رحمه الله: (في هذه الأحاديث دلالة على من حلف على فعل شيء أو تركه وكان الحنث خيراً من التمادي على اليمين فحنث فعليه كفارة يمين مع خلاف بين أهل العلم في ذلك.
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم الإمام رحمه الله فإن حلف باسم الله فهي أيمان منعقدة بالنص والإجماع، وفيها الكفارة إذا حنث، وإذا حلف بما يلتزمه لله كالحلف بالنذر، والظهار، والحرام، الطلاق، والعتاق، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي عشر حجج، أوفمالي صدقة، أوعليّ صيام شهر، أوفنسائي طوالق، أوعبيدي أحرار، أويقول: الحل عليه حرام لا أفعل كذا، أوالطلاق يلزمني لا أفعل كذا، أوإلا فعلت كذا، وإن فعلت كذا فنسائي طوالق ، أوعبيدي أحرار، ونحو ذلك ، فهذه الأيمان أيمان المسلمين عند الصحابة وجمهور العلماء، وهي أيمان منعقدة، وقالت طائفة: بل هو من جنس الحلف بالمخلوقات فلا تنعقد، والأول أصح، وهو قول الصحابة، فإن عمر، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم كنوا ينهون عن النوع الأول، وكانوا يأمرون من حلف بالنوع الثاني أن يكفر عن يمينه، ولا ينهونه عن ذلك، فإن هذا من جنس الحلف بالله والنذر لله، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كفارة النذر كفارة يمين".
فقول القائل: لله عليّ أن أفعل كذا. إن قصد به اليمين فهو يمين، كما لو قال: لله عليّ كذا، أوإن أقتل فلاناً فعلي كفارة. في مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وهو الذي ذكره الخرسانيون في مذهب الشافعي، فالذين قالوا: هذه يمين منعقدة منهم من ألزم الحالف بما التزمه، فألزمه إذا حنث بالنذر، والطلاق، والعتاق، والظهار، والحرام، وهو قول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة.
ومنهم من فرق بين الطلاق والعتاق، وبين غيرهما، وهو المعروف عن الشافعي، ومنهم من فرق بين الطلاق وغيره، وهو أبو ثور.
والصحيح أن هذه الأيمان كلها فيها كفارة إذا حنث، ولا يلزمه إذا حنث لا نذر، ولا طلاق، ولا عتاق، ولا حرام. وهذا معنى أقوال الصحابة، وفقد ثبت النقل عنهم صريحاً بذلك في الحلف بالعتق والنذر، وتعليلهم ، وعموم كلامهم يتناول الحلف بالطلاق، وقد ثبت عن غير واحد من السلف أنه لا يلزم الحلف بالطلاق طلاقاً كما ثبت عن طاوس، وعكرمة، وعن أبي جعفر، وجعفر ابن محمد، ومن هؤلاء من ألزم الكفارة وهو الصحيح، ومنهم من لم يلزمه الكفارة.
فللعلماء في الحلف بالطلاق أكثر من أربعة أقوال، قيل يلزمه مطلقاً كقول الأربعة، وقيل لا يلزمه مطلقاً كقول أبي عبد الرحمن الشافعي وابن حزم وغيرهما، وقيل إن قصد به اليمين يلزمه، وهو أصح الأقوال، وهو معنى قول الصحابة اليمين).
?
ثانياً : الكفارة
تمهيد
لقد خص الله هذه الأمة، كما خص رسولها صلى الله عليه وسلم بخصائص لم يخص بها أحداً من العالمين، ولم يمنحها لأحد من السابقين، من تلكم الخصائص والميزات التي انفردت بها الأمة الإسلامية على ما سواها الكفارة، حيث لم يكن في شرع من قبلنا كفارة، بل كانت اليمين توجب عليهم فعل المحلوف عليه، ولهذا (أمر الله أيوب عليه السلام أن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به، ولا يحنث، لأنه لم يكن في شرعه كفارة يمين، ولو كان في شرعه كفارة يمين كان ذلك أيسر عليه من ضرب امرأته ولو بضغث).
فعلينا أن نعرف لهذه النعم قدرها، وأن نوليها شكرها، ونعمل على نشرها، وأن لا نستهين بفعلها.
الأيمان كما سبق أن ذكرنا يمينان، يمين فاجرة كاذبة، الغرض منها المكر والخديعة والغدر، فهذه لا تنعقد ولا كفارة عليها عند عامة أهل العلم، لأنها أكبر من أن تكفرها أوتمحوها حفنة من طعام ، أو خرقة من لباس، وهي اليمين الغموس التي تستقطع بها حقوق العباد، وينتشر بواسطتها الفساد والحقد في البلاد، وهي أن يحلف وهو موقن أنه كاذب، فاجر، مخادع، مماكر، فهذه ليس لصاحبها إلا التوبة النصوح ورد الحقوق إلى أصحابها، أواستسماحهم إن تيسر، أوالدعاء لهم.(5/253)
أما اليمين التي تنعقد وتمحوها الكفارة فهي اليمين التي تكون في المستقبل وينوي صاحبها الوفاء بها ، ولكن لم يتمكن من ذلك ، إما لأنه رأى غيرها خيراً منها، وإما لعدم بر المحلوف عليه لقسمه، وإما لضعف وعجز ونحو ذلك.
ومن رحمة الله عز وجل بعباده كذلك أن جعل كفارة اليمين على التخيير ، فالحانث في يمينه بالخيار بين الإطعام، والكسوة، أوالعتق، فبدأ بالأمور التي خيرها متعدٍ على الفقراء والمساكين والمملوكين، لأنهم أولى الخلق بالرحمة والعطف والإنفاق، ثم لم يضيق على عباده، فمن لم يجد سبيلاً إلى الإطعام ولا الكسوة والعتق، فقد رخص له في الصوم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما كان في كتاب الله "أو" فهو مخير فيه، وما كان "فمن لم يجد" فالأول الأول).
فكفارة اليمين ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع لقوله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمأن فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أوكسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم" الآية، ومن السنة الحديث السابق: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك"، ولهذا أجمعت الأمة على مشروعيتها وثبوتها، لهذه الأدلة ولغيرها.
واعلم أخي الكريم أن الكفارة عبادة من العبادات، والعبادات توقيفية، لا مجال للعقل فيها والرأي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقال في حجة الوداع: "لتأخذوا عني مناسككم"، فالحذر كل الحذر من إفراغ النصوص من مدلولها، وعليك بمنهج السلف الأذكياء الأخيار، سيما الصحابة الأطهار من المهاجرين والأنصار، فإنهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً ، وأفضلها منهجاً وسبيلاً؛ واحذر واجتنب مسلك المبتدعة المغرورين الأشرار، قديماً وحديثاً، فإنهم على سبل كلها تقود إلى النار، وتوجب غضب الجبار وتورث دار البوار.
?
كفارة اليمين مرتبة
أولاً : الحر
الإطعام
قال تعالى: "فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم" الآية، مسلمين أحراراً، صغاراً كانوا أم كباراً، ذكوراً كانوا أم إناثاً.
والمراد بالأوسط الأعلى والأفضل، وقيل الوسط.
فالإطعام إما أن يعطي كل واحد من العشرة مداً، وقيل مد ونصف؛ وقيل من البر نصف صاع ومن التمر والشعير والذرة ونحوها صاع؛ وإما أن يغدي العشرة ويعشيهم، سواء كان يصنعه لهم في منزله أو يذهب بهم إلى مطعم، شريطة أن يشبعهم.
ولا يجزئ أن يعطيهم مبلغاً من المال ليطعموا أنفسهم، ولا يكفي أن يعطيهم خبزاً بدون إدام، ولا وجبة واحدة.
أما دفع الكفارة لمسكين واحد أو أكثر لمدة أيام فمنع من ذلك مالك والشافعي ومن وافقهم، وأجازه أبو حنيفة، رحم الله الجميع.
ولا يجوز أن يطعم غنياً أوذا رحم تجب عليه نفقته ، واستحب مالك أن لا يطعم ذا رحم لا تجب عليه نفقته.
قال القرطبي رحمه الله: (قال مالك: إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه، وقال الشافعي: لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة، لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مسكين مداً. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة، يعني غداءاً دون عشاء، أو عشاءاً دون غداء، حتى يغديهم ويعشيهم، قال أبو عمر ـ ابن عبد البر: وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار، وقال ابن حبيب: ولا يجزئ الخبز قَفَاراً بل يعطي معه إدامه.
إلى أن قال : لا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد، وبه قال الشافعي، وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة، فمنهم من أجاز ذلك.. وقال آخرون: يجوز دفع ذلك إليه في أيام، وإن تعدد الأيام يقوم مقام أعداد المساكين).
وقال ابن قدامة رحمه الله: (أن يكونوا أحراراً، فلا يجزي دفعها إلى عبد، ولا مكاتب، ولا أم ولد، وبهذا قال مالك والشافعي... مسلمين، ولا يجوز صرفها إلى كافر ذمياً كان أوحربياً).
?
الكسوة
أ . للرجل: قميص وسروال، أوجلابية أوثوب وعمامة.
ب . للمرأة: ما يجزئها فيها الصلاة، وهو درع وخمار، وعباءة وخمار، أوثوب ساتر، أوفستان يغطي جميع بدنها.
ففي الجملة ثوبان لكل مسكين مسلم حر من العشرة، ذكراً كان أم أنثى، صغيراً كان أم كبيراً، ويشترط فيهم أن يكونوا مسلمين أحراراً.
والكسوة تكون من أوسط ما يلبس الناس.
لا يجزئ القيمة في الكسوة كما لا تجزئ في الإطعام.(5/254)
قال القرطبي: (والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد الساتر لجميع الجسد، فأما في حق النساء، فأقل ما يجزيهن فيه الصلاة، وهو الدرع والخمار، وهكذا حكم الصغار، قال ابن القاسم في "العتبية" تكسى الصغيرة كسوة كبيرة، قياساً على الطعام، وقال الشافعي، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: أقل ما يقع عليه الاسم وذلك ثوب واحد. وفي رواية أبي الفرج عن مالك، وبه قال إبراهيم النخعي ومغيرة: ما يستر جميع البدن، بناءاً على أن الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك... وقال ابن العربي: وما كان أحرصني على أن يقال: إنه لا يجزئ إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبرد، كما أن عليه طعاماً يشبعه من الجوع فأقول به، وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه.
إلى أن قال: قد راعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة، فقال بعضهم: لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعاً مما قد يتزيى به كالكساء والمِلْحَفة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار، أورداء أوقميص أوقباء وكساء. وروي عن أبي موسى الأشعري : أنه أمر أن يكسى عنه ثوبين ثوبين . وبه قال الحسن وابن سيرين.
إلى أن قال: ولا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة تجزئ، وهو يقول تجزئ القيمة في الزكاة، فكيف في الكفارة! قال ابن العربي: وعمدته أن الغرض سد الخَلّة، ورفع الحاجة، فالقيمة تجزئ فيه، قلنا: إذا نظرنا إلى سد الخلة فأين العبادة؟ وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع؟).
وقال الخرقي: "ويجزئه إن أطعم خمسة وكسا خمسة " ، قال ابن قدامة: (بحيث يستوفي العدد أجزأه في قول إمامنا، والثوري، وأصحاب الرأي، وقال الشافعي لا يجزئ).
?
عتق رقبة
ويشترط أن تكون مؤمنة، كاملة، سليمة من العيوب.
قال القرطبي: (التحرير الإخراج من الرق... لا يجوز عندنا إلا إعتاق رقبة مؤمنة كاملة، ليس فيها شرك لغيره، ولا عتاقة بعضها، ولا عتق إلى أجل، ولا كتابة، ولا تدبير، ولا تكون أم ولد، ولا من يعتق عليه إذا ملكه، ولا يكون بها من الهرم والزمانة ما يضر بها في الاكتساب، سليمة غير معيبة).
?
صيام ثلاثة أيام
لا ينتقل إلى الصيام إلا من عجز عن الإطعام والكسوة والعتق، والعجز يمكن أن يكون حقيقة أومجازاً، كغني في غير بلده.
وصيام كفارة اليمين لا يشترط فيه التتابع، ومن أهل العلم من اشترط ذلك.
قال القرطبي: (فإن عدم هذه الثلاثة الأشياء صام، والعدم يكون بوجهين: إما بمغيب المال عنه أوعدمه، فالأول أن يكون في بلد غير بلده، فإن وجد من يسلفه لم يجزه الصوم، وإن لم يجد من يسلفه فقد اختلف فيه، فقيل ينتظر إلى بلده، قال ابن العربي: وذلك لا يلزمه بل يكفر بالصيام، لأن الوجوب قد تقرر في الذمة واشتراط العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الأمر، فليكفر مكانه لعجزه عن الأنواع الثلاثة، لقوله تعالى: "فمن لم يجد". وقيل: من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش به فهو الذي لم يجد، وقيل هو من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته، وليس عنده فضل يطعمه، وبه قال الشافعي، واختاره الطبري، وهو مذهب مالك وأصحابه، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل عنه نفقة يومه فإنه لا يصوم، قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين: إنه إن كان للحانث فضل عن قوت يومه أطعم ، إلا أن يخاف الجوع ، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه، وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد، وقال أحمد وإسحاق: إذا كان عنده قوت يوم وليلة أطعم ما فضل عنه. وقال أبو عبيد: إذا كان عنده قوت يومه وليلته وعياله وكسوة تكون لكفايتهم ، ثم يكون بعد ذلك مالكاً لقدر الكفارة فهو عندنا واجد، قال ابن المنذر: قول أبي عبيد حسن).
تنبيه
من أكل أو شرب ناسياً في صيامه، فرضاً كان أم تطوعاً فليتم صومه إنما أطعمه الله وسقاه.
?
ثانياً : كفارة العبد
الراجح والله أعلم أن العبد يكفر بالصوم فقط، لأنه لا يملك شيئاً بل هو ملك لسيده.
قال القرطبي: (هذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم باتفاق، واختلفوا فيما يجب منها على العبد إذا حنث، فكان سفيان الثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي يقولون ليس عليه إلا الصوم، لا يجزئه غير ذلك، واختلف فيه قول مالك، فحكى عن ابن نافع أنه قال: لا يكفر العبد بالعتق لأنه لا يكون له الولاء، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده، وأصوب ذلك الصوم. وحكى ابن القاسم عنه أنه قال: إن أطعم أو كسا بإذن السيد، فما هو بلين، وفي قلبي منه شيء).
?
من حلف على حال وتغيرت حاله بعد
فالعبرة بوقت الحلف بالنسبة للكفارة .
?
إذا مات الحالف وقد حنث
ذهب أهل العلم في إخراج الكفارة عنه ثلاثة أقوال:
1. من رأس ماله، وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور.
2. تكون في الثلث، وهذا مذهب أبي حنيفة.
3. تكون في الثلث، لكن إذا أوصى بها، وإن لم يوص فلا تخرج عنه، وهذا مذهب مالك.
?
تقديم الكفارة قبل الحنث(5/255)
العامة من أهل العلم أجازوا الكفارة قبل وبعد الحنث، منهم عمر، وابنه، وابن عباس، وسليمان الفارسي، ومسلمة بن مخلد رضي الله عنهم، ومن التابعين الحسن، وابن سيرين، وربيعة، والأوزاعي، ومن الأئمة الثوري، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وقال أصحاب الرأي لا تجوز الكفارة قبل الحنث؛ أما قبل اليمين فقد منع منها الجميع.
?
الخلاصة
1. عليك أن تحفظ لسانك من الحلف.
2. إذا حلفت لا تحلف إلا بالله.
3. وإذا حنثت فعليك أن تعجل بإخراج الكفارة.
4. من حلف بغير الله فقد أشرك كما أخبر الصادق المصدوق.
5. الحلف تعظيم ، فينبغي أن لا يصرف هذا التعظيم إلا لله عز وج
---------
مذاهب العلماء في المسح على العمامة، والجوارب، والخمار
أولاً : المسح على الجوارب
ثانياً : المسح على العمامة
ثالثاً : المسح على الخمار
الحمد لله الذي رفع عن هذه الأمة الحرج، ووضع عنها الأصرار والأغلال التي كانت على من قبلها، وصلى الله وسلم وبارك على محمد القائل: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان ما تعاقب الملوان وتتابع الحدثان.
ثم أما بعد...
فإن الرخص منها ما هو شرعي، مثل الفطر في رمضان، والقصر والجمع في السفر، والمسح على الخفين؛ ومنها ما هو بدعي، وهو عبارة عن زلات وهفوات وسقطات لبعض أهل العلم، تشبث بها البعض لموافقتها لأهوائهم، من ذلك زلة ابن حزم في إباحة الملاهي والغناء، فلا ينبغي أن يُقلدوا فيها، ولا أن تُذاع و تُنشر عنهم.
من هذه الرخص الشرعية التي أجمع أهل السنة عليها قاطبة وعدُّوا خلافها علامة من علامات أهل الأهواء: رخصة المسح على الخفين، إذ لم ينكرها إلا الشيعة والخوارج، لذا فإنها تُذكر في باب العقائد. حتى قال أحمد: لا يصلى خلف من أنكر المسح على الخفين.
لم يُنقل عن أحد من أهل السنة المقتدى بهم أنه أنكر المسح على الخفين إلا مالكاً، ولم يثبت عنه ذلك.
قال ابن عبد البر: (وكذلك لا أعلم أحداً من فقهاء المسلمين روي عنه إنكار ذلك إلا مالكاً، والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك، موطؤه يشهد للمسح على الخفين في الحضر والسفر، وعلى ذلك جميع أصحابه وجماعة أهل السنة).
من الأمور التي اختلف فيها أهل السنة لاختلاف الآثار فيها: المسح على الجوارب، والعمامة، والخمار؛ فمنهم من منع من ذلك، ومنهم من رخص فيه، وإليك مذاهبهم مع الأدلة والترجيحات، والله الموفق للخيرات، فنقول:
?
أولاً : المسح على الجوارب
ذهب أهل العلم رحمهم الله في المسح على الجوارب ثلاثة مذاهب، هي:
1. المسح على الجوارب الصفيقة التي تغطي الأرجل إلى الكعبين، الثابتة عند المشي، رخصة لمن شاء إذا لبسهما على طهارة، والمدة في ذلك كالمدة في المسح على الخفين: ثلاثة أيام بلياليها في السفر (72 ساعة)، ويوم وليلة في الحضر(24 ساعة)، لا تخلعان إلا من جنابة، ذهب إلى ذلك عدد من الصحابة والتابعين والأئمة المهديين، منهم:
o اثنا عشر صحابياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ابن المنذر منهم تسعة، هم أبو بكر، وعمر، وابن عباس، وأبو مسعود، وابن عمر، وأنس، وعمار بن ياسر، وبلال، والبراء، وأبو أمامة؛ وسهل بن سعد، وابن أبى أوفى.
o ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، وعطاء، والنخعي، والأعمش.
o ومن الأئمة: سفيان الثوري، والحسن بن صالح، وابن المبارك، وزفر، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، صاحبي أبي حنيفة رحمهم الله.
استدل هذا الفريق بالآتي :
o بما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين".
o وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه مسح على الجوربين".
o قال أبو داود بعد روايته لهذين الحديثين: (ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب، وأبو مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس).
o وأورد ابن أبي شيبة في مصنفه عدداً من الآثار عن الصحابة والتابعين على جواز المسح على الجوارب، منها:
• ...
أن أبا مسعود البدري كان يمسح على الجوربين.
• ...
عن عقبة بن عمرو أنه مسح على جوربين من شعر.
• ...
قال الحسن وسعيد بن المسيب : يمسح على الجوربين إذا كانا صفيقين.
• ...
عن إبراهيم النخعي أنه كان يمسح على الجوربين.
• ...
عن أنس أنه كان يمسح على الجوربين.
• ...
وعن أبي غالب قال : رأيت أنس يمسح على الجوربين.
• ...
وعن عطاء قال : المسح على الجوربين بمنزلة المسح على الخفين.
• ...
وعن ابن عمر قال: المسح على الجوربين كالمسح على الخفين.
2. المسح على الجوربين لا يجوز إلا إذا كانا منعلين ـ يعني يمسح عليهما مع النعال، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وقول لمالك رحمهم الله.
واستدل هذا الفريق بعدد من الآثار، منها ما رواه البيهقي في سننه، وهي:
• ...(5/256)
عن عبد الله بن كعب يقول: رأيت علياً بال ثم مسح على الجوربين والنعلين.
• ...
وعن خالد بن سعيد يقول: رأيت أبا مسعود الأنصاري يمسح على الجوربين والنعلين.
• ...
وعن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: رأيت البراء بن عازب بال ثم توضأ فمسح على الجوربين والنعلين ثم صلى.
قال ابن عبد البر: (ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين، وهو أحد قولي مالك، ولمالك قول آخر: لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين).
3. لا يمسح على الجوربين ولو كانا مجلدين، وهذا مذهب مالك ومن وافقه.
قال النووي رحمه الله وهو يتحدث عن مذاهب العلماء في المسح على الجورب: (الصحيح من مذهبنا أن الجورب إن كان صفيقاً يمكن متابعة المشي عليه جاز المسح عليه، وإلا فلا، وحكى ابن المنذر إباحة المسح على الجورب عن تسعة من الصحابة، قال: وكره ذلك مجاهد، وعمرو بن دينار، والحسن بن مسلم، ومالك، والأوزاعي، وحكى أصحابنا جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقاً؛ وحكوه عن أبي يوسف، ومحمد، وإسحاق، وداود، وعن أبي حنيفة المنع مطلقاً وعنه أنه رجع إلى الإباحة؛ واحتج من منعه مطلقاً بأنه لا يسمى خفاً فلم يجز المسح عليه كالنعل؛ واحتج أصحابنا بأنه ملبوس يمكن متابعة المشي عليه ساتر لمحل الفرض فأشبه الخف، ولا بأس بكونه من جلد أو غيره بخلاف النعل فإنه لا يستر محل الفرض؛ واحتج من أباحه وإن كان رقيقاً بحديث المغيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "مسح على جوربيه ونعليه"، وعن أبي موسى مثله مرفوعاً، واحتج أصحابنا بأنه لا يمكن متابعة المشي عليه فلم يجز كالخرقة؛ والجواب عن حديث المغيرة من أوجه أحدها أنه ضعيف، ضعَّفه الحفاظ، وقد ضعَّفه البيهقي؛ ونقل تضعيفه عن سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ومسلم بن الحجاج، وهؤلاء أعلام أئمة الحديث، وإن كان الترمذي قال حديث حسن فهؤلاء مقدمون عليه، بل كل واحد من هؤلاء لو انفرد قُدِّم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة).
وقال ابن قدامة رحمه الله: (إنما يجوز المسح على الجورب بالشرطين اللذين ذكرهما في الخف: أحدهما أن يكون صفيقاً، لا يبدو منه شيء من القدم؛ الثاني أن يمكِّن من متابعة المشي فيه، هذا ظاهر كلام الخرقي؛ قال أحمد في المسح على الجوربين بغير نعل: إذا كان يمشي عليهما ويثبتان في رجليه فلا بأس؛ وفي موضع قال: يمسح عليهما إذا ثبتا في العقب؛ وفي موضع قال: إن كان يمشي فيه فلا ينثني فلا بأس بالمسح عليه، فإنه إذا انثنى ظهر موضع الوضوء، ولا يعتبر أن يكونا مجلدين.
إلى أن قال: وقد سئل أحمد عن جورب الخرق، يمسح عليه؟ فكره الخرق؛ ولعل أحمد كرهها، لأن الغالب عليها الخفة، وأنها لا تثبت بأنفسها؛ فإن كانت مثل جورب الصوف في الصفاقة والثبوت، فلا فرق؛ وقد قال أحمد في موضع: لا يجزئه المسح على الجورب، حتى يكون جورباً صفيقاً، يقوم قائماً في رجله، لا ينكسر مثل الخفين، إنما مسح القوم على الجوربين أنه كان عندهم بمنزلة الخف، يقوم مقام الخف في رجل الرجل، يذهب فيه الرجل ويجيء).
والذي يترجح لدي أن المسح على الجوربين جائز ورخصة كما قال أصحاب المذهب الأول لمن شاء أن يسمح عليه، بالشرطين السابقين:
1. أن يكونا صفيقين.
2. أن يثبتا حال المشي ولا ينثنيان بحيث ينكشف الكعبان.
والأدلة على ذلك حديث المغيرة بن شعبة الذي صحَّحه الإمام الترمذي، وعمل العديد من الصحابة، منهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين: أبو بكر، وعمر، وعلي، ومنهم حبر الأمة ابن عباس، رضي الله عن الجميع، فلا ينبغي لأحد أن يحرِّج على أحد اقتدى بأحد عشر من الصحابة، وبعدد من الأئمة الأعلام؛ وهذه الرخصة لا يعرف قيمتها إلا من يعيش في البلاد الباردة، والبلاد التي يغطي فيها الجليد الأرض عدداً من شهور العام، ويزيد عمق الجليد في بعضها عن المترين، وتبلغ درجة الحرارة في بعضها خمسين درجة تحت الصفر؛ فلك أخي أن تكره لنفسك ما تشاء، ولكن الحذر كل الحذر أن تضيِّق على الناس ما وسِّع عليهم، فأنت لست أفقه، ولا أعلم، ولا أحرص على هذه الأمة، من أبي بكر وعمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، وعن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا وَسِعَ الأمر من هو خير منا أفلا يسعنا نحن؟!
?
ثانياً : المسح على العمامة
ذهب أهل العلم كذلك في المسح على العمامة ثلاثة مذاهب هي:
1. المسح على العمامة المخالفة لعمامة الكفار بالذؤابة، أوبالتحنيك، المغطية لمعظم الرأس جائز ورخصة لمن شاء، إذا لبسها على طهارة؛ وهذا ما ذهب إليه عدد من الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين، منهم: أبوبكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وأبوأمامة، وأبوالدرداء رضي الله عنهم، ومن التابعين وتابعيهم عمر بن عبد العزيز، ومكحول، والحسن، وقتادة، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، ومحمد بن جرير، وداود بن علي الظاهري.(5/257)
واستدل هؤلاء بالآتي:
• ... بحديث بلال رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مسح على الخفين والخمار".
• ...
وبحديث عمر بن أمية قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمسح على عمامته وخفيه".
• ...
وعن ثوبان قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين".
• ...
وعن بلال رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فيقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه".
2. لا يمسح على العمامة إلا مع الناصية: يمسح ناصيته ويتم على العمامة، وهذا ما ذهب إليه: علي، و جابر، وابن عمر من الصحابة، ومن التابعين وتابعيهم: عروة بن الزبير، والشعبي، والنخعي، والقاسم، ومالك، وأصحاب الرأي.
3. لا يمسح على العمامة، لا مع الناصية ولا مفردة، لعدم وجود مشقة في مسحها؛ وهذا هو القول الثاني لمالك.
قال الإمام النووي رحمه الله: (قال أصحابنا: إذا كان عليه عمامة ولم يرد نزعها لعذر ولغير عذر مسح الناصية كلها ويستحب أن يتم المسح على العمامة سواء لبسها على طهارة أوحدث، ولو كان على رأسه قلنسوة ولم يرد نزعها فهي كالعمامة فيمسح بناصية، ويستحب أن يُتمَّ المسح عليها... وهكذا حكم ما على رأس المرأة؛ و أما إذا اقتصر على مسح العمامة ولم يمسح شيئاً من رأسه فلا يجزيه بلا خلاف عندنا. وهو مذهب أكثر العلماء، كذا حكاه الخطابي والماوردي عن أكثر العلماء، وحكاه ابن المنذر عن عروة بن الزبير، والشعبي، والنخعي، والقاسم، ومالك، وأصحاب الرأي، وحكاه غيره عن علي بن أبي طالب، وجابر، وابن عمر رضي الله عنهم؛ وقالت طائفة: يجوز الاقتصار على العمامة؛ قاله سفيان الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور، وإسحاق، ومحمد بن جرير، وداود؛ قال ابن المنذر: ممن مسح على العمامة أبو بكر الصديق وبه قال عمر، وأنس بن مالك، وأبو أمامة؛ وروي عن سعد بن أبي وقاص، وأبي الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والحسن، وقتادة، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، ثم شرط بعض هؤلاء لبسها على طهارة، وشرط بعضهم كونها محنكة، أي بعضها تحت الحنك ، ولم يشترط بعضهم شيئاً من ذلك.
ثم قال في جواب الأحاديث السابقة التي استدل بها الفريق الأول بأجوبة لا يوافَق عليها: فالجواب أنه ثبت بالقرآن وجوب مسح الرأس وجاءت الأحاديث الصحيحة بمسح الناصية مع العمامة وفي بعضها مسح العمامة ولم تذكر الناصية فكان محتملاً لموافقة الأحاديث الباقية ومحتملاً لمخالفتها فكان حملها على الاتفاق وموافقة القرآن أولى).
قلت : هذه الأجوبة فيها نظر، ومسح العمامة رخصة مثل المسح على الخفين، وقد ثبت هذا بالأحاديث الصحيحة الصريحة وفعل ذلك كبار الصحابة.
وقال ابن قدامة رحمه الله: (ويجوز المسح على العمامة؛ ثم ذكر ما قاله ابن المنذر وما نقله النووي من قبل، وقال راداً على حجج المانعين من ذلك: لا يمسح عليها لقول الله تعالى: "وامسحوا برؤوسكم"، ولأنه لا تلحقه مشقة في نزعها، فلم يجز المسح عليها كالكمين؛ ولنا ما روى المغيرة بن شعبة قال : توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والعمامة؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح؛ وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم : مسح على الخفين والخمار؛ قال أحمد: هو من خمسة وجوه عن النبي؛ روى الخلال بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من لم يطهِّره المسحُ على العمامة فلا طهَّره الله؛ ولأنه حائل في محل ورد الشرع بمسحه، فجاز المسح على حائله كالقدمين، والآية لا تنفي ما ذكرناه فإن النبي صلى الله عليه وسلم مبيِّن لكلام الله مفسِّر له، وقد مسح النبي صلى الله عليه وسلم على العمامة وأمر بالمسح عليها، وهذا يدل على المراد من الآية المسح على الرأس أو حائله، ومما يبين ذلك أن المسح في الغالب لا يصيب الرأس وإنما يمسح على الشعر، وهو حائل بين اليد وبينه، فكذلك العمامة، فإنه يقال لمن لمس عمامته أو قبلها ، قبل رأسه ولمسه؛ وكذلك أمر بمسح الرجلين واتفقنا على جواز مسح حائلهما).
والذي يترجح لدي أن الاقتصار على المسح على العمامة جائز إذا توفرت فيها الشروط الآتية:
1. أن تغطي جميع الرأس أوجله، قصيرة كانت أم طويلة.
2. أن يلبسها على طهارة.
3. أن تخالف عمامة الكفار بأن تكون لها ذؤابة أومحنكة، ولو خالفت الكفار بالذؤابة والتحنيك فهو أفضل، فقد وردت آثار تأمر بالتلحي وتنهى عن الاقتعاط، وهو أن لا يكون تحت الحنك منها شيء.
وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً ليس تحت حنكه من عمامته شيء، فحنكه بكور منها، وقال: ما هذه الفاسقية؟
?
ثالثاً : المسح على الخمار
اختلف أهل العلم في المسح على الخمار بين مجوز ومانع، والراجح جواز ذلك للأحاديث السابقة ولما صح أن أم سلمة رضي الله عنها كانت تمسح على خمارها.
?
تنبيه(5/258)
1. إذا نزع العمامة، أوطاحت من رأسه، أوخلع الجوربين، أونزعت المرأة خمارها، بطل الوضوء.
2. مدة المسح على العمامة والخمار كمدة المسح على الخف: ثلاثة أيام ولياليها للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، إن لم ينزعا؛ إلا إذا أجنب فإنها تنزع ويمسح على الرأس.
1. يمسح ظاهر الخف دون باطنه، يضع يده اليمنى على رجله اليسرى، واليسرى على اليمنى، لما صح عن علي رضي الله عنه: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه".27
----------
صلاة الضحى
عدد ركعاتها
صفتها
وقتها
حكمها
الأدلة على سنية صلاة الضحى
الحكمة في عدم مواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة الضحى
قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم أنها بدعة لا يدفع سنية ومشروعية صلاة الضحى
ما يستحب أن يقرأ فيها
الحمد لله الذي لم يخلق العباد عبثاً، ولم يتركهم سدىً، بل خلقهم لعبادته، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، فبينوا لهم دين الله القويم، وصراطه المستقيم، وتركوهم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
من رحمة الله بعباده، وفضله وامتنانه، أن كثر وعدد لهم طرق الخير، وأسباب الرضى والقبول، ويسَّر كل إنسان لما خلق له، وفضل بعض الأعمال على بعض، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يصبح على كل سُلامى1 من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى".2
وبعد ..
فإن صلاة الأوابين فعلها يسير، وفضلها كبير، وثوابها جزيل، ولو لم يكن لها فضل إلا أنها تجزئ عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان كل يوم لكفاها فضلاً ، وزاد المرء عليها حرصاً ، فما صفة هذه الصلاة ؟ وكم عدد ركعاتها؟ وما حكمها وأفضل أوقاتها؟ وما يتعلق بها؟ هذا ما نود الإشارة إليه في هذه العجالة ، فنقول وبالله التوفيق:
?
عدد ركعاتها
أقل صلاة الضحى: ركعتان.
أفضلها: أربع ركعات، مثنى مثنى.
أكثرها: ثمان ركعات، وقيل اثنتا عشرة ركعة، وقيل لا حدَّ لأكثرها.
خرج البخاري في صحيحه بسنده قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: "ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات"3، وعن عائشة عند مسلم: "كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء"، وعن نعيم بن همار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى: ابن آدم، لا تعجزني من أربع ركعات من أول نهارك أكفك آخره".4
وعن جابر عند الطبراني في الأوسط كما قال الحافظ في الفتح5: "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ست ركعات"، وعن أنس مرفوعاً: "من صلى الضحى ثنتي عشرة بنى الله له بيتاً في الجنة".6
قال النووي رحمه الله: (أقلها ركعتان، وأكثرها ثمان ركعات، هكذا قاله المصنف7 والأكثرون، وقال الروياني والرافعي وغيرهما: أكثرها ثنتي عشرة ركعة، وفيه حديث ضعيف.. وأدنى الكمال أربع، وأفضل منه ست، قال أصحابنا: ويسلم من كل ركعتين، وينوي ركعتين من الضحى).8
?
صفتها
كان صلى الله عليه وسلم يخفف فيها القراءة، مع إتمام الركوع والسجود، فهي صلاة قصيرة خفيفة، فعن أم هانئ رضي الله عنها في وصفها لصلاته لها: "... فلم أر قط أخَفًّ منها، غير أنه يتم الركوع والسجود".9
وفي رواية عبد الله بن الحارث رضي الله عنه: "لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده، كل ذلك يتقارب".10
قال الحافظ: (واستدل به على استحباب تخفيف صلاة الضحى، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم الضحى، فطوَّل فيها أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة).11
?
وقتها
من ارتفاع الشمس إلى الزوال.
أفضل وقتها
عندما ترمض الفصال، لحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال".12
قال النووي رحمه الله: (تَرْمَض بفتح التاء والميم، والرمضاء الرمل الذي اشتدت حرارته من المشمس أي حين يبول الفصلان من شدة الحر في أخفافها).
وقال: قال صاحب الحاوي: وقتها المختار: إذا مضى ربع النهار).13
?
حكمها
صلاة الضحى سنة مؤكدة، وهذا مذهب الجمهور، منهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة مندوبة.
قال مؤلف سبيل السعادة14 المالكي عن صلاة الضحى: (سنة مؤكدة عند الثلاثة ، مندوبة عند أبي حنيفة)، وقال النووي: (صلاة الضحى سنة مؤكدة).15
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وجمع ابن القيم في الهدي16 الأقوال في صلاة الضحى فبلغت ستة)17، ملخصها:
1. مستحبة.
2. لا تشرع إلا لسبب.
3. لا تستحب أصلاً.(5/259)
4. يستحب فعلها تارة وتركها تارة بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الروايات عن أحمد.
5. تستحب صلاتها والمواظبة عليها في البيوت.
6. أنها بدعة.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور أنها سنة مؤكدة، لما يأتي من الأدلة.
?
الأدلة على سنية صلاة الضحى
الأدلة على سنية صلاة الضحى كثيرة، نذكر منها ما يأتي:
1. حديث أم هانئ السابق :" أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات" الحديث.18
2. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر".19
3. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله".20
4. وعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: "أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه".21
5. وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه: "رأى قوماً يصلون الضحى، فقال: لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال".22
6. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها".23
7. وفي رواية عنها: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى، وإني لأسبحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم".24
8. وقد وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر وأبا الدرداء، كما وصى أبا هريرة رضي الله عنهم.
9. وحديث أبي هريرة السابق: "يصبح على كل سلامى.." الحديث.
قال الحافظ ابن حجر: (وقد جمع الحاكم الأحاديث الواردة في صلاة الضحى في جزء مفرد، وذكر لغالب هذه الأقوال مستنداً، وبلغ عدد رواة الحديث في إثباتها نحو العشرين نفساً من الصحابة).25
?
الحكمة في عدم مواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة الضحى
العلة والحكمة في عدم مواظبته ومداومته على صلاة الضحى هي نفس العلة التي من أجلها لم يداوم على صلاة التراويح في جماعة، وهي خشية أن تفرض على الأمة، وكان يحب لأمته التخفيف، وبهذا يُجمع بين الأحاديث التي وردت في فضلها والآثار التي نفت مداومته صلى الله عليه وسلم عليها.
قال النووي رحمه الله: ( قال العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على الأمة فيعجزوا عنها كما ثبت هذا في الحديث26، وكان يفعلها في بعض الأوقات كما صرحت به عائشة في الأحاديث السابقة، وكما ذكرته أم هانئ، وأوصى بها أبا الدرداء وأبا هريرة. وقول عائشة: "ما رأيته صلاها"، لا يخالف قولها: "كان يصليها"، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يكون عندها في وقت الضحى إلا في نادر من الأوقات، لأنه صلى الله عليه وسلم في وقت يكون مسافراً وفي وقت يكون حاضراً، وقد يكون في الحضر في المسجد وغيره، وإذا كان في بيته فله تسع نسوة، وكان يقسم لهن، فلو اعتبرت ما ذكرناه لما صادف وقت الضحى عند عائشة إلا في نادر من الأوقات، وما رأته صلاها في تلك الأوقات النادرة، فقالت: "ما رأيته"، وعملت بغير رؤية أنه كان يصليها بإخباره صلى الله عليه وسلم أوبإخبار غيره، فروت ذلك، فلا منافاة بينهما).27
وقال الحافظ ابن حجر: (وعدم مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها لا ينافي استحبابها لأنه حاصل بدلالة القول، وليس من شرط الحكم أن تتضافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله مرجح على ما لم يواظب عليه).28
?
قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم أنها بدعة لا يدفع سنية ومشروعية صلاة الضحى
خرَّج البخاري في صحيحه عن مُوَرِّق العجلي قال: "قلت لابن عمر رضي الله عنهما: أتصلي الضحى؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا؟ قلت: فالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا إخاله".29
وعن أبي بكرة وقد رأى ناساً يصلون الضحى فقال: "إنكم لتصلون صلاة ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عامة أصحابه".30
وعن قيس بن عبيد قال: كنت أختلف إلى ابن مسعود السنة كلها، فما رأيته مصلياً الضحى.
وقال الشعبي: سمعت ابن عمر يقول: "ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى".
قال ابن القيم رحمه الله معلقاً على الأحاديث والآثار التي وردت في صلاة الضحى نفياً وإثباتاً: (فاختلف الناس في هذه الأحاديث على طرق، منهم من رجح رواية الفعل على الترك، بأنها مثبتة تتضمن زيادة علم خفيت على النافي، وقالوا: وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا على كثير من الناس، ويوجد عند الأقل، قالوا: وقد أخبرت عائشة، وأنس، وجابر، وأم هانئ، وعلي بن أبي طالب أنه صلاها، قالوا: ويؤيد هذا الأحاديث الصحيحة المتضمنة للوصية بها، والمحافظة عليها، ومدح فاعلها، والثناء عليه).31(5/260)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وكان سبب توقف ابن عمر في ذلك أنه بلغه عن غيره أنه صلاها ولم يثق بذلك عمن ذكره... وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الشعبي عن ابن عمر قال: "ما صليت الضحى منذ أسلمت إلا أن أطوف بالبيت"، أي فأصلي في ذلك الوقت، لا على نية صلاة الضحى، بل على نية الطواف، ويحتمل أنه كان ينويهما معاً، وقد جاء عن ابن عمر أنه كان يفعل ذلك في وقت خاص، كما سيأتي بعد سبعة أبواب من طريق نافع أن ابن عمر كان لا يصلي الضحى إلا يوم يقدم مكة، فإنه كان يقدمها ضحى فيطوف بالبيت ثم يصلي ركعتين، ويوم يأتي مسجد قباء.
إلى أن قال:
وفي الجملة ليس في أحاديث ابن عمر32 ما يدفع مشروعية صلاة الضحى، لأن نفيه محمول على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة... قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المسجد وصلاتها جماعة، لأنها مخالفة للسنة، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه رأى قوماً يصلونها فأنكر عليهم، وقال: إن كان ولابد ففي بيوتكم).33
مما سبق يتضح لنا الآتي:
1. أن قول ابن عمر وابن مسعود ومن وافقهما أنها بدعة يُراد بذلك البدعة اللغوية لا البدعة الشرعية، بدليل استحسانهما لها، وقولهما هذا شبيه بقول عمر عندما جمع الناس على صلاة القيام واعترض عليه أبي بن كعب بأنها بدعة، فقال: "إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة هي".
2. أن اعتراض المعترضين ليس على أصل صلاة الضحى وإنما على الصفة التي كانت تؤدى بها، إما في جماعة، أوفي المسجد، وإما عقب الشروق مباشرة، وإما لسبب آخر، والله أعلم.
3. اعتراضهم هذا يدل على أن صلاة الضحى ليست من السنن الرواتب قبل ودبر الصلوات، وإنما هي سنة مؤكدة تؤدى في البيوت.
4. اعتراضهم هذا قائم على عدم مواظبة ومداومة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، وسبب عدم المواظبة كما ذكرنا خشيته أن تفرض عليهم ثم لا يطيقونها .
5. أن كلاً يؤخذ من قوله ويترك مهما كانت مكانته وعلمه ومنزلته، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
6. من أقوى ما يدل على سنية صلاة الضحى والمحافظة عليها وصيته صلى الله عليه وسلم لثلاثة من خيار أصحابه المشمِّرين للعبادة: أبي ذر، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وإجزاؤها عن صدقة المفاصل في كل يوم: "يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة.." الحديث.
?
ما يستحب أن يقرأ فيها
قال الحافظ ابن حجر: (روى الحاكم من طريق أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي الضحى بسور منها والشمس وضحاها، والضحى"، ومناسبة ذلك ظاهرة جداً).34
واللهَ أسأل أن ييسرنا لليسرى، وأن ينفعنا بالذكرى، وصلى الله وسلم وبارك على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
---------
صلاة المريض
طهارة المريض حسب الطاقة
كيفية صلاة المريض
كيفية القعود
كيفية الصلاة على جنب
أكمل الركوع وأقله
أكمل السجود
السجود على مخدة أو على شيء مرتفع من الأرض
إذا افتتح الصلاة قائماً ثم عجز
من كان في ظهره علة
من كان بظهره علة تمنعه من الانحناء دون القيام
صلاة الجماعة للمريض
من بعينه وجع أو أجريت له عملية وأمره طبيب موثوق بدينه وطبه أن يصلي مستلقياً
الجمع للمريض
الحمد لله الذي جعل الصلاة على المؤمنين كتاباً موقوتاً، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله القائل: "بين الرجل وبين الكفر" وفي رواية "وبين الشرك ترك الصلاة".
ولهذا كان آخر ما وصى به أمته وهو مفارق لهذه الحياة: "الصلاة وما ملكت أيمانكم".
فالصلاة المكتوبة لا ترفع عن حي بالغ عاقل قط، إلا عن الحائض و النفساء حال الحيض والنفاس، ولهذا قال الله على لسان عيسى عليه الصلاة والسلام: "وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً".
من أجل ذلك مدح الله عباده المؤمنين بالمداومة والمحافظة على الصلاة بقوله: "إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون... والذين هم على صلاتهم يحافظون".
وذم الساهين عنها المفرطين فيها بقوله: "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون".
فعليك أخي المسلم أن تؤدي الصلاة المكتوبة في الوقت المكتوب لها بالكيفية التي تستطيعها, في حال الصحة والمرض والحضر والسفر، طالما أنك حاضر العقل، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يحل لك أن تؤخرها بحجة المرض أوعدم التمكن من طهارة الحدث والخبث عن وقتها المحدد، فإن فعلت فأنت تارك للصلاة متعمداً، كيف لا وقد أمر الله بأدائها في حال احتدام القتال ومقارعة السيوف سواء كان مستقبل القبلة أومستدبرها راكباً أو راجلاً، قال تعالى: "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً".
قال ابن عمر رضي الله عنهما: "مستقبلي القبلة و غير مستقبليها".
وروى نافع عن ابن عمر قال: "إذا كان الخوف أكثر من ذلك صلى راكباً وقائماً يومئ إيماءاً"، قال الشافعي رحمه الله: "ولا بأس أن يضرب الضربة ويطعن الطعنة" وهو في الصلاة ولا تبطل صلاته.(5/261)
وبعد...
فهذا بحث مختصر عن كيفية صلاة المريض، كتبته تذكيراً لنفسي ونصحاً لإخواني المسلمين بعظم قدر الصلاة وخطورة التهاون فيها في حال المرض، وقد دفعني لذلك تهاون كثير من المرضى في السودان خاصة بأداء الصلاة المكتوبة سيما لو كان منوماً بمستشفى لإجراء عملية، حيث يترك البعض الصلاة إلى أن يخرج من المستشفى كأنه ضمن أنه سيخرج سليماً ليقضي هذه الصلوات، ولو ضمن ذلك لما حل له أن يؤخر صلاة واحدة عن وقتها إلا في حال ذهاب العقل بإغماء أوجنون أوتخدير، وجهلهم كذلك بكيفية صلاة المريض العاجز عن القيام والركوع والسجود وعن تحقيق طهارة الحدث والخبث.
إن من أوجب الواجبات على أولياء المرضى الملازمين لهم في البيوت والمستشفيات، وعل الأطباء والممرضين في المستشفيات تنبيه المرضى المنوَّمين عندهم وتذكيرهم بالصلاة وبدخول أوقاتها، وإعانتهم على الطهارة ومساعدتهم، وهذا أهم من تناول جرعات الدواء في أوقاتها المحددة، وعلى إدارات المستشفيات أن تحدد القبلة في كل العنابر وغرف المنومين، وأن تعمل وتضع الملصقات التي تبين كيفية صلاة المريض العاجز عن القيام والقعود في الصلاة، وما شاكل ذلك، وهذا من باب النصيحة الواجبة لعامة المسلمين.
فالعجب كل العجب من اهتمام أولياء المرضى بإحضار كل ما يحتاجه المريض من دواء و طعام وغير ذلك وتهاونهم في تذكير المريض وتنبيهه وحمله على أداء الصلاة في وقتها بالكيفية التي يستطيعها، والصبر على ذلك، كما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى بقوله: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك".
وأمرنا بأن نقي أنفسنا وأهلينا النار، فقال: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد".
وعليك أن تقارن أخي الكريم بين حرص السلف الصالح في هذه الشأن وبين تفريطنا اليوم فيه، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "لما طُعن عمر رضي الله عنه احتملته أنا ونفر من الأنصار حتى أدخلناه منزله، فلم يزل في غشية واحدة حتى أسفر، فقلنا: الصلاة يا أمير المؤمنين! ففتح عينيه، فقال: أصلى الناس؟! قلنا: نعم، قال: إما إنه لا حظ في الإسلام لأحد ترك الصلاة، فصلى، وجرحه يثعب دماً".
وفي رواية: فقال رجل: "إنكم لن تفزعوه إلا بالصلاة" وذكر باقي الحديث.
اللهم اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء، وصلى الله وسلم وبارك على أفضل من صلى وصام وقام ونام وعلى آله وصحبه الغر الكرام.
?
طهارة المريض حسب الطاقة
من شروط صحة الصلاة الطهارة من الحدث والخبث، للبدن والملابس وموضع الصلاة، فمن استطاع أن يتطهر بالماء فليفعل، فإن كانت به جروح وكسور مجبرة أو مجبسة غسل الأعضاء السليمة في الوضوء والغسل ومسح على الجبائر والجبس، فإن عجز المريض عن استعمال الماء أوفقده انتقل إلى الطهارة الترابية، إلى التيمم بالتراب، فإن عجز عن استعمال الماء والتراب صلى بدون طهارة، ولا إعادة عليه.
وكذلك الأمر بالنسبة لطهارة البدن والملابس وموضع الصلاة، فإن استطاع أن يطهرها فعل، وإلا صلى على حاله مع خروج الغائط والبول منه، فقد صلى عمر رضي الله عنه كما سلف ودمه يسيل منه وثيابه كلها ملطخة بالدم.
قال في تهذيب المدونة للبراذعي: (وجائز أن يصلي المريض على فراش نجس إذا بسط عليه ثوباً طاهراً كثيفاً).
تنبيه
مقطوع اليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين والأذنين أوعديمهما أووحيدهما غسل أومسح على الباقي وصلى.
?
كيفية صلاة المريض
يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن، فإن لم يستطع فعلى جنب الأيسر، فإن لم يستطع صلى مستلقياً على ظهره، فإن لم يستطع أومأ برأسه، فإن لم يستطع أشار بيده، فإن لم يتذكر لُقن، وهكذا، فإن عجز عن الإشارة بيده أومأ بطرفه، فإن عجز أجرى أفعال الصلاة على قلبه، فإن حبس لسانه وجب أن يجري القرآن والأذكار الواجبة على قلبه كما يجري الأفعال.
هذا ما عليه العامة، وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن من عجز عن الإيماء بالرأس سقطت الصلاة عنه، قال: وإن شفي فعليه القضاء؛ وهذا قول شاذ، لأن الصلاة لا ترفع عن أحد إلا إذا ذهب عقله، ورحم الله أبا حنيفة عندما قال: هذا رأيي فمن جاءني برأي خير منه قبلته، والحمد لله الذي لم يجعل في الخلاف المجرد عن الدليل حجة.
وإليك الأدلة
1. عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف، قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا".
2. وعن أنس رضي الله عنه قال: "سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرس فخدش ـ أوفجحش ـ بشقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى قاعداً فصلينا قعوداً".(5/262)
3. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: "كانت بي بواسير ـ وفي رواية ناسور ـ فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب".
4. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن صلاة الرجل وهو قاعد، فقال: من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد"؛ قال أبو عبد الله البخاري: إنما عندي مضطجعاَ هاهنا.
5. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عند الطبراني: "يصلي قائماً فإن نالته مشقة فجالساً، فإن نالته مشقة صلى نائماً".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قال الخطابي ـ معلقاً على حديث عمران ـ لعل هذا الكلام كان جواب فتيا استفتاها عمران، وإلا فليست البواسير بمانعة عن القيم في الصلاة على ما فيها من الأذى، انتهى. ولا مانع من أن يسأل عن حكم ما لم يعلمه لاحتمال أن يحتاج إليه فيما بعد، قوله "فإن لم يستطع" استدل به من قال: لا ينتقل المريض إلى القعود إلا بعد عدم القدرة على القيام، وقد حكاه عياض عن الشافعي، وعن مالك وأحمد وإسحاق: لا يشترط العدم بل وجود المشقة، والمعروف عند الشافعية أن المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقة الشديدة بالقيام، أوخوف زيادة المرض أوالهلاك، ولا يكتفي بأدنى مشقة، ومن المشقة الشديدة دوران الرأس في حق راكب السفينة وغيره).
?
كيفية القعود
ذهب أهل العلم في أفضل كيفية لقعود المريض في الصلاة إن عجز عن القيام، بعد أن اتفقوا على جواز أي كيفية شاء، مذاهب هي:
1. يصلي متربعاً، هذا مذهب مالك، والثوري، والليث، وأحمد، وإسحاق، وقول للشافعية وصاحبي أبي حنيفة.
2. يصلي مفترشاً، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
3. يصلي متوركاً.
4. كيف شاء.
قال البراذعي في تهذيب المدونة: (وصلاته ـ أي المريض جالساً ممسوكاً به أحب إلي من المضطجع، ولا يستند إلى حائض ولا جنب).
واختلف العلماء كذلك على قولين: هل صلاته قائماً مع اقتصاره على الفاتحة أفضل؟ أم قاعداً مع قراءة الفاتحة والسورة؟
يبدو لي والله أعلم أن قيامه مع اقتصاره على الفاتحة أفضل من قعوده والإتيان بالفاتحة، لأنه إذا قام أتى بالركن وإذا لم يقرأ السورة ترك سنة.
?
كيفية الصلاة على جنب
من عجز عن القيام والقعود وصلى على جنب ذهب أهل العلم في استقباله القبلة للآتي:
1. يستقبل القبلة بوجهه على جنبه الأيمن فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيسر ومقدم بدنه كالميت في اللحد، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود، وهو مروي عن عمر وابنه، وهو الراجح.
2. يستلقي على ظهره ويستقبل القبلة برجليه، ويرفع رأسه بشيء إلى أعلى وهذا مذهب أبي حنيفة ووجه للشافعية.
3. يضطجع على شقه الأيمن ويعطف أسفل قدميه إلى القبلة.
?
أكمل الركوع وأقله
أكمل الركوع لمن قدر عليه هو أن ينحني بحيث توازي جبهته ما وراء ركبتيه من الأرض.
وأقل الركوع أن ينحني بحيث توازي جبهته موضع سجوده.
?
أكمل السجود
أن يسجد على سبعة أعضاء: الجبهة والأنف و الكفين والركبتين والقدمين.
ومن لم يتمكن من السجود على الأرض سجد على صدغه الأيمن أو الأيسر.
وإن عجز عن ذلك أتى بالممكن من الركوع والسجود بحيث يجعل الركوع أدنى من السجود.
?
السجود على مخدة أو على شيء مرتفع من الأرض
أجازه طائفة منهم أم سلمة، فقد روى البيهقي عنها أنها سجدت على مخدة لرمد بها ، ومنع منه آخرون.
قال في تهذيب المدونة: (فإن قدر أن يسجد على الأرض سجد، وإلا أومأ بظهره ورأسه، ولا يرفع إلى جبهته شيئاَ يسجد عليه، ولا ينصب بين يديه شيئاً يسجد عليه، فإن فعل وجهل ذلك لم يعد).
و الراجح فعل ذلك لفعل أم سلمة رضي الله عنها، والله أعلم.
ولو ركع المصلي فعجز عن الاعتدال لعلة سقط عنه الاعتدال وخر ساجداً، ولو زالت العلة قبل الشروع في السجود لزمه الاعتدال، وإن زالت العلة في السجود لم يلزمه الاعتدال.
?
إذا افتتح الصلاة قائماً ثم عجز
قعد و أتم صلاته، وكذلك الأمر إن عجز عن القعود، اضطجع وأتم صلاته ولا شيء عليه.
والعكس إذا افتتح الصلاة قاعداً ثم قدر على القيام قام وأتم صلاته، وكذلك إن افتتحها مضطجعاً ثم قدر على القعود قعد وأتم صلاته.
?
من كان في ظهره علة
من كان في ظهره علة تمنعه من الركوع والسجود، ولكنها لا تمنعه من القيام لزمه القيام، ويركع ويسجد حسب الطاعة.
?
من كان بظهره علة تمنعه من الانحناء دون القيام
حنى صلبه، فإن لم يستطع حنى رقبته ورأسه، وإن احتاج أن يميل إلى شقه الأيمن أوالأيسر أوإلى أي شيء فعل.
وإن لم يستطع الانحاء أصلاً أومأ إلى الركوع والسجود.
?
من تقوس ظهره لزمانة أو كبر أو عاهة و صار كالراكع
لزمه القيام حسب الطاقة، وزاد في الانحناء في الركوع، وقيل يلزمه أن يصلي قاعداً، والراجح الأول، لأن هذا استطاعته.
?
صلاة الجماعة للمريض(5/263)
إن استطاع المريض أن يصلي مع جماعة المسلمين في المساجد فعل ، وإن لم يستطع فعليه أن يصلي مع جماعة المرضى، أو من يقدر منهم .
واختلف العلماء أيهما أفضل للمريض أن يصلي قائماً منفرداً ويخفف القراءة أم يصلي مع الجماعة وإن احتاج إلى القعود قعد على قولين، والراجح من قولي العلماء أن يصلي مع الجماعة وإن احتاج إلى القعود قعد، لفضل صلاة الجماعة، ولأن هذه طاقته.
?
من بعينه وجع أو أجريت له عملية وأمره طبيب موثوق بدينه وطبه أن يصلي مستلقياً
ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب هي:
1. يفعل ولا يعيد لخوف الضرر وذهاب البصر، وهذا مذهب الجمهور وهو الراجح لتحصيل أخف الضررين.
2. لا يفعل، وهذا مذهب أم سلمة، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عباس من الصحابة، ومالك من الأئمة.
3. يفعل ويعيد.
استدل المانعون لذلك كما قال النووي في المجموع بما رواه البيهقي بسند صحيح عن عمرو بن دينار قال: (لما وقع في عين ابن عباس الماء أراد أن يعالج منه فقيل تمكث كذا وكذا لا تصلي إلا مضطجعاً فكرهه؛ وفي رواية قال ابن عباس للمداوي: أرأيت إن كان الأجل قبل ذلك؟!
وأما ما رواه البيهقي عن أبي الضحى بإسناد ضعيف أن عبد الملك أوغيره بعث إلى ابن عباس بالأطباء على البرد وقد وقع الماء في عينيه، فقالوا: تصلي سبعة أيام مستلقياً على قفاك فسأل أم سلمة وعائشة عن ذلك فنهتاه. وفي رواية: أنه استفتى عائشة وأبا هريرة، قال النووي: أنكره بعض العلماء وقال: هذا باطل من حيث أن عائشة وأم سلمة توفيتا قبل خلافة عبد الملك بأزمان. وهذا الإنكار باطل فإنه لا يلزم من بعثه أن يبعث في زمن خلافته، بل بعث في خلافة معاوية وزمن عائشة وأم سلمة، ولا يستكثر بعث البرد من مثل عبد الملك فإنه كان قبل خلافته من رؤساء بني أمية وأشرافهم وأهل الوجاهة والتمكن وبسطة الدنيا فبعث البرد ليس يصعب عليه ولا على من دونه بدرجات والله أعلم).
قال البراذعي في المالكي في تهذيب المدونة: (ويكره لمن يقدح الماء في عينيه أن يصلي مستلقياً على ظهره اليومين و نحوها فإن فعل أعاد أبداً).
وقال النووي رحمه الله: (قال أصحابنا إذا كان قادراً على القيام فأصابه رمد أوغيره من وجع العين أوغيره، وقال له طبيب موثوق بدينه ومعرفته إن صليت مستلقياً أومضطجعاً أمكن مداواتك وإلا خيف عليك العمى فليس للشافعي في المسألة نص ولأصحابنا فيها وجهان مشهوران.. أصحهما عند الجمهور يجوز له الاستلقاء والاضطجاع ولا إعادة عليه، والثاني لا يجوز، وبه قال الشيخ أبوحامد والبندنيجي ودليلهما في الكتاب ولو قيل له: إن صليت قاعداً أمكنت المداواة قال إمام الحرمين: يجوز القعود قطعاً... وممن جوز له الاستلقاء في أصل المسألة من العلماء أبوحنيفة؛ وممن منعه عائشة، وأم سلمة، ومالك، والأوزاعي).
?
الجمع للمريض
يجوز للمريض إن تعذر عليه أن يصلي كل صلاة لوقتها أن يجمع بين صلاتي الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب في أي ساعة من وقتهما المشترك هذا، وبين صلاتي المغرب والعشاء في أي ساعة من وقتهما من الغروب إلى قبيل طلوع الفجر، ويصلي الصبح في وقته، من طلوع الشمس إلى قبيل الشروق.
--------
الجهاد بالنفس في سبيل الله
• ... ذروة سنام الإسلام
• ... ماضٍ إلى يوم القيامة مع كل إمام، براً كان أم فاجراً
• ... أقصر الطرق إلى الجنة
• ... ليس هناك عمل يعدل الجهاد بالنفس
• ... الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون
الحمد لله الذي جعل الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وبه عزه ونصره، ولهذا أوجبه رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة إلى أن تنقضي العدتان، مع كل بر وفاجر: "...والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل"، وفي رواية: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أم فاجراً"، قال الشاطبي: (وكذلك الجهاد مع ولاة الجور، قال العلماء بجوازه، قال مالك: لو ترك ذلك لكان ضرراً على المسلمين، فالجهاد ضروري، والوالي فيه ضروري، والعدالة فيه مكملة للضرورة، والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر، ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي صلى الله عليه وسلم).
ومن بركة الجهاد أن الله سبحانه وتعالى ينصر به الدين ولو كان المجاهد فاجراً، لما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر"، قال ذلك لرجل قاتل قتالاً شديداً فأصابته جراحه فلم يصبر عليها فقتل نفسه؛ واعلم أخي الكريم أنه ليس هناك عمل يعادل الجهاد، كما صح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؛ قال: لا أجده؛ قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟".(5/264)
واعلم أخي الكريم أن الجهاد أقصر الطرق إلى الجنة، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، كما أخبر الصادق المصدوق، وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأنه ما من أحد يود الرجوع إلى الدنيا بعد أن عافاه الله من نكدها ومنغصاتها بدخوله الجنة إلا الشهيد؛ واحذر أخي العازم على الغزو والجهاد الآتي:
• ... أن تقاتل أو تغزو لأي غرض سوى أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فقد صح عن رسولك الذي أوتي جوامع الكلم، وقد سئل عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
• ... أن يؤتى إخوانك المسلمون من قبلك بتقصيرك وتفريط منك.
• ... الفرار من الزحف فهو من الكبائر العظائم، إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، أو كان العدو أكثر من ضعفي المسلمين.
• ... أن تبوح للكفار بسر عن إخوانك المسلمين إذا أسرت، ولو قطعت إرباً إرباً.
وفقك الله لما يحب ويرضى وتقبل منك؛ اللهم إنا نسألك عيشة هنية، وميتة سوية، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مذلة؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
----
مفهوم الجهاد و أحكامه من خلال سورة الأنفال "
إعداد
أحمد محمد بوقرين
قسم أصول الدين
بالجامعة الأمريكية المفتوحة
" مقدمة البحث "
إن الحمد لله نحمده و نشكره و نستهديه و نستغفره و نعود بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا , من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له , و أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله , اللهم أنا نبرأ من الثقة إلا بك و من الأمل إلا فيك و من التسليم إلا لك
و من التفويض إلا إليك و من التوكل إلا عليك و من الرضا إلا عنك و من الطلب إلا منك و من
الذل إلا في طاعتك و من الصبر إلا على بابك و من الرجاء إلا في يديك الكريمتين و من الرهبة
إلا بجلالك العظيم , اللهم تتابع برك و اتصل خير وعمت فواضلك و تمت نوافلك و بر قسمك و صدق وعدك و حق على أعدائك وعيدك و لم يبقى لنا حاجه هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا يسرتها و أعنتنا على قضائها يا رب العالمين ...
وبعد :
فإني سأحاول بإذن الله تعالى في هذا البحث أن أتناول موضوع " مفهوم الجهاد و أحكامه من خلال سورة الأنفال " و قد بدأت بحثي هذا بمقدمة عن مفهوم الجهاد في سبيل الله عز و جل و أربعة أبواب و خاتمة و قد تناولت في الباب الأول من هذا البحث الجهاد لغة ً و شرعاً و قد استطرت في المفهوم الشرعي للجهاد , وفي الباب الثاني تناولت حُكم الجهاد و الحكمة من مشروعيته و في الباب الثالث تحدثت فضل الجهاد في سبيل الله و في الباب الرابع تناولت أحكام الجهاد من خلال سورة الأنفال و بعض أحكام الجهاد الأخرى المستخلصة من بعض سور القرآن الكريم و سيرة المصطفى صلى الله عليه و سلم ثم ختمت البحث ببعض النتائج و الفوائد المستخلصة من هذا البحث .
الباب الأول :
الجهاد لغة ًو اصطلاحا ً
الجهاد في اللغة :
هو بذل الجهد والوسع والطاقة، من الْجُهْد بمعنى الوُسع، أو من الْجَهْد بمعنى المشقة.
أما الجهاد في اصطلاح القرآن والسنة :
يأتي بمعنى أعم وأشمل، يشمل الدِّين كله؛ وحينئذ تتسع مساحته فتشمل الحياة كلها بسائر مجالاتها و نواحيها وله كذلك معنى خاص هو القتال لإعلاء كلمة الله عز و جل .
استطراد في المفهوم الشرعي :
إن مفهوم " الجهاد " في الكتاب والسنة جاء بمعنى القتال و كذلك جاء بمعنى أعم و أشمل من القتال :
قال تعالى: ( فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ) (1) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( وجاهدهم به ) أي القرآن تفسير ابن كثير (2)
فالجهاد الكبير هنا ليس هو القتال، إنما هو الدعوة والبيان بالحجة والبرهان وأعظم حجة وبيان هو هذا القرآن، إنه حجة الله على خلقه، ومعه تفسيره وبيانه الذي هو السنة.
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ . . ) (3)
وفي هذه الآية ليس المراد بجهاد المنافقين القتال، لأن المنافقين يظهرون الإسلام يتخذونه جُنَّةً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتلهم بل عاملهم بظواهرهم وحتى من انكشف كفره منهم كعبدالله بن أبي بن سلول لم يقتله صلى الله عليه وسلم وقال لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ) ولكن جهاد المنافقين يكون بالوسائل الأخرى، مثل كشف أسرارهم ودواخلهم وأهدافهم الخبيثة، وتحذير المجتمع منهم، كما جاء في القرآن .
وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) (4)
وتفسير هذه الآية : ( الذين جاهدوا فينا ) أي جاهدوا في ذات الله أنفسَهم وشهواتِهِم وأهواءَهم وجاهدوا العراقيلَ والعوائقَ، وجاهدوا الشياطين، وجاهدوا العدو من الكفار المحاربين، فالمقصود الجهادُ في معترك الحياة كلِّها .(5/265)
وقد بين المصطفى صلى الله عليه وسلم أنواع الجهاد بمفهومه الشامل فقال: ( ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحابٌ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تَخْلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤْمَرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) (5).
والمراد بجهاد القلب في هذا الحديث هو بغضهم وبغض حالهم، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم فعلَ القلب هذا جهاداً، كما سمَّى فعل اللسان جهاداً، وكما سمى فعل اليد من باب أولى جهاداً .
وأيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أجاهد ؟ قال ألك أبوان ؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد) (6) . فسمَّى النبي صلى الله عليه و سلم بِرَّ الوالدين ورعايتَهُمَا جهاداً في هذا الموقف، فكلٌّ جهادُهُ بحَسَبِِه.
وأمثلة هذا من السنة كثيرة يسمي فيها بعض العمال الصالحة جهاداً أو يجعلها بمنزلة الجهاد؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)(7) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج جهاد والعمرة تطوع) . وقوله صلى الله عليه وسلم في النساء: (جهادكن الحج) (9) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه) (10) .
وهذا كله يوضح مدى اتساع دائرة الجهاد، وأنها ليست محصورة في القتال، بل هي مرتبطة بمجالات الحياة كلها وبعضنا ربما نظر إلى الجهاد نظرة ضيقة فحصره في جانب القتال، وهذا قصور في فهم نصوص الكتاب والسنة.
الباب الثاني :
حُكم الجهاد و الحِكمة من مشروعيته
حُكم الجهاد في سبيل الله تعالى :
الجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي من المسلمين؛ سقط الإثم عن الباقين [انظر:المغني لابن قدامة]. قال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[122]}(11)
ويكون الجهاد فرض عين في ثلاث حالات (12):
1ـ إذا حضر المسلم القتال والتقى الزحفان وتقابل الصفان، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ . وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (13). وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن التولي يوم الزحف من السبع الموبقات (14).
2ـ إذا حضر العدو بلدًا من بلدان المسلمين تعين على أهل البلاد قتاله وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو، ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[123]}(15)
3ـ إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك.
وجنس الجهاد فرض عين :
وجنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد. فيجب على المسلم أن يجاهد في سبيل الله بنوع من هذه الأنواع حسب الحاجة والقدرة. والأمر بالجهاد بالنفس والمال كثير في القرآن والسنة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ] (16)
الحكمة من مشروعية الجهاد :
بيّنه سبحانه فقال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[39]} (17). وقال عز وجل:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ[193]} (18). فعلى هذا يكون الهدف والحكمة من الجهاد الأمور التالية:
أولاً: إعلاء كلمة الله تعالى :
لحديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: [مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (19)
ثانيًا: نصر المظلومين :(5/266)
قال تعالى:{ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا[75]} (20)
ثالثًا: ردّ العدوان وحفظ الإسلام :
قال الله تعالى: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[194]}(21). وقال سبحانه:{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]} (22)
الباب الثالث :
فضل الجهاد في سبيل الله
درجات المجاهدين في سبيل الله :
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ] (23)
الجهاد لا يعدله شيء :
عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: [لَا أَجِدُهُ] قَالَ: [هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ] قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ . (24)
ضيافة الشهداء عند ربهم :
عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْد ِيكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ وَيُزَوَّجُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ] (25). وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصف الحور العين: [...وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا] (26)
الجهاد في سبيل الله تجارة رابحة :
قال تعالى في تجارة المجاهدين الرابحة:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[10]تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[11]يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[12]وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[13]} (27)
وقال سبحانه: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[74]}.(28)
فضل الرباط في سبيل الله تعالى :
الرباط على الثغور التي يمكن أن تكون منافذ ينطلق منها العدو إلى دار الإسلام له فضل عظيم، فعَنْ سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ](29)
فضل الحراسة في سبيل الله :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (30)
فضل الغدوة أو الروحة في سبيل الله :(5/267)
قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا](31) .
فضل من اغبرَّت قدماه في سبيل الله :
قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ] (32)
دم الشهيد يوم القيامة :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ].(33)
ما يجد الشهيد من ألم القتل :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الشَّهِيدُ لَا يَجِدُ مَسَّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ الْقَرْصَةَ يُقْرَصُهَا](34)
فضل النفقة في سبيل الله :
قال تعالى:{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[261]} (35). وعَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ] (36)
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ](37)
الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون :
قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169] فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[170] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[171]} (38)
الجهاد باب من أبواب الجنة :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُنَجِّي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ الْهَمِّ وَالْغَمِّ](39)
ما يُبلِّغ منازل الشهداء :
ويحصل هذا الخير العظيم لمن سأل الله الشهادة بصدق، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ] (40)
الباب الرابع :
أحكام الجهاد من خلال سورة الأنفال
بين يدي سورة الأنفال :
سورة الأنفال إحدى السور المدنية التي عُنيت بجانب التشريع , و بخاصة فيما يعلق بأمر الجهاد في سبيل الله عز و جل , فقد عالجت هذه السورة بعض النواحي الحربية التي ظهرت عقب بعض الغزوات و تضمنت كثيرا من التشريعات و الأحكام الحربية و الإرشادات الإلهية التي يجب على المؤمنين اتباعها في قتالهم الأعداء و تناولت أيضا جانب السلم و الحرب و أحكام الأسر و الغنائم (41)
فمن الأحكام التي نستخلصها من سورة الأنفال ما يلي :
1. الإعداد للجهاد :(5/268)
لا يُمكن أن يُقاتَل العدو بغير إعداد ولا عدّة ، ولذا قال الله سبحانه في سورة الأنفال : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْل ِتُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ )
ومن قاتَل العدو بغير إعداد فإنه قد خالِف ما أُمِرَ به ، ورام النصر من غير بابه .ولذا كانوا يُعوّدون الخيل على الكرّ والفرّ حتى في حال السِّلم حتى تألف ذلك عند القتال .
جاء في سيرة نور الدين زنكي :
أنه كان يُكثر اللعب بالكرة ، فأُنكِرَ عليه فكتب نور الدين لمن أنكر عليه :
والله ما أقصد اللعب ، وإنما نحن في ثغر ، فربما وقع الصوت فتكون الخيل قد أدمنت على الانعطاف والكر والفرّ .
وأول الإعداد في سبيل الله هو الإعداد الإيماني فبالإيمان تقوى صلة المرء بربه، ويستمد منه العون، ويأتيه الفرج بعد الكرب، قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}(42) , والإيمان يعتبر أيضا أساس لازم لجميع التكاليف الشاقة كالجهاد ونحوه، فإذا أتم المرء هذا الإعداد صار مؤهلا لأداء هذه الفريضة وصار أهلاً للتأييد والتثبيت الإلهي، ولذا فقد خاطب الله نبيه: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً} إلى قوله {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} (43) , والإيمان هو المحور الذي تقوم عليه الجماعة المسلمة، ويرتكز عليه أي كيان يريد القيام بفريضة الجهاد في سبيل الله، ويتأتى ذلك بتطبيق الأخلاق الإيمانية من المودة والأخوة والإيثار والتراحم ونحو ذلك داخل الصف المسلم ليكون كما أراد الله "بنياناً مرصوصاً". ,
وبالإيمان يجبر النقص والضعف في العدد والعدة لدى المسلمين أمام أعدائهم، قال تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} (44)، فإن اتصاف هذه الفئة القليلة بالصبر وتحليها به عوضها النقص العددي لديها فنصرها الله تعالى .
2. قتل أسرى بدر أفضل من استعبادهم :
استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بشأن أسرى بدر ، وهم سبعون . فأشار الصديق أن يؤخذ منهم فدية تكون لهم قوة . ويطلقهم لعل الله يهديهم للإسلام . فقال عمر لا والله ما أرى ذلك . ولكني أرى أن تمكننا ، فنضرب أعناقهم . فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديد الشرك فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر . فقال " إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين وإن الله عز وجل ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة . وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم )وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى ، إذ قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) الآية . وإن مثلك يا عمر كمثل موسى ،إذ قال : ( ربنا اطمس على أموالهم و أشدد على قلوبهم ) . وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ثم قال أنتم اليوم عالة . فلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق . فأنزل الله تعالى قوله : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) قال عمر فلما كان من الغد غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قاعد - هو وأبو بكر - يبكيان . فقلت : يا رسول الله أخبرني ما يبكيك ؟ وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما.
فقال أبكي للذي عرض علي أصحابك من الغد من أخذهم الفداء . فقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه - وقال لو نزل عذاب ما سلم منه إلا عمر ).
فكان بنزول آية ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) البيان الشافي للنبي صلى الله عليه و سلم و للمسلمين في أن قتل الأسرى في غزوة بدر كان أفضل من استعبادهم .
ولقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أسرى الحرب على قسمين :
الأول: النساء والصبيان والشيوخ غير القادرين على القتال، والذين لا رأي لهم في الحرب.
الثاني: الرجال البالغون المقاتلون.
وقد جعل الإسلام للحاكم فعل الأصلح بين أمور ثلاثة في أسرى الرجال البالغين المقاتلين المنُّ أو الفداء أو القتل.
والمن : إطلاق سراحهم دون مقابل.
والفداء : قد يكون بالمال، وقد يكون بأسرى من المسلمين، ففي غزوة بدر كان الفداء بالمال، وروى أحمد والترمذي عنه عليه الصلاة والسلام أنه فدى رجلين من أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل.
قال تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) . (45)
وروى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق سراح الذين أخذهم أسرى، وكان عددهم ثمانين، وكانوا قد هبطوا عليه وعلى أصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم.(5/269)
والقتل : كما أنه يجوز له قتل الأسير إذا كانت المصلحة تقتضي قتله، كما ثبت أنه قتل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط يوم بدر، وقتل أبا عزة الجمحي يوم أحد
3. الغنائم :
لقد أختلف الصحابة رضوان الله عليهم في أمر الغنائم فقال من جمعها : هي لنا . وقال من هزم العدو لولانا ما أصبتموها ، وقال الذين يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنتم بأحق بها منا . قال عبادة بن الصامت : فنزعها الله من أيدينا . فجعلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين على السواء فكان في ذلك تقوى الله , و طاعة رسوله , و إصلاح ذات البين وأنزل الله تعالى قوله : ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) وفي قوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل إن كنتم أمنتم بالله و ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان و الله على كل شئ قدير ) أي أعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتم من أموال المشركين في الحرب سواء قليلا أو كثيرا ( فإن لله خمسه ) قال المفسرون : تقسم الغنيمة خمسة أقسام , فيعطى الخمس لمن ذكر الله تعالى في هذه الآية , و الباقي يوزع على الغانمين " للرسول " أي سهم من الخمس يعطى للرسول صلى الله عليه و سلم , " ولذي القربى " أي قرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم بنو هاشم و بنو عبد المطلب , " و اليتامى و المساكين وابن السبيل " أي و لهؤلاء الأصناف من اليتامى الذين مات آباؤهم , و الفقراء من ذوي الحاجة , و المنقطع في سفره من المسلمين .
4 . مهادنة العدو :
من أحكام الجهاد الواردة في سورة الأنفال إمكانية مهادنة العدو كما قال الله تعالى في سورة الأنفال : ( و إن جنحوا للسلم فأجنح لها و توكل على الله ) فهذه الآية الكريمة تبين أن العدو إذا مال للصلح و المهادنة فيمكن الميل إليه و إجابتهم إلى ما طلبوا إن كان في ذلك مصلحة للمسلمين .
5 . الثبات للعدو و ترك الفرار من الزحف :
من أحكام الجهاد التي نستخلصها من سورة الأنفال الثبات و ترك الفرار من الزحف و ذلك لقوله تعالى : ) إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) "الأنفال آية 45" وقوله تعالى : (يا أيها الذين أمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) , ولحديث عبد الله بن أبِى أوفى رضِىَ الله عنهما فِي صحيح البخارِي " لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " .
بعض أحكام الجهاد الأخرى من الكتاب و السنة :
إخلاص النية و تجريدها لله عز و جل :
إخلاص النية شرط في قبول العبادات ومن لم يُخلص في جهاده لم يكن له من نصيب فيه ، ولم يكن له إلا ما نوى إذا نوى أمراً دنيوياً ، أما إذا أظهر للناس أنه يُجاهد في سبيل الله ولم يكن كذلك فهذا أول من تسعر به النار ، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها . قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت . قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء ، فقد قيل . ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ... الحديث . (46)
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال : التقى النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا فمال كل قوم إلى عسكرهم وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه ، فقيل : يا رسول الله ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان . فقال : إنه من أهل النار . فقالوا : أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار ؟ فقال رجل من القوم : لأتبعنه فإذا أسرع و أبطأ كنت معه حتى جرح ، فاستعجل الموت ، فوضع نصاب سيفه على الأرض وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل عليه فقتل نفسه ، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد أنك رسول الله . فقال : وما ذاك فأخبره ، فقال : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
أما إذا غزا وهو يُريد غرضا دنيوياً ، فليس له إلا ما نوى ، وإن ذهبت نفسه .
قال عليه الصلاة والسلام : من غزا ولا ينوي في غزاته إلا عقالا فله ما نوى . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
ضرورة وجود إمام أو أمير :(5/270)
لا يقوم الجهاد إلا بإمام أو أمير ، يُرجع إليه عند الحاجة ، ويُردّ إليه عند الاختلاف ولم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيّر سرية أو بعث بعثا أو أنفذ جيشاً دون أن يؤمّر عليه أميرا ، وقد أمّر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الصحابة على جيش مؤتة ، وهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحه رضي الله عنهم .
وضوح الهدف و بيان القصد :
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه . فمن في سبيل الله ؟ قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله . (47)
فيُقاتِل المسلم من أجل هدف سام ، وغاية عظيمة ، وهي إعلاء كلمة الله وهو يربأ بنفسه أن يُقاتِل حمية أو عصبية أو لغرض دنيوي زائل قال عليه الصلاة والسلام : من قُتِل تحت راية عُمِّيَّةٍ ، يدعو عصبية أو ينصر عصبية ، فَقِتْلَةٌ جاهلية . رواه مسلم . وفي الحديث الآخر : ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية .(48)
فلا بُد أن يكون المسلم على بيّنة في قتاله وما الهدف من هذا القتال ؟ فإذا كان لإقامة شرع الله فهذا هو المقصد ، أما إذا كان غير ذلك فبئس القصد وبئست النيّة .
استئذان الوالدين :
ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد ، فقال : أحي والداك ؟ قال : نعم . قال : ففيهما فجاهد . (49)
قال جمهور العلماء : يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما ، بشرط أن يكونا مسلمين ، لأن برّهما فرض عين عليه ، والجهاد فرض كفاية ، فإذا تعين الجهاد فلا إذْن .
قال الإمام الصنعاني :
وذهب الجماهير من العلماء إلى أنه يحرم الجهاد على الولد إذا منعه الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين ؛ لأن برّهما فرض عين والجهاد فرض كفاية ، فإذا تعين الجهاد فلا . فإن قيل : برّ الوالدين فرض عين أيضا ، والجهاد عند تعينه فرض عين ، فهما مستويان . ما وجه تقديم الجهاد ؟ قلت : لأن مصلحته أعمّ ، إذ هي لحفظ الدين والدفاع عن المسلمين ، فمصلحته عامة مقدمة على غيرها من المصالح الخاصة .وهذا هو القول الصواب لدى جمهور الفقهاء ، جمعاً بين الأدلة ، ويُستثنى من ذلك ما إذا كان له أبوان شيخان كبيران وليس لهما عائل سواه ، فحينئذٍ يجوز له التخلف عن الجهاد .
استئذان المدين من غريمه :
روى الإمام مسلم عن أبي قتادة أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال . فقام رجل فقال : يا رسول الله ! أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله : كيف قلت ؟ قال : أرأيت إن قتلت في سبيل الله ، أتكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر . إلا الدَّين . فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك .
قال ابن قدامة في المغني :
ومن عليه دين حال أو مؤجل لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا بأذن غريمه إلا أن يترك وفاء أو يقيم به كفيلا أو يوثقه برهن ، وبهذا قال الشافعي ، ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه ؛ لأنه لا تتوجه المطالبة به ولا حبسه من أجله فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين . ولنا إن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها وقد جاء أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا تكفر عني خطاياي ؟ قال : نعم ، إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك . رواه مسلم . وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه ؛ لأنه تعلق بعينه ، فكان مقدما على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان ، ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل .
خاتمة البحث
وبعد أن استعرضنا في الباب الرابع من هذا البحث مفهوم الجهاد و أحكامه من خلال سورة الأنفال نسجل أهم النتائج و الفوائد التي تم التوصل إليها :
1. إن مفهوم الجهاد واسع كبير و ما القتال بالسيف إلا نوع من أنواع الجهاد الكثيرة و المتعددة .
2. سورة الأنفال هي إحدى السور المدنية التي عُنيت بجانب التشريع , و بخاصة فيما يعلق بأمر الجهاد في سبيل الله عز و جل , فقد عالجت هذه السورة بعض النواحي الحربية التي ظهرت عقب بعض الغزوات و تضمنت كثيرا من التشريعات و الأحكام الحربية و الإرشادات الإلهية التي يجب على المؤمنين اتباعها في قتالهم الأعداء و تناولت أيضا جانب السلم و الحرب و أحكام الأسر و الغنائم.(5/271)
3. يمكن أن نستخلص بعض أحكام الجهاد الأخرى من بعض سور القرآن عدا سورة الأنفال مثل سورة آل عمران و التوبة و محمد و الفتح و الحشر وغيرها من سور القرآن الكريم و كذلك يمكن أن نستخلص بعض أحكام الجهاد من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
4. إن فضائل الجهاد في سبيل الله كثيرة جدا كما تبين ذلك من خلال استعراض الكثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة .
5. إن الحكمة من مشروعية الجهاد في سبيل الله هو إعلاء كلمة الله عز و جل و نصر المظلومين و رد العدوان و حفظ السلام .
6. من أحكام الجهاد الهامة و التي لم ترد في سورة الأنفال : ضرورة إخلاص النية لله تبارك و تعالى و ضرورة وضوح الهدف و بيان القصد وضرورة وجود الإمام أو الأمير .
و أخيرا الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات و أسأله سبحانه أن يوفقنا لما يحب و يرضى و ما كان من توفيق في هذا البحث فمن الله وحده و ما كان من خطأ فمن نفسي و من الشيطان و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...
فهرس البحث
أولا : فهرس الآيات :
(1) الآية 52 من سورة الفرقان .
(3) الآية 73 من سورة التوبة .
(4) الآية 69 من سورة العنكبوت .
(11) سورة التوبة .
(13) سورة الأنفال .
(15) سورة التوبة .
(17)سورة الأنفال .
(18) سورة البقرة .
(20) سورة النساء .
(21) سورة البقرة .
(22) سورة الحج .
(27) سورة الصف .
(28) سورة النساء .
(35) سورة البقرة .
(38) سورة آل عمران .
(42) الآية 2 من سورة الطلاق .
(43) الآية من 1- 5 من سورة المزمل .
(44) الآية 249 من سورة البقرة .
(45) الآية 4 من سورة محمد .
ثانيا : فهرس الأحاديث :
(5)رواه مسلم [في الإيمان/ص70] .
(6)متفق عليه: البخاري [ 10 / 403] ومسلم [ 4 / 1975 ] .
(7)البخاري في النفقات [ 7 / 80 / الحلبي بمصر ].
(8)ابن ماجة [ 2 / ص995 ] وانظر النسائي [ 5 / ص 113-115 ] .
(9)البخاري في الجهاد [ 4 / 93 / الحلبي ].
(10)الترمذي في فضائل الجهاد [ 4 / 165 / الحلبي ].
(14)[رواه البخاري ومسلم] .
(16)رواه أبوداود والنسائي وأحمد .
(19)رواه البخاري ومسلم .
(23)رواه البخاري .
(24)رواه البخاري ومسلم .
(25)رواه ابن ماجة والترمذي وأحمد .
(26)رواه البخاري .
(29)رواه مسلم .
(30)رواه الترمذي .
(31)رواه البخاري، ومسلم-مختصرا .
(32)رواه البخاري .
(33)رواه البخاري .
(34) رواه النسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد .
(36)رواه النسائي .
(37)رواه مسلم .
(39)رواه أحمد .
(40)رواه مسلم .
(46)رواه مسلم .
(47)متفق عليه .
(48)رواه أبو داود .
(49)متفق عليه .
ثالثا : فهرس المراجع :
(2) تفسير ابن كثير [ 3/337 ] .
(12)[انظر:المغني لابن قدامة] .
(41)( صفوة التفاسير للصابوني ) .
-------
أهداف الجهاد في سبيل الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الهدف الرئيسي هو تعبد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ، وإزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً وإخلاء العالم من الفساد ، ذلك لأن خضوع البشر لبشر مثلهم وتقديم أنواع العبادة لهم من الدعاء والنذر والذبح والتعظيم والتشريع والتحاكم ، هو أساس فساد الأجيال المتعاقبة من لدن نوح عليه السلام إلى يومنا هذا ، وهو إنحراف بالفطرة السوية عما خلقها الله عليه من التوحيد . كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته :" ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ، كل مال نحلته عبداً حلال ، وإني خلقتُ عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرَّمتْ عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطاناً… "رواه مسلم [1].
والدليل على هذا قوله تعالى { وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين }[2]. قال ابن كثير " أمر الله تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة ، أي شرك ………… ويكون الدين لله ، أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان "[3]ا.هـ وقال الشوكاني " فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي ألا تكون فتنة وأن يكون الدين لله ، وهو الدخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة له فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله " [4]ا.هـ
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا في دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " رواه البخاري [5].(5/272)
وعن جبير بن حيّة قال :فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مُقرِّن حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً فقام ترجمان فقال : ليكلمني رجل منكم فقال المغيرة : سلْ عما شئت قال : ما أنتم قال : نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد نمصّ الجلد والثرى من الجوع ونلبس الوبر والشعر ونعبد الشجر والحجر فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السموات ورب الأرضين _ تعالى ذكره وجلت عظمته _ إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أن من قُتِل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط ومن بقي منا ملك رقابكم " رواه البخاري[6]
وفي حوادث غزوة القادسية " قصة ربعي بن عامر رضي الله عنه لما بعثه سعد ابن أبي وقاص إلى رستم فدخل ربعي عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة وقد جلس على سرير من ذهب ودخل ربعي بثياب صفيقة _ سخيفة رثة _ وسيف وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه فقالوا له : ضع سلاحك فقال : إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت فقال رستم : ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها فقالوا له : ما جاء بكم فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نقفي إلى موعود الله قالوا : وما موعود الله قال : الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي ……… " ذكرها ابن كثير [7].
وهذا الهدف السامي الرئيسي موضع اتفاق بين علماء الإسلام .
قال الشافعي " فدل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران : أحدهما أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين من يمنعه والآخر : أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يسلم أهل الأوثان أو يعطي أهل الكتاب الجزية " [8]ا.هـ وقال محمد بن الحسن " فرضية القتال المقصود منها : إعزاز الدين وقهر المشركين "[9] ا.هـ وقال ابن القيم " والمقصود من الجهاد إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله … فإن من كون الدين لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم فهذا من دين الله ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم وإقامة دينهم كما يحبون بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة "[10] ا.هـ
وقال ابن عبد البر" يقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم من القبط والترك والحبشة والغزارية والصقالبة والبربر والمجوس وسائر الكفار من العرب والعجم يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون "[11] ا.هـ
وإن هذا الهدف السامي المتضمن لإعلاء كلمة الله وهي الإسلام وإقامة سلطان الله في الأرض وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وإخلاء العالم من الفساد الأكبر الذي هو الشرك وما ينتج عنه وإزالة الطواغيت الذين يحولون بين الناس وبين الإسلام ويُعبِّدونهم لغير الله هو ما يجب أن يسعى إليه المجاهدون في كل مكان وزمان لا تأخذهم في الله لومة لائم .
ومن الأهداف التي تتبع لهذا الهدف الرئيسي :
1- رد اعتداء المعتدين على المسلمين {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين }[12].
وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم … وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك … وأبعث جيشاً نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك … "رواه مسلم [13].
قال النووي " إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك معناه لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده … " ا.هـ
2- إزالة الفتنة عن الناس وسواء ما يمارسه الكفار من أشكال التعذيب والتضييق على المسلمين ليرتدوا عن دينهم أو الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة أو فتنة الكفار أنفسهم وصدهم عن استماع الحق وقبوله .
3- حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار وحقيقتها حماية للعقيدة والمنهج وكلما امتد الإسلام إلى أرض وأزال عنها أنظمة الشرك صارت داخلة في الدولة الإسلامية .
4- قتل الكافرين وإبادتهم ومحقهم كما {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق … }[14] و {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان }[15].(5/273)
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُسارى بدر "والله ما أرى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم " [16]ا.هـ
و {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * وذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء …}[17]
وقد قتل أبو جهل على يدي شاب من الأنصار ثم بعد ذلك وقف عليه عبد الله بن مسعود ومسك بلحيته وصعد على صدره حتى قال " لقد رقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم " ثم حز رأسه واحتمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفى الله به قلوب المؤمنين قال الحافظ ابن كثير " كان هذا أبلغ من أن تأتيه صاعقة أو أن يسقط عليه سقف منزله أو يموت حتفه والله أعلم "[18]ا.هـ
5- إرهاب الكفار وإخزاؤهم وإذلالهم وإيهان كيدهم وإغاظتهم كما { وأعدوا لهم ما استطعتم ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم … }[19]
وفي حديث أم مالك البهزية قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقر بها قلت : يا رسول الله من خير الناس فيها قال :" رجل في ماشيته يؤدي حقها ويعبد ربه ورجل آخذ برأس فرسه يخيف العدو ويُخوفونه "رواه الترمذي[20]
ورواه الحاكم ولقطه "يخيفهم ويخيفونه"وصممه ووافقه الذهبي[21] وصححه الألباني[22].
قال ابن القيم " ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له .
وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه أحدها قوله تعالى : {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة … }[23]
سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغماً يراغم به عدو الله وعدوه والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته كما { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين }[24]
فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة فموافقته فيها من كمال العبودية … وعلى قدر محبة العبد لربه ومالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين …"[25] ا.هـ
هذه بعض الأهداف /
وللجهاد أهداف سامية ومصالح كريمة وفوائد عظيمة تتحقق للمسلمين في ذرات أنفسهم متى مارسوا الجهاد ومنها /
1- كشف المنافقين / فإن المسلمين في حال الرخاء والسعة ينضاف إليهم غيرهم ممن يطمعون في تحقيق مكاسب مادية وهم لا يريدون رفع كلمة الله على كلمة الكفر وقد يتصنعون الإخلاص فيخفى أمرهم على كثير من المسلمين وأكبر كاشف لهم هو الجهاد .
فهو يبذل فيه أغلى ما يملك غير عقيدته وهو روحه والمنافق ما نافق إلا ليحفظ روحه والله تعالى يقول { … فإذا أنزلت محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم }[26]
والمنافقون هم العدو الداخلي وكثيراً خطرهم يفوق العدو الخارجي فإذا عرفوا منعوا من الغزو مع المسلمين ولا يستمع المسلمون لما يعرضونه عليهم من أراجيف وتثبيط ومن أقاويل يلبسونها ثياب النصح والإصلاح .
وواجب المؤمنين حينئذ كما {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير }[27]
2- تمحيص المؤمنين من ذنوبهم / كما { وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين }[28]
قال ابن كثير " وليمحص الله الذين آمنوا أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كان لهم ذنوب وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به وقوله " ويمحق الكافرين
أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم "[29]ا.هـ
2- تربية المؤمنين على الصبر والثبات والطاعة وبذل النفس إذ الركون إلى الراحة والدعة وعدم ممارسة الشدائد والصعاب كورث العبد ذلاً وخمولاً وتشبثاً بمتاع الحياة الدنيا وهكذا خوض المعارك ومقاومة الأعداء والتعرض لنيل رضا الله في ساحات الوغى يصقل النفوس ويهذبها ويذكرها بمصيرها ويوجب لها استعداداً للرحيل حتى تصبح ممارسة الجهاد عادة لها تشتاق لها كما يشتاق الخاملون للقعود والراحة .
والحمد لله رب العالمين
---------
[ وقفة مع آية الجهاد ]
قال تعالى : (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )الآية (البقرة 190)
2- قال تعالى :(واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ،فإن انتهوا فإن الله غفوررحيم)الآية ( البقرة 192-191).(5/274)
3- قال تعالى:}وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلاعدوان إلا على الظالمين {الآية (البقرة 193).
الآية الأولى : وفيها مبحثان : 1- الأول: سبب النزول الآية . 2- الثاني : مسائل الآية. -
سبب نزول الآية هو: ما روي عن سيدنا ابن عباس –رضي الله عنها – قال" نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ،وذلك أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – لما منع عن البيت هو وأصحابه ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل ، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لاتفي قريش بذلك ،وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام ، فأنزل الله الآية " أ.هـ. (1). -
مسائل في الآية :وحاصلها أربع مسائل :
1- قوله تعالى:( وقاتلوا ) هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة ثم لما هاجر إلى المدينة أمربالقتال . - وكذلك في النهي عن الاعتداء على من حرم الله الاعتداء عليهم وهم أصناف ستة: 1- النساء ، ولهن قيد هو: أنهن إذا قاتلن أو أعانوا على القتال قتلن . 2- الصبيان ، لأنهم لاتكليف عليم وللنهي الثابت في ذلك ، وثمت قيد هو:أن الصبي لوقاتل قتل. 3- الرهبان . 4- الزمنى - الزمن أي: المبتلى(2)- قال القرطبي " والصحيح أن تعتبر أحوالهم فإن كانت فيهم إذاية قتلوا وإلا تركوا "أ.هـ.(3). 5- الشيوخ ، قال القرطبي " والذي عليه جمهور الفقهاء إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل وبه قال مالك وأبو حنيفة وللشافعي قولان أحدهما مثل قول الجماعة والثاني يقتل هو والراهب والصحيح ألأول لقول أبي بكر ليزيد ولا مخالف له فثبت أنه إجماع" أ.هـ.(4). 6- العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون ،وخالف الشافعي ،قال القرطبي " والأول أصح"أ.هـ.(5).
2- (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) الخطاب في الآية عام لجميع المسلمين ممن أعتدي عليه. إلا أن الإمام الطوفي الصرصري الحنبلي قال في (تفسيره) (6) : " هو عام يخص بما إذا اقتضت المصلحة ترك قتال المقاتل مداراة عند الضعف عنه كما في الهدنة والصلح ، أو خديعة له إذ الحرب خدعة أو نحو ذلك " أ.هـ.
3- أن الآية على ماسبق من تأويل ، أما المرتد فليس إلا القتل أو التوبة ، قال القرطبي " وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة ومن أسر الإعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق" أ.هـ.(7).
4- الحث على الإخلاص في الجهاد ونهي عن الاقتتال في الفتن المسلمين.(8).
الآية الثانية : وفيها مباحثان : 1- الأول : معنى الفتنة في اللغة و الاصطلاح الشرعي . 2- الثاني : مسائل في الآية.
معنى :الفتنة لغة : قال الإمام الراغب الأصفهاني:" أصل الفتن : إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته"أ.هـ(9). وقال الرازي " الإبتلاء والاختبار" أ.هـ.( 10). فالفتنة بمعنى : التمحيص . - قال الراغب " الفتن التي تكون من الأفعال التي تكون من الله كالبلايا والمصائب والقتل والعذاب هي حكمة ربانية ،ومتى كانت من الإنسان على غير وجه حق وبغير أمر الله تكون بضد ذلك – أي : مذمومة ، ولهذا ذم الله الإنسان بأنواع الفتنة في كل مكان نحو ( والفتنة أشد من القتل ).أ.هـ. وتكون الفتنة بمعنى الكفر كماسيأتي.
والفتنة ثلاثة أنواع :
1- ما يمارسه الكفار من أشكال التعذيب والتضييق على المسلمين ليرتدوا عن دينهم .
2- الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة.
3- فتنة الكفار أنفسهم وصدهم عن استماع الحق وقبوله .(12). -
مسائل في الآية وحاصلها أربع مسائل :
1- قوله تعالى ( ثقفتموهم ) قال القرطبي: " يقال ثقف يثقف ثقفا وثقفا ورجل ثقف لقف إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور"(13).
2- قوله تعالى :( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ) الآية ،قال القرطبي" للعلماء في هذه الآية قولان أحدهما أنها منسوخة والثاني أنها محكمة قال مجاهد الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل وبه قال طاوس وهو الذي يقتضيه نص الآية وهو الصحيح من القولين وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه" أ.هـ. (14). - قال السعدي في :(تفسيره 1/89)" يستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة ( ترتكب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما )"أ.هـ.
3- قال القرطبي : " قال بعض العلماء في هذه الآية دليل على أن الباغي على الإمام بخلاف الكافر فالكافر يقتل إذا قاتل بكل حال والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح " أ.هـ.
4- قوله تعالى:( فإن انتهوا) قال القرطبي : " أي عن قتالكم بالإيمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم نظيره قوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف" أ.هـ .(5/275)
الآية الثالثة :وفيها مبحثان : 1- الأول :مسائل الآية. 2- الثاني: أهداف الجهاد . -
مسائل الآية وحاصلها مسألتان :
1- الأولى : قوله تعالى:( وقاتلوهم ) قال القرطبي:" أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع على من رآها ناسخة ومن رآها غير ناسخة قال المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم فإن قاتلوكم والأول أظهر وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار دليل ذلك قوله تعالى ( ويكون الدين لله) وقال عليه السلام:( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر لأنه قال :(حتى لا تكون فتنة) أي: كفر فجعل الغاية عدم الكفر وهذا ظاهر قال بن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم الفتنة هناك الشرك " أ.هـ .
2- الثانية : قوله تعالى:( فإن انتهوا ) قال القرطبي:" أي : عن الكفر إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب وإلا قوتلوا وهم الظالمون لا عدوان إلا عليهم وسمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان إذ الظلم يتضمن العدوان فسمي جزآء العدوان عدوانا كقوله :)وجزاء سيئة سيئة مثلها) والظالمون هم على أحد التأويلين من بدأ بقتال وعلى التأويل الآخر من بقى على كفر وفتنة" أ.هـ (15).
أهداف الجهاد . بهذا العرض المبسط نستطيع أن نلمح بعض حكم تشريعية من شعيرة عظيمة هي ذروة سنام الإسلام كما جاء في الخبر- الجهاد في سبيل:
1- أن المقصود بالجهاد هو أن ( يكون الدين كله لله ) الآية ، وليس سفك الدماء . قاله السعدي في :(تفسيره 1/89)".
2- رد إعتداء المعتدين على المسلمين وهو ظاهر.
3- إزالة الفتنة بأشكالها - وسبقت - عن الناس حتى يستمعوا لدلائل التوحيد والشرع وما مقولة ربعي بن عامر – رضي الله عنه – المشهورة عنا ببعيد.
4- حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار.أخرج الإمام أحمد بسنده في :(مسنده)- عن ابن عبدالله بن أنيس عن أبيه –رضي الله عنه – قال :(دعاني رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال :" إنه قد بلغني أن خال بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة فأته فاقتله )(16)" ا.هـ. والله أعلم
كتبه : أحمد الحمدي الخميسي
( 23/12/1426هـ- 25/ ديسمبر/2005م). •
إحالات :
1- لباب النقول في أسباب النزول – للإمام السيوطي (ص:36-37)ت / عبد المجيد طعمه ،دار المعرفة ،لبنان بيروت ، ط،الثانية ،1419هـ.
2- مختار الصحاح – للرازي( 1/116).
3- تفسيرالإمام القرطبي ( ج2/ص:347).
4- المصدرالسابق( ج2/ص:347-348).
5- المصدرالسابق(ج2/ص: 348).
6- الإشارات الإلاهية في المباحث الأصولية (1/ 323)ت/حسن قطب ،الفاروق ،مصر، ط الثانية،2002م. 7- تفسير القرطبي ( ج2/ص:349).
8- تفسير السعدي( 1/89).
9- المفردات للإمام الراغب الأصفهاني (623-624).ت/صفوان داوودي .
10- مختار الصحاح – للرازي ( 1/205).
11- المفردات - للراغب ( 624).
12- أهداف الجهاد وغايته – د/علي بن نفيع العلياني (ص: 51-69).
13- تفسيرالقرطبي( ج2/ص351).
14- تفسير القرطبي( ج2/ص351).
15- تفسيرالقرطبي (ج2/ص:351-354).
16- أهداف الجهاد وغايته – د/علي بن نفيع العلياني (ص:58).
------
حديث القرآن عن الجهاد في سبيل الله ( 2 )
محمد الأحمد
ثالثاً فضائل الجهاد:
قد وردت في الكتاب والسنة فضائل كثيرة للجهاد نجتزئ بذكر طرف مما ورد في كتاب الله منها:
1 - أن حركات المجاهد كلها مكتوبة له من حين يخرج من بيته، قال - تعالى -: ]ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون[[التوبة: 120 121].(5/276)
2 - أنه أفضل من نوافل العبادات، قال - تعالى -: [أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم][التوبة: 19 21]. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فأخبر - سبحانه وتعالى- أنه لا يستوي عنده عمار المسجد الحرام وهم عُمّاره بالاعتكاف والطواف والصلاة هذه هي عمارة المساجد المذكورة في القرآن وأهل سقاية الحاج، لا يستوون هم وأهل الجهاد في سبيل الله، وأخبر أن المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده، وأنهم هم الفائزون، وأنهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنات، فنفى التسوية بين المجاهدين وعمار المسجد الحرام مع أنواع العبادة، مع ثنائه على عماره بقوله - تعالى -: [إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين]فهؤلاء هم عمار المساجد، ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند الله منهم" [طريق الهجرتين: 623].
3 - أنه سبب للحصول على رحمة الله للآية السابقة.
4 - أنه سبب للحصول على رضوان الله للآية السابقة.
5 - أنه سبب للفوز بمرتبة الشهادة والتي جعل الله أصحابها في مصاف النبيين فقال - تعالى -: [ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا][النساء: 69]، وأخبر الله عن منزلتهم عنده فقال: [ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين][آل عمران: 169 171].
6 - حصول المجاهد على الأجر العظيم، قال - تعالى -: [فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً][النساء: 74، 76]، وقال: [وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً، درجات منه ومغفرة ورحمة].
7 - أنه سبب لدخول الجنة، قال - تعالى -: [إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم][التوبة: 111]، وقال - تعالى -: [الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبداً، إن الله عنده أجر عظيم][التوبة: 20 22]، وقال: [يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين][الصف: 10 13].
8 - أنه سبب لمغفرة الله، لآية الصف السابقة.
9 - أنه سبب للنجاة من العذاب الأليم ودليل ذلك آية الصف السابقة.
10 - أنه سبب للفلاح، قال - تعالى -: [يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون][المائدة: 35].
11- أنه سبب لتحقق الإيمان، قال - تعالى -: [والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم][الأنفال: 72 74].
12 - أنه سبب لحفظ الحق وتمكينه ورفع الباطل، قال - تعالى -: [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد وصلوات يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز][الحج: 40]، [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين][البقرة: 251].
هذه جملة من فضائله وما تركناه أكثر من ذلك.
مراحل تشريع الجهاد:
مر الجهاد الإسلامي بمراحل قبل أن يصدر إلى حكمه النهائي الآنف الذكر، وهي:(5/277)
المرحلة الأولى: مرحلة الكف عن المشركين والإعراض عنهم والصبر على أذاهم مع الاستمرار في دعوتهم إلى دين الحق، وقد دلت على ذلك كثير من الآيات المكية، منها قوله - تعالى -: [قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله.. ][الجاثية: 14]. وقال - تعالى -: [فمهل الكافرين أمهلهم رويدا][الطارق: 17]، وقال - تعالى -: [لست عليهم بمسيطر][الغاشية: 22]، وقال - تعالى -: [وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون][الزخرف: 88 89]. وغير ذلك من الآيات المكية.
وبينت ذلك بعض الآيات المدنية، قال - تعالى -: [ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب][النساء: 77]، وقال رسول الله r لأصحابه في مكة: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا.. " [رواه النسائي والحاكم، وقالا على شرط البخاري]، ولما استأذنه أهل يثرب ليلة العقبة أن يميلوا على أهل منى فيقتلوهم قال: "إني لم أومر بهذا" [أخرجه أحمد والطيالسي].
ولعل من حكم الكف والله أعلم ما يأتي:
1- تربية الصحابة على الصبر على الظلم الذي يواجهونه من قومهم، فيتعودون على ضبط أعصابهم عند استثارتها، لأنهم تربوا في بيئة لا ترضى بذلك ولا تصبر عليه، وذلك ليتم الاعتدال في طبائعهم، وليكون في ذلك تربية على الانقياد والطاعة للقيادة التي لا يعرفها العرب.
2- وقد يكون لأن الدعوة السلمية أكثر أثراً في قبيلة ذات عنجهية وثارات إذ قد يدفعها قتالها إلى زيادة العناد، فتتولد من ذلك ثارات لا تنطفئ أبداً، وتكون مرتبطة بالدعوة إلى الإسلام فتتحول فكرة الإسلام من دعوة إلى ثارات تنسى معها فكرته الأساسية.
3- ولو أمروا بذلك وهم ليسوا سلطة منتظمة لوقعت مقتلة في كل بيت فيه مؤمن ثم يقال: هذا هو الإسلام يأمر بقتل الأهل والذرية، فتكون سلاحاً إعلامياً ضد المسلمين.
4- ولعلم الله السابق بأن كثيراً من هؤلاء المعاندين سيكونون من جند الله بل من خلصهم وقادتهم، وعمر بن الخطاب خير شاهد على ذلك.
5- ولقلة عدد المسلمين وانحصارهم في مكة فلو أمروا بالقتال لكان سبباً إلى فناء المؤمنين ولابد قبل الخوض في معركة مع الباطل من تأسيس القاعدة العريضة التي لا تتأثر بفناء ثلة منها في معركة حاسمة مع الطغاة.
6- وربما كان ذلك أيضاً لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ولا يتراجع، وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم، وقد وقع ما يدل لهذا، فابن الدغنة ثار لأبي بكر لما رآه خارج مكة يريد مفارقتها، وكذلك خبر نقض الصحيفة الجائرة، والصبر في مثل هذه المواطن يكسب الدعوة والدعاة تعاطفاً شعبياً، ولو أنهم لجأوا إلى القوة لخسروا هذا التعاطف بل قد يزداد الأمر شدة من كل الناس.
7- ولأن الصبر في مثل هذه المواطن يدعو إلى تفكر المجتمع في حال هؤلاء المؤمنين وإلى تساؤل مفاده: ما الذي يدعوهم إلى كل هذا التحمل؟ إن الذي يدعوهم إليه حق يحملونه في قلوبهم ويقين بصدق ما هم عليه لا يمكنهم التراجع عنه، فيكون ذلك سبباً في إيمانهم.
8- ولم تكن هناك ضرورة ملحة للقتال لأن النبي بعث في أمة تعيش على النظام القبلي، فالقبيلة لا ترضى أن يخلص إلى رجل منها وإن كان على غير دينها من قبيل النخوة، وقد كان رسول الله r محمياً من بني هاشم وكان يقوم بدعوته ولم تقدر قريش على قتله خوفاً من بني هاشم.
هذه هي بعض الحكم المستفادة من تلك المرحلة أطنب في ذكر بعضها سيد قطب في كتابه الظلال (2/713 715].
المرحلة الثانية: إباحة القتال من غير فرض في المدينة، قال - تعالى -: [إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذي أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع.. الآية][الحج: 38 40].(5/278)
المرحلة الثالثة: فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط، قال - تعالى -: [فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً. ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها، فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئك جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً]النساء: 90 91]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولم يؤمروا بقتال من طلب مسالمتهم، بل قال: [فإن تولوا فخذوهم.. الآية[وكذلك من هادنهم لم يكونوا مأمورين بقتاله وإن كانت الهدنة عقداً جائزاً غير لازم][الجواب الصحيح: 1/73] وقال أيضاً: "فمن المعلوم من سيرة النبي الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة أنه r لما قدم المدينة لم يحارب أحداً من أهل المدينة بل وادعهم حتى اليهود خصوصاً بطون الأوس والخزرج فإنه كان يسالمهم ويتألفهم بكل وجه، وكان الناس إذا قدمها على طبقات: منهم المؤمن وهم الأكثرون. ومنهم الباقي على دينه وهم متروك لا يحارب ولا يحارب. وهو والمؤمنون من قبيلته وحلفائهم أهل سلم لا أهل حرب، حتى حلفاء الأنصار أقرهم النبي على حلفهم" [الصارم المسلول: 99].
المرحلة الرابعة: قتال جميع الكفار من كل الأديان ابتداء وإن لم يبدأوا بقتال حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية على الخلاف المعروف فيمن تؤخذ منه، وهذه المرحلة بدأت من انقضاء أربعة أشهر من بعد حج العام التاسع من الهجرة ومن بعد انقضاء العهود المؤقتة، وتوفي رسول الله والعمل على هذه المرحلة وعليها استقر حكم الجهاد، قال - تعالى -: [فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم][التوبة: 5]، وقال: [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون][التوبة: 29]. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آل حال أهل العهد والصلاح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة" [زاد المعاد 3/160].
وهل هذه المرحلة ناسخة لما قبلها من المراحل؟ نقول: إنها ناسخة بالنسبة لأقوام غير ناسخة بالنسبة لآخرين، فمن كان ذا قوة ومنعة ودولة وحاله كالحال التي آلت إليه دولة رسول الله r فإن المراحل السابقة منسوخة في حقه لا يجوز له العمل بها ألبتة، ومن كان في ضعف وذل بل ولا دولة له فإن المراحل السابقة غير منسوخة في حقه بل يعمل بالذي يناسب ظرفه الذي يعيش فيه، كما كان عليه المسملون أول الأمر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "... فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون: [الصارم المسلول/221].
خامساً: أهداف الجهاد وغايته:
لم يشرع الجهاد عبثاً، ولا لتحقيق أهداف شخصية، أو مطامع مادية، أو مكاسب سياسية، أو لبسط النفوذ وتوسيع الرقعة، ولا لإزهاق النفوس وسفك الدماء، والتسلط على الناس واستعبادهم، وإنما شرع لأهداف جليلة، وغايات نبيلة، نذكر بأهمها بعد ذكر هدفه الأساسي:
أما هدفه الأساسي: فهو تعبيد الناس لله وحده، وإعلاء كلمة الله في الأرض، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
قال - تعالى -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين][البقرة: 193]، وقال - سبحانه -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير][الأنفال: 39]، وقال - سبحانه -: [هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون][التوبة/33، الصف/9]. وقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" رواه مسلم.
ومن أهداف الجهاد:
1- رد اعتداء المعتدين على المسلمين: قال - تعالى -: [وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين][البقرة/190]، وقال - تعالى -: [ألا تقاتلوا قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين][التوبة/ 13].
2- إزالة الفتنة عن الناس حتى يستمعوا إلى دلائل التوحيد من غير عائق وحتى يروا نظام الإسلام مطبقاً ليعرفوا ما فيه من عدل وإصلاح للبشر، قال - تعالى -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة]، والفتنة أنواع:(5/279)
أ - ما يمارسه الكفار من تعذيب المستضعفين من المؤمنين والتضييق عليهم ليرتدوا عن دينهم، قال - تعالى -: [وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والناس والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها.. ][النساء/ 75]، ومن ذلك أيضاً فك أسرى المسلمين كيلا يفتنهم الكفار.
ب - الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة فإن هذه من شأنها أن تفتن المسلم عن دينه، وبهذا فسر بعض السلف قوله - تعالى -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة]، قالوا: إن الفتنة الشرك ونحوه، ولذلك فإن أهل الجزية من أهل الذمة ونحوهم يمنعون من المجاهرة بدينهم والتعامل بالربا وإظهار الزنا والخنا، لأن هذه الأوضاع تفتن المسلم عن دينه.
ج - فتنة الكفار أنفسهم وصدهم الناس ومن تحت ولايتهم عن استماع الحق وإقامتهم سياجاً منيعة أمام دين الله لئلا يدخله الناس، فيجب أن يقام على هؤلاء الجهاد حتى يفسح المجال لدين الله يراه الناس ويعرفونه وتقوم عليهم الحجة به، وبهذا يدخل الناس في الإسلام إذ غلب ما يصد الشعوب عن دين الله إقامة دول الكفر والحواجز والسدود أمام دين الله كيلا يدخل إلى الشعوب.
3- حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار: قال - تعالى -: [وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم... ]ومن أجل ذلك شرع الله الرباط على الثغور لحماية دولة الإسلام من المتربصين بها[يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون][آل عمران/ 200].
4- تأديب المتمردين والناكثين للعهود المنتهزين سماحة الإسلام وأهله، قال - تعالى - في حق من نقضوا العهود والمواثيق: [وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون، ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول][التوبة/ 12، 13]، وكذلك من كان بينه وبين المسلمين عهد وتوجس المسلمون منه شراً وحرباً، فإنه ينبذ إليه عهده ويكشف له حقيقة الأمر ثم يقاتل، قال - تعالى -: [وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين][الأنفال/ 58]، وكذلك البغاة من المسلمين وهم الذين يخرجون على الإمام العادل بتأويل، فيقاتلون حتى تذهب ريحهم[فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله][الحجرات/ 9]، ومثل البغاة، من أجمعوا على ترك واجب أو فعل محرم وتواطأوا عليه فيقاتلون حتى يستقيموا، وأشد منهم المرتدون، فيقاتلون حتى يسلموا أو يبادوا كما فعل ذلك أبو بكر الصديق مع المرتدين.
5 - دفع الظلم والدفاع عن الأنفس والحرمات والأوطان والأموال قال - تعالى -: [أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله][الحج/ 39، 40].
6- إرهاب الكفار وإخراجهم وإذلالهم وإغاظتهم[وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم][الأنفال/ 60]، وقال - سبحانه -: [قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين][التوبة/ 14]. وقال: [ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين][الأنفال/ 18]، وقال رسول الله: "خير الناس في الفتنة رجل معتزل في ماله يعبد ربه ويؤدي حقه، ورجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله يخيفهم ويخيفونه" [رواه أحمد]، قال ابن القيم: "... ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له، وقد أشار - سبحانه - إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه أحدها قوله: [ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة][النساء/100]، سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغماً، يراغم به عدو الله وعدوه، والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته كما قال - تعالى -: [ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار.. ]وقال - تعالى - في مثل رسول الله وأتباعه: [ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار][الفتح/ 29] اهـ [مدارج السالكين 1/266].(5/280)
تلك بعض أهداف الجهاد التي شرع من أجل تحقيقها، وأما غايته التي يتوقف عندها الجهاد: هي إسلام أهل الأرض كلهم واعتناقهم عقيدة الإسلام من غير أهل الكتاب والمجوس. أما هؤلاء إذا دفعوا الجزية ملتزمين أحكام الإسلام حال كونهم في ذلك وصغار فإن المسلمين يكفون عن قتالهم وبهذا تكون كلمة الله هي العليا ودين الحق والباطل وأهلهما قائم ما وجد في الأرض اثنان، قال: "لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة" [متفق عليه]، وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب الجهاد ماض مع البر والفاجر لقول النبي r: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنم، قال الحافظ: "سبقه إلى الاستدلال بهذا الإمام أحمد لأنه ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، وفسره بالأجر والمغنم.والمغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يقيد ذلك بما إذا كان الإمام عادلاً" [فتح الباري 6/42].
--------
الهدف من الجهاد
بسم الله الرحمن الرحيم
من كتاب : أهمية الجهاد
لعلي العلياني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
إن للجهاد حكمًا بالغة وأهدافًا جليلة لأن الذي شرعه هو العليم الخبير ، فما دام الآمر به هو الحكيم فالحكمة والمصلحة ثابتة فيه قطعًا ، وتلمس حكمة الجهاد لا يتوقف القيام به على معرفتها عند المسلم الصادق ، فإن مقتضى العبودية أن ينفذ العبد أمر سيده ، عرف حكمته أو لم يعرف ، ولكن معرفة الحكمة تقوي العزائم وتشحذ الهمم وتيسر أمر التكاليف على المكلفين ونحو ذلك من الفوائد والمصالح ، ولنرجع إلى ما أمرنا الله به بالرجوع إليه "الكتاب والسنة" نأخذ منهما أهداف الجهاد وغايته .
الهدف الرئيسي : هو تعبيد الناس لله وحده وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد وإزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعًا ، وإخلاء العالم من الفساد وذلك لأن خضوع البشر لبشر مثلهم وتقديم أنواع العبادة لهم من الدعاء والنذر والذبح والتعظيم والتشريع والتحاكم هو أساس فساد الأجيال المتعاقبة من لدن نوح عليه السلام إلى يومنا هذا وهو انحراف بالفطرة السوية عما خلقها الله عليه من التوحيد كما قال صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل قال ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا ..)) رواه مسلم .
فهدف الجهاد الإسلامي الأكبر هو إرجاع البشر إلى الأصل وهو الملة الحنيفية التي تخضعهم لرب العالمين وتجعلهم يستمدون منه سبحانه وتعالى منهج حياتهم الدنيا ويعبدونه كما أمر الله ولا يعبدون أحدًا غيره ، وهذا الخضوع لله هو الذي يحقق لهم السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة .
يقول سيد قطب رحمه الله تحت عنوان منهج متفرد :
((والآن يقول قائل إذا كان الإسلام وهو منهج الله للحياة البشرية لا يتحقق في الأرض وفي دنيا الناس إلا بالجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية ، وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في البيئات المختلفة ، فما ميزته إذن على المناهج البشرية التي يضعها البشر لأنفسهم ويبلغون منها ما يبلغه جهدهم في حدود طاقتهم وواقعهم ولماذا يجب أن نحاول تحقيق ذلك المنهج وهو يحتاج إلى الجهد البشري ككل منهج ، فلا يتحقق منه شيء بمعجزة خارقة ، ولا بقهر إلهي ملزم ، وهو يتحقق في حياة الناس في حدود فطرتهم البشرية وطاقتهم العادية وأحوالهم الواقعية .
ونحن ملزمون بمحاولة تحقيق ذلك المنهج ابتداء لنحقق لأنفسنا صفة الإسلام ، فركن الإسلام الأول أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وشهادة أن لا إله إلا الله معناها القريب : إفراد الله سبحانه بالألوهية وعدم إشراك أحد من خلقه معه في خاصية واحدة من خصائصها ، وأولى خصائص الألوهية حق الحاكمية المطلقة الذي ينشأ عنه حق التشريع للعباد ، وحق وضع المناهج لحياتهم وحق وضع القيم التي تقوم عليها هذه الحياة .
فشهادة أن لا إله إلا الله لا تقوم ولا تتحقق إلا بالاعتراف بأن الله وحده حق وضع المنهج التي تجري عليه الحياة البشرية وإلا بمحاولة تحقيق ذلك المنهج لأسباب تتعلق بالمنهج ذاته فهو وحده المنهج الذي يحقق كرامة الإنسان ويمنحه الحرية الحقيقية ويطلقه من العبودية .. هو وحده الذي يحقق له التحرر الكامل الشامل المطلق في حدود إنسانيته وعبوديته لله ... التحرر من العبودية للناس بالعبودية لله رب الناس ، وما من منهج آخر في الأرض يحقق هذه الخاصية إلا الإسلام .(5/281)
ونحن ملزمون بمحاولة تحقيق ذلك المنهج لأنه وحده المنهج المبرأ من نتائج الجهل الإنساني والقصور الإنساني براءته من نتائج الضعف البشري ، فواضعه هو خالق هذا الكائن الإنساني العليم بما يصلحه ويصلح له ، وهو المطلع على خفايا تكوينه وتركيبه ، وخفايا الملابسات الأرضية والكونية كلها في مدى الحياة البشرية كذلك) هذا الدين 15-20.
والأدلة على أن هدف الجهاد الأكبر "تعبيد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد وإزالة الطواغيت كلها من الأرض وإخلاء العالم من الفساد" كثيرة جدًا .
يقول الله عز وجل ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير)) 193 البقرة .
ويقول تعالى ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير))39الأنفال .
قال ابن كثير رحمه الله : (ثم أمر الله تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة .. أي شرك .. قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم ، ويكون الدين لله : أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان)
ابن كثير 1/329
وقال ابن الجوزي ويكون الدين لله:قال ابن عباس:أي يخلص له التوحيد) زاد المسير 1/200
وقال ابن جرير الطبري : (فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض ، وهو الفتنة ، ويكون الدين كله لله ، وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره ) تفسير الطبري 13/537.
وقال الشوكاني : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة : فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي ألا تكون فتنة وأن يكون الدين لله وهو الدخل في الإسلام ، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له ، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله)فتح القدير1/191.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) رواه مسلم
ويقول صلى الله عليه وسلم (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله )) رواه البخاري
ويقول صلى الله عليه وسلم (( بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري )) رواه أحمد وصححه الألباني .
وقد كان هذا الهدف العظيم للجهاد حاضرًا في حس الصحابة رضي الله عنهم أثناء معاركهم مع أعداء الله ، ففي صحيح البخاري عن جبير بن حية قال :
((..فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن ، حتى إذا كنا بأرض العدو ، خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفًا ، فقام ترجمان فقال : ليكلمني رجل منكم .
فقال المغيرة : سل عما شئت
قال : ما أنتم ؟
قال : نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد ، نمص الجلد والنوى من الجوع ، ونلبس الوبر والشعر ، ونعبد الشجر والحجر ، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبيًا من أنفسنا ، نعرف أباه وأمه ، فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية ، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط ، ومن بقي منا ملك رقابكم) رواه البخاري .
وذكر ابن كثير قصة ربعي ابن عامر رضي الله عنه لما بعثه سعد بن أبي وقاص إلى رستم وفيها ..( فدخل عليه و قد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة و الزرابي الحرير، و أظهر اليواقيت و اللآلئ الثمينة، و الزينة العظيمة، و عليه تاجه و غير ذلك من الأمتعة الثمينة. و قد جلس على سرير من ذهب. و دخل ربعي بثياب صفيقة و سيف و ترس و فرس قصيرة، و لم يزل راكبها حتى داس بها طرف البساط، ثم نزل و ربطها ببعض تلك الوسائد و أقبل و عليه سلاحه و درعه و بيضته على رأسه. فقالوا له : ضع سلاحك. فقال : إني لم آتكم، و إنما جئتكم حين دعوتموني فان تركتموني هكذا و إلا رجعت. فقال رستم : ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له : ما جاء بكم ؟ فقال اللَّه ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه، و من ضيق الدنيا إلى سعتهما، و من جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه و رجعنا عنه، و من أبي قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود اللَّه. قالوا : و ما موعود اللَّه : قال : الجنة لمن مات على قتال من أبي، و الظفر لمن بقي .. ) البداية والنهاية 7/39.(5/282)
وهذا الهدف السامي المتضمن إعلاء كلمة الله وهي الإسلام ، وإقامة سلطان الله في الأرض ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وإخلاء العالم من الفساد الأكبر الذي هو الشرك وما ينتج عنه ، وإزالة الطواغيت الذين يحولون بين الناس وبين الإسلام ويعبدونهم لغير الله ، موضع اتفاق بين علماء الإسلام ، وها هي ثلة من أقوالهم :
يقول الإمام الشافعي رحمه الله : (فدل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران :
أحدهما : أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين من يمنعه.
والآخر : أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يُسلم أهل الأوثان أو يعطي أهل الكتاب الجزية ) الأم 4/167.
ويقول محمد بن الحسن رحمه الله : (فرضية القتال المقصود منها إعزاز الدين وقهر المشركين) السير الكبير للشيباني 1/188
ويقول ابن القيم رحمه الله : (والمقصود من الجهاد إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله ، فإن من كون الدين كله لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم ، فهذا من دين الله ، ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم ، وإقامة دينهم كما يحبون ، بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة) أحكام أهل الذمة 1/18.
ويقول ابن عبد البر المالكي رحمه الله : (يقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم من القبط والترك والحبشة والفزارية والصقالبة والبربر والمجوس ، وسائر الكفار من العرب و العجم ، يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)
الكافي في فقه أهل المدينة ص466.
ويقول سيد قطب رحمه الله : (إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة الإسلام ذاته ، ودوره في هذه الأرض وأهدافه العليا التي قررها الله ، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة ، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات .
إن هذا الدين .. إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ، ومن العبودية لهواه أيضًا وهي من العبودية للعباد ، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده سبحانه وربوبيته للعالمين ، إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور ، أو بتعبير آخر مرادف الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور .
ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ، ومصدر السلطات فيه هم البشر ، هو تأليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله .
إن هذا الإعلان معناه أن يكون السلطان لله تعالى ، وأن تكون الحاكمية له وحده تعالى ، وطرد المخالفين لذلك الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد .
إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض أو بالتعبير القرآني الكريم ((وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله )) ، (( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم )) ، (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون )).
ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم ، هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة كما كان الحال فيما يعرف باسم "الثيوقراطية" أو الحكم الإلهي المقدس ، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة ، وأن يكون مرد الأمر إلى الله ، وفق ما قرره من شريعة مبينة .
وقيام مملكة الله في الأرض وإزالة مملكة البشر وانتزاع السلطان من أيدي العباد ورده إلى الله وحده وسيادة الشريعة الإلهية وحدها ، وإلغاء القوانين البشرية .
كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان ، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض ، وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، وتاريخ هذا الدين على مر الأجيال .(5/283)
إن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، لم يكن إعلانًا نظريًا فلسفيًا سلبيًا ، إنما كان إعلانًا حركيًا واقعيًا إيجابيًا يراد له التحقق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك ، ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل الحركة إلى جانب شكل البيان ذلك ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، والواقع الإنساني أمس واليوم وغدًا يواجه هذا الدين بوصفه إعلانًا عامًا لتحرير الناس في لأرض من كل سلطان غير سلطان الله بعقبات اعتقادية تصورية ، وعقبات مادية واقعية ، عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة ، وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد .
وإذا كان البيان يواجه العقائد والتصورات .. فإن الحركة تواجه العقبات المادية الأخرى ، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة ، وهما معًا _ البيان والحركة _ يواجهان الواقع البشري بجملته بوسائل مكافئة لكل مكوناته ، وهما معًا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض .. الإنسان كله في الأرض كلها .. وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى .
إن هذا الدين ليس إعلانًا لتحرير الإنسان العربي وليس رسالة خاصة بالعرب .. إن موضوعه هو الإنسان .. نوع الإنسان .. ومجاله هو الأرض كل الأرض .. إن الله سبحانه وتعالى ليس ربًا للعرب وحدهم ، ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم ، إن الله هو رب العالمين ، وهذا الدين يريد أن يرد العالمين إلى ربهم ، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره .
والعبودية الكبرى في نظر الإسلام هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر وهذه هي العبادة التي يقرر أنها لا تكون إلا لله ، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين .
ولقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي صار بها اليهود والنصارى مشركين مخالفين لما أمروا به من عبادة الله وحده .
أخرج الترمذي بإسناده عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم منَّ رسول الله عليه وسلم على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي عنقه (أي عدي) صليب من فضة ، وهو (أي النبي صلى الله عليه وسلم) يقرأ هذه الآية ((اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله )) فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم .. فذلك عبادتهم إياهم .
وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم لقول الله سبحانه وتعالى نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أربابًا لبعض ، الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ، ويعلن تحرير الإنسان في الأرض من العبودية لغير الله .
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في الأرض لإزالة الواقع المخالف لذلك الإعلان بالبيان وبالحركة مجتمعين ، وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعيد الناس لغير الله ، أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه ، والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى البيان واعتناق العقيدة بحرية لا يتعرض لها السلطان ، ثم لكي يقيم نظامًا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي ، بعد إزالة القوة المسيطرة سواء كانت سياسية بحتة أو متلبسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد)
في ظلال القرآن (3/1433-1435)
ويقول أبو الأعلى المودودي رحمه الله : ( إن دعوة الإسلام إلى التوحيد وعبادة الله الواحد لم تكن قضية كلامية أو عقيدة لاهوتية فحسب ، شأن غيره من الملل والنحل .. بل الأمر أنها كانت دعوة إلى انقلاب اجتماعي أرادت في أول ما أرادت أن تقطع دابر الذين تسنموا ذروة الألوهية واستعبدوا الناس بحيلهم ومكايدهم المختلفة ، فمنهم من تبوأ مناصب السدنة والكهان ، ومنهم من أستأثر بالملك والإمرة وتحكم في رقاب الناس ومنهم من استبد بمنابع الثروة وخيرات الأرض وجعل الناس عالة يتكففون ولا يجدون ما يتبلغون به .
فأرادت دعوة الإسلام أن تقطع دابرهم جميعًا ، وتستأصل شأفتهم استئصالاً(5/284)
وهؤلاء تارة تسنموا قمة الألوهية جهرًا وعلانية وأرادوا أن يقهروا من حولهم من الناس على أن يذعنوا لأمرهم وينقادوا لجبروتهم ، مستندين إلى حقوقهم التي ورثوها عن آباءهم أو استأثرت بها الطبقة التي ينتمون إليها فقالوا ((ما علمت لكم من إله غيري )) و(( أنا ربكم الأعلى )) ، و (( من أشد منا قوة )) إلى غيرها من كلمات الاستكبار ، ودعاوى الألوهية ، التي تفوهوا بها ، وتجاسروا عليها بغيًا وعدوانًا .
وطورًا استغلوا جهل الدهماء وسفههم فاتخذوا من الأصنام والتماثيل والهياكل آلهة يدعون الناس ويريدونهم على أداء مظاهر العبودية أمام هذه التماثيل والهياكل ، متوارين بأنفسهم من وراءها يلعبون بعقول الناس ويستعبدونهم لأغراضهم وشهواتهم وهم لا يشعرون ، فيتبين من ذلك أن دعوة الإسلام إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله الواحد الأحد وتنديده بالكفر والشرك بالله واجتناب الأوثان والطواغيت ، كل ذلك يتنافى ويتعارض مع الحكومة التي تستعبد البشر من دون الله ، والعاملين عليها المتصرفين في أمورها والذين يجدون فيها سندًا لهم وعونًا على قضاء حاجاتهم ، وأغراضهم ومن ثم ترى أنه كلما قام نبي من الأنبياء يجاهر الناس بالدعوة وخاطبهم قائلاً (( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )) قامت في وجهه الحكومات المتمكنة في عصره وثار عليه جميع من كانوا يستغلون خيرات البلاد ويستثمرونها ظلمًا وعدوانًا ، خرجت تقاومه ونضع في سبيل الدعوة العقبات ، وذلك أن هذه الدعوة لم تكن مجرد بيان لعقيدة كلامية أو شرح لمسألة من مسائل الإلهيات ، وإنما كانت نداء لانقلاب اجتماعي عالمي ، ما كانت بوادره لتخفى على المستأثرين بمناصب العز والجاه المستبدين بمنابع الثراء ، ممن يشمون رائحة الاضطراب السياسي قبل حدوثه بأعوام .
إن الإسلام ليس بمجرد مجموعة من العقيدة الكلامية وجملة من المناسك والشعائر كما يفهم من معنى الدين في هذه الأيام .. بل الحق أن نظام شامل يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في العالم ، ويقطع دابرها ويستبدل بها نظامًا صالحًا ومنهاجًا معتدلاً يرى أنه الخير للإنسانية من النظم الأخرى وأن فيه نجاة للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان ، وسعادة له وفلاحًا في العاجلة والآجلة معًا .
ودعوته في هذا السبيل سبيل الإصلاح والتجديد والهدم والبناء عامة للجنس البشري كافة لا تختص بأمة دون أمة أو طائفة دون طائفة ، فهو يدعو بني آدم جميعًا إلى كلمته حتى أنه يهيب بالطبقات الجائرة نفسها ممن اعتدوا حدود الله في أرضه واستأثروا بخيرات الأرض دون سائر الناس ، يهيب بالملوك والأمراء أنفسهم ويناديهم قائلاً : لا تطغوا في الأرض وادخلوا في كنف حدود الله التي حدها لكم ، وكفوا أيديكم عما نهاكم الله عنه وحذركم إياه ، فإن أسلمتم لأمر الله ودنتم لنظام الحق والعدل الذي أقامه للناس خيرًا وبركة فلكم الأمن والدعة والسلام ، فإن الحق لا يعادي أحدًا ، وإنما يعادي الحق الجور والفساد والفحشاء ، وأن يتعدى الإنسان حدوده الفطرية ويبتغي ما وراء ذلك ما لا حط له فيه حسب سنن الكون وفطرة الله التي فطر الناس عليها ، فكل من آمن بهذه الدعوة وتقبلها بقبول حسن يصير عضوًا في الجماعة الإسلامية أو الحزب الإسلامي لا فرق في ذلك بين الأحمر منهم والأسود ، أو بين الغني والفقير ، كلهم سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لأمة على أمة ، أو لطبقة على أخرى ، وبذلك يتكون ذلك الحزب العالمي أو الأممي الذي سُمي حزب الله كما قال الوحي ، وما أن يتكون هذا الحزب حتى يبدأ بالجهاد في سبيل الغاية التي أنشئ لأجلها ، فمن طبيعته وما يستدعيه وجوده أن لا يألوا جهدًا في القضاء على نظم الحكم التي أسس بنيانها على غير قواعد الإسلام واستئصال شأفتها وأن يستنفذ مجهوده في أن يستبدل بها نظامًا للعمران والاجتماع معتدلاً مؤسسًا على قواعد ذلك القانون الوسط العدل الذي يسميه القرآن الكريم ((كلمة الله )) فإن لم يبذل هذا الحزب الجهد المستطاع ، ولم يسع وراء تغيير نظم الحكم ، وإقامة الحق ؛ نظام الحكم المؤسس على قواعد الإسلام ، ولم يجاهد حق جهاده في هذه السبيل فأتته غايته وقصر عن تحقيق البغية التي أنشئ من أجلها ، فإنه ما أنشئ إلا لإدراك هذه الغاية وتحقيق هذه البغية ، بغية إقامة نظام الحق والعدل ولا غاية له ولا عمل إلا الجهاد ((كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)) .(5/285)
ولا يظن أحد أن هذا الحزب ((حزب الله)) مجرد جماعة من الوعاظ المبشرين يعظون الناس في المساجد ويدعونهم إلى مذاهبهم ومسالكهم بالخطب والمقالات ليس إلا ..ليس الأمر كذلك وإنما هو حزب أنشأه الله ليحمل لواء الحق والعدل بيده ويكون شهيدًا على الناس ، ومن مهمته التي ألقيت على كاهله من أول يوم ، أن يقضي على منابع الشر والعدوان ، ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض والاستغلال الممقوت وأن يكبح جماح الآلهة الكاذبة الذين تكبروا في أرض بغير الحق ، وجعلوا أنفسهم أربابًا من دون الله ، ويستأصل شأفة ألوهيتهم ، ويقيم نظامًا للحكم والعمران صالحًا يتفيأ ظلاله القاصي والداني والغني والفقير ، وإلى هذا المعنى أشار الله تعالى في غير واحدة من آي الذكر الحكيم .
((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله))
((إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))
((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون))
فتبين من ذلك كله أن هذا الحزب لا بد له من امتلاك ناصية الأمر ، ولا مندوحة له من القبض على زمام الحكم ، لأن نظام العمران الفاسد لا يقوم إلا على أساس حكومة مؤسسة على قواعد العدوان والفساد في الأرض ، وكذلك ليس من الممكن أن يقوم نظام للحكم صالح ويؤتى أكله إلا بعد ما ينتزع زمام الأمر من أيدي الطغاة المفسدين ويأخذه بأيديهم رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا وأضف إلى ذلك أن هذا الحزب بصرف النظر عما يرمي إليه من إصلاح العالم وبث الخير والفضيلة في أنحاء الأرض كافة لا يقدر أن يبقى ثابتًا على خطته متمسكًا بمنهاجه عاملاً وفق مقتضياته ما دام نظام الحكم قائمًا على أساس آخر سائرًا على منهاج غير منهاجه ، وذلك أن حزبًا مؤمنًا بمبدأ ونظام للحياة والحكم خاص ، لا يمكن أن يعيش متمسكًا بمبدئه عاملاً حسب مقتضاه في ظل نظام للحكم مؤسس على مبادئ وغايات غير المبادئ والغايات التي يؤمن بها ويريد السير على منهاجها فإن رجلاً يؤمن بمبادئ الشيوعية إن أراد أن يعيش في بريطانيا أو ألمانيا متمسكًا بمبدئه سائرًا في حياته على البرنامج الذي تقرره الشيوعية فلن يتمكن من ذلك أبدًا ، لأن النظم التي تقررها الرأسمالية أو الناتسية تكون مهيمنة عليه قاهرة بما أوتيت من سلطان فلا يمكنه أن يتخلص من براثنها أصلاً .
وكذلك المسلم إذا أراد أن يقضي حياته مستظلاً بنظام للحكم مناقض لمبادئ الإسلام الخالدة ويوده أن يبقى متمسكًا بمبادئ الإسلام سائرًا وفق مقتضاه في أعماله اليومية فلن يتسنى له ذلك ولا يمكنه أن ينجح في بغيته هذه أبدًا ، لأن القوانين التي يراها باطلة والضرائب التي يعتقدها غرمًا ونهبًا لأموال الناس ، والقضايا التي يحسبها جائرة عن الحق وافتئاتًا على العدل ، والنظم التي يعرف أنها مبعث الفساد في الأرض ومناهج التعليم التي يجزم بوخامة عاقبتها وسوء نتائجها ، ويرى فيها هلاكًا للأمة ، يجد كل هذه مهيمنة عليه ومسيطرة على بيئته وأهله وأولاده بحيث لا يمكنه أن يتخلص من قيودها ، وينجو بنفسه وأهله من أثرها ونفوذها فالذي يؤمن بعقيدة ونظام فردًا كان أو جماعة ، مضطر بطبيعة عقيدته وإيمانه بها أن يسعى سعيه في القضاء على نظم الحكم القائمة ، على فكرة غير فكرته ، ويبذل الجهد المستطاع في إقامة نظام الحكم مستند إلى الفكرة ، ويعتقد أن فيها سعادة للبشر ، لأنه لا يتسنى له العمل بموجب عقيدته والسير على منهاجه إلا بهذا الطريق .
وإذا رأيت رجلاً لا يسعى وراء غايته أو يغفل عن هذا الواجب فعلم أنه كاذب
في دعواه ولما يدخل الإيمان في قلبه .
وبهذا المعنى ورد في التنزيل ((عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ، لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، والله عليم بالمتقين ، إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون))
وأي شهادة وأي حجة انصع من شهادة القرآن وحجته ففي هذه الآيات من سورة براءة قد نص القرآن الكريم على أن الذي لا يلبي نداء الجهاد ، ولا يجاهد بماله ونفسه في سبيل إعلاء كلمة الله وإقامة الدين الذي ارتضاه لنفسه وتوطيد نظام الحكم المبني على قواعده ، فهو في عداد الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون .(5/286)
لعلك تبينت مما أسلفنا آنفًا أن غاية الجهاد في الإسلام هي هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها واستبدالها بها ، وهذه المهمة مهمة إحداث انقلاب إسلامي عام غير منحصرة في قُطر دون قطر بل مما يريده الإسلام ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة ، هذه غايته العليا ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره إلا أنه لا مندوحة للمسلمين أو أعضاء الحزب الإسلامي عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها .
أما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب العالمي الشامل المحيط بجميع أنحاء الأرض وذلك أن فكرة انقلابية لا تؤمن بالقومية بل تدعو الناس جميعًا إلى سعادة البشر وفلاح الناس أجمعين لا يمكنها أصلاً أن تضيق دائرة عملها في نطاق محدود من أمة أو قُطر ، بل الحق أنها مضطرة بسجيتها وجبلتها أن تجعل الانقلاب العالمي غايتها التي تضعها نصب عينيها ، ولا نغفل عنها طرفة عين ، فإن الحق يأبى الحدود الجغرافية ولا يرضى أن ينحصر في حدود ضيقة اخترعها علماء الجغرافيا واصطلحوا عليها ـ وفق المخططات الاستعمارية ـ ) مقتطفات من كلام المودودي نقلها سيد في الظلال (3/1448-1451)
=============
وهناك أهداف وحكم للجهاد كلها تابعة للهدف الرئيسي الذي تقدم آنفًا وتصب فيه منها على سبيل المثال :
1- رد اعتداء المعتدين على المسلمين :
قال تعالى ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)) 190 البقرة .
وقال تعالى ((ألا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول ، وهم بدأوكم أول مرة ، أتخشونهم ، فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين)) 13 التوبة .
وقال صلى الله عليه وسلم ((إنما بعثتك لأبتليك و أبتلي بك و أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما و يقظانا و إن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة قال : استخرجهم كما استخرجوك و اغزهم نغزك و أنفق فسننفق عليك و ابعث جيشا نبعث خمسة مثله و قاتل بمن أطاعك من عصاك .. الحديث)) رواه أحمد ومسلم .
وقد تقدم معنا في مقالة (حكم الجهاد وأنواعه) أن علماء الإسلام أجمعوا على أن رد اعتداء الكفار عن المسلمين فرض عين على كل قادر .
2- إزالة الفتنة عن الناس حتى يستمعوا إلى دلائل التوحيد من غير عائق ، وحتى يروا نظام الإسلام مطبقًا ليعرفوا ما فيه من عدل وإصلاح للبشر ، وما فيه من سمو في شتى المجالات .. والفتنة ثلاثة أنواع :
النوع الأول : ما يمارسه الكفار من أشكال التعذيب والتضييق على المسلمين ليرتدوا عن دينهم ، وقد ندب الله المسلمين للجهاد لإنقاذ المستضعفين .. قال تعالى (( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا)) 75 النساء.
النوع الثاني: هو الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة فإن هذه من شأنها أنها تفتن المسلم عن دينه ، لذلك صارت إزالتها هي الهدف الرئيسي للجهاد كما سبق أن بينا أن أكثر السلف يفسرون الفتنة في قوله تعالى ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)) بالشرك ، ومن فسر الفتنة بما يمارسه الكفار لصد المسلم عن دينه من أنواع التعذيب فلا منافاة بين قوله وقول الفريق الأول ، فإزالة الشرك مقصودة ، ورفع الفتنة عن المسلمين وإنقاذ المستضعفين مقصود ، كذلك وقد دل على كلا الأمرين الكتاب والسنة وإجماع فقهاء الأمة كما تقدم.
ومن هذا الباب إخضاع أهل الجزية لأحكام الإسلام ومنعهم من المجاهرة بدينهم ومنعهم من التعامل بالربا والزنا ونحو ذلك لأن هذه الأوضاع من شأنها أنها تفتن المسلم عن دينه وقد أمر الله المسلمين بالجهاد حتى تزول الفتنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل نجران أرسل إليهم من الصحابة من يقيم على البلاد حكم الإسلام غلا في أمور النصارى الخاصة بهم داخل كنائسهم ، واشترط عليهم ألا يتعاملوا بالربا فإن تعاملوا به ، فذمة الرسول صلى الله عليه وسلم منهم بريئة.. انظر الخراج لأبي يوسف.
ومن إزالة الفتنة عن المسلمين فك أسراهم ، فإن من شأن الكفار أنهم يفتنون الأسرى عن دينهم ، لذلك قال الفقهاء إن فك الأسير فرض عين على المسلمين ، ويتعين عليهم الجهاد حتى يستنقذوا أسرى المسلمين جميعًا .. (انظر القوانين الفقهية لابن جزي المالكي)
فإزالة الفتنة عن المسلمين وإعزاز المسلمين وإذلال الكافرين كلها من مقصود الجهاد .
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رفع إليه ذمي نخس دابة امرأة مسلمة فرمحت فأسقطتها ، فانكشف بعض عورتها ، فأمر بصلبه في الموضع.تفسير القرطبي 8/83.(5/287)
وقوله تعالى ((حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )) دليل على أن إلزام الكفار الذلة والصغار من أهداف الجهاد الإسلامي ، وكذلك إعزاز المسلمين ورفع المهانة عنهم فقد كان من أسباب طرد الرسول صلى الله عليه وسلم ليهود بني قينقاع أن منهم رجلاً كشف عورة امرأة مسلمة ليضحك الناس عليها فقتله رجل من المسلمين كان حاضرًا ، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي الذي رام إذلال المسلمة ، بل كاد أن يقتل بقية يهود بني قينقاع حتى شفع فيهم رأس النفاق بالمدينة لعنه الله وأخزاه ، فترك الرسول صلى الله عليه وسلم قتلهم لمقاصد شرعية وأجلاهم عن المدينة .
النوع الثالث : فتنة الكفار أنفسهم وصدهم عن استماع الحق وقبوله ، وذلك أن الأنظمة والحكومات الشركية تقيم حاجزًا بين الناس واستماع الحق أو قبوله بتخريبها لفطر الناس بما تشرعه لهم من مناهج في شتى مجالات الحياة ، فإذا فسدت فطر الناس بما تشرعه لهم من مناهج في شتى مجالات الحياة .. فإذا فسدت فطر الناس وعقولهم قل أن يستجيبوا للهدى ، وإذا تربى جيل على الذلة والمهانة والعبودية للخلق من دون الخالق وتربى على الإدمان على الخمر والتمرغ في وحل الجنس والتحلل من الأخلاق الفاضلة ، قل أن يرتفع إلى مستوى النفس البشرية السوية التي تعرف المعروف من المنكر ، وتحب الخير وتبغض الشر ، إلا أن يتداركه الله برحمة منه ، لذا كان من أهداف الجهاد إزالة الفتنة عن الكفار أنفسهم بالإضافة إلى إزالتها عن المسلمين من باب أولى ، فإذا زالت الفتنة عن الكفار المحكومين من قبل الطغاة المتألهين الذين يشرعون ما يفسد الفطرة البشرية لكي يضمنوا عبوديتها لهم ، رجي إسلامهم واستجابتهم لداعي الهدى ، لا سيما إذا عاشوا في المجتمع الإسلامي الذي يخضع لتشريعات الله العليم الخبير ، خالق النفس البشرية والعالم بما يصلحها ، وهذا طرف من الحكمة الإلهية في تشريع الجزية على أهل الكتاب والمجوس لإعطائهم فرصة تصلح فيها فطرهم بتطبيقها لتشريعات الإسلام العامة ومخالطة المسلمين ، ومعرفة ما في الدين الإسلامي من تكريم للنفس البشرية وانتشالها من القبائح إلى الفضائل ومن عبادة الخلق والشيطان والهوى إلى عبادة الحي القيوم .
3ـ حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار ، ومن الأدلة على هذا الهدف العظيم ما رواه الأمام أحمد عن ابن عبدالله بن أنيس عن أبيه رضي الله عنه قال :
((دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه قد بلغني أن خالد ابن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني ، وهو بعرنة ، فأته فاقتله ، قلت يا رسول الله اعته لي حتى أعرفه ، قال : إذا رايته وجدت له أقشعريرة ، قال فخرجت متوشحًا بسيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً ، وحين كان وقت العصر فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله عليه وسلم من الاقشعريرة ، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة ، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي الركوع والسجود فلما انتهيت له ، قال : من الرجل ؟ ، قلت : رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا ، قال : أجل أنا في ذلك .. فمشيت معه شيئًا حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته ، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني فقال : أفلح الوجه ، قال : قلت قتلته يا رسول الله ، قال : صدقت ، قال : ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل في بيته فأعطاني عصا ، فقال أمسك هذه عندك يا عبدالله بن أنيس ، قال فخرجت بها على الناس فقالوا ما هذه العصا ، قال : قلت أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها ، قالوا : أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك . قال : فرجعت فقلت يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا ، قال آية بيني وبينك يوم القيامة ، إن أقل الناس المتخصرون يومئذ يوم القيامة ، فقرنها عبدالله بسيفه فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فصبت معه في كفنه ثم دفنا جميعًا )) رواه أحمد .
ومن ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف اليهودي ، وسلام ابن أبي الحقيق اليهودي ، فإنهما كانا مصدر خطر على الدولة الإسلامية ، فأرسل لهما الرسول الله صلى الله عليه وسلم من يقتلهما.
ومن ذلك حض الرسول صلى الله عليه وسلم على الرباط وحراسة المسلمين والرباط هو المرابطة في الثغور على حدود الدولة الإسلامية وفي مقابلة الأعداء والأحاديث في فضل الرباط كثيرة جدًا منها ما رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من مات مرابطًا وقي فتنة القبر ، وأمن من الفزع الأكبر ، وغدي عليه وريح برزقه من الجنة ، وكتب له أجر المرابطة إلى يوم القيامة)).(5/288)
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه : باب فضل رباط يوم في سبيل الله ، وقول الله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون)) ثم روى بسنده عن سهل بن سهل الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها )) رواه البخاري .
وفيما تقدم دليل جلي على أن حماية الدولة الإسلامية من أهداف الجهاد العظيمة ، ولكن مما ينبغي أن يتنبه له أن الدولة الإسلامية ليست حوزة من الأرض لها حدود معينة يحافظ عليها فقط ، بل كلما امتد الإسلام إلى أرض وأزال عنها أنظمة الشرك صارت داخلة في الدولة الإسلامية ، فعلى المسلمين المحافظة عليها ، ودفع سلطان الإسلام إلى الأمام في الأراضي المجاورة لكي تتوسع رقعة الدولة الإسلامية ، لأن الإسلام يتطلب الأرض كلها ليخضعها لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فليس دين الله مرادًا به بلدًا معينًا أو جنسًا معينًا من الأجناس البشرية .
يقول سيد قطب رحمه الله : (وحقيقة أن حماية دار الإسلام حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج ، ولكنها هي ليست الهدف النهائي ، وليست حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها ، وإلى النوع الإنساني بجملته ، فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين والأرض هي مجاله الكبير) الظلال3/1441
4ـ قتل الكافرين وإبادتهم ومحقهم وذلك لأن الكفر كالسرطان ، بل أشد ، فإذا لم يسلم الكافر أو يخضع للحكم الإسلامي فلا بد من استئصاله حتى لا يفسد المجتمع الذي يوجد فيه ، يقول تعالى ((فإذا لقيتم الذين كفروا ، فضرب الرقاب ، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ..الآية))14التوبة .
ويقول جل شأنه ((قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين )) التوبة 14، ((فاضربوا فوق الأعناق،واضربوا منهم كل بنان)) الأنفال12
((واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل))البقرة 191، ((ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين))الأنفال7
((ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض))الأنفال 67، ((ليقطع طرفًا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين))آل عمران 127.
ومن ترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قتل الكافرين قوله صلى الله عليه وسلم ((لا يجتمع في النار كافر وقاتله أبدًا)) رواه أبو داود .
ويدل على هذا أيضًا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على قتل أبي جهل وغيره من صناديد الكفر ، يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن مقتل أبي جهل ((فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل ، فأصبت يده ، فندر سيفه فأخذته فضربته حتى قتلته ، قال ثم خرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، كأنما أقل عن الأرض فأخبرته ، فقال صلى الله عليه وسلم : آلله الذي لا إله إلا هو ؟ فرددها ثلاثًا ، قال فقلت : آلله الذي لا إله إلا هو ، قال فخرج يمشي معي حتى قام عليه ، فقال الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله ، هذا كان فرعون الأمة )) البداية والنهاية3/289.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر (( أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، و تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، و تمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، و هؤلاء صناديدهم و أئمتهم و قادتهم))البداية والنهاية3/297
وقد نزل القرآن العظيم حاضًا على هذا الهدف وهو قتل صناديد الكفر حتى يتم الإثخان في الأرض .. قال تعالى ((ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم ، ولولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم))الأنفال 67-68
5ـ إرهاب الكفار وإخزاؤهم وإذلالهم وإيهان كيدهم وإغاظتهم ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)) الأنفال 59 ((قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ، ويذهب غيظ قلوبهم ، ويتوب الله على من يشاء ، والله عليم حكيم))التوبة 14-15، ((ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين)) الأنفال 18.
ومما يدل على أن إخافة العدو من مقاصد الجهاد ما رواه أحمد عن أم مالك البهزية رضي الله عنها قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خير الناس في الفتنة رجل معتزل في ماله يعبد ربه ويؤدي حقه ، ورجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله يخيفهم ويخيفونه )).(5/289)
ويقول ابن القيم رحمه الله ((..ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له ، وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه أحدها قوله تعالى ((ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرة وسعة )) سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغمًا يراغم به عدوه الله وعدوه ، والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته كما قال تعالى ((ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطأون موطئًا يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين)) ، وقال تعالى في مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه ((ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار)) فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة ، فموافقته فيها من كمال العبودية وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته سجدتين وقال ((إن كانت صلاته تامة ، كانتا ترغمان أنف الشيطان)) وفي رواية ((ترغيمًا للشيطان)) وسماهما المرغمتين ، فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر ، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة ، ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين )) مدارج السالكين1/226.
وللجهاد أهداف سامية ومصالح كريمة وفوائد عظيمة ، تتحقق للمسلمين في ذوات أنفسهم إذا مارسوا الجهاد على سبيل المثال :
1ـ كشف المنافقين . . فإن المسلمين في حال الرخاء والسعة ينضاف إليهم غيرهم ممن يطمعون في تحقيق مكاسب مادية وهم لا يريدون رفع كلمة الله على كلمة الكفر ، وقد يتصنعون الإخلاص فيخفى أمرهم على كثير من المسلمين ، وأكبر كاشف لهم هو الجهاد لأن في الجهاد لأغلى ما يملك الإنسان غير عقيدته وهو روحه ، والمنافق ما نافق إلا ليحفظ روحه وليوفر لنفسه ملذاتها ، فإذا دعا داعي الجهاد الذي قد يعرضه لفقد روحه انكشف نفاقه للناس ، يقول تعالى ((ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب))179آل عمران، ويقول تعالى ((فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت))20محمد
ومعرفة المؤمنين للمنافقين فيها فوائد لا تحصى ، فإنهم العدو الداخلي وخطرهم يفوق خطر العدو الخارجي أحيانًا ، فإذا عُرفوا مُنعوا من الغزو مع المسلمين ، ولا يستمع المؤمنون لما يعرضونه عليهم من أراجيف وتثبيط ومن أقوال يلبسونها ثياب النصح والإصلاح ، وجاهدهم المؤمن بما أمرهم الله به ((يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم))73التوبة.
2ـ تمحيص المؤمنين من ذنوبهم ، فإن المجاهد المسلم إذا أخلص النية لله إذا حضر المعركة فقتل الكفار ، نال ثوابًا عظيمًا ، كما جاء في الحديث ((لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدًا))رواه أبو داود .. وإذا خالط قلبه الرهج والخوف في سبيل الله تحاتت عنه خطاياه ، وأما إذا قتله الكفار فذلك الفوز الذي لا يعدله فوز .... الشهادة .... وما أدراك ما الشهادة.
يقول صلى الله عليه وسلم ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد ، يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة))رواه البخاري
فالشهادة في سبيل الله وتكفير الذنوب هدف رفيع وفائدة عظيمة تعود على المسلمين من جهادهم .. يقول تعالى ((وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين))140-142 آل عمران.
وقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم هذا الهدف الرفيع وهو تمحيص الذنوب وهذه الفائدة العظيمة والمنزلة الرفيعة وهي الشهادة ، فشمروا وتسابقوا للفوز بذلك ..(5/290)
يقول ابن إسحاق : (ثم مضوا حتى نزلوا معاناً من أرض الشام فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، و انضم إليه من لخم و جذام و القين و بهراء و بلى مائة ألف منهم عليهم رجل من بلى، ثم أحد أراشة يقال له: مالك بن رافلة، و في رواية يونس عن ابن إسحاق: فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم و مائة ألف من المستعربة، وقيل كان الروم مائتي ألف ومن أعدائهم خمسون ألفا وأقل ما قيل: أن الروم كانوا مائة ألف ومن العرب خمسون ألفا حكاه السهيلي، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، و قالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، و أما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، قال: فشجع الناس عبد الله بن رواحة و قال : يا قوم و الله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، و ما نقاتل الناس بعدد و لا قوة و لا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور و إما شهادة، قال: فقال الناس : قد و الله صدق ابن رواحة)
البداية والنهاية 4/243
قال ابن إسحاق : (( و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يناشد ربه ما وعده من النصر و يقول فيما يقول « اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد » و أبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك، و قد خفق النبي صلى الله عليه و سلم خفقة و هو في العريش ثم انتبه فقال : « أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع » يعني الغبار. قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الناس فحرضهم. و قال : « و الذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة » قال عمير بن الحمام أخو بني سلمة و في يده تمرات يأكلهن : بخ بخ أفما بيني و بين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ؟ قال: ثم قذف التمرات من يده و أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله
وقال أيضًا (( دنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « قوموا إلى الجنة عرضها السموات و الأرض » قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات و الأرض ؟ قال: « نعم ! » قال: بخ بخ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « ما يحملك على قول بخ بخ ؟ » قال: لا و الله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: « فإنك من أهلها » قال فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة، قال: فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله. و رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة و جماعة عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان بن المغيرة به، و قد ذكر ابن جرير أن عميراً قاتل و هو يقول رضي الله عنه :
ركضاً إلى الله بغيرِ زادِ ............. إلا التُّقَى و عمل المعادِ
والصبرُ في الله على الجهادِ ............ و كلُّ زادٍ عُرضَة النفاد
غيرَ التّقى و البِرِّ و الرشادِ
وقاتلهم رضي الله عنه حتى قتل ..... البداية والنهاية 3/277
3ـ تربية المؤمنين على الصبر والثبات والطاعة وبذل النفس وغير ذلك من الفوائد التربوية فإن الركون إلى الراحة والدعة وعدم ممارسة الشدائد والصعاب تورث العبد ذلاً وخمولاً وتشبثًا بمتاع الحياة الدنيا ، وخوض المعارك ومقارعة الأعداء والتعرض لنيل رضا الله في ساحات الوغى يصقل النفوس ويهذبها ويذكرها بمصيرها ويوجب لها استعدادًا للرحيل حتى تصبح ممارسة الجهاد عادة تشتاق لها كما يشتاق الخاملون للقعود والراحة ، وتتربى في النفس البشرية من الجهاد صفات كثيرة كصفة الشجاعة والنجدة والصبر والأخوة والعفو ونحو ذلك من الصفات المحمودة ويزول من النفس ما يقابلها من الصفات المذمومة كصفة الجبن والشح والأنانية ونحو ذلك .
4ـ الحصول على الغنائم والسبي ، وإن لها لموقعًا في النفس البشرية ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يعطي القاتل سلب المقتول ، وينقل جزءًا من الغنيمة لبعض الجيش إذا قاموا بعمل حربي بمفردهم ، وقال لبعض أصحابه لما بلغه خبر عير أبي سفيان راجعة من الشام ((هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها))
البداية والنهاية 3/256
وقال صلى الله عليه وسلم حين خروجه من المدينة قاصدًا التعرض لعير قريش ((اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، اللهم إنهم عراة فاكسهم ، اللهم إنهم جياع فأشبعهم))1003 الصحيحة .
وقال القرطبي (ودل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلقى العير على جواز النفير للغنيمة ، لأنها كسب حلال ، وهو يرد على ما كره مالك من ذلك إذ قال :ذلك قتال على الدنيا ، وما جاء أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ، دون من يقاتل للغنيمة ، يراد به إذا كان قصده وحده وليس للدين فيه حظ) تفسير القرطبي7/376(5/291)
وقال أيضًا : (ثم قيل الأسباب التي يُطلب بها الرزق ستة أنواع : أعلاها كسب نبينا صلى الله عليه وسلم قال ((جُعِلَ رزقي تحت ظل رمحي ، وجُعل الذلة والصغار على من خالف أمري)) أخرجه الترمذي وصححه ، فجعل الله رزق نبيه صلى الله عليه وسلم في كسبه لفضله ، وخصه بأفضل أنواع الكسب وهو أخذ الغلبة والقهر لشرفه)
تفسير القرطبي 8/108
وقال الشوكاني : (قال ابن أبي جمرة ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصده إعلاء كلمة الله لم يضره ما ينضاف إليه) نيل الأوطار7/244.
وبهذا يظهر والله أعلم أن قصد الغنيمة يكون من أهداف الجهاد التابعة لا الأصلية ، والذي لا يجاهد إلا للغنيمة فلا خير في جهاده ، لأن الهدف الأصلي للجهاد هو إعلاء كلمة الله ، وخفض كلمة الطاغوت ، ومد سلطان الله في الأرض ، فإذا قصد المسلم بجهاده هذا ، ثم اشتاقت نفسه ورغبت في الحصول على غنيمة من الكفار بعد كسر شوكتهم والاستيلاء عليهم ، فلا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى .
وإذا كانت هذه معظم أهداف الجهاد ومقاصده ، فما هي الغاية التي يتوقف عندها الجهاد ؟
إن الغاية التي يتوقف عندها الجهاد هي إسلام أهل الأرض كلهم واعتناقهم عقيدة الإسلام من غير أهل الكتاب والمجوس ، أما أهل الكتاب والمجوس فإذا دفعوا الجزية ملتزمين لأحكام الإسلام القضائية حال كونهم في ذلة وصغار ، فإن المسلمين يوقفون جهادهم ويكفون عنهم ويحمونهم من عدوهم ، ولن يتوقف الجهاد الإسلامي مدى الحياة ، لأن الشيطان مستمر في إغواء بعض البشر والصراع بين الحق والباطل سنة إلهية لا تنتهي حتى ينتهي وجود البشر في هذه الأرض .
فعن جبير بن نفير أن سلمة بن نفيل أخبرهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سئمت الخيل وألقيت السلاح ووضعت الحرب أوزارها ،قلت لا قتال .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((الآن جاء القتال ، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس ، يرفع الله قلوب أقوام فيقاتلونهم ، ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم على ذلك ، ألا إن عقر دار المؤمنين الشام ، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة )) رواه أحمد
وقال صلى الله عليه وسلم ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ، ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة)) البخاري ومسلم
وقال البخاري في صحيحه : باب الجهاد ماض مع البر والفاجر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الخيل معقود في نواصيها الخير غلى يوم القيامة)
قال ابن حجر : سبقه إلى الاستدلال بهذا الإمام أحمد لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة ، وفسره بالأجر والمغنم ، والمغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد ، ولم يقيد بما إذا كان الإمام عادلاً ، فدل على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل أو الجائر. الفتح6/42.
وبهذا يظهر أن الجهاد مستمر إلى قيام الساعة ، وأنه لا ينتهي جهاد الكفار إلا إذا أسلموا أو خضعوا لحكم الإسلام ، ودفعوا الجزية حالة كونهم متلبسين بالذل والصغار
واختلف العلماء رحمهم الله فيمن تؤخذ منه الجزية ؟ .
والقول الراجح ( مختصراً ) هو قول الشافعي والمشهور عن أحمد وهو أن أهل الشرك لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى سواء كانوا عربًا أم غير عرب فتقبل منهم الجزية ، وكذلك المجوس ، وإن كانوا مشركين للأدلة المخصصة لهم من سائر المشركين .وليس هذا موضع التفصيل لهذه المسألة .
ختامًا نسأل الله العلي القدير ، أن يثبت المجاهدين و يرزقهم النصر والتمكين ، كما نسأله سبحانه أن يختم لنا ولهم بخاتمة الخير والسعادة ، وأن يجعل موتنا شهادة في سبيله خالصة لوجهه الكريم .
وأن يتقبل من مات من المجاهدين في الشهداء ،وأن يرزقهم الدرجات العلى من الجنة وأن يجعلهم مع سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ...
اللهم واجمعنا وإياهم في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ، واسقنا وإياهم شربة هنيئة من يد نبيك محمد صلى الله عليه وسلم لا نظمأ بعدها أبدًا .
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله القوي العزيز ، وبأنك أنت الله الجبار المنتقم أن تدمر أعداء الدين ، وأن تنزل عليهم غضبك وأليم عقابك وشديد عذابك الذي لا يرد عن القوم المجرمين ، وأن تهلك المنافقين وأن تمكر بهم أجمعين ..
اللهم أهلك اليهود والنصارى والمشركين ومن والاهم أو أعانهم بشيء على عبادك المؤمنين .. وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وحداني العتيبي
---------
لا يحل لأحد أن يُصَوم أو يُفطّر المسلمين بالحساب فيتقلد إثمهم ويبوء بوزرهم
"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"
الأمور التي تتعين فيها مخالفة الكفار
الخلاصة
الدليل على ذلك(5/292)
الاعتداد بالدين، والإفتخار والتمسك بسنة سيد المرسلين، وبغض الكفرة والمنافقين والمبتدعين، وعدم التشبه بهم، سر ظهور هذا الدين وبقائه: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة وهم على ذلك"، ولا يتم ذلك إلاّ بمخالفة الكفار في المخبر والمظهر، إذ مخالفتهم قربى وعبادة، حيث أمرنا بمخالفة اليهود والنصارى ونحوهم في أكثر من ستين حالة وهيئة.
الأمور التي تتعين فيها مخالفة الكفار
مخالفة الكفار واجبة في المخبر والمظهر سيما:
1. الهدي والسمت، لأن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة.
2. التحدث برطاناتهم إلاّ عند الضرورة ـ والتزام العربية الفصحى.
3. في الأعياد، فليس للمسلمين إلاّ عيدان سنويان هما الفطر والأضحى، وعيد أسبوعي هو الجمعة.
4. العمل بتقاويمهم والعمل بالتقويم القمري الغروبي، سيما في الصوم، والحج، والعدد، والكفارات، وصرف المرتبات، والتأريخ، لأن عزة الأمة في إعتدادها بمظهرها، ولغتها، وتاريخها، وتراثها، ولهذا لا يحل العمل بالتقويم الشمسي إلاّ في معرفة أوقات الصلوات.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً" الآية: (هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط، وإن لم تزد على اثني عشر شهراً، لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على الثلاثين، و منها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على الثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج).
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا، يعني تمام الثلاثين".
وقال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدد".
ينبغي للمسلمين أن يلتزموا بذلك ولو أصبحوا كلهم كتاباً حاسبين لأن الإسلام دين الفطرة .
قال أبو العباس القرطبي المالكي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم": (قوله صلى الله عليه وسلم "إنا أمة أمية..."، أي لا نكلف في تعرف مواقيت صومنا وعبادتناما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة، وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم، ثم تمم هذا المعنى وكمله حيث بينه باشارته بيديه، و لم يتلفظ بعبارة عنه نزولاً إلى ما يفهمه الخرسوالعجم، وحصل من إشارته ثلاث مرات، أن الشهر يكون ثلاثين، ومن خنسه ابهامه في الثالثة: أن الشهر يكون تسعاً وعشرين... وعلى هذا الحديث من نذر أن يصوم شهراً غير معين، فله أن يصوم تسعاً وعشرين).
وعليه يحرم على الحاسب، والمنجم، ومن يعرف منازل القمر أن يصوم أويفطر بذلك دون الرؤية أويصّوم غيره فإن فعل فلا يجزئه .
قال الإمام النووي رحمه الله :( لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك، لكن يجوز لهما دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية الفلكي الحاسب رحمه الله: (فإننا نعلم بالا ضطرار من دين الاسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم، أوالحج، أوالعدة، أوالإيلاء، أوغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالهلال، بخبر الحاسب أنه يُرى أولا يُرى لا يجوز.
والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، و لا خلاف حديث إلاّ أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلاّ فلا، وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع وعلى خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أوتعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم).
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية وقد سئلت عن جواز العمل في الصوم بالحساب الفلكي: (أولاً – القول الصحيح الذي يجب العمل به هو ما دل عليه قوله صلى الله عليه و سلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة"، من أن العبرة في بدء شهر رمضان – وشوال - وانتهائه برؤية الهلال، فإن شريعة الإسلام التي بعث الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عامة خالدة مستمرة إلى يوم القيامة.(5/293)
ثانياً: أن الله تعالى علم ما كان وما سيكون من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم، ومع ذلك قال: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، وبينه رسوله بقوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث، فعلق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال، ولم يعلقه بعلم الشهر بحساب النجوم، مع علمه تعالى بأن علماء الفلك سيتقدمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها، فوجب على المسلمين المصير إلى ما شرعه الله لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من التعويل في الصوم والإفطار على رؤية الهلال، وهو كالإجماع من أهل العلم، ومن خالف في ذلك وعول على حساب النجوم فقوله شاذ لا يعول عليه).
?
الخلاصة
وعليه فإنه لا يحل لإمام المسلمين ولا لغيره، من قاضٍ، أومجلس فتوى أن يصوِّم المسلمين أويفطِّرهم بالحساب، فإن فعل ذلك فقد باء بإثمهم وتحمل وزرهم، ولا يجزئ صومهم هذا، سواء كان الجو صحواً أم لا.
ولا ينبغي لمسلم أن يطيع أحداً في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
?
والدليل على ذلك ما يأتي:
أولاً: القرآن الكريم
قوله تعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً" الآية.
وقوله: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" الآية.
ثانياً: السنة
قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث.
ثالثا: الإجماع
حيث أجمع أهل السنة قاطبة ـ إلا من شذ ـ أهل الحق والعدل على ذلك، ولم يعمل بالحساب إلا أهل الأهواء الرافضة، فبئس حال ومآل من اتخذ الرافضة قدوة له.
وأخيراً نقدم للمتساهلين في هذه المسألة المتهاونين فيها موقف الإمام الشهيد البطل قاضي قضاة مدينة برقة في عهده محمد بن الحُبُلي رحمه الله، الذي رفض أن يفطِّر الناس بالحساب ويتقلد إثمهم ويبوء بوزرهم، وإن أدى ذلك إلى استشهاده رحمه الله:
قال الإمام الذهبي رحمه الله: (الإمام الشهيد قاضي مدينة برقة محمد بن الحُبُلي أتاه أمير برقة ـ عندما كانت تحت وطئة الرافضة ـ فقال: غداً العيد؛ قال: حتى نرى الهلال، ولا أفطر الناس وأتقلد إثمهم؛ فقال: بهذا جاء كتاب المنصور؛ وكان هذا رأي العبيدية يفطِّرون بالحساب، ولا يعتبرون رؤية، فلم ير الهلال، فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهْبَة العيد، فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلي؛ فأمر الأمير رجلاً خطب، وكتب بما جرى إلى المنصور، فأمر، فعُلِّق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش، فلم يسق، ثم صلبوه على خشبة، فلعنة الله على الظالمين) مصحوبة بغضب رب العالمين على الرافضة أجمعين إلى يوم الدين.
قلت: لو كان لهذا الإمام سعة أن يفطر الناس بالحساب لما جاز له أن يفضل القتل عليها، ولأخذ بها لعلمه أن هؤلاء الخبثاء سيقتلونه قطعاً إذا خالف باطلهم، كما قتلوا أسلافه من أئمة أهل السنة المالكيين على يد هؤلاء الطغاة المارقين.
قال الذهبي الحافظ الكبير والمؤرخ القدير: (قال أبو الحسن القابسي صاحب "الملخَّص": إن الذين قتلهم عبيد الله الرافضي الشيعي وبنوه أربعة آلاف في دار النحر في العذاب من عالم وعابد ليردوهم على الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت، فقال سهل الشاعر:
وأحل دار النحر في أغلاله من كان ذا تقوى وذا صلوات
ودفن سائرهم في "المنستير" وهو بلسان الفرنج المعبد الكبير، وكانت دولة هذا بضعاً وعشرين سنة).
وما فعله الشيعة الرافضة المتسمين بالقرامطة بالمسلمين بالمشرق في ذلك العهد فاق ما فعله إخوانهم في الضلال بالمغرب الإسلامي، كما بين ذلك المؤرخان المحدثان الذهبي وابن كثير.
يقول الذهبي في ترجمة القرمطي هذا: (عدو الله ملكُ البحرين أبو طاهر.. القرمطي.. الذي سار إلى مكة 317هـ ، فاستباح الحجيج كلَّهم في الحرم، واقتلع الحجر الأسود، في سبعمائة فارس، فاستباح الحجيج كلهم في الحرم، واقتلع الحجر الأسود، وردم زمزم بالقتلى، وصعد على عتبة الكعبة يصيح:
أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
فقتل في سكك مكة وما حولها زهاء ثلاثين ألفاً، وسبى الذرية، واقام بالحرم ستةأيام، بذل السيف في سابع ذي الحجة ولم يُعَرِّف أحد ـ لم يقف أحد بعرفة ولم يحج ـ تلك السنة... دخل القرمطي سكران على فرس، فصفر له فبال عند البيت، وضرب الحجر بدُبوس هَشَّمه ثم اقتلعه، وأقاموا بمكة أحد عشر يوماً، وبقي الحجر الأسود عندهم نيفاً وعشرين سنة).
نقدم ذلك للمخدوعين بالدعايات الشيعية، والتقية الرافضية، الداعين إلى التقارب بين اللاعنين لكبار الصحابة، السابين لخيارهم، القاتلين للمترضين عليهم.
وفق الله المسلمين للعمل بكتابه، والتمسك بسنة نبيه، وعصمهم من تقليد الكفار والتشبه بهم، المفضي بهم إلى غضب الجبار، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين.
---------
مذاهب أهل العلم في اختلاف المطالع
هذه من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم إلى قولين:(5/294)
الأول: إذا رُؤي الهلال في بلد من بلاد الإسلام لزم جميع المسلمين الصوم أوالإفطار، وهذا مذهب الجمهور أبي حنيفة، والشافعي، والليث، وبعض الشافعية، وأحمد، وفريق من المالكية.
الثاني: إذا ثبت الهلال في بلد لا يلزم الصيام أوالفطر غير أهل البلد الذي رُؤي فيه الهلال، وهذا مذهب ابن عباس، وعكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق بن راهَوَيْه.
قال النووي عن مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم: (نقل ابن المنذر عن عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق بن راهَوَيْه أنه لا يلزم غير أهل بلد الرؤية، وعن الليث، والشافعي، وأحمد يلزم الجميع، قال: ولا أعلمه إلا قول المدني، والكوفي؛ يعني مالكاً وأبا حنيفة).
استدل أصحاب القول الأول بقوله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، وقد ثبت الهلال بالبينة أوبالرؤيا المستفيضة، والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم.
واستدل أصحاب القول الثاني بحديث كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، وقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أرأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية؛ فقال: لكننا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أونراه؛ فقلت: ألا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال أبو العباس القرطبي المالكي في شرح قول ابن عباس: "هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلمة تصريح برفع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وبأمره به، فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام والحجاز، أوما قارب ذلك، فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم، ما لم يحمل الناس على ذلك فلا تجوز مخالفته، إذ المسألة اجتهادية مُخْتلف فيها، ولا يبقى مع حكم الإمام اجتهاده، ولا تحل مخالفته، ألا ترى أن معاوية أمير المؤمنين قد صام بالرؤية، وصام الناس بها بالشام، ثم لم يلتفت ابن عباس إلى ذلك، بل بقي على حكم رؤيته.
إلى أن قال: وإلى هذا صار ابن عباس، وسالم، والقاسم، وعكرمة، وبه قال إسحاق، وإليه أشار الترمذي، حيث بوب: لأهل كل بلد رؤيتهم؛ وحكى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خرسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم، إلا ما كان كالمصر الكبير، وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين؛ قلت: وهذا الإجماع الذي حكاه أبو عمر بن عبد البر يدل على أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنما هو فيما تقارب من البلاد، ولم يكن في حكم القطر الواحد).
وقال ابن قدامة: (وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم، وهذا قول الليث، وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: إن كان بين البلدين مسافة قريبة، لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة، لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في إحداهما، وإن كان بينهما بعد كالعراق والحجاز والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم، وروي عن عكرمة أنه قال: لكل أهل بلد رؤيتهم؛ وهو مذهب القاسم، وسالم، وإسحاق.
إلى أن قال مؤيداً القول الأول: وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان، وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات، فوجب صومه على جميع المسلمين).
قلت: هذه من المسائل الخلافية التي لا ينبغي أن يثرب فيها أحد على الآخر، إذ الاجتهاد فيها سائغ، ولكن الذي يترجح لدي من قولي أهل العلم السابقين القول الأول، وهو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، خاصة في هذا العصر الذي أضحى فيه العالم كالقرية الواحدة، لسهولة الاتصال ويسره، ولما في ذلك من مظاهر الوحدة ونبذ الاختلاف والتفرق في الصوم والتعبد؛ هذا كله إذا رؤي الهلال في بلد من بلاد المسلمين بواسطة عدل لهلال رمضان، وعدلين لهلال شوال، أوبرؤية مستفيضة، والله أعلم.
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يهديهم سبل السلام، ويجنبهم الفتن والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلهم يداً على من سواهم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن والاهم
-----------
هديه صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح في تلاوة القرآن في شهر الصيام
أ. الرسول صلى الله عليه وسلم
ب. هدي السلف الصالح
تنبيه
رمضان هو شهر القرآن: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن".
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر، ويشهد لذلك قول تعالى: "إنا أنزلناه في ليلة القدر"، وقوله: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة".(5/295)
ولهذا كان جبريل عليه السلام يدارس الرسولَ صلى الله عليه وسلم القرآنَ في كل رمضان مرة، وفي السنة التي مات فيها عليه الصلاة والسلام دارسه القرآن مرتين، قالت فاطمة رضي الله عنها: "إن أباها أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن في كل عام مرة، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين"، وعن ابن عباس: "أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً".
وكان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والسلف العظام الإكثار من قراءة القرآن وتلاوته في الصلاة وخارج الصلاة في رمضان، وكان من أراد الإطالة في القراءة في الصلاة في القيام صلى وحده وبمن يطيق.
وإليك نماذج من هديهم في ذلك:
أ. الرسول صلى الله عليه وسلم
• ... في الصلاة
كان يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره، كما حكى عنه حذيفة رضي الله عنه وقد صلى معه ليلة: "فقرأ بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، لا يمر بآية تخويف إلا وقف وسأل، قال: فما صلى الركعتين حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة"، وذلك لأن ركوعه وسجوده في كل ركعة كان قريباً من قيامه.
وصح عن أبي ذر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بهم ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، فقالوا: لو نفلتنا بقية ليلتنا؟ فقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته".
• ... خارج الصلاة
كان يعرض على جبريل القرآن في ليالي رمضان.
?
ب. هدي السلف الصالح
• ... في الصلاة
o كان بعض السلف يختم في قيام رمضان في ثلاث ليالٍ.
o وبعضهم في سبع، منهم قتادة.
o وبعضهم في عشر، منهم أبو رجاء العطاردي.
• ... خارج الصلاة
• ... كان الأسود بن يزيد رحمه الله يقرأ القرآن في كل ليلتين في رمضان.
• ... وكان للإمام الشافعي ختمتان في كل يوم سوى الصلاة.
• ... وكان النخعي يختم في كل ثلاث ليال في العشرين الأول من رمضان، وفي العشر الأواخر يختم في ليلتين سوى الصلاة.
• ... وكان لأبي حنيفة كذلك ستون ختمة في رمضان.
• ... وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
• ... وكان مالك كما قال ابن عبد الحكم: إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن في المصحف.
• ... وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن.
• ... وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس - أي ارتفعت - نامت.
• ... وكان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف، وجمع إليه أصحابه.
?
تنبيه
النهي عن الختم في أقل من ثلاثة أيام هذا في غير رمضان، أما في رمضان خصوصاً العشر الأواخر منه وفي الأماكن المقدسة نحو مكة والمدينة فيستحب الإكثار من تلاوة القرآن، وذلك لشرف الزمان والمكان.
هذا ما ذهب إليه الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، ويدل عليه هديُهم.
ومن أهل العلم من قال إن النهي عام، منهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، حيث قال: (بعض السلف قال: إنه يستثنى من ذلك أوقات الفضائل، وأنه لا بأس أن يختم في كل ليلة، كما ذكروا هذا عن الشافعي وغيره، ولكن ظاهر السنة أنه لا فرق بين رمضان وغيره، وأنه ينبغي له أن لا يعجل، وأن يطمئن في قراءته، وأن يرتل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو فقال: "اقرأه في سبع"، هذا آخر ما أمر به، وقال: "لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث"، ولم يقل إلا في رمضان، فجعل بعض السلف هذا على غير رمضان محل نظر).
قلت: يؤيد استثناء رمضان خاصة العشر الأواخر منه والأماكن المقدسة من هذا النهي فعله صلى الله عليه وسلم، حيث كان إذا دخل العشر الأول: "شد مئزره، وأيقظ أهله، وأحيى ليله"، كما صح بذلك الخبر، وما كان يصنع هذا في غير هذه الليالي من العام، والله أعلم.
----------
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح في القيام في رمضان
الأول: عدد ركعات القيام
ثانياً: مقدار القراءة في القيام
أ. هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
ب. هدي الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك
ج. هدي التابعين رحمهم الله في ذلك
د. أقوال الأئمة وهديهم في ذلك
الخلاصة
الحمد لله القائل: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر"، وصلى الله وسلم على رسوله القائل:" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".
فالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم واجب سيما في العبادات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقال في حجة الوداع: "لتأخذوا عني مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" الحديث.
وبعد..
فإن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهدي صحابته الكرام، والسلف العظام، في قيام رمضان معلوم معروف، وينبغي للمسلم أن يتأسى بهم في ذلك لينال الأجر والثواب الذي وعد به: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".(5/296)
والقيام إيماناً واحتساباً كغيره من العبادات له شرطان، هما:
1. الصدق والإخلاص.
2. وموافقة السنة.
فإذا فقدت العبادة هذين الشرطين أوأحدهما فسدت، وإن اختل شرط منهما اختلت العبادة بقدر اختلاله.
كثير من الناس لا يؤدون صلاة القيام، والقليل الذي يؤدي هذه الصلاة يخل بها، ويرجع ذلك لأسباب هي:
1. ضعف الهمم والعزائم.
2. الجهل بهديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه في القيام.
3. استجابة كثير من الأئمة لرغبات المصلين في تخفيف الصلاة تخفيفاً مخلاً ومضيعاً لغرض القيام، فبعض الأئمة يكتفي بقراءة آية واحدة تتكون من كلمة نحو "مدهامتان" في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية المداومة على سورة الإخلاص، ومنهم من يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بآيتين وفي الثانية بآية واحدة، ومنهم من يقرأ بعد الفاتحة في الركعات الأول من القيام بالتكاثر إلى الكافرون، وفي الثواني بالإخلاص.
بحيث أن القيام لا يزيد في كثير من الأحيان عن ربع ساعة، ولا زلت أذكر أنَّ أحد المصلين سُبق بركعة، فلم يستطع إدراك الإمام بعد إلى نهاية الصلاة من سرعة قيامه وخفة ركوعه وسجوده، وفي ذلك خلل عظيم، وضياع لخير كثير.
فالأفضل للمرء أن يصلي ركعتين أوأربعاً فيهن شيء من الطمأنينة والخشوع وينصرف بدلاً من ذلك.
وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والسلف الصالح في القيام يتمثل في جانبين:
الأول: عدد ركعات القيام.
والثاني: مقدار القراءة فيها.
?
الأول: عدد ركعات القيام
ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب هي:
1. ثماني ركعات غير الشفع والوتر، وهو أفضلها على الإطلاق لفعله صلى الله عليه وسلم، ولقول عائشة رضي الله عنها: "ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إحدى عشرة ركعة في رمضان، ولا في غيره، يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن" أوكما قال الحديث، تعني مثنى مثنى.
2. عشر ركعات سوى الشفع والوتر، وهذا مشهور مذهب مالك ورواية عن أحمد، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر بعشر، وكذلك صح عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأمر بذلك.
3. عشرون ركعة غير الشفع والوتر، وهذا مذهب عمر وجمهور الأئمة، أبي حنيفة، والشافعي، ورواية عن أحمد.
4. ست وثلاثون ركعة غير الشفع والوتر، وهذا مذهب مالك، إذ كان عمل أهل المدينة في وقته.
5. أربعون ركعة، وهذا مذهب الأسود بن يزيد، وكان يوتر بسبع.
والأمر فيه سعة، وبأي هذه الأعداد أقام أجزأه إن شاء الله، على أن أفضل الجميع الثمانية، وتليها العشرة في الفضل، ولا ينبغي لأحد أن يحرِّج على أحد في ذلك.
وينبغي أن يكون هناك تناسب بين عدد الركعات ومقدار القراءة، فإذا قل عدد الركعات زيد في مقدار القراءة، وإذ زيد في عدد الركعات نقص في مقدار القراءة، كما قال الشافعي رحمه الله.
?
ثانياً: مقدار القراءة في القيام
أ. هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره، وقد صلى معه حذيفة ليلة في رمضان قال: "فقرأ بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، لا يمر بآية تخويف إلا وقف وسأل، قال: فما صلى ركعتين حتى جاءه بلال فآذنه بالصلاة".
وعند النسائي: "إلا أربع ركعات".
وقد روي عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بهم ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، فقالوا: لو نفلتنا بقية ليلتنا؟ فقال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين".
?
ب. هدي الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك
كان عمر رضي الله عنه قد أمر أبيَّ بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما أن يقوما بالناس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة، حتى كانوا يعتمدون على العصيِّ من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر.
وفي رواية: أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها.
وروي أن عمر رضي الله عنه جمع ثلاثة قراء، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالناس ثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرين.
?
ج. هدي التابعين رحمهم الله في ذلك
كان الناس في زمن التابعين يقرأون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات أوما يعادلها، فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أنه قد خفف.
?
د. أقوال الأئمة وهديهم في ذلك
1. كره مالك أن يقرأ دون عشر آيات في الركعة الواحدة.
2. وقال ابن منصور: سئل إسحاق بن راهويه: كم يقرأ في قيام شهر رمضان؟ فلم يرخص في دون عشر آيات؛ فقيل له: إنهم لا يرضون؛ فقال: لا رضوا، فلا تأمهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من البقرة، ثم إذا صرت إلى الآيات الخفاف فبقدر عشر آيات من البقرة، يعني في كل ركعة.
3. أكثر الأئمة تخفيفاً في القراءة أحمد رحمه الله.(5/297)
سئل الإمام عما روي عن عمر كما تقدم ذكره في السريع القراءة والبطيء، فقال: في هذا مشقة على الناس، ولا سيما في هذه الليالي القصار، وإنما الأمر على ما يحتمله الناس؛ وقال أحمد لبعض أصحابه، وكان يصلي بهم في رمضان: هؤلاء قوم ضعفاء، اقرأ خمساً، وستاً، وسبعاً، وقال: فقرأت فختمت في ليلة سبع وعشرين.
4. وروي عن الحسن أن الذي أمره عمر أن يصلي بالناس كان يقرأ خمس آيات، ست آيات.
وكلام أحمد يدل على أنه يراعي في القراءة حال المأمومين، فلا يشق عليهم، وقاله أيضاً غيره من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم.
?
الخلاصة
أن الحد الأدنى في القراءة مقدار عشر آيات في كل ركعة، خاصة والناس يصلون عشر ركعات، حتى يكون مقدار قراءتهم مائة آية، وإن كانوا يصلون عشرين فست أوخمس آيات مثلاً.
وليجتهد الإمام في أن يختم في رمضان حتى يسمع الناس جميع القرآن، ومن عسر عليه ذلك لضعف من خلفه فلا أقل من أن يقيم بحزب من القرآن.
أما أن يقتصر في الركعة على آية وآيتين، أوعلى العشرة الأواخر من قصار المفصل في الركعة الأولى، وعلى الإخلاص في الركعة الثانية في سائر القيام، فهذا ليس من السنة، ولا يعد قياماً، والعلم عند الله.
اعلم أخي الكريم أن أفضل أنواع الصبر الصبر على الطاعة، فلابد للمسلم أن يجاهد نفسه على تعود ذلك حتى تستقيم عبادته، وليحذر عدم الاطمئنان في الركوع والسجود المبطل للصلاة، فكم من مصلٍ سبعين أوثمانين سَنَة لا تُقبل له صلاة، كما جاء في الأثر، فربما أتم ركوعها ولم يتم سجودها، والعكس، وربما ضيع ركوعها وسجودها.
والله أسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا الصدق والصبر على طاعته، وأن يحبِّب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على صفيه من خلقه، وخليله من عباده، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم التناد.
----------
صلاة التراويح
تعريف التراويح
حكمها
فضلها
وقتها
عدد ركعاتها
ما يقرأ فيها
أيهما أفضل للمرء، أن يصلي القيام في جماعة أم في بيته ؟
أجر من صلى مع الإمام حتى ينصرف في رمضان
من فاته العشاء
القنوت في قيام رمضان
صيغة القنوت في رمضان
الجهر بالقنوت ورفع الأيدي فيه
تعريف التراويح
هي الصلاة التي تصلى جماعة في ليالي رمضان، والتراويح جمع ترويحة، سميت بذلك لأنهم كانوا أول ما اجتمعوا عليها يستريحون بين كل تسليمتين، كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، وتعرف كذلك بقيام رمضان.
?
حكمها
سنة، وقيل فرض كفاية ، وهي شعار من شعارات المسلمين في رمضان لم ينكرها إلا مبتدع، قال القحطاني رحمه الله في نونيته:
وصيامنا رمضان فرض واجب وقيامنا المسنون في رمضان
إن التراويح راحة في ليله ونشاط كل عويجز كسلان
والله ما جعل التراويح منكراً إلا المجوس و شيعة الشيطان
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولكن الرافضة تكره صلاة التراويح).
?
دليل الحكم
قيام رمضان في جماعة مشروع سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يداوم عليه خشية أن يفرض، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصٌلِّي بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عَجَزَ المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف عليِّ مكانكم، ولكني خشيتٌ أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك".
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأٌمن فرضها أحيا هذه السنة عمر رضي الله عنه، فقد خرج البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرَّهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أٌبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ وكان الناس يقومون أوله".
قلت: مراد عمر بالبدعة هنا البدعة اللغوية، وإلا فهي سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم وأحياها عمر الذي أٌمرنا بالتمسك بسنته: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" الحديث.
وعن عروة بن الزبير أن عمر رضي الله عنه جمع الناس على قيام شهر رمضان، الرجال على أبي بن كعب ، والنساء على سليمان بن أبي حثمة.
وروي أن الذي كان يصلي بالنساء تميم الداري رضي الله عنه.(5/298)
وعن عرفجة الثقفي قال: "كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأمر الناس بقيام رمضان ويجعل للرجال إماماً و للنساء، فكنت أنا إمام النساء".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة".
ورحم الله الإمام القحطاني المالكي حيث قال:
صلى النبي به ثلاثاً رغبة وروى الجماعة أنها ثنتان
?
فضلها
لقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض على قيام رمضان ورغب فهي ولم يعزم، وما فتئ السلف الصالح يحافظون عليها، فعلى جميع المسلمين أن يحيوا سنة نبيهم وألا يتهاونوا فيها ولا يتشاغلوا عنها بما لا فائدة منه، فقد قرن صلى الله عليه وسلم بين الصيام والقيام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرمضان من قامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
وفي رواية في الصحيح كذلك عنه: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
وزاد النسائي في رواية له: "وما تأخر" كما قال الحافظ في الفتح.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر. وقال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين وعزاه عياض لأهل السنة ، قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة.
إلى أن قال: وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد، وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر؟ والجواب عن ذلك يأتي في قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل أنه قال في أهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، ومحصل الجواب: أنه قيل إنه كناية عن حفظهم من الكبائر فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك. وقيل إن معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة).
فعليك أخي الكريم ألا يفوتك هذا الفضل، فما لا يدرك كله لا يترك جله، فصل ما تيسر لك إن لم تتمكن من إتمامها مع الإمام.
واحذر أشد الحذر السمعة والرياء، فيها وفي غيرها من الأعمال، فهما مبطلان للأعمال مفسدان لثوابها.
?
وقتها
من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر.
وفعلها في آخر الليل أفضل من فعلها في أوله لمن تيسر لهم، واتفقوا عليه ، لقول عمر رضي الله عنه: "والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون".
?
عدد ركعاتها
أفضل القيام في رمضان وغيره إحدى عشرة ركعة، وهو ما واظب عليه صلى الله عليه وسلم، كما صح عن عائشة رضي الله عنها وقد سئلت: كيف كانت صلاته صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً".
وإن كان الأمر فيه سعة، وقد أحصى الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح الأقوال في ذلك مع ذكر الأدلة، وهي:
1. إحدى عشرة ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.
2. ثلاث عشرة ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.
3. إحدى وعشرون ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.
4. ثلاث وعشرون ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.
5. تسع وثلاثون ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.
6. إحدى وأربعون ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.
7. تسع وأربعون ركعة مع الوتر بثلاث ركعات.
لم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم في عدد ركعات صلاة التراويح إلا حديث عائشة: "أحد عشرة ركعة"، وما روي عن ابن عباس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر" فإسناده ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر.
و الأعداد الأخرى سوى الإحدى عشرة أُثرت عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والقاعدة عندهم في ذلك أنهم كانوا إذا أطالوا القراءة قللوا عدد الركعات وإذا أخفوا القراءة زادوا في عدد الركعات.
ولله در الشافعي ما أفقهه حيث قال، كما روى عنه الزعفراني: (رأيت الناس يقومون بالمدية بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق).
وقال أيضاً: (إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إلي).
والخلاصة أن أصح وأفضل شيء أن يقام رمضان بإحدى عشرة ركعة مع إطالة القراءة، ولا حرج على من قام بأكثر من ذلك.
واحذروا أيها الأئمة من التخفيف المخل، بأن تقرأوا في الأولى مثلاً بعد الفاتحة بآية نحو "مدهامتان" أو بقصار السور من الزلزلة وما بعدها، وفي الثانية دائماً بالإخلاص، فهذا تخفيف مخل، هذا مع عدم الاطمئنان في الركوع والسجود، والمسابقة حيث يصبح من التجاوز إطلاق القيام على من يفعل ذلك.(5/299)
وحذار أيها المأموم أن تحتج على إمامك إذا حول أن يطيل في ظنك بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أم الناس فليخفف"، فهذا استدلال مع الفارق والفارق الكبير، حيث قال صلى الله عليه وسلم ذلك لمعاذ عندما قرأ في الركعة الأولى في صلاة العشاء بالبقرة كلها، وفي الثانية بما يناصف البقرة، فأين هذا مما يفعله الأئمة اليوم؟!
?
ما يقرأ فيها
لم تحد القراءة فيها بحد، وكان السلف الصالح يطيلون فيها واستحب أهل العلم أن يختم القرآن في قيام رمضان ليسمع الناس كل القرآن في شهر القرآن، و كره البعض الزيادة على ذلك إلا إذا تواطأ جماعة على ذلك فلا بأس به.
فقد روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن الأعرج أنه قال : سمعت أبي يقول : كنا ننصرف في رمضان من القيام فنستعجل الخدم بالسحور مخافة الفجر .
وروى مالك أيضاً عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس وكان القارئ يقرأ بالمائتين حتى كنا نعتمد على العصا من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر.
وروى البيهقي بإسناده عن أبي عثمان الهندي قال: دعا عمر بن الخطاب بثلاثة قراء فاستقرأهم فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ للناس ثلاثين آية، وأمر أوسطهم أن يقرأ خمساً وعشرين آية، وأمر أبطأهم أن يقرأ عشرين آية.
وقال ابن قدامة: قال أحمد: يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، ولا سيما في الليالي القصار.
و الأمر على ما يحتمله الناس، وقال القاضي ـ أبو يعلى ـ: (لا يستحب النقصان عن ختمة في الشهر ليسمع الناس جميع القرآن ولا يزيد على ختمة، كراهية المشقة على من خلفه والتقدير بحال الناس أولى).
وقال ابن عبد البر: (والقراءة في قيام شهر رمضان بعشر من الآيات الطوال، ويزيد في الآيات القصار ، ويقرأ السور على نسق المصحف).
عليك أخي المسلم أن تقارن بين قراءة سلفنا الصالح في القيام وبين قراءة أئمتنا في معظم المساجد في السودان بما فيهم الحفظة، ثم احكم لترى البون الشاسع بيننا وبينهم.
?
أيهما أفضل للمرء، أن يصلي القيام في جماعة أم في بيته ؟
إذا أقيمت صلاة التراويح في جماعة في المساجد،فقد ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب:
1. القيام مع الناس أفضل، وهذا مذهب الجمهور، لفعل عمر رضي الله عنه، ولحرص المسلمين على ذلك طول العصور.
2. القيام في البيوت أفضل، وهو رواية عن مالك وأبي يوسف وبعض الشافعية، لقوله صلى الله عليه وسلم :" أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
3. المسألة تختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان حافظاً للقرآن ذا همة على القيم منفرداً ولا تختل الصلاة في المسجد بتخلفه فصلاته في الجماعة والبيت سواء، أما إذا اختل شرط من هذه الشروط فصلاته مع الجماعة أفضل.
?
أجر من صلى مع الإمام حتى ينصرف في رمضان
ليس هناك حد لعدد ركعات القيام في رمضان، فللمرء أن يقيمه بما شاء، سواء كانت صلاته في جماعة أو في بيته ، ولكن يستحب لمن يصلي مع جماعة المسلمين أن ينصرف مع الإمام ويوتر معه، لحديث أبي ذر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم: "إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة".
قال أبو داود رحمه الله: (سمعت أحمد يقول: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه، قال: وكان أحمد يقوم مع الناس ويوتر معهم).
?
من فاته العشاء
إذا دخل الإنسان المسجد ووجد الناس قد فرغوا من صلاة العشاء وشرعوا في القيام، صلى العشاء أولاً منفرداً أومع جماعة وله أن يدخل مع الإمام بنية العشاء فإذا سلم الإمام قام وأتم صلاته، واختلاف لا يؤثر، لصنيع معاذ وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يصلي العشاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم ويأتي فيصلي بأهل قباء العشاء حيث تكون له هذه الصلاة نافلة، وليس له أن يشرع في التراويح وهو لم يصل العشاء.
?
القنوت في قيام رمضان
ذهب أهل العلم في القنوت في الوتر مذاهب هي:
1. يستحب أن يقنت في كل رمضان، وهو مذهب عدد من الصحابة وبه قال مالك ووجه للشافعية.
2. يستحب أن يقنت في النصف الآخر من رمضان،المشهور من مذهب الشافعي.
3. لا قنوت في الوتر، لا في رمضان ولا في غيره.
4. عدم المداومة على ذلك، بحيث يقنت ويترك.
5. عند النوازل وغيرها، متفق عليه.
قال ابن القيم رحمه الله: ولم يصح عن النبي صلى الله عليه و سلم في قنوت الوتر قبل ـ أي الركوع ـ أو بعده شيء.
وقال الخلال: أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله في القنوت في الوتر؟ فقال: ليس يروى فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم شيء ، ولكن كان عمر يقنت من السنة إلى السنة.
إلى أن قال: والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر وابن مسعود والرواية عنهم أصح من القنوت في الفجر، والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الفجر أصح من الرواية في قنوت الوتر، والله أعلم).
?
صيغة القنوت في رمضان(5/300)
أصح ما ورد في القنوت في الوتر ما رواه أهل السنن عن الحسن قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تعضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت".
وروي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك".
?
الجهر بالقنوت ورفع الأيدي فيه
وله أن يقنت بما شاء من الأدعية المأثورة وغيرها وأن يجهر ويؤمن من خلفه وأن يرفع يديه ، لكن ينبغي أن يحذر التطويل والسجع والتفصيل وعليه أن يكتفي بالدعوات الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، وليحذر الاعتداء في الدعاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وفقنا الله وإياكم للصيام والقيام، وجعلنا وإياكم من عتقاء هذا الشهر ، ونسأل الله أن يمكن فيه للإسلام والمسلمين وأن يذل فيه الكفر والكافرين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
-----------
الوتر
تمهيد
تعريف الوتر
حكمه
فضل الوتر
النهي والتحذير عن التهاون في الوتر
وقت الوتر
وقتا الوتر الاختياري والضروري
قضاء الوتر
من ذكر الوتر وهو في صلاة الصبح
اشتراط النية في الوتر
عدد ركعات الوتر
الفصل، والوصل، في صلاة الليل، والوتر
التطوع بركعة واحدة في غير الوتر
من أوتر ثم أراد أن يتنفل
ما يقرأ في الوتر
الوتر على الدابة في السفر
القنوت في الوتر
أنفس وأشمل ما ألف في الوتر
تمهيد
الوتر من أكد السنن الرواتب وأفضلها، ولهذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والسلف العظام يتهاونون فيه أو يتركونه لا سفراً ولا حضراً، وقد تنازع العلماء أيهما أفضل الوتر أم ركعتا الفجر؟
قال ابن عبد البر رحمه الله: (واختلف في الأوكد منهما،فقالت طائفة الوتر أوكد،وكلاهما سنة، ومن أصحابنا من يقول: ركعتا الفجر ليستا بسنة، وهما من الرغائب والوتر سنة مؤكدة.
وقال آخرون: ركعتا الفجر سنة مؤكدة كالوتر.وقال آخرون: هما أوكد من الوتر: لأن الوتر ليس بسنة إلاّ على أهل القرآن، ولكل واحد من هذه الطوائف حجة من جهة الأثر).
اختلف أهل العلم في الوتر في أمور كثيرة.
قال ابن حجر رحمه الله: (قال ابن التين: اختلف في الوتر في سبعة أشياء:
1. في وجوبه.
2. وعدده.
3. اشتراط النية فيه.
4. اختصاصه بقراءة.
5. اشتراط شفع قبله.
6. في آخر وقته.
7. صلاته في السفر على الدابة.
وزاد هو:
1. في قضائه.
2. القنوت فيه.
3. محل القنوت منه.
4. فيمن يقال فيه ـ أي في قنوته.
5. وصله وفضله.
6. هل تسن ركعتان بعده؟
7. صلاته من قعود.
8. أول وقته.
9. كونه أفضل صلاة التطوع أو الرواتب أفضل منه).
وبعد فهذا بحث عن الوتر، عن فضله، وحكمه ووقته وغير ذلك، وما اختلف فيه، مع ترجيح ما يمكن ترجيحه من أقوال العلماء.
فأقول:
تعريف الوتر
لغة: الوتر بالكسرالفرد ،وبالفتح الثأر، وفي لغة مترادفان.
اصطلاحاً: ما يختم به صلاة الليل،وقد يطلق على صلاة الليل.
?
حكمه
ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب هي:
1. الوتر سنة مؤكدة، وهذا مذهب العامة من أهل العلم من لدن الصحابة ومن بعدهم.
2. الوتر واجب، وهذا مذهب الأحناف.
3. واجب على أهل القرآن فقط.
?
أدلة العامة على سنية الوتر
استدل العامة من أهل العلم على أن الوتر سنة بالآتي:
1. عن علي رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الوتر ليس بحتم كصلاتكم المكتوبة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن".
2. قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي عندما أمره بالصلوات الخمس وقال: هل علىّ غيرها؟ قال: لا، إلاّ أن تطوع" الحديث.
3. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت يؤمئ إيماءة صلاة الليل إلاّ الفرائض، ويوتر على راحلته".
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذا الحديث:(واستدل به على أن الوتر ليس بفرض).
?
أدلة الموجبين للوتر
استدل الموجبون للوتر بأحاديث لا تخلو من مقال فهي ضعيفة منها:
1. ما رواه الحاكم عن بريدة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم :"الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا".
قال المنادي في فيض القدير في شرح لهذا الحديث: (قال الحاكم صحيح، وأبو منيب ثقة ورده الذهبي بأن البخاري قال عنده مناكير. انتهى. وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح. وقال الهيثمي بعد ما عزاه لأحمد: فيه الخليل ابن مرة ضعفه البخاري وأبو حاتم. وقال: أبو زرعة شيخ صالح.
ثم قال عن توجيه الحديث وتأويله: الحق يجئ بمعنى الثبوت والوجوب، ذهب الحنفية إلى الثاني، والشافعية إلى الأول؛ أي ثابت في السنة والشرع وفيه نوع تأكيد).
2. وبما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد: "الوتر واجب".(5/301)
قال الحافظ في الفتح: (ولم يثبت).
?
أدلة من أوجبه على أهل القرآن دون غيرهم
ما صح عن علي رضي الله عنه: "إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن" الحديث.
ظهر بذلك أن القول الراجح هو ما ذهب إليه العامة من أهل العلم من أن الوتر سنة مؤكدة وليس بواجب.
قال ابن عبد البر: (الوتر سنة، وهو من صلاة الليل، لأنه بها سمي وتراً، وإنما هو وترها، وقد أوجبه بعض أهل الفقه فرضاً، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي إنه ليس عليه غير خمس إلاّ أن يطوع ما يرد قوله.)
وقال الحافظ ابن حجر: (وأجاب من ادعى وجوب الوتر من الحنفية بأن الفرض عندهم غير الواجب، فلا يلزم من نفي الفرض نفي الواجب، وهذا يتوقف على أن ابن عمر كان يفرِّق بين الفرض والواجب، وقد بالغ الشيخ أبوحامد فادعى أن أبا حنيفة انفرد بوجوب الوتر، ولم يوافقه صاحباه، مع أن ابن أبي شيبة أخرج عن سعيد بن المسبب، وأبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود، والضحاك ما يدل على وجوبه عندهم.. ونقله ابن العربي عن أصيغ من المالكية ووافقه سحنون، وكأنه أخذه من قول مالك: من تركه أدِّب، وكان جرحه في شهادته).
?
فضل الوتر
ورد في فضل الوتر والحث على المحافظة عليه ما يأتي:
1. عن خارجة بن حذافة أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله أمركم بصلاة، هي خير لكم من حمر النعم، الوتر جعله الله لكم ـ فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر."
2. وعن علي يرفعه: "إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا ياأهل القرآن."
?
النهي والتحذير عن التهاون في الوتر
لا ينبغي لأحد أن يتهاون في أداء الوتر فمن تهاون في أدائه فسق، ورُدَّت شهادته وأدِّب وعزِّر بما يناسبه كما قال مالك وغيره من أهل العلم: لا ينبغي لأحد أن يتعمد ترك الوتر حتى يصبح لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا خشي أحدكم الصبح فليصلِّ ركعة توتر له ما قد صلى".
?
وقت الوتر
يبدأ وقت الوتر من بعد مغيب الشفق وصلاة العشاء إلى ما قبل طلوع الفجر، وكل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أوله ووسطه وآخره، وانتهى وتره إلى السحر.
عن عائشة رضي الله عنها قالت:" كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر."
قال الحافظ ابن حجر معلقا على تبويب البخاري: "باب ساعات الوتر"، أي أوقاته ومحصل ما ذكره أن الليل كله وقت للوتر، لكن أجمعوا على ابتدائه من مغيب الشفق بعد صلاة العشاء، كذا نقله ابن المنذر، لكن أطلق بعضهم: أنه يدخل بدخول العشاء، قالوا: ويظهر أثر الخلاف فيمن صلى العشاء وبان أنه بغير طهارة، ثم صلى الوتر متطهراً، أو ظن أنه صلى العشاء فصلى الوتر فإنه يجزئ على هذا القول دون الأول، إلى أن قال: ويحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر في أوله لعله كان وجعاً، وحيث أوتر في وسطه لعه كان مسافراً، وأما وتره في آخره، فكأنه غالب أحواله، لما عرف من مواظبته على الصلاة في أكثر الليل والله أعلم).
?
وقتا الوتر الاختياري والضروري
للوتر وقتان:
1. اختياري، وهو من بعد مغيب الشفق إلى طلوع الفجر.
2. ضروري، وهو من بعد طلوع الفجر إلى ما قبل صلاة الصبح.
فصلاة الوتر في هذين الوقتين تكون أداءاً وليست قضاء، هذا ما لم يتعمد تأخيره إلى ما بعد طلوع الفجر.
هذا في أرجح قولي العلماء، وذهبت طائفة من أهل العلم أن الوتر يخرج وقته بطلوع الفجر مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى).
قال الحافظ ابن حجر: (قوله: "فإذا خشي أحدكم الصبح" استدل به على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر، وأصرح منه ما رواه أبوداود والنسائي وصححه أبوعوانة وغيره من طريق سليمان بن موسى عن نافع أنه حدثه أن ابن عمر كان يقول: (من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وتراً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بذلك، فإذا كان الليل فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر).
ثم قال: وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح، وحكاه القرطبي عن مالك والشافعي وأحمد، وإنما قاله الشافعي في القديم، وقال ابن قدامة: لا ينبغي لأحد أن يتعمد ترك الوتر حتى يصبح).
وقال ابن عبد البر تحت باب: "الوتر بعد الفجر": (ذكر فيه مالك عن ابن عباس، وعبادة بن الصامت، وعبدالله بن عامر بن ربيعة، والقاسم بن محمد أنهم أوتروا بعد الفجر).
وعن ابن مسعود أنه قال: ما أبالي لو أُقيمت الصلاة وأنا في الوتر.
وعن عبادة بن الصامت أنه أسكت المؤذن بالإقامة لصلاة الصبح حتى أوتر.
وقال مالك بإثر ذلك: إنما يوتر بعد الفجر من نام عن الوتر، ولا ينبغي لأحد أن يتعمد ذلك حتى يضع وتره بعد الفجر.(5/302)
قال أبو عمرـ ابن عبد البر: اختلف السلف من العلماء والخلف بعدهم في آخر وقت الوتر، بعد إجماعهم على أن أول وقته بعد صلاة العشاء، وأن الليل كله حتى يتفجر الصبح وقت له، إذ هو آخر صلاة الليل.
فقال منهم قائلون: لا يصلى الوتر بعد طلوع الفجر، وإنما وقتها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر فلا وتر.
وممن قال هذا: سعيد بن جبير، ومكحول، وعطاء بن أبي رباح، وهو قول سفيان الثوري، وأبي يوسف ومحمد.
وقال آخرون: يصلى الوتر ما لم يصلى الصبح، فمن صلى الصبح فلا يصلي الوتر.
روى هذا القول عن ابن مسعود، وابن عباس، وعبادة، وأبي الدرداء، وحذيفة, وعائشة.
وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور، وإسحاق، وجماعة.
وهو الصواب عندي لأني لا أعلم لهؤلاء الصحابة مخالفاً من الصحابة، فدل اجماعهم على أن معنى الحديث في مراعاة طلوع الفجر أريد ما لم تصلَ صلاة الفجر.
ويحتمل أيضا أن يكون ذلك لمن قصده واعتمده، وأما من نام عنه وغلبته عينه حتى انفجر الصبح وأمكنه أن يصليه مع الصبح قبل طلوع الشمس مما أريد بذلك الخطاب).
?
قضاء الوتر
لأهل العلم في قضاء الوتر بعد صلاة الصبح أقوال هي:
1. لا يقضى كغيره من النوافل وهذا مذهب العامة من أهل العلم.
2. يقضى إلى الزوال.
3. يقضى من القايلة.
4. يقضى مطلقاً.
فمن قال يقضى اختلفوا على قولين فمنهم من قال يقضى وجوباً، وهذا قول أبي حنيفة ومنهم من قال يقضى استحباباً.
استدل القائلون بقضائه إلى الزوال بما صح عن عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة".
واستدل من قال يقضى مطلقاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاته أونسيها فليصلها إذا ذكرها"، قياسا على المكتوبة وبما روى أبو سعيد مرفوعاً: "من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره.
قال الحافظ ابن حجر: (وقال محمد بن نصر ـالمروزي ـ: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شئ من الأخبار أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه، ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم في ليلة نومهم عن الصبح في الوادي قضى الوتر لم يصب.
وعن عطاء والأوزعي: يقضى لو طلعت الشمس، وهو وجه عند الشافعية، حكاه النووي في شرح مسلم، وعن سعيد بن جبير: يقضى من القابلة، وعن الشافعية يقضى مطلقاً).
وقال الحافظ زين الدين العراقي: (قال ابن المنذر: وفيه قول ثالث، وهو أن يصلى الوتر، وإن صلى الصبح، هذا قول طاوس، وكان النعمان يقول: عليه قضاء الوتر، وإن صلى الفجر، إذا لم يكن أوتر، وفيه قول رابع وهو أن يصلي الوتر وإن طلعت الشمس، روي هذا القول عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، الحسن، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان، وبه قال الأوزاعي، وأبوثور، وقال سعيد بن جبير: من فاته الوتر يوتر بواحدة من النافلة وهذا قول خامس، انتهى.
وهذه الأقوال الثلاثة الأخيرة الظاهر أنها إنما هي في صلاة الوتر قضاء وما أراد قائلوها استمرار وقتها إلى ذلك الحد أداءاً، وفي عبارة بعضهم التصريح بذلك، ومن لم يصرح به منهم فعبارته محمولة على ذلك والله أعلم.)
وقال ابن عبد البر: (وأما من أوجب قضاء الوتر بعد طلوع الشمس فقد شذ عن الجمهور وحكم للوتر بحكم الفريضة، وقد أوضحنا خطأ قوله فيما مضى من هذا الكتاب، روى ذلك عن طائفة من التابعين منهم طاوس.
وهو قول أبي حنيفة وخالفه صاحباه.
إلاّ أن من أهل العلم من استحب ورأى اعادة الوتر بعد طلوع الشمس.
وقال الثوري: إذا طلعت الشمس فإن شاء قضاءه وإن شاء لم يقضه .
وقال الأوزاعي متى ذكره من يومه حتى يصلي العشاء الآخرة، فإن لم يذكر حتى صلاة العشاء لم يقضه بعد، فإن فعل شفع وتره.
قال الليث: يقضيه بعد طلوع الشمس.
وقال مالك والشافعي: لا يقضيه.)
الراجح مما سبق أنه يستحب قضاء الوتر مطلقاً متى ذكره لحديثي عائشة وأبي سعيد السابقين ولما ورد عن الشارع استحباب المداومة على أعمال الخير والله أعلم.
?
من ذكر الوتر وهو في صلاة الصبح
قولان لأهل العلم:
1. يتمادى في صلاته ويقضه بعد فراغه من الوتر، وهو مذهب الجمهور وهو الراجح.
2. يقطع صلاة الصبح ليصلي الوتر قبلها وهذا قول من يوجبون الوتر نحو أبي حنيفة وابن القاسم من المالكية.
قال ابن عبد البر: (واختلف أصحابنا وغيرهم فيمن ذكر الوتر في صلاة الصبح.
واختلف في ذلك أيضا قول مالك على قولين.
فقال مرة: يقطع ويصلي الوتر، واختاره ابن القاسم، فضارع في ذلك قول أبي حنيفة في إيجاب الوتر.
ومرة قال مالك: لا يقطع، ويتمادى في صلاة الصبح ولا شئ عليه، ولا يعيد الوتر.
وهو قول الشافعي والجمهور من العلماء، وهو الصواب، لأن القطع لمن ذكر الصلاة وهو لم يكن من أجل شئ غير الترتيب في صلاة يومه.
ومعلوم أنه لا رتبة بعد الوتر وصلاة الصبح، لأنه ليس من جنسها، وإنما الرتبة في المكتوبات لا في النوافل من الصلوات.
وما أعلم أحداً قال: يقطع صلاة الصبح لمن ذكر فيها أنه لم يوتر إلاّ أبا حنيفة وابن القاسم.(5/303)
وأما مالك فالصبح عنده لا يقطع.
وقد قال أبو ثور ومحمد ـ بن الحسن ـ لا يقطع.
وهو قول جمهور أصحابنا وتحصيل مذهبنا.
ولولا إيجاب أبي حنيفة الوتر ما رأى القطع،والله أعلم.)
?
اشتراط النية في الوتر
ذهب أهل العلم في اشتراط النية في الوتر وغيره من النوافل إلى قولين هما:
1. تشترط فيه النيه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية"، ولأن النية شرعت للتمييز بين الفرض والنفل، وكذلك للتمييز بين الفروض من ناحية وبين النوافل من ناحية أخرى.
2. لا يشترط فيه النية، واستدل هؤلاء بما صح عن ابن عمر: "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى".
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث السابق: (وقيل معنى قوله: "إذا خشي أحدكم الصبح ـ أي وهو في شفع ـ فلينصرف على وتره"، وهذا يبني على أن الوتر لا يفتقر إلى نية).
?
عدد ركعات الوتر
يجوز الوتر باحدى عشرة ركعة، وهو أفضلها، وبتسع، وسبع، وخمس، وثلاث، تصلي مثنى مثنى ويوتر بواحدة، وبواحدة، مع اختلاف في الواحدة.
فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة".
وعن أبي أيوب مرفوعاً: "الوتر حق فمن شاء أوتر بخمس، ومن شاء بثلاث، ومن شاء بواحدة".
?
الفصل، والوصل، في صلاة الليل، والوتر
اختلف أهل العلم في وصل وفصل صلاة الليل والوتر في جوازه واستحبابه، وهل هناك فرق بين كيفية نوافل الليل والنهار؟ على أقوال:
أولاً: في صلاة الليل كلها بتسليمة واحدة، إحدى عشرة كانت، أم تسعاً، أم سبعاً، أم خمساً، أم ثلاثاً.
ثانياً: في صلاته أربعاً أربعاً، ثم يوتر بثلاث ،أو واحدة.
ثالثاً: في الأيتار بثلاث بتسليمة واحدة.
رابعاً: وهل هناك فرق بين كيفية نوافل الليل والنهار؟
فمنهم من أجاز ذلك كله، ومنهم من منع، ومن أهل العلم من فصَّل.
قال الحافظ العراقي معلقاً على قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى": (فيه أن الأفضل في نافلة الليل أن يسلم من كل ركعتين، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد، والجمهور، ورواه ابن أبي شيبة عن أبي هريرة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن العباس، وسالم بن عبدالله بن عمر، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعي، وغيرهم؛ وحكاه ابن المنذر عن الليث بن سعد... وقال أبو حنيفة: الأفضل أن يصلي أربعاً أربعاً، وإن شاء ركعتين، وإن شاء ستاً، وإن شاء ثمانية، وتكره الزيادة على ذلك).
وقال ابن عبد البر معلقاً على قول عائشة في صفة صلاته بالليل: "يصلي أربعاً، ثم يصلي أربعاً، ثم يصلي ثلاثاً": (ذهب قوم إلى أن الأربع لم يكن بينها سلام، وقال بعضهم: ولا جلوس إلاّ في آخرها؛ وذهب فقهاء الحجاز وجماعة من أهل العراق إلى أن الجلوس كان منها في كل مثنى والتسليم أيضاً.
إلى أن قال: واختصار اختلافهم في صلاة التطوع بالليل: أن مالكاً، والشافعي، وابن أبي ليلى، وأبايوسف، ومحمد، والليث بن سعد، قالوا: صلاة الليل مثنى مثنى تقتضي الجلوس والتسليم في كل ثنتين.. وقال أبو حنيفة في صلاة الليل إن شئت ركعتين، أوأربعاً، أوستاً، أو ثمانياً، وقال الثوري والحسن بن حي: صل بالليل ما شئت بعد أن تقعد في كل اثنتين، وتسلم في آخرهن).
وقال الحافظ ابن حجر: (وقد اختلف السلف في الفصل والوصل في صلاة الليل أيهما أفضل، قال الأثرم عن أحمد: الذي اختاره في صلاة الليل مثنى مثنى، فإن صلى بالنهار أربعا فلا بأس؛ وقال محمد ابن نصر ونحوه في صلاة الليل قال: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوتر بخمس لم يجلس إلاّ في آخرها إلى غير ذلك من الآحاديث الدالة على الوصل؛ إلاّ أنَا نختار أن يسلم من كل ركعتين، لكونه أجاب به السائل، ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقاً، وقد تضمن كلامه الرد على الأحاديث الدالة الشارح ومن تبعه في دعواهم أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى النافلة أكثر من ركعتين.(5/304)
إلى أن قال: واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلِ ركعة واحدة"، على أن فصل الوتر أفضل من وصله، وتعقب بأنه ليس صريحاً في الفصل.. واحتج بعض الحنفية لما ذهب إليه من تعيين الوصل والاقتصار على ثلاث على أن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما عداه، قال: فأخذنا بما جمعوا عليه وتركنا مااختلفوا فيه؛ وتعقبه محمد بن نصر المروزي بما رواه من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب"، وقد صححه الحاكم من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة، والأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه، واسناده على شرط الشيخين، وقد صححه ابن حبان والحاكم، ومن طريق مقسم عن ابن عباس وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وأخرجه النسائي أيضاً، عن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر، وقال: لا يشبه التطوع الفريضة؛ فهذه الآثار تقدح في الاجماع الذي نقله.
وأما قول محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبراً ثابتاً صريحاً أنه أوتر بثلاث موصولة، نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث، لكن لم يبين الراوي هل هي موصولة أومفصولة، انتهى. فيرد عليه ما رواه الحاكم من حديث عائشة أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يقصد إلاّ في آخرهن. وروى النسائي من حديث أبي بن كعب نحوه ولفظه: "يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد ولا يسلم إلاّ في آخرهن).
?
الخلاصة
أولاً: أن صلاة الوتر تجوز مثنى ورباع والأفضل مثنى مثنى للحديث السابق.
ثانياً: أن الوتر يجوز موصولاً ومفصولاً والفصل أفضل لكثرة أدلته وصحتها.
الوتر بركعة
لأهل العلم قولان في الوتر بركعة، فمنهم أجازه وهو الأرجح وهم الجمهو، ومنهم من منعه وهو قول مرجوح وهم الأحناف.
ودليل الجمهور ما يأتي:
1. حديث أبي أيوب عند أهل السنن مرفوعاً:( الوتر حق،فمن شاء أوتر بخمس، ومن شاء بثلاث، ومن شاء بواحدة.)
2. وبما خرجه البخاري في صحيحه:( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة.)
3. صحعن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، منهم:
• ...
عثمان بن عفان قرأ القرآن كله في ركعة أوتر بها لم يصل غيرها.
• ...
وسعد بن أبي وقاص.
• ...
وتميم الداري.
• ...
وأبو موسى.
• ...
وابن عمر.
• ...
ومعاوية ابن أبي سفيان وصوبه ابن عباس.
قال الحافظ العراقي معلقاًعلى حديث ابن عمر السابق: (فيه حجة على أبي حنيفة رحمه الله في صفة الوتر بركعة واحدة، ومذهب مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور جواز الوتر بركعة فردة. ورواه البيهقي في سننه عن عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وتميم الداري، وأبي موسى الأشعري، وابن عمر، وأبي أيوب الأنصاري، ومعاوية، وأبي حليمة معاذ بن الحارث القارئ، قيل له صحبة؛ ورواه ابن أبي شيبة عن أكثر هؤلاء، وعن ابن مسعود، وحذيفة، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، وابن الزبير، وعائشة، وسعيد بن المسيب، والأوزاعي، واسحاق وأبي ثور.
قال: وقالت طائفة يوتر بثلاث، وممن روينا ذلك عنه عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبي ابن كعب، وأنس بن مالك، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو أمامة، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال أصحاب الرأي.
قلت: وليس في كلام هؤلاء الصحابة منع الوتر بركعة واحدة، قال ابن المنذر: وقال الثوري: أعجب إليّ ثلاث.
وأباحت طائفة الوتر بثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، ثم بسط ذلك، وهذا مذهب أصحابنا الشافعية أنه يحصل الوتر بركعة، وبثلاث، وبخمس، وبسبع، وبتسع، وباحدى عشرة، وهو أكثره، فإن زاد لم يصح وتره).
?
التطوع بركعة واحدة في غير الوتر
ذهب أهل العلم في جواز التطوع بركعة واحدة فردة غير الوتر إلى قولين:
1. لا يجوز التطوع بركعة غير الوتر وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، ورواية عن أحمد.
2. يجوز التطوع بركعة وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه.
استدل المجيزون بما روى عنه صلى الله عليه وسلم: "الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر".
وما رواه البيهقي وغيره أن عمر بن الخطاب مر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فركع ركعة واحدة ،ثم انطلق فلحقه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، ما ركعت إلاّ ركعة واحدة؟! قال: هو التطوع، فمن شاء زاد ومن شاء نقص.
?
من أوتر ثم أراد أن يتنفل
من أوتر ثم أراد أن يتنفل بعد وتره ،لأهل العلم في ذلك قولان هما:
1. يصلي ما شاء الله له أن يصلي لا يحتاج أن يشفع وتره الأول بركعة ولا يوتر بعد أن تنفله لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وتران في ليلة"، لما روي عنه: "أنه كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس".
وهذا هو الراجح لأنه أدى وتره في وقته فلا مجال لشفعه ولا لإعادته والله أعلم، وهذا مذهب أكثر أهل العلم.
2. يشفع وتره بركعة، ثم يصلي ما شاء الله أن يصلي ثم يوتر بعد ذلك.
وهذان القولان رويا عن ابن عمر رضي الله عنهما.(5/305)
قال الحافظ ابن حجر في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "فاركع ركعة توتر لك ما صليت": (اختلف السلف في ذلك في موضعين:
أحدهما: في مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس.
والثاني: فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل في الليل، هل يكتفي بوتره الأول، ويتنفل ما شاء؟ أويشفع وتره بركعة ثم يتنفل؟ ثم إذا فعل ذلك هل يحتاج إلى وتر آخر أم لا؟
فأما الأول: فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس"،وقد ذهب إليه بعض أهل العلم وجعلوا الأمر في قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً"، مختصاً بمن أوتر آخر الليل، وأجاب من لم يقل بذلك بأن الركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر، وحمله النووي على أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر، وبيان جواز التنفل جالساً.
وأما الثاني: فذهب الأكثر إلى أنه يصلى شفعاً ما أراد ولا ينقض وتره، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وتران في ليلة"، وهو حديث حسن.. وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر، وقد تقدم ما فيه، وروى محمد بن نصر من طريق سعيد بن الحارث أنه سأل ابن عمر عن ذلك فقال: إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم فاشفع ثم صلِ ما بدا لك ثم أوتر، وإلاّ فصل وترك على الذي كنت أوترت؛ ومن طريق أخرى عن ابن عمر أنه سئل عن ذلك فقال: أما أنا فأصلي مثنى، فإذا انصرفت ركعت ركعة واحدة، فقيل: أرأيت إن أوترت قبل أن أنام ثم قمت من الليل فشفعت حتى أصبح؟ قال: ليس بذلك بأس).
وقال الحافظ زين الدين العراقي معلقاً على قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى": (مقتضاه أن يكون الوتر آخر صلاة الليل، فلو أوتر ثم أراد التنفل لم يشفع وتره على الصحيح المشهور عند أصحابنا وغيرهم، وقيل يشفعه بركعة ثم يصلي، وإذا لم يشفعه فهل يعيد الوتر آخراً؟ فيه خلاف عند المالكية، وقال الشافعية: لا يعيده لحديث "لا وتران في ليلة").
وقال أبو عيسى الترمذي: (واختلف أهل العلم في الذي يوتر أول الليل،ثم يقوم من آخره، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم نقض الوتر وقالوا يضيف إليها ركعة، ويصلي ما بدا له ،ثم يوتر في آخر صلاته، لأنه لا وتران في ليلة، وهو الذي ذهب إليه إسحاق.
وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إذا أوتر من أول الليل، ثم نام، ثم قام من آخره: أنه يصلي ما بدا له ،ولا ينقض وتره، ويدع وتره على ما كان.
وهو قول سفيان الثوري و مالك بن أنس و أحمد و ابن المبارك.
وهذا أصح لأنه روي من غير وجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد الوتر.)
?
ما يقرأ في الوتر
أرجح الأقوال وأفضلها الوتر بثلاث يفصل بينها ،يختم بها صلاة الليل يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ"سبح اسم ربك الأعلى" وفي الثانية بـ"الكافرون" وفي الثالثة بـ"الاخلاص" وقيل الاخلاص والمعوذتين.
وذلك لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بـ"سبح اسم ربك الأعلى"، و"قل ياأيها الكافرون" و"قل هو الله أحد" في ركعة ركعة."
وعن عبد العزيز بن جريج قال: سألت عائشة: بأي شئ كان يوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟قالت:كان يقرأ في الأولى بـ"سبح اسم ربك الأعلى" وفي الثانية بـ"قل ياأيها الكافرون" والثالثة بـ"قل هو الله أحد" والمعوذتين.)
قال أبو عيسى الترمذي: (والذي اختاره أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أن يقرأ بـ"سبح اسم ربك الأعلى" و"قل ياأيها الكافرون" و"قل هو الله أحد" يقرأ في كل ركعة من ذلك بسورة.)
?
الوتر على الدابة في السفر
لقد رُخِّص للمسافر أن يتنفل على دابته فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه كان يصلي من الليل على دابته وهو مسافر."
وعن ابن جريج قال: حدثنا نافع أن بن عمر كان يوتر على دابته.
وقال ابن جريج: وأخبرني موسى ابن عقبة عن نافع أن ابن عمر كان يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك .
هذا ما ذهب إليه الجمهور ولم يجز الأحناف الوتر خاصة على الدابة .
قال الحافظ ابن حجر: (قال الطحاوي ذكر عن الكوفيين أن الوتر لا يصلى على الراحلة، وهو خلاف السنة الثابتة. واستدل بعضهم برواية مجاهد أنه رأى ابن عمر نزل فأوتر، وليس ذلك معارض لكونه أوتر على الراحلة لأنه لا نزاع أن صلاته على الأرض أفضل.)
ومما يدل على أن أكثر فعل ابن عمر الوتر على الراحلة ما قاله ابن عمر لسعيد بن يسار عندما نزل وأوتر على الأرض: "أليس لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؟ فقلت: بلى والله. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير."(5/306)
قال أبو عيسى الترمذي: (وقد ذهب بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إلى هذا ـ الوتر على الدابة ـ ورأوا أن يوتر الرجل على راحلته. وبه يقول الشافعي وأحمد واسحاق.
وقال بعض أهل العلم: لا يوتر الرجل على راحلته، فإذا أراد أن يوتر، نزل فأوتر على الأرض. وهو قول بعض أهل الكوفة ـ الأحناف ـ).
السفر الذي يبيح القصر والجمع وصلاة النوافل على الدواب هو سفر الطاعة الطويل.
?
القنوت في الوتر
ذهب أهل العلم في القنوت في الوتر مذاهب هي:
1. يقنت في الوتر في جميع السنة، وهذا مذهب ابن مسعود من الصحابة والأحناف.
ودليلهم ما صح عن الحسن بن على رضي الله عنهما: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر:
(اللهم أهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت ـ ولا يعز من عاديت ـ تباركت ربنا وتعاليت.)
2. يقنت في الوتر في شهر رمضان فقط. وهذا مذهب الجمهور والشافعي وأحمد.
3. يقنت في النصف الأخير من رمضان وهذا مذهب علي رضي الله عنه.
4. يقنت ويترك في جميع رمضان.
قال أبو عيسى الترمذي:( ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت شيئاً أحسن من هذا)
واختلف أهل العلم في القنوت في الوتر، فرأى عبد الله بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها، واختار القنوت قبل الركوع، وهو قول بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك واسحاق، وأهل الكوفة.
وقد روي عن علي بن أبي طالب: أنه كان لا يقنت إلاّ في النصف الأخير من رمضان وكان يقنت بعد الركوع.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا وبه يقول الشافعي وأحمد.)
?
أنفس وأشمل ما ألف في الوتر
أنفس وأشمل ما ألف في الأحكام المتعلقة بالوتر من الأقدمين كتاب"أحكام الوتر" للإمام محمد بن نصر المروزي قال عنه الحافظ ابن حجر: (وهو كتاب نفيس في مجلدة.)
-----------
الاعتكاف وأحكامه
تعريف الاعتكاف
مشروعية الاعتكاف
وقته
حكم الاعتكاف
الاعتكاف ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم
أركان الاعتكاف
مبطلات الاعتكاف
ما يكره للمعتكف فعله اتفاقاً
ما اختلف في كراهيته للمعتكف
ما يباح للمعتكف
ما يستحب للمعتكف
أقل الاعتكاف وأكثره
متى يدخل من نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان؟ ومتى يخرج؟
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد..
فإن مواسم الخير، وفرص الفلاح، وطرق النجاح لهذه الأمة كثيرة جداً لمن كانت له همة وعنده عزيمة، فما من شهر من الشهور، بله ولا يوم من الأيام يخلو من تلك الفرص، أويعدم تلك المواسم، سيما شهر الصبر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وتفتح فيه الجنان، وتغلق فيه النيران، وتوصد فيه المردة اللئام، وتعتق فيه الأبدان من النيران.
من تلكم المواسم العظيمة، والفرص النادرة، الاعتكاف، خاصة في العشر الأواخر من رمضان، الذي كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحافظ عليه، ولم يدعه حتى ارتحل إلى الرفيق الأعلى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً".
هذه السنة المؤكدة هجرها كثير من المسلمين، وضيعها جل المصلين، ولله در محمد بن شهاب الزهري حيث قال: "عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله"، مع حاجتهم الماسة إليها، وتيسر الأسباب لدى كثير منهم عليها، لأنها هي الخلوة الشرعية، والرياضة الروحية لهذه الأمة المرحومة.
قال عطاء رحمه الله: "مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم، فجلس على بابه، ويقول لا أبرح حتى تقضى حاجتي، وكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي".
فهلم أمة الإسلام، وإخوة الإيمان، إلى سنة نبيكم التي فيها رضوان ربكم، وإياكم إياكم أن تضيعوها، أوتفرطوا فيها، أوتسوفوا في المبادرة إليها، خاصة وأنتم على أعتاب رمضان، وفي أعتاب عشرته الكرام، هلمُّوا إلى سوق من أسواق الآخرة، وإياكم أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، إياكم أن تستعيضوا عنها بأسواق الدنيا، أوبغرض من أغراضها الفانية، أوبحاجة من حاجاتكم الآنية، هلمَّ إلى موائد الكريم المنان، ودعك من موائد الطعام.(5/307)
ماذا تأمل في هذه الدنيا؟ وقد أمسك صاحبا الصور بقرنيهما ينتظران الأمر من الله كما أخبر نبيك محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى منذ أمد بعيد، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صاحبي الصور بأيديهما ـ أوفي أيديهما ـ قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران"، بل ماذا تنتظر؟ "إلا فقراً منسياً، أوغنى مطغياً، أومرضاً مفسداً، أوهرماً مفنداً، أوموتاً مجهزاً، أوالدجال فشر غائب ينتظر، أوالساعة فالساعة أدهى وأمر".
أنسيتَ الموت أخي المسلم، وأنت ونحن من أبناء الموتى، وقد نعاك الله عز وجل، ومن أصدق من الله قيلاً؟ ومن أصدق من الله حديثاً؟ "إنك ميت وإنهم ميتون" الآية.
تذكر أخي الحبيب دائماً وأبداً هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، تذكر من حضر معك رمضان الماضي من الأحبة والأصدقاء أين هم الآن؟ احمد الله الذي أعطاك هذه الفرصة وقد حرمها الكثيرون، ومن أدراك فلعلها تكون آخر الفرص؟
أقول كل هذا ولا أعلم والله أحداً عنده ما عندي من الغفلة، والتسويف، والذنوب، والآثام، ولا أعلم أحداً أشد حاجة إلى الموعظة والذكرى مني، ونعوذ بالله أن نكون ممن وصفهم الله عز وجل بقوله: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" الآية.
وبعد..
فهذه مذكرة تحوي أهم أحكام الاعتكاف، كتبتها تبصرة لغافل مثلي، وتذكرة لمن يطلع عليها من إخواني المؤمنين الموفقين، عسى أن يشفيَ الله بها من الغفلة، وينفع بها من الجهالة، ويمنح بها من الدعوات الصالحات، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
?
تعريف الاعتكاف
الاعتكاف لغة: هو لزوم الشيء والمكث فيه، قال تعالى: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون"، حسناً كان أم قبيحاً.
والاعتكاف شرعاً: لزوم المسجد والمكث فيه بنية التقرب إلى الله عز وجل، سواء صُحب بصوم أم لا، قال تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد".
?
مشروعية الاعتكاف
الاعتكاف مشروع ودليل مشروعيته الكتاب والسنة.
قال تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" الآية.
وقال: "أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده" الحديث، كما أخرجه البخاري في صحيحه.
?
وقته
يصلح الاعتكاف في طول أيام السنة من غير استثناء، ويستحب في رمضان وفي العشر الأواخر منه.
?
حكم الاعتكاف
الاعتكاف إما أن يكون نذراً أوتطوعاً.
أ . فالنذر حكمه الوجوب، لما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؛ قال: أوف بنذرك"، ولحديث عائشة في البخاري: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه".
ب . أما التطوع فقد ذهب فيه أهل العلم ثلاثة مذاهب بعد اتفاقهم على مشروعيته، هي:
1. سنة مؤكدة، وهذا مذهب ابن شهاب، وأبي حنيفة، وأحمد، وابن بطال وابن العربي المالكيين.
2. مستحب، وهذا مذهب العامة من أهل العلم.
3. جائز، وهذا مذهب طائفة من المالكية.
والراجح أنه سنة مؤكدة، لما روته عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده".
ولما صح عن ابن عمر كذلك: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان".
ولما رواه ابن المنذر عن ابن شهاب: "عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله".
وقال أبوداود عن أحمد: (لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أنه مسنون).
قال ابن بطال رحمه الله: (مواظبته صلى الله عليه وسلم على الاعتكاف تدل على أنه من السنن المؤكدة).
وقال مالك رحمه الله: (ولم يبلغني أن أبا بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا أحداً من سلف هذه الأمة، ولا ابن المسيِّب، ولا أحداً من التابعين، ولا أحداً ممن أدركت من اقتدي به اعتكف، ولقد كان ابن عمر من المجتهدين، وأقام زماناً طويلاً فلم يبلغني أنه اعتكف، إلا أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ولست أرى الاعتكاف حراماً؛ فقيل: لم تراهم تركوه؟ فقال: أراه لشدة الاعتكاف عليهم، لأن ليله ونهاره سواء، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقالوا له: إنك تواصل؟ فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني؛ وقد قالت عائشة حين ذكرت القُبلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم، فقالت: وأيكم أملك لإربه من رسول الله؟ وأنهم لم يكونوا يقوون من ذلك على ما كان يقوى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم).(5/308)
ما قاله الإمام مالك فيه نظر، فقد ثبت أن عدداً من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين ليس بالقليل قد اعتكفوا وداوموا على هذه السنة، سيما في العشر الأواخر من رمضان، ويدل على ذلك تعجب الإمام التابعي الجليل محمد بن شهاب الزهري وهو مدني، حيث قال: "عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله"، والنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة بأبي هو وأمي، فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال مالك وغيره رحمهم الله تعالى.
وتعليل مالك رحمه الله لعدم اعتكاف أولئك النفر من الصحابة فيه نظر هو الآخر، إذ كان هؤلاء من أصحاب العزائم النادرة، والقوة الفائقة، والصبر على الطاعات، وربما كانت لهم موانع سوى ذلك من مهام دينية، أودنيوية أخرى، من مرض ونحوه، كما كان لمالك عذر منعه من شهود الجماعة وهو سلس البول، ولم يبح به إلا في آخر أيامه رحمه الله.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله راداً ودافعاً لما قاله مالك رحمه الله: (وأما قول ابن نافع عن مالك: "فكرت في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدة اتباعهم للأثر فوقع في نفسي أنه كالوصال، وأراهم تركوه لشدته"، وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة، ومن كلام مالك أخذ بعض أصحابه أن الاعتكاف جائز، وأنكر ذلك عليهم ابن العربي، وقال: إنه سنة مؤكدة؛ وكذا قال ابن بطال: في مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تأكيده؛ وقال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن العلماء خلافاً أنه مسنون).
وقال الماوردي رحمه الله: (فالاعتكاف سنة حسنة وقربة مأمور بها غير واجبة، ولا لازمة).
?
الاعتكاف ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم
الاعتكاف عبادة من العبادات لم يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن هاجر إلى المدينة حتى توفاه الله، وهذا يدل على عدم نسخه، ويدل على عدم تخصيصه برسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكاف أزواجه بعده كما صح عن عائشة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه بعده" الحديث.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على حديث عائشة هذا: (ومن الثاني أنه لم ينسخ وليس من الخصائص).
?
شروط صحة الاعتكاف
ما من عبادة إلا ولها شروط صحة، وشروط وجوب، وما من عبادة إلا ولها تحليل وتحريم.
فشروط صحة الاعتكاف هي:
1. الإسلام.
2. العقل.
3. النية.
4. المسجد.
5. الصوم.
6. إذن الرجل لزوجه ومملوكه.
1. الإسلام
شرط لصحة جميع العبادات، لقوله عز وجل: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"، وعندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: "إنك قادم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك في ذلك فأعلمهم أن الله كتب عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة.." الحديث، فرتب العبادات على الإيمان.
فالكافر مطالب أولاً بتوحيد الله عز وجل، ثم بعد ذلك بأداء العبادات.
قال الإمام الشيرازي: (لا يصح من الكافر كالصوم).
2. العقل
لقد رفع الله القلم عن المجنون حتى يفيق، فالمجنون والمغمى عليه لا يستطيعان التمييز بين ما تحله العبادة وما تحرمه.
وقال الشيرازي رحمه الله: (وأما من زال عقله كالمجنون والمبرسم فلا يصح منه لأنه ليس من أهل العبادات، فلا يصح منه الاعتكاف كالصوم).
3. النية
شرط في صحة جميع العبادات، لقوله عز وجل: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين" الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" الحديث.
4. المسجد
أ . للرجل
هو شرط لصحة اعتكاف الرجل إجماعاً، إذ لا يصح اعتكاف رجل إلا في مسجد، سواء كان جامعاً أم ليس بجامع، لقوله عز وجل: "أن طهِّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود"، ولقوله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد".
ولقول عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه إذا أخبية، خباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب، فقال: آلبِرَّ تقولون بهن؟ ثم انصرف فلم يعتكف حتى اعتكف عشراً من شوال"، وفي رواية: "آلبر تردن؟".(5/309)
ولما صحَّ عن علي بن الحسين رضي الله عنهما: "أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما، إنما هي صفية بنت حُيَيّ؛ فقالا: سبحان الله يا رسول الله؛ وكبُر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً".
وبعد إجماعهم على اشتراط المسجد لاعتكاف الرجل اختلفوا في نوعيته إلى مذاهب، هي:
1. في كل مسجد، وهذا مذهب الجمهور أبي حنيفة وأحمد.
2. في المسجد الجامع، وهذا مذهب مالك والشافعي.
3. المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وهذا مذهب حذيفة بن اليمان.
4. المسجد الحرام والمسجد النبوي فقط، وهذا مذهب عطاء.
5. المسجد النبوي، وهذا مذهب ابن المسيب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على ترجمة البخاري "باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها": (أي مشروطية المسجد له من غير تخصيص بمسجد دون مسجد، لقوله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" الآية، ووجه الدلالة من الآية أنه لو صح في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به، لأن الجماع منافٍ للاعتكاف بالإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها.. واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان.
إلى أن قال: وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى المساجد التي تقام فيها الصلوات، وخصه أبو يوسف بالواجب منه، أما النفل ففي كل مسجد، وقال الجمهور بعمومه من كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحب له الشافعي في الجامع، وشرطه مالك، لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، ويجب بالشروع عند مالك، وخصه طائفة من السلف كالزهري مطلقاً، وأومأ إليه الشافعي في القديم، وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجد مكة والمدينة، وابن المسيب بمسجد المدينة).
وقال مالك: (والأمر الذي لا اختلاف فيه أنه لا ينكر الاعتكاف في كل مسجد تجمَّع فيه هذه الجمعة.. فإن مسجداً لا تجمع فيه الجمعة ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواء، فإني لا أرى بأساً في الاعتكاف فيه لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: "وأنتم عاكفون في المساجد"، فعم الله المساجد كلها ولم يخص منها شيئاً).
وقال الماوردي: (أما الاعتكاف فلا يصح إلا في مسجد سابل من جامع أوغيره، وحكي عن حذيفة بن اليمان وابن المسيب أن الاعتكاف لا يصح إلا في ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد إبراهيم عليه السلام، وهو بيت المقدس، وحكي عن الزهري، وحماد، والحكم: أنه لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجمعة، ودليلهم قوله: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، فعم بالذكر جميع المساجد).
والخلاصة أن الاعتكاف للرجل يجوز في كل مسجد تقام فيه الصلوات المكتوبة إذا لم تعترض اعتكافه جمعة، فإن اعترضته جمعة فلابد من مسجد جامع إلا لضرورة، ومن نذر أن يعتكف في مسجد معين اعتكف في أي مسجد عدا المسجد الحرام، فمن نذر الاعتكاف فيه لم يف بنذره إلا إذا اعتكف فيه.
ب . للمرأة
ذهب أهل العلم في اشتراط المسجد لاعتكاف المرأة مذاهب:
1. المسجد شرط لصحة اعتكاف المرأة، وهذا ما ذهب إليه المالكية، والجديد من قولي الشافعي.
2. المسجد ليس شرطاً لاعتكافها، بل لها أن تعتكف في مسجد بيتها، وهذا مذهب أبي حنيفة، والقديم من قولي الشافعي.
3. لها أن تعتكف في المسجد مع زوجها، وهذا قول لأحمد ورواية للأحناف.
4. يكره لها أن تعتكف في المسجد الذي تصلى به جماعة، وهو قول الشافعي.
قال سُحنون: (قلت لابن القاسم: ما قول مالك في المرأة تعتكف في مسجد الجماعة؟ فقال: نعم؛ قال: تعتكف في قول مالك في مسجد بيتها؟ فقال: لا يعجبني ذلك، وإنما الاعتكاف في المساجد التي توضع لله).
وقال الماوردي: (ولا فرق بين الرجل والمرأة، أي في أن اعتكافهما لا يصح إلا في مسجد).
وقال ابن مودود الحنفي رحمه الله: (والمرأة تعتكف في مسجد بيتها، وهو الموضع الذي أعدته للصلاة، ويشترط في حقها ما يشترط في حق الرجل في المسجد، لأن الرجل لما كان اعتكافه في موضع صلاته، وكانت صلاتها في بيتها أفضل، كان اعتكافها فيه أفضل، قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في مسجد بيتها، وصلاتها في مسجد بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها، وصلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في مسجد حيها، وبيوتهن خير لهن لو كن يعلمن".
ولو اعتكفت في المسجد جاز لوجود شرائطه، ويكره لما رويناه).(5/310)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على تبويب البخاري "باب اعتكاف النساء": (أي ما حكمه؟ وقد أطلق الشافعي كراهته لهن في المسجد الذي تصلى فيه الجماعة، واحتج بحديث الباب، فإنه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة، إلا أن ابن عيينة زاد في الحديث –أي حديث الباب- أنهن استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف، لقطعتُ بأن اعتكاف المرأة في مسجد الجماعة غير جائز، انتهى؛ وشرط الحنفية لصحة اعتكاف المرأة أن تكون في مسجد بيتها، وفي رواية لهم أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها، وبه قال أحمد).
الذي يترجح لدي والله أعلم أن المرأة عليها أن تعتكف في مسجد بيتها، أي في عقر دارها، وذلك للآتي:
أولاً: لحديث عائشة رضي الله عنها، الذي جاء فيه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله، فاستأذنت حفصةً عائشةَ أن تضرب خباء، فأذنت لها فضربت خباء، فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر، فلما اصبح النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأخبية، فقال: ما هذا؟ فأخبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آلبرَّ ترون بهن؟ فترك الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكف عشراً من شوال".
وذلك لعدم إقراره صلى الله عليه وسلم لهن ولتركه الاعتكاف في ذلك الشهر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً عليه: (فإنه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة إلا في مسجد بيتها لأنها تتعرض لكثرة من يراها).
ثانياً: قياساً واستحساناً على الصلاة المكتوبة، فإن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد الحي، وصلاتها في مسجد الحي أفضل من صلاتها في مسجد الجماعة، وهكذا، سيما أن الاعتكاف يوجب ملازمة المسجد والمكوث فيه لفترة طويلة، والصلاة الواحدة لا تزيد على ربع ساعة.
ثالثاً: ما أحدثه كثير من النساء في هذا العصر من مزاحمة الرجال ومن عدم التحشم والتستر.
رابعاً: إن اضطرت المرأة للاعتكاف في المسجد سيما في العشر الأواخر من رمضان عليها ألا تعتكف إلا مع زوجها وفي خباء ساتر.
قال ابن قدامة: (وإذا اعتكفت المرأة في المسجد، استحب لها أن تستتر بشيء لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن فضربت في المسجد، ولأن المسجد يحضره الرجال، وخير لهم وللنساء ألا يرونهن ولا يرينهم).
تنبيه: يجوز للعبد، والمرأة، والمسافر، والصبي المميز أن يعتكفوا حيث شاءوا من المساجد لعدم وجوب الجمعة عليهم.
5. الصوم
ذهب أهل العلم في اشتراط الصوم للمعتكف مذاهب:
1. الصوم ليس شرطاً لصحة الاعتكاف، وهو رواية عن أحمد، ومن الصحابة علي وابن مسعود رضي الله عنهما، واستدلوا بما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؛ قال: أوف بنذرك".
2. الصوم شرط لصحة الاعتكاف، وهذا مذهب أبي حنيفة، والأوزاعي، ورواية عن أحمد، ومالك من الأئمة، ومن الصحابة عائشة، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، واستدلوا بما روته عائشة رضي الله عنها ترفعه: "لا اعتكاف إلا بصوم".
3. يستحب الصوم وليس شرطاً، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد.
قال النووي: (قال الشافعي والأصحاب الأفضل أن يعتكف صائماً، ويجوز بغير صوم، وبالليل، وفي الأيام التي لا تقبل الصوم، وهي العيد وأيام التشريق، هذا هو المذهب وبه قطع الجماهير في جميع الطرق).
وقال مجد الدين أبو البركات ابن تيمية رحمه الله: (ويصح بلا صوم، إلا أن يشترطه بنذره، وعنه لا يصح بدونه).
سئل ابن القاسم: (أيكون الاعتكاف بغير صوم في قول مالك؟ فقال: لا يكون إلا بصوم؛ وقال ذلك القاسم بن محمد، ونافع، لقول الله تعالى: "وأتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، فقيل لابن القاسم: ما قول مالك في المعتكف إن أفطر متعمداً، أينتقض اعتكافه؟ فقال: نعم).
وقال الماوردي رحمه الله: (فأما الصوم فغير واجب فيه، بل إن اعتكف مفطراً جاز، وكذلك لو اعتكف في العيدين وأيام التشريق، أواعتكف ليلاً جاز، وهو قول علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، والحسن البصري، وأبي ثور، والمزني، وقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وهو في الصحابة قول ابن عمر، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، أن الاعتكاف لا يصح بغير صوم، ولا في الأيام التي لا يجوز صيامها، تعلقاً بما رواه الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا اعتكاف إلا بصوم"، وبما روي عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله إني نذرت اعتكاف يوم في الجاهلية، فقال: اعتكف وصم".)(5/311)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث ابن عمر السابق: (قوله: "أن اعتكف ليلة"، استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن الليل ليس ظرفاً للصوم، فلو كان شرطاً لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به، وجمع ابن حبَّان بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يوماً أراد بليلته، وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر صريحاً لكن إسنادها ضعيف، وقد زاد فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اعتكف وصم"، أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن بديل وهو ضعيف، وذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار، ورواية من روى يوماً شاذة، وقد وقع في رواية سليمان بن بلال الآتية بعد أبواب "فاعتكف ليلة"، فدل على أنه لم يزد على نذره شيئاً، وأن الاعتكاف لا صوم فيه، وأنه لا يشترط له حد معين.. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بعد أبواب "من لم ير عليه إذا اعتكف صوماً"، وترجمة هذا الباب مستلزمة للثانية لأن الاعتكاف إذا ساغ ليلاً بغير نهار استلزم صحته بغير صيام من غير عكس، وباشتراط الصيام قال ابن عمر، وابن عباس، أخرجه عبد الرزاق عنهما بإسناد صحيح، وعن عائشة نحوه، وبه قال مالك، والأوزاعي، والحنفية، واختلف عن أحمد وإسحاق، واحتج عياض بأنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا بصوم، وفيه نظر، لما في الباب بعده أنه اعتكف في شوال لما سنذكره، واحتج بعض المالكية بأن الله تعالى ذكر الاعتكاف إثر الصوم فقال: "ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، وتعقب بأنه ليس فيها ما يدل على تلازمهما، وإلا لكان لا صوم إلا باعتكاف، ولا قائل به).
الراجح من قولي العلماء أن الصوم ليس شرطاً في صحة الاعتكاف لحديث عمر الصحيح الصريح، فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتكف ليلة مكان الليلة التي نذرها في الجاهلية ولم يصح أنه أمره بصيام، ولكن يستحب لمن أراد الاعتكاف يوماً فأكثر أن يصوم، والله أعمل.
6. إذن الرجل لزوجه ومملوكه
لا يصح اعتكاف امرأة زوجها حاضر شاهد إلا بإذنه، سواء كان الاعتكاف نذراً واجباً أوتطوعاً.
وإذا أذن لها في الاعتكاف فلا يحق له أن يمنعها من مواصلة الواجب منه، أما التطوع فله ذلك، ويستحب ألا يقطعه عليها.
أما إذا اعتكفت بغير إذنه فله إخراجها من معتكفها واجباً كان الاعتكاف أم تطوعاً.
ودليل ذلك حديث عائشة السابق عندما أمر صلى الله عليه وسلم بإزالة أخبية أزواجه ومنعهن من الاعتكاف.
وكذلك العبد والأمة لا يجوز اعتكافهما إلا بعد إذن سيدهما، سواء كان اعتكافهما نذراً أم تطوعاً.
قال الحافظ ابن حجر: (قال ابن المنذر وغيره: في الحديث أن المرأة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها، وأنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يخرجها، وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها، وعن أهل الرأي إذا أذن لها الزوج ثم منعها أثم بذلك، وامتنعت، وعن مالك ليس له ذلك، وهذا الحديث حجة عليهم).
وقال الماوردي رحمه الله: (أما المرأة فليس لها أن تعتكف إلا بإذن زوجها لما يملك من الاستمتاع بها، فإن اعتكفت بغير إذنه كان له منعها، ولو أذن لها في الاعتكاف ثم أراد منعها قبل تمام ذلك جاز له، وإن كان الأولى تمكينها من إتمامه، ولم يجز له ذلك إن كان اعتكافها متتابعاً).
?
أركان الاعتكاف
1. اللبث في المسجد.
2. تجنب الجماع ومقدماته.
3. اجتناب الكبائر.
4. الإسلام.
5. العقل.
6. الطهارة من الحيض.
وعليه فإن الاعتكاف يفسد ويبطل بارتكاب أواختلاف أي واحد منها.
?
مبطلات الاعتكاف
هي:
1. الخروج لغير حاجة الإنسان
لا يجوز لمن شرع في الاعتكاف أن يخرج من معتكفه قبل انقضائه إلا للآتي:
1. قضاء الحاجة، البول والغائط، ولو كثر خروجه لإسهال أوبول لا يضر.
2. لغسل الجنابة ولغسل الجمعة.
3. للأكل والشرب إن لم يقدر على الأكل والشرب في معتكفه.
4 . إذا مرض مرضاً لا يستطيع معه البقاء في المعتكف.
5. إذا تعينت عليه شهادة لا يمكن تأجيلها.
6. إن خاف على نفسه من حريق، أوهدم، أوسرقة، أوحاكم، أونحوه في المسجد.
7. إذا أخرجه الحاكم.
8 . إذا حاضت المرأة.
9. إذا مات زوج المرأة أوطلقت تخرج للعدة في أرجح قولي العلماء، وقيل تجلس حتى تتم اعتكافها.
10. إذا خاف المعتكف فوات الحج خرج وبنى إن كان اعتكافه واجباً، واستأنف إن كان تطوعاً بعد الحج.
11. إن خرج من اعتكافه لأداء عمرة سواء كان في العشر الأواخر وفي غيرها، وسواء كان في الحرم المكي أوفي غيره بطل اعتكافه، لأن الاعتكاف عبادة من لوازمها المكث في المسجد فلا يجوز الخروج منه إلا لحاجة الإنسان.
12 . أن يخرج ناسياً لاعتكافه.
13. إن كان مؤذناً وليس هناك مكبر صوت له أن يخرج من المسجد ويصعد المنارة.
14. إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة خرج للجمعة، فإن كان اعتكافه واجباً فقد بطل ويستأنف بعد.
15. إذا جُنَّ المعتكف أوأغمي عليه يُخرَج من المسجد.(5/312)
قال النووي: (أما إذا جُنَّ فلم يخرجه وليه من المسجد حتى أفاق لم يبطل اعتكافه، قال المتولي: لكن لا يحسب زمان الجنون من اعتكافه).
وذلك لقول عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلى البيت إلا لحاجة الإنسان"، كناية عن البول والغائط.
فإذا صح المريض وطهرت الحائض رجعا إلى معتكفهما وإلا بطل اعتكافهما، وهكذا فكل من خرج لحاجة لابد له من الخروج لها رجع بعد انقضائها مباشرة وإلا بطل اعتكافه.
قال الشافعي رحمه الله: (ويخرج للغائط والبول إلى منزله وإن بَعُد؛ وقال: وإن كانت عليه شهادة فعليه أن يجيب، فإن فعل خرج من اعتكافه؛ وقال أيضاً: وإن مرض، أوأخرجه السلطان واعتكافه واجب فإذا برئ، أوخلي عنه بنى، فإن مكث بعد برئه شيئاً من عذر ابتدأ).
وقال الماوردي في شرح كلام الشافعي السابق: (.. أن يكون مرضه يسيراً يمكنه من المقام معه في المسجدن كالصداع، ووجع الضرس، ونفور العين، فهو ممنوع من الخروج من المسجد، فإن خرج بطل اعتكافه، ولزمه استئنافه لأنه خرج مختاراً لغير حاجة.
والحالة الثانية: أن يكون مرضه زائداً لا يقدر معه على المقام في المسجد، فهذا يجوز الخروج من المسجد إلى منزله، فإذا برئ عاد إلى المسجد وبنى على اعتكافه لأنه خرج غير مختار فصار كالخارج لحاجة الإنسان).
وقال ابن القاسم: (وسألت مالكاً عن المعتكف أيخرج من المسجد يوم الجمعة للغسل؟ فقال: نعم، لا بأس بذلك؛ قال: وسئل مالك عن المعتكف تصيبه الجنابة، أيغسل ثوبه إذا خرج فاغتسل؟ فقال: لا يعجبني ذلك، ولكن يغتسل ولا ينتظر غسل ثوبه وتجفيفه.
قال: وسألت مالكاً عن المعتكف أيخرج ويشتري لنفسه طعاماً إذا لم يكن له من يكفيه؟ فقال لي مالك مرة: لا بأس بذلك؛ ثم قال بعد ذلك: لا أرى ذلك له؛ قال: وأحب إليَّ إذا أراد أن يدخل اعتكافه أن يفرغ من حوائجه.
وقال سُحنون: قلت لابن القاسم: أرأيت معتكفاً أخرج في حد عليه، أوخرج فطلب حداً، أوخرج يقتضي له ديناً، أوأخرجه غريم له، أيفسد اعتكافه في هذا كله؟ فقال: نعم؛ فقال: أتحفظه عن مالك؟ فقال: لا).
وعن ابن شهاب وربيعة قالا: (إذا حاضت المعتكفة رجعت إلى بيتها، فإذا طهرت رجعت إلى المسجد حتى تقضي اعتكافها فهي التي جعلته عليها).
وقال الشافعي رحمه الله: (وإن هلك زوجها خرجت فاعتدت ثم بنت).
وقال الماوردي: (فإن اعتكفت المرأة ثم وجب عليها العدة بطلاق زوجها أووفاته لزمها الخروج إلى منزلها لتقضي فيه عدتها، وقال مالك: تكمل اعتكافها، ثم تخرج لقضاء عدتها، لأن الحقين إذا وجبا قدِّم أقواهما، والعدة أقوى من الاعتكاف).
وقال ابن قدامة: (إن المعتكفة إذا توفي زوجها لزمها الخروج لقضاء العدة، وبهذا قال الشافعي، وقال ربيعة، ومالك، وابن المنذر: تمضي في اعتكافها حتى تفرغ منه ثم ترجع إلى بيت زوجها فتعتد فيه، لأن الاعتكاف المنذور واجب، والاعتداد في البيت واجب، فقد تقدم واجبان فيقدم أسبقهما؛ ولنا أن الاعتداد في بيت زوجها واجب، فلزمها الخروج إليه).
وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لقول عائشة رضي الله عنها: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً" الحديث: (زاد مسلم إلا لحاجة الإنسان، وفسرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لها فتوضأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما القيء والفصد لمن احتاج إليه).
وقال النووي عن مذاهب العلماء في خروج المعتكف من اعتكاف منذور متتابع كصلاة الجمعة، ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا بطلان اعتكافه، وبه قال مالك، وهو رواية عن أبي حنيفة، وقال سعيد بن جبير، والحسن البصري، والنخعي، وأحمد، وعبد الملك من أصحاب أحمد، وابن المنذر، وداود، وأبو حنيفة، في رواية عنه: لا يبطل اعتكافه).
وقال مالك في المطلقة والمتوفى عنها زوجها وهي معتكفة: (تمضي على اعتكافها حتى تفرغ منه، ثم ترجع إلى بيت زوجها وتعتد فيه ما بقي من عدتها).
2. الجماع ومقدماته
أ. الجماع
على المعتكف تجنب الجماع فإنه مفسد للاعتكاف إجماعاً، قال تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون".
قال الحافظ ابن حجر: (نقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع، وروى الطبري وغيره من طريق قتادة في سبب نزول الآية: كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء، فنزلت الآية، إلى أن قال: واتفقوا على فساده بالجماع حتى قال الحسن والزهري: من جامع فيه لزمته الكفارة؛ وعن مجاهد: يتصدق بدينارين، واختلفوا في غير الجماع، ففي المباشرة أقوال ثالثها: إن أنزل بطل وإلا فلا).
فرق بعض أهل العلم بين جماع العامد والناسي فأبطلوا اعتكاف العامد للجماع، ولم يبطلوا اعتكاف الناسي له، وسوَّى بينهما فريق آخر.(5/313)
جاء في المدونة: (قلت: أرأيت إن جامع ليلاً أونهاراً في اعتكافه ناسياً أيفسد اعتكافه؟ قال: نعم، ينتقض ويبتدئ، وهو مثل الظهار إذا وطئ فيه).
وقال الماوردي: (فإن في الفرج فضربان عامد وناسي، فإن وطئ ناسياً لم يبطل اعتكافه؛ وقال أبو حنيفة: يبطل كالعامد، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ولأن الصوم مع تعليقه بالكفارة لا يبطل بوطء النسيان، فكان الاعتكاف بذلك أولى، فإن وطئ عامداً في قبُل أودبر فقد بطل اعتكافه، أنزل أم لم ينزل، لقوله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، وعليه القضاء إن كان واجباً، ولا كفارة عليه، فإن مات قبل القضاء سقط عنه، وهو قول جماعة الفقهاء، وقال الحسن البصري والزهري: عليه كفارة الوطء في رمضان؛ وهذا خطأ، لأن الاعتكاف عبادة، ويتعلق وجوبها بمال، ولا ينوب عنها المال، فوجب ألا تلزم الكفارة بإفسادها كالصلاة).
وقال ابن قدامة: (فإن وطئ في الفرْج متعمداً أفسد اعتكافه بإجماع أهل العلم، حكاه ابن المنذر عنهم، ولأن الوطء إذا حُرِّم في العبادة أفسدها، كالحج والصوم، وإن كان ناسياً فكذلك عند إمامنا، وأبي حنيفة، ومالك، وقال الشافعي: لا يفسد اعتكافه لأنها مباشرة لا تفسد الصوم، فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة فيما دون الفرج، ولنا أن ما حُرِّم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد).
وقال ابن مودود الحنفي: (فإن جامع ليلاً أونهاراً عامداً أوناسياً بطل) أي اعتكافه.
ب. مقدمات الجماع
مقدمات الجماع كالقبلة ونحوها إما أن تكون بشهوة أوبدون شهوة، فإن كانت بشهوة فقد بطل اعتكافه مع تفصيل لأهل العلم في ذلك، وإن لم تكن بشهوة فهو على اعتكافه.
صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: "وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً" الحديث.
فدلَّ على أن الملامسة والمباشرة من غير شهوة لا تبطل الاعتكاف.
قال المزني: قال الشافعي: لا يباشر المعتكف، فإن فعل أفسد اعتكافه.
وقال في موضع من مسائل في الاعتكاف: لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد.
قال المزني: هذا أشبه بقوله، لأنه منهي في الاعتكاف، والصوم، والحج عن الجماع، فلما لم يفسد عنده صوم ولا حج بمباشرة دون ما يوجب الحد أوالإنزال في الصوم كانت المباشرة في الاعتكاف كذلك عندي في القياس).
وقال الماوردي: (وأما المباشرة في غير الفرج فضربان: إحداهما لشهوة، والثاني لغير شهوة؛ فإن كان لغير شهوة كأن مس بدنها لعارض وقبلها عند قدومها من سفر غير قاصد للذة فهذا غير ممنوع).
وقال ابن قدامة: (فأما المباشرة دون الفرج فإن كانت لغير شهوة فلا بأس بها، مثل أن تغسل رأسه، أوتَفْليه، أوتناوله شيئاً.. وإن كانت عن شهوة فهي محرمة).
3. الردة
إذا ارتد المسلم فقد بطل اعتكافه، فإن رجع إلى الإسلام هل يبني على ما مضى أم يستأنف إذا كان اعتكافه واجباً؟ قولان، قال تعالى: "لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين".
4. ارتكاب الكبائر
من ارتكب كبيرة وهو معتكف كالزنا والسرقة فقط بطل اعتكافه، لقوله تعالى: "تلك حدود الله فلا تقربوها" الآية.
قال القرطبي: (والمعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه، لأن الكبيرة ضد العبادة، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة، وترك ما حرم الله تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة، قاله ابن خوَيْزمَنْداد عن مالك).
وقال ابن شهاب الزهري: (وإن أحدث ذنباً مما نهي عنه في اعتكافه فإن ذلك يقطع عنه اعتكافه حتى يستقبله من أوله).
وقال الشافعي في كتاب الأم: (وإذا شرب المعتكف نبيذاً فسكر بطل اعتكافه).
وقال النووي: (ببطلان اعتكاف السكران والمرتد جميعاً بطرآن السكر والردة، لأنهما أفحش من الخروج من المسجد).
5. الجنون والإغماء
إذا جُنَّ المعتكف أوأغمي عليه فقد بطل اعتكافه، وإذا فاق بنى.
قال الماوردي: (فأما إذا جُنَّ المعتكف ثم أفاق فلا يختلف المذهب أنه يبني على اعتكافه، سواء خرج من المسجد في حال جنونه أم لا، وكذلك لو أغمي عليه، أونام طول يومه كان على اعتكافه، غير أن مدة الإغماء غير معتد بها، ومدة النوم معتد بها لأن النائم كالمستيقظ في جريان الحكم عليه، والله أعلم).
6. الحيض
إذا حاضت المرأة فسد اعتكافها، وعليها الخروج من المسجد، فإذا طهرت عادت وبنت، وكذلك لو خرجت لقضاء عدة من طلاق أووفاة عادت بعد انقضاء عدتها وبنت على ما كان من اعتكافها، أما المستحاضة فلا تخرج ولكنها تؤمر بأن تتحفظ.
قال الماوردي: (وإذا حاضت المرأة في اعتكافها خرجت من المسجد، فإذا طهرت عادت إلى اعتكافها، وبنت لأنها مضطرة إلى الخروج ممنوعة المقام، فأما المستحاضة فليس لها الخروج من اعتكافها لأن الاستحاضة لا تمنع من المقام في المسجد وإن خرجت بطل اعتكافها).
وقال الشافعي رحمه الله: (وإن هلك زوجها خرجت فاعتدت ثم بنت).(5/314)
وقال مجد الدين ابن تيمية: (ويسن للمعتكفة إذا حاضت أن تمكث مدة الحيض في خباء تضربه في رحبة المسجد إلا أن تخشى ضرراً، فتمكث في بيتها).
?
ما يكره للمعتكف فعله اتفاقاً
يكره للمعتكف أن يشتغل بغير ذكر الله وما لا بد له منه من حاجات، سيما:
1. الجدل والمراء.
2. السباب والفاحش من القول.
3. اللغو.
4. الغيبة والنميمة.
5. النظر إلى المحرمات.
6. الصمت عن الكلام يوماً إلى الليل تعبداً.
قال ابن قدامة: (ويجتنب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، ولا يكثر الكلام، لأن من كثر كلامه كثر سقطه، وفي الحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، ويجتنب الجدال، والمراء، والسباب، والفحش، فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف، ففيه أولى، ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك.
إلى أن قال:
وقال علي: (أيما رجل اعتكف فلا يساب، ولا يرفث في الحديث، ويأمر أهله بالحاجة وهو يمشي، ولا يجلس عندهم، رواه الإمام أحمد).
?
ما اختلف في كراهيته للمعتكف
1. الاشتغال بالتجارة والاحتراف
اختلف أهل العلم في جواز الاشتغال بالبيع والشراء والاحتراف للمعتكف، فمنهم من أجاز له ذلك ومنهم من كرهه، والراجح كراهة ذلك في المسجد سواء للمعتكف أولغيره، بل المعتكف أولى بالمنع من ذلك من غيره، للحديث عن المساجد: "إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة".
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "جنبوا مساجدكم بيعكم وشراءكم".
قيل لابن القاسم: (ما قول مالك في المعتكف يشتري ويبيع في حال اعتكافه؟ فقال: نعم، إذا كان شيئاً خفيفاً لا يشغله عن عيش نفسه).
أما ما لابد له منه فله أن يشتري أكله وشرابه، ويخيط ثوبه إذا انفتق، وهكذا.
وقال الشافعي: (ولا بأس أن يشتري، ويبيع، ويخيط، ويجالس العلماء، ويحدث بما أحب ما لم يكن مأثماً، ولا يفسده سباب ولا جدال).
وقال النووي عن مذاهب العلماء في بيع المعتكف وشرائه: (قد ذكرنا أن الأصح من مذهبنا كراهته إلا لما لابد منه، قال ابن المنذر: وممن كرهه عطاء، ومجاهد، والزهري، ورخص فيه أبو حنيفة، وقال سفيان الثوري وأحمد: يشتري الخبزإذا لم يكن له من يشتري له، وعن مالك رواية كالثوري، ورواية يشتري ويبيع اليسير، قال ابن المنذر: وعندي لا يبيع ولا يشتري إلا ما لابد له منه إذا لم يكن له من يكفيه لقضاء حاجة الإنسان فباع واشترى في مروره لم يكره، والله أعلم).
وقال الخرقي: (والمعتكف لا يتجر، ولا يكتسب بالصنعة).
قال ابن قدامة في شرح ما قال الخرقي: (وجملته أن المعتكف لا يجوز له أن يبيع ولا يشتري إلا ما لابد له منه، قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: المعتكف لا يبيع ولا يشتري إلا ما لابد له منه، طعام ونحو ذلك، التجارة، والأخذ، والعطاء، فلا يجوز شيء من ذلك.
وقال الشافعي: لا بأس أن يبيع، ويشتري، ويخيط، ويتحدث، ما لم يكن مأثماً؛ ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع والشراء في المسجد، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، ورأى عمران القصير رجلاً يبيع في المسجد، فقال: يا هذا، إن هذا سوق الآخرة، فإن أردت البيع فاخرج إلى سوق الدنيا؛ وإذا منع من البيع والشراء في غير حال الاعتكاف، ففيه أولى.
فأما الصنعة فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز منها ما يكتسب به، لأنه بمنزلة التجارة بالبيع والشراء، ويجوز ما يعمله لنفسه كخياطة قميصه ونحوه.
وقد روى المروزي قال: سألت أبا عبد الله عن المعتكف، ترى له أن يخيط؟ قال: لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل؛ وقال القاضي: لا تجوز الخياطة في المسجد، سواء كان محتاجاً إليها أولم يكن، قلَّ أوكثر، لأن ذلك معيشة، أوتشغل عن الاعتكاف، فأشبه البيع والشراء فيه.
والأولى أن يباح له ما يحتاج إليه من ذلك إذا كان يسيراً، مثل أن ينشق قميصه فيخيطه، أوينحل شيء يحتاج إلى ربط فيربطه، لأن هذا يسير تدعو الحاجة إليه، فيجري مجرى لبس قميصه وعمامته وخلعهما).
?
2. زيارة المريض، وشهود الجنائز إذا كانت خارج المسجد وتشييعها
اختلف أهل العلم كذلك في جواز ذلك للمعتكف، فمنهم من منعه عن ذلك وهو الراجح لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه، ومنهم من أجاز له ذلك.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً".(5/315)
قال الحافظ ابن حجر: (واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لهما فتوضأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما القيء والفصد لمن احتاج إليه، ووقع عند أبي داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه"، قال أبو داود: غير عبد الرحمن لا يقول فيه البتة؛ وجزم الدارطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها: "لا يخرج إلا لحاجة" وما عداه ممن دونها، وروينا عن النخعي والحسن البصري: إن شهد المعتكف جنازة أوعاد مريضاً أوخرج لجمعة بطل اعتكافه؛ وبه قال الكوفيون، وابن المنذر في الجمعة، وقال الثوري، والشافعي، وغسحاق: إن شرط شيئاً من ذلك في ابتداء اعتكافه لم يبطل اعتكافه بفعله، وهو رواية عن أحمد).
وقال ابن القاسم: (وسألت مالكاً عن المعتكف أيصلي على الجنائز وهو في المسجد؟ فقال: لا يعجبني أن يصلي على الجنائز وإن كان في المسجد؛ قال ابن نافع: قال مالك: وإن انتهى إليه زحام الناس الذين يصلون على الجنازة وهو في المسجد فإنه لا يصلي عليها، ولا يعود مريضاً معه في المسجد إلا أن يصلي إلى جنبه فيسلم عليه؛ قال: وقال مالك: لا يعود المعتكف مريضاً ممن هو في المسجد معه، ولا يقوم إلى رجل يعزيه بمصيبة، ولا يشهد نكاحاً يعقد في المسجد يقوم إليه في المسجد، ولكن لو غشيه ذلك في مجلسه لم أر بأساً؛ قال: ولا يقوم إلى الناكح فيهنئه، ولا بأس أن ينكح المعتكف، ولا يشغل في مجالس العلم.
قال: فقيل له: أفيكتب العلم في المسجد؟ فكره ذلك؛ قال سُحنون: وقال ابن نافع في الكتاب: إلا أن يكون الشيء الخفيف، والترك أحب إليه، قال ابن وهب عن مالك: وسئل عن المعتكف يجلس في مجلس العلماء ويكتب العلم؟ فقال: لا يفعل ذلك إلا أن يكون الشيء الخفيف والترك أحب إليَّ؛ قال سُحنون عن ابن وهب عن محمد بن عمر، وعن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: لا باس أن تنكح المرأة وهي معتكفة ويقول إنما هو كلام).
وقال الشافعي: (ولا يعود المريض، ولا يشهد الجنازة إذا كان اعتكافه واجباً).
قال الماوردي: (أما عيادة المريض في المسجد أوحضور جنازة في المسجد فلا يمنع منه المعتكف، فأما إن خرج من المسجد لعيادة مريض أوحضور جنازة من غير شرط كان في نيته لم يخل حاله من أحد أمرين:
o إما أن يكون من ذوي رحمه، وليس له من يقوم بمرضه أوبدفنه، فهو مأمور بالخروج لأجله، وإذا خرج عاد وبنى على اعتكافه، كالعدة التي تخرج المرأة لأجلها ثم ترجع فتبني، وفيه وجه آخر أنه يستأنف.
o وإما أن يون بخلاف ذلك، فهو ممنوع من عيادته وحضور جنازته، فإن خرج بطل اعتكافه.
وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: (إذا اعتكف الرجل لا يخرج من اعتكافه إلا لحاجة الإنسان، وأجمعوا على هذا، أنه يخرج لقضاء حاجته للغائط والبول، ثم اختلف أهل العلم في عيادة المريض وشهود الجمعة والجنازة للمعتكف، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن يعود المريض، ويشيع الجنازة، ويشهد الجمعة إذا اشترط ذلك، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك.
وقال بعضهم: ليس له أن يفعل شيئاً من هذا، ورأوا للمعتكف إذا كان في مصر يجمَّع فيه أنه لا يعتكف إلا في المسجد الجامع، لأنهم كرهوا له الخروج من معتكفه إلى الجمعة، ولم يروا له أن يترك الجمعة، فقالوا: لا يعتكف إلا في المسجد الجامع، حتى لا يحتاج إلى أن يخرج من معتكفه لغير قضاء حاجة الإنسان، لأن خروجه لغير قضاء حاجة الإنسان قطع عندهم للاعتكاف، وهو قول مالك والشافعي.
وقال أحمد: لا يعود المريض، ولا يتبع الجنازة على حديث عائشة.
وقال إسحاق: إن اشترط ذلك فله أن يتبع الجنازة ويعود المريض).
وقال ابن قدامة رحمه الله: (في الخروج لعيادة المريض وشهادة الجنازة مع عدم الاشتراط، اختلفت الرواية عن أحمد في ذلك، فروي عنه ليس له فعله، وهو قول عطاء، وعروة، ومجاهد، والزهري، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وروى عنه الأثرم ومحمد بن الحكم أن له أن يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويعود إلى معتكفه، وهو قول علي رضي الله عنه، وبه قال سعيد بن جبير، والنخعي، والحسن، لما روى عاصم بن حمزة عن علي قال: إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة، وليعد المريض، وليحضر الجنازة، وليأت أهله، وليأمرهم بالحاجة وهو قائم).
3. اشتراط المعتكف قطع اعتكافه أوالخروج لما له بد منه
الاشتراط يكون في الخروج منه وفي نذر التطوع في الخروج من المسجد لغير حاجة الإنسان، فهو نوعان:
1. أن يشترط قطع اعتكافه بأن يقول: لله عليَّ اعتكاف عشرة أيام متتاليات إلا أن يعرض لي كذا وكذا فأقطع.
2. أن يشترط الخروج من معتكفه لغير حاجة الإنسان فيقول: لله عليَّ اعتكاف عشرة أيام متتاليات إلا أن يعرض لي كذا وكذا فأخرج ثم أعود.(5/316)
فمن أهل العلم من أجاز للمعتكف أن يشترط لقطع اعتكافه والخروج من معتكفه لفعل مباح، ومنهم من منع عن ذلك.
قال مالك رحمه الله: (لم أسمع أن أحداً من أهل العلم يذكر أن في الاعتكاف شرطاً لأحد، وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال كهيئة الصلاة، والصيام، والحج، فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل فيه بما مضى من السنة في ذلك، وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه الأمر بشرط يشترطه أوبأمر يبتدعه، وإنما الأعمال في هذه الأشياء بما مضى فيها من السنة، وقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المسلمون سنة الاعتكاف)، يعني ولم يشترطوا.
وقال الشافعي رحمه الله: (ولا بأس أن يشترط في الاعتكاف الذي أوجبه بأن يقول: إن عرض لي عارض خرجت).
وقال الماوردي رحمه الله: (وجملة الاعتكاف ضربان: واجب وتطوع، فأما التطوع فلا يفتقر إلى شرط الخيار في المقام على اعتكافه والخروج منه، وأما الواجب فهو النذر وهو على ضربين:
o مطلق بغير شرط.
o ومقيد بشرط.
فالمطلق بغير شرط فهو ممنوع فيه من الخروج إلا لحاجة الإنسان، فإن خرج لغيرها بطل اعتكافه، وأما المقيد بشرط فهو على ضربين:
o أحدهما أن يشترط قطع اعتكافه.
o والثاني أن يشترط الخروج منه.
إلى أن قال: فإذا تقرر جواز اشتراط الخروج من الاعتكاف دون ما سواه من العبادات، لم يخل حال ما اشترطه وخرج له من أحد أمرين: إما أن يكون محظوراً أومباحاً، فإن كان مباحاً كاستقبال قادم، أواقتضاء غريم، ولقاء سلطان، أوكان مستحباً كعيادة مريض، وتشييع جنازة، أوكان واجباً كحضور الجمعة، جاز، ولزمه العود إلى اعتكافه والبناء عليه، وتكون مدة خروجه مستثناة بالشرع، وإن كان محظوراً فعلى ضربين:
o أن ينافي الاعتكاف، كالوطء، فإن خرج من اعتكافه ووطئ بطل اعتكافه ولزمه استئنافه.
o والضرب الثاني: أنه لا ينافي الاعتكاف ولكنه ينقصه كالسرقة وقتل النفس المحرمة، ففي بطلان اعتكافه وجهان: أحدهما قد بطل، والوجه الثاني: لا يبطل وله البناء عليه).
وقال ابن قدامة رحمه الله: (إذا اشترط فعل ذلك في اعتكافه فله فعله، واجباً كان الاعتكاف أوغير واجب، وكذلك ما كان قربة، كزيارة أهله، أورجل صالح، أوعالم، أوشهود جنازة، وكذلك ما كان مباحاً كالعَشَاء في منزله، والمبيت فيه، فله فعله، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن المعتكف يشترط أن يأكل في أهله؟ قال: إذا اشترط فنعم؛ قيل له: وتجيز الشرط في الاعتكاف؟ قال: نعم؛ قلت له: فيبيت في أهله؟ قال: إذا كان تطوعاً جاز.
وممن أجاز أن يشترط العشاء في أهله الحسن، والعلاء بن زياد، والنخعي، وقتادة، ومنع منه أبو مِجْلَز، ومالك، والأوزاعي.
قال مالك: لا يكون في الاعتكاف شرط، ولنا أنه يجب بعقده، فكان الشرط كالوقوف، ولأن الاعتكاف لا يختص بقدر، فإذا شرط الخروج فكأنه نذر القدر الذي أقامه، وإن قال: متى مرضت أوعرض لي عارض خرجت جاز شرطه.
وإن شرط الوطء في اعتكافه، أوالفرجة، أوالنزهة، أوالبيع للتجارة، أوالتكسب بالصناعة في المسجد لم يجز.
?
ما يباح للمعتكف
يباح للمعتكف ما يأتي:
1. التنظف وتغيير الثياب ولبس ما شاء منها.
2. الأكل والشرب في المسجد.
3. محادثة الإخوان والأنس معهم.
4. أن يخطب ويتزوج.
5. أن يصعد إلى سطح المسجد أوينزل في قبوه.
6. الحلق وتقليم الأظافر.
7. التطيب.
?
ما يستحب للمعتكف
1. يستحب للمعتكف أن يعتكف في خباء وستر، وإن لم يتمكن من ذلك كما هو الحال في الحرمين الشريفين فعليه أن يلزم مكاناً ساتراً معيناً واحداً لا يتركه إلا لضرورة، وعليه أن يتجنب المداخل، ومناطق الصلاة، والزحام، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
2. المحافظة على الصلوات المكتوبة، والسنن الرواتب، والنوافل.
3. الإكثار من تلاوة القرآن.
4. لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله.
5. الصيام في غير رمضان لمن اعتكف نهاراً.
6. الاجتهاد في الطاعات عموماً والإكثار منها.
7. لا يشتغل بما لا حاجة له به.
?
أقل الاعتكاف وأكثره
لا حدَّ لأقل اعتكاف التطوع ولا لأكثره، ولكن السنة لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان ألا يخرج إلا بعد ثبوت هلال شوال، ولأهل العلم في أقل الاعتكاف مذاهب بعد أن أجمعوا ألا حد لأكثره، فمنهم من قال أقله لحظة، ومنهم من قال ساعة، ومنهم من قال يوم وليلة، ومنهم من قال أقله عشرة أيام، وهكذا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (واتفقوا على أنه لا حد لأكثره، واختلفوا في أقله، فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم؛ ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم؛ حكاه ابن قدامة، وعن مالك يشترط عشرة أيام، وعنه يوم أويومان، ومن لم يشترط الصوم قالوا: أقله ما يطلق عليه اسم لبث، ولا يشترط القعود، وقيل يكفي المرور مع النية كوقوف عرفة.
وروى عبد الرزاق عن يَعْلَى بن أمية الصحابي أنه قال: "إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا لأعتكف".(5/317)
وقال القرطبي رحمه الله: (أقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة، فإن قال: لله عليَّ اعتكاف ليلة، لزمه اعتكاف ليلة ويوم، وكذلك إذا نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة، وقال سُحنون: من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه، كما قال سُحنون؛ وقال الشافعي: عليه ما نذر، إن نذر ليلة فليلة، وإن نذر يوماً فيوماً؛ قال الشافعي: أقله لحظة ولا حد لأكثره.
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يصح الاعتكاف ساعة، وعلى هذا القول فليس من شرطه الصوم، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول داود بن علي وابن علية، واختاره ابن المنذر وابن العربي).
وقال ابن مودود الحنفي رحمه الله: (ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام لزمته بلياليها متتابعة، ولو نوى النهار خاصة صُدِّق).
?
متى يدخل من نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان؟ ومتى يخرج؟
أ. متى يدخل معتكفه؟
ذهب أهل العلم في دخول المعتكف العشر الأواخر من رمضان المسجد مذهبين:
الأول: يدخل بعد صلاة فجر يوم واحد وعشرين من رمضان، وهذا مذهب الأوزاعي، والليث، والثوري، وأحمد، وإسحاق من الأئمة، وحجتهم حديث عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه".
وخرَّج البخاري في صحيحه عن عائشة كذلك قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان، فإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي اعتكف فيه".
وهذا هو الراجح.
الثاني: يدخل قبيل غروب شمس ليلة إحدى وعشرين من رمضان، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وطائفة من أهل العلم، وأولوا حديث عائشة بتأويلات مختلفة، كلها فيها نظر.
قال الحافظ الترمذي معلقاً على حديث عائشة السابق: (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، يقولون: إذا أراد الرجل أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه، وهوقول أحمد، وإسحاق بن إبراهيم.
وقال بعضهم: إذا أراد أن يعتكف فلتغب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها من الغد وقد قعد في معتكفه، وهو قول الثوري ومالك بن أنس).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث عائشة السابق: (وفيه أن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، وهو قول الأوزاعي، والليث، والثوري، وقال الأئمة الأربعة وطائفة: يدخل قبيل غروب الشمس، وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل، ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح).
وقال القرطبي رحمه الله: (اختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين، وقال أبو ثور: إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس، وقال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم: إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم؛ وقال مالك: وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوماً أوأكثر.
إلى أن قال: وحديث عائشة يرد هذه الأقوال، وهي الحجة عند التنازع، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته).
وقال مالك: (.. أن يدخل الذي يريد الاعتكاف في العشر الأواخر حين تغرب الشمس من ليلة إحدى وعشرين، ويصلي المغرب فيه).
وقال الشافعي رحمه الله: (ومن أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل فيه قبل الغروب، فإذا أهل هلال شوال فقد أتم).
ب. متى يخرج من معتكفه؟
يخرج المعتكف في العشر الأواخر من رمضان بعد ثبوت هلال شوال، واستحب له طائفة من أهل العلم أن يبقى في معتكفه حتى يصلي العيد.
قال مالك رحمه الله: (ثم يقيم فيخرج حتى يفرغ من العيد إلى أهله، وذلك أحب الأمر إليِّ فيه).
وقال القرطبي: (استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى، وبه قال أحمد، وقال الشافعي والأوزاعي: يخرج إذا غابت الشمس، ورواه سُحنون عن ابن القاسم، لأن العشر يزلن بزوال الشهر، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان.
وقال سُحنون: إن ذلك على الوجوب، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه؛ وقال ابن الماجشون: وهذا يرده ما ذكرناه من انقضاء الشهر، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر، وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطاً في صحة الاعتكاف).
تنبيه: أما ما سوى العشر الأواخر فعلى المعتكف إتمام ما نوى وحدد من أيام وليالٍ.
?
خاتمة
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد..
إن كان تعجب ابن شهاب رحمه الله من ترك المسلمين للاعتكاف مع مداومته صلى الله عليه وسلم عليه منذ أن هاجر إلى المدينة وإلى أن توفاه الله، فتعجبي اليوم أشد من أولئك النفر من إخواننا المسلمين الذين يحرصون على الاعتمار في ليلة سبع وعشرين من رجب، وإحياء ليلة النصف من شعبان، وصوم نهارها، ونحو ذلك من الأمور المحدثة التي لم يصح فيها دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع تركهم وتهاونهم في هذه السنة المؤكدة.(5/318)
وأعجب من هؤلاء أولئك الذين يكررون العمرة المكية مرات عديدة، وقد تنازع العلماء في صحتها، ويَدَعُون الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، مع العلم أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يعتمر قط في رمضان، مع ما ورد عنه من الاعتمار فيه من فضل وثواب، على أنه لم يترك الاعتكاف قط منذ أن شرعه وإلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.
فليت شعري لِمَ يحرص بعض المسلمين، هدانا الله وإياهم، على المحدثات، ويفرطون ويتهاونون في السنن المؤكدات، هذا على الرغم من التحذير الشديد والوعيد الأكيد في النهي عن الابتداع في الدين، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" الحديث، وقوله: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة" الحديث.
ولله در الإمام مالك، فقد كان كثيراً ما كان ينشد:
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
فاعلم أخي الحبيب أن الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الاتباع، وأن عملاً قليلاً في سنة خير من عمل كثير في بدعة، وأن ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً، وأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وجنبنا الزلل، والابتداع، والردى، وصلى الله وسلم وبارك على إمام الرحمة والهدى.
------
احذر أخي المسلم .. أهون الصيام ترك الطعام
الحمد لله الذي فرض علينا الصيام، وسن لنا القيام، وجعل ذلك كفارة لما تقدم من الذنوب والآثام، فقال صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وصلى الله وسلم وبارك على خير من صلى وقام، محمد بن عبد الله، خيرته من الملائكة والإنس والجان.
اعلم أخي الكريم الموفق إلى الخيرات أن أهون الصيام ترك الطعام والشراب، وهو صوم العوام، إذ الصوم أنواع ودرجات، هي:
1. صيام العوام، وهو الصوم عن الأكل، والشرب، والجماع، مع الانغماس فيما سوى ذلك من المحرمات.
2. صيام خواص العوام، وهو هذا مع اجتناب المحرمات من الأقوال والأفعال.
3. صيام الخواص، وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته.
4. وصيام خواص الخواص، وهو الصوم عن غير الله، فلا فطر لهم إلا يوم القيامة.
ولهذا قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، الناصح الأمين: "مَنْ لَمْ يَدَع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامه وشرابه".
وقال: "كم من صائم ليس له حظ من صومه إلا الجوع والعطش، وكم من قائم ليس له حظ من قيامه إلا السهر والتعب" أوكما قال.
ولهذا شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم الصوم بالجُنَّة، فإن الصوم الحقيقي يمنع من قبيح الأقوال والأفعال، كما تمنع الجنة المقاتل من سهام الأعداء، فقال: "الصيام جُنَّة، فلا يرفث ولا يفسق، وإن امرؤ قاتله أوشاتمه فليقل إني صائم مرتين" الحديث، وقال جابر رضي الله عنه: "إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء".
ولله در القائل:
إذا لم يكن في السمع مني تصاون وفي بصري غضٌ وفي منطقي صمتُ
حظي إذاً من صومي الجوع والظمأ فإن قلتُ إني صمتُ يومي فما صمتُ
خرج الإمام أحمد في مسنده: أن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكادتا أن تموتا من العطش، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض، ثم ذكرتا له، فدعاهما فأمرهما أن يتقيئا، فقاءتا ملء قدح قيحاً، ودماً صديداً، ولحماً عبيطاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا يأكلان لحوم الناس" الحديث، وهذا بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه".
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (ولهذا المعنى والله أعلم ورد بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان بخلاف الطعام والشراب، فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار رمضان فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل، فإنه محرم بكل حال، لا يباح في وقت من الأوقات).
اعلم أخي الكريم أن من تقرب إلى الله بترك المباحات –في غير رمضان- وانغمس فيما حرم الله عليه في طول الأعوام، نحو الكذب، والغيبة، والنميمة، وظلم الناس، مثله كمثل من ترك الفرائض وتقرب إلى الله بالنوافل، فإن تقربه هذا مردود عليه، وكذلك حال من صام عن المباحات واقترف المحرمات في شهر رمضان.(5/319)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" لا مفهوم له، وهو مثل قوله: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، فليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه، وإنما معناه التحذير والتهديد من قول الزور، وهو نحو قوله تعالى: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لا يؤمر بترك الصلاة، وإنما يؤمر بتحسينها وأدائها على الوجه الأكل لتنهاه كما نهت من سلف، فوعد الله حق، وقوله صدق.
ولقد أوَّل أهل العلم هذه الجملة: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" بتأويلات وجيهة ومخيفة كلها، وهي:
1. كناية عن عدم القبول لصيامه.
2. أن فاعل ذلك لا يثاب على صيامه، وإن أدى الواجب في الظاهر.
3. لا ينظر إليه الله نظر قبول.
فعليك أخي المسلم أن لا ترضى بأهون الصيام، وبصيام عوام العوام، وعليك أن تسعى لصيام خواص الخواص.
وأخيراً اسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يبارك لنا ولكم فيما تبقى من شعبان، وأن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا على الصيام والقيام، وأن يعيد علينا وعليكم رمضان سنين عديدة وأزماناً مديدة، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام، وأن يعز الإسلام ويذل المستكبرين المتجبرين من عبدة الأهواء، والصليب، والأوثان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على سيد ولد عدنان، وتقبل الله منا ومنكم الطاعات، والسلام
-------
الممسكون كثير.. والصائمون قليل
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، وبعد..
قيل لابن عمر رضي الله عنهما في موسم من المواسم: الحاج كثير! فقال ابن عمر: الركب كثير، والحاج قليل.
وكذلك قال بعض أهل العلم: العلماء كثير، والحكماء قليل!
وأقول: الممسكون كثير، والصائمون قليل!
وذلك لأن الصيام له مفطرات ومفسدات حسية توجب القضاء، ومنها ما يوجب القضاء والكفارة، كالأكل، والشرب، والجماع.
ومنها مفطرات ومفسدات معنوية لا توجب قضاء ولا كفارة، ولكنها تحول دون قبول الصوم، وتبطل أجره أوتنقصه، وهي المعاصي والآثام، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
• ... "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه".
• ... "كم من صائم ليس له حظ من صومه إلا الجوع والعطش، وكم من قائم ليس له حظ من قيامه إلا السهر والتعب".
• ... "فإن كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، وإن سابَّه أحد أوشاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم".
المفسدات المبطلات التي تحول دون قبول الصوم وتذهب بأجره كله أوبعضه كثيرة جداً، وذلك لأن النهي عن قول الزور كناية وإشارة إلى النهي عن جميع الكبائر والآثام، وسنذكر في هذه العجالة أخطر تلك المفسدات من الكبائر التي عمت بها البلوى، على سبيل المثال لا الحصر، وهي:
• ... أكل الحرام، نحو الربا، والرشوة، والمال المسروق والمغصوب، وغيرها.
• ... الغيبة والنميمة.
• ... قول الزور، وشهادة الزور، والكذب.
• ... التهاون في صلاة الجماعة، سيما الصبح والعشاء.
• ... عقوق الوالدين.
• ... قطيعة الرحم.
• ... أذى الجار.
• ... السماع إلى الغناء والموسيقى.
• ... السماع الصوفي الملحن المصحوب بالآلات الموسيقية، كالنوبة والطار ونحوهما، والرقص فيه، أما إنشاد القصائد الزهدية الخالية من الغلو من غير تلحين فلا غبار عليه.
• ... خروج المرأة سافرة متعطرة.
• ... اختلاط النساء بالرجال.
• ... الخلوة بالمرأة الأجنبية ومصافحتها والنظر إليها.
• ... مشاهدة المسلسلات الهابطة.
• ... اللعب بالورق ونحوه.
وعلى هذا قس، وهذه الأمور محرمة في رمضان وفي غير رمضان، وإن كانت حرمتها في رمضان أشد، نسأل الله أن يجعلنا وجميع إخواننا المسلمين من الصائمين القائمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام.
***************
الباب الثالث عشر - ركن المعاملات
مَنْ ظُلم ثم وجد فرصة فيمن ظلمه
حقوق الآدميين
أولاً: القصاص والجنايات
ثانياً: الحقوق المالية
إن لم يكن له شيء من الشهود والبينات
أ. إن ظفر بعين ماله
ب. إن لم يظفر بعين ماله
ثالثاً: الحقوق غير المالية
الحمد لله الذي حرَّم الظلم وجعله بيننا محرماً، فأمر أن لا نتظالم، وجعل كل المسلم على المسلم حراماً، دمه، وماله، وعرضه، وصلى الله وسلم على من حذر أمته من الظلم والتعدي فقال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".
وقال: "من ظلم قيد شبر من الأرض طوَِّقه من سبع أرضين".
وقال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".
وأمر برد المظالم في الدنيا إلىأهلها والتحلل منها قبل الآخرة، حيث يكون ذلك بالحسنات والسيئات.(5/320)
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أومن شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع؛ فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يَقْضِي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار".
حقوق الآدميين
حقوق الآدميين ثلاثة أنواع، هي:
1. قصاص وجنايات.
2. حقوق مالية.
3. حقوق غير مالية، بأن ينتقص المرء في عرضه، أوماله، أوبدنه، أوأهله، بغيبة أونميمة أوبهتان ونحو ذلك.
أولاً: القصاص والجنايات
أجمع أهل العلم أن أمور القصاص والجنايات هي وقف على الحكام، فلا يحل لأحد أن يقتص من أحد بنفسه، لما في ذلك من المفاسد العظيمة، والأخطار الجسيمة، نحو إثارة النعرات والثارات، أويعفو "فمن عفا وأصلح فأجره على الله".
ثانياً: الحقوق المالية
فللمرء كذلك أن يعفو عن المعتدين الظالمين، وهذا أفضل، أويرفع أمره إلى ولاة الأمر إذا كان عنده من الشهود والبينات ما يثبت بها هذه الحقوق.
إن لم يكن له شيء من الشهود والبينات
أما إن لم يكن للمظلوم المعتدى عليه شيء من البينات والشهود، ثم وجد فرصته في مال وحق من ظلمه، هل يأخذ حقه منه من غير علمه ورضاه أم لا؟
أ. إن ظفر بعين ماله
قولان لأهل العلم هما:
الأول: له ذلك
وإلى هذا ذهب طائفة من أهل العلم، منهم:
1. ابن سيرين.
2. إبراهيم النخعي.
3. سفيان الثوري.
4. مجاهد.
5. الإمام الشافعي.
6. ورواية في مذهب مالك حكاها عنه الداودي.
7. أبو بكر بن المنذر الفقيه الشافعي.
8. وأبو بكر بن العربي الفقيه المالكي.
9. القرطبي المفسر.
واستدل هذا الفريق بالآتي:
1. قوله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به".
2. وقوله تعالى: "والحرمات قصاص".
3. وقوله تعالى: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".
4. وبقوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له في البيعة: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف"، وهو في الصحيح.
5. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، وأخذ الحق من الظالم نصر له.
الثاني: ليس له ذلك
وهذا مذهب:
1. أبي حنيفة.
2. وعطاء الخرساني.
3. ومالك في المشهور عنه
ومن وافقهم.
واستدل هذا الفريق بالآتي:
1. قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها".
2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"، الحديث.
3. سداً للذرائع لأن مثل هذا التصرف قد يؤدي إلى مفاسد عظمى.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "والحرمات قصاص": (والقصاص المساواة، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع، فـ"الحرمات قصاص" على هذا متصل بما قبله ومتعلق به، وقيل هو مقطوع منه، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام: أن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك، ثم نسخ ذلك بالقتال، وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجاز لمن تُعدي عليه في مال أوجرح أن يتعدى بمثل ما تُعدي به عليه إذا خفي له ذلك، وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شيء، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك، وقالت طائفة من أصحاب مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام، والأموال يتناولها قوله صلى الله عليه وسلم: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"، خرجه الدارقطني وغيره، فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمن عليه، وهو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة تمسكاً بهذا الحديث، وقوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، وهو قول عطاء الخرساني، قال قدامة ابن الهيثم: سألتُ عطاء بن ميسرة الخرساني فقلت له: لي على رجل حق، وقد جحدني به، وقد أعيا عليَّ البينة، أفأقتص من ماله؟ قال: أرأيت لو وقع بجاريتك، فعلمت، ما كنت صانعاً؟
قلت: والصحيح جواز ذلك كيفما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقاً، وهو مذهب الشافعي، وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة، وإنما هو وصول إلى حق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، وأخذ الحق من الظالم نصر له.(5/321)
وقال القرطبي في موضع آخر من تفسير قوله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" الآية: (واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه؟ فقالت فرقة: له ذلك، منهم ابن سيرين، وإبراهيم النخعي، وسفيان، ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها، وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" رواه الدارقطني).
ب. إن لم يظفر بعين ماله
كذلك قولان لأهل العلم.
الذي يظهر والله أعلم أن من ظفر بعين ماله فأخذه أوظفر بغيره فأخذ قدراً مساوياً له من غير أن يعلم به صاحب المال وقد أمن المفسدة فله ذلك إن شاء، نصحاً لأخيه المسلم، هذا وإن تحرَّج عن ذلك وتركه كان خيراً له.
أما إذا علم أن أخذه لعين ماله أوما يساويه يؤدي إلى ضرر أكبر ومفسدة أعظم فلا يجوز له الدخول في ذلك عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، وبالقاعدة الفقهية الجامعة "درء المفاسد مقدم على جلب المنافع"، والله أعلم.
قال القرطبي رحمه الله: (واختلفوا إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله، فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم، وللشافعي قولان أصحهما الأخذ، قياساً على ما لو ظفر له من جنس ماله، والقول الثاني لا يأخذ لأنه خلاف الجنس، ومنهم من قال يتحرى قيمة ماله عليه ويأخذ مقدار ذلك، وهذا هو الصحيح لما بيناه من الدليل، والله أعلم.
وإذا فرعنا على الأخذ فهل يعتبر ما عليه من الديون وغير ذلك، فقال الشافعي: لا، بل يأخذ ماله عليه؛ وقال مالك: يعتبر ما يحصل له مع الغرماء في الفَلَس، وهو القياس، والله أعلم).
ثالثاً: الحقوق غير المالية
كالانتقاص في عرض، أودين، أوبدن، أوأهل، نحو الغيبة، والنميمة، والبهتان، فإما أن يستسمحه منها إجمالاً إن خشي من التفصيل مفسدة كبرى، وإن تعذر ذلك فعليه أن يكثر له من الدعاء والاستغفار، ويصدق في توبته، ويكثر من هذا الدعاء: "اللهم إن لك عليَّ حقوقاً كثيرة، اللهم ما كان لك فاغفره لي، وما كان لخلقك فتحمله عني"، والله أعلم.
-------
صاحب الطعام يحبُّ المحل وصاحب الماشية يحبُّ الغيث
يروى أن غلاماً من أهل مكة كان ملازماً للمسجد، فافتقده ابن عمر، فمشى إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه؛ فلقيه فقال له: يا بني! مالك وللطعام؟ فهلا إبلاً، فهلاً بقراً، فهلا غنماً! إن صاحب الطعام يحب المحل، وصاحب الماشية يحب الغيث.
كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يكرهون الاتجار في أقوات الناس مخافة الوقوع في المحذور وهو الاحتكار، من باب سد الذريعة، ولأن التاجر في أي سلعة من السلع يحب غلاء سعر ما يبيع، وغالب الذين يتاجرون في الأقوات كالذرة، والقمح، والأرز، ونحوها يحبون المحل ولا يرغبون في نزول المطر حتى تغلوا أسعار الغُلة، ولا يهمهم الضيق على خلق الله، إلا من رحم الله وقليل ما هم، على العكس والنقيض مما كان عليه التجار في الماضي.
كان أحد السلف "بواسط"، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع الطعام يوم تدخل السفينة البصرة، ولا تؤخرها إلى غدٍ؛ فوافق سعة في السعر، فقال التجار للوكيل: إن أخرته جمعة ـ أسبوعاً ـ ربحتَ فيه أضعافه؛ فأخَّره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافاً لا عليَّ ولا لي.
وحكى لي بعض التجار أن أباه حذره من الاتجار في سلعتين، هما الذرة لأنه قوت الناس، و"السجاير" لأنه من الخبائث.
وأعرف رجلاً كان لأبيه كمية من الذرة، وكان هذا في بداية فصل الخريف، وكان يلمح عن تأخير نزول الأمطار وعن شحها في هذا الفصل، فعلم مراد أبيه وحبه للمحل ليغلو سعر ما يخزنه من ذرة، فقال لأبيه: لا تقل هذا يا أبي، بل طمئن الناس وبشرهم، ولا تخوفهم وتنذرهم بالقحط والجفاف؛ فغضب عيله أبوه وزجره لنصحه إياه.
فالاحتكار في كل السلع ممنوع، ومن أهل العلم من منعه في أقوات الناس دون غيرها وهو الراجح، فمن كان عنده شيء من الطعام واحتاجه الناس وجب عليه إخراجه وبيعه بسعر المثل، إذ لا ضرر ولا ضرار، وهذا واجب رجال الحسبة.
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من احتكر فهو مخطئ"، وفي رواية: "لا يحتكر إلا خاطئ".
قيل لسعيد بن المسيِّب وهو راوي هذا الحديث عن معمر: فإنك تحتكر؟ـ كان يحتكر الزيت ـ فقال: إن معمراً الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر.
قال الإمام الخطابي رحمه الله: (قوله: "ومعمر كان يحتكر"، يدل على أن المحظور فيه نوع دون نوع، ولا يجوز على سعيد بن المسيِّب في علمه وفضله أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً ثم يخالفه كفاحاً، وهو على الصحابي ـ معمر ـ أقل جوازاً وأبعد مكاناً).(5/322)
هناك فرق بين الاحتكار والادخار، فيجوز للمرء أن يدخر لنفسه ما يكفيه وعياله، فقد صحَّ أن سيد الخلق وهو إمام المتوكلين صلى الله عليه وسلم كان يدخر لنسائه قوت عامهم.
صحَّ عن أنس عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم.
وليس حراماً أن يتاجر الإنسان في الطعام وأن يخزن منه كميات كبيرة أوقليلة، ولكن الحرام أن يحبسه ويخفيه مع حاجة الناس إليه، أما إذا أخرجه عند الحاجة وباعه بسعر المثل ولم يغالي في سعره فليس هذا بمحتكر، والله أعلم.
روى الحسن قائلاً: ثقل معقل بن يسار فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده، فقال: هل تعلم يا معقل أني سفكت دماً حراماً؟ قال: ما علمت؛ قال: أجلسوني؛ ثم قال: اسمع يا عبيد الله حتى أحدثك شيئاً لم أسمعهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ولا مرتين، سمعته يقول: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة"؛ قال: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غير مرة ولا مرتين.
وعن الحسن كذلك عن الحكم عن عبد الرحمن بن قيس قال: قال قيس: "قد أحرق لي عليٌّ بيادر بالسواد ـ العراق، وذلك لخضرة أشجاره ـ كنتُ قد احتكرتها، لو تركها لربحت بها مثل عطاء الكوفة".
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك , وبفضلك عمن سواك، يا واسع المغفرة، وصلى الله وسلم على إمام الموحدين، وسيد المتوكلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته والتابعين.
--------
مذاهب العلماء في توارث من عُمِّي موتُهم، فلم يُعرف أيُّهم مات أولاً
في بعض الأحيان يموت البعض موتاً جماعياً بسبب حرب أووباء، أوحوادث سيارات، أوطائرات، أوقطارات، أوبسبب تفجيرات، أونتيجة حرق، أوغرق، أوهدم، ونحو ذلك، بحيث لا يعرف عن بعض المتوارثين أيهم مات قبل صاحبه، فيحدث مشكلة ونزاعاً، أما إذا عرف موت أحد المتوارثين بعد صاحبه ولو بلحظة ورثه.
لقد كثر الموت الجماعي والفجائي في هذا العصر، لكثرة الهرْج وغيره، كما تنبأ بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
ذهب أهل العلم في توارث من عمي موتهم ـ بعضهم من بعض ـ فلم يُعرف أيهم مات أولاً مذهبين، هما:
الأول: لا توارث بينهم، وإنما يرث كلَّ واحد منهم ورثتُه الأحياء.
وهذا مذهب أبي بكر، وزيد بن ثابت، وابن عباس من الصحابة رضي الله عنهم، ومذهب الجمهور من أهل العلم، منهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، ومن وافقهم، وهذا هو الراجح، لأن من شروط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت الموروث ولم يتحقق ذلك، ولأن قتلى اليمامة، والحَرَّة، وصفين، والجمل لم يورث بعضُهم من بعض.
الثاني: يورَّث كلُّ واحد منهم من الثاني من ماله التليد "القديم"، دون الطريف "وهو ما ورثه من صاحبه"، هذا مذهب عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما من الصحابة، وهو مشهور مذهب أحمد رحمه الله.
واستدل أصحاب هذا القول باستصحاب حياة كل منهما إلى ما بعد موت الآخر، ولأن عمر رضي الله عنه لما وقع الطاعون بالشام، وجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم، فكُتِبَ بذلك إلى عمر، فأمر أن يورَّث بعضُهم من بعض.
ويشترط للتوريث في هذه الحال أن لا يختلف ورثة الموتى المشتبه في ترتيب موتهم، بأن يدعي ورثة كل ميت تأخر موت صاحبهم عن الآخر، وليس هناك بينة، فإن اختلفوا ولم يتوافقوا يتحالفون ولا توارث بينهم حينئذ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم الإمام طيَّب الله ثراه: (فصل: فيمن عمَِّي موتُهم فلم يُعرف أيهم مات أولاً، فالنزاع مشهور فيهم، والأشبه بأصول الشريعة أن لا يرث بعضُهم من بعض، بل يرث كل واحد ورثتُه الأحياء، وهو قول الجمهور، وقول في مذهب أحمد، لكنه خلاف المشهور في مذهبه.
وذلك لأن المجهول كالمعدوم في الأصول، بدليل الملتقِط لما جهل حال المالك، كان المجهول كالمعدوم، فصار مالكاً لما التقطه، لعدم العلم بالمالك.
إلى أن قال:
وأيضاً فالميراث جُعل للحي ليكون خليفة للميت ينتفع بماله، فإذا مات على هذه الحال لم يكن انتفاع أحدهما بمال الآخر أولى من العكس، وجعلُ كلِّ واحد منهما وارثاً موروثاً مناقض لمقصود الإرث، فإن كونه وارثاً يوجب أن يكون حياً يخلف غيره، وكونه موروثاً يوجب أن يكون ميتاً مخلوفاً، فكيف يحكم بحكمين متناقضين في حال واحدة؟
وكما أنهم لم يورِّثوه إلا من التلاد دون ما ورثه لئلا يلزم الدور، فيجب أن لا يورثوه مطلقاً لئلا يلزم الدور في نفس الموروث لا في عين الموروث.
وأما إذا عاش أحدُهما بعد الآخر، ولو لحظة، فإنه بمنزلة الطفل إذا استهل ثم مات، فثبت له حكم الحياة المعلومة، فاستحق الإرث، بخلاف من لا تعلم حياتُه بعد الآخر، فإن شرط الإرث ـ وهو العلم بحياته بعده ـ منتفٍ، فلا يجوز توريثه منه)
-------
ما أشد حاجة الأمة الإسلامية إلى الورع في البيع والشراء وغيرهما(5/323)
خرَّج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهما أصح كتابين بعد كتاب الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشترى رجلٌ من رجل عقاراً، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّة فيها ذهب، فقال الذي اشترى العقار للبائع: خذ ذهبك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم أشتر الذهب؛ وقال الذي باع له الأرض: إنما بعتُك الأرض وما فيها؛ فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدُهما: نعم؛ وقال الآخر: لي جارية ـ أي بنت؛ قال: أنكحا الغلام الجارية، وأنفقا على أنفسهما منه؛ فانصرفا".
لا يدري والله المطلع على هذا الحديث أن يعجب أكثر من البائع، أم من المشتري، أم الحكم؟ فكل واحد منهم أشد عجباً وأعظم ورعاً من الآخر.
ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة لأمته إلا لتتخلق بمثل هذه الأخلاق الفاضلة، وتتشبه بهؤلاء الثلاثة: البائع، والمشتري، والحكم، وإلا لتتعامل بالصدق وتحفظ الأمانة، وتحرص على الشرف وحسن السمعة، ولا يستحل أحدُنا ما لا يستحقه، فتحصل الثقة، وتحل البركة، ويخف الطمع، ويصح الورع، وإلا ليحذرنا من سلوك إخوان القردة والخنازير الكفار المعاندين: "من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمتَ عليه قائماً"، وإن كان أهل الكتاب الآن في التعامل الظاهري في البيع والشراء أصدق من كثير من المسلمين، مراعاة لمصالحهم الدنيوية.
نرجو من إخواننا التجار أن يعوا ذلك، وأن يتشبهوا بأسلافهم الأخيار، ولا ينساقوا وراء الطمع والجشع، فيخسروا الدنيا والآخرة، وليعلموا أن الحرام يُذهب الحلال والحرام.
اشترى سليمان عليه السلام الأرضَ التي بنى عليها المسجد الأقصى من رجل، فبعدما لزم البيع قال لصاحب الأرض: اعلم أن أرضك أقيم مما أعطيناك من المال، فهل أنت راضٍ به؟ فما زال الرجل يستزيده ويزيده سليمان إلى أن قنع.
وما فعله سليمان كان يفعله الصحابي حكيم بن حزام، حيث اشترى له غلامه حصاناً بثلاثمائة دينار، فذهب حكيم إلى صاحب الحصان، وقال له: اعلم أن حصانك أقيم عندنا من الثلاثمائة، فاستزاده الرجل فزاده إلى ستمائة دينار.
ورحم الله التاجر القائل:
يا ليتني أبيع الشيء يكسب فيه المشتري الربح ديناراً بعشرينا
أحبُّ شيء إلى نفسي معاملة كسب العميلُ فنأتيه و يأتينا
نحن لا نطمع من إخواننا التجار، والسماسرة، والوسطاء أن يكونوا بهذا الورع، ولكن نطلب منهم فقط تجنب الحرام البين، وتجنب ما نهى عنه صاحب الشريعة في البيع والشراء من السوم على سوم أخيه المسلم، أوالبيع على بيعه، ومن النجش، وأن يبيع حاضر لبادٍ، ومن الغرر، والخديعة، ومن الغبن الفاحش والغش الواضح، وعن تطفيف المكيال والميزان، ونحو ذلك من المحرَّمات والمنهيات، والله الموفق إلى كل خير، والهادي إلى سواء السبيل.
-------
الخيار في البيع
خيار المجلس
خيار الشرط
خيار العيب
خيار التدليس
خيار الغبن
خيار التخيير في الثمن في بيوع الأمانة
الإسلام دين العدل والرحمة، والتسامح، والحكمة، ولذلك شرع رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته الخيار في البيع، وحثهم وحضهم على الإقالة فيه وفي غيره، فقال: "من أقال معثراً أقال الله عثرته يوم القيامة" الحديث، لأن الإنسان قد يتعجل في البيع والشراء، أويُخدع، أوتظهر له عيوب في السلعة، فجعل له الرسول الكريم مجالاً للتراجع، ولتدارك ما يمكن تداركه، رفعاً للحرج والمشقة.
فالخيار في البيع هو طلب خير الأمرين، من الإمضاء والفسخ.
وهو أنواع، منها ما هو متفق عليه بين العلماء، ومنها ما هو مختلف فيه، من ذلك:
1. خيار المجلس
أي المجلس الذي تم فيه العقد.
عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحاً ويُمحقا بركة بيعهما".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرَّقا وكانا جميعاً".
ذهب العامةمن أهل العلم أن المراد بالتفرق هو التفرق بالأبدان، وهو الراجح، لتفسير ابن عمر لذلك وهو راوي الحديث، فكان إذا باع أو اشترى وأراد أن يلزم بذلك خرج من المجلس.
وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله أن المراد بالتفرق التفرق بالكلام، يعني: بعني، بعتُك، ولذلك لم يأخذا بخيار المجلس، وما ذهبا إليه مرجوح ومردود بتفسير ابن عمر للمراد، ولأن التفرق عرفاً لا يكون إلا بالأبدان.
وعليه فإذا تبايع رجلان فلكل منهما إمضاء البيع أوفسخه ما داما في المجلس الذي تم فيه البيع، طال هذا المجلس أم قصر، ما لم يشترط أحدهما أوكلاهما إمضاء البيع، ويحرم على أحد المتعاقدين أن يخرج من المجلس بحيلة إسقاط الخيار.(5/324)
وفي هذا الخيار منافع جليلة وفوائد كثيرة، وفي عدم الالتزام به أضرار بليغة وخسائر فادحة قد تقع بأحد المتعاقدين.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (في إثبات الشارع خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين، وليحصل تمام الرضا الذي شرطه تعالى بقوله: "عن تراضٍ منكم"، فإن العقد يقع بغتة من غير تروٍّ، ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حرماً، يتروى فيه المتبايعان ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منها.
وقال في موضع آخر من الكتاب نفسه:
فلكل من المتبايعين بموجب هذا الحديث الشريف ما لم يتفرقا بأبدانهما من مكان التبايع، فإن أسقطا الخيار بأن تبايعا على أن لا خيار لهما أوأسقطه أحدهما سقط، ولزم البيع في حقهما أوحق من أسقطه منهما بمجرد العقد، لأن الخيار حق للعقد، فيسقط بإسقاطه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم يتفرَّقا أو يخيِّر أحدهما الآخر"، ويحرم على أحدهما أن يفارق أخاه بقصد إسقاط الخيار، لحديث عمرو بن شعيب، وفيه: "ولا يحلُّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله"
2. خيار الشرط
وهو أن يشترط العاقدان أو أحدهما مدة معلومة، سوى مدة خيار المجلس، وذلك لقوله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحلَّ حراماً أوحرَّم حلالاً".
3. خيار العيب
العيب هو النقص في السلعة.
يحق لكل من المتعاقدين أن يردَّ السلعة إذا ظهر له فيها عيب لم يتبينه عند الشراء، أما إذا علم العيب ساعة الشراء فلا يحل له الخيار.
ويحدد العيب الذي ترد به السلعة العُرف، والمختصون بتلك السلعة.
فإذا ثبت العيب فالعاقد بالخيار، إما فسخ البيع أوأخذ الأرش، وهو الفرق بين قيمة السلعة وهي سليمة، وقيمتها وهي معيبة.
4. خيار التدليس
والتدليس هو تزيين السلعة المعيبة وإظهارها بمظهر السليمة والحسنة.
وأنواع التدليس كثيرة جداً، منها ما يفعله الباعة في الأسواق المركزية للفاكهة والخضر، حيث يضعون الطيب أعلى والرديء أسفل، وقد مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحب صبرة فعل ذلك، فأدخل يده فوجد أسفل الطعام مبلولاً، فقال: "من غشَّنا فليس منا"، ومثل طلاء السيارة وصب نوع معين من الزيوت فيها ليخفي خفة محركها، ونحو ذلك.
ومن التدليس تصرية البهائم، ولهذا نهى الشارع عن التصرية، فقال: "لا تصرّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر".
5. خيار الغبن
والغبن هو هضم الحق والظلم.
ولخيار الغبن صور عدة نهى الشارع عنها، منها:
o تلقي الركبان، وهم القادمون من المزارعين من الأقاليم إلى المدينة، يتلقاهم بعض السماسرة والوسطاء، فيشترون منهم بأسعار دون سعر المثل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقوا الجَلَب ـ وهم الركبان ـ فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار".
o النجش، وهو الزيادة في السعر لمن لا يريد شراء السلعة، أونقص السعر عن سعر المثل لمن يريد شراءها، وهو يحدث في بيع من يزيد، أويقول صاحب السلعة: أعطيتُ فيها كذا، وهو لم يُعط هذا المبلغ.
o بيع المسترسل، والمسترسل هو الذي لا يحسن أن يساوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "غبن المسترسل ربا".
6. خيار التخيير في الثمن في بيوع الأمانة
وهو إذا كتم البائع السعر الحقيقي وزاد عليه، فالمشتري بالخيار، إما الفسخ وإما الإمضاء
***************
الباب الرابع عشر - ركن الترويح عن النفس
من نوادر العلماء الإمام الأعمش
سليمان بن مهران، من أعلام التابعين، رأى أنساً وأبابكرة الثقفي، وأخذ بركابه، فقال له يا بني، إنما أكرمك ربك؛ كان لطيف الخُلُق، مزاحاً، لم تفته تكبيرة الإحرام سبعين سنة، وتوفي سنة سبع، وقيل ثمان، وقيل تسع وأربعين ومائة رحمه الله.
وله نوادر منها:
1. كانت له زوجة من أجمل نساء الكوفة، فجرى بينهما كلام، وكان الأعمش قبيح المنظر، فجاءه رجل يُقال له أبوالبلاد يطلب الحديث منه، فقال له: إن امرأتي نشزت عليَّ، فادخل عليها وأخبرها بمكاني من الناس؛ فدخل عليها، وقال: إن الله تبارك وتعالى قد أحسن قسمتك، هذا شيخنا وسيدنا، وعنه نأخذ أصل ديننا، وحلالنا وحرامنا، فلا يغرنك عموشة عينيه، ولا خموشة ساقيه؛ فغضب الأعمش، وقال له: يا خبيث، أعمى الله قلبك، قد أخبرتها بعيوبي؛ ثم أخرجه من بيته.
2. ومرة أراد إبراهيم النخعي أن يماشيه، فقال له الأعمش: إن رآنا الناس معاً قالوا: أعور وأعمش؛ فقال النخعي: وما عليك أن يأثموا ونؤجر؟! فقال له الأعمش: وما عليك أن يسلموا ونسلم؟
3. وجلس يوماً في موضع فيه خليج من ماء المطر، وعليه فروة خَلِقة، فجاءه رجل وقال: قم عدني هذا الخليج، وجذب بيده، فأقامه وركبه، وقال: "سبحان الله سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين"؛ فمضى به الأعمش حتى توسط الخليج، ورمى به وقال: "وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين"، ثم خرج وتركه يتخبط.(5/325)
4. جاء رجل إلى الأعمش يطلبه فقيل له: خرج مع امرأة إلى المسجد؛ فجاءه ووجدهما في الطريق، فقال: أيكما الأعمش؟ فقال الأعمش: هذه؛ وأشار إلى المرأة.
5. عاده أقوام في مرضه، فأطالوا الجلوس عنده، فأخذ وسادته وقام، ثم قال: شفى الله مريضكم فانصرفوا.
6. ذكر عنده يوماً قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن قيام اليل بال الشيطان في أذنه"، فقال: ما عمشت عيناي إلا من بول الشيطان في أذني.
7. سأل حفص بن غياث الأعمش عن إسناد حديث، فأخذ بحلقه وأسنده إلى حائط، وقال: هذا إسناده.
8. قال رجل للشعبي: ما كان اسم امرأة إبليس؟ فقال: إن ذلك نكاح ما شهدناه!
-------
ملح وطرائف
• ... سأل الرشيد الأصمعي عن مسألة، فقال: على الخبير سقطت؛ فقال الربيع وزيره: أسقط الله أضراسك، أبهذا يخاطب أمير المؤمنين؟!
• ... سئل ابن المبارك رحمه الله عن الحديث الذي جاء في العدس أنه قدِّس على لسان سبعين نبياً، فقال: ولا على لسان نبي واحد، وإنه مؤذٍ منفخ، قرين البصل في القرآن، وهو شهوة اليهود التي قدموها على المن والسلوى.
• ... ملوك الفاكهة هي: العنب، والرطب، والرمان.
• ... كان ابن سيرين رحمه الله إذا سئل عن مسألة فيها أغلوطة، قال للسائل: أمسكها حتى تسأل عنها أخاك إبليس.
• ... وسأل عمرو بن قيس مالك بن أنس عن مُحْرم نزع نابي ثعلب، فلم يرد عليه شيئاً.
• ... سأل رجل عمر بن قيس عن الحصاة يجدها الإنسان في ثوبه، أوفي خفه، أوفي جبهته من حصى المسجد؛ فقال: ارم بها؛ قال الرجل: زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد؛ فقال: دعها تصيح حتى ينشق حلقها؛ فقال الرجل: سبحان الله! ولها حلق؟ قال: فمن أين تصيح؟
• ... قيل لابن عباس رضي الله عنهما: ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ قال: يكفيه منها كوكب الجوزاء.
• ... ذكر الأصمعي رحمه الله رجلاً بالتصحيف، فقال: كان يسمع فيعي غير ما يسمع، ويكتب غير ما يعي، ويقرأ في الكتاب غير ما هو فيه.
• ... وذكر رجل آخر بالتصحيف، فقال: كان إذا نسخ الكتاب مرتين عاد سُريانياً.
• ... سأل رجل من أهل العراق ابن عمر رضي الله عنهما عن دم البعوض أنجس هو؟ فقال: سبحان الله، تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين بن علي، وتسألون عن دم البعوض؟
• ... سمع عمر رضي الله عنه رجلاً ينبه على تمرة، فقال له: كلها يا تافه الورع.
• ... مر الشعبي بقوم من الموالي يتذاكرون النحو فقال له: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده.
• ... كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله جالساً عند الوليد بن عبد الملك، وكان الوليد لحاناً، فقال: يا غلام ادع لي صالح؛ فقال الغلام: يا صالحاً؛ قال له الوليد: انقص ألفاً؛ فقال عمر بن عبد العزيز: فأنتَ يا أمير المؤمنين فزد ألفاً.
• ... قال الأصمعي رحمه الله: مررتُ بكناس بالبصرة يكنس كنيفاً ويغني:
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
فقلت: أما سداد الكنيف فأنت مليء به، أما الثغر فلا علم لنا كيف أنت فيه؛ وكنتُ حديث السن وأردتُ العبث به، فأعرض عني ملياً، ثم أقبل عليَّ متمثلاً يقول:
وأكرمُ نفسي إنني إن أهنتها وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقلت: والله ما يكون من الهوان شيء أكثر مما بذلتها له؛ فقال لي: والله إن من الهوان لشراً مما أنا فيه؛ فقلت: ما هو؟ قال: الحاجة إليك وإلى أمثالك.
------
هل تعلم؟
1-هل تعلم أن عبد الله بن عباس، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن شداد بن الهادي رضي الله عنهم أبناء خالات؟
2. هل تعلم أن خديجة رضي الله عنها كانت متزوجة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين، هما:
• ... عتيق بن عائذ المخزومي فولدت له بنتاً.
• ... وتزوجت بعده أبو هالة نباش بن زرارة الأسيدي، مات بمكة في الجاهلية، وقد ولدت له هند بنت أبي هالة.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وعمرها خمس وأربعون سنة، رُزق جميع ولده منها، وأنه جلس معها 22 سنة لم يتزوج عليها غيرها وفاء لها.
3. هل تعلم أن السمك لا رئة له، وأن الجمل لا مرارة له، وأن الفرس لا طحال له، وأن النعامة لا مخ لها؟
4. وهل تعلم أن أشجع الحيوانات الأسد، وأن أجبنها الجاموس؟
5. وهل تعلم أن الإمام محمد بن شهاب الزهري حفظ القرآن في ثمانين يوماً؟
6. وهل تعلم أن زيد بن ثابت تعلم لغة يهود في أسبوعين، عندما طلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلمها، كما جاء في صحيح البخاري، فكان يترجم له ما يقولون ترجمة فورية، ويكتب له إليهم، ويبين ما يكتبون؟
7. وهل تعلم أن ثلاثة من أهل البصرة لم يموتوا حتى رأى كل واحد منهم مائة ذكر من صلبه، وهم أنس بن مالك، وأبوبكرة، وخليقة بن بدر، كما قال ابن قتيبة في المعارف والنووي في تهذيب الأسماء واللغات؟
-----
اختبر معلوماتك
س. كل رسول نبي ليس على إطلاقه، فهناك رسل ليسوا بأنبياء، من هم؟
س. من هم أجمل الصحابة من الرجال؟(5/326)
س. من هو الصحابي الذي شرب لبن سبع شياه ولم يشبع، وعندما أسلم لم يكمل لبن شاة واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء؟
س. في أي سنة بدأ العمل بالتاريخ الهجري؟ وفي عهد من من الخلفاء؟ وما السبب المباشر لذلك؟
س. في أي سنة جمع عمر المسلمين على صلاة القيام في رمضان؟ ومن قدمه عليهم؟
س. من الصحابي الذي روى عنه صلى الله عليه وسلم؟ وأي شيء رواه عنه؟
س. ما على من نذر أن يطوف على أربع؟
س. سمى الله في القرآن عشرة من الطيور، ما هي؟ وفي أي السور؟
س. هناك خمسة لم يرتكضوا في الرحم، من هم؟
س. لقد أهلك الله عز وجل أمة من الأمم بالنمل، ما هي؟
س. ورد في حديث رواه الطبراني عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: لا زكاة في الكسعة، والجبهة، والنُّخة، فما المراد بذلك؟
س. هل تعرف كوعك من بوعك؟
س. ثلاثة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم: الابن، والأب، والجد، من هم؟
س. للمدينة المنورة إحدى عشر اسماً، ما هي؟
س. "كل رسول نبي" ليس على إطلاقه، فهناك رسل ليسوا بأنبياء، من هم؟
ج. جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فهؤلاء الملائكة رسل وليسوا بأنبياء، قال تعالى: "الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس".--
س. من هم أجمل الصحابة من الرجال؟
ج. أجمل الصحابة من الرجال أربعة، هم:
1. جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، الذي وصف بأنه يوسف هذه الأمة، وكان طويلاً يقل في ذروة البعير من طوله، وكانت نعاله ذراعاً، وطوله ستة أذرع.
2. دحية الكلبي الذي كان جبريل يتمثل بصورته كثيراً من حسنه.
3. عُكاشة بن محصن رضي الله عنه الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة.
4. والزِّبرقان بن بدر رضي الله عنه، وكان اسمه حصن بن بدر، وسمي الزبرقان لجماله، ولهذا كان يقال له قمر نجد.--
س. من هو الصحابي الذي شرب لبن سبع شياه ولم يشبع، وعندما أسلم لم يكمل لبن شاة واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء"؟
ج. هو جهجاه بن سعيد الغفاري رضي الله عنه، وكان من فقراء المهاجرين، وأجيراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.--
س. في أي سنة بدأ العمل بالتاريخ الهجري؟ وفي عهد من من الخلفاء؟ وما السبب المباشر لذلك؟
ج. بدأ العمل بالتاريخ الهجري في ربيع الأول سنة 16 ه، في عهد عمر بن الخطاب، وسبب ذلك أن أبا موسى كتب إلى عمر: إنه يأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب لا ندري على أيها نعمل، قد قرأنا صكاً منه محله شعبان، فما ندري أي الشعبانين الماضي أم الآتي؛ فعمل عمر على كتب التاريخ، وأراد أن يجعل أوله شهر رمضان، فرأى أن الأشهر الحرم تقع في سنتين فجعله من المحرم وهو آخرها فصيَّره أولاً، لتجتمع كلها في سنة واحدة.--
س. في أي سنة جمع عمر المسلمين على صلاة القيام في رمضان؟ ومن قدمه عليهم؟
ج. في رمضان سنة 14ه.
روي أن عمر رضي الله عنه أمر أبا حثمة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم أن يصلوا بالناس في شهر رمضان، فسمع الناس يقولون: فلان أقرأ من فلان، وفلان أحسن صوتاً بالقرآن من فلان؛ فنهاهم عن ذلك، وقال: أتفعلون ذلك وأنتم أنتم؟ فكيف بمن جاء بعدكم؟ وكانوا قبل ذلك يصلون في المسجد فرادى، ثم قدم أبياً فصلى بهم.--
س. من الصحابي الذي روى عنه صلى الله عليه وسلم؟ وأي شيء رواه عنه؟
ج. هو تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، وهذه منقبة لم يشاركه فيها غيره، وقد روى عنه قصة الجساسة التي خرجها مسلم في صحيحه وغيره.--
س. ما على من نذر أن يطوف على أربع؟
ج. يطوف طوافين.--
س. سمى الله في القرآن عشرة من الطيور، ما هي؟ وفي أي السور؟
ج. البعوضة في البقرة، والغراب في المائدة، والجراد في الأعراف، والنحلة في النحل، والسلوى في البقرة وطه، والنمل في النمل، والهدهد في النمل أيضاً، والذباب في الحج، والفراش في القارعة، والأبابيل في الفيل.--
س. هناك خمسة لم يرتكضوا في الرحم، من هم؟
آدم وحواء عليهما السلام، وناقة صالح، والكبش الذي فدي به إسماعيل، وعصا موسى عندما تحولت ثعباناً مبيناً.--
س. لقد أهلك الله عز وجل أمة من الأمم بالنمل، ما هي؟
جُرْهُم الذين جاوروا إسماعيل وأمه عليهما السلام بمكة.--
س. ورد في حديث رواه الطبراني عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: "لا زكاة في الكسعة، والجبهة، والنُّخة"، فما المراد بذلك؟
ج. فسره أبوعبيد وغيره بأن الكسعة الحمير، والجبهة الخيل، والنخة العبيد؛ وقال الكسائي: إنما هي النخة بضم النون، وهي البقر العوامل.
هذه كلها لا زكاة فيها إلا إذا أعدت عروضاً للتجارة.--
س. هل تعرف كوعك من بوعك؟
ج. العظم الذي يلي إبهام اليد هو الكوع، والعظم الذي يلي إبهام الرجل هو البوع.--
س. ثلاثة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم: الابن، والأب، والجد، من هم؟
ج. هم:
• ... عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهم.
• ... ومعن بن يزيد بن الأخنس السلمي رضي الله عنهم.--(5/327)
س. للمدينة المنورة إحدى عشر اسماً، ما هي؟
ج. كانت المدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم اسمها يثرب، وقد سميت بذلك لأن يثرب أول رجل من العماليق سكنها، وقد كره الرسول صلى الله عليه وسلم اسم يثرب لما فيه من لفظ التثريب وهو اللوم، وسماها طيبة والمدينة.
وروي أن لها في التوراة أحد عشر اسماً، هي: المدينة، وطابة، وطيبة، والمسكينة، والجابرة، والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة، والمجبورة، والعذراء، والمرحومة، والله أعلم.
-------
فتاوى
متى؟ وأين ابتدعت ما تعرف بصلاة الرغائب؟
متى يفطر المريض في رمضان؟
ما هي الدواب التي نهى الشارع عن قتلها؟
بمَ يهجر تارك الصلاة؟
ما الأشياء التي لا تُرَدُّ إذا قدمت للإنسان؟
متى؟ وأين ابتدعت ما تعرف بصلاة الرغائب؟
ابتدعت في النصف الأول من القرن الخامس الهجري.
حكى الطرطوشي رحمه الله في أصل صلاة الرغائب عن أبي محمد المقدسي قال: (لم يكن عندنا ببيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأول ما أحدثت عندنا في سنة 448هـ، قدم علينا رجل في بيت المقدس يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل، ثم انضاف إليهما ثالث ورابع، وما ختمها إلا وهو في جماعة كبيرة، ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير، فشاعت في المسجد وانتشرت في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم، ثم استمرت كأنها سُنة).
انظر كيف تنتشر البدع وتفشو؟
متى يفطر المريض في رمضان؟
• إذا غلب على ظنه زيادة المرض.
• أوتأخر البرء.
• أوأصابته المشقة بالصوم.
• أوأمره الطبيب المسلم الثقة بذلك.
ما هي الدواب التي نهى الشارع عن قتلها؟
هي: الضفدع، والنمل - إلا إذا أذى فيجوز قتله، وليس تحريقه بالنار - والنحل، والهدهد، والصُّرَد.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرَد".
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع.
بمَ يهجر تارك الصلاة؟
تارك الصلاة كسلاً كافر كفراً أكبر في أرجح قولي العلماء، يقتل إذا امتنع من أداء صلاة واحدة حتى خرج وقتها عند عامة أهل العلم، فقط منهم من قال يُقتل كفراً، ومنهم من قال يُقتل حداً، وهذا مذهب مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، هذا إذا رُفِع أمره إلى القاضي أوالحاكم.
وأقل ما يقابل به تارك الصلاة ما يأتي زجراً له ولأمثاله:
1. لا يُسلم عليه.
2. لا تجاب دعوته.
3. لا يُعاد إذا مرض.
4. لا يُزار.
5. لا يؤاكل.
6. لا يُزَوَّج، وإن كان متزوجاً فرِّق بينه وبين زوجته.
7. ليست له قوامة على أولاده وبناته.
8. لا يُصلى عليه إذا مات ولا يستغفر له.
ما الأشياء التي لا تُرَدُّ إذا قدمت للإنسان؟
هي الطيب، والوسادة، واللبن.
روى ابن عمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترد: الطيب، والوسادة، واللبن".
-------
حكم بالغة، وأقوال نافعة، وأمثلة جارية
هذه مجموعة من الحكم الوجيزة، والأقوال المفيدة، والكلمات المضيئة، في أبواب شتى وأغراض عدة، بعضها منثور، والآخر منظوم..
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى وللمشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه بدنيا سواه فهو من ذين أعجب
• ... قال مالك رحمة الله: الأدب أدب الله، لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله، لا خير الآباء والأمهات.
• ... من دعاء الإمام أحمد رحمه الله: "اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق، وهو يظن أنه على الحق، اللهم فرده إلى الحق رداً جميلاً حتى يكون من أهله".
• ... عن سوار بن شبيب أنه قال لابن عمر رضي الله عنهما: ما تقول في فتية شببة ظراف نظاف، يقرأون القرآن، ويقومون الليل، ولكن يكفِّر بعضهم بعضاً؟ يعني بهم الخوارج، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفِّر بعضهم بعضاً"، أو كما قال.
• ... عطس رجل بحضرة ابن عمر فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول اله صلى الله عليه وسلم.
***************
نبذة عن مدير الموقع الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد
• ... ولد في 1947 م بقرية ود البر الخوالدة بولاية الجزيرة بالسودان.
• ... تخرج في كلية الآداب جامعة الخرطوم في مارس 1969م.
• ... عمل مدرساً بالمدارس الثانوية بعدد من مدن السودان لمدة تسع سنوات.
• ... عمل مدرساً بمعهد اللغة العربية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة حرسها الله من 1398هـ إلى 1422 هـ.
• ... يعمل الآن أستاذاً مشاركاً بمعهد اللغة العربية بجامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم.
• ... له أكثر من 120 مؤلفاً في العقيدة الإسلامية، والفقه، والتربية، منها ما طبع، ومنها ما هو تحت الطبع.(5/328)
• ... هذا بجانب العديد من المقالات الصغيرة والمطويات، جلها بالموقع.
• ... له ستة دروس أسبوعية بمساجد الخرطوم، في دواوين السنة والفقه والسيرة على عقيدة أهل السنة والجماعة السلف الصالح.
• ... قدم عدداً من المحاضرات واشترك في عدد من الندوات.
• ... شارك في إقامة دورات للعلوم الشرعية واللغة العربية في كل من باكستان، وماليزيا، والفلبين، وروسيا.
اللهم اختم لنا بخير، واجعل عاقبة أمورنا كلها على خير، والحمد لله الذي به تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
*******************
الفهرس العام :
الباب التاسع -ركن السلوك ... 1
الاستقامة "قل آمنتُ بالله ثم استقم" ... 1
السامع شريك المغتاب، والساكتُ أحد المغتابين ... 7
لا يمكَّن حتى يُبتلى ... 11
البول قائماً ... 13
حكم الشرب قائماً ... 18
متى يجوز تمني الموت؟ ومتى لا يجوز؟ ... 23
الرِّياء خطره وأنواعه ... 27
"لا يُلدغ مؤمنٌ من جحر مرتين" متفق عليه ... 30
الخلاف شر ... 33
أفضل الصدقة سقي الماء، وأكبر جرم حرمان سقيها ... 37
أبخل الناس من بخل بالسلام ... 39
"أعجزُ الناس من عجز عن الدعاء" الحديث ... 41
إنَّ من الناس من لا يُعاب ... 47
أمور هامة في ذكر الله والصلاة على النبي ... 53
الصبر على الطاعة من أفضل أعمال البرّ ... 57
كتمان السر وعدم إفشائه ... 61
الكريم لا يعدمُ ما يتصدقُ به ألا تحبون أن تكونوا كأبي ضَمْضَمْ ؟ ... 66
وأي داء أدوى من البخل؟ ... 66
الحسد ... 69
حق المسلم على أخيه المسلم ... 78
احذر الثالوث الخطر: الغيبة والنميمة والبهت ... 104
الظلم ظلمات في الآخرة ونزع للبركات في الدنيا ... 130
احذر أخي الكريم مبطلات الأعمال، فليس كل عمل يتقبل "إنما يتقبل الله من المتقين" ... 134
حظوظ النفس ... 140
احذروا أبنائي الطلاب والطالبات شهادة الزور ... 146
الباب العاشر - ركن العظات والعبر ... 150
أيها المسلم ماذا أعددت ليوم رحيلك؟ ... 150
أخي الحبيب .. قف قبل أن تنزلق في المعصية ... 156
العلماء هم الدعاة ... 161
الرسل والرسالة ... 175
ميراث النبي صلى الله عليه وسلم ... 182
خطر الاستهانة بالذنوب وكيفية التوبة الصادقة ... 185
الأمة الإسلامية .. والهزائم الداخلية!! ... 190
الطبيعة الإنسانية في التصور الإسلامي ... 192
الدروس والعبر المستفادة من سقوط بغداد عاصمة الخلافة ... 201
الاستعداد ليوم الرحيل ... 214
عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك ... 221
من مناقب حكامنا السابقين ... 221
لحوم العلماء مسمومة ... 225
الباب الحادي عشر - ركن السير والتراجم ... 258
سجن شيخ الإسلام ابن تيمية عدد مراته، مدته، أسبابه، نتائجه وآثاره ... 259
من غرائب الرؤى وعجائب التعبير وشيء من سيرة إمام المعبرين وأحد سادات التابعين محمد بن سِيرِين المتوفى 110ه ... 263
هكذا فليكن القضاة والحكام محمد بن بشير القاضي (المتوفى 198ه) ... 269
الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ... 275
بين علماء الآخرة وعلماء السوء ... 319
من علماء الآخرة أبو إسحاق إبراهيم الحربي رحمه الله ... 320
من علماء الآخرة الليث بن سعد ... 330
رسالة الليث بن سعد لمالك ... 331
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ... 336
ثمار من غرس النبوة ... 339
فتح العرب للأندلس ... 346
الباب الثاني عشر - ركن العبادات ... 371
ما يُضمُّ بعضُه إلى بعض في إكمال النصاب في الزكاة وما لا يُضمّ ... 371
العمرة ... 378
تعريف الحج، وحكمه، وفضله، وشروط وجوبه ... 379
الإحرام: مواقيته، أوجهه، محظوراته وفديتها ... 382
أركان الحج، وواجباته، وسننه ... 386
من شروط حج المرأة واعتمارها ... 389
من حجَّ بمال حرام فليس له حج ... 394
ما على من نوى الحج وعزم عليه؟ ... 398
مسائل في الحج ... 400
الأضحية عبادة شرعية وليست عادة اجتماعية ... 401
التكبير في العيدين وأيام التشريق ... 405
مذاهب أهل العلم في صيام ستة شوال ... 429
هذه ليست من المفطرات للصائم، وهذه من المذهبات بأجر الصائم ... 433
سجود القرآن الكريم ... 435
متى يمسك الصائم عن الأكل والشرب وجميع المفطرات؟ ... 445
السواك للصائم ... 449
ماذا على الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان؟ ... 453
غسل الميت ... 456
التبليغ في الصلاة خلف الإمام من غير ضرورة يبطل صلاة المبلغ ... 461
الوسوسة سببها، أنواعها، خطرها، علاجها ... 468
الأوقات التي تحرم وتكره الصلاة فيها ... 490
أيهما أولى لمن جاء ووجد الإمامَ في الجلوس الأخير:الدخول معه؟ أم ينتظر جماعة أخرى؟ ... 495
حكم قتل غير المقاتلين من الرهبان، والعجزة،والنساء، والأطفال ... 499
النهي عن الصلب والتمثيل إلا لمن مثل ... 502
مذاهب أهل العلم في جلسة الاستراحة في الصلاة ... 508
تلقين الإمام أوالفتح عليه في الصلاة إذا ارتجَّ عليه، أوأخطأ ... 515
ما يبطل الصلاة من الكلام وما لا يبطلها ... 520(5/329)
الصلاة على الميت الغائب ... 533
حقوق الميت وذويه الكفائية على الأهل، والجيران، والمعارف ... 540
إلى متى يُصلَّى على الميت قبل، وبعد الدفن؟ ... 545
مذاهب أهل العلم في إفراد يوم السبت بصيام ... 547
الجمع بين الصَّلوات في الحضر بسبب المطر، والوحل، والبرد، والثلج، ونحوها ... 553
رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة متى ترفع؟ ومتى لا ترفع؟ وكيفية رفعهما؟ ... 565
الأيمان: حكمها، ما يكفر منها وما لا يكفر، كفارتها، اليمين الغموس ... 578
مذاهب العلماء في المسح على العمامة، والجوارب، والخمار ... 595
صلاة الضحى ... 603
صلاة المريض ... 610
الجهاد بالنفس في سبيل الله ... 619
مفهوم الجهاد و أحكامه من خلال سورة الأنفال " ... 620
لا يحل لأحد أن يُصَوم أو يُفطّر المسلمين بالحساب فيتقلد إثمهم ويبوء بوزرهم ... 682
"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" ... 682
مذاهب أهل العلم في اختلاف المطالع ... 687
هديه صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح في تلاوة القرآن في شهر الصيام ... 689
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح في القيام في رمضان ... 691
صلاة التراويح ... 696
الوتر ... 704
الاعتكاف وأحكامه ... 721
احذر أخي المسلم .. أهون الصيام ترك الطعام ... 751
الممسكون كثير.. والصائمون قليل ... 753
الباب الثالث عشر - ركن المعاملات ... 755
مَنْ ظُلم ثم وجد فرصة فيمن ظلمه ... 755
صاحب الطعام يحبُّ المحل وصاحب الماشية يحبُّ الغيث ... 760
مذاهب العلماء في توارث من عُمِّي موتُهم، فلم يُعرف أيُّهم مات أولاً ... 762
ما أشد حاجة الأمة الإسلامية إلى الورع في البيع والشراء وغيرهما ... 764
الخيار في البيع ... 765
الباب الرابع عشر - ركن الترويح عن النفس ... 768
من نوادر العلماء الإمام الأعمش ... 768
ملح وطرائف ... 769
هل تعلم؟ ... 771
اختبر معلوماتك ... 771
فتاوى ... 775
حكم بالغة، وأقوال نافعة، وأمثلة جارية ... 776
نبذة عن مدير الموقع الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد ... 777(5/330)