أين العباد يا أيها الأحبة .. أين الذين يصفون أنفسهم بأنهم ملتزمون .. أمعقول أن يكون الضلال الصوفية والرافضة المنحرفون أحرص منا على عبادة الله وأجلد على تحمل مشاق العبادة على ضلال عبادتهم وبدعتهم ..ونحن على الحق المبين ، أين صيام الاثنين والخميس أين صيام ثلاثة أيام من كل شهر .. أين صيام يوم وإفطار يوم .. أم أن الصيام لا يعرفه بعضنا إلا في رمضان قال _ صلى الله عليه وسلم _ "من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماوات والأرض " .. "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله عن وجه النار سبعين خريفاً" .."من صام يوماً في سبيل الله باعد الله عن وجه النار مائة عام" .. "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله عن وجه النار سبعين عاماً" .. كيف نرجو الدخول من باب الريان ، وهو باب يدخله المكثرين من صيام النفل بعد الفرض .. وأنت لا تعرف إلا صيام رمضان كعامة المسلمين .. ألا تعلم أن الصوم هي العبادة الوحيدة التي لله عز وجل وهو يجزي بها .. فما بالك بعطايا الرحمن عز وجل وكيف سيكون إثباته عليها ؟ نحن في زمن قد غلبت عليه الفتن والشهوات وقد أرشدنا الرسول _صلى الله عليه وسلم _ إلى الصوم في حال عدم وجود الزواج .. وأما اليوم حتى المتزوج يحتاج إلى الصوم ، القنوات تتفنن في الفاحشة ،مواقع الإنترنت تتفنن في الفاحشة ، نساء المسلمين يتففن إظهار أجسادهن في الأسواق ، فتن في كل مكان ، لابد أن يغض بصره الإنسان المؤمن الخائف على إيمانه عن هذا الحرام ، فإذا لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ، يكسر الشهوة ويقللها ، أين كثرة قراءة القران الذي هو شفاء لما في الصدور ،كل شيء له في حياتنا وقت ، العمل والجلوس مع الأهل ، والسمر مع الأصدقاء ، والسفر ، والنوم ، والأكل ، والترف ،إلا القرآن نستكثر عليه دقائق كل يوم ، تحيا بها قلوبنا ، ويورثنا الله عز وجل بركتها ، لو قرأن كل يوم قبل كل صلاة ورقتين ، لختمت القرآن كله في شهر ، في السنة اثنتي عشرة مرة ، هل هذا أمر سهل؟ كم قرأت من شهر محرم إلى الآن ؟ ورمضان قادم ، ألا تستحي من الله عز وجل ، أن يقدم رمضان وأنت لم تقرأ من القرآن إلا ما تقرأه في صلاتك على عجل ، أو تقرأ سورة الكهف يوم الجمعة ، هذا كهذا الشهر ، هذا إذا جاء إلى الجمعة مبكراً ، ولم يأت في دبرها كعادة المتأخرين عن الخير دائماً البطيئين عنه ، والرسول _صلى الله عليه وسلم _ أخبرنا أنه لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل في الجنة وإن دخلوها
أين الشغف بالصلاة ، وأين التبكير إلى الصلاة ، وأين الازدياد من النوافل .. لماذا يا معشر الشباب لا يبكر إلى الصلاة دائماً إلا كبار السن ، لا يكاد يؤذن المؤذن إلا وهم خلف الإمام ، أما الشباب فيعرفون أن بين الأذان والإقامة خمسة وعشرين دقيقة ، فيتأخرون إلى ما بعد إقامته الصلاة ، فهم أكسل من أن يأتوا مبكرين محتسبين أجر التبكير إلى الصلوات ، لماذا لا نرى يقضي الركعات غالباً بعد أنتها الصلوات إلا الشباب ، وأستحي أن أقول : بعض الملتزمين .. أين من صلى لله اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بُني له بيتً في الجنة ..
أين قول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ :( لو يعلمون ما في النداء والصف الأول ثم لا يجدون إلا أن يأتوا إليها حبواً لجاءوا إليها ) لكنهم لا يعلمون ما في النداء ، وما في الصف الأول فلم يأتوا إليها إلاَّ يسحبون أرجلهم .
أين من صلى في جماعة أربعين يوماً قال _ صلى الله عليه وسلم _ ( من صلى لله في جماعة أربعين يوماً يدرك التكبيرة الأولى كتب الله له براءتين _ براءة من النفاق وبراءة من النار) يدرك التكبيرة الأولى ، يعني يكبر الأمام وهو واقف في الصف .. ثم في المقابل تجد منا من يتقن فن النقد ، في كل شيء ، كل شيء في نظره أسود أسود ، نقدُُ هادم ، وأنظر إلى أفعاله ، تجده ضعيف الإيمان ، ابتلاه الله بكثرة الكلام وقلة العمل ،كيف يزداد الإيمان في قلوبنا ونحن على هذا الحال .. ملتزم ! ملتزم بماذا ؟ ملتزم الصمت ،أساله عن زيارة المقابر التي هي كان منهيُُ عن زيارتها فيما مضى _ فرخص لهم الرسول_ صلى الله عليه وسلم _ في ذلك لماذا ؟ لأنها تذكرهم الآخرة ..(2/129)
وأساله عن الصدقات ، التي يأتي المرء في ظلها يوم القيامة في حر ذلك اليوم العظيم الذي تدنوا في الشمس من رؤوس العباد حتى تبلغ قيد ميل حتى يغلي منها الدماغ ، كل في ظل صدقته يوم القيامة .. وأساله عن الدعاء والإكثار من الدعاء .. وأساله عن كثرة ذكر الله والمحافظة على الأذكار .. وأساله عن الاستغفار الذي يحرق الذنوب حرقاً .. وأساله عن الباقيات الصالحات ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر . وأساله عن إحياء سنة الرسول_ صلى الله عليه وسلم _ في كل شيء ..، وأساله عن حسن العِشرة ، وتربية من حوله على أخلاق المؤمنين الصادقين .. وأساله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حجمنا دوره وجعلناه في فئة قليلة من الناس يسومهم الناس سوء العذاب ..وأساله عن الغيرة على محارم الله أن تنتهك وهو يرى ، تنتهك المحارم أحياناً وهو يرى ولا يتمعر وجهه ، ولذلك أرسل الله عز وجل جبريل إلى قرية من القرى ،قال: أهلكها بمن فيها ، قال : يا ربّ فيهم عبدك فلان ، لا يعصاك طرفة عين .. فماذا قال الله عز وجل ؟ قال به فابدأ _ عذَّبه أولاً لم يتمعر وجهه فيَّ قَطّ ..وأساله عن الدعوة إلى الله عز وجل بالحسنى .. وأساله عن حلق الذكر والدروس والمحاضرات قد لا تجدوا من ذلك إلا شيئاً قليلاً .. ولا تسأله عن غض البصر عن الحرام ، ومجالس الغيبة الفاحشة التي أبتلينا بها ، ونسأل الله تعالى الإعانة على التوبة منها ..
وتضيع الأوقات في الضحك والسخافات فإذا ما جاء الجد رأيته أبعد الناس عنه ..فبماذا نحن ملتزمون أيها الأحبة ؟
* * *
روى الحاكم رحمه الله عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ : ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) وفي رواية (فجددوا إيمانكم بلا إله إلا الله ) ..
فالإيمان أيها الأحبة : يبلى ويهتري في القلب كما يتسخ الثوب ويبلى ، فيعتلي المؤمن أحياناً سحابة من سحب المعصية كما قال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ : ( ما من إلا له سحابة كسحابة القمر بين القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت عنه فأضاء )
تجد العبد بين هذين الأمرين ، مرة قوي الإيمان ، نشيطاً في عبادة الله عز وجل ، تسهل عليه الطاعات ، لين القلب ، سريع الدمعة .. ومرات تجده متكاسلاً ، قاسي القلب ، جاف العين ، يقع في المعصية بكل سهولة ، ويستغرب إذا وقع فيها فيما مضى فيما بعد ، ويقول أنا فلان الملتزم ، كيف أقع في مثل هذه المعصية ، ويلوم نفسه ، ولهذا أسباب عظيمة عديدة ، إذا علمنا قول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أيضاً: ( ما من عبد إلا وله ذنبُُ يعتاده الفينة بعد الفينة أو ذنبُُ هو مقيم عليه حتى يفارق الدنيا ) أعظم هذه الأسباب : الغفلة وعدم السعي في زيادة الإيمان في قلبه ، وبعضهم يظن أن زيادة الإيمان تأتي بعلاج سحري ، يضعه في الجوف ثم يزداد إيمانه فجأة ، ولا يريد أن يتعب ، ولا يريد أن يعفر وجهه لله ، ويسأل الله تعالى أن يثبت قلبه على دينه ، هذا شيخ الإسلام أبن تيميه _ رحمه الله _ يقول: كنت أقرأ للآية الواحدة مائة تفسير ، ثم لا أفهم ، فأمرغ خدي في التراب ، وأقول: يا معلم إبراهيم علمني ، ويا مفهم سليمان فهمني ، فيفتح الله عز وجل علي من بركات علمه ما لم يكن في الحسبان ، إلا بماذا أصبح شيخ الإسلام ؟ بتعفير خده ووجهه لرب العباد عز وجل ، قاعدة : كلما أذللت نفسك لله كلما أعزك الله _ وكلما تجافيت عن الله وأذللت نفسك للبشر ، كلما زادك الله ذلاً ..
ومن الأسباب : طول الأمل ، والتعلق بهذه الدنيا ، طول الأمل من الشقاء كما جاء في الأثر .. ومن الأسباب : الإفراط في الأكل والنوم والسهر ولا تسأل عن السهر في هذه الأزمنة ، والكلام والمخالطة _ وكثرة الضحك التي تقسي القلب ، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي ..ومنها كثرة الاشتغال بالدنيا ، والدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً ..
ومن الأسباب : التعود دائماً على أجواء المنكرات والمخالطات ، المخالطات المحرمة ، أو وجودة مع شباب شغوفين بالقنوات الفضائية ، ومواقع الجنس الصريح في الإنترنت ، والمجلدات الخليعة ، والنكت السخيفة الجنسية ، هذا وسط يعج بالمنكرات ، فكيف تريد من إنسان يخالطهم أن يزداد إيمانهُ _ لا يمكن أبداً ..(2/130)
ومنها هجر العلم الشرعي ، والإعراض عن الكتب النافعة ، والأشرطة الفاضلة _ ولو كان لنا يا أحبة : لو كان لنا قراءة يومية في كتب أبن القيم وحده _ رحمه الله _ لوجدنا لذلك على قلوبنا أثراً عظيماً إقرأوا على سبيل المثال : الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ، هذا هدية أقدمه لنا جميعاً ، لنا نحن الذين ضعف إيمانهم .. من أراد أن يزداد إيمانه فليقرأ في هذا الكتاب العظيم الذي هو جواب على سؤال طرح على الشيخ رحمه الله ، وللأسف أصبح كثير منا اهتماماته حتى في هذا الجانب ، أصبحت دنيئة ، فيفتخر أنه لا يحب القراءة أبداً _ أو تجد أن سيارته مليئة بالأشرطة السخيفة ، كالأناشيد التي يدعونها زوراً وبهتاناً الأناشيد الإسلامية ، وقل أن تجد عنده أشرطة الدروس العلمية الأصلية ، أو المحاضرات الفاضلة ، فكيف يزداد الأيمان في القلب ؟ ..
ومن الأسباب: الابتعاد عن القدوة الصالحة ، لا بد من وجود قدوة تقتدي به في دين الله ، لا بد من وجود قدوة ترى عبادته فتقلده ، وترى علمه فتأخذ منه ، وكان ابن القيم _ رحمه الله _عندما سجن شيخ الإسلام ابن تيميه في قلعه دمشق بالشام يقول ابن القيم : كانت تظلم الدنيا في وجوهنا وتقسوا قلوبنا ، فما هو إلا أن نذهب إلى الشيخ في السجن فنرى وجهه فتنفرج أساريرنا ، وتصفوا نفوسنا وننسى هموم الأرض .
الصحابة رضي الله عنهم ، كيف كان حالهم عندما مات الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ ؟
وصفهم الواصف فقال : كانوا كالغنم الشاتية في ليلةٍ مطيرة تفرقوا . كان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ قدوتهم ، يوجههم ، ويضحك إليهم ، ويعطف عليهم ، ويعلمهم ، ويحبهم ، ويجلهم ، ثم فقدوه في ليلةٍ واحدة فتفرقوا ، كانوا كالغنم الشاتية في ليلةٍ مطيرة ، فلا بد من القدوة ..
وأعظم الأسباب في قسوة القلب : الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة لا يذكر نفيه بطاعة ، ولا يتكلف الذهاب إلى زيارة في الله عز وجل إلى أناس يزداد معهم إيمانه ، ألم نعلم قصة الرجل في الحديث الصحيح الذي زار رجلاً آخر في قرية أخرى ، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً _ إلى أين تريد ؟ قال إلى تلك القرية ، ما الذي تريده فيها ؟ قال أخاً لي في الله أحببته ، قال هل لك عليه نعمة ترباها . قال: لا ، إلا أني أحببته في الله ، قال له الملك :فإني رسول الله إليك أن الله يحبك كما أحببته ، والله عز وجل يقول : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16) واعلموا إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية..
والسؤال كيف نعالج هذه الظاهرة المخيفة التي لو تمادت بنا .. لانتكس العبد والعياذ بالله ، وتجرأ على المنكرات والمعاصي من حيث لا يشعر ، وأدى به ذلك إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله ؟
هذا يكون بأمور :
يكون بالإخلاص لله تعالى ، والجد في علاج النفس ومعرفة مرض النفس .. ويكون بكثرة تدبر كتاب الله تعالى ، يا أخوة : نحن في زمن قد هجر فيه كثير من المسلمين كتاب ربهم ، واتخذوه وراء ظهورهم ظهرياً ، وهجروا تدبره ، والعمل به ، والاستشفاء به ، والتحكم إليه ، وما إلى ذلك ، فكيف نرجوا زيادة الإيمان هذا وضع من هو فيه ، ضعف إيمان يقطع القلب حسرة ، النبي _ صلى الله عليه وسلم _ مع ما هو عليه من رقة في القلب ، قام ليلة واحدة بآيه واحدة يتدبرها حتى الصباح ويبكي (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118) يرددها الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ حتى الفجر ويبكي .
وكذلك استشعار عظمة الله عز وجل من أعظم الوسائل لعلاج هذه الظاهرة المخيفة أن تستشعر من هو الله ؟
الله عز وجل الذي شأنه أعظم شأن ، تعرف أسمائه وصفاته وتتدبر فيها وتعقل معانيها فإذا قلت : يا غفور _ تطلب المغفرة ، يا رحيم :تطلب الرحمة ، يا رزاق : تطلب الرزق ، يا عفو : تطلب أن يعفوا عنك ، وهكذا :
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل * * * خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ما مضى * * * ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت * * * ذنوباً على أثارهن ذنوباً
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى * * * ويأذن في توباتنا فنتوب
ومن العلاجات: طلب العلم الشرعي (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فاطر: من الآية28)العالم أكثر الناس يخشى الله ، هل يستوي العالم والجاهل ؟ هل يستويان مثلاً ؟ كلاّ(2/131)
ومن العلاجات : لزوم حلق الذكر التي رغب عنها كثيراً منا ، حلق الذكر تحفها الملائكة ، وتصعد بذكرهم إلى الله عز وجل تشريفاً (ما أجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ) وفي حديث آخر ( يقال لهم قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات ، قال ملك من الملائكة : يا رب فيهم عبدك فلان ليس منهم ، وإنما جاء لحاجة ، فقال الله عز وجل : وهو قد غفرت له معهم ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم )
ومنها الاستكثار من الأعمال الصالحة ، وملأ الوقت بها ، نفسك إن لم تشغلها بالطاعة أشغلتك بالمعصية ولا بد ، ولذلك كان الرسول _صلى الله عليه وسلم _ يسأل أصحابه يوماً :من أصبح منكم اليوم صائماً ؟قال أبو بكر :أنا ، من أطعم منكم اليوم مسكيناً ؟ قال أبو بكر:أنا ، من تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر: أنا ، من عاد اليوم منكم مريضاً ؟ قال أبو بكر :أنا ، كل وقته مشغولاً بعبادة الله ..هذا أبو بكر ..
أبو بكر هيأه الله تعالى للآخرة ، فما المناع أن نقتدي به ، وأن نملأ أوقاتنا كلها بطاعة الله عز وجل ، ونسارع في الخيرات ، تريدون أن يحبكم الله عز وجل ، تريد أقصر الطرق إلى أن يحيك الله عز وجل سبحانه وتعالى ، أنت تحب الله لا محالة ، لكن هل تعلم هل الله عز وجل يحبك أم لا يحبك ؟ ..
تريد أن يحبك الله فاسمع : قال الله عز وجل في الحديث القدسي :( ما تقرب الله عبدي بشي أحب إلى مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولأن استعاذتي لأعيذ نه ،ولأن سألني لأعطينه ) ..
ومها كذلك : من العلاجات :أن تخاف من سوء الخاتمة ..
كم من رجل نقرأ عنه في السير ، ونسمع من أخباره ، كان على طاعة الله زمن كثيراً ، ثم قبل موته بأيام ، أو حتى بساعات ودقائق : زاغ قلبه ، فمات على الكفر والعياذ بالله ، ولذلك يقول ابن الجوزي رحمه الله : كنت أرى عالماً من العلماء عند موته يقول : هاهو الله ذا يظلمني ، ظلمني الله ، فمات على سوء خاتمة والعياذ بالله ..
ومنها أن تكثر من ذكر الموت ، الموت نسيناه ، ولا بد لنا منه ، والموت ميزته أنه يأتي بغتة ، ولا يستأذن أحداً ، ولا يقول عندها الإنسان ربي ارجعون ، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت .. هذا الكلام يقوله المهمل ، ويقوله المسوف المسرف على نفسه في الذنوب ، ولذلك النبي _ صلى الله عليه وسلم _ كان يكثر من تدبر هذه القضية حتى أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ، ولم يأذن الله عز وجل له بالاستغفار لها ..
ومنها كذلك : كثرة ذكر الله سبحانه وتعالى .. أعرف رجلاً : لا يعرفه الناس إلا بكثرة ذكر الله ، وهو أستاذ دكتور في جامعة من الجامعات ، ومع ذلك يدخل القاعة ويخرج منها ويمشي في الأسواق ، ويخالط الناس ، والناس كلهم يعرفون كثرة ذكر هذا الرجل لله سبحانه وتعالى ، لا تجده إلا شغال ، لسانه دائم بذكر الله ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا أعرف رجلاً أكثر منه انشراح صدر .. تريد قيام الليل أكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى ، وأكثر من الاستغفار ، يهيئك الله عز وجل لهذه الطاعات ..
فكر في حقارة هذه الدنيا ، كم أخذت منك من حبيب وقريب وحاسب نفسك قبل أن تحاسب ..
وأخيراً : مد يدك إلى الله سبحانه وتعالى ، واسأله أن يوفقك إلى زيادة الإيمان في القلب ، وأن يثبتك على دينك حتى تلقاه ، نحن في هذا الزمن الذي يخاف فبه المؤمن على نفسه _ لا بد من الضرع إلى الله سبحانه وتعالى ، لا بد من مد هاتين اليدين إلى الله ومن ذرف الدموع ، ومن استجداء الله عز وجل والتذلل بين يديه .
هل تعلم أن الله يغضب على العبد إذا لم يدعوه ، إذا لم يدعه العبد يغضب عليه ..
غضب الإله إذا تركت سؤاله * * * وبني آدم حين يسأل يغضب
فأسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه حتى نلقاه _ اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين _
موسى محمد هجاد الزهراني
============
طريق السعادة في القرآن الكريم
الكاتب : أحمد دعدوش
سؤال جوهري لا بد وأن يؤرق كل شاب وفتاة مقبلان على دروب النضج،. فعليه تتوقف سعادة الإنسان، وبه ترسم الأهداف، وعليه تدور كل أشكال الحياة. إنه السؤال الذي ما زال يعبث بعقول الفلاسفة، ويلهب خيال الشعراء، ويدير دفة التاريخ. وهو الذي قلّما اهتدى الإنسان إلى جوابه، بل لطخ تاريخه الطويل بالمحن التي ما كانت لتنزل به لو أنه أحسن السعي في طلبه والاهتداء إليه. فما أكثر التجاءه إلى الأساطير التي فر إليها من مواجهة الحقيقة، وما أقبح خيانته للأمانة التي حملها على عاتقه طائعا غير مكره: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا".(2/132)
إنه سؤال الوجود الكبير، سؤال كيف ولماذا ومن أين وإلى أين، السؤال الذي يكاد يلاحق الإنسان كيفما أدار وجهه وهو يشق طريقه في هذه الحياة، وهو السؤال ذاته الذي ما فتئ الإنسان يصطنع الأعذار للإفلات من قبضته، بعد أن زين له الشيطان طول الأمل، فغمس نفسه في الشهوات غير عابئ بما كان وما يكون، يقول ابن الجوزي في (تلبيس إبليس): " ثم جاء إبليس يحث على العمل بمقتضى ما في الطبع، صعُبت المجاهدة، إلا أنه من انتبه لنفسه علم أنه في صف حرب وأن عدوه لا يفتر عنه، فإن فتر في الظاهر بطّن له مكيدة وأقام له كمينا"[1].
هذا السؤال هو الذي يجب أن يقف كل منا عنده، وأن يبذل كل جهده في سبيل الخلوص إلى جواب محكم عليه، كي يتصالح مع نفسه وقلبه، ويعيش حياة متوازنة توصله بثقة وثبات إلى بر الأمان، أما المتغافل عن حقيقة وجوده وحكمة خلقه فهو كالذي شبهه الدكتور البوطي برجل دخل مغارة مظلمة في مكان موحش، فوجد عند مدخلها بقايا لجثة إنسان، فما كان منه إلا أن وضع رأسه وأسلم جفنيه للنوم، غير آبه بما يحتمل أن يكون في جوف هذه المغارة من وحوش ضارية، وهو يمنّي نفسه بالفرار إذا استيقظ، مع أن الموت قد يفاجئه في أي لحظة.
ولخطورة الأمر وإلحاح عجلة الزمن، أرى أن أخوض معكم أحبتي القراء غمار هذا السؤال العنيد، ولا أقصد بذلك أن نخرج في هذه العجالة بجواب قاطع يريح العقول ويهدئ النفوس، فكل منيتي أن نضع أقدامنا معا على درب النجاة، وأن نواجه شيطان الهوى بالسعي الدءوب بحثا عن الحقيقة، عسى أن نصل بإذن الله تعالى إلى مفاتيح السعادة في الدنيا والآخرة.
كيف نبدأ؟
لا شك في أننا جميعا نؤمن بوجودنا الحقيقي ضمن هذا الزمان والمكان، فلم يشذ عن هذه القاعدة إلا بعض السفسطائيين الذين أمتعوا دارسي الفلسفة بخزعبلات شكوكهم التي لا تنتهي، فبداية بحثنا عن الحقيقة يجب أن تنطلق من تحديد مكاننا على طريق البحث، وهو واحد من احتمالات ثلاث[2]:
1- أن يكون أحدنا قد آمن بالله وكل ما جاء به رسوله بالفطرة والبداهة، ولم يخطر بباله شيء من الشك في أصول عقيدته، وهو مشغول بعمله والسعي في رزقه، فهذا الإنسان قد وصل إلى طريق النجاة بأقصر الطرق، ولن نكلفه بشيء من البحث كي لا نفسد عليه إيمانه، لأن الرسول (ص) لم يطالب العرب بأكثر من الإيمان، ولم يكلف أحدا بمعرفة البراهين العقلية الموصلة إليه.
2- أن يكون قد وصل إلى الإيمان بفطرته، ولكنه يتمتع بذكاء قد يحرك في عقله دائما نوازع الشك والتساؤل حتى اهتزت طمأنينته، فعليه إذن ألا يتغافل عن هذه الشكوك، بل يبحث عن الحقيقة عند أهلها بالحجة والبرهان حتى تطمئن نفسه.
3- ألا يكون الحظ قد حالفه في الوصول إلى الحقيقة بعد، فهو إما باحث عنها راغب فيها، وهو من نسعى للأخذ بيده وهدايته، وإما معاند مستكبر قد ختم الله على قلبه، فلا بد من ملاطفته بالحكمة والموعظة الحسنة لأن الهداية نور من الله يرسلها إلى من يشاء من قلوب عباده ولا سلطة لنا على ما وراء ذلك.
وبعد أن يحدد كل فرد منا مكانه على هذه الخارطة، ينبغي له الانتقال إلى المرحلة التالية، فإن كان من الفئة الأخيرة، فعليه أن يبدأ إذن بالبحث الجدي عن حقيقة وجوده، وعن حقائق الكون الكبرى، وعن علاقته بكل المكونات من حوله، فإذا وصل معنا إلى الطمأنينة بالإيمان الكامل بالله تعالى خالقا ومدبرا لهذا الكون بكل ما فيه، وبأن هذا الكون قد خُلق لغاية عظمى قد تخفى على عقولنا، وأن غاية وجودنا تتلخص في السعي إلى مرضاة الله تعالى بإعمار أرضه والقيام بحقوقه وحقوق عباده، آن له إذن البحث معنا عن الوسيلة التي يصل بها إلى تحقيق هذه الغايات الكبرى، وهي التي تقوم عليها فلسفة السعادة التي ضل عنها معظم البشر، وجاء بها القرآن الكريم في أكمل صورة وأبلغ بيان.
طريق السعادة
لكي يصل الإنسان إلى طريق السعادة، وبعد أن أدرك حقائق الوجود الكبرى، عليه أن يتطلع إلى الكشف عن الطريقة السليمة للتعامل مع المحاور الرئيسية لهذا الوجود، وهي: الله جل وعلا، الإنسان، والكون[3]. ونبدأ بالموجود الأول الذي تخضع له كل الموجودات، فبعد أن يتعرف الإنسان إلى الله سبحانه من خلال ما ورد عنه في كتابه الكريم وفي سنة رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم، أو من خلال الأدلة البرهانية التي أبدعها علماء الكلام بطريق المنطق والفلسفة، فإنه سيستنتج بالبداهة حقيقة الوجود الأولى، وهي أن السعادة في الدارين منوطة برضاه تعالى والامتثال لأوامره والوقوف عند حدوده.(2/133)
أما المحور الثاني وهو الإنسان، فلعله من أكثر الألغاز استغلاقا على العقول منذ القدم، ولا يقتصر ذلك على مرحلة ما بعد سقراط الذي صرف الفلاسفة عن البحث في الكون إلى البحث في الإنسان، بل إن البحث في الكون نفسه لم يكن عند القدماء الذي لم يصل إليهم نور الوحي إلا إسقاطا لطبيعة الإنسان على ما حوله من ظواهر الوجود، بدءاً من التصور الحيوي للطبيعة - وكأنها مخلوق عاقل- ووصولا إلى أنسنة الآلهة المتعددة. أما القرآن الكريم فقد وضع للإنسان منهجا متكاملا ليتبصر ذاته عبر إدراكه للحقيقتين التاليتين:
1- أنه مخلوق تافه، أصله من تراب وماء مهين، ومصيره إلى جثة هامدة، وهو فيما بينهما يحمل النجاسة في جوفه، ويستقذر كل ما يخرج من بدنه. يقول الله تعالى: "قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره" [عبس: 17- 21].
2- أنه مع ذلك مكرم على سائر المخلوقات الأخرى[4]، فقد أسجد الله الملائكة لجده آدم، وسخّر له الأرض والدواب، وأكرمه بالعقل الذي صنع به المعجزات. قال تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" [الإسراء: 70].
فجوهر الإنسان إذن لا يمكن فهمه إلا بتصور هاتين الحقيقتين معا، وبهذا التصور يستقيم التوازن القائم على الإيمان بأن كل ما يحققه الإنسان من مجد وعز ومال وعلم وغير ذلك فإنه ليس إلا من فيض الله تعالى عليه، أما الإنسان بذاته فليس إلا كتلة من اللحم والعظم تسمو بها نفسه التي يجب عليه تهذيبها وترويضها بالعلم النافع والعمل الصالح، وأنه على الرغم من ضعفه وتفاهته إلا أن الله تعالى قد أكرمه بصفات تؤهله لحمل الأمانة التي لم تقدر عليها الكائنات الأخرى من حوله: " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" [الأحزاب: 72] . وإذا أخل الإنسان في إيمانه بشرط التوازن بين الحقيقتين فإما أن ينصرف ذهنه إلى حقيقته الأولى فلا يرى من نفسه إلا جسدا قذرا شهوانيا لا هدف له ولا غاية، فيقبل على ملذاته كالبهائم حتى يقضي على نفسه بإذلالها كما هو حال الماديين (الماركسيين) الذين لم يروا في الإنسان أكثر من آلة. أو أن تطغى على فكره الحقيقة الثانية فتؤدي به إلى التكبر والتأله كما هو الحال عند الوجوديين[5].
وبعد أن يدرك الإنسان حقيقة وجوده، تتطلع نفسه للتأمل في كنه الحياة التي جُبل على التعلق بها، فهي الأساس الذي تقوم عليه كل ملذات الدنيا ومباهجها، وعليها يقوم الأمل في تحصيل ما ترغب فيه النفس وتميل إليه. وإذا عاد مرة أخرى إلى القرآن الكريم ليستشف منه تعريف الحياة فسيجد نفسه أمام منهج تربوي كامل يقوم على محورين:
الأول: أن الحياة ليست إلا جسرًا تمر عليه الكائنات في طريقها نحو الآخرة، وأن هذه الدنيا في قصرها وسرعة زوالها لا تساوي شيئا يذكر في جنب الخلود الذي سيعقبها، كما أن الآخرة على امتدادها اللانهائي متوقفة على ما يكون عليه حال الإنسان في هذه الحياة الأولى، فهو إذن في مرحلة امتحان دائم، وكل ما يراه من حوله من مباهج وملذات ومتع، أو من مآسي وجراح وكوارث، فإن هذا كله ليس إلا أياما قليلة سرعان ما تنقضي، وستوضع بكل ما تحتويه في كفة الميزان لتحدد مصيره الأبدي، قال تعالى: "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" [العنكبوت: 64].
أما المحور الثاني فهو مكمل لهذا الأول، إذ يعمل على إعادة التوازن لهذه الرؤية، فلا تهون الحياة في نظر الإنسان، ولا ينصرف عن إعمار الأرض بالعلم والعمل إلى التقشف وانتظار الموت. قال تعالى: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" [هود: 61]، "ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك" [القصص: 77]، "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة" [النحل: 97]. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم"، كما أعلن أن زوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم.(2/134)
وبهذه الرؤية المتكاملة تغدو الحياة في نظر المسلم كنزاً ثمينا يتوجب عليه استثماره، فهي في جوهرها لا تستحق من الاهتمام أكثر من كونها جسرا للسعادة الأبدية، كما أنه في الوقت نفسه مأمور بعدم التفريط فيها لقدسيتها وقيمتها العظيمة عند الله تعالى "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" [المائدة: 32]. أما المباهج وألوان المتع التي تصادفه فيها فليست إلا زخارف تتزين بها لإغواء ضعاف النفوس، ولكنها لا تُكره أيضا لِذاتها إذا ما أحسن استخدامها "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة" [الأعراف: 32]. وبهذا الفهم يخوض المسلم غمار الحياة بملذاتها واثق الخطى، بعد أن استيقن أن كل ما ملكه فيها غير باق، فهو إذن في سعي دائم للاستمتاع بها دون إسراف، مع إيمان داخلي بأن ما امتلكه منها في قبضة يده وليس في قلبه "لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" ، وهكذا فهم السلف الصالح الزهد بأنه قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء[6].
وبهذا ينتقل المسلم في تأمله إلى المحور الثالث والأخير في فهمه للوجود، وهو الكون الذي يحوي كل الكائنات المحيطة به، ويبدأ التأمل فيه من قوله تعالى: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" [يونس: 101]، ثم يمضي في دراسة عشرات الآيات التي تدعوه للتفكر في خلق الله وبديع صنعه، ليخرج منها بنتيجة مشابهة للتي حصل عليها من تأمله السابق في حقيقة وجوده وحياته، وسيكتشف أن فهمه للكون يجب أن ينطلق أيضا من إدراك حقيقتين متكاملتين: الأولى هي حقيقة أن الله تعالى قد سخّر له معظم ما يحيط به من كائنات، إذ أن تفضيله عليها ليس مقتصرا فقط على تمتعه ببعض الميزات، بل يعدوه إلى تسخير هذه الكائنات لخدمته وتحقيق رفاهيته. قال تعالى: "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" [لقمان: 20]، "وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" [النحل: 12]، "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور" [الملك: 15]. وسيجد المسلم في مزيد من الآيات دلائل باهرة على تسخير هذا الكون له وتمكينه منه، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ضرورة استئناسه بهذا الكون، واستبطانٌ للنهي عن الجزع مما قد يلاقيه فيه من كوارث ونوازل قد تحل به، فالطبيعة إذن ليست في تحدٍ دائم مع الإنسان الضعيف، والإنسان أيضا ليس في صراع مستمر للتغلب على طغيان الطبيعة. أما الحقيقة الثانية فهي أن الكون لم يكشف للإنسان كل أسراره بعد، فعلى الرغم من التسخير والتمكين إلا إن طائفة أخرى من المكوَّنات ما زالت غائبة عن إدراك الإنسان أو خارجة عن سيطرته، فالكون يضج بالملائكة والجان، وقد يحتوي أيضا على مخلوقات أخرى ليس في مُكنة الإنسان التعرف على حقيقتها أو حتى العلم بوجودها. ووجود الإنسان فيه لا يعدو أن يكون ذرة صغيرة لا تكاد تذكر أمام عظمة هذا الكون واتساعه.
وبهاتين الحقيقتين تتكامل رؤية المسلم للكون المحيط، فهو مدرك تماما لمكانته المتميزة بين كافة المخلوقات، حيث جعله الله تعالى مركز الوجود الذي تُسخر له معظم الموجودات الأخرى، وهو في الوقت نفسه مدرك لحقيقة استغلاق بعض الأبواب عليه، وأن قدراته العجيبة مهما بلغت من سمو فإنها لن تطرق تلك الأبواب، ولكنه مع ذلك مدعوّ للبحث والفضول، فقد حث القرآن الكريم على التساؤل والنظر، وهذا ما فهمه إبراهيم الخليل عليه السلام عندما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى، لعلمه بأن التطلع إلى معرفه هذه الأسرار لا يتناقض مع الإيمان بها على الرغم من استغلاقها.
النتيجة
بهذا الإيمان يتصالح المسلم مع خالقه ونفسه والكون الذي من حوله، فهو مدرك أولا لحقيقة عبوديته لله تعالى وقائم بما يلزم عنها من واجبات، ومدرك ثانيا لقيمة نفسه كمخلوق أكرمه الله بتسخير الكائنات له، وأنه قد هبط إلى الأرض ليمتحن فيها قبل أن يعود إلى الجنة التي خُلقت له، فهو مكلف بإعمار هذه الأرض "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" [هود: 61]، ومكلف أيضا بترويض نفسه للأخذ من الشهوات ضمن قيود الشرع وحدود الحاجة.
فإذا انتهينا إلى هذا الفهم المتكامل للخالق سبحانه وللنفس والكون، فقد حقّ لنا الآن أن نتساءل عن النتيجة العملية التي يمكن أن نجنيها من تطبيق هذا المفهوم، ولعل خير إجابة عن هذا السؤال تتخلص في استقراء الواقع الذي عايشه أشخاص سبق لهم وأن طبّقوه، ولن نجد مثالا أفضل من الصحابة رضي الله عنهم.(2/135)
لقد نشأ الرعيل الأول من أمة الإسلام على تربية قرآنية فريدة، فهي لا تقتصر في عرض المفهوم الشامل للوجود -السالف بيانه- على الجانب الفكري فحسب، بل تخاطب كلا من العقل والوجدان في تناسق بديع معجز. وقد لخص أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا المنهج في وصيته لخليفته عمر بقوله: "ألم تر يا عمر، إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، ونزلت آية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه" [7]، فكان الصحابة يقرءون القرآن على حال من الرغبة والرهبة، وقلوبهم تتفطر شوقا إلى لقاء الله وخوفا منه في آن معا[8]. وكان القرآن الكريم يتنزل تبعا لتدرجهم في هذه التربية، فبعد أن انتصروا في أول غزوة لهم في بدر ووجدوا بين أيديهم الكثير من الغنائم، وكانوا قد تركوا لقريش أموالهم وهاجروا إلى يثرب محتسبين أجرهم على الله، عندها تنازع الشيوخ الذين بقوا تحت الرايات مع الشباب المحاربين في اقتسام الغنائم، فما أن لجأوا إلى رسول الله ليقسم بينهم حتى تنزل الوحي ينهرهم: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم" [الأنفال: 1-4]، عندئذ ارتدعوا جميعا -رضي الله عنهم- وتركوا الغنائم للرسول فرحين بنصر الله تائبين إليه، وما أن عادت الطمأنينة إلى قلوبهم الطاهرة وطردوا عنها علائق الدنيا حتى تنزل الوحي بقسمة الغنائم: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل..." الآية [الأنفال: 41]. وما أن نضج المفهوم المتكامل للإيمان في قلوب تلك الأمة حتى خرجوا ليفتحوا مشارق الأرض ومغاربها، غير آبهين بزخارف الدنيا التي انبسطت تحت أقدامهم، إلى أن دخل ربعي بن عامر بثوبه المرقع على قائد الفرس رستم وهو يمزق البُسط الفاخرة برأس رمحه، ويقف رافع الرأس وهو يتحسر على الرعية التي طأطأت الرؤوس للقائد قائلا: "أتينا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة"، فيتهامس الجلوس من كبار القوم: "والله لقد تحدث بكلام طالما تطلع إليه عبيدنا".
أما اليوم، فلن نفاجأ كثيرا بنتائج الاستقصاء الذي أجرته مجلة النيوزويك الأمريكية حول أكثر شعوب العالم سعادة، حيث تربّع الشعب النيجيري الفقير ذو الأغلبية المسلمة على رأس القائمة التي تضم خمسا وستين دولة، وتلته شعوب كل من المكسيك، فنزويلا، سلفادور وبورتوريكو، بينما احتلّت الدول المتقدمة - أمام دهشة معدّي التقرير- مراكز متأخرة على سلم السعادة. ولكننا قد نقف طويلا أمام اعتراف معظم الأمريكيين المستجوبين في التقرير بأن السعادة لا تتعلق بالغنى والمال[9]، وهو ما يبدو مستغربا في مجتمع براغماتي قام في تأسيسه على أكثر أشكال الرأسمالية تطرفا. الأمر الذي دفع المجلة ذاتها فيما بعد لتقصي ظاهرة عودة الدين للانتشار في الولايات المتحدة[10]، لتدور التساؤلات من جديد حول السعي اللاهث للأمريكيين في البحث عن السعادة، عبر وصفات التأمل العابرة، والتي تؤخذ كجرعات لعلاج النفوس المتعبة.
أما التساؤل الذي لم يتجرأ أحدهم على طرحه فهو: ماذا عن العلاج المتكامل الذي يفي بحاجات كل من الروح والجسد والمجتمع عامة في تناسق تام ويهدي الإنسان إلى طريق السعادة الحقيقية في هذه الحياة، ثم يضمن له السعادة الأبدية في ما بعدها؟
هذا هو السؤال الذي ما زال الإنسان مصرّاً على التفلسف حوله، وبعيدا عن مصدره الأصيل. قال تعالى: "يا حسرة على العباد، ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون" [يس: 30].
000000000
[1] ابن الجوزي، تلبيس إبليس، السطور الأخيرة من الكتاب.
[2] الإمام الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، دار غار حراء، دمشق، ص 9- 13، بتصرف.
[3] هذا التصنيف مأخوذ بتصرف عن كتاب منهج الحضارة الإسلامية في القرآن الكريم للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فيرجى الرجوع إليه للاستزادة.
[4] يرى جمهور العلماء أن الإنسان مكرم حتى على الملائكة، انظر شرح العقائد النسفية ص 501(2/136)
[5] قد يظن القارئ لفكر الوجودية للوهلة الأولى أنها كرّمت الإنسان بجعله محور الوجود، وبقصرها للحقيقة على الإنسان وحده، بل على الفرد بحد ذاته، ولكني أرى أن تطرف هذا الفكر عند سارتر وأتباعه قد أدى إلى النقيض، وذلك بانطلاق سارتر في فلسفته من منح الفرد حريته المطلقة، مما أدى به إلى الاعتراف بأن الوجود الإنساني ليس إلا مأساة، وأن حياته مجرد عبث تتصارع فيه الظروف القاسية مع الحرية التي لا تعترف بالقيود مما يؤدي إلى الصراع النفسي الذي عايشه كل الفلاسفة الوجوديين الأحرار وفاضت به آدابهم من أمثال سيمون دوبوفوار وأندريه جيد وفرانسواز ساغان، ولعل كتاب (الغثيان) لسارتر يغني عن الشرح.
[6] هذه المقولة للتابعي الجليل سفيان الثوري.
[7] الجاحظ، البيان والتبيين، 2/45
[8] لمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع، انظر كتاب: منهج تربوي فريد في القرآن، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الفارابي، ط1، ص 61 وما بعدها.
[9] نيوزويك، الطبعة العربية، 3/8/2004 ، ص 58
[10] نيوزويك، الطبعة العربية، 6/9/2005
أحمد دعدوش
-----
السعادة الحقيقية
ليست السعادة قصر عبد الملك بن مروان ، ولا جيوش هارون الرشيد ، ولادور إبن الجصاص ، ولاكنوز قارون ، ولا في كتاب الشفاء لأبن سيناء ، ولا في ديوان المتنبي ، ولا في حدائق قرطبه ، أو بساتين الزهراء .
ليست السعادة شيكاً يصرف ، ولا دابة تشترى ، ولا وردة تشم ، ولابراً يكال ، ولابزاً ينشر.
السعادة سلوةٌ خاطرِ بحق يحملة ، وانشراح صدر لمبدأ يعيشه وراحة قلبِ لخير يكتنفه.
كلنا نظن أننا إذا أكثرنا من التوسع في الدور ، وكثرة الأشياء ، وجمع المشتهيات ،أننا نسعد ونفرح ونمرح ونُسر ، فإذا هي سبيل للهم والكد والتنغيص.
دعونا مما سبق ولنذهب إلى أكبر مصلح بالعالم رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم ، عاش فقيراً يتلوى الجوع ، لايجد تمره يسد بها جوعه ، ومع ذالك عاش في نعيم لايعلمه إلا الله ، وفي انشراح وإرتياح وانبساط .
فعليكم الأن طوي صفحات الماضي ، ولنقدم معاَ كل مانملكه من إحسان وبر وطاعه وحب وإخلاص فهاذه هي السعادة الحقيقية.
وإن سلامة المسلم بدينه أعظم من مُلك كسرى وقيصر لأن الدين هو الذي يبقى معك حتى تستقر في جنات النعيم
-------
القواعد الأساسية فى السعادة الحقيقية
والله إن السعادة أساسها حب الله وطاعته، حتى تنالي الحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده الصالحين وإماؤه الصالحات.
وعليكِ أختاه أن تكوني راضية عن كل شيء؛ عن نفسك، وعن زوجك، وعن حياتك حتى البلاء ترضين به... ما دام البلاء من عند ربك حبيبك إذن يجب أن ترضي. ويجب أن تتحلي بالصبر؛ فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس. وإنه لا يفشل أبداً إنسان يحاول ويحاول.. فلمَ لا تحاولين أن تكوني سعيدة؟؟
فاتركي الحزن والكآبة؛ فإن الشيطان يريدك أن تكوني حزينة حتى يشغلك حزنك عن العمل والعبادة فتخسرين آخرتك ودنياكِ. فأفيقي ولا تطيعيه.
يا أمة الله إن لكِ رباً كريماً لن يخذلك أبداً. يا أختاه إن ربك لا يغفل عنكِ أبداً، فالجئي إليه فليس لكِ أحداً سواه، ونعم بالله معيناً.
وإليكِ يا أختاه هذه القواعد:
1. الإيمان بالله, والعمل الصالح, هو الحياة الطيبة السعيدة
2. انسي الماضى بما فيه, فالاهتمام بما مضى وانتهى حمق وجنون (إلا إن كان التذكر لأخذ العبرة والاتعاظ مستقبلاً).
3. لا تشتغليي بالمستقبل, فهو في عالم الغيب, ودعي التفكر فيه حتى يأتي.
4. لا تهتزي من النقد, بل اثبتي واعلمي أن النقد يساوي قيمتك.
5. اعلمي أنكِ إذا لم تعيشي في حدود يومك تشتت ذهنك, واضطربت عليكِ أمورك, وكثرت همومك وغمومك. وهذا معناه: إذا أصبحتِ فلا تنتظري المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظري الصباح.
6. من أراد الاطمئنان والهدوء والراحة فعليه بذكر الله سبحانه وتعالى. فال الله تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
7. على العبد أن يعلم أن كل شيء بقضاء وقدر.
8. لا تنتظر شكراً من أحد. قال الله تعالى في وصف الأبرار: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً).
9. وطني نفسك على تلقي الشدائد.
10. تعلمي دينك؛ فإنك بذلك تعرفين ربك فتحبيه، وتعرفي الحلال فتفعليه، والحرام فتجتنبيه.
11. كل قضاء للمسلم خير له.
12. فكري في النعم واشكري المنعم جل جلاله.
13. أنت بما عندك فوق كثير من الناس.
14. من ساعة إلى ساعة فرج.
15. بالبلاء يستخرج الدعاء.
16 . المصائب مراهم للبصائر وقوة للقلب.
17. إن مع العسر يسراً.
18 . لا تقضِ عليكِ التوافه.
19. إن ربك واسع المغفرة؛ فعليك بالاستغفار وخاصة في السحر فلقد أقسم الله وقال سبحانه: (والمستغفرين بالأسحار). والاستغفار سبب في سعة الرزق وتوالي النعم؛ فلا تتركيه.
20. لا تغضبي, لا تغضبي, لا تغضبي.
21. الحياة خبز و ماء وظل, فلا تكترثي بغير ذلك.
22. (وفي السماء رزقكم وما توعدون) واعلمي أن رزقك لن يأخذه غيرك؛ فاطمئني.(2/137)
23. أكثر ما يخاف منه لا يكون.
24. لكِ في المصابين أسوة. فإذا فقدتي عين فاحمدي الله فغيرك بلا عينين. وإذا فقدتِ ابنك فاحمدي الله على بقية أبنائك فغيرك محروم من ابن واحد.
25. اعلمي أن السعادة ليست في المال، فإن في المال فتنة كخوفك على ضياعه، وحرصك على جمع المزيد منه،وتعرضك للمخاطر كالسرقة والقتل بسببه. واعلمي أنك إذا رضيت بما عندك كنت أغنى الأغنياء، ولو لم تكوني تملكين الكثير.
26. إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم.
27. كرري أدعية الكرب.
28. عليكِ بالعمل الجاد المثمر, واهجري الفراغ.
29. اتركي الأراجيف, ولا تصدقي الشائعات.
30. حقدك وحرصك على الإنتقام يضر بك أكثر مما يضر المنتقَم منه.
31. كل ما يصيبك فهو كفارة للذنوب؛ فقد تكوني دعوت بالفردوس الأعلى من الجنة ولكنك لديك ذنوب كثيرة وحسنات قليلة، فيبتليك ربك ليكفر عن ذنوبك وحتى تزيد حسناتك فتدخلين الفردوس.
32. تمسكي بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولن تهلكي ولن تضلي.
33. لا تحزني فإن الدنيا أحقر من أن تحزني من أجلها. فإذا أردت أن تحزني وكنت مصرة على ذلك فاحزني على موت رسول الله عليه الصلاة والسلام، واحزني لأنك لم تريه -عليه الصلاة والسلام- في الدنيا ولم تتمتعي بالنظر إليه -عليه الصلاة والسلام- فلا تحزني على أى شيء تافه.
34. فليكن قلبك شاكراًَ، ولسانك ذاكراً، وجسمك صابراً. شكر وذكر وصبر فيها نعيم وأجر.
35. تذكري قول الرسول عليه الصلاة و السلام: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" [السلسلة الصحيحة 2318]
36. إذا أردتِ الراحة فهلمي للصلاة... "أرحنا بها يا بلال".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وسلم تسليماً كثيراً.
لا تنسوني في دعائكن؛ فإن دعائك لأختك المسلمة بظهر الغيب مستجاب بإذن الله وستقول لك الملائكة "ولك مثلها"
============
برنامج تعليمي ذاتي
التفسير
علوم القرآن
دواوين السنة
شروح كتب السنن
علوم الحديث
العقيدة
السيرة
أصول الفقه
الفقه المقارن
فقه المذاهب
فقه الأحكام
الفرائض
الأدب والسلوك
العلم: فضله، طلبه، أدب العالم والمتعلم
لمعرفة البدع والمحدثات
الدفاع عن السنة
الأذكار
الفِرَق
الفتاوى
الاجتماع
التاريخ
لمعرفة الصحابة
اللغة العربية
السياسة الشرعية
التراجم
هذه كتب مقترحة لطالب العلم يتدرج في تلقيها وتعلمها ، يبدأ بصغارها وينتهي بكبارها ، مع الاجتهاد أن يتلقى بعضها على المشايخ ، والحذر كل الحذر من النظر إلى كتب أهل الأهواء .
تنبيه ... المؤلف ... اسم الكتاب
... ... التفسير
تفسير حديث، مُجَلّد واحد،خالي من تأويل الصفات، فهو مفيد ... لعبد الرحمن بن ناصر السعدي ... تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان
... للجلال السيوطي والجلال المُحَلَّى ... تفسير الجلالين
يغلب عليه كثرة رواية الأحاديث ... لابن كثير
... تفسير القرآن العظيم
يركز على الأحكام الفقهية ... للقرطبي ... الجامع لأحكام القرآن
... ... علوم القرآن
لمعرفة رقم الآية والسورة تحت أي كلمة من الآية ... لمحمد فؤاد عبد الباقي ... المعجم المفهرس لألفاظ القرآن
عن علوم القرآن المختلفة، الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد ونحوها ... د. صبحي الصالح ... مباحث في علوم القرآن
3 مجلدات يتكلم عن كل أنواع التفسير وخصائصها مع التمثيل لها ... د. محمد حسين الذهبي ... التفسير والمفسرون
... للنووي ... التبيان في آداب حملة القرآن
... ... التجويد والقراءات
في رواية حفص عن عاصم ومعها شريطا "كاسيت"، أوأيّ مذكرة أخرى يبدأ بها مع المصاحف المعلمة لكبار القراء ... للشيخ محمد نبهان ابن حسين المصري
... مذكرة في التجويد
... للقاسم بن فيُّره الأندلسي الضرير ... حرز الأماني ووجه التهاني
... لمحمد بن الجزري ... طيبة النشر
... ... دواوين السنة
... النسخ المحققة المفهرسة لمحمد فؤاد عبد الباقي وللألباني ... صحيح البخاري
يجمع كل طرق الحديث في مكان واحد، فهو أحسن ترتيباً وتنظيماً من صحيح البخاري ... ... صحيح مسلم
ما سكت عنه أبو داود فهو صحيح أومقبول عنده ...
... سنن أبي داود
... تخريج الشيخ عبد الفتاح أبوغدة ... سنن الَّنسائي
هو كتاب حديث وفقه مع الحكم على الأحاديث ... ... سنن الترمذي وهو الجامع الصحيح
... ... سنن ابن ماجة
من أجمع كتب السنة وأفضلها ترتيباً ... ... سنن البيهقي
... ... شروح كتب السنن
وهو أشملها وأفضلها ... للحافظ ابن حجر ... فتح الباري شرح صحيح البخاري
... ... صحيح مسلم بشرح النووي
يحوي على فوائد فقهية كثيرة ... للخطابي ... معلم السنن ، وهو شرح مختصر المنذري لسنن أبي داود مع تعليق لابن القيم
... لابن العربي المالكي
... تحفة الأحوذي ، وهو شرح سنن الترمذي
4 مجلدات ... للزرقاني ... شرح الموطأ
... ... علوم الحديث
بتحقيق وتعليق الشيخ أحمد شاكر ... للحافظ ابن كثير
... الباعث الحثيث شرح علوم الحديث(2/138)
من أوائل المؤلفات في علوم الحديث ... ... مقدمة ابن الصلاح
... للخطيب أبي بكر البغدادي ... الكفاية في علم الدراية
جزءان في مجلد ... للسيوطي
... تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي
... د.محمود الطحان ... تيسير مصطلح الحديث
... د.صبحي الصالح ... علوم الحديث
والصحيح للألباني ... الجامع الصغير للسيوطي ... صحيح الجامع الصغير
والضعيف للألباني ... الجامع الصغير للسيوطي ... ضعيف الجامع الصغير
بلغت ست مجلدات ... للألباني ... سلسلة الأحاديث الصحيحة
بلغت عشر مجلدات تقريباً ... للألباني ... سلسلة الأحاديث الضعيفة
6 مجلدات ... للعلامة عبد الرؤوف المناوي ... فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير
مجلدان ... لإسماعيل العجلوني
... كشف الخفا و مزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس
مجلد ... للحافظ السخاوي
... المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة
مجلدان ... لابن الجوزي ... العلل المتناهية في الأحاديث الواهية
بتحرير الحافظين العراقي وابن حجر ... للحافظ نور الدين الهيتمي ... مجمع الزوائد ومنبع الفوائد
... ... العقيدة
وهو رسالة صغيرة ... لشيخ الإسلام ابن تيمية ... شرح العقيدة الواسطية
مجلد بتحقيق الشيخ الألباني ... لابن أبي العز الحنفي ... شرح العقيدة الطحاوية
مجلد ... لشيخ الإسلام ابن تيمية ... الإيمان
وكتاب التوحيد للشيخ محمد ابن عبد الوهاب ... للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ... فتح المجيد شرح كتاب التوحيد
... ... السيرة
مجلد ... لعبد السلام هارون ... تهذيب سيرة ابن هشام
من علماء الهند ... لصفي الرحمن المباركافوري ... الرحيق المختوم
ضمن البداية والنهاية ... لابن كثير ... السيرة النبوية
4 مجلدات ... للسهيلي ... الروض الأنٌف شرح سيرة ابن هشام
النسخة المحققة ... لابن القيم ... زاد المعاد في هدى خير العباد
مجلد صغير ... لابن حزم ... جامع السيرة
... ... الفقه وأصوله
أصول الفقه
... لمحمد الخضري بيك ... أصول الفقه
بتحقيق أحمد محمد شاكر ... للإمام الشافعي ... الرسالة
مجلدان ... لابن حزم ... الإحكام في أصول الأحكام
وهو من أفيد ما أُلف في ذلك ... للإمام الشاطبي ... الموافقات
... ... الفقه المقارن
مجلد صغير ... لابن جُزَي المالكي ... القوانين الفقهية
مجلد ... لأبي عبد الله العثماني ... رحمة الأمة في اختلاف الأئمة
4 مجلدات ... للجيزري ... الفقه على المذاهب الأربعة
بتحقيق د.التركي ود.الحلو ... لابن قدامة المقدسي ... المغني
... لابن عبد البر ... الاستذكار الجامع لمذاهب الأمصار وفقهاء الأقطار
النسخة المخرّجة الأحاديث ... لابن رشد ... بداية المجتهد ونهاية المقتصد
... د. وهبة الزحيلي ... الفقه الإسلامي وأدلته
... لسيد سابق ... فقه السنة
... ... فقه المذاهب
الحنفي
مجلدان، سهل العبارة ... لابن مودود الحنفي ... الاختيار لتعليل المختار
9 مجلدات، موسّع ... لابن نُجَيْم الحنفي ... البحر الرائق شرح كنز الدقائق
... ... المالكي
وهي أسئلة و أجوبة ... ... المدونة الكبرى ـ رواية سحنون عن ابن القاسم عن مالك
المدونة لها مختصرات عدة، وهذا أفضلها ... للبراذعي ... مختصر المدونة
احذر الطبعة الدقيقة الخط المختزلة ... للحطاب
لابن المواق ... مواهب الجليل شرح مختصر خليل وبهامشه التاج والإكليل
هما كتابان بهذا الاسم، أحدهما موسع والثاني مختصر ... لمحمد صديق الغماري ... مسالك الدلالة شرح متن الرسالة
3 مجلدات ... لابن شاس ... عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة
... ... الشافعي
... للإمام الشافعي ... الأم
وهو شرح المهذب للشيرازي و يتعرض فيه لأقوال أهل المذاهب الأخرى مع الترجيحات ... للإمام النووي ... المجموع شرح المهذب، وهو عشرون مجلداً، 9مجلدات منها للنووي، وله تكملتان: الأولى للسبكي وهي مجلدان والثانية للمطيعي وهي 9 مجلدات
النسخة المطبوعة مخرّجة الأحاديث، وهناك نسخة حققها عدد من طلاب الجامعات لم تكتمل طباعتها ... للقاضي الماوردي ... الحاوي الكبير شرح مختصر المزني تلميذ الشافعي
10 مجلدات ... للنووي ... روضة الطالبين
... ... الحنبلي
مجلد ... للشيخ منصور البهوتي ... الروض المُرْبِع شرح زاد المُستقنِع في اختصار المقنع
مع ترجيحاته، 4 أجزاء في مجلدين ... للشيخ البَسَّأم ... نيل المآرب في تهذيب عمدة الطالب
3 مجلدات ... للشيخ منصور البهوتي ... شرح منتهى الإرادات
... ... الظاهري
... لابن حزم ... المحلى
... ... فقه الأحكام
الطبعة المحققة ... للإمام الصنعاني ... سبل السلام شرح بلوغ المرام للحافظ ابن حجر العسقلاني
مجلدان ... ابن دقيق العيد ... إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن قدامة المقدسي
النسخة المحققة ... لابن رجب الحنبلي ... جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم ـ الأربعين النووية وزيادة(2/139)
... لابن العربي المالكي ... آيات الأحكام
... لمحمد علي الصابوني ... تفسير آيات الأحكام
... ... الفرائض
... ... هناك العديد من الرسائل الميسرة في الفرائض، يبدأ بواحدة منها ثم يثني بشرح الرحبية، والرحبية هي منظومة في الفرائض
... ... الأدب والسلوك
... للنووي ... رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين
والمنهاج لابن الجوزي ... لابن قدامة المقدسي ... مختصر منهاج القاصدين
3 مجلدات ... لابن مُفْلِح ... الآداب الشرعية والمنح المرعية
ومدارج السالكين لابن القيم، وقد جارى فيه كتاب منازل السائرين لأبي إسماعيل الأنصاري ... تهذيب عبد المنعم العَليّ ... تهذيب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
هذا الكتاب مليء بالأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، فليحذر قارئه منها ... لأبي حامد الغزالي ... إحياء علوم الدين وبهامشه المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار للحافظ العراقي
حققه الألباني ... للمنذري ... صحيح الترغيب والترهيب
... لابن القيم ... عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
... لابن القيم ... الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي
... للأمين الحاج ... الطريق إلى ولاية الله
... لابن القيم ... طريق السعادتين وباب الهجرتين
... ... العلم: فضله، طلبه، أدب العالم والمتعلم
بتحقيق أبي الأشبال الزهيري ... لابن عبد البر ... جامع بيان العلم وفضله
4 مجلدات ... لابن القيم ... إعلام المُوَقعين عن رب العالمين
رسالة صغيرة ... لابن رجب الحنبلي ... فضل علم السلف على الخلف
... للأمين الحاج ... العلم: فضله، وجانب من أدب العالم والمتعلم
... للخطيب البغدادي ... كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السّامع
وهو في غاية النفع ... للشيخ د. بكر أبو زيد ... حلية طالب العلم
... ... لمعرفة البدع والمحدثات
مجلدان، وهو أفضل ما كتب عن البدع ... للشاطبي ... الاعتصام
... لابن الجوزي ... تلبيس إبليس
... لابن القيم ... إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان
... لابن الحاج ... المدخل
... لابن تيمية ... اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم
... ... الدفاع عن السنة
النسخة المحققة ... لابن الوزير اليماني ... الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم
ومنهاج السنة لابن تيمية ... للذهبي ... مختصر منهاج السنة، أومنهاج الاعتدال
... د.مصطفى السباعي ... السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي
... للشيخ محمد عبد الرزاق عفيفي ... ظلمات أبي ريا أمام أضواء السنة المحمدية
... ... الأذكار
... للنووي ... الأذكار
الكلم الطيب لابن تيمية ... تحقيق الألباني ... صحيح الكلم الطيب
... لابن رجب الحنبلي ... لطائف المعارف لما لمواسم العام من اللطائف
... ... الفِرَق
قديماً
مجلد ... لأبي الحسن الأشعري ... مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين
مجلد ... للشهرستاني ... المِلَل والنِّحَل
5 مجلدات ... لابن حزم ... الفِصَل في المِلل والأهواء والنِّحَل
... للبغدادي ... الفَرْق بين الفِرَق
مجلد ... د.أحمد محمد أحمد جلي ... دراسات عن الفرق وتاريخ المسلمين "الخوارج والشيعة"
... د.مصطفى الشَّكْعة ... إسلام بلا مذاهب
... ... حديثاً
... لمحمد قطب ... مذاهب معاصرة
... للشيخ إحسان إلهي ظهيري ... القاديانية
... للشيخ إحسان إلهي ظهيري ... البهائية
... للشيخ إحسان إلهي ظهيري ... الشيعة الإثنا عشرية
... ... الفتاوى
... ترتيب الشيخ العطار ... فتاوى الإمام النووي
... للسيوطي ... الحاوي في الفتاوى
... ... فتاوى هيئة كبار العلماء في السعودية
... ... فتاوى الشيخ ابن باز
... ... فتاوى الشيخ العثيمين
... ... فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
... ... الاجتماع
وهي مقدمة تاريخ ابن خلدون، وهي مقدمة جامعة نافعة في كل العلوم ... لابن خلدون ... مقدمة ابن خلدون
... ... التاريخ
مجلد لطيف ... للسخاوي ... الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ
... للحافظ ابن كثير ... البداية والنهاية
... لابن الأثير ... الكامل
... ... لمعرفة الصحابة
وهو أفضلها وأشملها ... لابن الأثير ... أسد الغابة في معرفة الصحابة
... لابن حجر ... الإصابة في تمييز الصحابة
... لابن عبد البر ... الاستيعاب في معرفة الأصحاب
وهو كتاب كبير والمتداول فقرة منه ... لابن العربي المالكي ... العواصم من القواصم
... ... اللغة العربية
النحو
وهي سهلة وميسرة، يُبدأ بها ... لمحمد محيي الدين عبد الحميد ... التحفة السَّنِيَّة شرح المقدمة الأجرومية
مجلد لطيف ... لابن هشام ... شرح قطر الندى وبل الصدى
وهو مستويان: عام، ومتخصص ... د.عباس حسن ... النحو الوافي
... ... الصرف
... للحملاوي ... شذى العرف في فن الصرف
أو أي رسائل أخرى ... فهمي قطب الدين النجار ... قواعد الإملاء في عشرة دروس سهلة
... حسني شيخ عثمان ... كيلا نخطئ في الإملاء وعلامات الترقيم
... ... الأدب(2/140)
تكلم فيه و مثّل لكل صنوف الأدب ... أحمد الهاشمي ... جواهر الأدب
قصائد مختارة من عيون الشعر ... للمُفضّل الضبِّي ... المفضليات
اختيارات تدل على علو قدمه في الشعر ... لمحمود سامي البارودي ... مختارات البارودي
للتدرب على الأساليب الرفيعة ... لابن قتيبة ... أدب الكاتب
... لأبي علي القالي ... الأمالي
... ... المعاجم العربية
... مجمع اللغة المصري ... المعجم الوسيط
... ... مختار الصحيح
... لابن منظور ... لسان العرب
... ... شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
... للإمام الترمذي ... الشمائل الترمذية
وهي مخرجة من البداية والنهاية ... جمع د.مصطفى عبدالواحد ... شمائل الرسول لابن كثير
وهو أفضلها، النسخة المحققة ... للقاضي عياض ... الشفا بتعريف حقوق المصطفى
... ... السياسة الشرعية
... لابن القيم ... الطرق الحُكْمِيَّة في السياسة الشرعية
... للقاضي الماوردي ... الأحكام السلطانية
... ... الحسْبَة لشيخ الإسلام ابن تيمية
مجلد كبير ... لإمام الحرمين ابن الجويني ... غِياث الأُمم في التَّيَاث الظُلَم
... ... التراجم
من أنفع الكتب وأقيمها لأنها تحوي سير الصالحين وأدب العارفين
مجلدان، قاصر على علماء المالكية ... للقاضي عياض ... ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك
مجلد كبير، قاصر على علماء المالكية كذلك ... للشيخ محمد بن محمد مخلوف ... شجرة النور الزكية في طبقات المالكية
مجلدان، قاصر على من روى عن أحمد وعلى علماء الحنابلة ... للقاضي أبي يَعْلَى ... طبقات الحنابلة
وهو متمم لكتاب أبي يعلى ... لابن رجب الحنبلي ... ذيل طبقات الحنابلة
... لابن خَلَّكان ... وفيات الأعيان
وقد ترجم لكل من دخل بغداد من الصحابة فمن دونهم، وهو من أشملها وأنفعها ... للخطيب البغدادي ... تاريخ بغداد
وهو حديث وله تكملة، فهو شامل للأقدمين والمحدثين
... لخير الدين الزركلي ... الأعلام
==================
كن في الدنيا كأنك غريب
www.almosleh.com
الحمد لله رب العالمين أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه بعثه الله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد بالعلم والبيان والسيف والسنان حتى أتاه اليقين وهو على ذلك فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد. . .
فنحمد الله سبحانه وتعالى حمداً طيباً مباركاً فيه نحمده سبحانه أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً على ما أولانا من النعم فنعم الله علينا تترى أيها الإخوان ألا وإن من أعظم النعم وأجل المنن وأكبر المنح أن يوفق الإنسان إلى العلم النافع إلى حضور حلق الذكر التي تحيا بها القلوب وينشط بها إلى العمل الصالح فنعمة الله عز وجل على العبد بالتوفيق للطاعة وإلى طلب العلم وإلى حضور حلق العلم من أعظم ما يمن به على العبد ويوفق إليه قال النبي صلى الله هليه وسلم : ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))(1) والفقه في الدين الذي جعل النبي صلى الله هليه وسلم حصوله للمرء دلالة على إرادة الخير به من الله سبحانه وتعالى هو معرفة قول الله وقول رسوله صلى الله هليه وسلم
فالعلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولي العرفان
رضي الله عنهم فكل من اشتغل بهذا الأمر سواء اشتغالاً كلياً أو اشتغالاً جزئياً فإنه على خير عظيم وهذا من دلائل إرادة الله عز وجل بعبده الخير فاحمدوا الله أيها الإخوة على هذا الأمر واشكروه عليه واحرصوا عليه فإن حلق الذكر يعلو بها الذكر ويرتفع بها الإيمان ويصلح بها حال الإنسان ينشط بها على العبادة ويعرف بها حق الله عليه يعرف بها ما يكون سبباً من أسباب الخروج من الظلمات إلى النور فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم العاملين به الداعين إليه المقبلين عليه الفرحين به.(2/141)
أيها الإخوة الكرام إن هذا هو الدرس الأول من سلسلة دروس هدي النبي صلى الله هليه وسلم أو من سلسلة دروس في هدي رسول الله صلى الله هليه وسلم , هدي رسول الله صلى الله هليه وسلم الذي هو أكمل الهدي وهو عنوان السعادة للعبد إذا وفق إليه فإن الله جل وعلا قال:--فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً?(2) ولا يمكن أن يكون العمل صالحاً إلا إذا كان موافقاً لهدي النبي صلى الله هليه وسلم فواجب على كل من حرص على قبول عمله على كل من رغب في تحقيق السعادة لنفسه أن يسلك وأن يعتني بهدي النبي صلى الله هليه وسلم يعتني به علماً يعتني به عملاً يعتني به تحصيلاً يعتني به طلباً فإن ذلك سبب للسعادة والجواب أو التعليل لهذا الأمر واضح جدّاً فإن رسول الله صلى الله هليه وسلم أكمل الخلق سعادة رسول الله لا أسعد منه في الدنيا ولا في الآخرة وقد من الله عليه جل وعلا بهذه السعادة الوافرة في الدنيا والآخرة فمن رغب في سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وفوز الدنيا وفوز الآخرة فليحرص على سلوك النبي صلى الله هليه وسلم إن ما سنتناوله في مثل هذه الدروس إن شاء لله تعالى هو ما يتعلق بجوانب من هدي النبي صلى الله هليه وسلم نذكر بها أنفسنا حاله صلى الله هليه وسلم لأن الله جل وعلا جعل فيه لنا الأسوة الحسنة جعله سبحانه وتعالى لنا إماماً وقائداً فبقدر حرصنا على اتباع سنته والأخذ بهديه والإقبال على ما أرثه وتركه بقدر نصيبنا من صحبته والحشر تحت لوائه والكون معه يوم العرض والنشور.
أيها الإخوة الكرام درسنا إن شاء الله تعالى سيكون في أول أحد من أول كل شهر بإذن الله تعالى في أول ليلة الأحد من كل شهر إن شاء لله تعالى وكما علمتم أننا سنتناول هدي النبي صلى الله هليه وسلم وموضوعنا لهذا الدرس هو نظرة رسول الله صلى الله هليه وسلم للدنيا وقد انتخبت لبيان ذلك حديثاً في صحيح الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال فيه: أخذ رسول الله صلى الله هليه وسلم بمنكبي والمنكب هو مجمع الكتف مع العضد. أخذ رسول الله صلى الله هليه وسلم بمنكب ابن عمر لكن قبل أن نتم الحديث نحب أن نقف عند هذه اللفتة النبوية منه صلى الله هليه وسلم التي تنم وتدل على تواضع جم منه صلى الله هليه وسلم وتدل أيضاً على شفقة ورحمة وتدل أيضاً على نصح تام ورغبة في إيصال الخير فإن رسول الله صلى الله هليه وسلم خص ابن عمر الشاب الحدث الذي توفي رسول الله صلى الله هليه وسلم وهو في أوائل العشرين أو قد يكون لم يبلغ العشرين فإنه في غزوة الخندق كان عمره خمسة عشر ة سنة أو أربع عشرة سنة رسول الله صلى الله هليه وسلم لفت نظر هذا الشاب الذي في مقتبل عمره وفي أوائل طريق حياته إلى أمر عظيم ينشطه به على ما يستقبل من بقية العمر ويذكره أهمية الجد والاجتهاد في استباق الأوقات قبل فواتها فإن رسول الله صلى الله هليه وسلم قال لابن عمر في هذه الوصية الجامعة التي هي في الحقيقة ترجمه لهذه الدنيا: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))(3) كلمتان أمر رسول الله صلى الله هليه وسلم بهما هذا الشاب كن في الدنيا أي ليكن شأنك في هذه الدنيا في هذا المعاش في هذه الحياة بين أحد أمرين في الدنيا كأنك غريب هذا الأمر الأول، الثاني: أو عابر سبيل وكلاهما يجمعه معنى واحد ألا وهو السفر فإن الغريب مسافر والعابر للسبيل مسافر ومجمل الحديث يدل على أنه ينبغي لكل مؤمن لكل إنسان أن يحقق هذا المعنى في حياته وهو الاستشعار أنه في سفر , كم هم الذين غفلو ا عن هذا الأمر أكثرنا يظن أنه في دار إقامة في دار قرار في دار بقاء لا زوال لها إلا بعد آجال وأعمار ثم يحدث الله ما يشاء من ما يجري ويكون لكن الأمر أقرب من ذلك ورسول الله صلى الله هليه وسلم لن يوجه هذه الوصية لشيخ كهل قارب القبر بل وجهها لشاب صغير في أول عمره قد يكون في أوائل السنين التي بعد البلوغ أو قد يكون بلغ العشرين قال له رسول الله صلى الله هليه وسلم : ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). والجامع لهما كما ذكرنا هو معنى السفر فما هي حال المسافر؟ حال المسافر جد في طريقه اجتهاد في قطع المسافة لبلوغ مراده وتحصيل مقصوده هذه هي حال المسافر ولذلك قال رسول الله صلى الله هليه وسلم : ((كن في الدنيا كأنك غريب)) هذه هي المرحلة الأولى وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه كل إنسان، المرحلة الثانية التي هي مرحلة الجد وانتهاء الاجتهاد في تحصيل المقصود أن يكون الإنسان عابر سبيل فإن الغريب قد يشتغل في غربته في بعض ما يشتغل به المقيمون من أخذ مسكن أو مشرب أو مأكل أو غير ذلك لكنه لا يشتغل اشتغال الذي وطن نفسه على البقاء فمازالت أحكام السفر عليه قائمة ولازال يمني نفسه ويعدها بالارتحال وبلوغ المنزل والمقصد الذي يسعى إلى بلوغه وقصده وهو غايته وهي الدار الآخرة.(2/142)
إن سفرنا أيها الإخوة بدأ من ظهور آبائنا وانتقل إلى بطون أرحام أمهاتنا ثم بعد ذلك بدأت الرحلة التي يدركها ونعيشها وعليها مدار التكليف وبها الفوز والفلاح أو الخسار والهلاك من الخروج من بطون الأمهات ويكمل ذلك بجريان قلم التكليف بالبلوغ فإذا بلغ الإنسان فقد جرى عليه قلم التكليف وأصبح في سفر يحاسب على دقيقه وجليله ثم يمضي هذا العمر سنوات تقل أو تكثر إلا أن الجميع فيها مسافر وكل سيؤول إلى مقر لكنه ليس لإقامة بل هو زيارة وهي دار البرزخ قال الله جل وعلا-- أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ--(4) فلما ذكر المقابر مع أنها الغاية والمنتهى عند كثير من الناس لم يجعلها دار إقامة بل جعلها دار زيارة ثم هذه الزيارة هل هي طويلة أم قصيرة هي على المؤمن من أقصر ما يكون وكذلك الكافر فإنها لا تطول عليه لأنه يرجو أن تطول وهي خلاف ذلك فهو يقول: ((ربِّ لا تقم الساعة ربِّ لا تقم الساعة))(5) ثم يبعث الناس من قبورهم يقومون لرب العالمين على هيئتهم يوم خرجوا إلى دار التكليف حفاة عراة غرلاً ثم بعد ذلك يحشرون في محشر عظيم وموقف مهول فيه من الأهوال والفظائع ما تشيب منه رؤوس الولدان كما قال الله جل وعلا:-- يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ صدق الله العظيم يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ--(6). هذا هو الواقع الذي سبب ما قبله من الأوصاف من الذهول والاضطراب وكون الناس على هيئة السكارى في هذه الدنيا ومن رأى السكران يعرف حاله واضطرابه هي حال الناس في ذلك الموقف ثم بعد ذلك ما الذي جعل هذه الحال هي على هذه الصفة وهي حال عامة للجميع هي أن عذاب الله جل وعلا في ذلك اليوم وما أعده لمن خالف أمره عظيم تذهل له العقول وتضطرب له القلوب وتهتز له النفوس يستوجب أن يثبت الإنسان نفسه في هذه الدنيا بالعمل الصالح الذي يدفع عنه أهوال ذلك اليوم-- يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ--(7) فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم أيها الإخوة من الآمنين الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون الذين يثبتون على الحق والهدى في هذه الدار وفي الآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه أيها الإخوة إن النبي صلى الله هليه وسلم ذكر في هذا الحديث مرحلتين ينبغي للمؤمن أن يحرص على أن يكون في إحدى هاتين المرحلتين أو في إحدى هاتين الحالتين ويخطئ ويظلم نفسه من يخرج عن دائرة هاتين المرحلتين المرحلة الأولى أن يكون في الدنيا كأنه غريب مستعد للرحيل ينتظر وقت انقضاء سفره وانقضاء نهمته ليعجل السير إلى بلده فإن الناس ليست هذه بلادهم ولا هذا قرارهم بل قرارهم ما ذكر الله جل وعلا بقوله:--فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ?(8) هذا منتهى حال الناس فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير نسأل الله أن نكون من أهل الجنة فينبغي للمؤمن أن يستحضر هذه الغربة وأن تكون منه على بال وأن تكون منه على خاطر وألا يغفل ببنيات الطريق وما في هذه الدنيا من ملاهٍ وملذات فإن هذه الملاهي والعوائق تغرك وتمنعك عن مواصلة سيرك. الأمر الثاني أو المرحلة الثانية التي ينبغي للمؤمن أن يسعى إلى تحقيقها هي أن يكون عابر سبيل أي أن يكون في حاله وشأنه واستعداده للآخرة واستعداده لبلوغ قصده كذلك الذي سار في طريق فاستظل تحت ظل شجرة ثم ذهب وتركها أيها الإخوة أن عابر السبيل أقل أثقالاً من الغريب فالغريب قد يسكن وقد يستقر لبرهة من الزمن وقد يشتغل بما يشتغل به المقيمون لكن عابر السبيل مظاهر السفر والتعب عليه بادية وقلبه بسفره مشغول لا يأنس إلى أحد ولا يأوي إلى أحد بل همه وشغله في بلوغ غايته وقصده كلنا يسعى ويشتغل للوصول إلى رحمة الله عز وجل إلى جنة عرضها السماوات والأرض فالواجب على كل أحد أن يشتغل بهذه الغاية وأن يسعى إلى تحقيقها قال تعالى:--وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?(9) هذه هي غاية الوجود هذا هو المقصود من خلق السماوات والأرض والإنس والجن والذكر والأنثى تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى فهل نحن مشتغلون بالغاية لندرك المطلوب أم نحن غافلون عنها فيفوتنا خير مطلوب وهو الجنة التي وعدها الله عز وجل عباده المتقين إن المرحلة الثانية مرحلة كمال ولمنها مرحلة تحتاج إلى رجال تحتاج إلى حضور قلب ودوام مراقبة ودوام ملاحظة بأن لا يغفل الإنسان لأن المسافر في سفره قد يشتغل بعض الأحيان فيما يلهيه عن بلوغ مقصوده بما يعوقه عن الوصول إلى مكان إقامته وقراره فينبغي له أن يكون دائم الملاحظة دائم المراقبة دائم العناية بقلبه(2/143)
ونفسه و سيره وقصده هل هو على الجادة أم أنه متخلف هل هو ساع في تحقيق المقصود أم أنه متأخر أيها الإخوة إن صحابة رسول الله صلى الله هليه وسلم تميزوا بميزة جعلتهم خير القرون ألا وهي سرعة المبادرة والاستجابة لله ولرسوله فكانوا رضي الله عنهم سباقين إلى امتثال أمر الله ورسوله , شواهد هذا في سيرتهم كثيرة ولا أظن أن نأتي على شيء منها إلا ما ذكر في هذا الحديث فإن ابن عمر الذي أوصاه الرسول صلى الله هليه وسلم بهذه الوصية ذكر لنا الغاية في تحقيق الغربة وتحصيل ما أمره به رسول الله صلى الله هليه وسلم فكان رضي الله عنه يقول كما في صحيح البخاري في ذكر هذا الحديث قال موصياً من يبلغه هذا الحديث: ((فإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك))(10) هذه الكلمات من ابن عمر رضي الله عنه ترجمة حرفية فعلية يبين فيها كيف تحقق وصية رسول الله صلى الله هليه وسلم وهي الغاية والمنتهى في قصر الأمل لأن المسافر الذي هو عابر سبيل في الغالب قد يحتاج إلى الإقامة في مكان من الأماكن ليستريح وينشط على سفره لكن إقامته لا تدوم بل إذا أصبح لا ينتظر المساء في المكان الذي أقام فيه يمشي ويواصل السير كذلك إذا أمسى لا ينتظر الصباح بل هو مسافر ثم هو في سيره يغتنم أوقات عمره ونشاطه وقوته في تحقيق غرضه ومقصوده وهذا ما وجّه إليه ابن عمر رضي الله عنه في قوله: ((خذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك))(11) فإن كل أحد ميت وكثير من الناس تنزل بهم الأمراض فاجتهادهم في وقت النشاط في طاعة الله عز وجل من ما يكتب لهم الأجر في حالة المرض فإن الله من كرمه وواسع فضله وجوده وإحسانه وبره ورأفته ورحمته بعباده أنه يكتب للعامل الصادق عمله صحيحاً مقيماً إذا نزل به مرض أو سافر كما في حديث أبي موسى في الصحيح فينبغي للعبد أن يأخذ بهذه الوصية فإنها من أسهل الوسائل وأقرب الطرق التي يتحقق بها امتثال وصية رسول الله صلى الله هليه وسلم لابن عمر وهو أمر لكل الأمة وليس خاصّاً بابن عمر ومن ما يعيننا أيها الإخوة على تحقيق ذلك أن نتلمس ترجمة هذا الحديث في هدي رسول الله صلى الله هليه وسلم فإن النبي صلى الله هليه وسلم أنزل الله جل وعلا عليه القرآن ليبينه للناس فكان فعله صلى الله هليه وسلم وهديه ترجمة لما في القرآن وكان هديه وفعله صلى الله هليه وسلم ترجمة لما أمره الله به فهو السباق إلى الخيرات ما أمره الله بأمر إلاّ وبادر إليه ولا نهاه عن نهي إلا كان أول المنتهين عنه صلى الله هليه وسلم فما موقف الرسول صلى الله هليه وسلم من الدنيا روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله هليه وسلم يوماً من الأيام فكان رسول الله صلى الله هليه وسلم متكئاً على حصير فلما قام رسول الله صلى الله هليه وسلم بدا أثر الحصير في جنبه فقال ابن مسعود لرسول الله صلى الله هليه وسلم : هلا أمرتنا فنصنع لك مكاناً أو نعمل لك؟ فقال رسول الله صلى الله هليه وسلم : ((مالي وللدنيا)). يعني أي شيء لي ولهذه الدنيا يعني أي شيء يحملني على التعلق بها؟ ثم بين رسول الله صلى الله هليه وسلم هديه وسمته وطريقته فقال: ((إنما أنا كراكب استظل يعني شأني شأن الراكب السائر في طريقه القاصد إلى جهة من الجهات قال في ظل شجرة وفي رواية استظل ثم راح وتركها))(12) هذه حال رسول الله صلى الله هليه وسلم في هذه الدنيا وهذا الحديث يبين لنا بياناً واضحاً أن الحياة مهما كانت في غاية من السعادة فرسول الله كما قدمنا قبل قليل أسعد الخلق أسعد الناس أسعد بني آدم مع ذلك رسول الله صلى الله هليه وسلم يعد هذه الدنيا كالظل الذي يستظل به السائر في طريقه يحتمي به من الشمس ثم يخرج بعد أن قال واستراح لمواصلة سيره وهذا يبين لنا أيها الإخوة أن الدنيا مهما طابت فهي سريعة الرحيل سريعة الزوال هي دار قليلة المكث فالواجب على من نصح نفسه أن يجتهد في مرضاة ربه وأن يبالغ في تحقيق العبودية لله عز وجل جهده وطاقته على وفق سنة رسول الله صلى الله هليه وسلم وهديه قال رسول الله صلى الله هليه وسلم في بيان وصفه للدنيا وما فيها مهما بلغت من النعيم ومهما كان فيها من البهرج يقول رسول الله صلى الله هليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد يقول: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بمَ يرجع))(13) هذه هي الدنيا بما فيها من الملذات وما فيها من أنواع التنعمات شأنها شأن ذلك الذي وقف على يم ثم غمس يده في اليم وأخرجها فما الذي يعلق مقارنة بما بقي في اليم إنه لا يذكر وهذا وصف لما يمكن أن يحصله الإنسان في هذه الدنيا من النعيم الذي يفوته في الآخرة إذا كان من المنعمين ومن من حصل لهم الغاية في التنعم في هذه الدنيا أيها الإخوة الكرام إن رسول الله صلى الله هليه وسلم هديه(2/144)
ترجمة لما في القرآن بيان لما حواه كتاب الله عز وجل بل الله جل وعلا قال في كتابه:--وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?(14) فنزل الله عز وجل هذا القرآن على رسوله ليبينه للناس لعلهم يتفكرون لعله يحصل منهم التفكر والتذكر وإذا نظرنا إلى هذه السيرة لا نستغربها إذا علمنا أن هذا القرآن مملوء بالتزهيد في الدنيا وبيان حقارتها وخستها وانقطاعها وأنها دار زائلة طيف زائل وخيال عما قليل عابر وأن الآخرة هي دار القرار وأنها هي المستقر لكل أحد وقف عند قوله تعالى ليتبين لك ذلك وإن كان القرآن كما ذكرنا مملوءاً بذلك قف عند قوله تعالى في سورة الحديد:--اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ?(15) أي متاع خادع يبين لك ما ليس له حقيقة متاع باطل كاذب فهو يظهر صاحبه بالسعادة والمكانة والطمأنينة وقلبه خال من ذلك ثم بعد أن بين هذا الأمر وجه إلى ما يحصل به السلامة من هذا الغرور فقال:--سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ?(16). إذاً سبيل السلامة من غرور هذه الدنيا هو أن يجد الإنسان في تحقيق العبودية أن يصل الإنسان عمره بالطاعة أن يحتسب الدقيق والجليل عند الله سبحانه وتعالى أن لا يشتغل بما يشتغل به الناس من الانهماك في هذه الدنيا والإقبال عليها وجعلها في المرتبة الأولى من الاهتمامات ليس المراد أن ينقطع الإنسان عن الدنيا فإنه لا قوام له إلا بذلك لكن المراد أن لا تكون الدنيا قد تخللت القلب وتربعت على سويداء القلب بل المراد أن يكون الإنسان مشتغلاً بالطاعة عاملاً فيما يرضي الله عز وجل باذلاً طاقته في تحقيق مرضاة الله عز وجل ولا مانع أن يشتغل بعد ذلك فيما يقيم به معاشه ويصلح به دنياه لا ندعو إلى زهد الصوفية الذين يقولون: دع الدنيا واهجرها فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك كان عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح يدخر قوت أهله لسنة وكان صلى الله هليه وسلم يواعد الناس ويجلس لهم ويخطط لأمر مستقبلهم فيما يتعلق بطاعة الله عز وجل وفيما يعين على ذلك من أمر الدنيا لكن الذي نذمه والذي يخالف مقتضى ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغربة هو أن يشتغل الإنسان بهذه الدنيا عن الآخرة وأن تكون هي همه هي محل اهتمامه ومحل عنايته وهي التي عليها يوالي وعليها يعادي وهي التي بها يحب وبها يكره ولها يعطي ولها يمنع هذا الذي ينبغي أن نسلم منه وأن نصون أنفسنا وقلوبنا ومجتمعنا منه وإذا كنا كذلك فقد حققنا خيراً كثيراً إن من ما يعين على تحقيق ما أمر به رسول الله أن ننظر إلى سرعة انقضاء الدنيا فالدنيا أيها الإخوان سريعة الانقضاء هي مراحل تنقضي مرحلة تلو مرحلة إذا لم يدرك الإنسان هذا الأمر غفل وإذا غفل فاتت عليه الخيرات فاتت الفرص عمرك فرصة للسبق إلى مغفرة من الله عز وجل ورضوانه إلى المسارعة إلى جنة عرضها السماوات والأرض فاحرص على مراحل عمرك واعلم أن الليل والنهار مراحل تطوى وتنقضي فيوم أمس شاهد عليك ويومك الحاضر محل عملك وغداً قد لا تدركه فلا تدري أتكون فيه من الأحياء أو لا تكون فيه من الأحياء فاعمل جادّاً في قطع المراحل في طاعة الله عز وجل واعلم أن المراحل تطوى وأنت لا تشعر كلنا لو أراد أن يسترجع ذاكرته وذهنه إلى ما قبل سنوات قريبة لفاته الشيء الكثير وقال: ما أسرع تقارب الزمان وتعاقب الليالي والأيام لكن هذا لا ينفعه إذا كان لا يحدث به إقبالاً على الطاعة تصحيحاً للأخطاء استدراكاً لما فات تنمية وزيادة للخيرات مراحل العمر تنقضي وتسير سيراً حثيثاً والعجيب أنك لو تأملتها لرأيت منازل تطوى والمسافر قاعد هذه حال الدنيا الليل والنهار منازل تطوى وتنقضي والمسافر أنا وأنت والثاني والثالث قاعد لا نشعر بهذا السفر ومن الغريب العجيب أن الله سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً والواقع أن تعاقب الليل والنهار أصبح غشاء عند كثير من الناس ينسيه النهار ما كان في الليل ويلهيه ليله عن ما يكون في نهاره وهلم جرّاً أصبح تعاقب الليل والنهار فتنة له لا ذكرى وعبرة نسأل الله عز وجل أيها الإخوة الكرام أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن يجعلنا من عباده المتقين المحققين لأمر رسول الله صلى الله هليه وسلم عامة وفي هذا الحديث خاصة ونكتفي بهذا القدر من الكلام ونتلقى ما يكون من الأسئلة أسأل الله سبحانه وتعالى التسديد للصواب(2/145)
----
الإمامة في الدين تنال بالعلم والتقوى
الإمامة في الدين تنال بالعلم، وباتقاء رب العالمين، ولا تنال بالنسب وسعة المال والجاه، ولا بالأماني والدعاوى الفارغة.
لهذا عندما طلب الملأ من بني إسرائيل من نبي لهم أن يبعث لهم ملكا، فقال لهم نبيهم: "إن الله قد بعث لكم طالوتَ ملكاً"، استنكروا ذلك وقالوا: "أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، وعللوا ذلك بعلل مادية: "ولم يؤت سعة من المال"، فرد عليهم نبيهم: "قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم".
جاء في تفسيرها: (وكان طالوت سقَّاء، وقيل دباغاً، وقيل مكاريا، لكنه كان عالماً، فلذلك رفعه الله على ما يأتي، وكان من سبط بنيامين ولم يكن من سبط النبوة، ولا من سبط الملك، وكانت النبوة في بني لاوي، والملك في سبط يهوذا، فلذلك أنكروا).
قال القرطبي: (جروا على سنتهم في تعنيتهم الأنبياء وحيدهم عن أمر الله تعالى، فقالوا: "أنى"، أي من أي جهة.. ونحن من سبط الملوك وهو ليس كذلك، وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قَدَر الله تعالى وقضاؤه السابق حتى احتج عليهم نبيهم بقوله: "إن الله اصطفاه"، أي اختاره، وهو الحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب، وعدته عند اللقاء، فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وأنها مستحقة بالعلم والدين والقوة، لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس، وأنها متقدمة عليه، لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسباً.
إلى أن قال:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه، وزيادة الجسم مما يهيب العدو.. وقيل زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم، ألم تر إلى قول الشاعر:
ترى الرجلَ النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسدٌ هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير
وقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير).
وما قاله بنو إسرائيل قاله مشركو قريش عندما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: "لولا نزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"، يريدون بالقريتين مكة والطائف، وبالعظيم أي من السراة، الأغنياء، الوجهاء!
قلت: من العجيب الغريب عدم توفر هاتين الصفتين الأساسيتين في كل حكام المسلمين اليوم، وغيرهما من الشروط الأساسية التي اشترطها أهل العلم فيمن يتولى إمامة المسلمين، بل في بعض الأحيان أخلوا بما هو أخطر من ذلك، بشرطي الإسلام والذكورية، حيث تولت إمامة المسلمين امرأة في كبرى الدول الإسلامية، في إندونيسيا، وباكستان، وبنجلاديش، واتخذ الكفار نواباً واستوزروا في عدد من الدول الإسلامية، وأجازت دساتير بعض الدول للكافر أن يكون رئيساً لدولة المسلمين، دعك عن المستشارين الذين فاقوا هامان في السوء وفي الكيد للإسلام والمسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وذلك لتخلي المسلمين عن الطريقة المثلى لاختيار أئمتهم، وهي أن يتولى ذلك أهل الحل والعقد من العلماء الشرعيين، أو بالوصية لمن توفرت فيه شروطها، كما فعل أبو بكر وسليمان بن عبد الملك، واستبدلوها بالتي هي أدنى، بالتوارث، والانقلابات العسكرية، والديمقراطية الغربية، والعمالة للكفار، على الرغم من تنكر الكفار لصنم العصر الديمقراطية إذا جاءت بما لا يهوون، كما حدث في الجزائر وتركيا، وترحيبهم بالانقلابيين إذا كانوا من صنائعهم، أمثال برويز مشرف، وهم صادقون مع أنفسهم إذ النظام الديمقراطي نظام لا ديني، بل قام على أنقاض الدين، ولإقصائه عن جميع مناحي الحياة، لتوفير الحرية الشخصية الشهوانية للبيض وعملائهم، كما بينت الأيام ذلك، وكشفت عن زيفهم وافترائهم، وصدق القائل:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فالمصيبة العظمى والداهية الكبرى عدم تحكيم شرع الله، واستبداله بالقوانين الوضعية والرضا بذلك، حيث يعتبر ذلك من نواقض الإسلام المجمع عليها.
لا غضاضة أن يستولي المرء على السلطة إذا أمن الفتنة، وكان غرضه الأول وهدفه الأساس تحكيم شرع الله، وإقامة العدل، فقد استولى مروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، والعباسيون، وصلاح الدين الأيوبي، والعثمانيون، وغيرهم كثير على السلطة بالقوة، أوبالتوارث، ولكنهم حكموا بالشرع، وإن صدرت من بعضهم بعض التجاوزات والمخالفات فهي لا ترتقي إلى إقصاء شرع الله بالكلية والتحاكم إلى زبالة أذهان البشر، وموالاة الكفار، واتخاذهم وزراء، ونواب، ومستشارين، وأصدقاء مقربين.(2/146)
والله أسأل أن يرد المسلمين حكاماً ومحكومين إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعل ولاية المسلمين فيمن خافه واتقاه واتبع رضاه، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن يوفقهم أن يغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم، وأن ينصروا دينه لينصرهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وصلى الله وسلم على من خافه واتقاه واتبع رضاه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
=================000
الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل ...
... عبد العزيز الجليل
بعد أن تبين لنا خطورة لبس الحق بالباطل من خلال الصور التي أوردناها في السابق، وما ينتج عنها من الضلال والانحراف الذي يورث العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، بعد ذلك: يحق لنا ـ بل يجب علينا ـ أن نسأل: كيف النجاة من ذلك الخطر؟ وما هي الأسباب الواقية منه؟ وللإجابة على ذلك: نستعرض أسباب التباس الحق بالباطل؛ فمنها ينطلق العلاج، وبضدها تتميز الأشياء.
فقد مر بنا أن تلك الأسباب لا تخرج عن ثلاثة أمور:
1- شبهة تسببت في أخذ الباطل على أنه الحق، وأصل هذا: الجهل.
2- شهوة تسببت في أخذ الباطل وترك الحق عن شهوة وضعف واعتراف بالخطأ.
3- شهوة وشبهة نتج عنهما أخذ الباطل وإظهاره في صورة حق عن هوى ومغالطة استناداً إلى شبهة يعلم صاحبها أنها لا تصلح للاستدلال.
وبعد هذه المقدمة التي لابد منها بين يدي الأسباب الواقية من اللبس والتلبيس.
يمكن تفصيل وبيان الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل فيما يلي:
1- علم وبصيرة بدين الله (عز وجل) وشرعه، وعلم وبصيرة بما يضاد دين الله (سبحانه) وشرعه؛ فإذا تحقق هذا الأمر: فإن الاستبانة لسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين قد تحققت، وبهذا: فلا مجال للشبهة هنا أبداً؛ لانتفاء الجهل الذي منه تنتج الشبهات المؤدية إلى اللبس والتلبيس، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى): فتنة الشبهات تُدفع باليقين، وفتنة الشهوات تُدفعُ بالصبر، ولذلك جعل (سبحانه) إمامة الدّين مَنوطةً بهذين الأمرين، فقال: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [ السجدة: 24]، فدلّ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين، وجمع بينهما أيضاً في قوله: ((إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر: 3]، فتواصوا بالحق الذي يَدْفَعُ الشبهات، وبالصبر الذي يَكُفّ عن الشهوات(1).
2- الصبر وتقوى الله (عز وجل):
فبالصبر وتقوى الله (سبحانه) تدفع الشهوة وينتصر الإنسان على هواه؛ لأنه قد يحصل للإنسان البصيرة والعلم بدين الله (عز وجل)، ويتبين له الحق من الباطل، ولكن إذا لم يكن لديه الصبر عن شهوات النفس، والتقوى التي تحجزه عن مخالفة الصواب: فإنه يضعف ويقع في المخالفة مع علمه بذلك، أما إذا اجتمع العلم والبصيرة مع التقوى والديانة فإنه إذا بان الحق ولاح: لم يكن أمام من هذه صفته إلا الإذعان والتسليم والانقياد، وذلك لانتفاء الشبهة والشهوة في حقه، وإلى هذا أشار ابن القيم في النقل السابق بقوله: إن فتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولكن إذا ضعف الصبر والتقوى، ووجدت الغفلة عن الآخرة، وتنوسِيَ الوقوف بين يدي الله (عز وجل)، وصاحب ذلك شيطان يزين، ودنيا تتعرض بفتنها: فالغالب عدم السلامة. ولكن المخالف للحق هنا: إما أن يكون لديه بقية تقوى وخوف من الله (عز وجل) فيعترف بذنبه، ويستغفر منه ويتوب، أو يكون (عياذاً بالله) قد رقّ دينه وسيطر عليه هواه فأخذ يلتمس مبرراً لباطله، ويبحث هنا وهناك عن شبهة يظهر بها باطله ومخالفته في قالب الحق والموافقة لدين الله، وهذا هو الخداع والتلبيس، ولا علاج له إلا بتقوى الله (سبحانه)، واليقين بالرجوع إليه.
نعم.. إنه لا يمنع من الوقوع في الباطل بعد العلم والبصيرة، ولا يمنع من تلبيسه على الناس إلا الإيمان باليوم الآخر إيماناً جازماً ويقيناً صادقاً، وإن لم يتذكر العبد هذا اليوم ويحسب له حسابه: فلن يفيده في ذلك العلم والبصيرة؛ فكم من عالم بالحق تنكب عنه وخالفه، أما إذا انضم إلى العلم والبصيرة: الصبر والتقوى والخوف من الحساب يوم القيامة، فإن الشهوة ستنقمع وإن الهوى سيُغلب، وعندها: يختفي اللبس والتلبيس والخداع والمغالطة في دين الله (عز وجل)؛ يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله) ـ في معرض رده على المحتالين على شرع الله بالحيل الباطلة ـ: فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكَاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال. (2).(2/147)
ويقول سيد قطب (رحمه الله) ـ في ظلال قوله (تعالى): ((وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأعراف: 169] ـ:
نعم.. إنها الدار الآخرة! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العَرَض الأدنى القريب في هذه الدنيا.. نعم، إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها؛ ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها(3).
أسباب أخرى مساعدة:
وبعد ذكر السببين الرئيسين للوقاية من اللبس والتلبيس، وهما: البصيرة في الدين الذي تدفع به الشبهة، والصبر والتقوى اللذان تدفع بهما الشهوة: نذكر فيما يلي بعض الأسباب المساعدة لتثبيت السببين السابقين:
3- محاسبة النفس ومجاهدتها وتحصينها بالذكر والدعاء والعمل الصالح:
حيث لابد للمسلم من محاسبة دائمة للنفس، ومجاهدة لها في تطويعها لشرع الله (عز وجل) والحذر من الشيطان الذي لا يفتأ يوسوس ويزين لها الباطل، فإن لم يتفقد كل منا نفسه، ويسد على الشيطان مداخله المتعددة؛ فإن النفس تكون على خطر أن تنساق مع شهواتها وهواها، فيحصل من جراء ذلك:اللبس والتلبيس والتضليل والمغالطة، إما بعلم أو بجهل، وإن مما يؤكد أهمية المحاسبة الدائمة واليقظة الشديدة للنفس ما يحصل من كثير منا في يومه أو غده من المغالطات والمعاذير الكاذبة والتبريرات الغامضة، سواء أكان ذلك مع النفس أو مع الناس، ولكنها تكثر وتقل حسب التقوى وقوتها أو ضعفها في القلب، مع أنه يوجد من الدعاة والمصلحين نماذج فريدة في إخلاصها وصدقها وبعدها عن المداهنة والمغالطة والتلبيس، نسأل الله لهم الثبات، ونسأله (سبحانه) للجميع الصدق في المقاصد والأقوال والأعمال.
ومن الأسباب القوية التي يُتحصن بها من الشيطان ووساوسه: ذكر الله (عز وجل) في أحوال اليوم والليلة؛ فكلما كان اللسان رطباً بذكر الله (تعالى) والقلب يواطؤه في ذلك: كلما كان الشيطان بعيداً ولا يستطيع اقتحام الحصن؛ لأن ذكر الله (سبحانه) يحرقه ويمنعه من الدخول، ولكن ما إن يغفل العبد عن ذكر الله (تعالى) حتى يكر مرة أخرى للوسوسة، فهذا دأب الشيطان في كره وفره على القلب، فكلما ذكر العبد ربه خنس وإذا غفل وسوس.
ومن الأسباب الواقية من التباس الحق بالباطل: مجاهدة النفس في عمل الصالحات والإكثار منها من غير إفراط ولا تفريط، كما جاء في الحديث القدسي الذي منه: وما تقرب إليّ عبدي بأحب مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها.. الحديث(4) فمن كان يسمع ويبصر ويمشي ويبطش بنور الله وهداه: فإنه لن يخطئ أبداً؛ قال (تعالى): ((وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ)) [العنكبوت: 69] وبالضد من ذلك فإن كثرة الذنوب من أسباب الضلال والزيغ؛ قال (تعالى): ((...فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ...)) [الصف: 5]
4- مصاحبة أهل العلم والورع:
إن الجليس يتأثر بجليسه وصاحبه، سواءً أكان ذلك في الخير أو الشر، وذلك عن طريق المؤانسة والمشابهة والقدوة، وعليه: فإن من الأسباب المانعة من الانحراف ولبس الحق بالباطل: الجلوس مع أهل العلم والتقوى ومصاحبتهم ومشاورتهم، لأنه بالعلم الذي عندهم تحترق الشبهات، وبالتقوى والورع لديهم تحترق الشهوات، وبذلك يُسد على الشيطان البابان الرئيسان اللذان يدخل منهما ليلبس على النفس ويزين لها التلبيس، والعكس بالعكس: ما إن يصاحب المرء أهل الجهل والجدال ومن لم يؤتوا حظّاً من التقوى والورع إلا ويتأثر بهم وينطبع بأخلاقهم وتشتبه عليه الأمور لضعف العلم والبصيرة، أو يتعمد ترك الحق وتعميته على الناس لضعف التقوى والصبر عن الشهوات، وقد روي عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قوله: لولا ثلاث لما أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر .
ولعل مما يدخل في هذا السبب: الإكثار من قراءة أخبار أهل العلم والتقوى والجهاد من أنبياء الله الكرام وصحبهم الأجلاء والتابعين لهم بإحسان؛ ففيهم الأسوة والقدوة والخير كله.
5- الحذر من الدنيا، وعدم الركون إليها:(2/148)
إن من أعظم أسباب الانحراف عن الحق والوقوع في الانحراف والمخالفات: هذه الدنيا الغرارة؛ فكلما انفتحت على العبد كثرت شبهاتها وانساق مع شهواتها المختلفة، وعندما يرد ذكر الدنيا فإنه يقصد بها كل ما أشغل عن الآخرة من متعها المختلفة التي أجملها الله (عز وجل) في قوله (سبحانه) ((قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ)) [التوبة: 24].
والانغماس في الدنيا وترفها وملذاتها ينتج عنه: غفلة عن الآخرة، وتشتت للذهن والقلب، وإعمال الفكر في الاستزادة منها، والخوف على فواتها.. وهذا يؤدي إلى قسوة القلب ورقة الدين، ومن هنا: تبدأ النفس في الاستجابة لتزيين الشيطان، وتثور الشبهات والشهوات في القلب، والذي ينشأ منهما: الكذب، والتدليس، والتلبيس، والطمع، والجشع.. وبخاصة في مثل عصرنا الذي نعيش فيه، والذي كثرت فيه المعاملات المحرمة والشبهات، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم، ولذا: كان الأولى لمن أراد لنفسه السلامة من الدنيا وشبهاتها وشهواتها: أن يتخفف منها قدر الاستطاعة وأن يرضى منها بالقليل؛ لأن هناك تناسب طردي ـ وخاصة في زماننا هذا ـ بين كثرة الدنيا وكثرة الوقوع في الشبهات والشهوات المؤديات إلى التدليس والتلبيس.
6- النصح للأمة والحذر من عاقبة التلبيس والتدليس عليها:
إن الشعور بواجب النصح للأمة يقتضي من المسلم ـ وبخاصة الداعية إلى الله (عز وجل) ـ أن يبين الحق لأمته، ويعري الباطل ويكشفه لها، ولا يجعله ملتبساً عليها فتضل؛ لأن الذي يرى أمته تُضلل ويُلَبّس عليها دينها فتعيش في عماية من أمرها، ثم يتركها ـ وهو يعلم الحق من الباطل ـ إن مَن هذا شأنه: يعتبر خائناً لله ورسوله وللمؤمنين، وإن الله (عز وجل) سائله يوم القيامة عن علمه: فيم عمل به؟، وهذا فيمن رأى التضليل والتلبيس فلم يُحذّر منه ولم يكشفه للناس، فكيف بمن باشر التلبيس والتضليل بنفسه (عياذاً بالله)؟ إن هذا ـ بلا شك ـ أكثر خيانة من سابقه، وإن وزر وضلال من ضلله بتلبيسه هذا سيحمله فوق ظهره يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزار من ضللهم شيء. والحاصل: أن شعور المسلم بإثم وعاقبة التلبيس أو السكوت عليه: من أقوى الأسباب المانعة من الوقوع فيه ـ إن كان في القلب حياة وخوف من الله (سبحانه) والدار الآخرة ـ، لأن من كان في قلبه المحبة الحقيقية لهذا الدين وأهله: لا يمكن أن يرى التضليل والتلبيس من المفسدين المنافقين ثم يرضى لنفسه السكوت والوقوف موقف المتفرج، بل لن يقر له قرار ويهدأ له بال حتى يساهم قدر استطاعته في إبانة سبيل المؤمنين وإسقاط اللافتات الزائفة عن سبيل المجرمين وتعرية باطلهم وخداعهم كما مر بنا في صور التلبيس، وعندها: تعرف الأمة من توالي ومن تعادي، وعندها: تتميز الصفوف ويتميز المؤمن من المنافق، وكل هذا يحتاج إلى تضحيات باهظة، لكنها رخيصة في سبيل الله (عز وجل) لأن نصر الله (جل وعلا) الموعود لا يتم بدونها.
وبعد:
فهذا ما يسره الله (عز وجل) في هذه العجالة حول هذا الموضوع المهم الذي يمس المسلم في عقيدته وأخلاقه ومجتمعه، ولا أزعم أنني أحطت بجوانبه كلها، ولكن حسبي إثارة هذا الموضوع والتذكير به لعل فضيلة العلماء الكرام والإخوة الدعاة يكملون ما نقص منه، ويقوّمون ما اعوج منه. وأحب أن أنبه: أن ما ذكرته من صور التلبيس ذكرته على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، فالصور كثيرة وكثيرة وبخاصة في زماننا هذا الذي قلّ فيه العلم والورع ونجم فيه الجهل والنفاق.
وفي خاتمة هذه المقالات: أوصي نفسي الأمارة وأوصي إخواني المسلمين: بأن يتفقد كل منا نفسه، ويبحث عن هذا المرض الخطير فيها فإذا وجدنا شيئاً من ذلك ـ وسنجد ـ فعلينا التوبة الصادقة من هذا المرض، ولنبادر بقطع جذوره قبل أن يستفحل، ولا نُسوّف في ذلك أبداً؛ لأن التسويف وطول الأمل من عمل الشيطان وتلبيسه.
والله أعلم، وصلّ الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الهوامش:
1- إغاثة اللهفان: جـ2، ص167.
2- إعلام الموقعين: جـ3، ص214.
3- في ظلال القرآن: جـ3، ص387.
4- البخاري: كتاب الرقائق، ح 6502.
0000000000
مجلة البيان، العدد ( 89)، محرم 1416،يونيو 1995 .
==========
اليقين والتوكل(2/149)
في هذه الظروف التي مرت بها البلاد ، وأمام هذه التحديات التي واجهتها الدولة ، يجب على المسلم أن يشكر الله تعالى على نعمة الفرج وأن يزداد إيمانه بالله قوة ، ويقينه في وعد الله رسوخاً لأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ، هكذا علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الكثيرة ، وفي كلماته التي علمها لابن عمه العباس رضي الله عنهما في قوله : احفظ الله يحفظك " قال ابن القيم : اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وتنافس المتنافسون ، وإليه شمر العاملون وقال عليه رحمة الله :" إذا تزوج الصبر باليقين ولد بهما حصول الإمامة في الدين"
فاليقين هو الاعتقاد الجازم الثابت المستقر في القلب المطابق للواقع وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه " اليقين هو الإيمان كله"ولما عدد الله صفات المتقين في أول سورة البقرة قصر سبحانه الهداية والفلاح على المؤمنين الموقنين فقال " آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"[البقرة:1-5 ]
ولعمق اليقين في القلوب ، وقوة تأثيره على صاحبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية " الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله"
واليقين يصل بك إلى درجة الإحسان ، كما جاء في حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ( متفق عليه )
اليقين والتوكل
إن الحمد لله ، نحمده ونستعين به ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، إنه من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وخليله ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وكشف الغمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين .
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ،وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " [ آل عمران : 102]
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً " [ النساء : 1]
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ] [ الأحزاب : 70،71 ]
( 2 )
أيها الإخوة المسلمون :
في هذه الظروف التي مرت بها البلاد ، وأمام هذه التحديات التي واجهتها الدولة ، يجب على المسلم أن يشكر الله تعالى على نعمة الفرج وأن يزداد إيمانه بالله قوة ، ويقينه في وعد الله رسوخاً لأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ، هكذا علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الكثيرة ، وفي كلماته التي علمها لابن عمه العباس رضي الله عنهما في قوله : احفظ الله يحفظك " قال ابن القيم : اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وتنافس المتنافسون ، وإليه شمر العاملون وقال عليه رحمة الله :" إذا تزوج الصبر باليقين ولد بهما حصول الإمامة في الدين"
فاليقين هو الاعتقاد الجازم الثابت المستقر في القلب المطابق للواقع وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه " اليقين هو الإيمان كله"ولما عدد الله صفات المتقين في أول سورة البقرة قصر سبحانه الهداية والفلاح على المؤمنين الموقنين فقال " آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"[البقرة:1-5 ]
ولعمق اليقين في القلوب ، وقوة تأثيره على صاحبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية " الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله"
واليقين يصل بك إلى درجة الإحسان ، كما جاء في حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ( متفق عليه )
وباليقين والصبر تنال الإمامة في الدين قال شيخ الإسلام " إنما تنال الامامة في الدين بالصبر واليقين " ثم تلا قوله تعالى " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون"[السجدة :24 ](2/150)
ولماذا لا يوقن العبد بوعد الله وهو القائل سبحانه :"والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيدخلهم جنت تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وعد الله حقاً ومن أصدق من الله قيلا"[النساء :122]
وهو القائل جل شأنه : " ومن أصدق من الله حديثاً " [ النساء : 87 ]
قال سبحانه " ألا أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون " [ يونس : 55 ] وقال عز وجل : " وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون " [ الروم : 6 ]
قال أحد السلف لإخوانه لقد رأيت الجنة والنار عياناً فعجبوا له فقال لا تعجبوا لقد رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورؤيتي لهما بعينه صلى الله عليه وسلم أكثر عندي من رؤيتي لها بعيني ، فإن عيني قد تزيغ أو تطغى ، وعيناه صلى الله عليه وسلم قال فيهما رب العزة " ما زاغ البصر وما طغى "
وكان أحد السلف يقول أنا أعلم متى يذكرني ربي، فقالوا له أخاص ذلك بك ؟ قال بل هو للناس جميعاً ، أو ما قرأتم قوله تعالى " فاذكروني أذكركم " [ البقرة : 152 ] فهو على يقين من أنه إذا ذكر الله ذكره الله سبحانه .
( 3 )
وتأمل موقف أم موسى عليه السلام لما أوحى الله إليها أن تلقى ولدها في الماء ما ترددت ولا تقاعست بل نفذت أمر الله سبحانه لما سكن في قلبها من يقين بوعد الله سبحانه حين قال لها " وأوحينا إلى أم موسى ان أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافى ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " [ القصص:7]
وهذا شأن المؤمن متوكل على الله موقن بوعده سبحانه .
وما الذي يجعل عمير بن الحمام يلقى تمرات كن في يده ويندفع نحو المعركة يوم بدر وهو يقول إنها لحياة طويلة إذا انتظرت حتى آكل هذه التمرات " إنه ما فعل ذلك إلا بعد أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول ما من عبد يقاتل هؤلاء القوم اليوم صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر فيقتل إلا كان من أهل الجنة فقال عمير بخ بخ يا رسول الله قال ما حملك على قول بخ بخ يا عمير ؟ فقال يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنت من أهلها فطار إلى المعركة فرحاً موقناً بوعد رسول الله ، يضحي بنفسه إرضاء لله ورسوله وطمعاً في جنة عرضها السموات والأرض .
الجود بالمال جود في تكرمه ** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وهذا اليقين القوي هو الذي يجعل أنس بن النضر يوم أحد يقول لسعد بن معاذ : واهاً لريح الجنة والله أني لأجد ريحها من دون أحد " وأخذ يقاتل حتى قتل وقد وجد في أرض المعركة وبه بضع وثمانون ضربة ، وما عرفته إلا أخته ببنانه من كثرة ما به من جراح " ( متفق عليه )
وقوة اليقين والتوكل على الله لها أثر عظيم في سلوك العبد المؤمن ، فإنه يحيا مطمئن القلب هادئ النفس ، قرير العين ، فهو متوكل على ربه ، موقن بوعده راض بحكمه
ولذلك لما سئل الحسن البصري عليه رحمة الله ما زهدك في الدنيا يا أمام ؟ قال أربعة أشياء ، علمت إن رزقي لا يأخذه غيري فأطمأن قلبي ، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشغلت به وحدي ، وعلمت أن الله مطلع على فاستمييت أن يراني على معصية ، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربي ، فهكذا يفعل اليقين بأهله .
( 4 )
قدم سليمان بن عبدالملك مكة حاجاً ، فبينما هو يطوف بالبيت إذ وجد سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ناحية من المسجد يقرأ القرآن ، فلما انتهى الخليفة ، من طوافه اقترب منه وألقى عليه السلام فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، أمير المؤمنين . فمال عليه الخليفة وقال له : يا أبا عمر سلني حاجة أقضها لك ، فسكت سالم حتى كررها الخليفة ، فقال سالم يا أمير المؤمنين أستحيي أن أكون في بيت الله وأسأل غيره ، فتركه الخليفة وانتظره حتى خرج من المسجد ، فلما خرج من المسجد قال له ها نحن قد خرجنا من بيت الله يا أبا عمر فسلني حاجة أقضيها لك - فقال يا أمير المؤمنين من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة ؟ قال بل من أمر الدنيا ، فإن الآخرة لا يملكها إلا الله . فقال يا أمير المؤمنين أنا لم أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسأل الدنيا من لا يملكها - فقال الخليفة - زادنا الله بكم يقينا آل الخطاب .
أيها الإخوة المسلمون :
ونحن وقد حقق الله لنا الفرج، وقد حقق الله لنا وعده، يجب أن يتعمق اليقين في قلوبنا وأن نجتهد في العبادة والطاعة .
قال تعالى : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين " [ العنكبوت : 69] وقال : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره " [ الطلاق : 3 ]
وقال ابن القيم عليه رحمة الله ( دم على طاعة الله حتى يجعل الله لك في قلبك عيناً ترى بها الغيب شهادة )(2/151)
وقال ابن عطاء " على قدر ما بهم من التقوى أدركوا من اليقين " جاء في الحديث القدسي : " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه " ( رواه البخاري )
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
( 5 )
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيراً كما أمر ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وخليله ، الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة والسراج المنير ، إلى يوم القيامة . أما بعد :
فإن العبد إن أحسن التوكل على ربه ، وأيقن بوعده وسلم الأمر إليه كفاه الله أمر الدنيا والآخرة ، كما قال صلى الله عليه وسلم :" من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه "( حديث حسن ، تخريج الترغيب والترهيب ) ( الألباني )
قال تعالى : " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدراً " [ الطلاق : 3 ]
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين "
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا إمامة في الدين ، وقوة في اليقين ، وحسن التوكل عليه ، إنه حسبنا ونعم الوكيل .
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً - سخاء رخاء ، وسائر بلاد المسلمين اللهم اجعل هذا البلد واحة أمن وأمان ، اللهم انصرنا على أعدائنا ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ، اللهم يا منزل الكتاب ويا مجري السحاب اهزمهم وانصرنا عليهم ، اللهم اجعل الدائرة تدور عليهم وانصر المجاهدين في كل مكان واحفظ صاحب السمو أمير البلاد وولي عهده الأمين ورد إلينا أسرانا وارحم شهداءنا واغفر للمسلمين والمسلمات .
إنك على كل شئ قدير .
============
مراتب الصبر
وهي ثلاثة كما ذكر ابن القيم رحمه الله:
الأولى: الصبر بالله، ومعناها الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المُصيّر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى: وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إلا بِاللّهِ [النحل:127] يعني: إن لم يُصبرك الله لم تصبر.
الثانية: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله تعالى، وإرادة وجهه والتقرب إليه، لا لإظهار قوة نفسه أو طلب الحمد من الخلق، أو غير ذلك من الأغراض.
الثالثة: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله منه ومع أحكامه، صابراً نفسه معها، سائراً بسيرها، مقيماً بإقامتها، يتوجه معها أينما توجهت، وينزل معها أينما نزلت، جعل نفسه وقفاً على أوامر الله ومحابه، وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصديقين.
قال الجنيد: ( المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الله شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشد ).
الصبر في القرآن
ذكر ابن القيم رحمه الله كثيراً من المواضع التي ورد بها الصبر في القرآن الكريم، ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله قوله: ( ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن الكريم في نحو تسعين موضعاً ) ونحن نذكر بعض الأنواع التي سيق فيها الصبر في القرآن الكريم ومنها:
1 - الأمر به كقوله تعالى: وَاصبِر وَمَا صَبُركَ إلا بِاللّهِ [النحل:127]، وقوله: وَاصبِر لِحُكِمِ رَبِكَ [الطور:48].
2 - النهي عن ضده وهو الاستعجال كقوله تعالى: فَاصبِر كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزمِ مِنَ الرُسُلِ وَلاَتَستَعجِل لَهُم [الأحقاف:35]. وقوله: وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحُوُتِ [القلم:48].
3 - الثناء على أهله، كقوله تعالى: وَالصّابِرِينَ فِي البأسآء وَالضّرآء وَحِينَ البأسِ أُولَئِكَ الّّذَينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَقُونَ [البقرة:177].
4 - تعليق النصر والمدد عليه وعلى التقوى، كقوله تعالى: بَلَى إن تَصبِرُوا وَتَتَقُوا وَيَأتُوكُم مِن فَورِهِم هَذَا يُمدِدكُم بِخَمسَةٍ ءَالَفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِمِينَ [آل عمران:125]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه، وسلم: { واعلم أن النصر مع الصبر }.
5 - الإخبار بأن الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المكروه المرهوب، ودخول الجنة وسلام الملائكة عليهم، إنما نالوه بالصبر، كما قال: وَالملائكةُ يَدخُلُونَ عَلَيِهِم مِن كُلِ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيكُم بِمَا صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدّارِ [الرعد:24،23].
6 - الإخبار أنه إنما ينتفع بآيات الله ويتعظ بها أهل الصبر، كقوله تعالى: وَلَقَد أرسَلنَا مُوسَى بِئآياتِنآ أن أخرِج قَومَكَ مِنَ الظُلُماتِ إلى النورِ وَذَكِرهُم بِأيامِ اللّهِ إنَ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِ صَبّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5].(2/152)
7 - الإخبار أن خصال الخير والحظوظ العظيمة لا يلقاها إلا أهل الصبر كقوله تعالى: وَيلَكُم ثوآبُ اللّهِ خَيرٌ لِمَن ءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً وَلاَ يُلَقاهآ إلا الصَابِرُونَ [القصص:80]، وقوله: وَمَا يُلَقاهآ إلا الذّينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَهآ إلا ذُو حّظٍ عَظِيمٍ [فصلت:35].
8 - تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين، كقوله تعالى: وَجَعَلنا مِنهُم أئِمّةً يَهدُون بِأمرِنا لَمَا صَبَرُوا وَكَانُوا بِئَاياتِنا يُوقِنُون [السجدة:24]. فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
9 - أن الله أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال: إنّا وَجَدنَاهُ صَابِراً نِعمَ العَبدُ إنَهُ أوابٌ [ص:44] فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابراً وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد.
10 - أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان، فقرنه بالصلاة في قوله: وَاستَعِينُوا بِالصّبرِ وَالصّلاةِ [البقرة:45]، وبالتقوى في قوله: إنّهُ مَن يَتَقِ وَيَصبِر [يوسف:90]، وبالشكر في قوله: إن فِي ذَلِكَ لأياتٍ لِكُلِ صَبَارٍ شَكُور [لقمان:31]، وبالرحمة في قوله: وَتَوَاصَوا بِالصّبرِ وَتَوَاصَوا بِالمرحَمَةِ [البلد:17]، وبالصدق في قوله: وَالصّادِقينَ وَالصَادِقَات وَالصَابِرين وَالصّابِراتِ [الأحزاب:35].
وجعل الله الصبر في آيات أخرى سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه، ويكفي بعض ذلك شرفاً وفضلاً
=============
لتبلون في أموالكم وأنفسكم
د.ناصر بن يحيى الحنيني
عباد الله يقول ربنا الحكيم الخبير العليم الحليم في محكم التنزيل : (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ) ويقول سبحانه : (ونبلوكم بالشر والخير فتنةً وإلينا ترجعون ) ، ويقول جل وعلا : (ولنبلونكم بشيءٍ من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) ، ويقول المولى جل وعلا : (ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض ) ، ويقول سبحانه ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) ويقول سبحانه : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) .
وجاء في البخاري : عن عروةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتِ قَوْلَهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا أَوْ كُذِبُوا قَالَتْ بَلْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَمَا هُوَ بِالظَّنِّ فَقَالَتْ يَا عُرَيَّةُ لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ قُلْتُ فَلَعَلَّهَا أَوْ كُذِبُوا قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ وَطَالَ عَلَيْهِمْ الْبَلَاءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَتْ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ "أ.هـ
وجاء أيضاً في البخاري : "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خَفِيفَةً ذَهَبَ بِهَا هُنَاكَ وَتَلَا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فَلَقِيتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ مَعَاذَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا مُثَقَّلَةً"أ.هـ(2/153)
وجاء في مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ)
وجاء في الصحيحين واللفظ لمسلم : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَهْتَزُّ حَتَّى ).
وجاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ ).
وجاء في الحديث الصحيح : (عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ).
أيها المؤمنون : إننا من خلال هذه النصوص الشرعية والتوجيهات الربانية أمام حقيقة شرعية وسنة كونية وهي أن البلاء حاصل لهذه الأمة وخاصة من يقوم بأمر الله ، ومن خلال هذه النصوص الشرعية يمكن أن نقف بعض الوقفات على وجه الاختصار :
الوقفة الأولى : أن الابتلاء سنة ماضية لكل الناس حتى صفوة الخلق وأحبهم إلى الله عزوجل وهم أنبياؤه ورسله (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين)، فيا من تمسكت بشرع الله لا تجزع لا تترد لا تنكص على عقبيك وأسأل الله الثبات على دينك واصدق مع ربك .
الوقفة الثانية : أن الابتلاء رحمة بالأمة على وجه العموم ، وبكل فرد مؤمن على وجه الخصوص كما قال جل وعلا : (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم )، فالأمة ينقى صفها وتعرف صديقها من عدوها ومؤمنها من منافقها فتأخذ حذرها ولا يبقى معها إلا الصفوة وهنا يأتي النصر بعد التصفية وبعد التمحيص فهو خير للأمة ، وأما الأفراد كما قال جل وعلا: ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)
فالله ثبتنا وارزقنا الصدق في الأقوال والأعمال والنيات.
الوقفة الثالثة : أن الابتلاء يكون بالخير والشر ، بما تكره النفوس وبما تحبه كما قال جل وعلا : (ونبلوكم بالشر والخير فتنةً وإلينا ترجعون )، يقول عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه مبيناً خطورة الابتلاء بالسراء وأنها لا تقل خطراً وصرراً على المؤمن من الضراء يقول:" ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبرنا ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر "أ.هـ فالمال فتنة والمناصب فتنة فاللهم ثبتنا حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا .(2/154)
الوقفة الرابعة : أن الثبات والنجاة وقت الفتن من عند الله فلا تعلق قلبك بغيره سبحانه ولا تظنن أن المخلوق يملك لك شيئاً ولتعلم أن المقادير وأن الكون كله بيده سبحانه فهو الذين يثبت المؤمنين كما قال جل وعلا وليس المخلوقين : (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) فعليك بالدعاء فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتعوذ من الفتن ما ظهر منها ومابطن ،والله سبحانه يحب من عباده أن يدعوه ويتضرعوا إليه عند حلول البلاء فقال سبحانه : (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ، فلولا إذجاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) وقال سبحانه : (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ).
الوقفة الخامسة : أن من أقوى العوامل على الثبات على الحق عند حلول الابتلاء بعد رحمة الله وتثبيته للمؤمن هو الصبر ومن أوتي الصبر فقد أوتي الخير كله وتدبر معي الآيات التي ذكرت الابتلاء كيف نوهت وأشادت بالصبر فالله سبحانه لما قال ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ) قال في آخر الآية ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) ، وقال سبحانه ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين ) ، وقال سبحانه مبينا العاقبة الحميدة للصبر حينما يبتلى المؤمنون بكيد الأعداء قال ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً )، وأنبياء الله هذا منهجهم عند حلول البلاء والفتنة الصبر : ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذِّبوا ).
الوقفة السادسة : إن الابتلاء يدل على صحة المسار وصدق السائر إلى الله الداعي إلى رضوانه سبحانه وتعالى ، فالأنبياء أشد الناس بلاء وبقدر إيمان العبد يزاد له في البلاء ، وهو طريق الإمامة في الدين والتمكين في الأرض قال سبحانه ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) ، وقال بعض السلف بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، وقال الإمام مالك : إن محمد بن المنكدر لما ضرب فزع لضربه أهل المدينة فاجتمعوا إليه فقال : لا عليكم إنه لاخير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر .
الوقفة السابعة : إن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ونصرة دين الله من أعظم الأسباب للثبات على الدين وقت نزول المحن والبلايا ، كما قال جل وعلا : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) فبسبب صدقهم وبذلهم وجهادهم ودعوتهم وفقوا وهدوا لمايحبه الله وهو الثبات على الدين ، وفازوا بمعية الله وتأييده لهم ونصرتهم سبحانه لهم ، فكيف يهزم ويخذل من كان الله معه نسأل الله أن يثبتنا على الحق وأن لا يكلنا إلى أنفسنا أو إلى أحد من خلقه طرفة عين.
=============
بالعلم واليقين تنال الإمامة في الدين
علي الحمادي
تنتشر الشبهات انتشار النار في الهشيم في الأوساط الجاهلة، فكلما كثر الجهل والجهلاء كلما كانوا أكثر استعداداً للتأثر بالشبهات، في حين أن العلم نور يستضيء به العلماء، فلا تستقر به تهمة، ولا تصدق به شبهة.
إن مشكلة كثير من الدعاة، فضلاً عن عامة المسلمين، أنهم قليلوا العلم، لا سيما العلم الشرعي، لذلك عندما يطلق بعض الناس شبهة أو يرمي بتهمة تجد البلبلة تدب في صفوف هذا الصنف من الدعاة، ويصبحون في حيص بيص، لا يعرف أحدهم كيف يرد على هذه التهم، بل لا يدري كيف يقنع نفسه بزيف هذه الشبهات وأنها لا تؤثر على سلامة الطريق الذي يسلكه والمنهج الذي يتبعه، فيصاب بالحيرة والشك والارتياب.
إن هذا الدين قد عظم من مكانة العلم والعلماء حتى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ". (رواه الترمذي وقال حديث حسن).
وقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: " من عمل بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلح ".
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: " موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اطرد الليل والنهار".(1)
ويقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم
على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه
والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش به حياً أبداً
الناس موتى وأهل العلم أحياء(2)
ويقول آخر:
تعلم فليس المرء يولد عالماً
وليس أخو علم كمن هو جاهل
فإن كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا التفت عليه الجحافل
وأن صغير القوم إن كان عالماً
كبير إذا ردت إليه المحافل(3)
إن الذي يستطيع أن يقف سداً منيعاً أمام الشبهات هو ذلك الذي أنار الله قلبه وعقله بالعلم والمعرفة، لا كما يظن بعض الدعاة أن الإنسان كلما كانت له سابقة دعوية وأمضى سنوات طويلة في الدعوة فإنه يكون أبعد عن التأثر بالشبهات.(2/155)
إن هذا النوع من الدعاة إن صمد أمام الشبهات فإنه يصمد ( غالباً) على جهل، وهذا يخشى أن يدخل إليه الشيطان من طريق ثان أو ثالث أو رابع.
نعم، إن كثيراً من الدعوات بحاجة إلى علماء وإلى طلبة علم جادين في تحصيلهم العلمي مدركين خطورة الجهل والجهلاء على الأفراد والجماعات.
وإذا قدر لك أن تتصدى للاتهامات، وأن تحاور مثيري الشبهات فعليك:
1. أن تتبحر في دراسة موضوع الشبهة.
2. أن تكون مستعداً لأي سؤال.
3. أن لا تناقش في موضوع لا تعرفه جيداً.
4. أن لا تدافع عن فكرة إذا لم تكن على اقتناع تام بها، فإنك إن فعلت عرّضت نفسك للإحراج، وأسأت إلى الفكرة التي تحملها وتدافع عنها، إذ إن أغلب الناس يميلون إلى تجسيد الفكرة المجردة في شخص حاملها، ويعتبرون انتصاره انتصاراً لها دليلاً على أنها حق، كما يعتبرون انهزامه في الدفاع عنها انهزاماً لها دليلاً على أنها خطأ أو باطل، واذكر دائماً قوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ".( الإسراء: الآية 36).
5. أن تعد مادتك العلمية إعداداً جيداً، فالإتقان من شأن المؤمنين، والله - عز وجل - يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه، ففي هذا مرضاة لله - تعالى - بادئ ذي بدئ وهذا هو هدف الداعية الأول، ثم إن الإتقان يساعده على أداء مهمته في الحوار وذلك حين يعرض معلوماته عرضاً جيداً، مما يجعل سامعيه يجدون ما هو جدير بالاستماع إليه، وباختصار: الإتقان فيه مرضاة لله - عز وجل - ثم هو مظهر لاحترام الإنسان لنفسه واحترامه للآخرين.(4 )
00000000000000000
1 يوسف القرضاوي، الرسول والعلم، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1974، ص 35-36.
2 جاسم مهلهل، العلم بين يدي العالم والمتعلم، ص 11.
3 علي محفوظ، هداية المرشدين إلى طريق الوعظ والخطابة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ص 407.
4 وحدة الدراسات والبحوث بالندوة العالمية للشباب الإسلامي، أصول الحوار، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، ص 23.
http://209.15.171.39/articledetails. المصدر :
=============
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 348)(2/156)
" الزُّهْدُ الْمَشْرُوعُ "
هُوَ تَرْكُ الرَّغْبَةِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهُوَ فُضُولُ الْمُبَاحِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ " الْوَرَعَ الْمَشْرُوعَ " هُوَ تَرْكُ مَا قَدْ يَضُرُّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهُوَ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ الَّتِي لَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكُهَا تَرْكَ مَا فِعْلُهُ أَرْجَحُ مِنْهَا كَالْوَاجِبَاتِ فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِنَفْسِهِ أَوْ يُعِينُ عَلَى مَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَالزُّهْدُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ بَلْ صَاحِبُهُ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } كَمَا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ هُوَ ضِدُّ الزُّهْدِ الْمَشْرُوعِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بِهَا عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ [ تَرْكِ ] مُحَرَّمٍ كَانَ عَاصِيًا وَإِلَّا كَانَ مَنْقُوصًا عَنْ دَرَجَةِ الْمُقَرَّبِينَ إلَى دَرَجَةِ الْمُقْتَصِدِينَ . وَ ( أَيْضًا فَإِنَّ التَّوَكُّلَ هُوَ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ مُرْضٍ لَهُ مَأْمُورٌ بِهِ دَائِمًا وَمَا كَانَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ مُرْضِيًا لَهُ مَأْمُورًا بِهِ دَائِمًا لَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْمُقْتَصِدِينَ دُونَ الْمُقَرَّبِينَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ عَنْ قَوْلِهِمْ : الْمُتَوَكِّلُ يَطْلُبُ حُظُوظَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْأُمُورَ قَدْ فُرِغَ مِنْهَا فَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي الدُّعَاءِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إنْ كَانَ مُقَدَّرًا فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا لَمْ يَنْفَعْ الدُّعَاءُ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ شَرْعًا وَعَقْلًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : التَّوَكُّلُ وَالدُّعَاءُ لَا يُجْلَبُ بِهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا يُدْفَعُ بِهِ مَضَرَّةٌ وَإِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ . وَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ التَّفْوِيضِ الْمَحْضِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ فَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ . فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا أَشْبَهَهَا يَجْمَعُهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ : وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ كَوْنَ الْأُمُورِ مُقَدَّرَةً مَقْضِيَّةً يَمْنَعُ أَنْ تَتَوَقَّفَ عَلَى أَسْبَابٍ مُقَدَّرَةٍ - أَيْضًا - تَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ ؛ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُقَدِّرُ الْأُمُورَ وَيَقْضِيهَا بِالْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا مُعَلَّقَةً بِهَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِ أَفْعَالِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ طَرْدُ قَوْلِهِمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ الْأَعْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ . وَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مَرَّاتٍ فَأَجَابَ عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : { قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالُوا : فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ قَالَ : كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْمِخْصَرَةِ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ : مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ النَّارِ أَوْ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً قَالَ : فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ ؟ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ لَيَكُونَنَّ إلَى السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَيَكُونَنَّ إلَى الشَّقَاوَةِ قَالَ : اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ . أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فييسرون لِلسَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فييسرون لِلشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } { وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } } أَخْرَجَهُ(2/157)
الْجَمَاعَةُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقًى نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } . وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ بِالسَّعِيدِ وَالشَّقِيِّ لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ سَعَادَةُ هَذَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَشَقَاوَةُ هَذَا بِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَكْتُبُهَا ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ السَّعِيدَ يَسْعَدُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالشَّقِيَّ يَشْقَى بِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فَمَنْ كَانَ سَعِيدًا يُيَسَّرُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَقْتَضِي السَّعَادَةَ ؛ وَمَنْ كَانَ شَقِيًّا يُيَسَّرُ لِلْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَقْتَضِي الشَّقَاوَةَ ؛ وَكِلَاهُمَا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَهُوَ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ الْعَامَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } { إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } . وَأَمَّا مَا خُلِقُوا لَهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَهُوَ إرَادَتُهُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي أُمِرُوا بِمُوجِبِهَا فَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ : مِنْ " الْكَلِمَاتِ " وَ " الْأَمْرُ " وَ " الْإِرَادَةُ " وَ " الْإِذْنُ " وَ " الْكِتَابُ " وَ " الْحُكْمُ " وَ " الْقَضَاءُ " وَ " التَّحْرِيمُ " وَنَحْوُ ذَلِكَ مَا هُوَ دِينِيٌّ مُوَافِقٌ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَأَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ وَمَا هُوَ كَوْنِيٌّ مُوَافِقٌ لِمَشِيئَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي " الْأَمْرِ الدِّينِيِّ " : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَالَ فِي " الْكَوْنِيِّ " : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } عَلَى إحْدَى الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَقَالَ فِي " الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ " : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } وَقَالَ فِي " الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ " : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْإِذْنِ الدِّينِيِّ " : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ " : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْقَضَاءِ الدِّينِيِّ " : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } أَيْ أَمَرَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ " : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْحُكْمِ الدِّينِيِّ " : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ(2/158)
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيِّ " عَنْ ابْنِ يَعْقُوبَ : { فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي " التَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ " : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي " التَّحْرِيمِ الْكَوْنِيِّ " : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ تَعَالَى { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ " { وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } وَقَالَ تَعَالَى فِي " الْكَوْنِيَّةِ " : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَفِيضُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ إنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي اسْتِعَاذَتِهِ { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَوْنِيُّ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ . وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الدِّينِيَّةُ فَقَدْ خَالَفَهَا الْفُجَّارُ بِمَعْصِيَتِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ الْعَوَاقِبَ الَّتِي خَلَقَ لَهَا النَّاسَ مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ ييسرون لَهَا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يَصِيرُونَ بِهَا إلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ كَذَلِكَ ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الْوَلَدَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانِ فِي الْأَرْحَامِ بِمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ وَاجْتِمَاعِ الْمَاءَيْنِ فِي الرَّحِمِ فَلَوْ قَالَ الْإِنْسَانُ أَنَا أَتَوَكَّلُ وَلَا أَطَأُ زَوْجَتِي فَإِنْ كَانَ قَدْ قُضِيَ لِي بِوَلَدِ وُجِدَ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ وَلَا حَاجَةَ إلَى وَطْءٍ كَانَ أَحْمَقَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَطِئَ وَعَزَلَ الْمَاءَ فَإِنَّ عَزْلَ الْمَاءِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْوَلَدِ إذَا شَاءَ اللَّهُ إذْ قَدْ يَسْبِقُ الْمَاءُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَمِنْ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري . قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَسَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ مَا هُوَ خَالِقٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ : { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ لِي جَارِيَةً هِيَ خَادِمَتُنَا وَسَانِيَتُنَا فِي النَّخْلِ وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ فَقَالَ اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا } . وَهَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى مَا قَدْ فَعَلَهُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ أَبَوَيْنِ كَمَا خَلَقَ آدَمَ وَمَنْ خَلَقَهُ مِنْ أَبٍ فَقَطْ كَمَا خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْقَصِيرِ وَمَنْ خَلَقَهُ مِنْ أُمٍّ فَقَطْ كَمَا خَلَقَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنْ خَلَقَ ذَلِكَ بِأَسْبَابِ أُخْرَى غَيْرِ مُعْتَادَةٍ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَجْحَدُهُ الزَّنَادِقَةُ الْمُعَطِّلُونَ لِلشَّرَائِعِ فَقَدْ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ دِقِّهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمُعَظَّمِينَ يَسْتَرْسِلُ أَحَدُهُمْ مَعَ الْقَدَرِ غَيْرَ مُحَقِّقٍ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّفْوِيضِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْجَرْيِ مَعَ الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَيَحْسَبُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ(2/159)
الْغَاسِلِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَتَّى يَتْرُكَ مَا أُمِرَ بِهِ وَيَفْعَلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَحَتَّى يَضْعُفَ عِنْدَهُ النُّورُ وَالْفُرْقَانُ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ وَأَبْغَضَهُ وَسَخِطَهُ فَيُسَوِّي بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } { وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } { وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . حَتَّى يُفْضِيَ الْأَمْرُ بِغُلَاتِهِمْ إلَى عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ النَّبَوِيِّ الْإِلَهِيِّ الْفُرْقَانِيِّ الشَّرْعِيِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى أَيْدِي الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ فَيَشْهَدُونَ وَجْهَ الْجَمْعِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْجَمِيعِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْعَامَّةِ وَأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مُلْكِهِ وَلَا يَشْهَدُونَ وَجْهَ الْفَرْقِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ الَّذِينَ أَطَاعُوا أَمْرَهُ الدِّينِيَّ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ الَّذِينَ عَصَوْا هَذَا الْأَمْرَ وَيَسْتَشْهِدُونَ فِي ذَلِكَ بِكَلِمَاتِ مُجْمَلَةٍ نُقِلَتْ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ أَوْ بِبَعْضِ غَلَطَاتِ بَعْضِهِمْ . وَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " مِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ عَلَى أَهْلِ طَرِيقِ اللَّهِ السَّالِكِينَ سَبِيلَ الْإِرَادَةِ : إرَادَةِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ بِسَبَبِ إهْمَالِ ذَلِكَ عَلَى طَوَائِفَ مِنْهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يَصِيرُوا مُعَاوِنِينَ عَلَى الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ لِلْمُسَلَّطِينَ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُلُوِّ كَاَلَّذِينَ يَتَوَجَّهُونَ بِقُلُوبِهِمْ فِي مُعَاوَنَةِ مَنْ يَهْوُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ ظَانِّينَ أَنَّهُمْ إذَا كَانَتْ لَهُمْ أَحْوَالٌ أُثِرُوا بِهَا فِي ذَلِكَ كَانُوا بِذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ - فَإِنَّ الْقُلُوبَ لَهَا مِنْ التَّأْثِيرِ أَعْظَمُ مِمَّا لِلْأَبْدَانِ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَتْ صَالِحَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا صَالِحًا وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا فَاسِدًا فَالْأَحْوَالُ يَكُونُ تَأْثِيرُهَا مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَارَةً وَمَكْرُوهًا لِلَّهِ أُخْرَى وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى مَنْ يَقْتُلُ غَيْرَهُ فِي الْبَاطِنِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي ذَلِكَ - وَيَسْتَشْهِدُونَ بِبَوَاطِنِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ الْأَمْرَ الْكَوْنِيَّ وَيُعِدُّونَ مُجَرَّدَ خَرْقِ الْعَادَةِ لِأَحَدِهِمْ بِكَشْفِ يُكْشَفُ لَهُ أَوْ بِتَأْثِيرِ يُوَافِقُ إرَادَتَهُ هُوَ كَرَامَةٌ مِنْ اللَّهِ لَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إهَانَةٌ وَأَنَّ الْكَرَامَةَ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكْرِمْ عَبْدَهُ بِكَرَامَةِ أَعْظَمَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَهُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فَإِنْ كَانُوا مُوَافِقِينَ لَهُ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ وَإِنْ كَانُوا مُوَافِقِينَ فِيمَا أَوْجَبَهُ وَأَحَبَّهُ فَهُمْ مِنْ(2/160)
الْمُقَرَّبِينَ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ مَحْبُوبٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَحْبُوبٍ وَاجِبًا وَأَمَّا مَا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ عَبْدَهُ مِنْ السَّرَّاءِ بِخَرْقِ الْعَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا أَوْ بِالضَّرَّاءِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ كَرَامَةِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَلَا هَوَانِهِ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يَسْعَدُ بِهَا قَوْمٌ إذَا أَطَاعُوهُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ يَشْقَى بِهَا قَوْمٌ إذَا عَصَوْهُ فِي ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } { وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي كَلَّا } وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ " : ( قِسْمٌ تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُمْ بِخَرْقِ الْعَادَةِ إذَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ . وَقَوْمٌ يَتَعَرَّضُونَ بِهَا لِعَذَابِ اللَّهِ إذَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كبلعام وَغَيْرِهِ . وَقَوْمٌ تَكُونُ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ . وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا الْمُتَّبِعُونَ لِنَبِيِّهِمْ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ الَّذِي إنَّمَا كَانَتْ خَوَارِقُهُ لِحُجَّةِ يُقِيمُ بِهَا دِينَ اللَّهِ أَوْ لِحَاجَةِ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ . وَلِكَثْرَةِ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْأَصْلِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ مَعَ الْقَدَرِ بِدُونِ الْحِرْصِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ الَّذِي يَنْفَعُ الْعَبْدَ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ . احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي داود : { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَأَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فَإِنَّ الْحِرْصَ عَلَى مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ إذْ النَّافِعُ لَهُ هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَكُلُّ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ طَاعَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِسَعْدِ : { إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكَيْسِ وَهُوَ التَّفْرِيطُ فِيمَا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْقُدْرَةَ الْمُقَارِنَةَ لِلْفِعْلِ . وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي الْقُدْرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْفِعْلَ تَكُونُ مُقَارِنَةً لَهُ وَلَا تَصْلُحُ إلَّا لِمَقْدُورِهَا كَمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَتِلْكَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا الْفِعْلُ وَقَدْ لَا يَقْتَرِنُ . كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ(2/161)
فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } . فَهَذَا الْمَوْضِعُ قد انقسم النَّاسُ فِيهِ إلَى " أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ " : قَوْمٌ يَنْظُرُونَ إلَى جَانِبِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ شَاهِدِينَ لِإِلَهِيَّةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يَنْظُرُونَ إلَى جَانِبِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ ؛ فَهُمْ مَعَ حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ وَلِشَعَائِرِهِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ وَالْخِذْلَانُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ واللجأ إلَيْهِ وَالدُّعَاءَ لَهُ هِيَ الَّتِي تُقَوِّي الْعَبْدَ وَتُيَسِّرُ عَلَيْهِ الْأُمُورَ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظِّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وَيَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ فَأَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا بِأَنْ يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ إنَّمَا أَطَاقُوا حَمْلَ الْعَرْشِ بِقَوْلِهِمْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ } قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } إلَى قَوْلِهِ { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قَالَهَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ . وَ ( قِسْمٌ ثَانٍ : يَشْهَدُونَ رُبُوبِيَّةَ الْحَقِّ وَافْتِقَارَهُمْ إلَيْهِ وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ لَكِنْ عَلَى أَهْوَائِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمْ غَيْرَ نَاظِرِينَ إلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَعْمَلُونَ عَلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَصَرَّفُونَ بِهَا فِي الْوُجُودِ وَلَا يَقْصِدُونَ مَا يُرْضِي الرَّبَّ وَيُحِبُّهُ وَكَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ هِيَ مَرْضَاتُهُ فَيَعُودُونَ إلَى تَعْطِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيُسَمُّونَ هَذَا حَقِيقَةً وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْقَدَرِيَّةَ يَجِبُ الِاسْتِرْسَالُ مَعَهَا دُونَ مُرَاعَاةِ الْحَقِيقَةِ الْأَمْرِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَحْوِي مَرْضَاةَ الرَّبِّ وَمَحَبَّتَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . وَهَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَسْلُبُونَ أَحْوَالَهُمْ وَقَدْ يَعُودُونَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى وَمَنْ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ فَلَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَهُمْ يَقَعُونَ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ تَارَةً فِي بِدْعَةٍ يَظُنُّونَهَا شِرْعَةً وَتَارَةً فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى الْأَمْرِ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا ذَمَّ بِهِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ ذَكَرَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ وَجَعَلُوهُ شِرْعَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } وَقَدْ ذَمَّهُمْ عَلَى أَنْ حَرَّمُوا(2/162)
مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَأَنْ شَرَّعُوا مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَذَكَرَ احْتِجَاجَهُمْ بِالْقَدَرِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } وَنَظِيرُهَا فِي النَّحْلِ وَيس وَالزُّخْرُفِ وَهَؤُلَاءِ يَكُونُ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا . وَأَمَّا ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَاسْتِعَانَتِهِ بِهِ فَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْأَقْسَامِ . وَ ( الْقِسْمُ الرَّابِعُ : هُوَ الْقِسْمُ الْمَحْمُودُ وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ حَقَّقُوا { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلُهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فَاسْتَعَانُوا بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَشَهِدُوا أَنَّهُ إلَهُهُمْ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ الَّذِي { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } وَأَنَّهُ { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا التَّوَكُّلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ مُقْتَضَى التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ مَقَامَاتِ عَامَّةِ أَهْلِ الطَّرِيقِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا شَدِيدًا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْمَشَايِخِ - كَصَاحِبِ " عِلَلِ الْمَقَامَاتِ " وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَشَايِخِ وَأَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ صَاحِبُ " مَحَاسِنِ الْمَجَالِسِ " - وَظَهَرَ ضَعْفُ حُجَّةِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لِظَنِّهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهِ حَظُّ الْعَامَّةِ فَقَطْ وَظَنِّهِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ جَعَلَ الدُّعَاءَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ الْأَعْمَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا كَذَلِكَ كَمَنْ اشْتَغَلَ بِالتَّوَكُّلِ عَنْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا ؛ فَإِنْ غَلِطَ هَذَا فِي تَرْكِ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا الَّتِي هِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } كَغَلَطِ الْأَوَّلِ فِي تَرْكِ التَّوَكُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي هُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } لَكِنْ يُقَالُ : مَنْ كَانَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ هُوَ فِي حُصُولِ مُبَاحَاتٍ فَهُوَ مِنْ الْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي حُصُولِ مُسْتَحَبَّاتٍ وَوَاجِبَاتٍ فَهُوَ مِنْ الْخَاصَّةِ كَمَا أَنَّ مَنْ دَعَاهُ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ مُحَرَّمَاتٍ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ التَّوَكُّلِ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْمَقَامُ لِلْخَاصَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } إلَى قَوْلِهِ { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ( حَسْبِي اللَّهُ فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ تَارَةً وَفِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ أُخْرَى . ( فَالْأُولَى فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ }(2/163)
الْآيَةَ . وَ ( الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالرِّضَا وَالتَّوَكُّلِ . وَالرِّضَا وَالتَّوَكُّلُ يَكْتَنِفَانِ الْمَقْدُورَ فَالتَّوَكُّلُ قَبْلَ وُقُوعِهِ . وَالرِّضَا بَعْدَ وُقُوعِهِ ؛ وَلِهَذَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَبِقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَأَسْأَلُك الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُك نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُك قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُك بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ وَأَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك ؛ وَأَسْأَلُك الشَّوْقَ إلَى لِقَائِك مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زينا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ } رَوَاهُ أَحْمَد والنسائي مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ . وَأَمَّا مَا يَكُونُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَهُوَ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا لَا حَقِيقَةُ الرِّضَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ يَعْزِمُونَ عَلَى الرِّضَا قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ ؛ فَإِذَا وَقَعَ انْفَسَخَتْ عَزَائِمُهُمْ كَمَا يَقَعُ نَحْوُ ذَلِكَ فِي الصَّبْرِ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آيَةَ الْجِهَادِ فَكَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ . وَلِهَذَا كُرِهَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْبَلَاءِ بِأَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَا يُوجِبُهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ بِالْعَهْدِ وَالنَّذْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يَطْلُبُ وِلَايَةً أَوْ يُقْدِمُ عَلَى بَلَدٍ فِيهِ طَاعُونٌ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ ؛ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : { لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا ؛ وَإِذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { قَالَ فِي الطَّاعُونِ : إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تُقْدِمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَلَكِنْ إذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْعَى فِيمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ فَيَبْخَلُ بِالْوَفَاءِ ؛ وَكَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُعَاهِدُ اللَّهَ عُهُودًا عَلَى أُمُورٍ وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ يُبْتَلَوْنَ بِنَقْضِ الْعُهُودِ . وَيَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اُبْتُلِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَيَثْبُتَ وَلَا(2/164)
يَتَّكِلَ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الرِّجَالِ الْمُوقِنِينَ الْقَائِمِينَ بِالْوَاجِبَاتِ . وَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ الصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ عَنْ أَنْ يَجْزَعَ فِيهَا وَالصَّبْرُ عَنْ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الصَّبْرَ فِي كِتَابِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ مَوْضِعًا وَقَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } إلَى قَوْلِهِ { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } الْآيَةَ وَجَعَلَ " الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ " مَوْرُوثَةً عَنْ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ بِقَوْلِهِ : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فَإِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ عِلْمٌ بِالْحَقِّ وَعَمَلٌ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الصَّبْرِ بَلْ وَطَلَبُ عِلْمِهِ يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ طَلَبَهُ لِلَّهِ عِبَادَةٌ وَمَعْرِفَتَهُ خَشْيَةٌ وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ ؛ وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ . بِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ وَبِهِ يُمَجَّدُ اللَّهُ وَيُوَحَّدُ يَرْفَعُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ أَقْوَامًا يَجْعَلُهُمْ لِلنَّاسِ قَادَةً وَأَئِمَّةً يَهْتَدُونَ بِهِمْ وَيَنْتَهُونَ إلَى رَأْيِهِمْ . فَجَعَلَ الْبَحْثَ عَنْ الْعِلْمِ مِنْ الْجِهَادِ وَلَا بُدَّ فِي الْجِهَادِ مِنْ الصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } فَالْعِلْمُ النَّافِعُ هُوَ أَصْلُ الْهُدَى وَالْعَمَلُ بِالْحَقِّ هُوَ الرَّشَادُ وَضِدُّ الْأَوَّلِ الضَّلَالُ وَضِدُّ الثَّانِي الْغَيُّ فَالضَّلَالُ الْعَمَلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالْغَيُّ اتِّبَاعُ الْهَوَى . قَالَ تَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } فَلَا يُنَالُ الْهُدَى إلَّا بِالْعِلْمِ وَلَا يُنَالُ الرَّشَادُ إلَّا بِالصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ : أَلَا إنَّ الصَّبْرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ - فَإِذَا انْقَطَعَ الرَّأْسُ بَانَ الْجَسَدُ - ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ أَلَا لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 341)(2/165)
وَالنَّاسُ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ .
قَوْمٌ لَا يَقُومُونَ إلَّا فِي أَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ ؛ فَلَا يَرْضَوْنَ إلَّا بِمَا يُعْطُونَهُ وَلَا يَغْضَبُونَ إلَّا لِمَا يحرمونه ؛ فَإِذَا أُعْطِيَ أَحَدُهُمْ مَا يَشْتَهِيهِ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ زَالَ غَضَبُهُ وَحَصَلَ رِضَاهُ وَصَارَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ مُنْكَرًا - يُنْهَى عَنْهُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ ؛ وَيَذُمُّ صَاحِبَهُ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِ - مَرْضِيًّا عِنْدَهُ وَصَارَ فَاعِلًا لَهُ وَشَرِيكًا فِيهِ ؛ وَمُعَاوِنًا عَلَيْهِ ؛ وَمُعَادِيًا لِمَنْ نَهَى عَنْهُ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ . وَهَذَا غَالِبٌ فِي بَنِي آدَمَ يَرَى الْإِنْسَانُ وَيَسْمَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصِيهِ . وَسَبَبُهُ : أَنَّ الْإِنْسَانَ ظَلُومٌ جَهُولٌ ؛ فَلِذَلِكَ لَا يَعْدِلُ بَلْ رُبَّمَا كَانَ ظَالِمًا فِي الْحَالَيْنِ يَرَى قَوْمًا يُنْكِرُونَ عَلَى الْمُتَوَلِّي ظُلْمَهُ لِرَعِيَّتِهِ وَاعْتِدَاءَهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَيَرْضَى أُولَئِكَ الْمُنْكِرُونَ بِبَعْضِ الشَّيْءِ فَيَنْقَلِبُونَ أَعْوَانًا لَهُ . وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَسْكُتُوا عَنْ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ تَرَاهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَزْنِي وَيَسْمَعُ الْمَلَاهِيَ حَتَّى يُدْخِلُوا أَحَدَهُمْ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ ؛ أَوْ يَرْضَوْهُ بِبَعْضِ ذَلِكَ ؛ فَتَرَاهُ قَدْ صَارَ عَوْنًا لَهُمْ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَعُودُونَ بِإِنْكَارِهِمْ إلَى أَقْبَحِ مِنْ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَقَدْ يَعُودُونَ إلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ أَوْ نَظِيرِهِ . وَقَوْمٌ يَقُومُونَ دِيَانَةً صَحِيحَةً يَكُونُونَ فِي ذَلِكَ مُخْلِصِينَ لِلَّهِ مُصْلِحِينَ فِيمَا عَمِلُوهُ وَيَسْتَقِيمُ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يَصْبِرُوا عَلَى مَا أُوذُوا . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهُمْ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ : يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ . وَقَوْمٌ يَجْتَمِعُ فِيهِمْ هَذَا وَهَذَا ؛ وَهُمْ غَالِبُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ فِيهِ دِينٌ وَلَهُ شَهْوَةٌ تَجْتَمِعُ فِي قُلُوبِهِمْ إرَادَةُ الطَّاعَةِ وَإِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ وَرُبَّمَا غَلَبَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً . وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ الثُّلَاثِيَّةُ كَمَا قِيلَ : الْأَنْفُسُ ثَلَاثٌ : أَمَّارَةٌ ؛ وَمُطَمْئِنَةٌ ؛ وَلَوَّامَةٌ . فَالْأَوَّلُونَ هُمْ أَهْلُ الْأَنْفُسِ الْأَمَّارَةِ الَّتِي تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ . وَالْأَوْسَطُونَ هُمْ أَهْلُ النُّفُوسِ الْمُطْمَئِنَّةِ الَّتِي قِيلَ فِيهَا : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } { ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } { وَادْخُلِي جَنَّتِي } . وَالْآخَرُونَ هُمْ أَهْلُ النُّفُوسِ اللَّوَّامَةِ الَّتِي تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ عَلَيْهِ ؛ وَتَتَلَوَّنُ : تَارَةً كَذَا . وَتَارَةً كَذَا . وَتَخْلِطُ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ اللَّذَيْنِ أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا بالذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } أَقْرَبُ عَهْدًا بِالرِّسَالَةِ وَأَعْظَمُ إيمَانًا وَصَلَاحًا ؛ وَأَئِمَّتُهُمْ أَقْوَمُ بِالْوَاجِبِ وَأَثْبَتُ فِي الطُّمَأْنِينَةِ : لَمْ تَقَعْ فِتْنَةٌ ؛ إذْ كَانُوا فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الْوَسَطِ . وَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَخِلَافَةِ عَلِيٍّ كَثُرَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ؛ فَصَارَ فِيهِمْ شَهْوَةٌ وَشُبْهَةٌ مَعَ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ ؛ وَصَارَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْوُلَاةِ وَبَعْضِ الرَّعَايَا ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ بَعْدُ ؛ فَنَشَأَتْ الْفِتْنَةُ الَّتِي سَبَبُهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ تَمْحِيصِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ ؛ وَاخْتِلَاطِهِمَا بِنَوْعِ مِنْ الْهَوَى وَالْمَعْصِيَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ : وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَأَوِّلٌ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَنَّهُ مَعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَعَ هَذَا التَّأْوِيلِ نَوْعٌ مِنْ الْهَوَى ؛ فَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ؛ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ الْأُخْرَى . فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ ؛ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي أَنْ يُقِيمَ قَلْبَهُ وَلَا يُزِيغَهُ : وَيُثَبِّتَهُ عَلَى الْهُدَى(2/166)
وَالتَّقْوَى ؛ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } . وَهَذَا أَيْضًا حَالُ الْأُمَّةِ فِيمَا تَفَرَّقَتْ فِيهِ وَاخْتَلَفَتْ فِي الْمَقَالَاتِ وَالْعِبَادَاتِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا تَعْظُمُ بِهَا الْمِحْنَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى شَيْئَيْنِ : إلَى دَفْعِ الْفِتْنَةِ الَّتِي اُبْتُلِيَ بِهَا نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ فِتْنَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَنْ نُفُوسِهِمْ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهَا : فَإِنَّ مَعَهُمْ نُفُوسًا وَشَيَاطِينَ كَمَا مَعَ غَيْرِهِمْ فَمَعَ وُجُودِ ذَلِكَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ يَقْوَى الْمُقْتَضِي عِنْدَهُمْ ؛ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ ؛ فَيَقْوَى الدَّاعِي الَّذِي فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَشَيْطَانُهُ ؛ وَمَا يَحْصُلُ مِنْ الدَّاعِي بِفِعْلِ الْغَيْرِ وَالنَّظِيرِ . فَكَمْ مِمَّنْ لَمْ يَرِدْ خَيْرًا وَلَا شَرًّا حَتَّى رَأَى غَيْرَهُ - لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ نَظِيرُهُ - يَفْعَلُهُ فَفَعَلَهُ فَإِنَّ النَّاسَ كَأَسْرَابِ الْقَطَا ؛ مَجْبُولُونَ عَلَى تَشَبُّهِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُبْتَدِئُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ : لَهُ مِثْلُ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ؛ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } وَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ . وَأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ . وَشَبَهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ . فَإِذَا كَانَ هَذَانِ دَاعِيَيْنِ قَوِيَّيْنِ : فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِمَا دَاعِيَانِ آخَرَانِ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْمُنْكَرِ يُحِبُّونَ مَنْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ ؛ وَيُبْغِضُونَ مَنْ لَا يُوَافِقُهُمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الدِّيَانَاتِ الْفَاسِدَةِ مِنْ مُوَالَاةِ كُلِّ قَوْمٍ لِمُوَافَقِيهِمْ ؛ وَمُعَادَاتِهِمْ لِمُخَالِفِيهِمْ . وَكَذَلِكَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ كَثِيرًا مَا يَخْتَارُونَ وَيُؤْثِرُونَ مَنْ يُشَارِكُهُمْ : إمَّا لِلْمُعَاوَنَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ كَمَا فِي الْمُتَغَلِّبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاسَاتِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِمْ . وَإِمَّا بِالْمُوَافَقَةِ ؛ كَمَا فِي الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَخْتَارُونَ أَنْ يَشْرَبَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُمْ وَإِمَّا لِكَرَاهَتِهِمْ امْتِيَازَهُ عَنْهُمْ بِالْخَيْرِ : إمَّا حَسَدًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَعْلُوَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَيُحْمَدُ دُونَهُمْ . وَإِمَّا لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ . وَإِمَّا لِخَوْفِهِمْ مِنْ مُعَاقَبَتِهِ لَهُمْ بِنَفْسِهِ ؛ أَوْ بِمَنْ يَرْفَعُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ ؛ وَلِئَلَّا يَكُونُوا تَحْت مِنَّتِهِ وَخَطَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } . وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَدَّتْ الزَّانِيَةُ لَوْ زَنَى النِّسَاءُ كُلُّهُنَّ . وَالْمُشَارِكَةُ قَدْ يَخْتَارُونَهَا فِي نَفْسِ الْفُجُورِ كَالِاشْتِرَاكِ فِي الشُّرْبِ وَالْكَذِبِ وَالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ وَقَدْ يَخْتَارُونَهَا فِي النَّوْعِ ؛ كَالزَّانِي الَّذِي يَوَدُّ أَنَّ غَيْرَهُ يَزْنِي ؛ وَالسَّارِقُ الَّذِي يَوَدُّ أَنَّ غَيْرَهُ يَسْرِقُ أَيْضًا ؛ لَكِنْ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ الَّتِي زَنَى بِهَا أَوْ سَرَقَهَا . وَأَمَّا الدَّاعِي الثَّانِي فَقَدْ يَأْمُرُونَ الشَّخْصَ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُنْكَرِ . فَإِنْ شَارَكَهُمْ وَإِلَّا عَادُوهُ وَآذَوْهُ عَلَى وَجْهٍ يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ ؛ أَوَّلًا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ مُشَارَكَةَ الْغَيْرِ لَهُمْ فِي(2/167)
قَبِيحِ فِعْلِهِمْ أَوْ يَأْمُرُونَهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ : مَتَى شَارَكَهُمْ وَعَاوَنَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ انْتَقَصُوهُ وَاسْتَخَفُّوا بِهِ . وَجَعَلُوا ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي أُمُورٍ أُخْرَى . وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ عَادَوْهُ وَآذَوْهُ . وَهَذِهِ حَالُ غَالِبِ الظَّالِمِينَ الْقَادِرِينَ . وَهَذَا الْمَوْجُودُ فِي الْمُنْكَرِ نَظِيرُهُ فِي الْمَعْرُوفِ وَأَبْلَغُ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَإِنَّ دَاعِيَ الْخَيْرِ أَقْوَى ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ دَاعٍ يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ ؛ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ ؛ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَإِذَا وُجِدَ مَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ ذَلِكَ صَارَ لَهُ دَاعٍ آخَرُ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ نَظِيرُهُ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ الْمُنَافَسَةِ وَهَذَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ . فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُشَارَكَتَهُ لَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالصَّالِحِينَ ؛ وَيُبْغِضُهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ : صَارَ لَهُ دَاعٍ ثَالِثٌ ؛ فَإِذَا أَمَرُوهُ بِذَلِكَ وَوَالَوْهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَادَوْهُ وَعَاقَبُوهُ عَلَى تَرْكِهِ صَارَ لَهُ دَاعٍ رَابِعٌ . وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُقَابِلُوا السَّيِّئَاتِ بِضِدِّهَا مِنْ الْحَسَنَاتِ ؛ كَمَا يُقَابِلُ الطَّبِيبُ الْمَرَضَ بِضِدِّهِ . فَيُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُ بِأَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ : بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ . وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ مَعَ وُجُودِ مَا يَنْفِي الْحَسَنَاتِ وَيَقْتَضِي السَّيِّئَاتِ . وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ . وَيُؤْمَرُ أَيْضًا بِإِصْلَاحِ غَيْرِهِ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبِعَةِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَإِمْكَانِهِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } . وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ فَكَّرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي سُورَةِ ( وَالْعَصْرِ لَكَفَتْهُمْ . وَهُوَ كَمَا قَالَ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ خَاسِرُونَ إلَّا مَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُؤْمِنًا صَالِحًا ؛ وَمَعَ غَيْرِهِ مُوصِيًا بِالْحَقِّ مُوصِيًا بِالصَّبْرِ . وَإِذَا عَظُمَتْ الْمِحْنَةُ كَانَ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ سَبَبًا لِعُلُوِّ الدَّرَجَةِ وَعَظِيمِ الْأَجْرِ ؛ كَمَا { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ الْأَنْبِيَاءُ : ثُمَّ الصَّالِحُونَ ؛ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ؛ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ . فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ . وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَاجُ مِنْ الصَّبْرِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ غَيْرُهُ : وَذَلِكَ هُوَ سَبَبُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . فَلَا بُدَّ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ السَّيِّئِ الْمَحْظُورِ ؛ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى فِعْلِ الْأَذَى وَعَلَى مَا يُقَالُ ؛ وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَكَارِهِ ؛ وَالصَّبْرُ عَنْ الْبَطَرِ عِنْدَ النِّعَمِ : وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ . وَلَا يُمْكِنُ الْعَبْدُ أَنْ يَصْبِرَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ وَيَتَنَعَّمُ بِهِ وَيُغْتَذَى بِهِ وَهُوَ الْيَقِينُ ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ ؛ وَالْعَافِيَةَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ فَسَلُوهُمَا اللَّهُ } . وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ يُحْسِنُ أَوْ أَحَبَّ مُوَافَقَتَهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ أَوْ نَهَى غَيْرَهُ عَنْ شَيْءٍ ؛ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُحْسِنَ إلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ إحْسَانًا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ ؛ مِنْ حُصُولِ الْمَحْبُوبِ وَانْدِفَاعِ الْمَكْرُوهِ ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ لَا تَصْبِرُ عَلَى الْمُرِّ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْحُلْوِ ؛(2/168)
لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ ؛ حَتَّى جَعَلَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ نَصِيبًا فِي الصَّدَقَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْبِرَ وَأَنْ يَرْحَمَ وَهَذَا هُوَ الشَّجَاعَةُ وَالْكَرَمُ . وَلِهَذَا يُقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ تَارَةً ؛ وَهِيَ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّبْرِ تَارَةً . وَلَا بُدَّ مِنْ الثَّلَاثَةِ : الصَّلَاةِ ؛ وَالزَّكَاةِ ؛ وَالصَّبْرِ . لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا بِذَلِكَ ؛ فِي صَلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَإِصْلَاحِ غَيْرِهِمْ ؛ لَا سِيَّمَا كُلَّمَا قَوِيَتْ الْفِتْنَةُ وَالْمِحْنَةُ ؛ فَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَكُونُ أَشَدَّ ؛ فَالْحَاجَةُ إلَى السَّمَاحَةِ وَالصَّبْرِ عَامَّةً لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَلَا دُنْيَاهُمْ إلَّا بِهِ . وَلِهَذَا جَمِيعُهُمْ يَتَمَادَحُونَ بِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ حَتَّى إنَّ ذَلِكَ عَامَّةُ مَا يَمْدَحُ بِهِ الشُّعَرَاءُ فِي شِعْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ يَتَذَامُّونَ بِالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ . وَالْقَضَايَا الَّتِي يَتَّفِقُ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ لَا تَكُونُ إلَّا حَقًّا ؛ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَدْحِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ ؛ وَذَمِّ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ . وَقَدْ قَالَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ الْأَعْرَابُ ؛ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إلَى سَمُرَةٍ فَتَعَلَّقَتْ بِرِدَائِهِ ؛ فَالْتَفَتَ إلَيْهِمْ وَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ عِنْدِي عَدَدَ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْته عَلَيْكُمْ ؛ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذُوبًا } . لَكِنْ يَتَنَوَّعُ ذَلِكَ بِتَنَوُّعِ الْمَقَاصِدِ وَالصِّفَاتِ ؛ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى . وَلِهَذَا جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِذَمِّ الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ ؛ وَمَدْحِ الشَّجَاعَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي سَبِيلِهِ دُونَ مَا لَيْسَ فِي سَبِيلِهِ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } . وَقَالَ : { مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ ؟ فَقَالُوا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نَزِنُهُ بِالْبُخْلِ فَقَالَ : وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ } وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ السَّيِّدَ لَا يَكُونُ بَخِيلًا بَلْ سَيِّدُكُمْ الْأَبْيَضُ الْجَعْدُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ } . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي فَقَالَ تَقُولُ : وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ فَجَعَلَ الْبُخْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمْرَاضِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ : { قَالَ عُمَرُ : قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُمْ فَقَالَ : إنَّهُمْ خَيَّرُونِي بَيْنَ أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ وَبَيْنَ أَنْ يبخلوني وَلَسْت بِبَاخِلِ يَقُولُ : إنَّهُمْ يَسْأَلُونِي مَسْأَلَةً لَا تَصْلُحُ فَإِنْ أَعْطَيْتهمْ وَإِلَّا قَالُوا : هُوَ بَخِيلٌ فَقَدْ خَيَّرُونِي بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُكْرِهِينَ لَا يَتْرُكُونِي مِنْ أَحَدِهِمَا : الْفَاحِشَةُ وَالتَّبْخِيلُ . وَالتَّبْخِيلُ أَشَدُّ ؛ فَأَدْفَعُ الْأَشَدَّ بِإِعْطَائِهِمْ . } وَالْبُخْلُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعُ : كَبَائِرَ ؛ وَغَيْرُ كَبَائِرَ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَقَالَ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ(2/169)
إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } . وَقَالَ : { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } . وَقَالَ : { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } . وَقَالَ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } . وَقَالَ : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } الْآيَةَ . وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِيتَاءِ وَالْإِعْطَاءِ وَذَمِّ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ : كُلُّهُ ذَمٌّ لِلْبُخْلِ وَكَذَلِكَ ذَمُّهُ لِلْجُبْنِ كَثِيرٌ مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . وَقَوْلُهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } . وَقَوْلُهُ : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } . وَقَوْلُهُ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } . وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَذَمِّ النَّاكِلِينَ عَنْهُ وَالتَّارِكِينَ لَهُ : كُلُّهُ ذَمٌّ لِلْجُبْنِ . وَلَمَّا كَانَ صَلَاحُ بَنِي آدَمَ لَا يَتِمُّ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إلَّا بِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ : بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَنْ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ أَبْدَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ ؛ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ } { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } . وَبِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَضَّلَ [ اللَّهُ ] السَّابِقِينَ فَقَالَ : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } . وَقَدْ ذَكَرَ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِهِ ؛ وَمَدَحَهُ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ ؛ وَذَلِكَ هُوَ الشَّجَاعَةُ وَالسَّمَاحَةُ فِي طَاعَتِهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } . وَالشَّجَاعَةُ لَيْسَتْ هِيَ قُوَّةُ الْبَدَنِ وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ قَوِيَّ الْبَدَنِ ضَعِيفَ الْقَلْبِ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ . فَإِنَّ(2/170)
الْقِتَالَ مَدَارُهُ عَلَى قُوَّةِ الْبَدَنِ وَصَنْعَتِهِ لِلْقِتَالِ ؛ وَعَلَى قُوَّةِ الْقَلْبِ وَخِبْرَتِهِ بِهِ . وَالْمَحْمُودُ مِنْهُمَا مَا كَانَ بِعِلْمِ وَمَعْرِفَةٍ ؛ دُونَ التَّهَوُّرِ الَّذِي لَا يُفَكِّرُ صَاحِبُهُ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ . حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَصْلُحُ . فَأَمَّا الْمَغْلُوبُ حِينَ غَضَبِهِ فَلَيْسَ بِشُجَاعِ وَلَا شَدِيدٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جِمَاعَ ذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ . وَالصَّبْرُ صَبْرَانِ : صَبْرٌ عِنْدَ الْغَضَبِ ؛ وَصَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ . كَمَا قَالَ الْحَسَنُ : مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جُرْعَةً أَعْظَمَ مِنْ جُرْعَةِ حِلْمٍ عِنْدَ الْغَضَبِ ؛ وَجُرْعَةِ صَبْرٍ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْمُؤْلِمِ . وَهَذَا هُوَ الشُّجَاعُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الْمُؤْلِمِ . وَالْمُؤْلِمُ إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الْغَضَبَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الْحُزْنَ ؛ وَلِهَذَا يَحْمَرُّ الْوَجْهُ عِنْدَ الْغَضَبِ لِثَوَرَانِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْقُدْرَةِ وَيَصْفَرُّ عِنْدَ الْحُزْنِ لِغَوْرِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْعَجْزِ ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : الرَّقُوبُ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ قَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ بِالرَّقُوبِ ؛ وَلَكِنَّ الرَّقُوبَ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ : مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ ؟ قُلْنَا : الَّذِي لَا تَصْرَعُهُ الرِّجَالُ فَقَالَ : لَيْسَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } فَذَكَرَ مَا يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وَالصَّبْرَ عِنْدَ الْغَضَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُصِيبَةِ : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } { الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْغَضَبِ : { وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } . وَهَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ صَبْرِ الْمُصِيبَةِ وَصَبْرِ الْغَضَبِ نَظِيرُ الْجَمْعِ بَيْنَ صَبْرِ النِّعْمَةِ [ وَصَبْرِ الْمُصِيبَةِ ] كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } { إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } . وَقَالَ : { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } . وَبِهَذَا وَصَفَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ مَنْ وَصَفَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ قَالَ : لَا يَفْرَحُونَ إذَا نَالَتْ سُيُوفُهُمْ قَوْمًا وَلَيْسُوا مجازيعا إذَا نِيلُوا وَكَذَلِكَ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي صِفَةِ الْأَنْصَارِ : لَا فَخْرَ إنْ هُمْ أَصَابُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خَوْرَ وَلَا هَلَعَ وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْلِبُ فَلَا يَبْطَرُ ؛ وَيَغْلِبُ فَلَا يَضْجَرُ . وَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُو النَّاسَ عِنْدَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ إلَى تَعَدِّي الْحُدُودِ بِقُلُوبِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَمَّا قِيلَ لَهُ : وَقَدْ بَكَى لَمَّا رَأَى إبْرَاهِيمَ فِي النَّزْعِ أَتَبْكِي ؟ أَوَلَمْ تَنْهَ عَنْ الْبُكَاءِ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ : صَوْتٌ عِنْدَ نَغْمَةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرَ شَيْطَانٍ . وَصَوْتٌ عِنْدَ مُصِيبَةِ لَطْمِ خُدُودٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَدُعَاءٍ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّوْتَيْنِ . وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمَصَائِبِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا(2/171)
بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } . وَقَالَ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْحَالِقَةِ وَالصَّالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ } . وَقَالَ : { مَا كَانَ مِنْ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ } . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ عَلَى دَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا حُزْنِ الْقَلْبِ ؛ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا أَوْ يَرْحَمُ - وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ وَقَالَ : مَنْ يُنَحْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ } . وَاشْتَرَطَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْبَيْعَةِ أَنْ لَا يَنُحْنَ وَقَالَ : { إنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا فَإِنَّهَا تَلْبَسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِرْعًا مَنْ جَرَبٍ وَسِرْبَالًا مِنْ قَطِرَانٍ } . وَقَالَ فِي الْغَلَبَةِ وَالْمَصَائِبِ وَالْفَرَحِ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ ؛ وَلْيَحُدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } . وَقَالَ : { إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ } . وَقَالَ : { لَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا } . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ بِهِ فِي الْجِهَادِ مِنْ الْعَدْلِ وَتَرْكِ الْعُدْوَانِ ؛ اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } . وَنَهَى عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَتَخَتُّمِ الذَّهَبِ ؛ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ وَإِطَالَةِ الثِّيَابِ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ فِي النِّعَمِ وَذَمِّ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَجَعَلَ فِيهِمْ الْخَسْفَ وَالْمَسْخَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } . وَقَالَ عَنْ قَارُونَ : { إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ مَعَ الصَّبْرِ عَنْ الِاعْتِدَاءِ فِي الشَّهْوَةِ هِيَ جَوَامِعُ هَذَا الْبَابِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَشْتَهِيهِ : وَبَيْنَ مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ فَهُوَ يَطْلُبُ الْأَوَّلَ بِمَحَبَّتِهِ وَشَهْوَتِهِ وَيَدْفَعُ الثَّانِيَ بِبُغْضِهِ وَنُفْرَتِهِ . وَإِذَا حَصَلَ الْأَوَّلُ أَوْ انْدَفَعَ الثَّانِي أَوْجَبَ لَهُ فَرَحًا وَسُرُورًا وَإِنْ حَصَلَ الثَّانِي أَوْ انْدَفَعَ الْأَوَّلُ حَصَلَ لَهُ حُزْنٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ عِنْدَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِمَا ؛ وَعِنْدَ الْغَضَبِ وَالنُّفْرَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِمَا ؛ وَعِنْدَ الْفَرَحِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِ ؛ وَعِنْدَ الْمُصِيبَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ الْجَزَعِ مِنْهَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ الْفَاجِرَيْنِ : الصَّوْتُ الَّذِي يُوجِبُ الِاعْتِدَاءَ فِي الْفَرَحِ حَتَّى يَصِيرَ الْإِنْسَانُ فَرِحًا فَخُورًا ؛ وَالصَّوْتُ الَّذِي يُوجِبُ الْجَزَعَ . وَأَمَّا الصَّوْتُ الَّذِي يُثِيرُ الْغَضَبَ لِلَّهِ : كَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُقَالُ فِي الْجِهَادِ مِنْ الْأَشْعَارِ الْمُنْشَدَةِ : فَتِلْكَ لَمْ تَكُنْ بِآلَاتِ وَكَذَلِكَ أَصْوَاتُ الشَّهْوَةِ فِي الْفَرَحِ ؛ فَرَخَّصَ مِنْهَا فِيمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْأَفْرَاحِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . وَعَامَّةِ الْأَشْعَارِ الَّتِي تُنْشَدُ بِالْأَصْوَاتِ لِتَحْرِيكِ النُّفُوسِ هِيَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبِعَةِ وَهِيَ التَّشْبِيبُ ؛ وَأَشْعَارُ الْغَضَبِ وَالْحَمِيَّةِ ؛ وَهِيَ الْحَمَاسَةُ وَالْهِجَاءُ . وَأَشْعَارُ الْمَصَائِبِ كَالْمَرَاثِي وَأَشْعَارِ النِّعَمِ وَالْفَرَحِ وَهِيَ الْمَدَائِحُ . وَالشُّعَرَاءُ جَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَمْشُوا مَعَ الطَّبْعِ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } وَلِهَذَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَتْبَعُهُمْ الْغَاوُونَ وَالْغَاوِي : هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ هَوَاهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛ وَهَذَا هُوَ الْغَيُّ ؛ وَهُوَ خِلَافُ الرُّشْدِ . كَمَا أَنَّ(2/172)
الضَّالَّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَصْلَحَتَهُ هُوَ خِلَافُ الْمُهْتَدِي قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي } . فَلِهَذَا تَجِدُهُمْ يَمْدَحُونَ جِنْسَ الشُّجَاعَةِ وَجِنْسَ السَّمَاحَةِ ؛ إذْ كَانَ عَدَمُ هَذَيْنِ مَذْمُومًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَمَّا وُجُودُهُمَا فَبِهِ تَحْصُلُ مَقَاصِدُ النُّفُوسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لَكِنَّ الْعَاقِبَةَ فِي ذَلِكَ لِلْمُتَّقِينَ . وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَّقِينَ فَلَهُمْ عَاجِلَةٌ لَا عَاقِبَةٌ وَالْعَاقِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْآخِرَةِ فَتَكُونُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ نُوحٍ وَنَجَاتَهُ بِالسَّفِينَةِ : { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } إلَى قَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } . وَقَالَ : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } . وَالْفُرْقَانُ : أَنْ يَحْمَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا حَمِدَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَمْدُهُ زَيْنٌ وَذَمُّهُ شَيْنٌ ؛ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الشُّعَرَاءِ وَالْخُطَبَاءِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ الْقَائِلُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَذَمِّي شَيْنٌ قَالَ لَهُ : " ذَاكَ اللَّهُ " . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَمِدَ الشَّجَاعَةَ وَالسَّمَاحَةَ فِي سَبِيلِهِ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ { أَبِي مُوسَى قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلَ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً ؛ وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً ؛ وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لَهُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } فَكُلُّ مَا كَانَ لِأَجْلِ الْغَايَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا الْخَلْقُ كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى لِصَاحِبِهِ وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ . وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ : مَنْ يَعْمَلْ لِلَّهِ بِشَجَاعَةِ وَسَمَاحَةٍ ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلْجَنَّةِ . وَمَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللَّهِ بِشَجَاعَةِ وَسَمَاحَةٍ ؛ فَهَذَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمَنْ يَعْمَلْ لِلَّهِ لَكِنْ لَا بِشَجَاعَةِ وَلَا سَمَاحَةٍ ؛ فَهَذَا فِيهِ مِنْ النِّفَاقِ وَنَقْصِ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَمَنْ لَا يَعْمَلْ لِلَّهِ وَلَيْسَ فِيهِ شَجَاعَةٌ وَلَا سَمَاحَةٌ ؛ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٌ . فَهَذِهِ الْأَخْلَاقُ وَالْأَفْعَالُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُؤْمِنُ عُمُومًا وَخُصُوصًا فِي أَوْقَاتِ الْمِحَنِ وَالْفِتَنِ الشَّدِيدَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى صَلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَدَفْعِ الذُّنُوبِ عَنْ نُفُوسِهِمْ عِنْدَ الْمُقْتَضِي لِلْفِتْنَةِ عِنْدَهُمْ وَيَحْتَاجُونَ أَيْضًا إلَى أَمْرِ غَيْرِهِمْ وَنَهْيِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ مِنْ الصُّعُوبَةِ مَا فِيهِ ؛ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَمَرَهُمْ بِدَعْوَةِ النَّاسِ وَجِهَادِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } . وَكَمَا قَالَ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }(2/173)
وَكَمَا قَالَ : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } . وَكَمَا قَالَ : { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } .
=================00000
المبتدع لا تقبل له توبة حتى يظهر توبته ويعلن الرجوع عن مقالته
نماذج لمن أعلن توبته، وأظهر رجعته عن بدعته أمام الناس، وأشهد على ذلك
أبو الحسن الأشعري
أبو الفداء علي بن عقيل البغدادي
عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود
عبد الله بن الحسن العنبري
الابتداع في الدين شره جسيم، وخطره عظيم، وضرره بليغ، وآثاره متعدية، ولهذا فإن البدعة أشأم من المعصية، حيث تصعب التوبة منها والإقلاع عنها في الدنيا، ويكثر وزرها ويثقل حملها في الآخرة، ولهذا جاء في الأثر: "ويل لمن مات وبقيت بدعته بعده، وطوبى لمن مات وماتت بدعته بعده".
من أجل ذلك فقد زيد في شروط توبة المبتدع شرط رابع، وهو أن يظهر توبته، ويعلن رجعته، ويشهد على فعلته، أومقالته، أوعقيدته التي تاب منها، بينما يحرم فعل ذلك على من تاب من معصية، قال تعالى: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا".
ذكِر لأبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل من أهل العلم كانت له زلة، وأنه تاب من زلته، فقال: "لا يقبل الله ذلك منه حتى يظهر التوبة والرجوع عن مقالته، وليعلن أنه قال: كيت وكيت، وأنه تاب إلى الله تعالى من مقالته ورجع عنها، وإذا ظهر ذلك منه حينئذ تقبل؛ ثم تلا أبو عبد الله: "إلا الذين تابوا.." الآية.
وكان العلماء في الماضي يهجرون من صدرت منه مقالة بدعية ويحملونه حملاً على التراجع منها، ولا يقبلون له توبة إلا إذا أعلنها وأشهد عليها، وهذا الصنيع من أوجب الواجبات على ولاة الأمر من العلماء والحكام، وفي تركهم لذلك خذلان وامتهان وانتقاص للدين وأهله.
نماذج لمن أعلن توبته، وأظهر رجعته عن بدعته أمام الناس، وأشهد على ذلك
1. أبو الحسن الأشعري
من أوضح النماذج وأجلاها ما فعله الإمامُ أبو الحسن الأشعري رحمه الله عندما عزم على التوبة من بدعة الاعتزال، وقد كان معتقداً له لمدة أربعين سنة.
دخل المسجد وصعد المنبر وقال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبوالحسن الأشعري، لقد تخليتُ عن عقيدة الاعتزال كما تخليت عن هذا الثوب؛ وخلع ثوباً كان عليه.
وكذلك فعل ذلك عندما تخلى عن مذهب الأشاعرة الذي ينسب إليه، وقد تخلى عنه، وكتب كتباً منها كتاب "الإبانة في أصول الديانة"، وبيَّن فيه أنه على عقيدة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وأنه تخلى عن العقيدة الأشعرية التي هي خليط بين السنة والكلام.
2. أبو الفداء علي بن عقيل البغدادي
قال ابن رجب الحنبلي: (.. أن أصحابنا ـ الحنابلة ـ كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده على ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة، وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله.
ففي سنة إحدى وستين ـ بعد الأربعمائة ـ اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحم على الحلاج وغير ذلك، ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه فاختفى، ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا، ولم يحضر الشريف أبو جعفر لأنه كان عاتباً على ولاة الأمر بسبب إنكار منكر؛ فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه، وكتب بخطه:
يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحُّم على أسلافهم، والتكثر بأخلاقهم، وما كنتُ علقته ووجد بخطي من مذاهبهم وضلالتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته، ولا تحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده.
وإني علقت مسألة الليل في جملة ذلك، وإن قوماً قالوا: هو أجساد سود؛ وقلت: الصحيح ما سمعته من الشيخ أبو علي، وأنه قال: هو عدم ولا يسمى جسماً ولا شيئاً أصلاً، واعتقدت أنا ذلك، وأنا تائب إلى الله تعالى منهم؛ واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الدين والزهد والكرامات، ونصرتُ ذلك في جزء عملته، وأنا تائب إلى الله تعالى منه، و بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك وأخطأ هو، ومع ذلك فإني أستغفر الله تعالى وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة والمبتدعة وغير ذلك، والترحُّم عليهم، فإن ذلك كله حرام، ولا يحل لمسلم فعله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام".
وقد كان الشريف أبو جعفر ومن كان معه من الشيوخ والأتباع سادتي وإخواني ـ حرسهم الله تعالى ـ مصيبين في الإنكار عليّ، لما شاهدوه بخطي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منهم، وأتحقق أني كنت مخطئاً غير مصيب.(2/174)
ومتى حفظ علي ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار، فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك، وأشهدتُ الله وملائكته وأولي العلم على ذلك غير مجبر، ولا مكره، وباطني وظاهري ـ يعلم الله تعالى ـ في ذلك سواء، "ومن عاد فينتقم الله منه واللهُ عزيز ذو انتقام
وكُتِب يوم الأربعاء عاشر محرم سنة خمس وستين وأربعمائة.
وكانت كتابته قبل حضوره الديوان بيوم، فلما حضر شهد عليه جماعة كثيرة من الشهود والعلماء).
3. عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالإرجاء ثم رجع عنه، وقال: أول ما أفارق ـ غير شاك ـ أفارق ما يقول المرجئون).
4. عبد الله بن الحسن العنبري
قال عنه الشاطبي: (كان من ثقات أهل الحديث، ومن كبار العلماء العارفين بالسنة، إلا أن الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكي عنه.. حتى كفره القاضي أبو بكر وغيره.
ثم قال: قال ابن أبي خيثمة: أخبرني سليمان بن أبي شيخ قال: كان عبد الله بن الحسن بن الحسين العنبري البصري اتهم بأمر عظيم، وروي عنه كلام ردي.
قال بعض المتأخرين: هذا الذي ذكره ابن أبي شيخ عنه قد روي أنه رجع عنه لما تبين له الصواب، وقال: إذاً أرجع وأنا من الأصاغر، ولأن أكون ذنباً في الحق، أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل.
فإن ثبت عنه ما قيل فيه فهو على جهة الزلة من العالم، وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحق، لأنه بحسب ظاهر حاله فيما نقل عنه إنما اتبع ظواهر الأدلة الشرعية فيما ذهب إليه، ولم يتبع عقله، ولا صادم الشرع بنظره، فهو أقرب من مخالفة الهوى ـ ومن ذلك الطريق والله أعلم ـ وفق إلى الرجوع إلى الحق).
أرجو أن تقارن أخي الكريم بين حالنا في هذا العصر الذي كثرت فيه البلايا، وعظمت فيه الرزايا، وانقلبت فيه الموازين، واختلت فيه المفاهيم، حيث أصبحت السنة فيه بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وفسِح فيه للرويبضاء، وضيِّق فيه على العلماء، وبين حال سلفنا الصالح، حيث كان الدين معظماً في قلوبهم، والغيرة متقدة في ضمائرهم، ومن ثم بين الزلات التي حوسب عليها هؤلاء العلماء الفضلاء ورجعوا عنها رجوع الأكابر النبلاء، وبين الكفريات التي نطق بها زنادقة الأدباء، أمثال سلمان رشدي، ونسرين، ونصر أبي زيد، والبغدادي، ومن لف لفهم لا بارك الله فيهم، وما سوَّد به الورَّاقون ـ الصحفيون ـ الصحف والمجلات والكتب من البدع والضلالات، ولا يزالون ينشرون ذلك عبر وسائل الاتصال المختلفة، المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة، حيث لا رقيب، ولا هاجر، ولا محاسب، ولا معاتب، وصدق من قال: "من أمن العقوبة أساء الأدب"، ما كان لهؤلاء السفهاء الجراء أن يقدموا على ما أقدموا عليه لولا أمنهم العقوبة، إنها والله ردة باردة وكفر صريح لا يصلح معه إلا القتل والتنكيل، ولله در العلامة ابن العربي المالكي عندما وصف كفر غلاة الشيعة بأنه "كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف، فأما دفء المناظرة فلا يؤثر فيه".
كم من زنديق سبَّ ربنا وشتمه؟ وكم من مرتد انتقص نبياً من الأنبياء؟ وكم من سفيه تطاول على الصحابة الفضلاء؟ وكم من ورَّاق انتقص العلماء؟ ولا يزالون سادرين في غيهم لعدم وجود من يردعهم: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، فقتل المرتدين والزنادقة من أوجب واجبات ولاة الأمر، لأن في ذلك حماية للدين، وزجراً للمستهترين، ونكاية للكافرين، وعظة للمتربصين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإنه لو لم يقتل المرتد لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص، ويمنعهم من الخروج منه).
وواجب العلماء أن يذكّروا الأمراء بذلك، وأن يحضوهم عليه، وعلى غيره، وإلا فلا تحل لهم مداخلتهم، وقبل ذلك عليهم أن يبينوا ضلال المضلين، وبدع المبتدعين، وأن يحذروا العامة والخاصة منهم، وأن يردوا على هؤلاء السفهاء رداً قوياً لا مداهنة فيه ولا تقية، فمن العيب أن يتجرأ السفهاء ويتوارى ويخجل العلماء، ورحم الله إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل القائل: "إذا سكت الجاهل لجهله، وأمسك العالم تقية، فمتى تقوم لله حجة؟".
فالمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، والعالم الجريء في الحق أحب إلى الله من العالم الضعيف ومتكلف التأويل، والحاكم الذي يغار لدينه أكثر من ملكه وسلطانه أحب إلى الله من الذي يكون همه الأول والأخير المحافظة على كرسيه ولو كان ذلك على حساب دينه.
وإليك مثالاً واحداً يوضح الفرق بين العلماء الجراء وبين متكلفي التأويل والباحثين عن الأعذار المداهنين للمجتمع، حيث لم ينصروا الدين، ولم يكسروا السفهاء المعاندين، بل خذلوا إخوانهم وشمتوا عليهم أعداءهم.(2/175)
قال القاضي عياض رحمه الله في الشفا بتعريف حقوق المصطفى: (قد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخي عَجَب، وكان خرج يوماً فأخذه المطر، فقال: "بدأ الخرَّاز يرش جلوده"، وكان بعض الفقهاء بقرطبة، أبو زيد، وعبد الأعلى بن وهب، وأبان بن عيسى، قد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذ موسى بن زياد، فقال ابن حبيب: دمه في عنقي، أيشتم رباً عبدناه ثم لا ننتصر له؟ إنا إذاً لعبيد سوء وما نحن له بعابدين! وبكى، ورفع المجلس إلى الأمير بها عبد الرحمن بن الحكم الأموي، وكانت عَجَب عمة هذا المطلوب من حظاياه، وأعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب وصاحبه، وأمر بقتله، فقتل وصلب بحضرة الفقيهَيْن ابن حبيب وأصبغ، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القضية، ووبخ بقية الفقهاء وسبهم).
جزى الله هذا الأمير وهذين العالمين عن الإسلام خير الجزاء، وكثر الله من أمثالهم، ورحمهم الله وأمثالهم، (وكل من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين).
والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله صادق الوعد الأمين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين
=================00000
أيها المسؤولون عن الجامعات انتبهوا لما يدور في أركان النقاش من الكفريات
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد..
المجادلة والمناظرة لإقناع الآخر، سواء كان مسلماً أوكافراً، جائزة ومشروعة في الإسلام، فقد جادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد إقامة الحجة عليهم: "فمن حاجَّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم..".
وجادل الصحابة، والتابعون، والسلف الصالح، ولا يزال أهل العلم يجادلون ويناظرون العلماء، وأهل الأهواء، والكفار على حد سواء.
ويشترط في المناظرة شروط، هي:
1. أن يُبْتغي بها وجه الله، لا الغلبة وحظوظ النفس، ورحم الله الشافعي حين قال: "ما ناظرتُ أحداً إلا وتمنيت أن يجريَ اللهُ الحقَّ على لسانه".
2. أن يقبل منها ما يتبين أنه حق.
3. أن لا يُحاد فيها عن الحق، ولله در القائل:
شكونا إليهم خراب العراق فعابوا علينا لحوم البقر
فكانوا كما قيل فيما مضى أريها السُّها وتريني القمر
4. أن تكون هناك ثوابت وأرضية مشتركة متفق عليها بين المتناظرين.
5. أن لا يتعدى فيها الحدود الشرعية بالنيل والطعن في الله، ورسوله، ودينه.
هذه الشروط إذا انتفى منها شرط تصبح المناظرة عديمة الجدوى، وإذا انتفى الشرط الخامس والأخير حرمت المناظرة على المتناظرين والسامعين، بل قد تؤدي إلى الكفر والعياذ بالله، ولا يحل للمسؤولين السماح بها، وإلا يكونوا في الوزر سواء، قال تعالى: "وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين".
ما نسمعه من بعض ما يدور في تلك الأركان من الكفريات، والضلالات، والتطاول على الدين، وعلى رسل الله وحدوده، ليس له مثيل ولا شبيه إلا ما يقال في حديقة "هايد بارك" بلندن، إذ يجوز للإنسان أن يفرغ ما في جعبته من غير حسيب ولا رقيب، إلا الرقيب العتيد.
حيث ينال في بعضها من الأنبياء وينتقصوا، وما أصاب نوح عليه السلام من أحد أعضاء الجبهة الديمقراطية في أحدها ليس عنا ببعيد، ويُنْكر ما هو معلوم من الدين ضرورة، وتُرَدُّ الأخبار الصحاح، ويتكلم بالكفر الصراح البواح، ثم لا يجد المتكلم بذلك من يقيم عليه الحد إن كفر بمقالته، أويُؤدب ويُعزر من أتى بما دون ذلك، أوحتى أن يُحذر، ويُنذر، ويُلام.
وهذا والله من الظلم العظيم، والخطأ الجسيم، أن يصبح الطعن في الدين، والتشكيك في الثوابت حقاً شائعاً لكل من لم يستح من طلاب كفار، ومشركين، ومنسلخين من الدين.
لابد أن يكون لإدارات الجامعات هذه مشرفون ومراقبون لما يقال، ولابد أن تكون هناك ضوابط لما يقال فيها، وأن تعرض المواضيع التي ستقدم فيها على هذه اللجنة مكتوبة، وأن يُراقب المتحدثون، وكذلك الصحف والملصقات، فهذا من أوجب الواجبات على إدارة هذه الجامعات، وإلا فليعلموا أنهم مسؤولون عن كل ما يدور فيها، وسيحاسبون على ذلك حساباً عسيراً: "فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
وطلاب الجامعات مكلفون، وليسوا ممن رفع عنهم القلم، ولا فائدة في علم إن لم يكن مصحوباً بالأدب والسلوك المستقيم، والخلق القويم.(2/176)
بل فتح المجال للعمل السياسي غير المنضبط من العوائق الرئيسة للتحصيل العلمي، ولم تبذر هذه البذرة الخبيثة في الجامعات إلا عن طريق الشيوعيين لاستغلال الطلاب، وجاراهم في ذلك الإسلاميون، فالكل الآن مسؤول عن هذه الفوضى الفكرية التي سادت كثيراً من الجامعات، وحولتها إلى مستنقعات، وجعلت الحياة فيها جحيماً لا يطاق، وحالت دون استقرار الدراسة والتحصيل فيها.
ينبغي أن يستعاض عن هذه "الاتحادات" بجمعيات خدمية للطلاب، تعترف بها إدارات الجامعات، وتعطيها الصبغة الشرعية، لأن للطلاب مشاكل تحتاج إلى حل، وإلى تعاون الإدارة وهذه الجمعيات الطلابية، وقد آن الأوان للمسؤولين في الجامعات أن يكفوا عن منافقة الطلاب، وعن الاستجابة لمثل هذه الطلبات، وعن الدخول في الموازنات السياسية.
اعلموا أيها الأبناء والبنات أن النطق بالشهادتين، وأداء الصلاة، والصيام، ونحوها لا يعصم من الخروج من الدين.
فالكفر المخرج عن الملة قد يكون بالقول، أوالعمل، أوالاعتقاد، والكفر بالقول والعمل لا يحتاج إلى اعتقاد، فقد يكفر المرء بقوله أوعمله من غير اعتقاد لذلك.
هذا كله مع توفر الشروط، وهي البلوغ والعقل، إذ الصبي والمجنون مرفوع القلم عنهما، وانتفاء الموانع، وهي: الخطأ، والجهل، والإكراه، والتأويل المستساغ، أوالشبهة.
ومن أمثلة الكفر بالقول: سبُّ الدين، أوسبُّ الله، أوأحد الرسل عليهم السلام، أوإنكار ما هو معلوم من الدين ضرورة، كإنكار الردة وحدِّها، وإنكار رجم المحصن الزاني، ونزول عيسى عليه السلام.
ومن أمثلة الكفر بالعمل: السجود للصنم، والذبح لغير الله، والتحاكم لغير شرع الله.
ومن أمثلة الكفر بالاعتقاد: اعتقاد أن أحداً من الخلق ينفع أويضر، أواعتقاد أن اليهود والنصارى الحاليين مؤمنون، ونحو ذلك.
وإليك بعض أقوال أهل العلم المقتدى بهم في ذلك:
o قال محمد بن سحنون المالكي المتوفى 265ه: (أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر).
o وقال ابن عبد البر المالكي المتوفى 463هـ: (قال إسحاق بن رَاهَوَيْه: أجمع العلماء على أن من سبَّ الله عز وجل، أورسوله صلى الله عليه وسلم، أودفع شيئاً أنزله الله، أوقتل نبياً، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله، أنه كافر).
o وقال ابن شاس المالكي المتوفى 616هـ: (وظهور الردة إما أن يكون بالتصريح بالكفر، أوبلفظ يقتضيه، أوبفعل يتضمنه).
o وقال ابن قدامة المقدسي الحنبلي المتوفى 620هـ عن المرتد: (يفسد صومُه، وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام، سواء أسلم في أثناء اليوم أوبعد انقضائه، وسواء كانت ردته باعتقاده ما يكفر به، أوبشكه فيما يكفر بالشك فيه، أوبالنطق بكلمة الكفر مستهزئاً أوغير مستهزئ، قال الله تعالى: "ولئن سألتهم ليقولنَّ إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم".
إلى أن قال: ومن سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحاً أوجاداً).
o وقال الإمام النووي الشافعي المتوفى 676هـ في روضة الطالبينعن الردة: (هي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم، أوللشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، ونحوها، والسحر الذي فيه عبادة الشمس.
وقال منكراً لمن زعم أن الفعل بمجرده لا يكون كفراً: وهذا زلل عظيم من المعلق، ذكرته للتنبيه على خطئه، وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد، أوعناد، أواستهزاء).
اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
=================000000000
الإسلام والعلم(2/177)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين… وبعد، فإن الفكر الغربي يعيش معركة قوية عارمة بين الدين والعلم فلا يمكن لمفكر غربي أن يتقبل أن يكون هناك لقاء بين الدين والعلم ذلك لأن التوراة المقدسة عند النصارى تقول: إن الشجرة التي منع آدم من أكلها هي شجرة المعرفة. فإنه بعد أن أكل منها ازداد بصيرة، لذلك أخذت أوروبا تتحاور مدة قرنين من الزمان، هل تقبل هذه العلوم الكونية القادمة من بلاد المسلمين أم تردها على المسلمين لأن القسس حكموا على هذه العلوم والمعارف بأنها المعصية الأولى واستدلوا بأن التوراة تقول بأن آدم عندما أكل من هذه الشجرة ازداد بصيرة وغضب الله عليه وطرده من رحمته، لذلك رفضوا هذه العلوم جملة وتفصيلاً وصادروا هذا العلم من أساسه فلما انتصر قادة العلم على رجال الكنيسة انتقموا بحركة في اتجاه معاكس فأرادوا أن يصادروا الدين من أساسه وفعلوا ذلك واعتسفوا أي شيء من أجل أن ينجحوا في معركتهم حتى نجحوا في حصر الكنيسة في أضيق دائرة لها. ولذلك عندما تتكلم مع غربي عن الدين والعلم يعجب يقول: ماذا تقول؟ إنهم لا يعرفون الإسلام، لا يعرفون أن الإسلام كرم العلم والعلماء وجعل العلماء هم الشهود على أن لا إله إلا الله بعد الملائكة كما جاء في قوله تعالى:?شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم? (سورة آل عمران، الآية:18).وكما قال تعالى:--فاعلم أنه لا إله إلا الله? (سورة محمد، الآية:19).ولايعلمون أن الصفة التي كرم الله آدم بها على الملائكة هي صفة العلم وأن القصة عندنا في القرآن تعاكس الذي جاء عندهم في التوراة بعد أن حرفوا قول الله جل وعلا. إن العلم هو سبب تكريم آدم لا سبب طرده هذا ما يقرره القرآن ولذلك إذا حدثتهم عن الإسلام والعلم ظنوا أنك تحدثهم عن أمر مشابه لما في دينهم وعن موقف مشابه لدينهم وللعلم ولكنهم يفاجؤون بعد ذلك إذا وجدوا الحقائق جلية واضحة.
من هؤلاء الذين فوجئوا بهذا: البروفيسور جولي سمسون وهو أستاذ أمراض النساء والولادة في جامعة نورث وستون في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية. التقينا به وكان في شك أول الأمر –يريد أن يتأكد هل هذه نصوص القرآن؟ هل هذه نصوص السنة؟ فلما اطمأنت نفسه ورأى النصوص المتعلقة بالوراثة والتي تحدث في المراحل الأولى في الجنين عندما يكون نطفة، وعرف دقة الأوصاف وكيف أن القرآن يقرر أن الإنسان يخلق بعد أن تجمع النطفتان فيتقرر خلق الإنسان، وبعد ذلك يقرر البرنامج الوراثي في هذه الكروموزومات التي نشاهدها الآن. هذه الكروموزومات فيها تفاصيل الإنسان الذي يولد لون العينين، لون الجلد، لون الشعر، كثير من تفاصيل الإنسان مقررة هنا، فالإنسان في هذه الكروموزمات مقدر، وهذه الكروموزمات في مرحلة النطفة، إذاً فهذا الإنسان يقدر وهو في مرحلة النطفة.قال تعالى:--قتل الإنسان ما أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره? (سورة عبس، الآية:17-19).والجنين قبل أربعين يوماً –خلال الأربعين يوماً الأولى- تجمع جميع أجهزته، فتكون جميع الأجهزة قد ظهرت، وإن كانت تظهر تباعاً.بدأت الأجهزة تتخلق وتجمع، والجنين يكون منحنياً على نفسه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً" تعرض البروفيسور جولي سممسون لهذا الحديث والحديث الآخر: "إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها" وأخذ يقارن بين الحديثين والحد الفاصل بينهما وبعد أن رأى هذه الدقائق والتفاصيل وقف في أحد المؤتمرات يعلن رأيه حول هذا الموضوع فقال:البروفيسور جولي سمسون: من هذين الحديثين يمكننا استخلاص جدول محدود حول التطور الرئيسي للجنين قبل أربعين يوماً. ومرة أخرى تكررت هذه النقطة من قبل.
الشيخ الزنداني: إنه يقول: إن بإمكان الدين أن يقود العلم قيادة ناجحة انظروا هناك الدين ضد العلم، وهنا هذا البروفيسور الأمريكي يقول: يمكن للدين –أي الإسلام- أن يقود العلم قيادة ناجحة. نعم، أنت إذا دخلت مصنعاً من المصانع ولديك إرشادات في الكتالوج فإنك ستتعرف على المصنع بسهولة لأن معك إرشادات من الصانع أما الذي يدخل وهو لا يعلم لا يتعرف بسهولة. إلى علماء المسلمين نسوق هذه الكلمات للبروفيسور جولي سمسون.
البروفيسور جولي سمسون: وعليه أعتقد أنه لا يوجد خلاف بين المعرفة العلمية وبين الوحي بل إن الوحي ليدعم أساليب الكشف العلمية التقليدية المعروفة حينئذٍ. وجاء القرآن قبل عدة قرون مؤيداً لما تطرقنا إليه مما يدل على أن القرآن هو كلام الله.الشيخ الزنداني: نعم، وأقول: يمكن للمسلمين أن يقودوا الحركة العلمية، وأن ينزلوا العلم منزلته الصحيحة، وأن يضعوه في موضعه دليلاً على الإيمان بالله سبحانه وتعالى ومصدقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/178)
وصدق الله القائل:--سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق* أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد? (سورة فصلت، الآية:53).
?ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد? (سورة سبأ الآية:6
000000000000
فاعلم أنه لا إله إلا الله
الحمد وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
العلم قائد ودليل، والعمل تبع له: "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات"، وأساس العلم الإخلاص والمتابعة: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين"، "إنما الأعمال بالنيات"، "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ".
واعلم أخي الحبيب أن العلم دين، فانظر ممن تأخذ دينك وتتلقاه، لأن حاجة المرء للأدب والسلوك لا تقل عن حاجته إلى العلم والمعرفة، ولا يتأتى ذلك إلا بمجالسة العلماء الحكماء، فالعلماء كثير، والحكماء قليل، ومزاحمتهم بالركب، وصدق من قال:
أيها الطالب علماً ائتِ حماد بن زيد
فاقتبس علماً وحكماً ثم قيده بقيد
وقال ابن وهب تلميذ مالك رحمه الله: ما تعلمته من أدب مالك أكثر مما تعلمته من علمه.
واحذر التعامل مع الكتب مباشرة دون حصولك على مفاتح العلم بقراءة بعض الكتب على بعض المشايخ، وقد حذرنا سلفنا الصالح من ذلك، ورحم الله القائل:
يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمتَ العلوم بغير شيخ ضللتَ عن الصراط المستقيم
وعليك أن تتدرج في تلقي العلم، بأن تبدأ بصغاره قبل كباره، واعلم أن العلم نور، ونور الله لا يؤتى لعاصٍ، قال الشافعي رحمه الله:
شكوتُ إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتى لعاص
وثمرة العلم العمل والدعوة إلى الله: "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، صدق الله العظيم.
=================0000
فاعلم انه لا إله إلا الله
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، وأشكره على آلائه وأستغفره – وهو الغفور الرحيم – من خطئي وزللي وأعوذ بوجهه الكريم من شرور نفسي وسيئات عملي
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . أما بعد .
فإن أصل هذه الرسالة محاضرة ألقيت بنفس العنوان " فاعلم أنه لا إله إلا الله " ضمن الدروس القرآنية العامة التي كنت ألقيها في جامع الراجحي بالربوة في مدينة الرياض ، وقد رأى بعض الإخوة طباعتها ليعم النفع بها ، وقام مشكوراً بتفريغها من الشريط فأجبته إلى ذلك وأعدت مراجعتها وعدلت فيها ما يحتاج التعديل ، لتصبح صالحة للنشر ، فلغة المحاضرة تختلف عن لغة الكتاب ، ومع ذلك سيبقى فيها ما يحتاج لإعادة النظر ، لأن النقص من صفات البشر ن وقد كنت أود أن أكتب لها مقدمة ضافية تليق بأهمية الموضوع إلا أن ضيق الوقت حال دون ذلك ، وعسى أن يسر الله عز وجل – وهو الكريم المنان – كتابة المقدمة المأمولة في طبعة قادمة إن شاء الله تعالى ، وكم لله تعالى على عباده من أفضال عظيمة وآلاء جسيمة ، ييسر لهم الأمور ويحقق لهم المنى وذلك على الله يسير .
وقد قام أخونا الفاضل / نايف بن حبيب آل عر يعر بتخريج أحاديثها ، ومتابعة مراحل طباعتها فله جزيل الشكر وفقنا الله وإياه لطاعته وغفر لنا الذنوب وستر العيوب وجمعنا ومن نحب في دار كرامته إنه قريب مجيب ، والله تعالى الموفق والمعين .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه .
كتبه د / بشر بن فهد البشر / عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام
ص . ب . 744 الرياض 11643
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد:
فإن الله عز وجل ما خلق الخلق إلا لعبادته قال تعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) (الذريات:56)
فعبادة الله تعالى هي الأساس والحكمة والغاية التي خلقت من أجلها الخليقة.
ولذلك كانت كلمة التوحيد ، كلمة (لا إله إلا الله " التي تدل على عبادة الله وحده هي أساس دعوة الرسل وهي أصل الأديان التي أنزلها الله عز وجل على عباده .
فهي أصل الإسلام ، وأساسه ، وهي التي دعت إليها الرسل جميعهم – عليهم الصلاة والسلام – ومن أجلها خلق الله عز وجل الجنة والنار .(2/179)
ولذا كان مما يجب على المسلم أن يعلم معنى هذه الكلمة العظيمة ويعمل بمقتضاها ليكون من الناجين عند الله تبارك وتعالى ولذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)) (محمد:19) .
فالعلم بـ " لا إله إلا الله " وبما دلت عليه ، وبحقيقة معناها ضرورة من ضرورات الحياة لا يمكن أن يعيش الإنسان سعيداً هنيئاً بدونها ، ولا يمكن أن يكون فائزاً في أخراه بدونها .
ومعرفة لا إله إلا الله تكون للاعتقاد ، وتكون للعمل ، لا لأحدهما دون الآخر ، وقد كان العرب في جاليتهم يعرفون معنى كلمة التوحيد ، فبعضهم علم بها وقبلها ، وعمل بمقتضاها فكان من السابقين السعداء .
وبعضهم علم معناها ولكنه أبى الانقياد لها وقبولها فكان من الأشقياء .
فإنهم لما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منهم أن يقولوا كلمة واحدة تدين لهم العرب – يعني تطيع - ويملكون بها العجم قالوا له : نعطيك عشر كلمات فقال عليه الصلاة والسلام : (( قولوا لا إله إلا الله )) فقالوا (( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) (صّ:5) .
فعلموا المعنى ، وعرفوا أنهم إذا قالوا " لا إله إلا الله " تغيرت حياتهم ، وانتقلوا من حياة إلى حياة وانقطعت صلتهم انقطاعاً تاماً في الاعتقادات والتعبدات بطريقتهم الأولى ، ولما فسد السليقة ، وتغيرت المعرفة بلغة العرب جهل المسلمون معنى كلمة التوحيد ، جهلوا معنى " لا إله إلا الله " فأصبح كثيرون ينطقونها ولكنهم في واقع الأمر ينقضونها .
إذاً لا بد من شرح معنى هذه الكلمة ، ولا بد من بيان ما دلت عليه ، ولا بد من بيان نواقضها حتى يكون المسلم على بصيرة من دينه خاصة في هذا الوقت الذي تكالبت فيه الأمم على أمة الإسلام فكان لزاماً على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تعيد النظر في نفسها ، وفي الخلل الذي أضر بها ، وهذا الخلل معظمه من الداخل وأقله من الخارج.
إن أصل الإسلام يقوم على الشهادتين :
شهادة " أن لا إله إلا الله " وشهادة " أن محمداً رسول الله " .
فشهادة أن لا إله إلا الله معناها : توحيد المعبود ، وشهادة أن محمداً رسول معناها : توحيد المتبوع – عليه الصلاة والسلام - وسنتكلم عن الأولى شهادة " أن لا إله إلا الله " ، فمن شهد أن لا إله إلا الله وعلم معناها وعمل بمقتضاها فإنه تلقائياً يشهد أن محمداً رسول الله .
إن معنى كلمة " شهادة " في لغة العرب : الخبر القاطع الصادر عن علم ويقين . فتضمنت كلمة الشهادة أمرين :
الأول : علم ويقين ، وهذا يكون في القلب .
الثاني : إخبار وإعلام ، وهذا نطق باللسان ، وهو القول .
وإذا تبين معنى كلمة شهادة فإن كلمة لا إله إلا الله تعنى أنه لا معبود بحق إلا الله تبارك وتعالى. فالإله : مأخوذ من أله يأله ومعنى أله في اللغة :عَبَدَ.
فالإله : هو المعبود المطاع الذي تألهه القلوب ، أي تتجه له وتقصده وتخضع له وتذل له وتتعلق به خشية وإنابة ومحبة وخوفاً وتوكلاً عليه وإخلاصاً له تبارك وتعالى .
فـ " لا إله إلا الله " معناها : لا معبود بحق إلا الله .
وقولنا : " بحق " لنخرج من عُبِدَ بالباطل، وهم كل من صرف له نوع من أنواع العبادة من دون الله تعالى ، وهم كثير من الأصنام ومن الصالحين ومن غيرهم .
فالله تعالى هو المستحق للعبادة وحده ، وكل من عبد سواه فالباطل فلا حق في الألوهية لمخلوق ، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل .
(( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) (الحج:62) .
وهذه الكلمة تشتمل على ركنين :
نفي وإثبات .
فالنفي هو قولنا " لا إله " والإثبات هو قولنا " إلا الله " .
فـ " لا إله " نفي جميع ما يعبد من دون الله تعالى ، " وإلا الله " : إثبات جميع أنواع العبادة لله رب العالمين وحده لا شريك له في عبادته ، كما لا شريك له في ملكه ، وربوبيته ، ففيها إذن براءة من كل ما يعبد من دون الله تبارك وتعالى ، وفيها تحقيق العبودية لله وحده .
وقد جاء معنى الكلمة العظيمة في آيات كثيرة من كتاب الله قال تعالى : (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) (النحل:36) .
فقوله تعالى : (( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)) هو معنى قوله " إلا الله " وقوله : (( وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )) هو معنى قوله " لا إله " .(2/180)
وقال تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)) (الأنبياء:25) .
وقال تعالى (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة: من الآية256)
فقوله جل وعلا " (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ)) هو معنى قوله : " لا إله " ومعنى قوله : (( وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)) هو معنى : " إلا الله " فهي إذا تفيد نفس معنى لا إله إلا الله
وكذلك قال تعالى : (( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (الزمر:17، 18) .
وقال تعالى : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) (البينة:5) .
ومعنى قوله : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)) هو معنى قوله : " لا إله إلا الله " لأن معنى قوله (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا)) هو حصر للعبودية لتكون حقاً خالصاً لله رب العالمين ، وأكد ذلك قوله : (( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)) .
ومعنى حنفاء : مائلين عن الشرك إلى التوحيد .
وإن كل رسول أرسله الله عز وجل منذ أن أرسل نوحاً إلى أن أرسل خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم يقول لقومه : (( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) (هود: من الآية50) .
فهي أول ما تدعو إليه الرسل أقوامهم ، وإن كانت دعوات الرسل تشتمل أيضاً على بقية الاعتقادات والعبادات وغيرها ، ولذلك نجد أن شعيباً- عليه السلام- يدعو إلى عبادة الله وحده ، ثم بعد ذلك ينهاهم عن التطفيف في المكيان والميزان
وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام دعوتهم لإخلاص العبودية لله وحده ولأخذ الأوامر والنواهي من الله رب العالمين .
وقد اشتملت كلمة التوحيد على أنواع التوحيد كلها .
* على توحيد الألوهية .
* وتوحيد الربوبية .
* وتوحيد الأسماء والصفات .
فتوحيد الألوهية مطابقة ، أي اشتملت عليه مطابقة . ودلالة المطابقة معناها : دلالة اللفظ على تمام ما وضع له في لغة العرب .
واشتملت على توحيد الربوبية والأسماء والصفات تضمناً ، ودلالة التضمين معناها : دلالة اللفظ على جزء معناه كدلالة الإنسان على بعض أعضائه .
فتوحيد الألوهية ويقال له : توحيد العبادة هو توحيد الله تبارك وتعالى بأفعال عباده أي أن العباد يفرون ربهم تبارك وتعالى بكل أنواع العبادة ويخلصون له فيها جل وعلا ، فلا يشركون معه غيره .
فالعبادة حق خالص لله تعالى لا حظ فيها لأحد لا من الملائكة المقربين ولا من الأنبياء المرسلين ولا من الأولياء الصالحين ولا من غيرهم .
والعبادة باعتبار ما أمر الله به : اسم جامع لكل ما يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، فشملت إذاً كل أمور الحياة ، ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) (الأنعام:162) .
فالحياة كلها ثم ما بعدها كلها لله تبارك وتعالى يجب أن يكون المسلم سائراً فيها مخلصاً لربه سبحانه
أما توحيد الربوبية فهو توحيد الله بأفعاله سبحانه من الملك والخلق والتدبير ، وهذا النوع كان يقر به المشركون الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام ، بخلاف توحيد الألوهية فإن توحيد الألوهية لم يكونوا يقرون به كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .
ولذلك قال الله تعالى : (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )) (الزخرف: من الآية87) .
(( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ )) (الزخرف:9) .
فأخبرنا الله عز وجل أن المشركين في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعترفون بربوبيته سبحانه ، ولكنهم كانوا مختلفين في الألوهية يعني في إفراد الله سبحانه بأنواع العبادات كلها .
أما توحيد الأسماء والصفات فهو إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلا من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تبارك وتعالى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) (الشورى:11) .
فضائل كلمة التوحيد :(2/181)
إن هذه الكلمة ، كلمة التوحيد لها فضائل عظمى ، جمع زُبَد هذه الفضائل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تعليقه على كتاب التوحيد ، وأنقل لكم بعض ما قاله ملخصاً قال – رحمه الله – عن التوحيد : " وما قاله عن التوحيد ينطبق على كلمة التوحيد " إن التوحيد هو الفرض الأعظم على جميع العبيد ، وليس شيء من الأشياء له من الآثار الحسنة والفضائل المتنوعة كالتوحيد ، فإن خيري الدنيا والآخرة من ثمرا ت التوحيد وفضائله ، ثم قال – رحمه الله - : إن مغفرة الذنوب وتكفيرها من بعض فضائله وآثاره ، قال : ومن فضائل التوحيد أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما .
ومن أجل فوائده أنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة من خردل ، وإذا كمل التوحيد في القلب فإنه يمنع دخول النار نهائياً .
ومنها أن صاحبه يحصل على الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة ومن فضائله : أن أسعد الناس بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )) .
ومنها : أن جميع الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد ، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله جل وعلا كملت هذه الأمور وتمت .
ومنها : أنه يسهل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات ويسليه عن المصائب ، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثوابها ، ويهون عليه ترك المعاصي لما يخشى من سخط الله وعقابه .
ومنها : أن التوحيد يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام ، فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يكون تلقيه للمكارة والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضي بأقدار الله المؤلمة .
ومن أعظم فضائله : أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم ، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي ، ويكون مع ذلك متألهاً لله ، متعبداً له سبحانه لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه ولا ينيب إلا إليه ، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه .
ومنها: أنه إذا كمل في القلب بالإخلاص التام فإن يُصير القليل من العمل كثيراً وتضاعف الأعمال والأقوال بغير حصر ولا حساب .
ومنها : أن الله جل وعلا تكفل لأهل التوحيد بالفتح والنصر في الدنيا والعز والشرف وحصول الهداية والتيسير لليسرى وإصلاح الأحوال والتسديد في الأقوال والأفعال .
ومنها: أن الله جل وعلا يدافع عن الموحدين ، أهل الإيمان يدافع عنهم شرور الدنيا والآخرة ويمن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره ، ثم قال في ختام كلامه : وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة .
بعض ما اشتملت عليه كلمة التوحيد :
وكما اشتملت كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " على كل أنواع التوحيد فليعلم أيضاً أنها قد نفت كل شرك قليلاً كان أو كثيراً ، جلياً كان أو خفياً ، وأوجبت الكفر بما يعبد من دون الله تعالى ، فلا يتم الإيمان ولا يكون أصلاً إلا بذلك ، قال تعالى : (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)) (البقرة: من الآية256) . ثم إن كلمة " لا إله إلا الله " قد اشتملت على أمر عظيم وهام يجب أن يتفطن له المسلمون خاصة في هذا العصر، فقد اشتملت على أن التشريع والحاكمية حق لله تبارك وتعالى ، وهذا داخل في أنواع التوحيد الثلاثة ، فدخوله في توحيد الألوهية من حيث أن الله تعالى هو المعبود المطاع، والمعبود هو الذي يأمر وينهى ، ولذا قال بعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) (الذريات:56) .
قالوا : أي إلا لآمرهم وأنهاهم ، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى .
ودخوله في الربوبية أن التشريع والحكم من أفعال الله جل وعلا ومن تدبيره لخلقه سبحانه فهو المتفرد بذلك ولذا جعل الله عز وجل من اتخذ مشروعاً غيره مشركاً .
قال سبحانه : (( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ )) (الشورى: من الآية21) وقال سبحانه : (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) (الأنعام:121) وقال تعالى : (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)) (التوبة: من الآية31) .(2/182)
وهذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين أطاعوا رهبانهم وأحبارهم ، يعني علماءهم في تحليل ما حرم الله وفي تحريم ما أحل الله ، فجعلهم الله عز وجل متخذين أرباباً من دون الله (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة: من الآية31) .
ومن فعل مثل فعلهم كان حكمه حكمهم .
وأما دخوله في توحيد الأسماء والصفات فإن من أسماء الله سبحانه الملك ومن أسمائه الحكم ، فله سبحانه الملك وإليه الحكم ولذلك غير النبي صلى الله عليه وسلم كنية رجل تكنى بأبي الحكم وسماه بأبي شريح معللا ً ذلك بأن الله هو الحكم وإليه الحكم 1 وقد قال الله تبارك وتعالى : (( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )) (الشورى: من الآية10) .
وقال سبحانه (( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (القصص: من الآية88) .
وقال تعالى (( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )) (يوسف: من الآية40) وقال تعالى : (( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)) (الكهف: من الآية26) .
وسيأتي مزيد بيان لهذه النقطة عند ما نتحدث عن بعض نواقض كلمة التوحيد إن شاء الله .
من لوازم كلمة التوحيد :
ثم إن كلمة التوحيد قد استلزمت موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله تبارك وتعالى ، استلزمت محبة المؤمنين وبغض الكافرين ، وهذا أصل من أصول الإيمان ، بل قال بعض أهل العلم : إن الله سبحانه وتعالى ما ذكر بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن ضده وهو الشرك في القرآن الكريم أكثر من النهي عن موالاة الكفار ، لذا فإن من والى الكافرين قد وقع في خطر عظيم يوشك أن يصل إلى حد التولّي ، أي تولي الكفار فينقض توحيده – نسأل الله السلامة – أما الموالاة التي لا تصل إلى حد التولّي فإنها معصية عظمى تنقص التوحيد لكنها لا تصل إلى حد نقضه ، وقد حثنا الله على موالاة المؤمنين ، قال تعالى : (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ )) (التوبة: من الآية71)
وحذرنا ربنا جل وعلا من موالاة الكافرين فقال سبحانه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)) (الممتحنة: من الآية1) .
فبين الله عز وجل سبب عداوتهم ، وهو أنهم كفروا بما جاءنا من الحق ، ومن ذلك كفرهم بـ " لا إله إلا الله " فلما كفروا بها وجبت عداوتهم ووجب بغضهم ووجبت مفاصلتهم وحرم على المسلمين أن يوالوهم أو يلقوا إليهم بنوع من المودة والمحبة .
وعلى ضوء ما سبق يتبين لنا أن كل الطاعات بل كل دين الإسلام هو من مقتضى كلمة التوحيد ، كلمة لا إله الله ، وتبين لنا أيضاً أن كل أمور الحياة يجب أن تكون وفق مقتضى لا إله إلا الله ، وتبين لنا أيضاً أن كل أمور الحياة يجب أن تكون وفق مقتضى لا إله إلا الله فهي كلمة شملت جميع الحياة ، فهي منهاج متكامل ، فإنها تبين لنا الطريق الحق في العمل وتبين لنا الطريق الحق في الاقتصاد ، وفي السياسة ، والإعلام ، وفي التعليم والتربية ، فكل أمر من أمور الحياة فهو داخل تحت كلمة " لا إله إلا الله " فهو من مدلولها ومن معناها ، ولذا فإن من قال : إن هناك أموراً من أمور الحياة خارجة عن مقتضى لا إله إلا الله خارجة عن الإسلام لا يحكمها شرع الله تبارك وتعالى يكون قوله هذا كفراً بالله جل وعلا ، لأنه مكذوب لله ورسوله .
فمن قال : إنه لا في السياسة ولا سياسة في الدين كان منقضاً لكلمة لا إله إلا الله ، وما أحسن ما قال الشيخ / عبد الرحمن الدوسري – رحمه الله - : إن كلمة لا إله إلا الله كلها سياسة من لامها إلا هائها ، وقد سئل – رحمه الله - أو سأل نفسه في كتيب له : أسئلة وأجوبة في أمور العقيدة في المهمات فقال : كيف لنا بمن يقول الدين علاقة بين العبد وربه فقط لا شأن له في السياسة والحكم ؟(2/183)
قال الشيخ – رحمه الله – هذه خطة انتهجها الثائرون على الكنيسة في أوروبا التي ليس لها ثروة تشريعية وافية بأساليب الحكم السياسية حسب التطوير الصحيح ، فانتهج هذه الخطة تلاميذ الإفرنج من أبنائنا وعملوا على تطبيقها في بلاد المسلمين وفرضها عليهم بتلقين قوي من أساتذتهم وتأييد استعماري يحظى به العملاء والمغرضون الذين يريدون الحكم على أشلاء الإسلام وعل حساب أهله ، وقد أراحوا المستعمرين والمبشرين بتطبيق هذه الخطة التي أبعدوا فيها حكم الله وأزاحوا المسلمين عن تعاليم شريعتهم وآدابها، وصبغوهم بصبغة إفرنجية في تقاليدهم وعقائدهم وأخلاقهم وملابسهم حتى حولوهم بهذه الخطة وتحت شعاراتها المختلفة إلى نوع من الخلق لا يصلح شرقياً ولا غربياً ، ومع أن هذه في حق الإسلام والمسلمين فرية عظيمة وخطة أثيمة فهي في الحقيقة حجة على أولئك دامغة لرؤوسهم ، مرغمة لأنوفهم ، لأن علاقة العبد بربه يجب أن تكون عامة في كل شيء ، بحيث لا يمشي إلا على وفق شريعته ، ولا يحكم إلا بكتابه وسنة نبيه ، ولا يتحرك إلا لمرضاته واجتناب سخطه ، ولا يحب ولا يبغض إلا من أجله ، لا لنفع أو من أجل عشيرة أو وطن ، أو قرابة أو مال ، ولا يوالي أو يعادي إلا في الله ، ومن أجل إعلاء كلمة الله لا لغرض آخر ، فلا يوالي أعداءه أو يعادي أحبابه لحاجة في نفسه ، أو لأجل شيء مما تقدم ، ولا يخطط لنظام الحكم أو ينفذه ، مستنداً على تلك القواعد الانتهازية ضارباً بكتاب الله وتوحيده وشريعته، عرض الحائط ، فإن هو فعل ذلك لم يحسن علاقته بربه بل قطعها ، وكان في قوله أفاكاً أثيماً ، لأن الله تعالى لا يرضى من عبده أن يحكم بغير شريعته أو يتخلى عن دعوة الإسلام، والدفاع عن جميع قضايا المسلمين ولا أن يوالي النصارى بحجة وطنية أو قومية عصبية جلبها من أوروبا وطرح بها ملة إبراهيم عليه السلام كما لا يرضى من عبده أن يعيش بإيمان أعزل أمام كفر وإلحاد مسلح ، بل يوجب عليه تحقيق الصدق معه والإخلاص له ، وأن يستعد لأعداء الله بجميع المستطاع من حول وقوة مهما تنوعت وتطورت ، يقمعهم كي لا يغلبوا ويتحكموا في مصيره ، وكذلك يوجب عليه أن يكون غيوراً على حرماته حافظاً لحدوده ناصراً لدينه دافعاً له إلى الأمام ، لا يقتصر في عبادته على نوع دون نوع ، ولا يقصر بالغزو في نشر الحق فيغزوه أعداء الله بالباطل ، فإن لم يفعل هكذا لم يحسن علاقته بربه وكان خواناً أثيماً إذ إن علاقته بربه عامة في جميع الشؤون الحربية والسلمية والاقتصادية والاجتماعية ، وسائر السلوك في المسجد والدائرة والمصنع على السواء .
ثم سأل نفسه قائلاً : ما الدليل على ذلك شرعاً وعقلاً ؟
( وطريقة السؤال والجواب تسهل على الطلبة المبتدئين .)
أجاب – رحمه الله – قائلاً : الأدلة الشرعية كثيرة متواترة منها : أن الله تعالى أوجب عبادته على العموم ، ومعاني العبادة ولوازمها كثيرة عظيمة لا يجوز لأحد الترخص منها إلا بدليل شرعي ، وجميع النواحي الدينية الدنيوية التي أوجبها الله على خلقه في القرآن أو ندب إليها وحض عليها أناطها بالأمر بالتقوى والتزام حدوده حتى في المواريث والديون ، قال تعالى : (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ )) (النساء: من الآية13) وقال :(( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً)) (البقرة: من الآية282) وقال تعالى في تزويج النساء وعشرتهن وطلاقهن : (( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ )) (البقرة: من الآية223) .
وقال: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )) (البقرة: من الآية235) .
وقال تعالى : (( مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)) (البقرة: من الآية241) وقال : (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا)) (البقرة: من الآية229) .
وفي الصدقات قال : (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)) (الليل:5)
وفي الأمور السياسية قال: (( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) (المائدة: من الآية87) (( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الحجرات: من الآية9) (( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)) (النساء: من الآية135) (( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ )) (المائدة: من الآية8) .(2/184)
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)) (النساء: من الآية71) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)) (آل عمران: من الآية118) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) (الممتحنة: من الآية1) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) (الممتحنة: من الآية13) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )) (المائدة: من الآية51)
ثم قال : والآيات في الأمور السياسية كثيرة متنوعة ، وفي في الشؤون الحربية لنصرة العقيدة وإقامة سلطان الله وإعلاء كلمته في الأرض ، يقول الله تبارك وتعالى : (( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة:244)
(( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ )) (النساء: من الآية95) (( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)) (النساء:76)
إلى أن قال الشيخ قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ)) ( الصف: من الآية14) (( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) (محمد: من الآية7) إلى آخر ما ذكره رحمه الله تعالى .
ثم قال – رحمه الله تعالى – فأي دين يأمر بالقوة ويجمع بين الحرب والعبادة في آن واحد غير دين المسلمين حتى قال لهم الله محذرا: (( وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً )) (النساء: من الآية102) إلى أن قال : (( وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً )) (النساء: من الآية102)
وفي الولاء والمحالفة نهي عباده عن أن يتخذوا من دونه ومن دون إخوانهم المؤمنين وليجة من القوم الآخرين ، وفي المعاملات قال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا)) (المائدة: من الآية1) (( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) (الشعراء:183) (( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)) (المطففين:1)
(( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ)) (البقرة: من الآية282) .
إلى أن قال : وغير ذلك من الشؤون الاجتماعية كثير ، وفي سورة النور والحجرات آيات واضحة لا نطيل بها المقام .
وفي الأحاديث النبوية بحور زاجرة من ذلك ، وملاك ما تقدم قوله تعالى : (( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (غافر:14)
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102)
وكأنه يشير إلى أن كل ما مر داخل في الدين الذي يجب أن نخلصه لله تبارك وتعالى ، هذا وللعلامة الشيخ / محمد الشنقيطي – رحمه الله – محاضرة عن كمال الشريعة طبعت في كتيب بين فيها الأدلة على أن الشريعة شاملة كل الأمور من سياسة واقتصاد وتربية وتعليم وغيرذلك .
المعاصي تنقص التوحيد :
هذا وليعلم أن كل مخالفة وكل معصية تقع من العبد عامداً فإنها تنقص التوحيد وتضعفه ، ما لم يتب منها ، وهذا يفسر لنا كثيراً من المخالفات ومن قلة الانتفاع بالمواعظ والعلم وذلك أن التوحيد قد ضعف في القلب ، فإذا ضعف التوحيد في القلب أصبح الإنسان جريئاً على مخالفة أمر الله تعالى وعلى فعل ما نهى الله عز وجل عنه .
نواقض كلمة التوحيد :(2/185)
ثم ليعلم المسلم أن كملة التوحيد لها نواقض تبطل إسلام من فعلها ، فلا ينتفع بنطقه وقوله لكلمة التوحيد ولو أكثر من ذلك ما دام ينقضها بأفعاله، وهذا كالشخص الذي يريد أن يصلي ويتوضأ، ثم بعد ذلك يحدث ، فإن وضوءه لا يفيد ، بل عليه أن يتوضأ مرة أخرى، ومن أهم نواقض " كلمة لا إله إلا الله " الشرك الأكبر بالله جل وعلا بكل أنواعه، فالشرك بالله سبحانه بدعاء الأموت والغائبين والاستنجاد بهم وطلب ما لا يقدر عليه إلا رب العباد سبحانه وتعالى شرك بالله سبحانه وتعالى ، وكذلك الذبح والنذر لهم والطواف بقبورهم وتقبيلها تبركاً وتقرباً إليهم كل ذلك من باب الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من ملة الإسلام – نسأل الله السلامة والعافية – وكذلك اتخاذ الوسائط بين الله وبين عباده ومعنى الوسائط هنا أن يدعو الإنسان شخصاً ويطلب أن يشفع له عند الله من الأموات أو من الغائبين ، فإن ذلك شرك بالله عز وجل ، وهذا هو شرك أهل الجاهلية ، شرك أبي جهل ، وأبي لهب الذين قالوا : (( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) (الزمر: من الآية3) ما عبدوا هم لأنهم خلقوا ولا لأنهم رزقوا ولكن عبدوهم من أجل أنهم يزعمون أنهم يشفعون لهم ويقربونهم عند الله (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) (الزمر: من الآية3) (( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) (يونس: من الآية18) .
ولذلك فإن من دعا ميتاً أو غائباً أو طلب منه أن يشفع عند الله ففعله من الشرك الأكبر ، لأن معنى ذلك أنه يعلم بدعاء الشخص ويسمعه ، ويستجيب له ، ويقدر على نفعه أو دفع ضره فأعطاه ما هو خاص بالرب تبارك وتعالى .
ومن نواقضها أيضاً : النفاق الاعتقادي – أعاذنا الله منه - وقد بين بعض أهل العلم بعض أنواع النفاق ، فمن أنواع النفاق الاعتقادي كما بين ذلك شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – بغض النبي صلى الله عليه وسلم أو بغض بعض ما جاء به ، ومن النفاق الاعتقادي أيضاً السرور بانخفاض الإسلام والفرح بذلك ، والحزن إذا انتصر الإسلام وارتفع ، وهذا يبين لنا كثرة النفاق الاعتقادي في عصرنا ، فنرى حينما يهزم أو يتخلف الإسلام في مكان ما كثيراً من المجلات والصحف التي تصدر في أوربا فرحة ، وإذا انتصر الإسلام وارتفع يظهر منها ويبين أنها قد حزنت وانكسرت لما حصل فهذا هو النفاق الاعتقادي – أعاذنا الله منه – قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)) (التوبة:50)
فهذه هي طريقة المنافقين في قديم الدهر وحديثه .
ومن نواقض كلمة التوحيد : السخرية والاستهزاء بالله ورسوله وآياته ولو كان هذا الساخر والمستهزئ هازلاً مازحاً ، فإن أمور الاعتقاد لا مزاح فيها وإنما هي جد ولذلك قال الله تعالى : (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ * قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ )) (التوبة:65، 66) سواء كان هذا الاستهزاء باللسان أو على صفحات الجرائد والمجلات أو في غيرها ، فمن استهزأ حتى ولو بالإشارة بالله ورسوله وآياته كان مرتداً – نسأل الله العافية والسلامة –
ومن نواقض كلمة لا إله إلا لله :(2/186)
رفض حكم الله ورسوله والتحاكم إلى غيرهما من القوانين الوضعية الجاهلية التي ابتلي بها المسلمون في هذا العصر والتي فرضها الاستعمار الكافر لما استولى على معظم بلاد المسلمين ولم يغادرها إلا بعد أن فرض عليها الحكم بقوانين أوروبية بعد تنحية الشريعة الإسلامية وما غادر بلاد المسلمين إلا بعد أن وضع فيها أذناباً له مخلصين لمبادئه ، وكما قال أحد المفكرين الإسلاميين : ذهب الإنكليز الحمر وبقي الإنكليز السمر يعني أن الإنكليز بجنودهم انسحبوا من بلاد المسلمين التي كانوا يستعمرونها ، وكذلك الفرنسيون وغيرهم ولكن بقي الذين يتكلمون بلغتنا ولهم نفس جلدتنا ولكنهم أشد على الإسلام والمسلمين من أولئك الكفار النصارى ، فرفضوا حكم الله ورسوله ووضعوا دساتير من القوانين الوضعية ووضعوا لها مراجع ومواد يحكم بها وزحزحت الشريعة الإسلامية عن الحكم في بلاد المسلمين إلا من رحم ربك وأحل ما رحم الله ورسوله وحرم ما أباح الله ورسوله حتى بلغ الأمر أن بعضهم قد حرم ومنع الصيام في نهار رمضان بحجة العمل وفي بعض البلدان التي ينطق أهلها بلغة العرب يمنع أن يتزوج الرجل امرأتين ، وإذا وجد مع الرجل امرأتان أصبحت جريمة عظمى يحاكم عليها بالقانون ، أما إذا وجد معه عشرون بغيا من البغايا لم يتعرض له أحد ويحميه القانون ، أليس هذا أعظم مما فعل علماء اليهود والنصارى حين أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله ؟ إن هؤلاء قد فرضوه بالقوة ألزموا به المسلمين وجعلوهم يتحاكمون إليه ، بل وحتى لو يأتهم أحد لتعرضوا له ، إن هذا من أعظم نواقض كلمة التوحيد فهو كفر أكبر مخرج من ملة الإسلام كما نص على ذلك العلماء رحمهم الله تعالى كالإمام الحافظ ابن كثير لما تكلم عن التتار في تفسيره وفي تاريخه ، " البداية والنهاية " .
كذلك نص على هذا الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – رحمه الله – والإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته ، تحكيم القوانين والعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان ، والعلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى وغيرهم كثير .
والذين يفعلون ذلك هو من رؤوس الطوغيت كما بين ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – حينما تكلم عن رؤوس الطواغيت ، قال الله تعالى (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)) (النساء:60، 61)
وإذا كان من أراد أن يتحاكم إلى الطاغوت عن علم ورضا كافراً فما بالك بالطاغوت نفسه الذي يفرض الأحكام المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ويلزم ويفرضها في محاكم المسلمين ليقضي بينهم بها ، إن هذا أشد كفراً وأخبث من ذلك بكثير.
فهم خاطئ لكلمة التوحيد :
إن بعض الناس قد يقول : لا إله إلا الله ثم يفعل ما يناقضها زاعماً أنه بمجرد قوله أصبح في مأمن من الشرك بالله تبارك وتعالى ومن الكفر ، وهناك آخرون يظنون أنهم إذا قالوا كلمة التوحيد واعتقدوها وعملوا بالمعاصي فإن ذلك لا يضرهم ، يعني أنهم إذا لم ينقضوا كلمة التوحيد ولكن عملوا بالمعاصي التي تخرج من الإسلام فإن ذلك لا يضرهم ، متمسكين ببعض الأحاديث التي تدل على أن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : (( من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة )) 2 ومنها أيضاً : قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه : (( حق العباد على أن لا يعذب من مات لا يشرك به شيئاً )) 3
وفي حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه : (( فإن الله حرم على النار من قال : " لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) 4 وهما حديثنا صحيحان في الصحيحين وغيرهما . وقد أجاب أهل العلم على هذا الأمر – وهو حكم ذلك الذي ينطقها ثم يفعل ما يناقضها – بأمور منها : أن من المقطوع به في دين المسلمين أنه ليس كل قائل يقول : لا إله إلا الله يعتبر من أهل النجاة والسلامة من الشرك فإن المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : لا إله إلا الله وهم في باطن الأمر مشركون بالله جل وعلا كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله ، قال الله تعالى : (( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا)) (النساء:145)(2/187)
(( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) (المنافقون:1) .
شروط لا إله إلا الله :
إذا تبين أنه قد يقول كلمة التوحيد من هو في نفس الأمر مشرك يبطن الكفر ويظهر الإسلام فإن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أن لكلمة التوحيد شروطاً لا بد من توافرها في الناطق بها ليكون من أهل النجاة عند الله عز وجل وذكر أهل العلم أنها سبعة شروط :
أولها : العلم بمعناها نفيا وإثباتاً ، أي : العلم المنافي للجهل بالمعنى الذي دلت عليه ، ولذلك قال الله تعالى : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )) (محمد: من الآية19) وقال سبحانه : (( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) (الزخرف: من الآية86) إذاً لا بد من علم ، أما أن يقول الشخص وهو لا يدري فإنه لا يكون بذلك ناجياً ، ولا يكون بذلك مسلماً ولو أن شخصاً أعجمياً كافراً نصرانياً أو يهودياً أو مجوسياً أو غير ذلك سمع رجلاً يقول : لا إله إلا الله بالعربية فقالها مثله لم يكن بذلك مسلماً حتى يعلم معناها ويعتقد ويعمل بمقتضاها وقول الله تعالى : : (( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) فسرها ابن عباس – رضي الله عنهما – بقوله : إلا من شهد بالحق يعني بـ " لا إله إلا الله " وهم يعلمون ، أي : يعلمون ما دلت عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ))5
والجهل بمعناها هو الذي أوقع كثيراً من الناس في الشرك حيث جهلوا معنى لا إله إلا الله ، فجهلوا معنى الإله وأن الإله هو المعبود وجهلوا مدلول النفي ومدلول الإثبات بعكس المشركين السابقين ، أبي جهل وأبي لهب وغيرهما ، حيث كانوا يعرفون معناها فرفضوا لما قالها لهم النبي صلى الله عليه وسلم قولوا له " (( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) (صّ:5)
وقال بعضهم لبعض : (( أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)) (صّ: من الآية6) إذ أولئك القوم عرفوا معنى كلمة لا إله إلا الله فرفضوا وأبوها ، أما هؤلاء فإنهم جهلوا معناها فعبدوا القبور وعكفوا عليها ونذروا لأهلها وذبحوا لهم ودعوهم من دون الله تبارك الله وتعالى فكانوا خارجين بذلك عن معنى كلمة التوحيد.
الشرط الثاني : أن يقولها الشخص بيقين فيستيقن قلبه بها ويعتقد صحة ما يقوله : وضد اليقين الشك والريب والتوقف والظن قال الله تعالى : (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)) (الحجرات: من الآية15) .
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : (( أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة )) 6
وقال تعالى عن المنافقين : (( وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) (التوبة: من الآية45))
فمن قالها وهو شاك في صحتها كان بذلك كافراً – نسأل الله العافية والسلامة – لأن الإيمان جزم .
الشرط الثالث :
أن يقولها قابلاً لها ، والقبول ينافي الرد فلا يرد شيئاً من معانيها ، فقد يعلم معنى الشهادتين ، وقد يوقن بمدلولهما لكنه يردهما كبراً وحسداً ، وذلك كأحبار اليهود الذين قال الله عز وجل فيهم : (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)) (البقرة: من الآية109) .
وكذلك زعماء المشركين كانوا يعرفون معنى لا إله إلا الله ويعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك استكبروا عن قبول الحق والهدى ، قال الله تعالى عنهم : (( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ)) (الصافات:35)
وقال تعالى : (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) (الأنعام: من الآية33) .
ومثل هؤلاء من يعلم بمعنى لا إله إلا الله في هذا الزمن ويعتقد صحتها ولكنه لا يقبلها بل يردها ويرفضها .
الشرط الرابع : أن ينقاد لها ويستسلم ويذعن ، وقد فرق بعض أهل العلم بين القبول والانقياد ، بأن القبول يكون بالأقوال والانقياد يكون بالأفعال ، قال الله تعالى : (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )) (النساء: من الآية125) وقال تعالى : (( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)) (لقمان: من الآية22) .(2/188)
فقد يوجد من يقول : لا إله إلا الله ولكنه يأبى الانقياد لما دلت عليه بأن يكون الحكم لله وحده، وأن يكون التشريع حقاً لله وحده فيجعل التشريع حقاً للأمة ، ويجعل الأمة مصدر السلطات ، فيجعل التشريع حقاً للبرلمان أو لغيره .
الشرط الخامس : أن يقولها الشخص بصدق ، والصدق مضاد للكذب ، فأما من قالها كاذباً فإنها لا تنفعه ، والذي يقولها كاذباً هو المنافق ، فعلى المسلم أن يقولها بصدق يريد به وجه الله تعالى ، قال : (( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) (العنكبوت: من الآية3) وقال سبحانه وتعالى : (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) (الزمر:33)
قال ابن عباس رضي الله عنهما " من جاء بلا إله إلا الله "
أما المنافقون فإنهم كانوا يقولونها ولكنهم في باطن الأمر يكذبون بها ، قال تعالى : (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) (المنافقون:1) .
لقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره سورة " المنافقون " أن عبد الله بن أبي ابن سلول – وهو رأس النفاق – كان يقوم كل جمعة قبل خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فيخطب في الناس ، يتكلم فيقول : ( أيها الناس إن الله قد أكرمكم ببعثة هذا النبي فاسمعوا له وأطيعوا ) 7 .
هذا هو رأس النفاق ، فلما جاء يوم أحد وانخذل بثلث الجيش ، قال بعدها وأراد أن يقول هذا الكلام فجبذه المسلمون وردوه وقالوا اجلس يا خبيث ، يعني ظهر ما يبطنه هذا الرجل المنافق ، ولذلك فإن كثيرين يقولون لا إله إلا الله بألسنتهم ولكن تأبى قولوبهم أن تنقاد ، وهم يكذبون بها حقيقة وباطناً ، إما هم علمانيون ، أو منافقون ، أو غير ذلك من ملل الكفر وتيارات الإلحاد ، وإنما يولونها خوفاً من المسلمين ، وخوفاً من الفضيحة أو للترويج لأفكارهم الوضعية من زبالة أذهان الغربيين عند كثير من عوام المسلمين وجهالهم .
الشرط السادس : أن يقولها بإخلاص ، وضد الإخلاص الشرك قال تعالى : (( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (غافر:14) (( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ )) (الزمر: من الآية2 ، 3) وقد سأل أبو هريرة – رضي الله عنه – رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً : " من أسعد الناس بشفاعتك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( أسعد الناس بشفاعتي من قال : " لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )) 8 .
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى : (( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )) 9 .
والإخلاص أن تكون العبادة لله وحده دون أن يصرف منها شيئاً لغيره تعالى ، فهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك كبيره وصغيره ، ظاهره وخفيه ، وهذا يخرج المشركين الذين يقولون : لا إله إلا الله ولكنهم يطوفون بالقبور ويعبدونها ويقدسون أهلها ويرفعون ويعظمون مرتبة الألوهية .
الشرط السابع : المحبة المنافية لضدها من الكراهية والبغضاء فيقولها المسلم محباً لها محباً لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أما إن قالها وهو كاره لها مبغض لما دلت عليه ، مبغض لله أو لرسوله كان ذلك ناقضاً لكمة التوحيد قال الله تعالى : (( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )) (المائدة: من الآية54) وعن أنس – رضي الله عنه – قال : قال صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) الحديث 10
وقد جمع بعض أهل العلم هذه الشروط في بيت شعر فقال :
علم يقين وإخلاص وصدقك مع محبة وانقياد والقبول لها
وزاد بعض أهل العلم شروطاً – وهو الكفر – بما يعبد من دون الله مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم : (( من قال : لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه ))11 .
وعلى كل سواء أضفنا هذا الشرط أو حذفناه فإن الشروط السبعة تدل عليه بلا شك فمن قالها بعلم فمعنى أنه يعلم أنه لا يعبد أحد غير الله تبارك وتعالى : ويعلم أنه لا بد من الكفر بالطاغوت .، قال بعضهم :
وزيد ثامنها الكفران منك بما سوى الإله من الأنداد قال ألها
وإذا تبين ذلك وعرفت هذه الشروط وما ذكر عليها من الأدلة تبين جواب ذلك السؤال وتبين أن من قال : لا إله إلا الله ثم عبد غير الله بدعاء أو ذبح أو نذر أن لم ينقد لحكم الله ورسوله وطبق القوانين الوضعية المستوردة من النصارى واليهود فهو مشرك بالله تبارك وتعالى الشرك الأكبر ، حيث قد نقض ما قال ، فلا يكون قوله نافعاً له ، والعلم عند الله تبارك وتعالى .
الرد على المرجئة القائلين لا يضر من الإيمان ذنب :(2/189)
أما من زعم أنه بمجرد أن يقولها يكون محققاً بمعنى أن يقولها ولا ينقضها ثم بعد ذلك يفعل المعاصي والموبقات وينجو من العذاب ولو ترك الواجبات وفعل المعاصي محتجاً بالأحاديث السابقة فقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة متعددة منها : أن كلمة التوحيد سبب مقتض لدخول الجنة والنجاة من النار ، لكن لها شروط – أي النجاة – وهي الإتيان بالفرائض ولها موانع وهي الإتيان بالكبائر ، ولذلك قال الحسن البصري للفرزدق الشاعر لما لقيه في مقبرة فقال له يا أبا فراس ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال الفرزدق : لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة ، فقال الحسن : إن لـ " لا إله إلا الله " شروطاً فإياك وقذف المحصنات .
وروي عنه أنه قال : هذا العمود فأين الطنب ؟ وقيل له : إن ناساً يقولون : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ، فقال – رحمه الله – من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة وقيل لوهب بن منبه : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قالل : بلى ، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك 12 .
وقال آخرون : كان هذا – أي الأحاديث السابقة في أن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة – كان قبل فرض الفرائض وقبل تشريع الحدود فلما فرضت الفرائض ونزلت الحدود أصبح ذلك إما منسوخاً أو أنه أنضم إلى لا إله إلا الله شروط وزيد عليها ، فأصبح ذلك فرضا على كل مسلم لا يكون ناجياً إلا به ، ومن نسب له هذا القول الإمام الزهري محمد بن شهاب الزهري والإمام سفيان الثوري – رحمها الله تبارك وتعالى – وقال آخرون من أهل العلم : إن هذه الأحاديث التي فيها أن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة نصوص مطلقة وأنها جاءت مقيدة بأن يقولها المسلم بصدق وإخلاص ، وإذا قالها بصدق وإخلاص فإن صدقه وإخلاصه يمنع الإقدام على المعصية ، فقولها بصدق تام وإخلاص تام يطهر القلب من كل الأدران والنجاسات التي هي الذنوب ويطهر القلب من الجرأة على مخالفة أمر الله ورسوله ، فيكون العبد بذلك مطيعاً لله تبارك وتعالى .
أما من قالها وركب المعاصي فصدقه ناقص وإخلاصه ناقص وهو متبع لهواه ، وهذا هو أصح الأقوال ، والعلم عند الله تبارك وتعالى .
ثم هاهنا أمر لا بد من الانتباه له وهو أن النصوص الشرعية أي : قول الله وقول رسوله لا يمكن أن تكون متناقضة أبداً ولا بد أن يجمع المسلم بينها ، ولا بد أيضاً من الإيمان بها جميعاً ، ولا بد أن يحمل متشابهها على محكمها ، ومجملها على مفصلها ، ومنشأ خطأ الخوارج والمعتزلة أنهم أخذوا نصوص الوعيد دون نصوص الوعد .
ومنشأ خطأ المرجئة أنهم بالعكس وهدى الله عز وجل أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله عز وجل يهدي ما يشاء إلى صراط مستقيم .
فقد تواترت النصوص على أن بعض أهل التوحيد يدخلون النار ثم بعد ذلك يخرجون منها .
ويجب الإيمان بهذه النصوص والاعتقاد بمدلولها وأن أهل الكبائر من المسلمين تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عفا عنهم وغفر لهم بواسع فضله ورحمته ، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم في النار ، ولكن لا بد أن يدخلوا الجنة في يوم من الأيام .
المخالفون لكمة التوحيد :
وإذا تبين لنا معنى كلمة التوحيد كلمة لا إله إلا الله ، فإن لـ " لا إله إلا الله " أعداء ولها مخالفون ، يعني لمدلولها مخالفون وله من الأصل أعداء ، فأما المخالفون فهم كثر ومنهم المرجئة الذين يقولون إن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ولو فعل ما فعل ، فسهلوا فعل الكبائر على المسلمين وزعموا أن الإيمان في القلب وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، وكان ذلك أمراً خطيراً على الأمة سبب فيها انحرافاً عظيماً وسبب بعد ذلك ضعفاً في الإيمان ، وهؤلاء المرجئة منتشرون في كثير من بلاد المسلمين ، يهونون المعصية ويسهلون أمرها ، نجد أحدهم يقول – إذا نُصِح أو حُذِّر من مخالفة – الإيمان في القلب والمهم الضمير .
نعم القلب هم الأهم بلا شك ، (( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) 13 .
كما قال صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا صح القلب صلحت الجوارح وصلح السلوك وصلح الخلق وصلحت العبادة ، أما أن يوجد الإيمان في القلب ولا توجد عبادة ولا سلوك فهذه أمنية وليست بصحيحة ، إنما هي حيلة شيطانية وإن تأثير أصحاب الفكر الإرجائي على المسلمين تأثير عظيم حتى سهلوا على بعض الناس أن يرتكب بعض المكفرات زاعمين أن ذلك لا يتعارض مع الإيمان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .(2/190)
ومن المخالفين لها أيضاً الذي كان لهم أثر بالغ السوء في الأمة أهل الكلام من الأشعرية و الماتردية وغيرهم الذين زعموا أن معنى لا إله إلا الله أنه لا خالق إلا الله ولا مبدع ولا قادر على الاختراع إلا الله ففسروها بالربوبية فعندهم أن من قال : لا إله إلا الله معتقداً أنه لا خالق إلا الله ولا مبدع إلا الله فقد كمل توحيده ، فإذا فعل ما يناقض الألوهية فلا يضره ذلك عند كثر منهم ، وهذا سبب الخطأ عند كثير من الناس حتى أن بعضهم ينسب إلى العلم فيعبدون القبور أو يقرون من عبدها أو يسكتون عليها زاعمين أن هؤلاء مؤمنين وموحدين ، لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ، وإذا سألتهم من الخالق ؟ قالوا : الله فهم إذا مؤمنون ، وقد سبق معنا أن بينا أن هذا لم يكن يخالف فيه لا أبو جهل ولا أبو لهب ولا غيرهم ، وأن الرسل إنما أرسلوا ليعبد الله وحده لا شريك له (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) (النحل: من الآية36).
ومن المخالفين أيضاً لكلمة التوحيد ، كلمة لا إله إلا : المتصوفة الغلاة الذين كانوا سبباً من أسباب الضلال قطاع كبير من المنتسبين للقبلة فهؤلاء الغلاة هم الذين زينوا للناس التوسل بالصالحين والتشفع بهم والعكوف عند قبورهم والتقرب لهم والتمسح بهم وبالقبور ودعائهم وزعموا أن ذلك إنما هو تعظيم للصالحين ، وتعظيم للأنبياء وأنهم يشفعون عند الله وهذا هو نفس شرك أهل الجاهلية الأولى التي عاصرت النبي صلى الله عليه وسلم .
وهؤلاء في واقع الأمر مناقضون لكلمة التوحيد وليسوا مخالفين فقط ومثلهم الروافض الذين أشد الناس تعلقاً بالقبور وبالمقبورين وخاصة من أئمتهم الذين يقدسونهم ، ولهذا تجد الرافضة يعتقدون أن زيارة قبور أئمتهم أعظم من زيارة الكعبة والبيت وتجد أنهم يؤلفون الكتب في طريقة الزيارة لهم حتى أن بعضهم ألف كتاباً في شعائر الحج إلى المشاهد فسماها حجاً ، محادة لله وللرسول .
ومن المناقضين لكلمة التوحيد العلمانيون والمنافقون الذين يتربصون بالإسلام وهم يريدون هدمه من الداخل يؤلفون المؤلفات ويكتبون المقالات التي تدعو إلى تحكيم القوانين وإلى الرجوع إليها وإلى تحسين اللادينية والعلمانية وإلى الطعن في دين الله تبارك وتعالى أو في رسوله صلى الله عليه وسلم أو في آياته سبحانه والتشنيع على أهل الإيمان ونبزهم بشتى الأوصاف وهم لا يقصدون الذوات إنما يقصدون المبادئ التي يعتنقها أهل الإيمان ، وإلا فإن الذوات تأتي وتذهب ، والذوات كثيرة ومن المعلوم أن سخصاً لا يحارب شخصاً بمجرد ذاته ولكن يحاربه لأمور أخرى خارجة عن تلك الذات إما المعتقدات أو غيرها .
واقع الأمة مع كلمة التوحيد :
إن واقع الأمة مع " لا إله إلا الله " واقع مؤسف فقليل من الناس هم الذين يعلمون معناها ويعملون بمقتضاها ، والقطاع الأكبر من أمة الإسلام مفرطون في معنى كلمة التوحيد وفي معرفتها وجاهلون بمقتضاها وذلك إما يفعلون ما يناقضها أو يفعلون ما ينقصها ويضعفها في القلب ، ولذا فإن واجب المسلمين في كل مكان أن يعملوا على نشر كلمة التوحيد وعلى بيانها وعلى تصحيح المفهوم الخاطئ لها وبيان أنها كلمة عامة شاملة في الاعتقادات وفي المعاملات وفي العبادات وفي الأخلاق وفي الهدى وفي السلوك وفي السياسات وفي الحكم والاقتصاد والتعليم والتربية والاجتماع والإعلام وفي كل شيء فإنها عامة شاملة لكل قطاع ، فمن كان مسلماً فعليه أن يخضع لله وحده : (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) (البقرة: من الآية85) .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – كلام عظيم متين أختم به هذا الكلام المبارك في بيان معنى كلمة لا إله إلا الله وشموليتها ، وذلك لأن الحاجة ماسة لتصحيح مفاهيم المسلمين وأولها مفهوم التوحيد ، مفهوم كلمة " لا إله إلا الله " وذلك لإعادة إحياء الهوية الإسلامية النقية الصافية التي تتأثر بالكافرين ، لا من النصارى ولا من اليهود ولا من غيرهم .
يقول شيخ الإسلام – في الرسالة التدمرية – " فرأس الإسلام مطلقاً شهادة أن لا إله إلا الله ، بها بعثت الله جميع الرسل " 14 وقال – رحمه الله – في مجموع الفتاوى : جميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وهذا هو دين الله أنزل به كتبه وأرسل به رسله وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين غيره .
(( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ)) (آل عمران: من الآية19) .(2/191)
(( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85)
ويقول أيضاً – في اقتضاء الصراط المستقيم – يقول الله تعالى : (( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) (الكهف: من الآية110) .
وقد كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – يقول في دعائه : (اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحد فيه شيئاً ) إلى أن قال رحمه الله : هذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين واللتين هما رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله ، فإن شهادة لله بأنه لا إله إلا هو تتضمن إخلاص الألوهية له ، فلا يجوز أن يتأله القلب غيره بحب ولا خوف ولا رجاء ولا إجلال ولا إكبار ، ولا رغبة ولا رهبة بل لا بد أن يكون الدين كله لله ، فإن كان بعض الدين لله وبعضه لغيره كان في ذلك من لشرك بحسبه . إلى أن يقول : والشهادة بأن محمداً رسول الله تتضمن تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر، فما أثبته وجب إثباته وما نفاه وجب نفيه ، كما يجب على الخلق أن يثبتوا لله ما أثبته الرسول لربه من الأسماء والصفات وينفون عنه ما نفاه من مماثلة المخلوقات ..إلى أن يقول : وعليهم أن يفعلوا ما أمرهم الله به وأن ينتهوا عما نهاهم عنه ويحللوا ما أحله ويحرموا ما حرمه ، فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله .
ولهذا ذم الله المشركين في سورة الأنعام والأعراف ، وغيرهما لكونهم حرموا ما لم يحرمه الله ولكونهم شرعوا ديناً لم يأذن به الله ... إلى أن قال فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك ومن دعا إلى الله بغير إذنه يعني بشرع مبتدع فقد ابتدع ، والشرك بدعة والمبتدع يؤول إلى الشرك إلى أن قال : ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى : (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة:31)
قال : وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم قال تعالى : (( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة:29) .
فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله ولا يدينون دين الحق .
والمؤمنون صدقوا الرسول فما أخبر به عن الله وعن اليوم الآخر فآمنوا بالله واليوم الآخر وأطاعوه فيما أمر ونهى وحلل وحرم فحرموا ما حرم الله ورسوله ودانوا دين الحق ، فإن الله بعث الرسول يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فأمرهم بكل معروف ونهاهم عن كل منكر وأحل لهم كل طيب وحرم عليهم كل خبيث .
وقال : أيضاً : ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد ويتضمن الإخلاص من قوله تعالى : (( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ)) (الزمر: من الآية29) .
فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده وترك الاستسلام لما سواه ، وهذا حقيقة قولنا : لا إله إلا الله فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك والله لا يغفر أن يشرك به ومن لم يستسلم لله فهو مستكبر عن عبادته ، وقد قال الله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) (غافر: من الآية60) أ. هـ
كلامه رحمه الله وأحب أن أقول : إن الله تعالى قال في كتابه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)) (البقرة: من الآية208) .
ومعنى الاستسلام هنا يعني الإسلام ، يعني ادخلوا في الإسلام كله جملة وتفصيلاً لا تفرقوا فيه بين شيء وشيء وأختم هذا الحديث فأقول : إن الشيخ العلامة محمد قطب قد ألف كتاباً عن كلمة " لا إله إلا الله " بين فيه مفهومها وهو آخر كتبه ، يجدر بالمسلم أن يرجع إليه وأن يقرأه ، فإنه كتاب قيم .(2/192)
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا العلم الصحيح بكلمة " لا إله إلا الله " وأن يوفقنا للعمل بمقتضاها وأن يجعلنا من الداعين إليها المجاهدين من أجلها ، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال الأمة وأن يردها رداً جميلاً وأن يهيأ لها من أمرها رشداً وأن ييسر تصحيح جميع المفاهيم عند الأمة وخاصة مفهوم كلمة التوحيد كلمة " لا إله إلا الله " وأسأله سبحانه وهو القوي العزيز والواحد القهار أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته وأن يعز أولياءه المؤمنين ويمكن لهم في الأرض ، وأن يذل أعداءه أعداء الدين وأن يخذلهم ويرينا فيهم عجائب قدرته . اللهم اشدد عليهم وطأتك وارفع عنهم عافيتك ، اللهم حل بينهم وبين ما يشتهون وأرهم في المؤمنين ما يحذرون إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ...
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعل آله وصحبه وسلم أجمعين .
والحمد لله رب العالمين
============
( فاعلم أنه لا إله إلا الله )
خباب بن مروان الحمد
نزلت هذه الآية الكريمة على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث عشرة سنة من دعوته إلى التوحيد، واستفراغ وسعه في التبليغ والإنذار لكفَّار قريش ومن لفَّ لفَّهم.
ويحقٌّ للمتأمل في كتاب الله، أن يرجع الفكر كرَّتين بل كرَّات في تدبُّر هذه الآية، إذ إنها تأمره - عليه الصلاة والسلام - بتعلُّم التوحيد، ومعرفة الله - عز وجل - حق المعرفة، مع أنَّه - عليه الصلاة والسلام -أفضل الأنبياء والمرسلين، وأعرفهم بربِّ العالمين، بل دعا بهذه الكلمة الكفَّار والمشركين، كما روى ربيعة بن عباد الديلي - رضي الله عنه - وكان جاهلياً فأسلم، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (15448) وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في " إرواء الغليل " (834))
ولعل الفوائد المستنبطة من إنزال هذه الآية على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاثة عشر عاماً في دعوته إلى التوحيد، ونزولها على عموم البشر من بعده، لعلَّها تضبط في عدَّة نقاط محورية، يجدر التنبه لها، ويحسن تسليط الضوء عليها، فمنها:
1- أنَّ فيها دلالة واضحة في التأكيد على وجوب توحيد الله ومعرفته، ولو كان الداعية إلى ذلك من كبار الموحدين؛ لأنَّ النفس لا يقوى إيمانها بالله، ولا تنبعث فيها روح الدعوة إلى الله، ولا ينقدح بين جوانبها التبيلغ والنذارة لهذا الدين، ولا يقوى ولاؤها لله، ولا براؤها من أعدائه، ولا تهفو للجهاد في سبيل الله، إلَّا إذا كانت دعائم التوحيد فيها راسخة، وصلابة الإيمان في جذورها متعمقة، فينتج من ذلك، قوَّة العمل لهذا الدين، وعلو الهمة في بثِّه بين أنحاء المعمورة، وصلابة الإرادة في ذلك، وقوَّة الصبر على ما تواجهه من مصاعب وعراقيل، إثر قيامها بالتعليم، وتبليغ دين رب العالمين(أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره).
ولهذا فإنَّ الجهاد في سبيل الله، لم يشرع عبثاً، بل شرع لأجل حماية ونشر راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)لتكون كلمة الله هي العليا، ولتحطيم جميع المكابرين الذين يحولون بين دعوة التوحيد وبين الناس، حتى تصل إليهم بنقائها وصفائها، وتخلصهم من أدران الوثنية، وشوائب الشرك والعبودية لغير الله، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبَد الله وحده لا يشرك به شيئاً) والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده(7/123-125) وجوَّد إسناده ابن تيمية في الاقتضاء، وحسَّنه ابن حجر وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر، والألباني - رحمهم الله - فالغاية من الجهاد تعبيد الناس لربِّ العالمين، والإبقاء على ملَّة إبراهيم حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين.(2/193)
2- أنَّ العبد المؤمن يحتاج للمزيد من تدبر هذه القضية الكبرى، والحقيقة العظمى في الكون والحياة مطلقاً؛ إذ إنَّ الشيطان أقسم بإضلال الناس وغوايتهم، بحيله الماكرة، فقال: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: من الآية119) فلا رادَّ لذلك، ولا عاصم إلَّا الاستمساك والاعتصام بتوحيد الله، وتصفية النفس من درن الباطل، والرَّان المنطبع على القلب، وذلك لا يتمُّ إلَّا، بقوَّة التوحيد في القلب؛ فالتوحيد كما أنَّه صلب، ولا يحتمل التموُّج والمساومة في مبادئه، فهو كذلك شفَّاف يقدح فيه أدنى شيء يخلُّ بلوازمه ومقتضياته، وقد عبَّر عن ذلك الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - بقوله: (التوحيد أشفُّ شيء وأنزهه، وأنصعه وأصفاه وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثِّر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون، يؤثِّر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدَّاً، أدنى شيء يؤثِّر فيها، ولهذا تشوهه اللحظة واللفظة والشهوة الخفيِّة) (الفوائد لابن القيم/42)
ويقصد - رحمه الله - باللحظة: النظر إلى ما حرَّم الله. واللفظة: الكلام الذي يتكلم به الإنسان سواء من شرك بالله، أو الكلام الذي لا يلقي له بالاً يقذف به في النار سبعين خريفاً. والشهوة الخفية: إمَّا أنَّها حب الرئاسة والإمارة، أو أنَّها الرياء وعدم الإخلاص لله.
ولهذا فإنَّه - تعالى - يوصي الصحابة، ومن بعدهم من أهل الإيمان، بالإيمان بالله ورسوله، وإن كانوا مؤمنين، ليؤكد عليهم هذا المبدأ الثمين، حتى يقوى إيمانهم بالله، وتشتد قلوبهم على تحمُّل ما يرضيه - سبحانه - فيقول - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) (النساء: من الآية136) فهنا يدعو - جلَّ جلاله - أهل الإيمان إلى زيادة الإيمان بالله، وقوَّة الإصرار على ذلك، لأنَّه ليس كلَّ من قال لا إله إلَّا الله، وأظهر إيمانه باليوم الآخر يكون مسلماً؛ويدلُّ لذلك - قوله - تعالى -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 8، 9).
3- لاشكَّ أن الأمر بهذه الآية ليس خاصاً بمحمد - عليه الصلاة والسلام - فحسب؛ وعليه فإنَّ علاج الخلل في التوحيد، وكما أنَّه يتمُّ بدرء الخلل عنه، وتخلية القلب منه، إلَّا أنه يحتاج إلى تمكين عرى الإيمان، وعُقَدِ التوحيد في القلب، وتحليته به، ليخالط بشاشة الإيمان القلوب، فيتم بذلك تخلية وتحلية، وكما يقول الأصوليون: التخلية قبل التحلية، فيخلِّي الإنسان عن قلبه شوائب الانحراف العقدي، ويحليه ببلسم الإيمان، وصفاء الاعتقاد، ونقاوة التوحيد.
والحقيقة أنَّ أيَّ خلل طارئ على من وحَّد الله، لا يكون ذلك إلَّا بعدة أشياء، ومن ألزمها ذكراً:
أ - ضعف مراقبة الله، وقلَّة الوازع الديني الذي ينبغي أن يتنامى في القلب، حتى لا يكون القلب كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً.
ب - ضعف ارتباط العبد بربه من نواحي العبادة كالرجاء والخوف والمحبة والاستعانة والاستغاثة، وقلة الانطراح بين يديه، والانكباب على عتبة بابه، مع أنَّ هذا الأمر من أشدِّ الأمور، التي لزمها الأنبياء والأولياء الصالحون، ومنهم إبراهيم - عليه السلام - حيث كان داعية للتوحيد، ومحطماً لأوثان المشركين، ومع هذا فقد خاف على نفسه من أن تشاب بلوثات شركية، فقال لربه داعياً: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم: من الآية35) ومكمن المسألة في ذلك؛ دعاء إبراهيم ربَّه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام. ثمَّ يبين إبراهيم - عليه السلام - سبب دعائه، فيقول: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (إبراهيم: من الآية36) ولهذا علَّق الإمام إبراهيم التيمي على قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قائلاً: ومن يأمن البلاء بعد أبو الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -؟ (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ/ ص- 74)(2/194)
ومما يستنتج من دعائه - عليه السلام - أن الأشياء التي تعبد من دون الله، قد يكون لها حجم واسع من التأثير على الناس، بإضلالهم عن الصراط المستقيم، ويمثِّل أهل العلم عليه بأمثلة، أقتصر على أحدها: وهو أن يأتي شخص يدعو أحد الطواغيت التي يقصدها بالدعاء من دون الله، ويرجوها بأن يمنَّ الله على زوجته العقيم، بأن تنجب طفلاً، بعد عشر سنوات، ثمَّ يفاجأ بمن يبشِّره بعد أشهر قليلة بطفل يتكوَّر في بطن زوجته، فيطير فرحاً، ويذهب لذلك الطاغوت، ويشكره، ويزداد تعلقه به، وهكذا مع العلم بأنَّ هذا الرجل الذي دعا غير الله، أراد الله أن يرزقه الولد وقت دعائه، فيرزق الولد بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية، وليس بإرادة الذي لا يسمع ولا يبصر، فيفتن الرجل بذلك الطاغوت، ويلتجئ إليه في سرِّه وعلانيته، وفي شدَّته ورخائه - عياذاً بالله (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) (المائدة: من الآية41).
4 - في هذه الآية تنبيه لبعض الدعاة القائلين بأنَّ قضية التوحيد سهلة، ولا تحتاج إلى ذلك التكثيف العلمي والتعليمي، أو أنَّ لدينا من هموم الأمة ما يحوجنا بالكلام عنها أكثر من قضية باتت معروفة في أذهان المسلمين، والجواب عن ذلك:
أ - أنَّه - تعالى - ما خلقنا إلا لعبوديته وتوحيده، وإرساء تلك المعالم العقدية في قلوبنا، فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، ولو كانت دعوة التوحيد يسيرة لما جلس - عليه الصلاة والسلام - ثلاثة عشر سنة يدعو لذلك الناس مسلمهم وكافرهم.
مسلمهم: لكي يتأكد ذلك في قلوبهم وليكوِّن - عليه الصلاة والسلام - من قلوبهم قاعدة صلبة للبناء الإيماني، لتتحمل الواجبات والفرائض المفروضة من قِبَلِهِ - تعالى -.
وأمَّا كافرهم: فلتقوم الحجَّة عليهم، بالبلاغ المبين، والبيان الواضح، ولهذا بقي - عليه الصلاة والسلام - يدعو لذلك جميع الناس حتى قبضت روحه الشريفه - صلى الله عليه وسلم - ليبقى التوحيد في قلوب المسلمين صلباً، لا تزعزعه أعاصير الشرك العاتية، ولا رياح التغيير المنحرفة عن المنهج الإسلامي.
ب - أنَّ التوحيد ليس قضية سهلة، بل إنَّ هذه القضية على شفافيتها، فإنَّ تطبيقها والعمل بها من أصعب ما يكون، ولهذا قال - سبحانه -: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل: 5) قال الإمام مالك: ليس في دين الإسلام شيء سهل، واستدلَّ بهذه الآية.
والمقصود أنَّ التوحيد والإيمان يحتاج سنوات عديدة في العمل لأجله، ومجاهدة النفس على تنقيتها مما يخل بذلك، لتتأصل النفس على الإبقاء عليه، والاستمساك بحبله، وقد قال جندب بن عبد الله: تعلمنا الإيمان ثمَّ تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً.
ج - إنَّ مآسي الأمة ونكباتها لا ريب أنَّها تبعث الأسى في القلب، ولكنها راجعة لعدة أسباب أولها ذكراً: ضعف إيماننا بالله وتعلقنا به وعبوديته الخالصة، فكم يوجد في عصرنا من المنتسبين إلى الإسلام، يشركون بالله، ويقصدون القبور للطواف حولها، والتعلق بأصحابها، والاستغاثة بهم.
وكم هو منتشر في بلاد المسلمين التحاكم إلى القوانين الوضعية المغايرة للمنهج الإسلامي.
وكم من منافق يدسُّ سمَّه في الظلام، ويطعن المسلمين خلف ظهورهم، وكم من خائن يدلُّ أهل الكفر على المسلمين المستضعفين، ويبيع دينه بثمن بخس.
وكم يُعْرَض في وسائل الإعلام من الأمور المنحرفة عن التوحيد الخالص بتعظيم الكفار، والتشبه بهم، والتمنطق بأقوالهم، والتهنئة بأعيادهم، وربط صلات التآخي معهم.
وكم هو منتشر في بلاد المسلمين السحر والسحرة والشعوذة والتعلق بالرقى والتمائم والتعاويذ الشركية. وكم انتشرت البدع والانحرافات الفكرية ما بين مقلٍّ ومكثرٍ في عقول الكثير من المسلمين.
وبعد..ألا تحتاج هذه كلها إلى وقفة محاسبة، ترجعنا إلى أهمية الإعادة والتكرار لمبادئ التوحيد، وقضاياه الكلية، من قِبَلِ دعاة الإسلام، ومن ثمَّ تنبيه الناس لذلك، وعقد الندوات المتتابعة لأجله، في جميع أنحاء الأرض، ليكون المسلمون في حصن حصين، وحرز مكين، من كلِّ داعية سوء، أو صاحب ضلالة مردية، تجنح بهم إلى الكفر والفسوق والعصيان، وقد أحسن محمد إقبال حين قال:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دينٍ *** فقد جعل الفناء لها قريناً
وفي التوحيد للهمم اتحاد *** ولن تبنوا العلا متفرقينا
فهل نعاود قراءة القرآن، وكتب أهل العلم ونستفيد منها دروساً في التوحيد والإيمان، ونطبقها في أرض الواقع، ودنيا الناس، مقتفين أثر سلفنا الصالح، حين اهتموا بهذه القضية وأولوها عناية تامَّة، وقدَّموها على جميع العلوم والمعارف، ورحم الله الإمام أبا حنيفة حين قال مؤكداً على أهمية التفقه في التوحيد: الفقه في الدين أفضل من التفقه في العلم، وصدق من قال:
أيُّها المغتذي ليطلب علماً *** كل علم عبد لعلم الرسول(2/195)
تطلب الفرع كي تصحح أصلاً *** كيف أغفلت علمَ أصلِ الأصولِ
(انظر البيتين/شرح ابن أبي العز للطحاوية / ص-76)
أسأله - تعالى - أن يميتنا على الإسلام، والتوحيد الخالص غير مبدلين ولا مغيرين، ومن الله العون والسداد، وهو الموفق.
8/6/1426
===============
أركان وشروط لا إله إلا الله
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نريد من فضيلتكم جزاكم الله خيراً توضيحاً بسيطاً اركان وشروط لا إله إلا الله وجزاكم الله خيراً ؟
أجاب فضيلة الشيخ زيد بن محمد المدخلي _حفظه الله _ بقوله :
وهو سؤال يستحق التقدير ويستحق العناية به لأنه حديث عن كلمة الإخلاص التي هي مفتاح الجنة والتي لا يدخل أحد في الإسلام إلا بها علماً وعملاً ، وهي العاصمة للدم والمال والعرض وهي التي ترضي الله تبارك وتعالى وترضي رسوله عليه الصلاة والسلام والصالحين من عباد الله ، فلا إله إلا الله لها أركان ولها شروط ولها حقوق ولها مكملات ، وهذا أمر لا يخفى على الكثير منكم .
فأما أركانها فاثنان : النفي والإثبات .
النفي مأخوذ من قولك [ لا إله] والإثبات من قول[ إلا الله ]والمراد بالنفي: نفي ما يعبد من دون الله عزوجل ، والإثبات : إثبات كل عبادة مالية أو بدنية أو هما معاً لله وحده دون سواه .
وأما شروطها : فقد ذكرها علماؤنا علماء أتباع السلف الربانيون أهل الفهم الصحيح أهل الفهم الدقيق لمعاني الأحكام ذكروا لها سبعة شروط وأوصلها بعضهم إلى ثمانية :ـ
الشرط الأول : العلم ومعنى العلم هو العلم بما دلت عليه من معنى النفي والإثبات .
والشرط الثاني : اليقين ومعناه أن يكون المتلفظ بلا إله إلا الله موقناً بما دلت عليه من معنى لا تردد في ذلك ولا شك .
والشرط الثالث : القبول ومعناه أن يكون القائل لـ[ لا إله إلا الله ] قد قبلها وطبق ما دلت عليه من معنى النفي والإثبات .
والشرط الرابع : الإخلاص ومعناه أن يكون القائل لهذه الكلمة الجليلة مخلصاً فيما دلت عليه من معنى.
والشرط الخامس : الانقياد ومعناها الاستسلام والخضوع والطاعة لما دلت عليه هذه الكلمة من معنى .
والشرط السادس : الصدق وذلك بأن يكون قائلها مصدقاً بما دلت عليه من المعنى باطناً وظاهراً .
الشرط السابع : المحبة ومعناها المحبة لها ولأهلها ولمن أمر بها بقوله الحق: فاعلم أنه لا إله إلا الله [ [ البقرة } محمد / 19] ، وبقوله سبحانه : الله لا إله إلا هو الحي القيوم /255]، وبقوله عز وجل : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم [ آل عمران / 18]، ومحبة - صلى الله عليه وسلم -منْ بلَّغها وبيَّن معناها وجاهد في سبيل إعلائها ألا وهو رسول الله ومعه أصحابه الكرام من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم على النهج القويم قولاً وفعلاً وعملاً ظاهراً وباطناً .
والشرط الثامن : الكفر بما يعبد من دون الله عز وجل لأن من عبد غير الله فقد ناقض لا إله إلا الله ولذا قال علماؤنا الأوائل رحمهم الله [ لا ولاء إلا ببراء ]فمن والى لا إله إلا الله وما دلت عليه من معنى وجب عليه أن يتبرأ من كل شئ يناقض لا إله إلا الله .
والله أعلم .
=============
شروط كلمة التوحيد
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
الخطبة الأولى
أما بعد :
أيها المؤمنون : فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً .
واعلموا أيها المؤمنون:
أن الله سبحانه وتعالى قد ربط الأمور بنتائجها والأسباب بمسبباتها ، وجعل لكل غاية سبيلا وطريقا وإذا كان المسلم يرجوا دائما رحمة الله ويطمع في جنته الغالية ، فإن ذلك لن يتحقق بمجرد الأماني والدعوات فإن الله سبحانه وتعالى قال: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به وقد جعل الله تعالى كلمة التوحيد والإيمان سبيلا موصلا إلى جنة الخلد والرضوان ، فعن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله يقول: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار )) وعن أبي ذر أن رسول الله قال: (( ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة )).
ولكن قد يصاب بعض الناس بالغفلة عن حقيقة التوحيد وشرط النجاة ، ويغتر بكلمة يديرها على لسانه ، يظنها مفتاحا للجنة ، بمجرد نطقها بلسانه ، غافلا عن أن لها شروطا ينبغي أن تتحقق ومستلزمات ينبغي أن نعمل بمقتضاها ، لتكون عندئذ مفتاحا صالحا لفتح أبواب الجنة ، وقد سئل يوما التابعي الجليل وهب بن منبه رحمه الله : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ فقال: بلى ، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن جئت مفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.(2/196)
أليست هذه قاعدة عامة يا معشر المسلمين إنه إذا تحقق الشرط تحقق المشروط ، ودخول الجنة بكلمة التوحيد مشروط بجملة من الشروط ، إذا تحققت كلها كانت هذه الكلمة سبيلا إلى الجنة ، وإلا فإنها لن تكون كذلك ، إذ عدم تحقيق هذه الشروط فيه ترك لكثير من الأوامر التي جاء بها الرسول .
ولعل هذه الشروط تكون واضحة بما نشير إليه عنها ، فاحرص يا أخي المسلم عليها وتحقق بها لئلا تقف أمام باب الجنة فترد ولا يفتح لك .
1-إن لكل شيء حقيقة ولكل كلمة معنى ، فينبغي عليك أولا أن تعلم معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله . . تعلم ذلك يقينا منافيا للجهل ، إذ يراد بها نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها لله وحده ، ولذلك قال سبحانه: فاعلم أنه لا إله إلا الله ، وقال : (( من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)).
2-ويكتمل هذا الشرط بشرط آخر هو اليقين الذي ينافي الشك ، ومعنى ذلك أن تستيقن يقينا جازما لا يداخله أي شك أو تردد بمدلول كلمة التوحيد ، لأنها لا تقبل شكا ولا ارتيابا ولا ظنا، فقد جعل الله تعالى هذا اليقين علامة على الإيمان فقال: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون .
3-وإذا علمت وتيقنت فينبغي أن يكون لهذا العلم أثره ، فيدفعك إلى القبول لما تقتضيه هذه الكلمة وتطلبه منك بالقلب واللسان، فمن رد هذه الكلمة ولم يقبلها كبرا أو حسدا فإنه يكون كافرا ، فقد قال الله تعالى عن الكفار: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون . أما المؤمنون الذين قبلوها فلهم النجاة عند الله وعداً منه ولا يخلف الله وعده: ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين .
4-والشرط الرابع : الانقياد لما تطلبه منا من الطاعة والالتزام انقيادا تاما ، وذلك هو المحل الحقيقي والمظهر العمل للإيمان ، ويحصل هذا يا أخي المسلم بأن يعمل بما فرضه الله عليك وأن تترك ما حرمه الله تعالى عليك ، وعندئذ يتحقق الإيمان ، فقد أقسم الله تعالى بذلك فقال فلا وربك . . . وقال : (( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )).
5-والشرط الخامس : أن يقولها الإنسان صادقا من قلبه ، ليبتعد بذلك عن الكذب والنفاق ، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ولا يطابق هذا ما في قلوبهم: يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم . وفي الصحيحين من حديث معاذ : ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار )).
6-وأما الشرط السادس فهو المحبة ، بأن يحب المرء هذه الكلمة والعمل بمقتضاها ، ويحب أهلها المطيعين بها والعاملين بها ، ومن أحب شيئا من دون الله فقد جعله ندا لله وشريكا: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله . ومتى استقرت هذه الكلمة عقيدة في القلب فإنه لا يعدلها شيء فقد قال : (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار )). ولو رجعنا إلى تاريخ الصحابة وحياتهم لوجدنا أروع الأمثلة على ذلك ، أبو بكر في دفاعه عن رسول الله ، وعلي في فدائه للرسول ، وخبيب بن عدي ، حتى قال أبو سفيان : ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدا محمدا .
7-وتلك الشروط كلها لا تنفع وحدها ما لم يتحقق سبب القبول عند الله تعالى وهو الإخلاص لله تعالى أي صدق التوجه إلى الله تعالى وتصفية القلب والعمل بصالح النية عن كل شائبة من شوائب الشرك وألوانه ، وقد تواردت الآيات في ذلك، فمن كان يرجو لقاء ربه .
وفي الحديث عن عتبان بن مالك عن النبي قال: ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل )).
فاحرص يا أخي المسلم : على كلمة التوحيد بشروطها تلك ، واحذر من كل ما ينافيها ، فإن ما ينافيها يوقع في الشرك قد يكون أخف من دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وقولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه.
============
شهادة "لا إله إلا الله" (معناها وفضلها)
معنى شهادة "لا إله إلا الله" إجمالاً: لا معبود بحق إلا الله تعالى(1).
أي أنه لا أحد يستحق أن يعبد إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يدعى إلا الله تعالى، ولا يجوز أن يصلى، أو ينذر، أو يذبخ، إلا لله تعالى وهكذا بقية أنواع العبادة.
قال علامة اليمن الإمام المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني: "ومعناها: إفراد الله بالعبادة والإلهية، والبراءة من كل معبود دونه"(2).
ف "لا" نافية للجنس. و "إله" اسمها، وخبرها محذوف تقديره "حق".
و"إله" من "أَله" بالفتح، "يأله"، "إلاهه"، والمعنى "عبد"، "يعبد"، "عبادة"(3).(2/197)
و"الإله" هو المعبود المطاع، الذي تألهه القلوب بالمحبة، والتعظيم، والخضوع، والخوف، وتوابع ذلك من بقية أنواع العبادة.
واسم "الله" علم على ذات الرب تعالى المقدسة، لا يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى، وأصله "إله" حذفت الهمزة، وعوض مكانها "أل" التعريف(4).
فهذه الكلمة العظيمة تشتمل على ركنين أساسين:
الأول: "النفي"، وهو نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، ويدل عليه كلمة "لا إله" فهي تنفي أن يكون غير الله تعالى مستحقاً للعبادة.
الثاني: "الإثبات"، وهو إثبات الإلهية لله تعالى، ويدل عليه كلمة "إلا الله" فهي تثبت أن الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له(5). فالله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده؛ لأنه الخالق، الرازق، المالك، المدبر لجميع الأمور، فيجب على جميع العباد أن يفردوه بالعبادة شكراً له على نعمه العظيمة عليهم، كما سبق بيان ذلك مفصلاً عند الكلام على توحيد الربوبية.
فهذه الكلمة هي حقاً: كلمة التوحيد، والعروة الوثقى، وكلمة التقوى، وفي شأنها تكون السعادة والشقاوة، في الدنيا، وفي القبر، ويوم القيامة، فبالتزامها والقيام بحقوقها تثقل الموازين، وبه تكون النجاة من النار بعد الورود، والفوز بجنات النعيم، وبعدم التزامها أو التفريط في حقوقها تخف الموازين، ويكون العذاب في القبر، وفي يوم القيامة، وفي نار الجحيم.
وهي حق الله على جميع العباد، وهي أول واجب، وآخر واجب، فهي أول ما يدخل به العبد في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا(6).
شروطها ونواقضها:
دلت النصوص الشرعية الكثيرة على أن الفوائد والفضائل العظيمة لكلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، التي سبقت الإشارة إلى بعضها، والتي من أهمها: الحكم بإسلام صاحبها، وعصمة دمه، وماله، وعرضه، ودخول الجنة، وعدم الخلود في النار، أنها لا تحصل لكل من نطق بهذه الكلمة، بل لابد من توافر جميع شروطها، وانتفاء جميع نواقضها، فكما أن الصلاة لا تقبل ولا تنفع صاحبها إلا إذا توافرت جميع شروطها، من الوضوء واستقبال القبلة وغيرهما، وانتفت مبطلاتها، كالكلام، والضحك، والأكل، والشرب وغيرها، فكذلك هذه الكلمة، لا تنفع صاحبها إلا باستكمال شروطها، وانتفاء نواقضها.
ولذلك لما قيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة: لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك(7). ولما قيل للحسن البصري: إن ناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة.
ومن أجل عدم تحقق بعض هذه الشروط لم تنفع هذه الكلمة جميع المنافقين الذين نطقوا بها، وفعل كثير منهم بعض شعائر الإسلام الظاهرة.
ويدل على وجوب توفر شروط هذه الكلمة وعلى وجوب انتفاء موانعها على وجه الإجمال قوله : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"(8)، فيدخل في حقها: الإتيان بشروطها، واجتناب نواقضها(9).
وقد دلت النصوص الشرعية على أن لهذه الكلمة العظيمة سبعة شروط، هي:
الشرط الأول: العلم بمعناها الذي تدل عليه، فيعلم أنه لا أحد يستحق العبادة إلا الله تعالى، قال تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله( 19 ) {محمد: 19} .
الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك، فلابد أن يؤمن إيماناً جازماً بما تدل عليه هذه الكلمة من أنه لا يستحق العبادة إلا الله تعالى فإن الإيمان لا يكفي فيه إلا اليقين، لا الظن ولا التردد، قال تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون 15 {الحجرات: 15} .
فمن كان غير جازم في إيمانه بمدلول هذه الكلمة أو كان شاكاً مرتاباً أو متوقفاً في ذلك لم تنفعه هذه الكلمة شيئاً.
الشرط الثالث: القبول المنافي للرد، فيقبل بقلبه ولسانه جميع مادلت عليه هذه الكلمة، ويؤمن بأنه حق وعدل، قال الله تعالى عن المشركين: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون 35 ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون 36 {الصافات: 35، 36} .
فمن نطق بهذه الكلمة ولم يقبل بعض مادلت عليه إما كبراً، أو حسداً، أو لغير ذلك، فإنه لا يستفيد من هذه الكلمة شيئاً.
فمن لم يقبل أن تكون العبادة لله وحده، ومن ذلك عدم قبول التحاكم إلى شرعه، أو لم يقبل بطلان دين المشركين من عباد الأصنام، أو عباد القبور، أو اليهود، أو النصارى، أو غيرهم، فليس بمسلم.
الشرط الرابع: الانقياد المنافي للترك، فينقاد بجوارحه، بفعل مادلت عليه هذه الكلمة من عبادة الله وحده، قال الله تعالى: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد \ستمسك بالعروة الوثقى" وإلى الله عاقبة الأمور 22 {لقمان: 22}، ومعنى "يسلم وجهه": ينقاد، ومعنى "وهو محسن": أي موحد.(2/198)
فمن قالها وعرف معناها ولم ينقد للإتيان بحقوقها ولوازمها من عبادة الله والعمل بشرائع الإسلام، ولم يعمل إلا ما يوافق هواه أو ما فيه تحصيل دنياه لم يستفد من هذه الكلمة شيئاً.
الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب، وهو أن يقول هذه الكلمة صدقاً من قلبه، يوافق قلبه لسانه، قال الله تعالى: الجم" 1 أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون 2 ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين 3 {العنكبوت: 1 - 3} .
ولذلك لم ينتفع المنافقون من نطقهم بهذه الكلمة؛ لأن قلوبهم مكذبة بمدلولها، فهم يقولونها كذباً ونفاقاً.
الشرط السادس: الإخلاص المنافي للشرك، فلابد من تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، قال الله تعالى: فاعبد الله مخلصا له الدين 2 {الزمر: 2} .فمن أشرك بالله تعالى في أي نوع من أنواع العبادة لم تنفعه هذه الكلمة.
الشرط السابع: المحبة، فلابد أن يحب المسلم هذه الكلمة ويحب ما دلت عليه، ويحب أهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها، ويبغض ما ناقض ذلك. قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب 165 {البقرة: 165}.
أما نواقض "لا إله إلا الله"، وتسمى "نواقض الإسلام"، "نواقض التوحيد"، وهي الخصال التي تحصل بها الردة عن دين الإسلام، فهي كثيرة، وقد ذكر بعضهم أنها تصل إلى أربعمئة ناقض(11).
وهذه النواقض تجتمع في ثلاثة نواقض رئيسة، هي:
1 الشرك الأكبر.2 الكفر الأكبر. 3 النفاق الاعتقادي.
@ الهوامش:
1 ينظر تفسير الآية (163) من سورة البقرة في تفسيري الطبري، والقرطبي، فتح المجيد(1-126121)، مجموعة التوحيد (1-178).
2 تطهير الاعتقاد ص:(18).
3 ينظر تفسير البسملة في تفسيري الطبري وابن كثير، وشرح الطيبي للمشكاة (1-98)، ورسالة "معنى لا إله إلا الله" للزركشي الشافعي ص:(73 111)، والقاموس المحيط، والصحاح، مادة "أله".
4 تنظر المراجع السابقة، وتجريد التوحيد للمقريزي، ص:(2418)، وتحقيق كلمة الإخلاص لابن رجب، ص:(23 25 30)، وفتح المجيد، ص:(7673)، و (126124)، وتفسير الشوكاني (1-18)، والدرر السنية (2-298296257 305، 331326)، ومجموعة الرسائل (4-16).
5 الكواشف الجلية، ص:(35)، وينظر الأصول الثلاثة: الأصل الثاني، ص: (15)، قرة عيون الموحدين، ص:(13)، الدرر السنية (2-271) مجموعة الرسائل (4-34، 38).
6 وهي سبب لعصمة دم المسلم وماله وعرضه، إلا بحقها، وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجار، وفيها يكون الولاء والبراء، وأهلها هم أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أهل غضبه ونقمته.
وهي الشهادة العظمى، وأول وأعظم أركان الإسلام، فهي أصل الدين وأساسه، وبقية أركان الدين وفرائضه متفرعة عنها، متشعبة منها، مكملات لها، مقيدة بالتزامها والعمل بمقتضاها.
وهي أعظم نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده، وأفضل ما ذكر الله به، وأثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة.
وهي رأس الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأصدق الكلام، وأحسن الحسنات، وشهادة الحق، والقول الثابت، والمثل الأعلى، وعنها يكون السؤال للأولين والآخرين يوم الحساب، وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال، وبها قامت السموات والأرض، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة.
ينظر رسالة "مسألة في التوحيد وفضل لا إله إلا الله" ليوسف بن عبدالهادي ص:(11789)، وقد ذكر 199 فضيلة من فضائلها، وينظر الإيمان لابن منده (1-315116)، مجموع الفتاوى (3-94)، مدارج السالكين (3-462، 465)، زاد المعاد(1-34)، تحقيق كلمة التوحيد لابن رجب، ص:(6652)، التمهيد للمقدسي، مجموعة التوحيد (1-175)، الدرر السنية (2-326، 350)، فتح المجيد (1-74، 75، 125)، مجموعة الرسائل (4-295)، مجموعة التوحيد (1-137، 141) قرة عيون الموحدين، ص: (2019)، القول السديد، ص:(2019)، معارج القبول (2-415410).
7 رواه البخاري تعليقاً في فاتحة الجنائز من صحيحه.
ورواه موصولاً البخاري في تأريخه (1-95)، وأبو نعيم في الحلية (4-66)، والحافظ في تغليق التعليق (2-453، 454).
8 رواه البخاري (1399) من حديث عمر، ورواه مسلم (20، 21، 22) من حديث عمر، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث عبدالله بن عمر، ومن حديث جابر، واللفظ له.
9 التوضيح عن توحيد الخلاف ص:(97)، تيسير العزيز الحميد، ص:(69)، مجموعة الرسائل، ص:(852، 853).
10 ينظر شرح صحيح مسلم للنووي (1-219)، توضيح كلمة الإخلاص لابن رجب، ص: (4815)، الدرر السنية (2- 259253)، مجموعة الرسائل (4-295، 296)، معارج القبول (2- 110100)، رسالة "الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما"، ص: (113103).
11 الدرر السنية (1-100).
@ الأستاذ بكلية المعلمين بالرياض
===============
فاعلم أنه لا إله إلا الله
الدكتور / بشر بن فهد البشر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة(2/199)
الحمد لله رب العالمين ، أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، وأشكره على آلائه وأستغفره – وهو الغفور الرحيم – من خطئي وزللي وأعوذ بوجهه الكريم من شرور نفسي وسيئات عملي .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . أما بعد .
فإن أصل هذه الرسالة محاضرة ألقيت بنفس العنوان " فاعلم أنه لا إله إلا الله " ضمن الدروس القرآنية العامة التي كنت ألقيها في جامع الراجحي بالربوة في مدينة الرياض ، وقد رأى بعض الإخوة طباعتها ليعم النفع بها ، وقام مشكوراً بتفريغها من الشريط فأجبته إلى ذلك وأعدت مراجعتها وعدلت فيها ما يحتاج التعديل ، لتصبح صالحة للنشر ، فلغة المحاضرة تختلف عن لغة الكتاب ، ومع ذلك سيبقى فيها ما يحتاج لإعادة النظر ، لأن النقص من صفات البشر ن وقد كنت أود أن أكتب لها مقدمة ضافية تليق بأهمية الموضوع إلا أن ضيق الوقت حال دون ذلك ، وعسى أن يسر الله عز وجل – وهو الكريم المنان – كتابة المقدمة المأمولة في طبعة قادمة إن شاء الله تعالى ، وكم لله تعالى على عباده من أفضال عظيمة وآلاء جسيمة ، ييسر لهم الأمور ويحقق لهم المنى وذلك على الله يسير .
وقد قام أخونا الفاضل / نايف بن حبيب آل عر يعر بتخريج أحاديثها ، ومتابعة مراحل طباعتها فله جزيل الشكر وفقنا الله وإياه لطاعته وغفر لنا الذنوب وستر العيوب وجمعنا ومن نحب في دار كرامته إنه قريب مجيب ، والله تعالى الموفق والمعين .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه .
كتبه د / بشر بن فهد البشر / عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام
ص . ب . 744 الرياض 11643
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد:
فإن الله عز وجل ما خلق الخلق إلا لعبادته قال تعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) (الذريات:56) فعبادة الله تعالى هي الأساس والحكمة والغاية التي خلقت من أجلها الخليقة.
ولذلك كانت كلمة التوحيد ، كلمة (لا إله إلا الله " التي تدل على عبادة الله وحده هي أساس دعوة الرسل وهي أصل الأديان التي أنزلها الله عز وجل على عباده .
فهي أصل الإسلام ، وأساسه ، وهي التي دعت إليها الرسل جميعهم – عليهم الصلاة والسلام – ومن أجلها خلق الله عز وجل الجنة والنار .
ولذا كان مما يجب على المسلم أن يعلم معنى هذه الكلمة العظيمة ويعمل بمقتضاها ليكون من الناجين عند الله تبارك وتعالى ولذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)) (محمد:19) . فالعلم بـ " لا إله إلا الله " وبما دلت عليه ، وبحقيقة معناها ضرورة من ضرورات الحياة لا يمكن أن يعيش الإنسان سعيداً هنيئاً بدونها ، ولا يمكن أن يكون فائزاً في أخراه بدونها .
ومعرفة لا إله إلا الله تكون للاعتقاد ، وتكون للعمل ، لا لأحدهما دون الآخر ، وقد كان العرب في جاليتهم يعرفون معنى كلمة التوحيد ، فبعضهم علم بها وقبلها ، وعمل بمقتضاها فكان من السابقين السعداء .
وبعضهم علم معناها ولكنه أبى الانقياد لها وقبولها فكان من الأشقياء .
فإنهم لما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منهم أن يقولوا كلمة واحدة تدين لهم العرب – يعني تطيع - ويملكون بها العجم قالوا له : نعطيك عشر كلمات فقال عليه الصلاة والسلام : (( قولوا لا إله إلا الله )) فقالوا (( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) (صّ:5) . فعلموا المعنى ، وعرفوا أنهم إذا قالوا " لا إله إلا الله " تغيرت حياتهم ، وانتقلوا من حياة إلى حياة وانقطعت صلتهم انقطاعاً تاماً في الاعتقادات والتعبدات بطريقتهم الأولى ، ولما فسد السليقة ، وتغيرت المعرفة بلغة العرب جهل المسلمون معنى كلمة التوحيد ، جهلوا معنى " لا إله إلا الله " فأصبح كثيرون ينطقونها ولكنهم في واقع الأمر ينقضونها .
إذاً لا بد من شرح معنى هذه الكلمة ، ولا بد من بيان ما دلت عليه ، ولا بد من بيان نواقضها حتى يكون المسلم على بصيرة من دينه خاصة في هذا الوقت الذي تكالبت فيه الأمم على أمة الإسلام فكان لزاماً على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تعيد النظر في نفسها ، وفي الخلل الذي أضر بها ، وهذا الخلل معظمه من الداخل وأقله من الخارج.
إن أصل الإسلام يقوم على الشهادتين :
شهادة " أن لا إله إلا الله " وشهادة " أن محمداً رسول الله " .(2/200)
فشهادة أن لا إله إلا الله معناها : توحيد المعبود ، وشهادة أن محمداً رسول معناها : توحيد المتبوع – عليه الصلاة والسلام - وسنتكلم عن الأولى شهادة " أن لا إله إلا الله " ، فمن شهد أن لا إله إلا الله وعلم معناها وعمل بمقتضاها فإنه تلقائياً يشهد أن محمداً رسول الله .
إن معنى كلمة " شهادة " في لغة العرب : الخبر القاطع الصادر عن علم ويقين . فتضمنت كلمة الشهادة أمرين :
الأول : علم ويقين ، وهذا يكون في القلب .
الثاني : إخبار وإعلام ، وهذا نطق باللسان ، وهو القول .
وإذا تبين معنى كلمة شهادة فإن كلمة لا إله إلا الله تعنى أنه لا معبود بحق إلا الله تبارك وتعالى. فالإله : مأخوذ من أله يأله ومعنى أله في اللغة :عَبَدَ.
فالإله : هو المعبود المطاع الذي تألهه القلوب ، أي تتجه له وتقصده وتخضع له وتذل له وتتعلق به خشية وإنابة ومحبة وخوفاً وتوكلاً عليه وإخلاصاً له تبارك وتعالى .
فـ " لا إله إلا الله " معناها : لا معبود بحق إلا الله .
وقولنا : " بحق " لنخرج من عُبِدَ بالباطل، وهم كل من صرف له نوع من أنواع العبادة من دون الله تعالى ، وهم كثير من الأصنام ومن الصالحين ومن غيرهم .
فالله تعالى هو المستحق للعبادة وحده ، وكل من عبد سواه فالباطل فلا حق في الألوهية لمخلوق ، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل .
(( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) (الحج:62) . وهذه الكلمة تشتمل على ركنين :
نفي وإثبات .
فالنفي هو قولنا " لا إله " والإثبات هو قولنا " إلا الله " .
فـ " لا إله " نفي جميع ما يعبد من دون الله تعالى ، " وإلا الله " : إثبات جميع أنواع العبادة لله رب العالمين وحده لا شريك له في عبادته ، كما لا شريك له في ملكه ، وربوبيته ، ففيها إذن براءة من كل ما يعبد من دون الله تبارك وتعالى ، وفيها تحقيق العبودية لله وحده .
وقد جاء معنى الكلمة العظيمة في آيات كثيرة من كتاب الله قال تعالى : ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) (النحل:36) . فقوله تعالى : (( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)) هو معنى قوله " إلا الله " وقوله : (( وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )) هو معنى قوله " لا إله " .
وقال تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)) (الأنبياء:25) . وقال تعالى (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة: من الآية256)
فقوله جل وعلا " (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ)) هو معنى قوله : " لا إله " ومعنى قوله : (( وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)) هو معنى : " إلا الله " فهي إذا تفيد نفس معنى لا إله إلا الله . وكذلك قال تعالى : (( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (الزمر:17، 18) . وقال تعالى : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) (البينة:5) . ومعنى قوله : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)) هو معنى قوله : " لا إله إلا الله " لأن معنى قوله (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا)) هو حصر للعبودية لتكون حقاً خالصاً لله رب العالمين ، وأكد ذلك قوله : (( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)) .
ومعنى حنفاء : مائلين عن الشرك إلى التوحيد .
وإن كل رسول أرسله الله عز وجل منذ أن أرسل نوحاً إلى أن أرسل خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم يقول لقومه : (( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) (هود: من الآية50) .
فهي أول ما تدعو إليه الرسل أقوامهم ، وإن كانت دعوات الرسل تشتمل أيضاً على بقية الاعتقادات والعبادات وغيرها ، ولذلك نجد أن شعيباً- عليه السلام- يدعو إلى عبادة الله وحده ، ثم بعد ذلك ينهاهم عن التطفيف في المكيان والميزان
وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام دعوتهم لإخلاص العبودية لله وحده ولأخذ الأوامر والنواهي من الله رب العالمين .
وقد اشتملت كلمة التوحيد على أنواع التوحيد كلها .
* على توحيد الألوهية .
* وتوحيد الربوبية .
* وتوحيد الأسماء والصفات .(2/201)
فتوحيد الألوهية مطابقة ، أي اشتملت عليه مطابقة . ودلالة المطابقة معناها : دلالة اللفظ على تمام ما وضع له في لغة العرب .
واشتملت على توحيد الربوبية والأسماء والصفات تضمناً ، ودلالة التضمين معناها : دلالة اللفظ على جزء معناه كدلالة الإنسان على بعض أعضائه .
فتوحيد الألوهية ويقال له : توحيد العبادة هو توحيد الله تبارك وتعالى بأفعال عباده أي أن العباد يفرون ربهم تبارك وتعالى بكل أنواع العبادة ويخلصون له فيها جل وعلا ، فلا يشركون معه غيره .
فالعبادة حق خالص لله تعالى لا حظ فيها لأحد لا من الملائكة المقربين ولا من الأنبياء المرسلين ولا من الأولياء الصالحين ولا من غيرهم .
والعبادة باعتبار ما أمر الله به : اسم جامع لكل ما يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، فشملت إذاً كل أمور الحياة ، ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) (الأنعام:162) . فالحياة كلها ثم ما بعدها كلها لله تبارك وتعالى يجب أن يكون المسلم سائراً فيها مخلصاً لربه سبحانه .
أما توحيد الربوبية فهو توحيد الله بأفعاله سبحانه من الملك والخلق والتدبير ، وهذا النوع كان يقر به المشركون الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام ، بخلاف توحيد الألوهية فإن توحيد الألوهية لم يكونوا يقرون به كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .
ولذلك قال الله تعالى : (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )) (الزخرف: من الآية87) .
(( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ )) (الزخرف:9) . فأخبرنا الله عز وجل أن المشركين في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعترفون بربوبيته سبحانه ، ولكنهم كانوا مختلفين في الألوهية يعني في إفراد الله سبحانه بأنواع العبادات كلها .
أما توحيد الأسماء والصفات فهو إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلا من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تبارك وتعالى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) (الشورى:11) .
فضائل كلمة التوحيد :
إن هذه الكلمة ، كلمة التوحيد لها فضائل عظمى ، جمع زُبَد هذه الفضائل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تعليقه على كتاب التوحيد ، وأنقل لكم بعض ما قاله ملخصاً قال – رحمه الله – عن التوحيد : " وما قاله عن التوحيد ينطبق على كلمة التوحيد " إن التوحيد هو الفرض الأعظم على جميع العبيد ، وليس شيء من الأشياء له من الآثار الحسنة والفضائل المتنوعة كالتوحيد ، فإن خيري الدنيا والآخرة من ثمرا ت التوحيد وفضائله ، ثم قال – رحمه الله - : إن مغفرة الذنوب وتكفيرها من بعض فضائله وآثاره ، قال : ومن فضائل التوحيد أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما .
ومن أجل فوائده أنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة من خردل ، وإذا كمل التوحيد في القلب فإنه يمنع دخول النار نهائياً .
ومنها أن صاحبه يحصل على الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة ومن فضائله : أن أسعد الناس بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )) .
ومنها : أن جميع الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد ، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله جل وعلا كملت هذه الأمور وتمت .
ومنها : أنه يسهل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات ويسليه عن المصائب ، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثوابها ، ويهون عليه ترك المعاصي لما يخشى من سخط الله وعقابه .
ومنها : أن التوحيد يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام ، فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يكون تلقيه للمكارة والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضي بأقدار الله المؤلمة .
ومن أعظم فضائله : أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم ، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي ، ويكون مع ذلك متألهاً لله ، متعبداً له سبحانه لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه ولا ينيب إلا إليه ، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه .
ومنها: أنه إذا كمل في القلب بالإخلاص التام فإن يُصير القليل من العمل كثيراً وتضاعف الأعمال والأقوال بغير حصر ولا حساب .
ومنها : أن الله جل وعلا تكفل لأهل التوحيد بالفتح والنصر في الدنيا والعز والشرف وحصول الهداية والتيسير لليسرى وإصلاح الأحوال والتسديد في الأقوال والأفعال .(2/202)
ومنها: أن الله جل وعلا يدافع عن الموحدين ، أهل الإيمان يدافع عنهم شرور الدنيا والآخرة ويمن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره ، ثم قال في ختام كلامه : وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة .
بعض ما اشتملت عليه كلمة التوحيد :
وكما اشتملت كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " على كل أنواع التوحيد فليعلم أيضاً أنها قد نفت كل شرك قليلاً كان أو كثيراً ، جلياً كان أو خفياً ، وأوجبت الكفر بما يعبد من دون الله تعالى ، فلا يتم الإيمان ولا يكون أصلاً إلا بذلك ، قال تعالى : (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)) (البقرة: من الآية256) . ثم إن كلمة " لا إله إلا الله " قد اشتملت على أمر عظيم وهام يجب أن يتفطن له المسلمون خاصة في هذا العصر، فقد اشتملت على أن التشريع والحاكمية حق لله تبارك وتعالى ، وهذا داخل في أنواع التوحيد الثلاثة ، فدخوله في توحيد الألوهية من حيث أن الله تعالى هو المعبود المطاع، والمعبود هو الذي يأمر وينهى ، ولذا قال بعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) (الذريات:56) . قالوا : أي إلا لآمرهم وأنهاهم ، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى .
ودخوله في الربوبية أن التشريع والحكم من أفعال الله جل وعلا ومن تدبيره لخلقه سبحانه فهو المتفرد بذلك ولذا جعل الله عز وجل من اتخذ مشروعاً غيره مشركاً .
قال سبحانه : (( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ )) (الشورى: من الآية21) وقال سبحانه : (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) (الأنعام:121) وقال تعالى : ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)) (التوبة: من الآية31) .
وهذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين أطاعوا رهبانهم وأحبارهم ، يعني علماءهم في تحليل ما حرم الله وفي تحريم ما أحل الله ، فجعلهم الله عز وجل متخذين أرباباً من دون الله ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة: من الآية31) .
ومن فعل مثل فعلهم كان حكمه حكمهم .
وأما دخوله في توحيد الأسماء والصفات فإن من أسماء الله سبحانه الملك ومن أسمائه الحكم ، فله سبحانه الملك وإليه الحكم ولذلك غير النبي صلى الله عليه وسلم كنية رجل تكنى بأبي الحكم وسماه بأبي شريح معللا ً ذلك بأن الله هو الحكم وإليه الحكم وقد قال الله تبارك وتعالى : (( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )) (الشورى: من الآية10) .
وقال سبحانه ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (القصص: من الآية88) .
وقال تعالى (( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )) (يوسف: من الآية40) وقال تعالى : (( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)) (الكهف: من الآية26) .
وسيأتي مزيد بيان لهذه النقطة عند ما نتحدث عن بعض نواقض كلمة التوحيد إن شاء الله .
من لوازم كلمة التوحيد :
ثم إن كلمة التوحيد قد استلزمت موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله تبارك وتعالى ، استلزمت محبة المؤمنين وبغض الكافرين ، وهذا أصل من أصول الإيمان ، بل قال بعض أهل العلم : إن الله سبحانه وتعالى ما ذكر بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن ضده وهو الشرك في القرآن الكريم أكثر من النهي عن موالاة الكفار ، لذا فإن من والى الكافرين قد وقع في خطر عظيم يوشك أن يصل إلى حد التولّي ، أي تولي الكفار فينقض توحيده – نسأل الله السلامة – أما الموالاة التي لا تصل إلى حد التولّي فإنها معصية عظمى تنقص التوحيد لكنها لا تصل إلى حد نقضه ، وقد حثنا الله على موالاة المؤمنين ، قال تعالى : (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ )) (التوبة: من الآية71)
وحذرنا ربنا جل وعلا من موالاة الكافرين فقال سبحانه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)) (الممتحنة: من الآية1) .(2/203)
فبين الله عز وجل سبب عداوتهم ، وهو أنهم كفروا بما جاءنا من الحق ، ومن ذلك كفرهم بـ " لا إله إلا الله " فلما كفروا بها وجبت عداوتهم ووجب بغضهم ووجبت مفاصلتهم وحرم على المسلمين أن يوالوهم أو يلقوا إليهم بنوع من المودة والمحبة .
وعلى ضوء ما سبق يتبين لنا أن كل الطاعات بل كل دين الإسلام هو من مقتضى كلمة التوحيد ، كلمة لا إله الله ، وتبين لنا أيضاً أن كل أمور الحياة يجب أن تكون وفق مقتضى لا إله إلا الله ، وتبين لنا أيضاً أن كل أمور الحياة يجب أن تكون وفق مقتضى لا إله إلا الله فهي كلمة شملت جميع الحياة ، فهي منهاج متكامل ، فإنها تبين لنا الطريق الحق في العمل وتبين لنا الطريق الحق في الاقتصاد ، وفي السياسة ، والإعلام ، وفي التعليم والتربية ، فكل أمر من أمور الحياة فهو داخل تحت كلمة " لا إله إلا الله " فهو من مدلولها ومن معناها ، ولذا فإن من قال : إن هناك أموراً من أمور الحياة خارجة عن مقتضى لا إله إلا الله خارجة عن الإسلام لا يحكمها شرع الله تبارك وتعالى يكون قوله هذا كفراً بالله جل وعلا ، لأنه مكذوب لله ورسوله .
فمن قال : إنه لا في السياسة ولا سياسة في الدين كان منقضاً لكلمة لا إله إلا الله ، وما أحسن ما قال الشيخ / عبد الرحمن الدوسري – رحمه الله - : إن كلمة لا إله إلا الله كلها سياسة من لامها إلا هائها ، وقد سئل – رحمه الله - أو سأل نفسه في كتيب له : أسئلة وأجوبة في أمور العقيدة في المهمات فقال : كيف لنا بمن يقول الدين علاقة بين العبد وربه فقط لا شأن له في السياسة والحكم ؟
قال الشيخ – رحمه الله – هذه خطة انتهجها الثائرون على الكنيسة في أوروبا التي ليس لها ثروة تشريعية وافية بأساليب الحكم السياسية حسب التطوير الصحيح ، فانتهج هذه الخطة تلاميذ الإفرنج من أبنائنا وعملوا على تطبيقها في بلاد المسلمين وفرضها عليهم بتلقين قوي من أساتذتهم وتأييد استعماري يحظى به العملاء والمغرضون الذين يريدون الحكم على أشلاء الإسلام وعل حساب أهله ، وقد أراحوا المستعمرين والمبشرين بتطبيق هذه الخطة التي أبعدوا فيها حكم الله وأزاحوا المسلمين عن تعاليم شريعتهم وآدابها، وصبغوهم بصبغة إفرنجية في تقاليدهم وعقائدهم وأخلاقهم وملابسهم حتى حولوهم بهذه الخطة وتحت شعاراتها المختلفة إلى نوع من الخلق لا يصلح شرقياً ولا غربياً ، ومع أن هذه في حق الإسلام والمسلمين فرية عظيمة وخطة أثيمة فهي في الحقيقة حجة على أولئك دامغة لرؤوسهم ، مرغمة لأنوفهم ، لأن علاقة العبد بربه يجب أن تكون عامة في كل شيء ، بحيث لا يمشي إلا على وفق شريعته ، ولا يحكم إلا بكتابه وسنة نبيه ، ولا يتحرك إلا لمرضاته واجتناب سخطه ، ولا يحب ولا يبغض إلا من أجله ، لا لنفع أو من أجل عشيرة أو وطن ، أو قرابة أو مال ، ولا يوالي أو يعادي إلا في الله ، ومن أجل إعلاء كلمة الله لا لغرض آخر ، فلا يوالي أعداءه أو يعادي أحبابه لحاجة في نفسه ، أو لأجل شيء مما تقدم ، ولا يخطط لنظام الحكم أو ينفذه ، مستنداً على تلك القواعد الانتهازية ضارباً بكتاب الله وتوحيده وشريعته، عرض الحائط ، فإن هو فعل ذلك لم يحسن علاقته بربه بل قطعها ، وكان في قوله أفاكاً أثيماً ، لأن الله تعالى لا يرضى من عبده أن يحكم بغير شريعته أو يتخلى عن دعوة الإسلام، والدفاع عن جميع قضايا المسلمين ولا أن يوالي النصارى بحجة وطنية أو قومية عصبية جلبها من أوروبا وطرح بها ملة إبراهيم عليه السلام كما لا يرضى من عبده أن يعيش بإيمان أعزل أمام كفر وإلحاد مسلح ، بل يوجب عليه تحقيق الصدق معه والإخلاص له ، وأن يستعد لأعداء الله بجميع المستطاع من حول وقوة مهما تنوعت وتطورت ، يقمعهم كي لا يغلبوا ويتحكموا في مصيره ، وكذلك يوجب عليه أن يكون غيوراً على حرماته حافظاً لحدوده ناصراً لدينه دافعاً له إلى الأمام ، لا يقتصر في عبادته على نوع دون نوع ، ولا يقصر بالغزو في نشر الحق فيغزوه أعداء الله بالباطل ، فإن لم يفعل هكذا لم يحسن علاقته بربه وكان خواناً أثيماً إذ إن علاقته بربه عامة في جميع الشؤون الحربية والسلمية والاقتصادية والاجتماعية ، وسائر السلوك في المسجد والدائرة والمصنع على السواء .
ثم سأل نفسه قائلاً : ما الدليل على ذلك شرعاً وعقلاً ؟
( وطريقة السؤال والجواب تسهل على الطلبة المبتدئين .)(2/204)
أجاب – رحمه الله – قائلاً : الأدلة الشرعية كثيرة متواترة منها : أن الله تعالى أوجب عبادته على العموم ، ومعاني العبادة ولوازمها كثيرة عظيمة لا يجوز لأحد الترخص منها إلا بدليل شرعي ، وجميع النواحي الدينية الدنيوية التي أوجبها الله على خلقه في القرآن أو ندب إليها وحض عليها أناطها بالأمر بالتقوى والتزام حدوده حتى في المواريث والديون ، قال تعالى : (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ )) (النساء: من الآية13) وقال :((وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً)) (البقرة: من الآية282) وقال تعالى في تزويج النساء وعشرتهن وطلاقهن : (( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ )) (البقرة: من الآية223) .
وقال: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )) (البقرة: من الآية235) .
وقال تعالى : (( مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)) (البقرة: من الآية241) وقال : ((تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا)) (البقرة: من الآية229) .
وفي الصدقات قال : (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)) (الليل:5) وفي الأمور السياسية قال: ((وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) (المائدة: من الآية87) (( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الحجرات: من الآية9) (( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)) (النساء: من الآية135) (( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ )) (المائدة: من الآية8) .
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)) (النساء: من الآية71) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)) (آل عمران: من الآية118) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) (الممتحنة: من الآية1) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) (الممتحنة: من الآية13) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )) (المائدة: من الآية51)
ثم قال : والآيات في الأمور السياسية كثيرة متنوعة ، وفي في الشؤون الحربية لنصرة العقيدة وإقامة سلطان الله وإعلاء كلمته في الأرض ، يقول الله تبارك وتعالى : (( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة:244) ((لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ )) (النساء: من الآية95) (( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)) (النساء:76) إلى أن قال الشيخ قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ)) ( الصف: من الآية14) (( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) (محمد: من الآية7) إلى آخر ما ذكره رحمه الله تعالى .
ثم قال – رحمه الله تعالى – فأي دين يأمر بالقوة ويجمع بين الحرب والعبادة في آن واحد غير دين المسلمين حتى قال لهم الله محذرا: (( وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً )) (النساء: من الآية102) إلى أن قال : (( وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً )) (النساء: من الآية102)
وفي الولاء والمحالفة نهي عباده عن أن يتخذوا من دونه ومن دون إخوانهم المؤمنين وليجة من القوم الآخرين ، وفي المعاملات قال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا)) (المائدة: من الآية1) (( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) (الشعراء:183) (( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)) (المطففين:1) (( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ)) (البقرة: من الآية282) .
إلى أن قال : وغير ذلك من الشؤون الاجتماعية كثير ، وفي سورة النور والحجرات آيات واضحة لا نطيل بها المقام .(2/205)
وفي الأحاديث النبوية بحور زاجرة من ذلك ، وملاك ما تقدم قوله تعالى : ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (غافر:14) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102) وكأنه يشير إلى أن كل ما مر داخل في الدين الذي يجب أن نخلصه لله تبارك وتعالى ، هذا وللعلامة الشيخ / محمد الشنقيطي – رحمه الله – محاضرة عن كمال الشريعة طبعت في كتيب بين فيها الأدلة على أن الشريعة شاملة كل الأمور من سياسة واقتصاد وتربية وتعليم وغيرذلك .
المعاصي تنقص التوحيد :
هذا وليعلم أن كل مخالفة وكل معصية تقع من العبد عامداً فإنها تنقص التوحيد وتضعفه ، ما لم يتب منها ، وهذا يفسر لنا كثيراً من المخالفات ومن قلة الانتفاع بالمواعظ والعلم وذلك أن التوحيد قد ضعف في القلب ، فإذا ضعف التوحيد في القلب أصبح الإنسان جريئاً على مخالفة أمر الله تعالى وعلى فعل ما نهى الله عز وجل عنه .
نواقض كلمة التوحيد :
ثم ليعلم المسلم أن كملة التوحيد لها نواقض تبطل إسلام من فعلها ، فلا ينتفع بنطقه وقوله لكلمة التوحيد ولو أكثر من ذلك ما دام ينقضها بأفعاله، وهذا كالشخص الذي يريد أن يصلي ويتوضأ، ثم بعد ذلك يحدث ، فإن وضوءه لا يفيد ، بل عليه أن يتوضأ مرة أخرى، ومن أهم نواقض " كلمة لا إله إلا الله " الشرك الأكبر بالله جل وعلا بكل أنواعه، فالشرك بالله سبحانه بدعاء الأموت والغائبين والاستنجاد بهم وطلب ما لا يقدر عليه إلا رب العباد سبحانه وتعالى شرك بالله سبحانه وتعالى ، وكذلك الذبح والنذر لهم والطواف بقبورهم وتقبيلها تبركاً وتقرباً إليهم كل ذلك من باب الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من ملة الإسلام – نسأل الله السلامة والعافية – وكذلك اتخاذ الوسائط بين الله وبين عباده ومعنى الوسائط هنا أن يدعو الإنسان شخصاً ويطلب أن يشفع له عند الله من الأموات أو من الغائبين ، فإن ذلك شرك بالله عز وجل ، وهذا هو شرك أهل الجاهلية ، شرك أبي جهل ، وأبي لهب الذين قالوا : ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) (الزمر: من الآية3) ما عبدوا هم لأنهم خلقوا ولا لأنهم رزقوا ولكن عبدوهم من أجل أنهم يزعمون أنهم يشفعون لهم ويقربونهم عند الله (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) (الزمر: من الآية3) (( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) (يونس: من الآية18) .
ولذلك فإن من دعا ميتاً أو غائباً أو طلب منه أن يشفع عند الله ففعله من الشرك الأكبر ، لأن معنى ذلك أنه يعلم بدعاء الشخص ويسمعه ، ويستجيب له ، ويقدر على نفعه أو دفع ضره فأعطاه ما هو خاص بالرب تبارك وتعالى .
ومن نواقضها أيضاً : النفاق الاعتقادي – أعاذنا الله منه - وقد بين بعض أهل العلم بعض أنواع النفاق ، فمن أنواع النفاق الاعتقادي كما بين ذلك شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – بغض النبي صلى الله عليه وسلم أو بغض بعض ما جاء به ، ومن النفاق الاعتقادي أيضاً السرور بانخفاض الإسلام والفرح بذلك ، والحزن إذا انتصر الإسلام وارتفع ، وهذا يبين لنا كثرة النفاق الاعتقادي في عصرنا ، فنرى حينما يهزم أو يتخلف الإسلام في مكان ما كثيراً من المجلات والصحف التي تصدر في أوربا فرحة ، وإذا انتصر الإسلام وارتفع يظهر منها ويبين أنها قد حزنت وانكسرت لما حصل فهذا هو النفاق الاعتقادي – أعاذنا الله منه – قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)) (التوبة:50) فهذه هي طريقة المنافقين في قديم الدهر وحديثه .
ومن نواقض كلمة التوحيد : السخرية والاستهزاء بالله ورسوله وآياته ولو كان هذا الساخر والمستهزئ هازلاً مازحاً ، فإن أمور الاعتقاد لا مزاح فيها وإنما هي جد ولذلك قال الله تعالى : (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ )) (التوبة:65، 66) سواء كان هذا الاستهزاء باللسان أو على صفحات الجرائد والمجلات أو في غيرها ، فمن استهزأ حتى ولو بالإشارة بالله ورسوله وآياته كان مرتداً – نسأل الله العافية والسلامة –
ومن نواقض كلمة لا إله إلا لله :(2/206)
رفض حكم الله ورسوله والتحاكم إلى غيرهما من القوانين الوضعية الجاهلية التي ابتلي بها المسلمون في هذا العصر والتي فرضها الاستعمار الكافر لما استولى على معظم بلاد المسلمين ولم يغادرها إلا بعد أن فرض عليها الحكم بقوانين أوروبية بعد تنحية الشريعة الإسلامية وما غادر بلاد المسلمين إلا بعد أن وضع فيها أذناباً له مخلصين لمبادئه ، وكما قال أحد المفكرين الإسلاميين : ذهب الإنكليز الحمر وبقي الإنكليز السمر يعني أن الإنكليز بجنودهم انسحبوا من بلاد المسلمين التي كانوا يستعمرونها ، وكذلك الفرنسيون وغيرهم ولكن بقي الذين يتكلمون بلغتنا ولهم نفس جلدتنا ولكنهم أشد على الإسلام والمسلمين من أولئك الكفار النصارى ، فرفضوا حكم الله ورسوله ووضعوا دساتير من القوانين الوضعية ووضعوا لها مراجع ومواد يحكم بها وزحزحت الشريعة الإسلامية عن الحكم في بلاد المسلمين إلا من رحم ربك وأحل ما رحم الله ورسوله وحرم ما أباح الله ورسوله حتى بلغ الأمر أن بعضهم قد حرم ومنع الصيام في نهار رمضان بحجة العمل وفي بعض البلدان التي ينطق أهلها بلغة العرب يمنع أن يتزوج الرجل امرأتين ، وإذا وجد مع الرجل امرأتان أصبحت جريمة عظمى يحاكم عليها بالقانون ، أما إذا وجد معه عشرون بغيا من البغايا لم يتعرض له أحد ويحميه القانون ، أليس هذا أعظم مما فعل علماء اليهود والنصارى حين أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله ؟ إن هؤلاء قد فرضوه بالقوة ألزموا به المسلمين وجعلوهم يتحاكمون إليه ، بل وحتى لو يأتهم أحد لتعرضوا له ، إن هذا من أعظم نواقض كلمة التوحيد فهو كفر أكبر مخرج من ملة الإسلام كما نص على ذلك العلماء رحمهم الله تعالى كالإمام الحافظ ابن كثير لما تكلم عن التتار في تفسيره وفي تاريخه ، " البداية والنهاية " .
كذلك نص على هذا الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – رحمه الله – والإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته ، تحكيم القوانين والعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان ، والعلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى وغيرهم كثير .
والذين يفعلون ذلك هو من رؤوس الطوغيت كما بين ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – حينما تكلم عن رؤوس الطواغيت ، قال الله تعالى (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)) (النساء:60، 61) وإذا كان من أراد أن يتحاكم إلى الطاغوت عن علم ورضا كافراً فما بالك بالطاغوت نفسه الذي يفرض الأحكام المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ويلزم ويفرضها في محاكم المسلمين ليقضي بينهم بها ، إن هذا أشد كفراً وأخبث من ذلك بكثير.
فهم خاطئ لكلمة التوحيد :
إن بعض الناس قد يقول : لا إله إلا الله ثم يفعل ما يناقضها زاعماً أنه بمجرد قوله أصبح في مأمن من الشرك بالله تبارك وتعالى ومن الكفر ، وهناك آخرون يظنون أنهم إذا قالوا كلمة التوحيد واعتقدوها وعملوا بالمعاصي فإن ذلك لا يضرهم ، يعني أنهم إذا لم ينقضوا كلمة التوحيد ولكن عملوا بالمعاصي التي تخرج من الإسلام فإن ذلك لا يضرهم ، متمسكين ببعض الأحاديث التي تدل على أن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : (( من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة )) ومنها أيضاً : قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه : (( حق العباد على أن لا يعذب من مات لا يشرك به شيئاً ))(2/207)
وفي حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه : (( فإن الله حرم على النار من قال : " لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) وهما حديثنا صحيحان في الصحيحين وغيرهما . وقد أجاب أهل العلم على هذا الأمر – وهو حكم ذلك الذي ينطقها ثم يفعل ما يناقضها – بأمور منها : أن من المقطوع به في دين المسلمين أنه ليس كل قائل يقول : لا إله إلا الله يعتبر من أهل النجاة والسلامة من الشرك فإن المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : لا إله إلا الله وهم في باطن الأمر مشركون بالله جل وعلا كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله ، قال الله تعالى : (( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا)) (النساء:145) (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) (المنافقون:1) .
شروط لا إله إلا الله :
إذا تبين أنه قد يقول كلمة التوحيد من هو في نفس الأمر مشرك يبطن الكفر ويظهر الإسلام فإن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أن لكلمة التوحيد شروطاً لا بد من توافرها في الناطق بها ليكون من أهل النجاة عند الله عز وجل وذكر أهل العلم أنها سبعة شروط :
أولها : العلم بمعناها نفيا وإثباتاً ، أي : العلم المنافي للجهل بالمعنى الذي دلت عليه ، ولذلك قال الله تعالى : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )) (محمد: من الآية19) وقال سبحانه : (( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) (الزخرف: من الآية86) إذاً لا بد من علم ، أما أن يقول الشخص وهو لا يدري فإنه لا يكون بذلك ناجياً ، ولا يكون بذلك مسلماً ولو أن شخصاً أعجمياً كافراً نصرانياً أو يهودياً أو مجوسياً أو غير ذلك سمع رجلاً يقول : لا إله إلا الله بالعربية فقالها مثله لم يكن بذلك مسلماً حتى يعلم معناها ويعتقد ويعمل بمقتضاها وقول الله تعالى : : (( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) فسرها ابن عباس – رضي الله عنهما – بقوله : إلا من شهد بالحق يعني بـ " لا إله إلا الله " وهم يعلمون ، أي : يعلمون ما دلت عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ))
والجهل بمعناها هو الذي أوقع كثيراً من الناس في الشرك حيث جهلوا معنى لا إله إلا الله ، فجهلوا معنى الإله وأن الإله هو المعبود وجهلوا مدلول النفي ومدلول الإثبات بعكس المشركين السابقين ، أبي جهل وأبي لهب وغيرهما ، حيث كانوا يعرفون معناها فرفضوا لما قالها لهم النبي صلى الله عليه وسلم قولوا له " (( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) (صّ:5) وقال بعضهم لبعض : (( أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)) (صّ: من الآية6) إذ أولئك القوم عرفوا معنى كلمة لا إله إلا الله فرفضوا وأبوها ، أما هؤلاء فإنهم جهلوا معناها فعبدوا القبور وعكفوا عليها ونذروا لأهلها وذبحوا لهم ودعوهم من دون الله تبارك الله وتعالى فكانوا خارجين بذلك عن معنى كلمة التوحيد.
الشرط الثاني : أن يقولها الشخص بيقين فيستيقن قلبه بها ويعتقد صحة ما يقوله : وضد اليقين الشك والريب والتوقف والظن قال الله تعالى : ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)) (الحجرات: من الآية15) .
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ))
وقال تعالى عن المنافقين : (( وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) (التوبة: من الآية45))
فمن قالها وهو شاك في صحتها كان بذلك كافراً – نسأل الله العافية والسلامة – لأن الإيمان جزم .
الشرط الثالث :
أن يقولها قابلاً لها ، والقبول ينافي الرد فلا يرد شيئاً من معانيها ، فقد يعلم معنى الشهادتين ، وقد يوقن بمدلولهما لكنه يردهما كبراً وحسداً ، وذلك كأحبار اليهود الذين قال الله عز وجل فيهم : (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)) (البقرة: من الآية109) .
وكذلك زعماء المشركين كانوا يعرفون معنى لا إله إلا الله ويعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك استكبروا عن قبول الحق والهدى ، قال الله تعالى عنهم : (( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ)) (الصافات:35) وقال تعالى : (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) (الأنعام: من الآية33) .(2/208)
ومثل هؤلاء من يعلم بمعنى لا إله إلا الله في هذا الزمن ويعتقد صحتها ولكنه لا يقبلها بل يردها ويرفضها .
الشرط الرابع : أن ينقاد لها ويستسلم ويذعن ، وقد فرق بعض أهل العلم بين القبول والانقياد ، بأن القبول يكون بالأقوال والانقياد يكون بالأفعال ، قال الله تعالى : (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )) (النساء: من الآية125) وقال تعالى : (( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)) (لقمان: من الآية22) .
فقد يوجد من يقول : لا إله إلا الله ولكنه يأبى الانقياد لما دلت عليه بأن يكون الحكم لله وحده، وأن يكون التشريع حقاً لله وحده فيجعل التشريع حقاً للأمة ، ويجعل الأمة مصدر السلطات ، فيجعل التشريع حقاً للبرلمان أو لغيره .
الشرط الخامس : أن يقولها الشخص بصدق ، والصدق مضاد للكذب ، فأما من قالها كاذباً فإنها لا تنفعه ، والذي يقولها كاذباً هو المنافق ، فعلى المسلم أن يقولها بصدق يريد به وجه الله تعالى ، قال : (( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) (العنكبوت: من الآية3) وقال سبحانه وتعالى : (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) (الزمر:33) قال ابن عباس رضي الله عنهما " من جاء بلا إله إلا الله "
أما المنافقون فإنهم كانوا يقولونها ولكنهم في باطن الأمر يكذبون بها ، قال تعالى : (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) (المنافقون:1) . لقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره سورة " المنافقون " أن عبد الله بن أبي ابن سلول – وهو رأس النفاق – كان يقوم كل جمعة قبل خطبة النبي صلى الله عليه وسلم فيخطب في الناس ، يتكلم فيقول : ( أيها الناس إن الله قد أكرمكم ببعثة هذا النبي فاسمعوا له وأطيعوا ) .
هذا هو رأس النفاق ، فلما جاء يوم أحد وانخذل بثلث الجيش ، قال بعدها وأراد أن يقول هذا الكلام فجبذه المسلمون وردوه وقالوا اجلس يا خبيث ، يعني ظهر ما يبطنه هذا الرجل المنافق ، ولذلك فإن كثيرين يقولون لا إله إلا الله بألسنتهم ولكن تأبى قولوبهم أن تنقاد ، وهم يكذبون بها حقيقة وباطناً ، إما هم علمانيون ، أو منافقون ، أو غير ذلك من ملل الكفر وتيارات الإلحاد ، وإنما يولونها خوفاً من المسلمين ، وخوفاً من الفضيحة أو للترويج لأفكارهم الوضعية من زبالة أذهان الغربيين عند كثير من عوام المسلمين وجهالهم .
الشرط السادس : أن يقولها بإخلاص ، وضد الإخلاص الشرك قال تعالى : (( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (غافر:14) (( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ )) (الزمر: من الآية2 ، 3) وقد سأل أبو هريرة – رضي الله عنه – رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً : " من أسعد الناس بشفاعتك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( أسعد الناس بشفاعتي من قال : " لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )) .
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى : (( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )) .
والإخلاص أن تكون العبادة لله وحده دون أن يصرف منها شيئاً لغيره تعالى ، فهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك كبيره وصغيره ، ظاهره وخفيه ، وهذا يخرج المشركين الذين يقولون : لا إله إلا الله ولكنهم يطوفون بالقبور ويعبدونها ويقدسون أهلها ويرفعون ويعظمون مرتبة الألوهية .
الشرط السابع : المحبة المنافية لضدها من الكراهية والبغضاء فيقولها المسلم محباً لها محباً لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أما إن قالها وهو كاره لها مبغض لما دلت عليه ، مبغض لله أو لرسوله كان ذلك ناقضاً لكمة التوحيد قال الله تعالى : (( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )) (المائدة: من الآية54) وعن أنس – رضي الله عنه – قال : قال صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) الحديث
وقد جمع بعض أهل العلم هذه الشروط في بيت شعر فقال :
علم يقين وإخلاص وصدقك مع محبة وانقياد والقبول لها
وزاد بعض أهل العلم شروطاً – وهو الكفر – بما يعبد من دون الله مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم : (( من قال : لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه )) .
وعلى كل سواء أضفنا هذا الشرط أو حذفناه فإن الشروط السبعة تدل عليه بلا شك فمن قالها بعلم فمعنى أنه يعلم أنه لا يعبد أحد غير الله تبارك وتعالى : ويعلم أنه لا بد من الكفر بالطاغوت .، قال بعضهم :(2/209)
وزيد ثامنها الكفران منك بما سوى الإله من الأنداد قال ألها
وإذا تبين ذلك وعرفت هذه الشروط وما ذكر عليها من الأدلة تبين جواب ذلك السؤال وتبين أن من قال : لا إله إلا الله ثم عبد غير الله بدعاء أو ذبح أو نذر أن لم ينقد لحكم الله ورسوله وطبق القوانين الوضعية المستوردة من النصارى واليهود فهو مشرك بالله تبارك وتعالى الشرك الأكبر ، حيث قد نقض ما قال ، فلا يكون قوله نافعاً له ، والعلم عند الله تبارك وتعالى .
الرد على المرجئة القائلين لا يضر من الإيمان ذنب :
أما من زعم أنه بمجرد أن يقولها يكون محققاً بمعنى أن يقولها ولا ينقضها ثم بعد ذلك يفعل المعاصي والموبقات وينجو من العذاب ولو ترك الواجبات وفعل المعاصي محتجاً بالأحاديث السابقة فقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة متعددة منها : أن كلمة التوحيد سبب مقتض لدخول الجنة والنجاة من النار ، لكن لها شروط – أي النجاة – وهي الإتيان بالفرائض ولها موانع وهي الإتيان بالكبائر ، ولذلك قال الحسن البصري للفرزدق الشاعر لما لقيه في مقبرة فقال له يا أبا فراس ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال الفرزدق : لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة ، فقال الحسن : إن لـ " لا إله إلا الله " شروطاً فإياك وقذف المحصنات .
وروي عنه أنه قال : هذا العمود فأين الطنب ؟ وقيل له : إن ناساً يقولون : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ، فقال – رحمه الله – من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة وقيل لوهب بن منبه : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قالل : بلى ، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك .
وقال آخرون : كان هذا – أي الأحاديث السابقة في أن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة – كان قبل فرض الفرائض وقبل تشريع الحدود فلما فرضت الفرائض ونزلت الحدود أصبح ذلك إما منسوخاً أو أنه أنضم إلى لا إله إلا الله شروط وزيد عليها ، فأصبح ذلك فرضا على كل مسلم لا يكون ناجياً إلا به ، ومن نسب له هذا القول الإمام الزهري محمد بن شهاب الزهري والإمام سفيان الثوري – رحمها الله تبارك وتعالى – وقال آخرون من أهل العلم : إن هذه الأحاديث التي فيها أن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة نصوص مطلقة وأنها جاءت مقيدة بأن يقولها المسلم بصدق وإخلاص ، وإذا قالها بصدق وإخلاص فإن صدقه وإخلاصه يمنع الإقدام على المعصية ، فقولها بصدق تام وإخلاص تام يطهر القلب من كل الأدران والنجاسات التي هي الذنوب ويطهر القلب من الجرأة على مخالفة أمر الله ورسوله ، فيكون العبد بذلك مطيعاً لله تبارك وتعالى .
أما من قالها وركب المعاصي فصدقه ناقص وإخلاصه ناقص وهو متبع لهواه ، وهذا هو أصح الأقوال ، والعلم عند الله تبارك وتعالى .
ثم هاهنا أمر لا بد من الانتباه له وهو أن النصوص الشرعية أي : قول الله وقول رسوله لا يمكن أن تكون متناقضة أبداً ولا بد أن يجمع المسلم بينها ، ولا بد أيضاً من الإيمان بها جميعاً ، ولا بد أن يحمل متشابهها على محكمها ، ومجملها على مفصلها ، ومنشأ خطأ الخوارج والمعتزلة أنهم أخذوا نصوص الوعيد دون نصوص الوعد .
ومنشأ خطأ المرجئة أنهم بالعكس وهدى الله عز وجل أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله عز وجل يهدي ما يشاء إلى صراط مستقيم .
فقد تواترت النصوص على أن بعض أهل التوحيد يدخلون النار ثم بعد ذلك يخرجون منها .
ويجب الإيمان بهذه النصوص والاعتقاد بمدلولها وأن أهل الكبائر من المسلمين تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عفا عنهم وغفر لهم بواسع فضله ورحمته ، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم في النار ، ولكن لا بد أن يدخلوا الجنة في يوم من الأيام .
المخالفون لكمة التوحيد :
وإذا تبين لنا معنى كلمة التوحيد كلمة لا إله إلا الله ، فإن لـ " لا إله إلا الله " أعداء ولها مخالفون ، يعني لمدلولها مخالفون وله من الأصل أعداء ، فأما المخالفون فهم كثر ومنهم المرجئة الذين يقولون إن من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ولو فعل ما فعل ، فسهلوا فعل الكبائر على المسلمين وزعموا أن الإيمان في القلب وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، وكان ذلك أمراً خطيراً على الأمة سبب فيها انحرافاً عظيماً وسبب بعد ذلك ضعفاً في الإيمان ، وهؤلاء المرجئة منتشرون في كثير من بلاد المسلمين ، يهونون المعصية ويسهلون أمرها ، نجد أحدهم يقول – إذا نُصِح أو حُذِّر من مخالفة – الإيمان في القلب والمهم الضمير .
نعم القلب هم الأهم بلا شك ، (( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) .(2/210)
كما قال صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا صح القلب صلحت الجوارح وصلح السلوك وصلح الخلق وصلحت العبادة ، أما أن يوجد الإيمان في القلب ولا توجد عبادة ولا سلوك فهذه أمنية وليست بصحيحة ، إنما هي حيلة شيطانية وإن تأثير أصحاب الفكر الإرجائي على المسلمين تأثير عظيم حتى سهلوا على بعض الناس أن يرتكب بعض المكفرات زاعمين أن ذلك لا يتعارض مع الإيمان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ومن المخالفين لها أيضاً الذي كان لهم أثر بالغ السوء في الأمة أهل الكلام من الأشعرية و الماتردية وغيرهم الذين زعموا أن معنى لا إله إلا الله أنه لا خالق إلا الله ولا مبدع ولا قادر على الاختراع إلا الله ففسروها بالربوبية فعندهم أن من قال : لا إله إلا الله معتقداً أنه لا خالق إلا الله ولا مبدع إلا الله فقد كمل توحيده ، فإذا فعل ما يناقض الألوهية فلا يضره ذلك عند كثر منهم ، وهذا سبب الخطأ عند كثير من الناس حتى أن بعضهم ينسب إلى العلم فيعبدون القبور أو يقرون من عبدها أو يسكتون عليها زاعمين أن هؤلاء مؤمنين وموحدين ، لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ، وإذا سألتهم من الخالق ؟ قالوا : الله فهم إذا مؤمنون ، وقد سبق معنا أن بينا أن هذا لم يكن يخالف فيه لا أبو جهل ولا أبو لهب ولا غيرهم ، وأن الرسل إنما أرسلوا ليعبد الله وحده لا شريك له (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) (النحل: من الآية36).
ومن المخالفين أيضاً لكلمة التوحيد ، كلمة لا إله إلا : المتصوفة الغلاة الذين كانوا سبباً من أسباب الضلال قطاع كبير من المنتسبين للقبلة فهؤلاء الغلاة هم الذين زينوا للناس التوسل بالصالحين والتشفع بهم والعكوف عند قبورهم والتقرب لهم والتمسح بهم وبالقبور ودعائهم وزعموا أن ذلك إنما هو تعظيم للصالحين ، وتعظيم للأنبياء وأنهم يشفعون عند الله وهذا هو نفس شرك أهل الجاهلية الأولى التي عاصرت النبي صلى الله عليه وسلم .
وهؤلاء في واقع الأمر مناقضون لكلمة التوحيد وليسوا مخالفين فقط ومثلهم الروافض الذين أشد الناس تعلقاً بالقبور وبالمقبورين وخاصة من أئمتهم الذين يقدسونهم ، ولهذا تجد الرافضة يعتقدون أن زيارة قبور أئمتهم أعظم من زيارة الكعبة والبيت وتجد أنهم يؤلفون الكتب في طريقة الزيارة لهم حتى أن بعضهم ألف كتاباً في شعائر الحج إلى المشاهد فسماها حجاً ، محادة لله وللرسول .
ومن المناقضين لكلمة التوحيد العلمانيون والمنافقون الذين يتربصون بالإسلام وهم يريدون هدمه من الداخل يؤلفون المؤلفات ويكتبون المقالات التي تدعو إلى تحكيم القوانين وإلى الرجوع إليها وإلى تحسين اللادينية والعلمانية وإلى الطعن في دين الله تبارك وتعالى أو في رسوله صلى الله عليه وسلم أو في آياته سبحانه والتشنيع على أهل الإيمان ونبزهم بشتى الأوصاف وهم لا يقصدون الذوات إنما يقصدون المبادئ التي يعتنقها أهل الإيمان ، وإلا فإن الذوات تأتي وتذهب ، والذوات كثيرة ومن المعلوم أن سخصاً لا يحارب شخصاً بمجرد ذاته ولكن يحاربه لأمور أخرى خارجة عن تلك الذات إما المعتقدات أو غيرها .
واقع الأمة مع كلمة التوحيد :
إن واقع الأمة مع " لا إله إلا الله " واقع مؤسف فقليل من الناس هم الذين يعلمون معناها ويعملون بمقتضاها ، والقطاع الأكبر من أمة الإسلام مفرطون في معنى كلمة التوحيد وفي معرفتها وجاهلون بمقتضاها وذلك إما يفعلون ما يناقضها أو يفعلون ما ينقصها ويضعفها في القلب ، ولذا فإن واجب المسلمين في كل مكان أن يعملوا على نشر كلمة التوحيد وعلى بيانها وعلى تصحيح المفهوم الخاطئ لها وبيان أنها كلمة عامة شاملة في الاعتقادات وفي المعاملات وفي العبادات وفي الأخلاق وفي الهدى وفي السلوك وفي السياسات وفي الحكم والاقتصاد والتعليم والتربية والاجتماع والإعلام وفي كل شيء فإنها عامة شاملة لكل قطاع ، فمن كان مسلماً فعليه أن يخضع لله وحده : (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) (البقرة: من الآية85) .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – كلام عظيم متين أختم به هذا الكلام المبارك في بيان معنى كلمة لا إله إلا الله وشموليتها ، وذلك لأن الحاجة ماسة لتصحيح مفاهيم المسلمين وأولها مفهوم التوحيد ، مفهوم كلمة " لا إله إلا الله " وذلك لإعادة إحياء الهوية الإسلامية النقية الصافية التي تتأثر بالكافرين ، لا من النصارى ولا من اليهود ولا من غيرهم .(2/211)
يقول شيخ الإسلام – في الرسالة التدمرية – " فرأس الإسلام مطلقاً شهادة أن لا إله إلا الله ، بها بعثت الله جميع الرسل " وقال – رحمه الله – في مجموع الفتاوى : جميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وهذا هو دين الله أنزل به كتبه وأرسل به رسله وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين غيره .
(( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ)) (آل عمران: من الآية19) .
(( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85) ويقول أيضاً – في اقتضاء الصراط المستقيم – يقول الله تعالى : (( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) (الكهف: من الآية110) .
وقد كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – يقول في دعائه : (اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحد فيه شيئاً ) إلى أن قال رحمه الله : هذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين واللتين هما رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله ، فإن شهادة لله بأنه لا إله إلا هو تتضمن إخلاص الألوهية له ، فلا يجوز أن يتأله القلب غيره بحب ولا خوف ولا رجاء ولا إجلال ولا إكبار ، ولا رغبة ولا رهبة بل لا بد أن يكون الدين كله لله ، فإن كان بعض الدين لله وبعضه لغيره كان في ذلك من لشرك بحسبه . إلى أن يقول : والشهادة بأن محمداً رسول الله تتضمن تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر، فما أثبته وجب إثباته وما نفاه وجب نفيه ، كما يجب على الخلق أن يثبتوا لله ما أثبته الرسول لربه من الأسماء والصفات وينفون عنه ما نفاه من مماثلة المخلوقات ..إلى أن يقول : وعليهم أن يفعلوا ما أمرهم الله به وأن ينتهوا عما نهاهم عنه ويحللوا ما أحله ويحرموا ما حرمه ، فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله .
ولهذا ذم الله المشركين في سورة الأنعام والأعراف ، وغيرهما لكونهم حرموا ما لم يحرمه الله ولكونهم شرعوا ديناً لم يأذن به الله ... إلى أن قال فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك ومن دعا إلى الله بغير إذنه يعني بشرع مبتدع فقد ابتدع ، والشرك بدعة والمبتدع يؤول إلى الشرك إلى أن قال : ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى : ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة:31) قال : وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم قال تعالى : ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة:29) . فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله ولا يدينون دين الحق .
والمؤمنون صدقوا الرسول فما أخبر به عن الله وعن اليوم الآخر فآمنوا بالله واليوم الآخر وأطاعوه فيما أمر ونهى وحلل وحرم فحرموا ما حرم الله ورسوله ودانوا دين الحق ، فإن الله بعث الرسول يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فأمرهم بكل معروف ونهاهم عن كل منكر وأحل لهم كل طيب وحرم عليهم كل خبيث .
وقال : أيضاً : ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد ويتضمن الإخلاص من قوله تعالى : ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ)) (الزمر: من الآية29) .
فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده وترك الاستسلام لما سواه ، وهذا حقيقة قولنا : لا إله إلا الله فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك والله لا يغفر أن يشرك به ومن لم يستسلم لله فهو مستكبر عن عبادته ، وقد قال الله تعالى : ((إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ))(غافر: من الآية60) أ. هـ
كلامه رحمه الله وأحب أن أقول : إن الله تعالى قال في كتابه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)) (البقرة: من الآية208) .
ومعنى الاستسلام هنا يعني الإسلام ، يعني ادخلوا في الإسلام كله جملة وتفصيلاً لا تفرقوا فيه بين شيء وشيء وأختم هذا الحديث فأقول : إن الشيخ العلامة محمد قطب قد ألف كتاباً عن كلمة " لا إله إلا الله " بين فيه مفهومها وهو آخر كتبه ، يجدر بالمسلم أن يرجع إليه وأن يقرأه ، فإنه كتاب قيم .(2/212)
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا العلم الصحيح بكلمة " لا إله إلا الله " وأن يوفقنا للعمل بمقتضاها وأن يجعلنا من الداعين إليها المجاهدين من أجلها ، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال الأمة وأن يردها رداً جميلاً وأن يهيأ لها من أمرها رشداً وأن ييسر تصحيح جميع المفاهيم عند الأمة وخاصة مفهوم كلمة التوحيد كلمة " لا إله إلا الله " وأسأله سبحانه وهو القوي العزيز والواحد القهار أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته وأن يعز أولياءه المؤمنين ويمكن لهم في الأرض ، وأن يذل أعداءه أعداء الدين وأن يخذلهم ويرينا فيهم عجائب قدرته . اللهم اشدد عليهم وطأتك وارفع عنهم عافيتك ، اللهم حل بينهم وبين ما يشتهون وأرهم في المؤمنين ما يحذرون إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ...
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعل آله وصحبه وسلم أجمعين .
والحمد لله رب العالمين .
===========
وبضدها تتميز الأشياء
من سمات علماء الآخرة وعلماء السوء، ووصف أهل العلم لهم
تتجلى قدرة الله عز وجل في كل شيء من مخلوقاته، من ذلك قدرته سبحانه على خلق المتضادات المتقابلات، فقد خلق الله محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأطهرهم، وخلق إبليسَ أخبث الذوات وشرها، وخلق الليلَ والنهارَ، والداءَ والدواءَ، والموتَ والحياةَ، والشرَّ والخيرَ، والقبيحَ والحسنَ، وخلق علماءَ السوء في مقابل علماء الآخرة.
فلولا وجود أمثال بلعام بن باعوراء، وبشر المريسي، وابن أبي دؤاد، ومن شاكلهم، عليهم من الله ما يستحقون، ما عرفنا فضل الإمام أحمد، وبشر الحافي، وابن أبي العز، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثالهم من علماء الآخرة الأطهار الأبرار، فبضدها تتميز الأشياء، فلولا موقف ابن أبي دؤاد الخبيث، وبشر المريسي الخسيس، لما استبان صدق وثبات أحمد بن حنبل، وأحمد بن نصر، وأبي نعيم من المخلصين الأخيار، فسبحان من لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى.
أهم سمات وخصائص علماء الآخرة ... أهم سمات وخصائص علماء السوء
1. الخشية والخوف من الله عز وجل: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، فهذه أولى صفات علماء الآخرة، وهي الفارق بينهم وبين علماء السوء. ... 1. عدم الخشية والخوف من الله، بل التجرؤ على حدوده، فمن لم يخش الله فليس بعالم، مهما حوى من العلم.
2. يؤمنون بالمحكم من القرآن وهو جله، وبالمتشابه من غير اتباع له، قال الله في مدحهم:" هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب". ... 2. يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله".
3. بيان العلم وتوضيحه، وبذله للخاص والعام، كيف يروون ما صحَّ عن رسولهم صلى الله عليه وسلم: "من سُئِل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة"، ثم لا يبينون. ... 3. كتمان العلم، ولهذا ذمَّ الله أحبار السوء من اليهود: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون".
وقال: "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون".
4. يؤثرون الآخرة على الفانية. ... 4. يؤثرون الدنيا على الآخرة، يصدق عليهم قوله تعالى: "بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى".
5. الزهد، والتقلل من الدنيا، اقتداء بنبيهم واتباعاً لسير أسلافهم. ... 5. التلبس والاشتغال بنعيم الدنيا الفاني.
6. عدم الدخول على الحكام وأخذ عطاياهم، ومن دخل منهم كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر شافعاً لإخوانه المسلمين. ... 6. كثرة الدخول والتزلف إلى الحكام من غير قيام بواجب.
7. الاشتغال بالعلم النافع. ... 7. الاشتغال بالجدل والخصومات والتوسع في العلوم الفارغات.
8. اتقاء الشبه، والمعاصي، والبدع المحدثات. ... 8. الانغماس في الشبه والمعاصي وعدم التورع من البدع.
9. موافقة أعمالهم لأقوالهم، فهم يدعون الناس بأعمالهم قبل أن يدعوهم بأقوالهم. ... 9. يخالف عملهم قولهم، فأقوالهم تدعو إلى الدين، وأفعالهم تنفِّر منه.
10.يحذرون الشذوذ من الأقوال، ورخص وزلات العلماء. ... 10.ليس لهم شغل إلا البحث والتفتيش عن الزلات، والأخذ بالرخص والهفوات.
11.التواضع ولين الجانب. ... 11.الاستكبار والتعالي.
12.الاشتغال بالأمر والنهي والمناصحة. ... 12.المداهنة والمنافقة.
13.يعلمون الأدب والسلوك بجانب العلم. ... 13.لا يُعنون بذلك.
ما ورد في علماء الآخرة وعلماء الدنيا ـ السوء ـ من الآثار(2/213)
لقد وردت آيات كثيرة، وأحاديث وفيرة، وآثار غزيرة في وصف هذين النوعين، وبيان ما يمتاز به كل فريق منهم، سنذكر طرفاً منها:
من القرآن
بجانب ما سبق:
1. "وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم".
2. "وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثيرٌ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين".
3. "فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثلما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يُلقاها إلا الصابرون".
4. "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالِمين".
من السنة
1. "خيرُكم من تعلم القرآنَ وعلمه".
2. "لا حسد إلا في اثنتين"، وذكر منهما: "ورجل آتاه الله الحكمة وهو يقضي بها".
3. "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، وتماروا به السفهاء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك فهو في النار".
4. "العلم علمان، علم اللسان فذلك حجة لله تعالى على خلقه، وعلم في القلب فذلك العلم النافع".
من الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم
1. قال عليّ رضي الله عنه في حديث الطويل: "الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكو على الإنفاق، والمال ينقصه الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، منفعة المال تزول بزواله، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء أحياء باقون ما بقي الدهر؛ ثم تنفس الصعداء وقال: هاه، إن هاهنا علماً جماً، لو وجدتُ له حملة، بل أجدُ طالباً غير مأمون، يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا، ويستطيل بنعم الله على أوليائه، ويستظهر بحجته على خلقه، أومنقاداً لأهل الحق لكن ينزرع الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا بصيرة له، لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً باللذات سلس القياد في طلب الشهوات، أومغرى بجمع الأموال والادخار، منقاداً لهواه، أقرب شبهاً بهم البهائم السائمة، اللهم هكذا يموت العلم إذا مات حاملوه، ثم لا تخلوا الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهر مكشوف، وإما خائف مقهور، لكيلا تبطل حجج الله تعالى وبيناته، وكم وأين أولئك؟ هم الأقلون عدداً، الأعظمون قدراً، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، يحفظ الله تعالى بهم حجة، حتى يودعها من وراءهم، ويزرعونها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنِسوا بما استوحش منه الغافلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك أولياء الله عز وجل من خلقه، وأمناؤه وعماله في أرضه، والدعاة إلى دينه؛ وقال: واشوقاه إلى رؤيتهم".
هذا الذي ذكره أخيراً هو وصف علماء الآخرة.
2. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب، فلا ينفع بالعلم يومئذ عالمه ولا متعلمه، فتلون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح، ينزل عليها قطر السماء، فلا يوجد لها عذوبة، وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة، ويطفئ مصابيح الهدى من قلوبهم، فيخبرك عالمهم حتى تلقاه أنه يخشى الله بلسانه، والفجور ظاهر في عمله، فما أخصب الألسن يومئذ، وما أجدب القلوب! فوالله الذي لا إله إلا هو ما ذلك إلا لأن المعلمين علموا لغير الله تعالى، والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى".
3. وقال حذيفة رضي الله عنه: "إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك، وسيأتي زمان من عمل فيه بعشرما يعلم نجا، وذلك لكثرة البطالين".
4. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في وصف علماء الآخرة والدنيا يرفعه، والصحيح وقفه عليه: "علماء هذه الأمة رجلان: رجل آتاه علماً فبذله للناس، ولم يأخذ عليه طمعاً، ولم يشتر به ثمناً، فذلك يصلي عليه طير السماء، وحيتان الماء، ودواب الأرض، والكرام الكاتبون، يقدم على الله عز وجل يوم القيامة سيداً شريفاً، حتى يوافق المرسلين، ورجل آتاه الله علماً في الدنيا فضنَّ به على عباد الله، وأخذ عليه طمعاً، واشترى به ثمناً، فذلك يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار، ينادي منادٍ على رؤوس الخلائق: هذا فلان ابن فلان، آتاه الله علماً في الدنيا، فضنَّ به على عباده، وأخذ به طمعاً، واشترى به ثمناً، فيعذب حتى يفرغ من حساب الناس".
5. وقال الحسن البصري رحمه الله: "عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا".(2/214)
6. وقال الحافظ الذهبي رحمه الله معدداً أصناف العلماء ودرجاتهم، معلقاً على ما قاله هشام الدَّستُوائي: "واله ما أستطيع أن أقول إني ذهبتُ يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل": (قلت ـ أي الذهبي ـ: ولا أنا، فقد كان السلف:
أ. يطلبون العلم لله فنبُلوا، وصاروا أئمة يُقتدى بهم.
ب. وطلبه قوم منهم أولاً، لا لله، وحصَّلوه، ثم استفاقوا، وحاسبوا أنفسهم، فجرَّهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعدُ؛ وبعضُهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله؛ فهذا أيضاً حسن، ثم نشروه بنية صالحة.
ج. وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا، وليُثنى عليهم، فلهم ما نووا، قال عليه السلام: "من غزا ينوي عِقالاً فله ما نوى"، وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى.
د. وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب، فظلموا، وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش، فتباً لهم، فما هؤلاء بعلماء.
ه . وبعضُهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار.
و . وبعضهم وضع الأحاديث فهتكه الله وذهب علمه، وصار زاده إلى النار.
وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً، وتضلعوا منه في الجملة.
ز. فخلف من بعدهم خَلْف بان نقصهم في العلم والعمل.
ح. وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر، ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير، أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يَدُر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله، لأنهم ما رأوا شيخاً يُقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رعاعاً، غاية المدرِّس منهم أن يحصل كتباً مثمنة يخزنها وينظر فيها يوماً ما، فيصحف ما يورده، ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو، كما قال بعضهم: ما أنا بعالم ولا رأيت عالماً).
7. وقال يحيى بن معاذ رحمه الله في وصف علماء الدنيا: (يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية، وأثوابكم ظاهرية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين الشريعة المحمدية؟).
8. وقال ابن المبارك في علماء السوء:
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ ويورثُ الذلَّ إدمانُها
وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ وخيرٌ لنفسِك عصيانُها
وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها
9. ولله در القائل في وصف علماء الدنيا:
عجبتُ لمبتاع الضلالة بالهدى ومن يشتري دنياه بالدين أعجبُ
وأعجبُ من هذين من باعَ دينَه بدنيا سواه فهو من هذين أعجبُ
10. وقيل في علماء السوء كذلك:
يا واعظَ الناسِ قد أصبحتَ متهماً إذ عبتَ منهم أموراً أنتَ تأتيها
أصبحتَ تنصحُهم بالوعظ مجتهداً فالموبقات لعمري أنت جانيها
تعيبُ دنيا وناساً راغبين لها وأنتَ أكثرُ منهم رغبة فيها
*************************
الفهرس العام
الموضوع ... الصفحة
الباب الثاني - ركن الذكرى ... 1
تحذير المصلين من خطر القصَّاص والمذكِّرين ... 1
لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت ... 5
المساجد هي بيوت الله في الأرض فاعرفوا لها قدرها ... 8
أيها المسلمون "اتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة" ... 12
الدِّينُ رأسُ المالِ فاستمسِكْ به ** فضياعُه من أعظمِ الخُسْران ... 15
أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرِّق الجماعات ... 16
احذر أخي المسلم اجتماع سكرة الموت مع حسرة الفوت ... 21
ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ... 25
اجتماع الجيوش القرآنية على تجريم الولايات المتحدة الصليبية ... 37
الجليس الصالح ... 45
حسن الخاتمة وسائلها وعلاماتها والتحذير من سوء الخاتمة ... 59
لا تأمن أخي المسلم مكر الله ... 69
رسالة إلى مسؤول وتاجر ... 73
وسائل الثبات وأسبابه ... 75
التسويف ... 88(2/215)
الدين النصيحة (3)
***************
الباب الخامس - ركن الأسرة
حكم نقش الحناء وتطريفها
لقد أجاز الشارع الحكيم للمرأة المسلمة أن تتزين لزوجها إن كان حاضراً غير غائب، شريطة أن لا تتزين بما نهى الشارع عنه، أوبما فيه تشبه بالرجال، أوتشبه وتقليد للكافرات.
من ذلك فقد أبيح لها أن تخضب كفيها وقدميها، على أن تغمسها غمساً من غير نقش ولا تطريف، حيث ورد النهي عن ذلك عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وعن عالمين كبيرين من علماء الصحابة، وهما عمر وعائشة رضي الله عنهما، وعن إمامين من الأئمة المقتدى بهم، وهما أحمد بن حنبل وإبراهيم الحربي رحمهما الله.
أما صاحب الشريعة فقد روى عنه صاحبه وخادمه أنس كما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله: "أنه أمر في الخضاب بأن تغمس اليد كلها".
أما عمر رضي الله عنه فقد روى عنه المروذي في "الورع": (أنه نهى عن النقش والتطريف، زاد في رواية: ويختضبن غمساً).
وروى المروذي كذلك عن عائشة رضي الله عنها: "أنها سئلت عن الخضاب، فقالت: لا بأس، ما لم يكن نقشاً"، ولا ينبئك مثل خبير.
وقال المروذي كذلك: (وأخبرتني امرأة قالت: نهاني أبو عبد الله عن النقش في الخضاب، وقال: اغمسي اليد كلها).
وعن إبراهيم الحربي قال: (يكره النقش، ورخص في الغمسة).
قال ابن مفلح: (ويستحب للمرأة المتزوجة الخضاب مع حضور زوجها، ويكره النقش، قال ابن حمدان: والتكتيب ونحوه، والتطريف.
فأما الخضاب للرجل فيتوجه إباحته مع الحاجة، ومع عدمها يخرَّج على مسألة تشبه رجل بامرأة في لباس وغيره).
وقال الونشريسي المالكي في "المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقيا والأندلس والمغرب": (فتزويق الحناء جائز عند مالك، وكرهه عمر، وقال: إنما تخضب يديها أوتدع.
إلى أن قال:
وكذا قال في "المحكم"، وروي عن عمر إنكار ذلك، قال: إما تخضب يدها أوتدع، وأنكر مالك هذا على عمر).
نقول لمالك رحمه الله ما قاله هو ووفق فيه أيما توفيق: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ ما من إنسان إلا وهو راد ومردود عليه.
ليس كل خلاف يستراح له ويعمل به، إلا الخلاف القائم على الدليل، وحيث لا دليل لمالك، سيما وقد ورد النهي عن ذلك عن سيد الخلق، وعن عمر، وعائشة وقولها يقدم على قول الرجال لأن هذه من الأمور التي تخص النساء، بجانب ما روي عن أحمد، وإبراهيم الحربي، وغيرهما من أئمة الفتوى.
مما يؤيد هذا النهي في هذا العصر خاصة ما يأتي:
1. التشبه بالكافرات، حيث ألفت في ذلك "كتلوجات"، وكتب، ورسومات.
2. إمعاناً في الترف، فقد أصبح التطريف مهنة تحترفها بعض النساء، ولا يحل الاكتساب عن طريقها.
3. ممارسة بعض من لا خلاق لهم من الرجال والصبيان لذلك، وهذا من أحرم الحرام.
4. إبداء كثير من النساء لهذه الأطراف المزوقة والمنقوشة، وفي ذلك فتنة وفساد كبير للمجتمع.
وعليه فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تتزين بذلك، للنهي الوارد، ولتلك الأسباب السابقة ولغيرها، ولتعلم النساء أن في الحلال الطيب من الزينة غنى وكفاية عن الحرام والمشبوه.
فالحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثاً ولم يتركهم سدى، بل أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وكفاهم بشرعه الذي ختمه بشرع خاتم الأنبياء وسيد الرسل محمد بن عبد الله، الذي لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن دل أمته على كل خير يقربهم إلى الجنة، وحذرهم من كل شر يباعد بينهم وبين غضبه والنار.
ورضي الله عن سلمان ابن الإسلام حين قال: "لقد علمنا رسولنا كل شيء حتى آداب الخراءة وقضاء الحاجة"، أوكما قال، علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
وقد أمر العامة بسؤال الخاصة، فلا ينبغي للعامة أن يستنكفوا عن سؤال الخاصة، ويجب على الخاصة أن يبادروا بالبيان والتوضيح قبل فوات الأوان، وليحذروا مسلك أعداء الرحمن اليهود، الذين كتموا العلم، وخانوا الأمانة، فالله عز وجل ليس بينه وبين أحد نسب إلا الإيمان والتقوى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على سيد الغر المحجلين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين الطيبين.
=================00
أيها المسلمون تداركوا معقلكم الأخير
اتفاقية "سيداو" وخطرها على الأسرة وفقهها في الإسلام(3/1)
الكفار بقيادة أمريكا وأذنابها من الدول الأوربية يودون أن يسيطروا ويهيمنوا على العالم اجتماعياً، بعد أن سيطروا عليه اقتصادياً، وعسكرياً، وسياسياً، وإعلامياً، متخذين منظمات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وهيئة الصحة العالمية الهزيلة الضعيفة، والمنظمات الكنسية الأخرى، مظلات لتحقيق أغراضهم ومآربهم، وبث أحقادهم ضد الإسلام والمسلمين على وجه الخصوص، تحت شعارات ومصطلحات براقة، خادعة، كاذبة: حقوق الإنسان، ومحاربة الإرهاب، والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل – كما يزعمون – التي خدعوا بها السذج والمغفلين من المنتسبين إلى الإسلام، مستغلين في ذلك ومسخرين عملاءهم وجواسيسهم من الشيوعيين والمنافقين، قوام طابورهم الخامس في العالم، متخذين من المؤتمرات، والندوات، والمنظمات الكنسية، وسيلة لتحقيق هذه الأغراض الخبيثة التي ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب والدمار.
في مقدمة هذه الأمور معقل من معاقل الإسلام، وعروة من عراه، لم يتمكنوا من نقضها بالكلية كما نقضوا سابقاتها بعد، هذا المعقل هو الأسرة المسلمة: الأمهات، والأطفال، وفقهها الذي كان بمعزل من كيدهم ومؤامراتهم حيناً من الدهر، حيث كانت دائرة الأحوال الشخصية "فقه الأسرة"، هي الدائرة الوحيدة التي يحكم فيها شرع الله.
من أجل ذلك كثفوا عقد المؤتمرات والندوات: مؤتمر نيويورك، القاهرة، الذي توِّج بمؤتمر بكين بالصين، الذي نتج عنه اتفاقية "سيداو" المشؤومة، القائمة على أنقاض فقه الأسرة في الإسلام، حيث نقضت بنودها المتسترة في قضية القضاء على التمييز ضد المرأة، ورفع الظلم عنها، وإزالة كل أشكال التمييز بينها وبين الرجل، ضاربين عرض الحائط بالفروق الخلْقية، والنفسية، والشرعية، بين الرجل والمرأة، التي أقرها ربنا على لسان المرأة الصالحة والدة مريم: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى"، ورادين لقول الله عز وجل: "وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ".
ثم سعوا لحمل كل الدول الإسلامية لقبول بنود هذه الاتفاقية، والعمل على تنفيذها فوراً.
الحامل للكفار للإقدام على هذا العمل الإجرامي الكبير أسباب، منها:
1. الحسد، فطالما أن الأسرة تفككت في أمريكا وأوربا فلماذا تبقى الأسرة المسلمة بمنأى عن ذلك؟
2. الحقد الدفين ضد الإسلام والمسلمين، الذي تبديه ألسنتهم أحياناً، وما تخفي صدورهم أكبر وأكبر.
3. انفراد أمريكا بالسيطرة والهيمنة على كل العالم، بعد أن قضت على النمر الورقي – روسيا، حيث أضحت هي وصنائعها من الشيوعيين يدورون في فلكها، وتحولوا بقدرة قادر إلى موالاة الإمبريالية من غير حياء ولا خجل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
حيث لم يبق أمامهم سوى الإسلام السني فقط، أما الزبد فيذهب جفاء، فلابد من دحره حتى يسهل لهم قياد العالم، وأنى لهم ذلك؟ خاب فألهم وكذبت نبوءتهم.
زعم الفرزدق أن سيقتل مِرْبَعاً فاهنأ بطول سلامة يا مِرْبَع
4. استكانة حكام المسلمين، وخضوعهم للهيمنة الأمريكية، وتنفيذهم مخططاتها، جرَّأ الكفار على الاستمرار في حربهم الصليبية على الإسلام والمسلمين في كل المسارات.
ومن العجيب أن نجد بعض الدول الإسلامية سبقت هذه الاتفاقية، حيث قلدتهم في ذلك وتشبهت بهم،وفي مقدمتها تونس.
وإن الجزائر الآن تسعى للبدء في تنفيذ هذه البنود، حيث قدم رئيسها مشروعاً لتعديل شرط الولاية في الزواج، ليكون من حق المرأة أن تلي أمر نفسها ومن يليها، رداً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل".
وهكذا نرى النتائج الخبيثة لهذه الاتفاقية شيئاً فشيئاً.
الذي يغيظ الكفار في فقه الأسرة الإسلامي، ويريدون تغييره وتبديله ليساير ما هم عليه ما يأتي:
1. إقرار المرأة في بيتها.
2. قوامة الرجال على النساء في الإمامة الصغرى (الصلاة)، والكبرى (الحكم)، وفي النكاح.
3. رعاية الوالدين لأولادهما ومسؤوليتهما الكاملة عنهم.
4. تشجيع الإسلام على الزواج المبكر، والحض على الإنجاب.
5. تمييز الذكر على الأنثى في التعصيب فقط في الميراث.
6. عدم مشاركة المحافظات من النساء في الانتخابات ونحوها.
7. حرمان غير المسلم والعدل من حضانة الأبناء.
8. إباحة تعدد الزواجات.
9. إلزام الرجال بالنفقة على من يعولون.
10. قصر الإسلام قضاء الوطر على الزوجة وما ملكت اليمين.
11. ختان الأنثى السني لأنه يعدل من شهوة المرأة.
ولهذا نجد أن بنود هذه الاتفاقية جاءت لتقضي على ذلك كله.
فقد جاء في الجزء الأول، المادة [2- أ] من الاتفاقية: (تجسيد مبدأ عدم التمييز بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية)، والله يقول: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى".
وكذلك في المادة [2- ز]: (إلغاء جميع أحكام قوانين العقوبات)، ويعنون بذلك إبطال عقوبة جريمة الزنا، والإجهاض، ونحوهما.(3/2)
وجاء في الجزء الثاني، المادة [7- أ، ب، ج] إعطاء المرأة جميع الحقوق السياسية، بحيث يمكن أن تلي الإمامة الكبرى.
وجاء في الجزء الثالث، المادة [10-ج] تشجيع الاختلاط، الذي يعتبر من العوامل الأساسية لإشاعة الفاحشة بين المؤمنين.
وفي الجزء الرابع، المادة [15-2]، حيث نص على أن تكون المرأة والية على نفسها ومن يليها.
هذه مجرد أمثلة، فالاتفاقية عموماً تقوم على أنقاض الإسلام، ورد ما هو معلوم من الدين ضرورة، ومعلوم أن حكم من رد ما هو معلوم من الدين ضرورة الكفر والخروج من دائرة الإسلام، إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.
وعليه نرجو من جميع حكام المسلمين رفض هذه الاتفاقية، والحذر من الأخذ بها، وعلى العلماء وطلاب العلم أن يبينوا للعامة مخالفة ذلك لما جاء به الشارع الحكيم، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة.
ونرجو من إخواننا المخدوعين بها أن يعيدوا النظر في موقفهم هذا، وعليهم أن لا ينخدعوا بدعايات أعداء الإسلام، وعملائهم، وصنائعهم.
وليعلم الجميع أن الدين تم وكمل، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فوالله لن يضرن إلا نفسه، وأن ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً، كما قال مالك رحمه الله، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أولها بالاعتصام بالكتاب، والسنة، وما أجمعت عليه الأمة.
وليتذكروا كذلك أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله تعالى، وأن هذا العلم دين، فلينظر كل منا ممن يأخذ ويتلقى دينه.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الكفر، والفواحش، والآثام، وصلى الله وسلم على نبي الملحمة، الناهي عن التشبه بالكفار، المفضي إلى غضب الجبار، وعلى آله وأصحابه الأطهار، والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا ينال سلامنا الكفار، والمنافقين، والفجار
=================0000000
علامات البلوغ وموجباته
تعريف البلوغ
علامات البلوغ
ما يوجبه البلوغ
البلوغ فاصل بين مرحلتين من مراحل حياة الإنسان، وناقل له إلى درجة المسؤولية، وله علامات ظاهرة وخفية، وتترتب عليه كثير من الأحكام الشرعية.
لهذا يتحتم على المرء معرفة علامات البلوغ وما يترتب عليه من الأحكام والقيود.
وبعد..
فهذا بحث عن علامات البلوغ وعن أقوال أهل العلم ومذاهبهم واختلافاتهم في ذلك، وعما ينبني عليه من الأحكام والأوامر، لعل الله ينفع بذلك ويثيب الكاتب والمطلع والقارئ.
فأقول وبالله التوفيق:
تعريف البلوغ
وصول صغير وجارية وقت التكليف بعلامة من علامات البلوغ.
علامات البلوغ
خمسة هي:
1. الاحتلام.
2. الإنبات.
3. بلوغ السن.
4 . الحيض.
5. الحَبَل أوالحمل.
الثلاثة الأولى يشترك فيها النساء والرجال، والاثنان منها وهما الحيض والحَبَل يخصان النساء.
وسنتحدث بشيء من الإيجاز عن كل واحدة من هذه العلامات، مبينين أقوال أهل العلم ومذاهبهم والراجح من أقوالهم.
1. الاحتلام
أجمع أهل العلم على أن الاحتلام للولد والجارية علامة من علامات البلوغ، وذلك لقوله تعالى: "وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم"، وقوله: "حتى إذا بلغوا النكاح" أي الحلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "غسل الجمعة على كل محتلم وسواك، ويمس من طيب ما قدر عليه".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والنساء يلزم به العبادات والحدود وسائر الأحكام).
2. الإنبات
من علامات البلوغ المشتركة بين الولد والجارية الإنبات، أي إنبات شعر العانة، ودليله ما رواه أحمد في مسنده إلى عطية القرظي قال: "عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي".
وما صح عن عمر رضي الله عنه فيما يرويه عنه عبد الله ابنه قال: "كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن لا تقتلوا امرأة ولا صبياً، وأن تقتلوا من جرت عليه الموسى".
أقوال أهل العلم في اعتبار الإنبات من علامات البلوغ
ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب عدة، ملخصها:
1. الإنبات ليس بعلامة للبلوغ ولا يوجب حقاً لله وللآدميين، وهذا مذهب الحنفية.
2. الإنبات علامة مطلقة توجب حق الله وحق الآدميين، وهذا مذهب الحنابلة ورواية عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة وقول للمالكية والشافعية.
3. الإنبات علامة لكنه يوجب بعض الحقوق دون بعض، وهي حقوق الآدميين، وهو قول لبعض المالكية.
4. الإنبات علامة على البلوغ في حق صبيان الكفار، وهذا مذهب الشافعية.
القول الراجح هو ما ذهب إليه الحنابلة ومن وافقهم من المالكية والقاضي أبو يوسف للحديث والأثر السابقين.(3/3)
قال القرطبي رحمه الله: (وأما الإنبات فمنهم من قال: يستدل به على البلوغ، روي عن ابن القاسم وسالم، وقاله مالك مرة، والشافعي في أحد قوليه، وبه قال أحمد وإسحاق وأبوثور، وقيل: هو بلوغ إلا أنه يحكم به في الكفار فيقتل من أنبت، ويجعل من لم ينبت في الذراري، قاله الشافعي في القول الآخر، لحديث عطية القرظي، ولا اعتبار بالخضرة والزغب، وإنما يترتب الحكم على الشعر؛ وقال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: العمل عندي على حديث عمر بن الخطاب: لو جرت عليه المواسي لحددتهز قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: وأحب إليَّ ألا يقام عليه الحد إلا باجتماع الإنبات والبلوغ؛ وقال أبوحنيفة: لا يثبت بالإنبات حكم، ليس هو ببلوغ ولا دلالة على البلوغ؛ وقال الزهري وعطاء: لا حد على من لم يحتلم؛ وهو قول الشافعي ومال إليه مالك مرة، وبه قال أصحابه، وظاهره عدم اعتبار الإنبات والسن).
3. السن
من علامات البلوغ التي اختلف فيها أهل العلم اختلافاً لا يسنده دليل السن التي تعتبر علامة من علامات البلوغ لمن لم يحتلم، فمنهم من قال:
أ. تمام الخامسة عشر، وهو الراجح لقول ابن عمر رضي الله عنه: "عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني".
ولقول نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما كذلك: "قدمت على عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ خليفة، فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا الحد بين الصغير والكبير؛ فكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن كان ابن خمس عشرة سنة، ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال".
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، واختاره ابن وهب من المالكية وأبويوسف ومحمد من الحنفية، وهو رواية عن أبي حنيفة.
أما بقية الأقوال التي ليس لها مستند فهي:
ب. ثماني عشرة للغلام، وسبع عشرة للجارية، وهذا مذهب الأحناف.
ج. وفي مذهب مالك أقوال، أشهرها ثماني عشرة سنة للذكر والأنثى، وقيل تسع عشرة، وقيل: سبع عشرة، وقيل ست عشرة.
د. وقال ابن حزم: تمام تسع عشرة.
قال القرطبي: (فأما الإنبات والسن فقال الأوزاعي والشافعي وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم، وهو قول ابن وهب، وأصبغ، وعبد الملك بن الماجشون، وعمر بن عبد العزيز، وجماعة من أهل المدينة، واختاره ابن العربي، وتجب الحدود والفرائض عندهم على من بلغ هذا السن، قال أصبغ بن الفرج: والذي نقول به إن حد البلوغ الذي تلزم به الفرائض والحدود خمس عشرة سنة، وذلك أحب ما فيه إليَّ وأحسنه عندي، لأنه الحد الذي يسهِّم فيه في الجهاد ولمن حضر القتال.
إلى أن قال: قال أبوعمر بن عبد البر: هذا فيمن عرف مولده، فأما من جهل مولده وعدة سنه أوجحده فالعمل فيه بما روى نافع عن أسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد: ألا تضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي؛ وقال عثمان في غلام سرق: انظروا إن كان قد اخضر مئزره فاقطعوه.
وقال: قال ابن العربي: إذا لم يكن حديث ابن عمر دليلاً في السن فكل عدد يذكرونه من السنين فإنه دعوى، والسن التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من سن لم يعتبرها، ولا قام في الشرع دليل عليها).
4. الحيض
5. الحبل
لم يختلف أهل العلم في أنهما علامتان من علامات البلوغ للجارية.
لكن إذا رأت الجارية الدم وكانت دون سن التاسعة لا يعتبر ذلك حيض، أما إذا رأت الدم بعد التاسعة فهو حيض وعلامة من علامات البلوغ.
الدليل على كون الحيض من علامات البلوغ الإجماع.
قال الحافظ ابن حجر: (وأجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء).
هذا بجانب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار".
ما يوجبه البلوغ
1. وجوب الفرائض الشرعية كالصلاة والصوم والحج.
2. إقامة الحدود والقصاص.
3. يسهم للبالغ في الغنائم.
4. دخول الزوجة على زوجها.
5. صحة العتق، والطلاق، والهبة، ونحوها.
6 . دفع الأموال إلى القصر مع اختلاف في ذلك.
قال تعالى: "فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم"، فقد اشترط وجود الرشد مع البلوغ.
فأجاز أبو حنيفة أن تدفع له أمواله إذا بلغ، ومنع من ذلك الجمهور، حيث اشترطوا الرشد مع البلوغ للآية.
قال القرطبي: (إذا ثبت هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ، فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال، كذلك نص الآية، وهو رواية ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب عن مالك في الآية، وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة، وزفر، والنخعي، فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس عشرة سنة).
الراجح ما ذهب إليه الجمهور لظاهر الآية، وللمحافظة على أموال الأيتام والقصر.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على البشير النذير.
=================000000
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن
نبذة عن أزواجه اللاتي دخل بهن
1. خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
2. سودة بنت زمعة العامرية رضي الله عنها(3/4)
3. عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها
4. حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها
5. أم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية رضي الله عنها
6. أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها
7. زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية رضي الله عنها
8. زينب بنت خزيمة رضي الله عنها
9. جويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنها
10. صفية بنت حُيَي بن أخطب الهارونية رضي الله عنها
11. ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها
خصائص أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن
تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الحافظ البيهقي بخمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع، وكان له جاريتان.
نساؤه التسع اللاتي مات عنهن هن سودة بنت زمعة، وعائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حُيَيّ الهارونية رضي الله عنهن جميعاً.
واللاتي دخل بهن صلى الله عليه وسلم التسع هؤلاء زائداً زينب بنت خزيمة، وأم شريك.
والمرأتان اللتان لم يدخل بهما هما عمرة بنت يزيد الغفارية والشنباء، والجاريتان اللتان لم يضرب عليهما الحجاب هما مارية القبطية وريحانة رضي الله عنهن جميعاً.
نبذة عن أزواجه اللاتي دخل بهن
حسب ترتيب زواجه صلى الله عليه وسلم بهن:
1. خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
كانت خديجة امرأة حازمة، شريفة، لبيبة، عاقلة، تاجرة، وكانت تستأجر الرجال على مالها مضاربة.
فلما سمعت بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمانته عرضت عليه أن يخرج في تجارتها إلى الشام مع غلامها مَيْسرة.
فلما عاد من الشام بأرباح كثيرة، وأخبرها ميسرة ببعض ما رآه عليه من الكرامات، وبصدقه وأمانته، رغبت في زواجه، فذكر ذلك لأعمامه، فذهب معه حمزة إلى أبيها خويلد بن أسد، فخطبها وتزوجها، فأصدقها عشرين بَكْرَة.
وكانت خديجة أولى وأفضل زوجاته صلى الله عليه وسلم.
وكان عمره صلى الله عليه وسلم عندما تزوجها خمساً وعشرين سنة، وكان عمرها أربعين سنة، وجلس معها اثنتين، وقيل أربعاً وعشرين سنة، لم يتزوج عليها غيرها وفاء وتقديراً لها، فعافاها الله من نكد الضرائر، وماتت وعمرها أربع وستون سنة، قبل الهجرة بثلاث سنين.
لقد واست خديجةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعقلها، ومالها، وحسن خلقها وتدبيرها، وقد رزقه الله جميع أولاده منها، وهم ولدان: القاسم وكان أكبر أولاده فكني به، وعبد الله الذي كان يلقب بالطاهر والطيب، وقد ماتا صغاراً؛ أما بناته منها فأربع، وهن: زينب وكانت تحت العاص بن الربيع ابن خالتها هالة، ورقية وأم كلثوم وكانتا تحت عثمان، حيث عوضه أم كلثوم بعد وفاة رقية، وكانتا قبل بعثته صلى الله عليه وسلم متزوجتين من ابني عمه أبي لهب، وعندما بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر أبولهب أمر ابنيه أن يطلقا بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم لينشغل عن دعوته، أما فاطمة فكانت تحت علي رضي الله عنه.
وكلهن أدركن الإسلام وأسلمن، ومات كلهن قبله إلا فاطمة ماتت بعده بستة أشهر.
أما ابنه إبراهيم فإنه كان من مارية القبطية التي هداها له المقوقس ملك مصر، ومن أهل السير من عد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة من الولد، منهم الطاهر والطيب، وهما لقبان لعبد الله.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر خديجة بعد وفاتها، وكانت عائشة تغار منها ولم ترها.
وكانت خديجة رضي الله عنها قبل أن تتشرف بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم متزوجة برجلين قبله هما: عتيق بن عائذ بن مخزوم فولدت منه بنتاً، وبعد هلاكه تزوجت بأبي هالة التميمي، فولدت له هند بن هند، وكان ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فضائل خديجة
1. كانت في الجاهلية تلقب بالطاهرة.
2. أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء.
3. أن الله أقرأها السلام بواسطة جبريل: "يا خديجة، هذا جبريل يقرئك السلام من ربك"، فقالت خديجة: الله هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام.
4. من النساء الكمل، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير نساء العالمين مريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد"، و"كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع، هن: مريم ابنة عمران، وآسيا بنت مزاحم، وخديجة، وفاطمة".
5. وروي عنه أنها سيدة نساء الجنة بعد مريم.
6. وروي عنه أنه قال: "خير نسائها خديجة، وخير نسائها مريم".
7. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة ذات يوم فتناولتها، فقلت: عجوز كذا وكذا، قد أبدلك الله بها خيراً منها؛ قال: "ما أبدلني الله خيراً منها، لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها وحرمني ولد غيرها"، فقلت: والله لا أعاتبك فيها بعد اليوم.
2. سودة بنت زمعة العامرية رضي الله عنها(3/5)
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد موت خديجة بأيام قلائل، قبل أن يعقد على عائشة في أرجح قولي العلماء، وهاجر بها إلى المدينة، وكانت قبل ذلك تحت ابن عم لها يقال له السَّكران بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو، وكانت امرأة ثقيلة سبطة، وقد أسنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشيت أن يطلقها، فوهبت ليلتها لعائشة، وأحبت أن تكون زوجة له في الجنة، فقالت: لا تطلقني وأنت في حل من شأني، فإنما أود أن أحشر في زمرة أزواجك، وإني قد وهبت يومي لعائشة، وإني لا أريد ما تريد النساء؛ فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي عنها مع سائر أزواجه.
وفيها نزل قوله تعالى: "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أوإعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير".
توفيت سودة في آخر خلافة عمر رضي الله عنه.
ما ورد في فضلها
1. حرصها أن تكون إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة.
2. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما من الناس أحدٌ أحب إلي أن أكون في مسلاخه من سودة بنت زمعة، إلا أن بها حِدَّة.
3. من السابقات إلى الإسلام، والمهاجرات إلى الحبشة مع زوجها، فلما قدما مكة مات زوجها.
4. كانت عاقلة راجحة الرأي.
5. عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه بعد حجة الوداع: "هذه ثم ظهور الحصر"، لم تخرج سودة ولا زينب إلا حين أخرجتا إلى المقبرة.
3. عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها
أمها أم رومان بنت عامر، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل بسنتين، وهي بنت ست سنين، وابتنى بها بالمدينة وهي بنت تسع في شهر شوال بعد مُهاجره بثمانية أشهر، وكانت مسماة لجبير بن مطعم فلما خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: يا رسول الله دعني أسلها من جبير سلاً رفيقاً.
بقيت عائشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنوات، ولم يتزوج بكراً غيرها، وكانت من أخظى نسائه عنده، وتوفيت سنة سبع وخمسين وقيل ثمان وخمسين، ولها أربع وستون سنة، فعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة؛ لم يولد لها، واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكنية فقال لها: "اكتني بابنك عبد الله بن الزبير"، يعني ابن أختها أسماء.
فضائل عائشة رضي الله عنها
1. أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام قبل زواجه منها في سَرَقة من حرير، فتوفيت خديجة فقال: "إن يكن هذا من عند الله يمضه".
2. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام".
3. سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب النساء إليه فقال: "عائشة"، وعن أحب الرجال إليه فقال: "أبوها".
4. وقال مسروق: رأيتُ مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض.
5. وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة.
6. وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول: حدثتني الصادقة بنت الصديق البرية بكذا وكذا.
7. وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيتُ أحداً أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة.
8. وفيها قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تزن بريبة وتصبح غرثى* من لحوم الغوافل
عقيلة أصل من لؤي بن غالب كِرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طهر الله خيمها وطهرها من كل بغي وطائل
اتهمت عائشة رضي الله عنها ظلماً وعدواناً بحادثة تعرف في التاريخ بحادثة الإفك، وقد برَّأ الله ساحتها من فوق سبع سموات، فمن رماها بذلك بعد تبرئة الله لها فقد كفر.
كما أخذ على عائشة رضي الله عنها خروجها في موقعة الجمل، وقد خرجت تريد أن تصلح بين الطائفتين، ولكن دعاة الفتنة هم الذين أشعلوا نار الحرب، حيث لم تخرج لطلب زعامة ولا لنيل رئاسة.
4. حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها
كانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت خنيس بن حذافة السهمي، فلما تأيمت عرضها عمر على أبي بكر فلم يرد عليه، ثم عرضها على عثمان حين ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان: ما أريد أن أتزوج اليوم؛ فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة"، ثم اعتذر إليه أبوبكر بَعْدُ بأنه ما كان له أن يفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة في السنة الثالثة من الهجرة، ثم طلقها فأمره الله بردها فردها.
توفيت في شعبان 45هـ، في خلافة معاوية وهي ابنة ستين سنة.
فضلها
عندما طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال له: "إن الله يأمرك أن تراجع حفصة، فإنها صوامة قوامة".
5. أم سلمة هند بنت أبي أمية – المعروف بزاد الراكب – المخزومية رضي الله عنها
كانت متزوجة من ابن عمها أبي سلمة.(3/6)
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال في السنة الرابعة من الهجرة، عندما خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم اعتذرت له بأنه مُصْبية وبأنها غيرى، فقال لها: أما أولادك فأولادي، وأما غيرتك فنسأل الله أن يُذهبها عنك؛ فأمرت ابنها سلمة أن يزوجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل زوجها عمر، والراجح الأول؛ وهذا يدل على خطورة الولي في النكاح، فلا نكاح إلا بولي.
كانت أم سلمة من أجمل نساء العرب، قالت عائشة: حُدثت عن جمالها، فلما رأيتها كانت فوق ما وُصِفَ لي.
وكانت من عاقلات النساء، وقد أشارت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل عليها في الحديبية ولم تطب نفوس أصحابه بالتحلل بأن يخرج فيحلق ويذبح، فإذا رآه أصحابه تابعوه على ذلك، فكان ما تنبأت به.
توفيت أم سلمة رضي الله عنها سنة تسع وخمسين، وصلى عليها سعيد بن زيد، وقيل أبوهريرة، ودفنت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة.
6. أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها
كانت من السابقات للإسلام، وقد هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش فتنصَّر هناك فانفصلت عنه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضَّمْري إلى النجاشي ليخطب له أم حبيبة، وذلك في السنة السابعة من الهجرة، وأصدقها النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة.
توفيت سنة أربع وأربعين للهجرة.
فضائلها
جاءها أبوها زائراً قبل إسلامه، فعندما أراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته منه رغبة به عن أبيها.
7. زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية رضي الله عنها
أمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، وهي ابنة عمته صلى الله عليه وسلم، زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة، فنشزت عنه وترفعت عليه، فطلقها زيد.
فتحرَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم في زواجها لعادة جاهلية، وهي أن الرجل ما كان يتزوج زوجة ابنه من التبني، فأراد الله إبطال هذه العادة، وهي التي كان يخفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه: "وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه"، لا كما يزعم أهل الزيغ والنفاق أنه شببها على زيد وأنه كان يخفي حبها.
قال تعالى: "فلما قضى زيدٌ منها وطراً زوجناكها".
وقال: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين".
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الخامسة من الهجرة.
كانت زينب بنت جحش أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحوقاً به، حيث توفيت في سنة عشرين في خلافة عمر رضي الله عنه.
فضلها
1. زوَّجها ربُّها ولم يزوجها أولياؤها، ولهذا كانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: إن آباءكن أنكحوكن، وإن الله أنكحني إياه من فوق سبع سموات".
2. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لنسائه: "أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً"، قالت عائشة: "فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً، قالت: فكانت أطولنا يداً زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق".
3. قالت عنها عائشة: لم تكن امرأة خيراً منها في الدين وأتقى لله تعالى، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد تبذلاً لنفسها في العمل الذي تتصدق به وتتقرب به إلى الله عز وجل.
4. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "إن زينب بنت جحش أواهة".
5. كانت تسامي عائشة في حسن المنزلة عنده صلى الله عليه وسلم، كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم طائفتان، طائفة بزعامة عائشة ومعها حفصة وغيرها، وطائفة بزعامة زينب بنت جحش ومعها أم سلمة وغيرها.
6. عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه بعد حجة الوداع: "هذه ثم ظهور الحصر" الحديث، قالت سودة وزينب بنت جحش: والله لا تحركنا بعدك دابة؛ فلم تخرجا إلا إلى المقبرة.
8. زينب بنت خزيمة رضي الله عنها
كانت تسمى في الجاهلية بأم المساكين، لكثرة إطعامها وإحسانها إلى المساكين، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهراً من الهجرة.
مكث معها ثمانية أشهر، وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة من هجرته في شهر رمضان، ودفنت بالبقيع.
9. جويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنها
أصابها في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها فقضى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، وكان ذلك في شعبان سنة ست من الهجرة.
كان اسمها بَرَّة، فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها إلى جويرية، توفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين من هجرته، وكان عمرها خمساً وستين سنة.
10. صفية بنت حُيَي بن أخطب الهارونية رضي الله عنها
سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر في السنة السابعة، واصطفاها لنفسه، وأسلمت فأعقتها، وجعل عتقها صداقها.
وفي الصحيح أنها وقعت في سهم دِحْية الكلبي، فاشتراها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/7)
ماتت في سنة خمسين، وقيل اثنين وخمسين، ودفنت في البقيع رضي الله عنها.
فضلها
1. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على صفية وهي تبكي، فقال لها: "ما يبكيك؟ قالت: بلغني أن عائشة وحفصة تنالان مني وتقولان: نحن خير من صفية، نحن بنات عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه؛ قال: ألا قلتِ لهن: كيف تكن خيراً مني، وأبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم".
2. كانت صفية رضي الله عنها حليمة عاقلة.
3. روى ابن عبد البر أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود؛ فسألها عمر عن ذلك فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أن أبدلني الله به يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً، وأنا أصلها؛ قال: ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعتَ؟ قالت: الشيطان؛ قالت: اذهبي فأنت حرة.
4. لقد هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من أجل أنها نالت من صفية، وقالت: "أعطي راحلتي لهذه اليهودية؟!" ثلاثة أشهر.
11. ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام سبعة من الهجرة، وهو خارج لعمرة القضية بسَرَف – قرب مكة - وقد خطبها له حمزة بن عبد المطلب، وأوكلت العباس لزواجها منه صلى الله عليه وسلم.
وهي آخر من تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ماتت في نفس المكان الذي ابتنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه في سنة إحدى وستين وقيل ثلاث وقيل ثمان وستين، كان اسم ميمونة برة، فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان لميمونة عدد من الأخوات الشقيقات ولأم تحت نفر كرام من أعمام وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن:
أ. أخواتها الشقيقات:
1. أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث زوج العباس بن عبد المطلب.
2. لبابة الصغرى زوج الوليد بن المغيرة أم خالد بن الوليد.
3. وعصماء بنت الحارث كانت تحت أبَيّ بن خلف الجمحي.
4. وعزة بنت الحارث كانت تحت زياد بن عبد الله بن مالك الهلالي.
5. فهؤلاء أخوات ميمونة بنت الحارث الأشقاء، وأمهن هند بنت عوف كما قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستيعاب.
ب. أخواتها لأمها:
1. أسماء بنت عميس كانت تحت جعفر بن أبي طالب، فولدت له عبد الله، وعوناً، ومحمداً، ثم خلفها عليه أبوبكر، فكان نعم الخلف، فولدت له محمداً، ثم خلف عليها علي، فأنعم به وأكرم، فولدت له يحيى، وقيل كانت تحت حمزة ولا يصح، ولهذا كانت تعرف بزوجة الشهداء.
2. سلمى بنت عميس الخثعمية، وكانت تحت حمزة بن عبد المطلب، فولدت له أمة الله بنت حمزة، ثم خلف عليها بعده شداد بن أسامة بن الهادي الليثي فولدت له عبد الله وعبد الرحمن.
3. وسلامة بنت عميس أخت أسماء.
4. وسُليمى، كانت تحت عبد الله بن كعب بن منبه الخثعمي.
5. زينب بنت خزيمة – زوج النبي صلى الله عليه وسلم – التي كانت تلقب بأم المساكين.
فعبد الله بن عباس، وخالد بن الوليد، وعبد الله وعبد الرحمن ابنا الهادي أبناء خالات.
خصائص أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن
لقد خصَّ الله عز وجل أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بخصائص لم يخص بها واحدة من النساء إكراماً وإجلالاً لهذا النبي الكريم، صلوات ربي وسلامه عليه.
والخصائص هي:
أ. أن أزواجه أمهات المؤمنين
لقوله عز وجل: "وأزواجه أمهاتهم"، وهل هن أمهات للمؤمنات قولان لأهل العلم، أرجحهما أنهن أمهات للمؤمنات كذلك.
وهذه الأمومة تكون في الآتي:
1. وجوب التعظيم والإجلال والمبرة.
2. حرمة النكاح على الرجال.
وتختلف عن حق الأم من النسب في الآتي:
1. الاحتجاب عنهن.
2. عدم الإرث.
قال القرطبي: (واختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء، أم أمهات الرجال خاصة، على قولين: فروى الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمة؛ فقالت لها: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم؛ قال ابن العربي: وهو الصحيح.
قلت: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات للرجال والنساء، يدل عليه صدر الآية: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة، فيكون: "وأزواجه أمهاتهم" عائد إلى الجميع).
ب. أزواجه في الدنيا هن أزواجه في الآخرة
لقوله صلى الله عليه وسلم: "أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة"، ولهذا حرم على أحد زواجهن، وهذه من خصائصه التي لا ينبغي أن يشاركه فيها أحد، وما يفعله بعض أتباع المشايخ الطرقية من تحريم زواج من طلقها أحد المشايخ أومات عنها لا أصل له ولا دليل، وكذلك الترخص في الدخول عليهن والانبساط معهن.
ج. اختلف العلماء في كونهن كالأمهات في المَحْرَم وإباحة النظر
على قولين:
1. هن مَحْرَم، لا يحرم النظر إليهن.(3/8)
2. النظر إليهن محرم، لأن تحريم نكاحهن كان لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن، ولأن عائشة كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاع.
والراجح القول الثاني لقول عائشة رضي الله عنها.
د. تضعيف الأجر والثواب لهن
لقوله تعالى: "يا نساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً. ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً".
ه. تجب محبتهن وإجلالهن وتقديرهن
ولا يحل لأحد أن ينتقص واحدة منهن، لا سيما عائشة وحفصة كما يفعل الرافضة، ومن فعل ذلك فهو من الهالكين، فقد أمرنا بعدم الخوض فيما شجر بين الصحابة.
أما الحجاب وعدم مصافحة الأجانب فليسا من خصائص نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو عام لجميع النساء، وإنما كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم هن القدوة في ذلك، فآية الحجاب في سورة الأحزاب فصلت وعمت: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن".
فلا يلتفت إلى ما يقوله المتفلتون عن الأحكام الشرعية الداعون إلى ذلك.
تنبيه
يعترض بعض مرضى القلوب من المنتسبين إلى الإسلام تبعاً لما أثاره بعض أعداء الله من المستشرقين على ما خص الله به رسوله عنا من أن يجمع تحته أكثر من أربع نسوة، وذلك لأن الله أعطاه من القوة والمقدرة على ذلك الشيء الكثير، فقد كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة.
وليس رسولنا ببدع من رسل الله وأنبيائه، فقد خصوا بما خص به نبينا، وجمع بعضهم من النساء أضعافاً مضاعفة لما صنعه نبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
فقد صح عن نبي الله سليمان عليه السلام أنه طاف على مائة من نسائه في ليلة واحدة، لأنه كان يريد أن يولد له مائة فارس، فلم يقل إن شاء الله، فلم يولد له إلا خلفة.
وذكر ابن الجوزي وغيره من أهل العلم بالتاريخ أنه كان لسليمان ألف من النساء، ثلاثمائة من الحرائر وسبعمائة من الإماء؛ وكان لداود مائة.
ونحن عندما نقول ذلك لا نريد انتقاص أحد من الأنبياء، بل نريد مدحهم، ولنا في الإمام أبي الطيب بن الباقلاني القدوة عندما قال له أحد القساوسة: ماذا صنعت زوجة نبيكم؟ يريد قبحه الله عائشة وما رُميت به من حادثة الإفك، فقال راداً ومفحماً له: هما امرأتان عفيفتان مبرئتان من كل سوء، اتهمتا بالفاحشة، لم يكن لإحداهما زوج فأتت بولد، وكان للأخرى زوج فلم تأت بولد، فإن وقع في الذهن الفاسد ريبة على هذه فهو إلى تلك أولى، وكلاهما مبرئتان من الفاحشة والسوء؛ فبهت الذي كفر وخاب وخسر.
والحمد لله الذي به تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خاتم الرسل، وعلى أزواجه الطاهرات العفيفات، قدوة المؤمنات الصالحات، وعلى من اتبعهن وسار على طريقهن حتى الممات.
=================0000000
لِبَاس المُسْلم
رجالاً ونساءاً
"وأنزلنا إليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير" الأعراف 27
الفصل الأول: ما يشترط في الملبوس
أولاً: الطهارة
فراء وقلاسي وطواقي الثعالب
الركوب على جلود النمور والتنعل بها
الأحذية المصنعة من جلود الأصل
الامتشاط بالعاج
ثانياً: الحل
الأدلة على تحريم الذهب والحرير على ذكور هذه الأمة
ثالثاً: أن يكون واسعاً لا يصف أويحكي شيئاً من جسم المرأة ولا عورة الرجل
رابعاً: أن لا يكون شفافاً يظهر البشرة
خامساً: أن لا يكون لباس شهرة
سادساً: أن يشبه لباس العرب
سابعاً: أن لا يشبه لباس الكفار
ثامناً: أن لا يشبه لبس الرجال النساء، ولا لبس النساء الرجال
تاسعاً: تجنب الخيلاء
عاشراً: تجنب الإسراف
الحادي عشر: تجنب الألوان الصارخة والتي أضحت شعاراً لأهل الأهواء
الثاني عشر: تجنب لبس ما فيه صورة إنسان، أوحيوان، أوصليب
الفصل الثاني: لباس الرجل
أولاً: عورة الرجل والصبي دون البلوغ
ثانياً: ما يلبسه الرجل في بيته
ثالثاً: ما يلبسه الرجل والصبي المميز في صلاتهما
الأدلة على ستر العاتقين – الكتفين – في الصلاة
من انكشفت عورته وهو في الصلاة
حكم ستر العورة في الصلاة
لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه
من انكشفت عورته وهو في الصلاة
إن لم يجد المصلي إلا خرقة
حكم صلاة العراة، وكيفيتها، وهل تعاد إذا وجدوا ما يستترون به؟
ما يلبسه المصلي
ما يكره فعله للرجال من اللباس في الصلاة
ما يحرم على الرجال والصبيان لبسه في الصلاة
رابعاً: ما يلبسه المحرم من الرجال
خامساً: ما يكفن فيه الرجل
الفصل الثالث: لباس المرأة
أولاً: عورة المرأة
شُبَه المجيزين لكشف الوجه واليدين للمرأة ودحضها
ثانياً: ما تلبسه المرأة في بيتها
ثالثاً: ما تلبسه المرأة مع محارمها
رابعاً: ما تلبسه المرأة مع النساء المسلمات
خامساً: ما تلبسه المرأة خارج بيتها
سادساً: ما تلبسه المرأة في الصلاة
سابعاً: ما تلبسه المرأة في الإحرام
ثامناً: ما تكفن فيه المرأة
الفصل الرابع: في أمور عامة متعلقة باللباس(3/9)
أولاً: النهي والتحذير عن الإسبال
الإسبال يكون في كل الملابس
حكم الإسبال
الإسبال حرام، سواء كان فعله بطراً أم عادة وجهلاً
الحالات التي يجوز فيها الإسبال
حكم وضوء وصلاة المسبل
ثانياً: التواضع في اللباس
ثالثاً: التزين
من أمثلة ما يحرم التزين به للرجال والنساء
الأدلة على تحريم الوشم، والنمص، والتفليج، ووصل الشعر
رابعاً: البدايات عنوان النهايات
خامساً: التنعل
الترغيب والحض على لبس النعال
السنة الاحتفاء أحياناً
يكره المشي في فردة نعل واحدة
الانتعال قائماً
الصلاة في النعال
أحذية جلود النمور
سادساً: التختم
سابعاً: أدعية اللباس وآدابه
الحمد لله الذي كرم الإنسان: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقن تفضيلاً"، وفضله على سائر الحيوان بالعقل وحسن القوام، والحمد لله موصول بالشكر له مع الامتنان بأن جعلنا من ملة خير الأنام محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
لقد أمر الله عز وجل عباده بستر العورة وبالتزين بالمباحات، ونهاهم وحذرهم عن العري والتفسخ والتحلل، ومن التزين والتحلي بالحرام والنجس، وبين أن ذلك من فتنة الشيطان وأوليائه من بني الإنسان: "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون".
على الرغم من ذلك نجد بعض من انطمست فطرتهم، وفسدت طباعهم، وتبلدت أحاسيسهم يقول إن العري والتفسخ هو الأصل!!
هذا مع إعلامه سبحانه وتعالى لنا وإرشاده أن السترة التامة واللباس الحقيقي هو في تقوى الله عز وجل: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير".
وصدق من قال:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً و إن كان كاسياً
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصياً
ولأهل العلم في تأويل لباس التقوى أقوال متقاربة، هي:
1. الحياء.
2. العمل الصالح.
3. السمت الحسن.
4. ما علمه عز وجل وهدى به.
5. الخشية لله.
6. استشعار تقوى الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه.
ستر العورة للمسلم المكلف رجلاً كان أم امرأة فرض واجب، وقد بين الشارع الحكيم كيفية ستر العورة، وحذر وتوعد من لم يتقيد بذلك ولم يترك هذا الأمر لأهواء البشر، وإنما حده حداً بيناً لا لبس فيه ولا غموض، فالحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى، بل أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه.
وبعد فهذا بحث عن لباس المسلم، ذكراً كان أم أنثى، صغيراً كان أم كبيراً، وقد دفعني للكتابة في هذا الموضوع أمور، هي:
الأول: كثرة سؤال الناس عن اللباس الشرعي للرجل والمرأة.
الثاني: اضطراب الأقوال في هذا الأمر الشرعي وتضاربها، بحيث يصعب على البعض أن يصدر عن أي قول منها.
الثالث: الغزو الثقافي والفكري الذي عمَّ وطم.
الرابع: تقليد الكفار والتشبه بهم الذي ابتلي به قطاع كبير من المسلمين.
الخامس: جمع وتيسير كل ما يتعلق باللباس في مؤلف واحد موجز.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم وبارك على سيد ولد عدنان، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
الفصل الأول: ما يشترط في الملبوس
يشترط في لباس المسلم ذكراً كان أم أنثى، صغيراً كان أم كبيراً شروط عدة، وسنتحدث عنها بشيء من الإيجاز مع ذكر الأدلة وأقوال الأئمة والترجيحات، فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: الطهارة
أول ما يشترط في لباس المسلم أن يكون طاهراً غير نجس، حيث يحرم على المسلم أن يلبس شيئاً نجساً، ثوباً كان أم نعالاً أوغير ذلك، أوأن يصلي على بساط أوسجاد نجس.
• فيحل له لبس القطن، والكتان، والصوف، ونحوها.
• وجلود وفراء وصوف كل ما يؤكل لحمه إذا ذكي ودبغ.
• وجلود وفراء الميت مما يؤكل لحمه من الحيوان إذا دبغ في أرجح قولي العلماء، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر".
ذهب أهل العلم في جلد الميتة التي يؤكل لحمها ثلاثة مذاهب، هي:
1. يطهر بعد الدباغ، وهذا مذهب الجمهور، وهو الراجح.
2. لا يطهر بعد الدباغ.
3. طاهر قبل الدباغ.
واختلفوا كذلك هل الدباغ يطهر كل الجلود، ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه:
1. يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط، وهذا مذهب الجمهور.
2. يطهر كل جلد ميت من السباع وغيرها إلا الكلب والخنزير.
3. تطهر كل الجلود حتى الكلب والخنزير.
واختلفوا كذلك هل طهارة جلد الميتة بعد الدباغ طهارة كاملة أم لا؟ على قولين.(3/10)
قال ابن عبد البر رحمه الله: واختلف الفقهاء أيضاً بعد ما ذكرنا في حكم طهارة الجلد المذكور بعد الدباغ هل هي طهارة كاملة في كل شيء كالمذكى أوهي طهارة ضرورة تبيح الانتفاع في شيء دون شيء؟ فذكر أبو عبد الله محمد بن نصر قال: وإلى جواز الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ في كل شيء من البيع وغيره، وكراهية الانتفاع بها قبل الدباغ ذهب أكثر أهل العلم من التابعين، وهو قول يحيى بن سعيد الأنصاري وعامة علماء الحجاز.
قال أبو عمر بن عبد البر: قوله أطلق الانتفاع بها في كل شيء – يعني الوضوء فيها والصلاة فيها، وبيعها وشراءها، وسائر وجوه الانتفاع بها، وبثمنها، كالجلود المذكاة سواء، وعلى هذا أكثر أهل العلم بالحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث، وممن قال بها الثوري، والأوزاعي، وعبد الله بن الحسن العنبري، والحسن بن حي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهما، وهو قول داود بن علي، والطبري، وإليه ذهب ابن وهب صاحب مالك، كل هؤلاء يقولون: دباغ الإهاب طهوره للصلاة والوضوء والبيع وكل شيء.
إلى أن قال: قال ابن وهب: وأخبرنا محمد بن عمرو عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: الفرو من جلود الميتة يصلي فيها؟ قال: نعم، وما بأسه وقد دُبغ؟
قال ابن وهب: وسمعت الليث بن سعد يقول: لا بأس بالصلاة في جلود الميتة إذا دبغت، ولا بأس بالنعال من الميتة إذا دبغت، ولا بأس بالاستسقاء بها، والشرب منها، والوضوء فيها.
كرهت عائشة رضي الله عنها لباس الفراء من جلود الميتة ولو دبغت.
عن القاسم بن محمد بن أبي بكر أنه قال لعائشة: ألا نجعل لك فرواً تلبسينه؟ قالت: إني أكره جلود الميتة؛ قال: إنا لا نجعله إلا ذكياُ، فجعلناه فكانت تلبسه.
وكذلك روى نافع عن ابن عمر أنه كان لا يلبس إلا ذكياً.
فراء وقلاسي وطواقي الثعالب
ذهب أهل العلم في حل فراء وقلاسي – القلانس – وطواقي الثعالب مذهبين:
1. جلود الثعالب إذا ذكيت أوماتت ودبغت طهرت، وهذا قول من يقول إن جلود السباع إذا دُبغت حلت سواء ذكيت أوماتت، ولهذا فهم يجوزون لبس فراء الثعالب والقلانس والطواقي "الكوفيات" التي تصنع منها، سيما إذا دعت الضرورة لذلك كما هو الحال في مناطق سيبيريا ونحوها، حيث تبلغ درجة الحرارة في الشتاء 50 درجة تحت الصفر، وقد علمت من بعض طلاب تلك المناطق أنه ليس هناك أدفأ من جلود الثعالب لتغطية الرأس، وهذا مذهب المالكية ومن وافقهم.
2. جلود الثعالب كغيرها من السباع لا تطهر بتذكية ولا دباغ، ولهذا لا يحل استعمالها.
قال ابن عبد البر: قال ابن القاسم: أما جلد السبع والكلب إذا ذكي فلا بأس ببيعه والشرب فيه، والصلاة به.
قال أبوعمر بن عبد البر: الذكاة عند مالك وابن القاسم عاملة في السباع لجلودها، وغير عاملة في الحمير والبغال لجلودها، والنهي عند جمهور أهل العلم في أكل كل ذي ناب من السباع أقوى من النهي عن أكل لحوم الحمر، لأن قوماً قالوا: إن النهي عن الحمر إنما كان لقلة الظهر، وقال آخرون: إنما نهى منه عن الجلالة، ولم يعتل بمثل هذه العلل في السباع.
وقال عبد الملك بن حبيب – المالكي -: لا يحل بيع جلود السباع ولا الصلاة فيها، وإن دبغت، إذا لم تذك، قال: ولو ذكيت جلودها لحل بيعها، والصلاة فيها.
إلى أن قال: وقال الشافعي: جلود الميتة كلها تطهر بالدباغ، وكذلك جلد ما لا يؤكل لحمه إذا دبغ إلا الكلب والخنزير، فإن الذكاة والدباغ لا يعملان في جلودهما شيئاً.
إلى أن قال: وحكي عن أبي حنيفة: أن الذكاة عنده عاملة في السباع والحمر لجلودها، ولا تعمل الذكاة عنده في جلد الخنزير شيئاً، ولا عند أحد من أصحابه.
وكره الثوري جلود الثعالب، والهر، وسائر السباع، ولم ير بأساً بجلود الحمير.
قال أبو عمر: هذا في الذكاة دون الدباغ، وأما الدباغ فهو عنده مطهر لجلود الثعالب وغيرها.
وقالت طائفة من أهل العلم: لا يجوز الانتفاع بجلود السباع لا قبل الدباغ ولا بعده، مذبوحة كانت أوميتة، وممن قال هذا القول الأوزاعي، وابن المبارك، وإسحاق، وأبوثور، ويزيد بن هارون، واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أباح الانتفاع بجلد الميتة المدبوغ إذا كان يؤكل لحمه.
وقال ابن مفلح: واختلف قول الإمام أحمد في جلد الثعلب، فعنه يباح لبسه والصلاة فيه، وعنه تصح الصلاة فيه مع الكراهة، وعنه يحرم لبسه والصلاة فيه.
الركوب على جلود النمور والتنعل بها
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الركوب على جلود النمور واتخاذها نعالاً لما في ذلك من الخيلاء والزينة، فعن معاوية رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب النمار وعن لبس الذهب إلا مقطعاً".
قال الشوكاني رحمه الله: وإنما نهى عن استعمال جلوده لما فيه من الزينة والخيلاء، لأنه زي العجم، وعموم النهي شامل للمذكى وغيره.
الأحذية المصنعة من جلود الأصل والثعابين
الأصل جمع أصلة، وهي من أخبث أنواع الحيات.(3/11)
أجاز المالكية أكل لحم الحية إذا ذكيت وانتزع السم الذي بها، ولهذا فإذا دبغت جلودها يظهر حلها، والله أعلم.
هل يقاس كره لبسها لما فيه من الزينة والخيلاء على جلود النمور أم لا؟ هذا ما يحتاج إلى شيء من النظر، سيما وأن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل بحرمتها.
الامتشاط بالعاج
ذهب أهل العلم في جواز الامتشاط بالعاج إلى قولين، أرجحهما والله أعلم جواز ذلك، وقد رخص في جواز أكل لحم الفيل جماعة من العلماء منهم المالكية.
قال ابن عبد البر رحمه الله: ومن أجاز عظم الميتة كالعاج وشبهه في الأمشاط وغيرها، زعم أن الميتة ما جرى فيها الدم، وليس كذلك العظم، واحتجوا بقوله في هذا الحديث إنما حرم أكلها، وليس العظم مما يؤكل.
وقالوا: فكل ما لا يؤكل من الميتة جائز الانتفاع به، لقوله: "إنما حرم أكلها"، وممن رخص في أمشاط العاج، وما يصنع من أنياب الفيلة، وعظام الميتة، ابن سيرين، وعروة بن الزبير، وأبوحنيفة وأصحابه، قالوا: تغسل، وينتفع بها، وتباع، وتشترى؛ وبه قال الليث بن سعد، إلا أنه قال: تغلى بالماء والنار حتى يذهب ما فيها من الدسم.
وممن كره العاج وسائر عظام الميتة ولم يرخص في بيعها ولا الانتفاع بها عطاء، وطاووس، وعمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، والشافعي، واختلف فيها عن الحسن البصري.
ثانياً: الحل
مما يشترط في لباس المسلم ذكراً كان أم أنثى، مكلفاً كان أم غير مكلف، أن يكون حلالاً طيباً.
فيحرم على الجنسين، وعلى من يعولون، لبس ثياب مسروقة، أومغصوبة، أوشريت بمال حرام.
كما يحرم على ذكور هذه الأمة صغاراً وكباراً لبس الذهب والحرير، وذهب أهل العلم في لبس ما فيه يسير من الحرير إلى قولين أرجحهما جواز ذلك.
وقد رخص الشارع في لبس الحرير للعلاج لمن به حكة أوجرب، وفي لبس عصابة من الحرير في الحرب.
وفي حكم اللباس الافتراشُ والركوبُ.
والحرير المحرم هو الحرير الطبيعي – حرير دود القز – وليس الحرير الصناعي.
الأدلة على تحريم الذهب والحرير على ذكور هذه الأمة
• عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حُرِّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم".
• وعن عمر رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة".
• وعن أبي عثمان النهدي قال: "أتانا كتاب عمر ونحن مع عُتبة بن فرقد بأذربيجان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام، قال: فيما علمنا أنه يعني الأعلام".
• وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه".
لهذا فقد أجمعت الأمة على الآتي:
أولاً: جواز لبس الحرير والذهب محلقاً وغير محلق على النساء.
ثانياً: تحريم لبس الحرير الخالص والذهب على الرجال والصبيان من غير ضرورة.
ثالثاً: أبيح لبس يسير الحرير للرجال في أرجح قولي العلماء.
روى ابن عبد البر بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير، فأما القلم – أي الخط – من الحرير، وسدا الثوب، فليس به بأس".
قال أبوعمر: قول ابن عباس تفسير أحاديث هذا الباب، وعليه جمهور السلف والخلف من العلماء.
ثم سمى عدداً ممن لبس الخز من الصحابة ومن دونهم، منهم: ابن عباس، وأبو قتادة، وعبدالله بن أبي أوفى، وأبوهريرة، وعبد الله بن الزبير، والحسين بن علي رضي الله عنهم؛ ومن التابعين: ابن أبي ليلى، والأحنف بن قيس، وقيس بن أبي حازم، وشريح، والشعبي، وعروة بن الزبير؛ وسمى من كره لبسه، وهم ابن عمر من الصحابة، ومن دوهم سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، والحسن البصري، وابن سيرين، ومالك بن أنس مع اختلاف عنه.
مما يدل على خطورة لبس المحرم من الثياب قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ".. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك".
ثالثاً: أن يكون واسعاً لا يصف أويحكي شيئاً من جسم المرأة ولا عورة الرجل
يشترط في لباس المسلم ذكراً كان أوأنثى أن يكون واسعاً فضفاضاً، لا يصف شيئاً من جسم المرأة، ولا شيئاً من عورة الرجل، لهذا نهى عمر عن لبس القباطي، وعلله بقوله: إنه إن لم يشف فإنه يصف؛ أي يصف شكل البدن وحجمه، ومنه العورة.
رابعاً: أن لا يكون شفافاً يظهر البشرة
يشترط في لباس المسلم ذكراً كان أم أنثى أن يكون سميكاً لا يشف عما تحته ولا يحكي عورة.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لايدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد مسيرة خمسمائة سنة".(3/12)
قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث دليل على أن لباس الخفيف الذي يصف ولا يستر من الثياب لا يجوز للنساء، وكذلك ما وصف العورة ولم يسترها من الرجال.
وقال ابن مفلح رحمه الله تحت فصل "في كراهية لبس الشفوف والحاكية التي تصف البدن": يكره لبس ثوب رقيق يصف البشرة، ويكره للأنثى في بيتها، نص عليه، وقيل: يحرم مع غير محرم له النظر إليها، وقيل: مع غير زوج وسيد، وهو أصح، ذكره كله في "الرعاية الكبرى".
وقال ابن تميم: يكره الثوب الرقيق إذا وصف البدن، قال أصحابنا: للرجال، وقال في "المستوعب": يكره للرجل والمرأة لبس الرقيق من الثياب، وهو ما يصف البشرة غير العورة، ولا يكره ذلك للمرأة إذا كان لا يراها إلا زوجها أومالكها.
وقال في "الشرح": إذا كان خفيفاً يصف لون البشرة فيبين من ورائه بياض الجلد وحمرته لم تجز الصلاة به، وإن كان يستر اللون ويصف الخلقة جازت الصلاة فيه لأن البشرة مستورة، وهذا لا يمكن التحرز منه، انتهى كلامه.
وقال المروزي: وأمروني في منزل أبي عبد الله أن أشتري لهم ثوباً، فقال لي: لا يكون رقيقاً، أكره الرقيق للحي والميت؛ قلت: وقد سألوني أن أشتري لهم ثوباً عليه كتاب، فقال لهم: إن أردتم اشتريه ونقلع الكتاب؛ قلت: إنما يريدون ذلك للكتاب؛ فقال: لا تشتره.
خامساً: أن لا يكون لباس شهرة
نهى الإسلام عن لباس الشهرة، وهو الرفيع جداً أوالوضيع جداً، أوالمخالف لما تعارف عليه الناس، ولم يخالف أمراً شرعياً، سواء كان ذلك في شكل الثوب، أولونه، أوكيفية حياكته.
عن ابن عمر يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "أنه نهى عن الشهرتين، فقيل: يا رسول الله، وما الشهرتان؟ قال: رقة الثياب وغلظها، ولينها وخشونتها، وطولها وقصرها، ولكن سداداً بين ذلك واقتصاداً".
لأهل العلم في ثوب الشهرة ثلاثة أقوال، هي:
1. حرام، للحديث السابق.
2. مكروه.
3. جائز، وهذا بعيد مع هذا الوعيد.
فيتقلب الحكم بين الحرمة والكراهة حسب درجة الشهرة واصطحاب ذلك بالخيلاء.
قال ابن مفلح: قال في "الرعاية الكبرى": يكره في غير حرب إسبال بعض لباسه فخراً وخيلاء، وبطراً، وشهرة، وخلاف زي بلده بلا عذر، وقيل: يحرم ذلك، وهو أظهر، وقيل: ثوب الشهرة ما خالف زي بلده، وأزرى به، ونقص مروءته، انتهى كلامه.
والقول بتحريم ذلك خيلاء هو ظاهر كلام الإمام أحمد، وقطع به في "المستوعب" و"الشرح"، وهو الذي وجدته في كلام الشيخ تقي الدين.
ونص أحمد على أنه لا يحرم ثوب الشهرة، فصارت الأقوال ثلاثة، فإن أحمد رضي الله عنه رأى على رجل برداً مخلطاً بياضاً وسواداً، فقال: ضع عنك هذا، واكسب لباس أهل بلدك، وقال: ليس هو بحرام، ولو كنت بمكة أوالمدينة لم أعب عليك.
وقال في "التخليص" وابن تميم: يكره ثوب الشهرة، وهو ما خالف ثياب بلده، وقال ابن تميم: ويكره لبس ما يخرج بلابسه إلى الخيلاء، وقال في "المستوعب": يكره من اللباس ما يشتهر به عند الناس، ويزري بصاحبه، وينقص مروءته، وفي "الغنية": من اللباس المتنزه عنه كل لبسة يكون بها مشتهراً بين الناس، كالخروج عن عادة أهل بلده وعشيرته، فينبغي أن يلبس ما يلبسون لئلا يشار إليه بالأصابع، ويكون ذلك سبباً إلى حملهم على غيبته، فيشاركهم في إثم الغيبة.
إلى أن قال: ويدخل في الشهرة وخلاف المعتاد من لبس شيئاً مقلوباً ومحولاً، كجبة وقباء، كما يفعله بعض أهل الجفاء والسخافة والانخلاع، والله أعلم.
ومن أمثلة لبس الشهرة لبس اللون الأسود والأخضر، لأنهما أضحيا شعاراً لأهل الأهواء.
سادساً: أن يشبه لباس العرب
يشترط في لباس المسلم ذكراً كان أم أنثى أن يشبه لباس العرب ويخالف لباس العجم.
قال ابن مفلح: وقال القاضي، وابن عقيل، والشيخ عبد القادر – الجيلاني – وغيرهم رحمهم الله: ومن اللباس المكروه ما خالف زي العرب، وأشبه زي الأعاجم وعاداتهم، ومن هذا العمامة الصماء، وهي مكروهة، نص عليه الإمام أحمد والأصحاب، وهل هي كراهة تحريم أوتنزيه؟ فيه خلاف، وقد كره أحمد النعل الصَّرارة، وقال من زي العجم، قال الميموني: ما رأيتُ أبا عبد الله قط مُرْخي الكمين، يعني في المشي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن الذي عليه أهل السنة أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، عبرانيهم، وسريانيهم، ورومهم، وفرسهم، وغيرهم، وأن قريش أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفساً وأفضلهم نسباً.
وليس فضل العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم، لمجرد كون رسول الله منهم، وإن هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل.
واستدل على ذلك بما صح عند مسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".(3/13)
وبما خرجه الترمذي: "إن الله خلق الخلق فجعلني في خير فرقهم، فخيِّر الفريقين، ثم خيَّر القبائل فجعلني في خير قبيلة، ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً".
ثم علل لأفضلية العرب بأنهم أفهم، وأحفظ، وأقدر على البيان والعبارة.
من الملابس التي كرهها الإسلام البنطلون، والقميص، والإسكيرت، والبلوزة، لأنها أصبحت شعاراً للكفار.
سابعاً: أن لا يشبه لباس الكفار
لقد نهى الإسلام أتباعه نهياً تاماً عن التشبه في أي أمر من الأمور دقيقها وجليلها، حقيرها وعظيمها، سيما في الأعياد، والملبس، والمظهر، والتحدث، وأمر المسلم أن يعتد بدينه، وبمظهره، ومخبره.
التشبه بالكفار حرام، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما روى ابن عمر رضي الله عنهما: "ومن تشبه بقوم فهو منهم".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد تكلم أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في لباسهم وأعيادهم.
وقال: وروي عن حذيفة أنه دعي إلى وليمة، فرأى شيئاً من زي الأعاجم، فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم.
إلى أن قال: فإذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم، دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديماً وحديثاً، وما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن السابقون الأولون عليه.. ولهذا كان الذين ينالون العلم والإيمان من أبناء فارس إنما حصل لهم ذلك بمتابعتهم للدين الحنيف بلوازمه من العربية وغيرها، ومن نقص من العرب إنما بتخلفهم عن هذا، وإما بموافقتهم للعجم فيما السنة أن يخالفوا فيه.
ومما يشبه لباس الكفار مما ابتلي به كثير من المسلمين لبس البنطلون والقميص، حيث صار شعاراً للحضارة المادية الكافرة.
ثامناً: أن لا يشبه لبس الرجال النساء، ولا لبس النساء الرجال
يحرم على الرجال التشبه بالنساء في أي أمر من الأمور، في تقلد الأمور، وفي اللباس، والمشية، والكلام، وفي تصفيف الشعر، والزينة، ونحو ذلك، قال تعالى: "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن"، وكذلك الأمر بالنسبة للنساء، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: قال الطبري: المعنى لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس، قلت: وكذا في الكلام والمشي.
فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد، فرب قوم لا يفترق زي نسائهم من رجالهم في اللبس، لكن يمتاز النساء بالاحتجاب والاستتار، وأما ذم التشبه بالكلام والمشي فتختص بمن تعمد ذلك، وأما من كان ذلك من أصل خلقته فإنما يؤمر بتكلف تركه والإدمان على ذلك بالتدرج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذم، ولا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به، وأخذ هذا واضح من لفظ المتشبهين، وأما إطلاق من أطلق كالنووي، وأن المخنث الخلقي لا يتجه عليه اللوم، فمحمول على ما إذا لم يقدر على ترك التثني والتكسر في المشي والكلام بعد تعاطيه المعالجة لترك ذلك، وإلا متى كان ترك ذلك ممكناً ولو بالتدريج فتركه بغير عذر لحقه اللوم.
إلى أن قال: وقال ابن التين: المراد باللعن في هذا الحديث من تشبه من الرجال بالنساء في الزي، ومن تشبه من النساء بالرجال كذلك، فأما من انتهى في التشبه بالنساء من الرجال إلى أن يؤتى في دبره، وبالرجال من النساء إلى أن يتعاطى السحاق بغيرها من النساء، فإن لهذين الصنفين من الذم والعقوبة أشد عن من لم يصل إلى ذلك.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة ما ملخصه: ظاهر اللفظ الزجر من التشبه في كل شيء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير.
إلى أن قال: واستدل به على أنه يحرم على الرجل لبس الثوب المكلل باللؤلؤ، وهو واضح لورود علامات التحريم وهو لعن من فعل ذلك، وأما قول الشافعي: ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا أنه من زي النساء، فليس مخالفاً لذلك، لأن مراده أنه لم يرد في النهي عنه بخصوصه شيء.
وقال ابن مفلح: يكره تشبه رجل بامرأة، وامرأة برجل في لباس وغيره، ذكره صاحب "المستوعب" وابن تميم، وقدمه في "الرعاية الكبرى"، وعنه يحرم ذلك، وقطع به الشيخ موفق الدين وهو أولى، وقطع به أكثر الشافعية، والأول ذكره صاحب "المحيط" من الحنفية.(3/14)
قال المروذي: سألت أبا عبد الله: يخاط للنساء هذه الزيقات العراض؟ فقال: إن كان شيء عريض فأكرهه، هو محدث، وإن كان شيء وسط لم ير به بأس، وكره أن يصير للمرأة مثل جيب الرجال.. وكنت يوماً عند أبي عبد الله فمرت به جارية عليها قباء، فتكلم بشيء، فقلت: تكرهه؟ قال: كيف لا أكرهه جداً؟ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال؛ ويدخل في هذه المسألة حكم الخف، فينهى النساء عن لبس خف يشبه خف الرجال، وقد صرح به الشيخ تقي الدين، ولا تنافي بين هذا وبين نص الإمام أحمد والأصحاب رحمهم الله تعالى على إباحة لبس الخف للمرأة.
ويدخل فيها أيضاً – أي في التشبه – حكم العمامة لها، وقد صرح به الأصحاب، والمرجع في اللباس إلى حكم عرف البلد، ذكره في "التلخيص".
ولا تختمر المرأة كخمار الرجل، بل يكون خمارها على رأسها لية وليتين.
قلت: العرف المعتبر هو الذي لا يخالف الشرع، ولا يكون فيه تشبه بالكفار، فإذا تعارف الرجال والنساء مثلاً على لبس ما عند الكفار، مثل لبس البنطلون والقميص للرجال، والإسكيرت والبلوزة للنساء، كما هو الحال الآن في معظم بلاد المسلمين، لا اعتبار لهذا العرف، لمخالفته الصريحة للشرع.
تاسعاً: تجنب الخيلاء
لقد نهى الإسلام عن الخيلاء في اللبس والكلام، وفي المشية، وفي أي شيء، وتوعد على ذلك بالعذاب الأليم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني عذبته"، يعني فيهما.
وعنه يرفعه: "بينما رجل يمشي في حُلة تعجبه نفسه، مُرَجَّلٌ رأسُه، يختال في مشيته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة".
وفي الحديث كذلك: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، ومن تواضع لله رفعه.
عاشراً: تجنب الإسراف
لقد نهى الله ورسوله عن الإسراف، وحذرا منه في أي أمر من الأمور، فقال عز من قائل: "ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين".
فالإسراف حرام في اللبس، والأكل، والشرب، وفي الطهارة، وفي جميع المباحات، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً أن يسرف في الوضوء ولو كان يتوضأ من نهر جارٍ.
الحادي عشر: تجنب الألوان الصارخة والتي أضحت شعاراً لأهل الأهواء والفساق
مما ينبغي للمسلم أن يتجنبه في لباسه ذكراً كان أم أنثى الألوان الصارخة، نحو الأحمر القاني، وكذلك الألوان التي أضحت شعاراً لأهل الأهواء، نحو لبس السواد، لأنه أضحى شعار الرافضة، والأخضر الذي أصبح شعاراً لبعض الطرقية.
لقد لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر الألوان، ولكنه استحب البياض للأحياء والأموات، فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم".
وقال البراء: "رأيته – أي الرسول – في حلة حمراء".
وقال أبو جحيفة: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء".
وعن جابر قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعليه عمامة سوداء".
وعن عائشة قالت: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مِرْط مرجل من شعر أسود".
قال ابن مفلح: يباح لبس السواد من عمامة، نص عليه أحمد، وثوب وقباء، وهذا معنى ما في "المستوعب"، و"التلخيص"، و"الشرح"، وقيل: إلا لمصاب أوجندي في غير حرب، وعنه يكره للجندي مطلقاً، وخياطه إذا روع به مسلماً، وأجازه للمرأة، نقله عنه المروذي، وقيل: فمن ترك ثياباً سوداء يحرقها الوصي، قال الخلال عن المروذي عنه، وهذا يقتضي تحريمه، وعلل أحمد بأنه لبس الجند أصحاب السلطان الظلمة، وسأل الإمام أحمد المتوكل أن يعفيه من لبس السواد فأعفاه؛ فسلم رجل على أحمد فلم يرد عليه، وكان عليه جبة سوداء، رواه الخلال.
لعل دليل أحمد في عدم رده على لابس السواد ما رواه عبد الله بن عمرو قال: "مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان أحمران، فسلم فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم".
الثاني عشر: تجنب لبس ما فيه صورة إنسان، أوحيوان، أوصليب
ينبغي للمسلم أن يتجنب في لبسه رجلاً كان أوامرأة أوطفلاً ما فيه صورة إنسان أوحيوان.
تصوير ما فيه نفس من المحرمات الكبائر، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تصاوير".
قال ابن مفلح: يكره الصليب في الثوب ونحوه، قال ابن حمدان: ويحتمل التحريم، قال أحمد رحمه الله في رواية صالح في الخواتيم التي عليها الصور: كانت نقشت في الجاهلية لا ينبغي لبسها لما فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، وعُذب"، وقد قال إبراهيم: أصاب أصحابنا خمائص فيها صُلب، فجعلوا يضربونها بالسلوك يمحونها..
ويحرم تصوير حيوان برأس ولو في سرير، أوحائط، أوسقف بيت، أوقبة، واستعمال ما هو فيه بلا ضرورة، وجعله ستراً معلقاً، وذكره في الرعاية، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي.(3/15)
وقال في "الشرح" في باب الوليمة: وصنعة التصاوير محرمة على فاعلها، ولم يفرق، وهو قول بعض السلف، قال: والأمر بعمله محرم كعمله، وقال في "المستوعب": تكره التصاوير في السقوف، والستور، والحيطان، والأسِرَّة، ونحو ذلك.
وقال ابن تميم: وينهى عن التصاوير في السقوف والحيطان والأسرة ونحوها؛ وقال ابن أبي موسى: الصور والتماثيل مكروهة عنده في الأسرة والجدران وغير ذلك، إلا أنها في الرَّقم أيسر، وتركه أفضل، فإن أزيل رأس الصورة، أوكانت بلا رأس جاز، نص عليه، وفيه وجه يكره، وقطع به في "المستوعب".
ويباح بسطه مطلقاً، قال في الرعاية وغيرها: وصورة غيرها مطلقاً كشجر وغيره من التماثيل، والصلاة عليها، وذكر في "المستوعب" وابن تميم أنه لا بأس بما فيه تماثيل غير الحيوان، وهل يكره لبس ما فيه صورة حيوان للرجال والنساء أويحرم؟ على وجهين، ولا بأس بافتراشه.
إلى أن قال: وقال في "التلخيص": يحرم لبس الثياب التي فيها تصاوير وتعليقها ستوراً – على الرجال والنساء – إلا من ضرورة.
الفصل الثاني: لباس الرجل
لقد فرَّق الله بين الرجال والنساء في أمور كثيرة، من تلك الأمور اللباس، فعورة الرجل تختلف عن عورة المرأة، ولبس الرجل في الصلاة وفي إحرامه يختلف عن لبس المرأة، بل لقد فرق بعض أهل العلم بين كفن الرجل والمرأة، وهذا كله ينفي الدعوة الكاذبة التي يرفعها بعض دعاة تحرير المرأة من القيود الشرعية من أن الله تعبَّد المرأة بكل ما تعبَّد به الرجل، وأن المرأة مساوية للرجل في الحقوق والواجبات.
فعلى النساء أن يتقين الله عز وجل في أنفسهن، ولا يتمنين ما فضل الله به الرجال على النساء، وأن يرضين بما قسم الله لهن.
فلبس الرجل يختلف عن لبس المرأة في أمور، وسنتحدث في هذا الفصل بشيء من التفصيل فيما يخص لبس الرجل، وسنردفه بما هو خاص بالمرأة في الفصل الذي يليه، فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: عورة الرجل والصبي دون البلوغ
أرجح أقوال العلماء أن عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة، هذا بجانب أن العورة المغلظة هي السوأتان.
وستر العورة واجب في الصلاة وغيرها، ولا يحل لرجل كشف عورته إلا لامرأته أوما ملكت يمينه.
قال تعالى: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً" الآية.
قال القرطبي في تفسيرها: قال كثير من العلماء: هذه الآية دليل على وجوب ستر العورة، لأنه قال: "يواري سوءاتكم"، وقال قوم: إنه ليس فيها دليل على ما ذكروه، بل فيها دلالة على الإنعام فقط.
قلت: القول الأول أصح، ومن جملة الإنعام ستر العورة.
إلى أن قال: ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس، واختلفوا في العورة ما هي؟.
ثم ذكر اختلاف أهل العلم في ذلك، ملخصها:
1. من السرة إلى الركبة.
2. السرة ليست بعورة، وهذا مذهب مالك.
3. السرة والركبتان ليسا بعورة، وهذا مذهب الشافعي.
4. الفرج فقط، القبل والدبر، وهذا مذهب ابن أبي ذئب وداود بن علي الظاهري.
احتج القائلون بأن السرة ليست بعورة بما روي أن أبا هريرة قبَّل سرة الحسن بن علي، وقال: أقبل منك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل منك؛ بأن لو كانت السرة عورة لما قبلها أبوهريرة، ولا مكنه الحسن من ذلك.
والدليل على أنه لا يجوز للرجل أن يكشف عورته إلا لزوجه أوما ملكت يمينه ما رواه أهل السنن: "احظ عورتك إلا من زوجتك، أوما ملكت يمينك؛ قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا ترينها أحداً؛ قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: الله أحق أن يستحي منه من الناس".
والدليل على أن الفخذ عورة ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "غط فخذك فإن الفخذ من العورة".
ثانياً: ما يلبسه الرجل في بيته
يلبس الرجل في بيته ما يشاء إذا كان ما يلبسه ساتراً ما بين السرة إلى الركبة، نحو القميص والسراويل أو"التبان"، أوسراويل و"فنيلة"، أوإزار ورداء، وما شابه ذلك من الملابس التي اعتاد الناس أن يلبسوها في بيوتهم.
هذا إذا لم يكن معه في البيت أحد من غير محارمه، أما إن كان معه غير المحارم فعليه أن يغطي أعلى جسده كذلك.
ثالثاً: ما يلبسه الرجل والصبي المميز في صلاتهما
أقل ما يصلي فيه الرجل وكذلك الصبي المميز سراويل، أوإزار يغطي ما بين السرة والركبة، وأن يجعل على عاتقه شيئاً من الثياب قميصاً أورداءً، والأكمل والأفضل له أن يصلي في قميص أوثوب أو"جلابية"، وسراويل أوإزار، ويغطي رأسه بطاقية أوعمامة.
قال الثوري: يستحب أن يصلي الرجل في أحسن ثيابه المتيسرة له، ويتقمص ويتعمم.
قال صاحب سبيل السعادة المالكي: عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة.. فيجب على المكلف ستر ما بين السرة والركبة، وليس هذا مطلوباً في الصلاة خاصة، بل في الصلاة وخارج الصلاة، سواء في وجوب ستر ما بين السرة والركبة، وأن هذا واجب في جميع أحوال المكلف، فيحرم عليه كشف شيء من هذا سواء كان متلبساً بالصلاة أم لا.(3/16)
إلى أن قال: تكره الصلاة في السراويل إلا إذا كان فوقها شيء، لكن الحكم بالكراهة إذا لم يكن شفافاً يبدو منه العورة، وإلا كان حراماً، ما لم يكن فوقه شيء كثيف يحجب لون العورة، وإلا انتفت الحرمة والكراهة.
من صلى في لباس ضيق يصف العورة المغلظة، أوشفاف يحكي لون العورة بطلت صلاته وإن كان خالياً، فكيف إذا كان أمام الناس؟ والفرض والنفل سواء، وكذلك سواء كان يصلي في بيته أوفي المسجد وهو أشد حرمة، هذا إن لم يكن مضطراً لا يجد غير تلك الملابس.
قال النووي: قال أصحابنا – الشافعية -: يجب الستر بما يحول بين الناظر ولون البشرة، فلا يكفي ثوب رقيق، يشاهد من ورائه سواد البشرة أوبياضها، ولا يكفي كذلك الغليظ المهلهل النسيج الذي يظهر بعض العورة من خلله، فلو ستر اللون ووصف حجم البشرة، كالركبة والإلية ونحوهما صحت صلاته فيه لوجود الستر، وحكى الدارمي وصاحب البيان وجهاً أنه لا يصح إذا وصف الحجم وهو غلط ظاهر، ويكفي الستر بجميع أنواع الثياب، والجلود، والورق، والحشيش المنسوج، وغير ذلك مما يستر لون البشرة، وهذا لا خلاف فيه، ولو ستر بعض عورته بشيء من زجاج بحيث ترى البشرة منه لم تصح صلاته بلا خلاف، ولو وقف في ماءٍ صافٍ لم تصح صلاته إلا إذا غلبت الخضرة لتراكم الماء.
وقال الشيرازي الشافعي: ويستحب للرجل أن يصلي في ثوبين، قميص ورداء، أوقميص وإزار، أوقميص وسراويل.
جاء في نيل المآرب وهو يتحدث عن شروط صحة الصلاة: ستر العورة، قال ابن عبد البر: أجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به، وصلى عرياناً، فيجب سترها حتى عن نفسه، وفي خلوة، وظلمة، وخارج الصلاة، بما لا يصف لون بشرة العورة من بياض أوسواد، لأن الستر إنما يحصل بذلك.
إلى أن قال: ويكفي الستر بغير منسوج كورق، وجلد، ونبات، ويباح كشف العورة لتداوٍ، وتخل، ونحوهما، كزوج لزوجه.
وعورة الرجل وبالغ عشراً.. ما بين سرة وركبة، وعورة ابن سبع إلى عشر الفرجان.. وسُنَّ صلاة رجل في ثوبين: كقميص أورداء معه إزار، أومعه سروال، مع ستر رأسه، والإمام أبلغ لأنه يقتدى به، ويجزي الرجل في نفل ستر عورته، وأما في فرض عين، أونذر، أوفرض كفاية، فلابد من ستر عورته ومن ستر جميع أحد عاتقيه، بلباس ولو وصف البشرة، إذا قدر عليه، وإلا فأي شيء ستر به عاتقه أجزأه.
الأدلة على ستر العاتقين – الكتفين – في الصلاة
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوقال عمر رضي الله عنه: "إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما، فإن لم يكن له إلا ثوب واحد فليتزر به، ولا يشتمل اشتمال اليهود".
2. وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي في لحاف لا يتوشح به، والآخر أن تصلي في سراويل وليس عليك رداء".
3. "لا يصلينَّ أحدُكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء".
قال الخطابي: اشتمال اليهود المنهي عنه هو أن يخلل بدنه بالثوب ويسبله من غير أن يرفع طرف، قال: واشتمال الصماء: أن يخلل بدنه بالثوب ثم يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر، فاشتمال الصماء: إدارة الثوب على جميع البدن لا يخرج منه يده.
قال النووي عن هذا النهي: نهي كراهة تنزيه لا تحريم، فلو صلى مكشوف العاتقين صحت صلاته مع الكراهة، هذا مذهبنا، ومذهب مالك، وأبي حنيفة، وجمهور السلف والخلف، وقال أحمد وطائفة قليلة: يجب وضع شيء على عاتقه لظاهر الحديث، فإن تركه ففي صحة صلاته عند أحمد روايتان، وخصَّ أحمد ذلك بصلاة الفرض.
حكم ستر العورة في الصلاة
ذهب أهل العلم في حكم ستر العورة في الصلاة مذاهب، هي:
1. فرض في الصلاة خاصة، وشرط في صحتها.
2. فرض في الجملة في الصلاة وخارجها.
3. واجب.
4. سنة.
والراجح أنها شرط لصحة الصلاة، مع الذكر والقدرة، للأدلة السابقة.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد" الآية: دلت الآية على وجوب ستر العورة كما تقدم، وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة، وقال الأبهري: هي فرض في الجملة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها، وهو الصحيح، لقوله عليه السلام للمِسْوَر بن مخرمة: "ارجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة" أخرجه مسلم، وذهب إسماعيل القاضي إلى أن ستر العورة من سنن الصلاة، واحتج بأنه لو كان فرضاً في الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلي، لأن كل شيء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه، أوبدله مع عدمه، أوتسقط الصلاة جملة، وليس كذلك.(3/17)
وقال النووي عن مذاهب العلماء في ستر العورة في الصلاة: قد ذكرنا أنه شرط عندنا –الشافعية– وبه قال داود، وقال أبو حنيفة: إن ظهر ربع العضو صحت صلاته وإن زاد لم تصح، وإن ظهر من السوأتين قدر درهم بطلت صلاته، وإن كان أقل لم تبطل؛ وقال أبو يوسف: إن ظهر نصف العضو صحت صلاته، وإن زاد لم تصح؛ وقال بعض أصحاب مالك: ستر العورة واجب وليس بشرط، فإن صلى مكشوفها صحت صلاته، سواء تعمد أوسها؛ وقال أكثر المالكية: الستر شرط مع الذكر والقدرة عليها، فإن عجز أونسي الستر صحت صلاته، وهذا هو الصحيح عندهم، وقال أحمد: إن ظهر شيء يسير صحت صلاته، سواء العورة المخففة والمغلظة؛ دليلنا أنه ثبت الستر بحديث عائشة، ولا فرق بين الرجل والمرأة بالاتفاق، وإذا ثبت الستر اقتضى جميع العورة، فلا يقبل تخصيص البعض إلا بدليل.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما صلاة الرجل بادي الفخذين، مع القدرة على الإزار، فهذا لا يجوز، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف.
لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه
من نظر إلى عورة نفسه أوعورة غيره وهو في الصلاة فقد بطلت صلاته وعليه الإعادة.
قال القرطبي: واختلفوا إذا رأى عورة نفسه، فقال الشافعي: إذا كان الثوب ضيقاً يُزرّه، أويخلله بشيء لئلا يتجافى القميص، فترى من الجيب العورة، فإن لم يفعل ورأى عورة نفسه أعاد الصلاة، وهو قول أحمد، ورخص مالك في الصلاة في القميص المحلول الإزار، ليس عليه سراويل، وهو قول أبي حنيفة وأبي ثورن وكان سالماً يصلي محلول الإزار، وقال داود الطائي: إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به، وحكى معناه الأثرم عن أحمد.
من انكشفت عورته وهو في الصلاة
من انكشفت عورته وهو في الصلاة إن كان يصلي خالياً فتداركها في الحال صحت صلاته، واختلف في ذلك إن كان إماماً ورآه غيره على أقوال.
قال القرطبي: قال ابن العربي –المالكي-: وإذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه فغطاه أجزأه، قاله ابن القاسم، وقال سحنون: كل من نظر إليه من المأمومين أعاد؛ وروي عن سحنون أيضاً: أنه يعيد ويعيدون؛ لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة، أصله كالطهارة، قال القاضي ابن العربي: أما من قال إن صلاتهم لا تبطل، فإنهم لم يفقدوا شرطاً، وأما من قال: إن أخذه مكانه صحت صلاته، وتبطل صلاة من نظر إليه، فصحيفة يجب محوها، ولا يجوز الاشتغال بها.
صح عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: "لما رجع قومي من عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قال: ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن؛ قال: فدعوني وعلموني الركوع والسجود، وكنت أصلي بهم، وكانت عليَّ بردة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا اسْتَ ابنك".
وصح عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "لقد كانت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كأمثال الصبيان، فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال".
وكان ذلك للضيق الذي كانوا عليه.
إن لم يجد المصلي إلا خرقة
إن لم يجد المصلي إلا خرقة غطى عورته المغلظة، وإن لم يجد إلا ما يستر إحدى السوأتين غطى القبل.
قال الثوري: إذا وجد ما يستر به بعض العورة فقط لزمه التستر به بلا خلاف.. فإن لم يكن إلا أحدهما فأربعة أوجه أصحها باتفاق الأصحاب يستر القبل، ونص عليه الشافعي في الأم.
من لم يجد إلا ثوباً نجساً، أومسروقاً، أومغصوباً، أوحريراً
من لم يجد ما يستر به عورته إلامن الحرام أوالنجس لزمه لبسه، فإن الضرورات تبيح المحظورات، ولا يحل له أن يصلي عرياناً وهو واجد لواحد من ذلك.
حكم صلاة العراة، وكيفيتها، وهل تعاد إذا وجدوا ما يسترون به عورتهم؟
من عجز عن ستر عورته لا تسقط عنه الصلاة، ويجزئه أن يصلي عرياناً، وذهب أهل العلم في كيفية صلاة العريان مذهبين:
1. يصلي قائماً.
2. يصلي جالساً، ويومئ بالركوع والسجود.
وإن كانوا جماعة صلوا قياماً ووقف إمامهم وسطهم، ولا يحل له ولا لهم أن يتقدمهم.
وهذا كله يدل على مكانة الصلاة في الإسلام، وعلى أن أداءها في جماعة للرجال من الواجبات إلا بعذر شرعي، كيف لا وقد شرعت الجماعة في صلاة الخوف ساعة الحرب والقتال؟
ولا إعادة على من صلى عارياً، وإنما يستتر لما يستقبل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد اختلف في وجوب ستر العورة إذا كان الرجل خالياً، ولم يختلف في أنه في الصلاة لابد من اللباس، لا يجوز الصلاة عرياناً مع قدرته على اللباس باتفاق العلماء، ولهذا جوز أحمد وغيره للعراة أن يصلوا قعوداً، ويكون إمامهم وسطهم، بخلاف خارج الصلاة.(3/18)
وقال ابن قدامة: وجملة ذلك أن العادم للسترة لا تسقط عنه الصلاة، لا نعلم فيه خلافاً، وذلك لأن هذا شرط للصلاة، فلا تسقط الصلاة بالعجز عنه، كالاستقبال والوضوء، ولأنه واجب في الصلاة فأشبه أركان الصلاة، فإذا عدم السترة فإنه يصلي قاعداً، وروي ذلك عن ابن عمر، وقال به عطاء، وعكرمة، وقتادة، والأوزاعي، وأصحاب الرأي، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال مجاهد، ومالك، والشافعي، وابن المنذر: يصلي قائماً بركوع وسجود، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فجالساً"، ولأنه مستطيع للقيام من غير ضرر، فلم يجز تركه له كالقادر على الستر، ولنا ما روى الخلال بإسناده عن ابن عمر في قوم انكسرت بهم مراكبهم، فخرجوا عراة، قال: يصلون جلوساً، يومئون إيماءً برؤوسهم؛ ولم ينقل خلافه، ولأن الستر آكد من القيام، بدليل أمرين، أحدهما أنه لا يسقط مع القدرة بحال، والقيام يسقط في النافلة، والثاني أن القيام يختص بالصلاة، والستر يجب فيها وفي غيرها، فإذا لم يكن بد من ترك أحدهما فترك أخفهما أولى من ترك الآكد.
إلى أن قال: وإذا ثبت هذا، فليس علىمن صلى في هذه الحال إعادة، لأنه شرط من شرائط الصلاة سقط عنه، كما لو عَجَزَ عن استقبال القبلة فصلى إلى غيرها.
وإن صلى العُريان قائماً، وركع وسجد، صحت صلاته أيضاً في ظاهر كلام أحمد رحمه الله، وهو قول أصحاب الرأي، وقال ابن جريج: يتخيرون بين القيام والقعود.
وعلى كل حال فينبغي لمن صلى عُرياناً أن يضم بعضه إلى بعض، ويستر ما أمكن ستره، قيل لأبي عبيد الله: يتربعون أويتضامون؟ قال: بل يتضامون.
وقال النووي: إذا اجتمع رجال عراة صحت صلاتهم جماعة وفرادى، فإن صلوا جماعة وهم بصراء وقف إمامُهم وسطهم، فإن خالف ووقف قدامهم صحت صلاته وصلاتهم، ويغضون أبصارهم، فإن نظروا لم يؤثر في صحة صلاتهم، وهل الأفضل أن يصلوا جماعة أم فرادى؟ ينظر إن كانوا عمياً أوفي ظلمة بحيث لا يرى بعضُهم بعضاً استحب الجماعة بلا خلاف، ويقف إمامهم قدامهم.
إلى أن قال:
أما إذا اجتمع نساء عاريات فالجماعة مستحبة لهن بلا خلاف، لأن إمامتهن تقف وسطهن في حال اللبس أيضاً، وإن اجتمع رجال ونساء عراة لم يصلوا جميعاً لا في صف ولا في صفين، بل يصلي الرجال ويكون النساء جالسات خلفهم، مستدبرات القبلة، ثم يصلي النساء، ويجلس الرجال خلفهن مستديرين، فإن أمكن أن تتوارى كل طائفة في مكان آخر حتى تصلي الطائفة الأخرى فهو أفضل.
ما يلبسه المصلي
أ. في بيته
أقل ما يجزئ المصلي الواجد للباس ثوب واحد يضع منه شيئاً على عاتقه، والأفضل أن يصلي في ثوبين، قميص وسراويل، أوإزار ورداء، وإن زاد على ذلك ثوب أوجلابية وطاقية أوعمامة كان أفضل، والسنة أن يتخذ الإنسان لنفسه مسجداً في بيته رجلاً كان أوامرأة، إن تيسرت غرفة صغيرة فبها، وإلا مكاناً في بيته يخلو فيه إلى نفسه ويناجي فيه ربه، يصلي فيه السنن الرواتب، ويقيم فيه ليله، ويتنفل فيه متى شاء، اقتداء بالسلف الصالح، وتشبهاً بالأخيار، فإن التشبه بالرجال فلاح.
ب. وهو ذاهب إلى المسجد
على المصلي وهو خارج إلى المسجد لصلاة الجماعة أن يخرج في أحسن حال متيسرة له، قميص طويل وسراويل طويلة، وطاقية أوعمامة، وإن كان واجداً لثوب – جلابية - وعمامة، فعليه أن يلبس ذلك، متجنباً الملابس الضيقة التي تصف العورة، والرقيقة التي تشف عما تحتها، وما فيه صورة حيوان أوإنسان، والألوان الصارخة.
هذا مع التنظف، والتطيب، وترجيل الشعر، وتجنب الأطعمة والأشربة ذات الروائح الكريهة، كالبصل، والثوم، والكراث، والدخان "السجائر"، والشيشة"، ونحو ذلك، حتى لا يؤذي الملائكة ولا إخوانه المصلين.
ج. وهو ذاهب إلى الجمعة والعيدين
السنة أن يغتسل المرء وهو خارج إلى الجمعة والعيدين، ويلبس أحسن ما عنده من الثياب، ويتطيب ويتزين، لأنه من باب تعظيم شعائر الله، والأفضل أن يخصص ملابس معينة للجمعة والعيدين.
د. الأئمة
ينبغي للأئمة أن يكون لهم زيادة اعتناء بالملابس والنظافة والطيب، لأنهم هم القدوة والأسوة، وليحذروا أشد الحذر الإسبال، وهو ما زاد على الكعبين في الثياب والسراويل، وما زاد على الرسغ في الأكمام.
ه. العمال والحرفيون والصناع
ينبغي لهؤلاء وغيرهم أن يحملوا معهم لباساً خاصاً بالصلاة، وعليهم أن يوقفوا أعمالهم قبل الأذان ويتنظفوا ويخلعوا ملابس العمل، ويلبسوا ما يحملوه معهم وهم ذاهبون إلى المسجد، حتى لا يحرجوا المصلين بملابس العمل ولا بالروائح الكريهة.(3/19)
ومما يؤسف له أن بعض العمال وكذلك بعض الموظفين يتهاونون في أداء الصلاة المكتوبة في أوقاتها ومع جماعة المسلمين، بل وفي ترك الجمعة مع الوعيد الوارد في ذلك – من ترك ثلاث جمع متتاليات تهاوناً طبع على قلبه بالنفاق- بحجة أنهم غير مستعدين لذلك، ولابد لهم من تغيير ملابسهم هذه، ولا شك أن هذا المسلك لا يجوز أبداً، فعندما يخرج الإنسان من بيته يعلم أن من أوجب الواجبات عليه أداء هذه الصلوات في جماعة، وعليه أن يستعد لذلك وأن يتهيأ له، وليس في ذلك أدنى حرج ولا مشقة، فإنه يحمل من أدوات عمله ما هو أشق عليه من حمل ثوب نظيف في زمبيل ليصلي فيه.
الأدلة على ذلك
1. قوله عز وجل: "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد" الآية.
2. عن أبي أيوب الأنصاري رض الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد، ثم ركع إن بدا له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينهما".
3. وعن عبد الله بن سلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر في يوم الجمعة: "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته".
4. روى وكيع عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يعجبه إذا قام إلى الصلاة الريح الطيبة والثياب النقية.
5. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "مروءة الرجل نقاء ثوبه".
6. روى ابن عبد البر عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه رأى نافعاً يصلي في ثوب واحد، قال:ألم تكتس ثوبين؟ قلتُ: بلى؛ قال: فلو أرسلت إلى الدار أكنت تذهب في ثوب واحد؟ قلتُ: لا؛ قال: فالله أحق أن تتزين له، أوللناس؟ قلتُ: بل الله".
قال ابن مفلح معلقاً على ذلك: وقال القاضي –أبويعلى-: وذلك في الإمام آكد منه في غيره، لأنه بين يدي المأمومين، وتتعلق صلاتهم بصلاته، فإن لم يكن إلا ثوب واحد فالقميص أولى، لأنه أعم في الستر.
وقال القرطبي في تفسير الآية: "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد": هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عرياناً، فإنه عام في كل مسجد للصلاة، لأن العبرة للعموم، لا للسبب.
وقال ابن قدامة: الكلام في اللباس في أربعة فصول، الفصل الأول فيما يجزي في الصلاة، والثاني في الفضيلة، والثالث فيما يكره، والرابع فما يحرم.
أما الأول فإنه يجزئه منه ما ستر عورته، إذا كان على عاتقه شيء من اللباس، سواء كان من الثوب الذي ستر به عورته أومن غيره.
إلى أن قال:
الفصل الثاني: وهو أن يصلي في ثوبين أوأكثر، فإنه إذاً أبلغ في الستر، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إذا أوسع الله فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء، في تبان وقميص"..
قال التميمي: الثوب الواحد يجزئ، والثوبان أحسن، والأربع أكمل: قميص، ورداء، وعمامة، وإزار.
وقال ابن تيمية: أمر المصلي بالطهارة والنظافة والطيب، فقد أمرالنبي أن تتخذ المساجد في البيوت، وتنظف وتطيب.
ما يكره فعله للرجال من اللباس في الصلاة
يكره للرجل في الصلاة ما يأتي:
1. السدل
وهو طرح الثوب على كتفيه، ولا يرد طرفه على الآخر – أي إرخاء الثوب وإرساله من غير ضم جانبيه؛ وقد ذهب أهل العلم في السدل مذهبين، منهم من كرهه في الصلاة وغيرها، ومنهم من أجازه في الصلاة وكرهه خارجها.
قال النووي: قال الخطابي: رخص بعض العلماء في السدل في الصلاة، روي ذلك عن عطاء، ومكحول، والزهري، والحسن، وابن سيرين، ومالك، ويشبه أن يكونوا فرقوا بين إجازته في الصلاة دون غيرها، لأن المصلي لا يمشي في الثوب وغيره يمشي عليه ويسبله، وذلك من الخيلاء المنهي عنه، وكان الثوري يكره السدل في الصلاة، وكرهه الشافعي في الصلاة وغيرها، وقال ابن المنذر: ممن كره السدل في الصلاة ابن مسعود، ومجاهد، وعطاء، والنخعي، والثوري، ورخص فيه ابن عمر، وجابر، ومكحول، والحسن، وابن سيرين، والزهري، وعبد الله بن الحسن؛ قال: وروينا عن النخعي أيضاً أنه رخص في سدل القميص وكرهه في الإزار؛ وقال ابن المنذر: لا أعلم في النهي عن السدل خبراً يثبت فلا نهي عنه بغير حجة.
2. الإسبال
الإسبال في الثوب، والقميص، والسراويل، والأكمام حرام خارج الصلاة وداخلها، صُحب بخيلاء أم لا، لأن فعله نفسه خيلاء، وتزداد حرمته في الصلاة، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى بطلان صلاة ووضوء المسبل، وذهب عامتهم إلى نقصان أجر صلاة المسبل.
فليحذر المسلمون عامة من هذه العادة الرذيلة المغضبة للرب، الموسخة للثوب، سيما في حال الصلاة، ويتأكد النهي على الأئمة المقتدى بهم لأن في إسبالهم في الصلاة فتنة لمن خلفهم.
إليك هذا الدليل الخاص بتحريم الإسبال، وأنه مبطل لوضوء وصلاة المسبل:(3/20)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما رجل يصلي مسبلٌ إزاره، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ؛ فذهب فتوضأ، ثم جاء، فقال: اذهب فتوضأ؛ فقال له رجل: مالك يا رسول الله أمرته أن يتوضأ ثم سكتَّ عنه؟ قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل".
قال النووي في رياض الصالحين: رواه أبوداود بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
3. اشتمال الصماء
قال الجوهري: هي أن يتجلل الرجل بثوبه، ولا يرفع منه جانباً، يكون فيه فرجة فيخرج منها يده، وإنما سُمِّيت صماء لأنه إذا اشتمل بها سَدَّ على يديه المنافذ كلها كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق ولا شق.
4. التلثم وتغطية الفم
روى أبو داود بسنده ولم يضعفه عن أبي هريرة يرفعه: "نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة"، إلا في حال التثاؤب.
فيكره للمصلي أن يتلثم بثوب أوعمامة أوأن يغطي فاه لغير ضرورة.
ما يحرم على الرجال والصبيان لبسه في الصلاة
كل ثوب نجس أومحرم، نحو المسروق، والمغصوب، والحرير بأنواعه، وما فيه صورة، إلا أن يكون مضطراً.
رابعاً: ما يلبسه المحرم من الرجال
السنة أن يحرم الرجال والصبيان والغلمان في إزار ورداء أبيضين وفي نعلين، فإن لم يجد الإزار والرداء أحرم في سراويله ولبس حذاءه.
وإحرام الرجل في رأسه فلا يغطيه إلا من عذر، ومن ثم فعليه الفدية، ويرفع الإثم.
خامساً: ما يكفن فيه الرجل
يكفن الرجل وكذلك الصبي المميز إن لم يكن محرماً أوشهيداً في ثلاثة أثواب بيض إن تيسر ذلك، وإن لم يتيسر كفن في أي لون وفي ثوبين أوواحد، جديدة كانت هذه الثياب أم مغسولة.
أما المحرم فإنه يدفن في إحرامه، ولا يُغَطى رأسه ووجهه، فإن إحرامه فيهما، ولا يُطيَّب، لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، هذا ما عليه العامة، ودلت عليه السنة الصحيحة، وذهب مالك إلى أن الإحرام ينقطع بالموت، ولهذا يُكفن المحرم ويُحنَّط كغيره من الناس، والصحيح القول الأول.
وكذلك الشهيد يُكَفن في ملابسه التي استشهد فيها، إلا إذا تمزقت كُفن في ثلاثة أثواب أوفيما تيسر.
الفصل الثالث: لباس المرأة
أولاً: عورة المرأة
أ. الحرة المميزة والمراهقة
ذهب أهل العلم في حد عورة المرأة الحرة المميزة والمراهقة في غير الصلاة والإحرام مذهبين:
1. كلها عورة بما في ذلك الوجه والكفين والصوت.
2. كلها عورة إلا الوجه والكفين.
ومردُّ هذا الخلاف راجع إلى اختلافهم في تأويل الزينة الظاهرة في قوله عز وجل: "ولا يُبْدين زينتهن إلا ما ظهر منها"، إلى قولين، هما:
1. أن المراد بالزينة الظاهرة الثياب، وهذا مذهب ابن مسعود رضي الله عنه ومن وافقه.
2. أن المراد بالزينة الظاهرة الوجه والكفين، وهذا مذهب ابن عباس رضي الله عنه ومن وافقه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين، فقال ابن مسعود ومن وافقه: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي في الوجه واليدين، مثل الكحل والخاتم، وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية، فقيل: يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقول في مذهب أحمد.
وقيل: لا يجوز، وهو ظاهر مذهب أحمد، فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها، وهو قول مالك.
وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين، زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة، وجوَّز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج والمحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنها يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله آية الحجاب بقوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" حُجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش، فأرخى الستر، ومنع النساء أن ينظرن، ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا: إن حجبها فهي في أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها.
فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه، وبناته، ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن – و"الجلباب" هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها، فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب، فكن النساء ينتقبن، وفي الصحيح أن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين، فإذا كن مأمورات بالحجاب لئلا يُعرفن، وهو ستر الوجه، أوستر الوجه بالنقاب، كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين.(3/21)
التوفيق الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من أن ابن مسعود ذكر آخر الأمرين وأن ابن عباس ذكر أول الأمرين قبل الأمر بالحجاب والنهي عن السفور، أي قبل عام خمس من الهجرة، هو الذي تؤيده الأدلة وعليه العلماء المحققون، وعليه العمل عند أهل الإسلام، إلى أن عمَّ طوفان السفور والتبرج، بعد سيطرة وهيمنة الإنجليز والفرنسيين، واستعمار ديار الإسلام، بعد سقوط الدولة العثمانية.
ولله در الشيخ بكر أبوزيد متع الله المسلمين بصحته وعافيته، فبعد أن دلل على وجوب ستر الوجه والكفين بما يكفي ويشفي ختم كلامه: ونقول لكل مؤمن ومؤمنة: فيما هو معلوم من الشرع المطهر، وعليه المحققون، أنه ليس لدعاة السفور دليل صحيح صريح، ولا عمل مستمر من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن حدث في المسلمين حادث السفور في بدايات القرن الرابع عشر، وأن جميع ما يستدل به دعاة السفورعن الوجه والكفين لا يخلو من حال من ثلاث حالات:
1. دليل صحيح صريح، لكنه منسوخ بآيات فرض الحجاب كما يعلمه من حقق تواريخ الأحداث، أي قبل عام خمس من الهجرة، أوفي حق القواعد من النساء، أوالطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء.
2. دليل صحيح غير صريح، لا تثبت دلالته أمام الأدلة القطعية الدلالة من الكتاب والسنة على حجب الوجه والكفين كسائر البدن والزينة، ومعلوم أن رد المتشابه إلى المحكم هو طريق الراسخين في العلم.
3. دليل صريح لكنه غير صحيح لا يحتج به، ولا يجوز أن تعارض به النصوص الصحيحة الصريحة والهدي المستمر من حجب النساء لأبدانهن وزينتهن، ومنها الوجه والكفان.
هذا مع أنه لم يقل أحد في الإسلام بجواز كشف الوجه واليدين عند وجود الفتنة ورقة الدين، وفساد الزمان، بل هم مجمعون على سترهما كما نقله غير واحد من العلماء.
شُبَه المجيزين لكشف الوجه واليدين للمرأة ودحضها
المجيزون لكشف الوجه والكفين والقائلون بأن ذلك ليس من العورة فريقان مختلفان وطائفتان متضادتان:
1. فريق يعمل بما أداه إليه اجتهاده، فهو إن شاء الله مأجور وإن أخطأ الحق، لسلامة قصدهم، وحسن نواياهم، وهم الذين يعنوننا.
2. وفريق يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهم دعاة التبرج والسفور، دعاة تحرير المرأة من القيود الشرعية الذين لا يهدأ لهم بال ولا يقنعون من المرأة بحال إلا إذا تبرجت كتبرج الجاهليات قديماً وحديثاً، فهم يرفعون كلمات حق يريدون بها باطلاً، وشعارات مضللة يزيفون بها على بعض المسلمين ولو إلى حين، فهم يعملون في جلد وصبر، بتخطيط ومكر، فكشف الوجه والكفين لا يشفي غليلهم، ولكنه الخطوة الأولى والبداية الطبيعية.
فهؤلاء ليس لهم غرض في الأدلة الشرعية، ولكنها إذا أتيحت لهم استغلوها أسوأ استغلال، ورفعوها في أوجه الأخيار، ولبَّسوا بها على الجهلة والأغرار، لهذا ينبغي لأهل العلم أن ينتبهوا لذلك، وأن لا يحدثوا بكل ما يعلمون، ولا يظهروا كل ما يعتقدون، وعليهم مراعاة الحال، وتفويت الفرص على الانتهازيين، وليكن لهم في رسولهم والسلف الصالح الأسوة الحسنة، فقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم خوفاً من إرجاف المرجفين، ورحمة بغير الراسخين، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
يتمسك المجيزون لكشف الوجه والكفين ببعض الأدلة، ويرفعون بعض الشبه، لابد من الإشارة إليها ورد أهل العلم المحققين عليها.
والأدلة هي:
1. حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها عندما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا"، وأشار إلى وجهه وكفيه.
وهو حديث مرسل منقطع، حيث قال عنه أبو داود عقب روايته له: هذا مرسل، خالد بن دُريك لم يدرك عائشة.
وأخرجه كذلك البيهقي في سننه الكبرى.
اختلف أهل العلم في مراسيل كبار التابعين كسعيد بن المسيب، فمنهم من أخذ بها إن لم يكن لها معارض، ومنهم من ردها، أما مراسيل صغار التابعين فلا تقبل، كما قال الشافعي: مراسيل كبار التابعين لا تقبل".
هذا بجانب علل أخرى في هذا المرسل بيَّنها أهل العلم المختصين.
وعلى فرض صحته فقد رده أهل العلم بردود منها كما قال ابن قدامة في المغني: وأما حديث أسماء فيُحمل على أنه كان قبل نزول الحجاب.
2. ما راوه ابن جرير الطبري في تفسيره بسنده عن عائشة قالت: "دخلت عليَّ ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض، فقلت: يا رسول الله، إنها ابنة أخي وجارية؛ فقال: إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها، وإلا ما دون هذا؛ وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى".
والحديث ضعيف جداً، والأحاديث الضعيفة لا يُعمل بها في أرجح قولي العلماء، ولا في فضائل الأعمال، فكيف بالأحكام؟!(3/22)
3. حديث عائشة وكانت عندها أسماء أختها، عليها ثياب شامية واسعة الأكمام، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، فسألته عائشة: لِمَ قام؟ قال: أولم تر إلى هيئتها؟! إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا؛ فأخذ بكميه فغطى بهما ظهر كفيه حتى لم يبد من كفيه إلا أصابعه، ثم نصب كفيه على صدغيه حتى لم يبد إلا وجهه".
قال البيهقي: إسناده ضعيف، وعلته أن فيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وبعض من صحيح أحاديثه إنما صححها من رواية العبادة.
هذا بجانب أن في إسناده أيضاً ابن عبد الله الفهري، قال الحافظ في "التقريب": فيه لين، كما قال المقدم.
4. أثر ابن عباس: "أن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصح أن يرى منها إلا هذا وهذا؛ وأشار إلى وجهه وكفيه".
5. حديث السفعاء الخدين، كما رواه جابر في يوم عيد: ".. ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن، وذكرهن فقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم؛ فتكلمت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاية، وتكفرن العشير".
قال من استدل على كشف الوجه: قول جابر في هذا الحديث "سفعاء الخدين" يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها، إذ لو كانت محتجبة لما رأى خديها، ولما علم أنها سفعاء.
قال الشنقيطي رحمه الله مدللاً على أن الحديث ليس فيه حجة لإثبات كشف الوجه: وأجيب عن حديث جابر هذا بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عن وجهها وأقرها على ذلك، بل غاية ما يفيده الحديث أن جابراً رأى وجهها، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصداً، وكم من امرأة يسقط خمارها من غير قصد، فيراه بعض الناس في تلك الحالن كما قال نابغة ذبيان:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
فعلى المحتج بحديث جابر المذكور أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة وأقرها على ذلك، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك.
وما قاله الشنقيطي قرَّره التويجري في "الصارم المشهور" وغيره كثير.
ب عورة الأمَة
ذهب أهل العلم في عورة الأمة مذهبين، هما:
1. عورة الأمة كعورة الرجل من السرة إلى الركبة.
2. عورة الأمة كعورة الحرة.
قال الإمام النووي رحمه الله: المشهور من مذهبنا أن عورة الرجل ما بين سرته وركبته، وكذلك الأمة.
إلى أن قال: وممن قال عورة الأمة ما بين السرة والركبة مالك وأحمد، وحكى ابن المنذر وغيره عن الحسن البصري أنها إذا تزوجت أوتسراها سيدها لزمها ستر رأسها في الصلاة.
إلى أن قال: قال الشيخ أبوحامد وغيره: وأجمع العلماء على أن رأس الأمة ليس بعورة، مزوجة كانت أوغيرها، إلا رواية عن الحسن البصري أن الأمة المزوجة التي أسكنها الزوج منزله كالحرة، والله أعلم.
وقال القرطبي رحمه الله: وأما الأمة فالعورة منها ما تحت ثديها، ولها أن تبدي رأسها ومعصميها، وقيل: حكمها حكم الرجل، وقيل: يكره لها كشف رأسها وصدرها، وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على تغطيتهن رؤوسهن، ويقول: لا تشبهن بالحرائر؛ وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من الأمة عورة حتى ظفرها.
في هذا العصر لا توجد إماء شرعيات، ولهذا يجب على جميع النساء أن يتحجبن ويستترن إذا خرجن.
ثانياً: ما تلبسه المرأة في بيتها
للمرأة أن تلبس في بيتها ما تشاء إن كانت خالية أومع زوجها، وإن كان في البيت أبناء وبنات كبار فعليها أن تستر بدنها، وتكشف عن عاتقها، ورأسها، ويديها، وقدميها.
أما إن كان في البيت رجال أجانب عليها فعليها أن تحتجب وتستتر منهم كما تحتجب خارج بيتها، اللهم إلا أن تكون من القواعد ولا تخشى الفتنة.
ثالثاً: ما تلبسه المرأة مع محارمها
المحارم درجات، فالأبناء وأبناؤهم، والإخوان، والأعمام لبس المرأة معهم يختلف من لبسها مع ولد زوجها وأبي زوجها مثلاً، ولهذا عليها أن تتحرز في ذلك ولا تتبسط، خاصة لو شعرت برقة دين أوريبة من أحدهم.
رابعاً: ما تلبسه المرأة مع النساء المسلمات
أبيح للمرأة أن تبدي زينتها لأخواتها المسلمات، ولا تبدي ذلك للكافرات حتى في حال العلاج والتوليد ما لم تكن هناك ضرورة، حيث لا تجد معالِجة أوقابلة إلا من الكافرات.
قال تعالى: "ولا يبدين زينتهن إلا.. أونسائهن".(3/23)
قال القرطبي: قوله تعالى: "أونسائهن" يعني المسلمات، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئاً من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها، فذلك قوله تعالى: "أوما ملكت أيمانهن"، وكان ابن جريج وعبادة بن نُسَيّ وهشام القارئ يكرهون أن تقبِّل النصرانية المسلمة أوترىعورتها، ويتأولون "أونسائهن"، وقال عبادة بن نُسَيّ: وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين، فامنعمن ذلك، وحُل دونه، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عِرْية المسلمة؛ قال: فعند ذلك قام أبوعبيدة وابتهل، وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسوَّد الله وجهها يوم تبيض وجوه؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية ولا نصرانية، لئلا تصفها لزوجها؛ وفي هذه المسألة خلاف للفقهاء.
ولهذا لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ولا لوليها أن تدخل أحواض السباحة التي يدخلها الرجال أوالكافرات، بل لا ينبغي أن تذهب لهذه الاحواض ولو كانت خالية من الرجال والكافرات لعدم الحاجة إليها، وإلا تشملها دعوة أبي عبيدة بأن يسوِّد الله وجهها يوم القيامة.
خامساً: ما تلبسه المرأة خارج بيتها
الأصل للمرأة أن تقر في بيتها ولا تخرج منه إلا لضرورة تقدر بقدرها، فإذا خرجت فعليها أن تخرج متحجبة غير متطيبة، متجنبة الاختلاط والخلوة بالرجال الأجانب، والحجاب يشمل الوجه والكفين في أرجح قولي العلماء، وقد سبق ذكر أدلة ذلك.
ولها أن تلبس العباءة، أوالبالطو، أوالثوب السابل الذي ليس هو زينة في ذاته، أوما تشاء، ولتحذر لبس "الإسكيرت والبلوزا"، والبنطلون، والأثواب الشفافة الواصفة سيما خارج البيت.
سادساً: ما تلبسه المرأة في الصلاة
السنة أن تصلي المرأة في ثلاثة أثواب:
1. خمار تغطي به رأسها.
2. ودرع يغطي بدنها.
3. وملحفة تستر ثيابها.
والدليل على ذلك:
• ما روي عن أم سلمة موقوفاً ومرفوعاً أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها".
• وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: "تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع، وخمار، وإزار".
• وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تصلي المرأة في الدرع، والخمار، والملحفة".
وتكشف عن وجهها في الصلاة، مع تغطية جميع بدنها حتى ظاهر قدميها، ولو كانت تصلي في عقر دارها.
وقال القرطبي عن سترة المرأة في الصلاة: وقال أبوبكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها، وروي عن أحمد بن حنبل نحوه، وأما أم الولد فقال الأثرم: سمعتُه – يعني أحمد بن حنبل – يُسأل عن أم الولد كيف تصلي؟ فقال: تغطي رأسها وقدميها، لأنها لا تباع، وتصلي كما تصلي الحرة.
وأما الأمة فالعورة منها ما تحت ثديها، ولها أن تبدي رأسها ومعصمها، وقيل حكمها حكم الرجل، وقيل: يكره لها كشف رأسها وصدرها.. وقال أصبغ: إذا انكشف فخذها أعادت الصلاة.
ثم علق على ما قاله أبوبكر بن عبد الرحمن بن الحارث: وهذا خارج عن أقوال الفقهاء لإجماعهم على أن المرأة الحرة لها أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله تباشر الأرض به، فالأمة أولى، وأم الولد أغلظ حالاً من الأمَة.
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على تبويب البخاري: "في كم تصلي المرأة في الثياب، وقال عكرمة: لو وارت جسدها في ثوب لأجزأها": قال ابن المنذر بعد أن حكى عن الجمهور أن الواجب على المرأة أن تصلي في درع وخمار: المراد بذلك تغطية بدنها ورأسها، فلو كان الثوب واسعاً فغطت رأسها بفضله جاز، قال: وما رويناه عن عطاء أنه قال: "تصلي في درع، وخمار، وإزار"، وعن ابن سيرين مثله وزاد: "وملحفة"، فإني أظنه محمولاً على الاستحباب.
قال ابن شاس المالكي وهو يتحدث عن ما تلبسه المرأة في الصلاة: أما القسم الأول – يعني الحرائر – من الصنف الثاني – يعني النساء – فجميع أبدانهن عورة إلا الوجه والكفين.
وأما القسم الثاني – أي الإماء – فعورتهن كعورة الرجل.
وقال في الكتاب في الأمة الكبيرة تصلي بغير قناع، قال: ذلك سنتها، وكذلك المُكاتَبَة، والمدبَّرة، والمُعْتَق بعضُها؛ قال: ولا تصلي الأمة إلا وعلى جسدها ثوب تستر به جسدها.
وقال في السراري اللاتي لم يلدن: هن إماء، يصلين كما تصلي الأمة التي لم يتسرها سيدها.
وأما أمهات الأولاد فإنهن يصلين كالحرة بقناع ودرع أوقرقل يستر ظهور القدمين.
فإن صلت أم الولد بغير قناع، فأحبُّ إلي أن تعيد ما دامت في الوقت، وليس ذلك بواجب عليها كوجوبه على الحرائر.(3/24)
قال صاحب نيل المآرب الحنبلي: ويستحب صلاة المرأة في قميص وخمار، وهو ما تضعه على رأسها وتديره تحت حلقها، وملحفة، وتكره في نقاب وبرقع، ويجب على المرأة ستر عورتها في فرض ونفل، وإن انكشف بعض عورة مصل – رجلاً كان أوامرأة – وفحش المنكشف عرفاً وطال الزمان أعاد، فإن قصر الزمن أولم يفحش المنكشف لم يعد، إن لم يتعمده، أوصلى في ثوب محرم عليه كمغصوب كله أوبعضه، وحرير، ومنسوج بذهب أوفضة إن كان رجلاً، واجداً غيره، وصلى فيه عالماً ذاكراً لذلك وقت العبادة أعاد، وكذا إذا صلى بمكان غصب، أوصلى في ثوب نجس نجاسة لا يُعفى عنها، ولو لعدم غيره، أعاد الصلاة وجوباً، ويصلي عرياناً مع وجود ثوب مغصوب، ويصلي في حرير لعدم غيره ولا يعيد، ومن وجد كفاية ستر عورته سترها وجوباً، وترك غيرها وصلى قائماً، لأن سترها واجب في غير الصلاة، ففيها أولى، وإن لم يجد ما يسترها كلها بل بعضها فليستر الفرجين لأنهما أفحش، فإن لم يكفهما بل كفى أحدهما فالدبر أولى بالستر لأنه ينفرج في الركوع والسجود، إلا إذا كفت السترة منكبه وعجزه فقط فليسترهما، ويصلي من لم يستر فرجيه جالساً – ندباً – يومئ بركوع وسجود، ولا يتربع بل ينضم، فلو ركع وسجد جاز.
سابعاً: ما تلبسه المرأة في الإحرام
تلبس المرأة ما تشاء من أنواع الملابس إن كان ساتراً لبدنها غير شافٍ ولا واصف، ولا يشبه لبس الرجال، كاشفة وجهها ويديها، لأن إحرامها فيهما، إلا إذا مرت على رجال أومرَّ عليها رجال فعليها أن تسدل على وجهها شيئاً تجافي بينه وبين وجهها كما كانت تفعل عائشة وأسماء رضي الله عنهما.
ويستحب للمرأة أن تتجنب الأبيض لأن غالب إحرام الرجال فيه، ولو أحرمت في اللون الأسود كان أفضل لها.
ثامناً: ما تكفن فيه المرأة
يكفن الميت رجلاً كان أوامرأة في ثلاثة أثواب بيض يدرج فيها الميت، فإن لم تتيسر الثلاثة كفن في ثوب أوثوبين، وإن لم يوجد البياض كفن في غيره، وإن زيد في الكفن على الثلاثة للرجل والمرأة فلا بأس.
قال ابن شاس المالكي: والزيادة على الثلاثة إلى خمسة مستحبة للرجال والنساء، وهي في حقهن آكد، والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف.
إلى أن قال: ثم إذا كفن في خمسة فعمامة، وقميص، ومئزر، ولفافتان سابغتان، وإن كفن في ثلاثة فثلاث لفائف، قاله ابن القاسم، قال بعض المتأخرين: يجيء على قول مالك: قميص، وعمامة، ولفافة.
وإن كفنت في خمسة فإزار، وخمار، ودرع، ولفافتان، واستحب أن يشد على المئزر بعصائب من حقويها إلى ركبتيها، وإن كفنت في ثلاثة فكالرجل.
وقال في نيل المآرب في تهذيب عمدة الطالب: وتكفن المرأة ندباً في خمسة أثواب بيض من قطن، وهي: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتان.
قال ابن المنذر: أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب، فتؤزر بالمئزر، ثم تلبس القميص، ثم تخمر بالمقنعة، ثم تلف باللفافتين.
الفصل الرابع: في أمور عامة متعلقة باللباس
أولاً: النهي والتحذير عن الإسبال
ما من هدي ولا سمت أفضل ولا أحسن ولا أكرم ولا أصلح من هدي وسمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، ومن تبعهم بإحسان من الأنام.
من هذا السمت الصالح والهدي الفالح تعاهد الأزر، والقمصان، والسراويل، والعمائم، والأكمام، ألا تزيد وتتجاوز على ما كان عليه هدي سيد ولد عدنان، وكان هديه في لبسه لما يلبسه، أنفع شيء للبدن، فإنه لم يكن يطيل أكمامه ويوسعها، بل كان كُمُّ قميصه إلى الرُّسْغ، لا تجاوز اليد، فتشق على لابسها، وتمنعه خفة الحركة والبطش، ولا تقصُرُ عن هذه فتبرز للحر والبرد.
وكان ذيل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين، لم يتجاوز الكعبين، فيؤذي الماشي ويؤوده، ويجعله كالمقيد، ولم يقصر عن عضلة ساقه فتنكشف فيتأذى بالحر والبرد.
ولم تكن عمامته بالكبيرة التي يؤذي الرأس حملها ويضعفه، ويجعله عُرضة للضعف والآفات كما يشاهد من حال أصحابها، ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد، بل وسط بين ذلك.
ومن عجيب أمر غالبية الذكران من المسلمين تهاونهم في أمر تواترت فيه الأحاديث والسنن تواتراً معنوياً، وزاد عدد رواتها عن ست وعشرين صحابياً، وورد فيه من التحذير والتغليظ الشيء الكثير، نحو: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً"، و"ما أسفل من الكعبين فهو في النار"، و"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم"، وذكر منهم: "المسبل".(3/25)
وأعجب من إسبال الرجال، تشمير بعض النساء عن سوقهن بعد الإسفار عن شعورهن ووجوهن، وقد أمرن بإسبال ذيولهن ذراعاً، مخالفات بذلك أمر رسولهن، ومخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح الصريح تورد المهالك، قال تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم"، قال الإمام أحمد: الفتنة الشرك، لعله إن ترك بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ومخالفات لما سنته لهن هاجر أم إسماعيل عليها السلام، كما ذكر ذلك الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في "الاستذكار": أول امرأة جَرَّت ذيلها هاجر أم إسماعيل عليه السلام، فقد عكسن الآية كما يقولون.
ولله در أمنا أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، ما أطهرها وأعفها، عندما خشيت أن يكون التشمير عاماً للرجال والنساء استفسرت عن ذلك في الحال، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جرَّ ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبراً، فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن، فقال: يرخينه ذراعاً لا يزدن عليه".
الإسبال يكون في كل الملابس
الإسبال يكون في جميع ما يلبسه الرجال، سيما في الآتي:
1. الإزار.
2. القميص، الثوب، الجلباب.
3. الكم.
4. السراويل.
5. العمامة.
6. العباءة، المشلح.
قال صلى الله عليه وسلم: "الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة" .
القدر المستحب والجائز الذي يصل إليه حد الثوب في الإزار، والقميص، والسراويل يختلف من نوع إلى آخر فيما فوق الكعبين، وإليك التفصيل:
1. الإزار
له ثلاثة حدود، وهي:
أ. عضلة الساق، وهي أعلاها.
ب. نصف الساقين، وهو أوسطها.
ج. فوق الكعبين، وهو أدناها، وما غطى الكعبين أوزاد فهو حرام.
2. القميص، الثوب، والجلباب، والعباء
هذه لها حدان:
أ. أعلاهما وأحبهما إلى نصف الساقين.
ب. وأدناهما إلى ما فوق الكعبين، وهو الجائز.
هذا في الطول، أما في العرض فينبغي أن لا يكون واسعاً فضفاضاً وأن لا يكون ضيقاً واصفاً للعورة.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج ـ أولا جناح ـ فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار".
3. الكُمّ
الإسبال يكون في طوله وعرضه، أما الطول فينبغي أن لا يتجاوز الرّسغ، وأما العرض فلا يكون واسعاً.
قال ابن مفلح: سعة كم قميص المرأة شبر، وقصره قال ابن حمدان: دون رؤوس أصابعها، وطول كم قميص الرجل عن أصابعه قليلاً دون سعته كثيراً؛ وقال في "التلخيص": توسيع الكم في غير إفراط حسن في حق الرجال بخلاف النساء.
4. العمامة
الإسبال يكون في طولها وعرضها على أن لا يزيد الطول على المعتاد 3-4 أمتار، وفي ذؤابتها أن لا تتدلى أكثر من شبر.
والتحنيك والذؤابة سنة، وإسبالها خلفه، قال ابن مفلح: والمراد بالعمامة أن تكون متوسطة كما قاله بعض أصحابنا، فتقي الراس مما يؤذيه من حر وبرد، ولا يتأذى بها، والتحنيك يدفع عن العنق الحر والبرد، وهو أثبت للعمامة ولا سيما للركوب.. استحباب الذؤابة لكل أحد كالتحنيك، ومقتضى ذكر الإمام أحمد ما جاء عن ابن عمر يقتضي اختصاص ذلك بالعالم، فإن فعلهاغيره فيتوجه دخولها في لبس الشهرة.. ولهذا لا خلاف في استحباب العمامة المحنكة وكراهية الصماء، قال صاحب "النظم": يحسن أن يرخي الذؤابة خلفه ولو شبراً أوأدنى على نص أحمد؛ وروى أن النبي عمَّم عبد الرحمن بن عوف وأرخاها من خلفه قدر أربعة أصابع، وقال: "هكذا فاعتم فإنه أعرف وأجمل"، وعن علي أرخاها شبراً"، وأرخاها ابن الزبير من خلفه قدر ذراع.
5. السراويل
من نصف الساقين إلى ما فوق الرجلين.
6. العباءة والمشلح
من لبس عباءة عليه أن يدخل يديه في كميها فيضمها إلى جانبيه.
قال الشيخ بكر أبو زيد: وبه يُعلم أن من يلبس العباءة أي "المشلح" فيرسله على جانبيه دون أن يدخل يديه في كميه، فيضمه، أويضم جانبيه، أن هذا من السدل المنهي عنه، وهو مُشاهَد من عمل الروافض، ولدى بعض المترفين من المسلمين.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي، قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك، وفي تصوير جر العمامة نظر، إلا أن يكون المراد ما جَرَتْ به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال، وقد أخرج النسائي من حديث جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: "كأني أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة قد أرخى طرفيها بين كتفيه"، وهل يدخل في الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؟ محل نظر، والذي يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين دخل في ذلك.(3/26)
قال شيخنا في شرح الترمذي: ما مس الأرض منها خيلاء لا شك في تحريمه؛ قال: ولو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يكن بعيداً، ولكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك في تحريمه، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع؛ ونقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة.
حكم الإسبال
أ حكم الإسبال للرجال
كل ما زاد على الكعبين أوالرسغين فهو حرام وكبيرة، وإن كان مصحوباً ببطر وخيلاء فهذا مع كونه كبيرة فإنه لا ينظر الله إليه يوم القيامة.
ب حكم الإسبال للنساء
ما زاد على الذراع فهو حرام.
الأدلة على ذلك
الأدلة على تحريم الإسبال على الرجال كثيرة جداً بلغت حد التواتر المعنوي، وقد رواها ما يقارب الثلاثين من الصحابة، منها ما هو في الصحاح، ومنها ما هو في السنن والمسانيد، ومنها ما هو في دواوين السنة الأخرى، وإليك طرفاً منها:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لستَ ممن يصنعه خيلاء".
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسفل عن الكعبين ففي النار".
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً".
4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يجلجل إلى يوم القيامة".
5. وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها قالت: "كان كُمُّ قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرُّسغ".
6. وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم؛ قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبوذر: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".
7. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" .
8. وعن أبي جُرَي جابر بن سُليم رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة".
9. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك؛ فرفعته، ثم قال: زد؛ فزدتُ، فما زلت أتحراها بعد؛ فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: إلى أنصاف الساقين".
الإسبال حرام، سواء كان فعله بطراً أم عادة وجهلاً
الإسبال حرام، فإن كان مصحوباً بخيلاء وبطر فهو كبيرة من الكبائر، ولا ينظر إلى صاحبه يوم القيامة، والوصف بالخيلاء خرج مخرج الغالب، والقيد إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له عند عامة الأصوليين كما قال الشيخ بكر أبو زيد، كما في قوله: "وربائبكم اللاتي في حجوركم"، فبنت المرأة محرمة على زوجها، ربيبة كانت عنده أم لا، ونحو قوله: "ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة"، فالربا قليلُه وكثيرُه حرام.
والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1. عن ابن عمر يرفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جرَّ الإزار من المخيلة".
2. وعن أبي جري رضي الله عنه مرفوعاً: "وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة".
3. وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على جابر بن سليم رضي الله عنه، وأنكر على عمرو الأنصاري رضي الله عنه ورفع إزاره.
4. وأنكر على رجل من ثقيف، ورفع كذلك.
قال الشيخ بكر أبو زيد: ورد النهي عن الإسبال مطلقاً في حق الرجال، وهذا بإجماع المسلمين، وهو كبيرة إن كان للخيلاء، فإن كان لغير الخيلاء فهو محرم مذموم في أصح قولي العلماء، والخلاف للإمام الشافعي والشافعية إنه إذا لم يكن للخيلاء فهو مكروه كراهة تنزيه، على أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقضي بأن مجرد الإسبال خيلاء.
قلت: ليس كل خلاف يستراح له، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أقوى الأدلة على تحريم الإسبال من غير خيلاء استفسار أم سلمة رضي الله عنها، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها بأن تسدل المرأة ذيلها مقدار شبرين معتدلين، أي حوالي ذراع.(3/27)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على استفسار أم سلمة: ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء، ووجه التعقيب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة، لأن جميع قدمها عورة، فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم على فهمها.
إلى أن قال: والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب، وهو أن يقصر الإزار على نصف الساق، وحال جواز وهو إلى الكعبين، وكذلك النساء حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع، ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق معتمد عن حميد عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة شبراً"، ويستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه.
الحالات التي يجوز فيها الإسبال
الإسبال إما كبيرة من الكبائر إذا قرن بالبطر والخيلاء، بجانب عدم نظر المولى إليه، وإما حرام إذا خلا من ذلك، ولا يحل إلا في بعض الحالات التي استثناها الشرع، وهي:
1. للنساء لستر أقدامهن.
2. عند الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات، ولهذا فإن للضرورات أحكام خاصة.
3. عند الاستعجال، حيث يغفل الإنسان ويسها عن بعض الأمور من غير قصد، فإذا ذكر وجب عليه في الحال أن يرفع.
4. لمن يتعاهد ذلك دائماً، ولكن يسبل إزاره لنحافته، كحال أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وإليك الأدلة على ذلك
1. الحديث السابق عن ابن عمر: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ قال أبوبكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لستَ ممن يصنعه خيلاء".
وأبوبكر في الحقيقة لا يفعله خيلاء ولا من غير خيلاء، ولكن لنحافته فإن إزاره مهما شمره ينزل ما لم يتعاهده دائماً.
2. عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى المسجد، وثاب الناس، فصلى ركعتين، فجلي عنها، ثم أقبل علينا وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا الله حتى يكشفها"، والشاهد فيه: "فقام يجر ثوبه مستعجلاً"، وذلك لفزعه صلى الله عليه وسلم من هذه التغييرات الكونية.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح معلقاً على هذا الحديث: فإن فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي.
وقال كذلك: ويستثنى من إسبال الإزار مطلقاً ما أسبله لضرورة، كمن يكون بكعبيه جرح مثلاً يؤذيه الذباب إن لم يستره بإزاره، حيث لا يجد غيره، نبه على ذلك شيخنا في "شرح الترمذي"، واستدل على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف في لبس القميص الحرير من أجل الحكة، والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهي عنه من أجل الضرورة، كما يجوز كشف العورة للتداوي.
3. والدليل على إباحة ذلك للنساء استفسار أم سلمة السابق وإقراره صلى الله عليه وسلم على ذلك.
أما لدقة الساقين أولعيب فيهما فلا يحل الإسبال، ويدل على ذلك ما أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حُلة إزار ورداء قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله، ويقول: عبدك وابن عبدك وأمتك؛ حتى سمعها عمرو فقال: يا رسول الله إني حمش الساقين؛ فقال: يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل" الحديث.
قال ابن حجر في الفتح: وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه، لكن قال في روايته عن "عمرو بن فلان"، وأخرجه الطبراني أيضاً عن "عمرو بن زرارة"، وفيه: "وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع تحت ركبة عمرو، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار؛ ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار" الحديث، ورجاله ثقات، وظاهره أن عمرو المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء، وقد منعه من ذلك لكونه مظنة.(3/28)
وأخرج الطبراني من حديث الشريد الثقفي قال: "أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارك؛ فقال: إني أحنف تصطك ركبتاي؛ قال: ارفع إزارك، فكل خلق الله حسن"، وأخرجه مسدّد وأبوبكر بن أبي شيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم، وفي آخره: "ذاك أقبح مما بساقك" أي الإسبال، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بسند جيد: "أنه كان يسبل إزاره، فقيل له في ذلك، فقال: إني أحمش الساقين"، فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب، وهو أن يكون إلى نصف الساقين، ولا يظن أنه جاوز به الكعبين، والتعليل يرشد إليه، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة، والله أعلم، وأخرج النسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ برداء سفيان بن سهل وهو يقول: "يا سفيان لا تسبل فإن الله لا يحب المسبلين".
حكم وضوء وصلاة المسبل
ذهب أهل العلم في وضوء وصلاة المسبل مذهبين:
الأول: صحح وضوء وصلاة المسبل مع الكراهة، وهم العامة من أهل العلم.
الثاني: أبطل وضوء وصلاة المسبل، وهذا مذهب ابن حزم وأحمد بن حنبل.
استدل المبطلون لوضوء وصلاة المسبل بما يأتي:
1. بما أخرجه أبوداود بإسناد صحيح على شرط مسلم كما قال النووي في رياض الصالحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما رجل يصلي مسبل إزاره، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ؛ فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال: اذهب فتوضأ؛ فقال له رجل: يا رسول الله، مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكتَّ عنه؟ قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل".
2. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام".
قال الشيخ بكر أبو زيد: لشدة تأثير الإسبال على نفس المسبل، وما لكسب القلب من حالة وهيئة منافية للعبودية، منافاة ظاهرة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسبل بإعادة الوضوء، وأن الله لا يقبل صلاة مسبل، وحمل الفقهاء ذلك الحديث على الإثم مع صحة الصلاة، كحال فيمن صلى في كل ثوب يحرم لبسه، وفي الدار المغصوبة، وكما في تحريم آنية الذهب والفضة اتخاذاً واستعمالاً، وتحريم الوضوء منهما، خلافاً لابن حزم، ومذهب أحمد القائل ببطلان وضوء المسبل وصلاته، وأن عليه الإعادة لهما غير مسبل، نعم، لا يصلي المسلم خلف مسبل اختياراً.
الخلاصة
1. أن ما زاد على الكعبين للرجال، ويقاس عليه ما زاد على الرُّسغين من اليدين، من الأزر، والقمصان، والسراويل، والأكمام، ونحوها فهو في النار، أما بالنسبة للمرأة فتجر مقدار شبر أوذراع.
2. لا فرق في الإسبال بين القميص، والإزار، والرداء، والعمامة، والكم، والعباءة.
3. لا فرق في حرمة الإسبال بين من فعله خُيلاء وبطراً أم لا، إلا أن من فعله بطراً إثمه أشد ووزره أكبر لأنه كبيرة، ويحتاج إلى توبة منه قبل اجتماع سكرات الموت وحسرات الفوت عليه.
أدل دليل على عدم التفريق ما قاله الخليفة الراشد، والإمام العادل، والعبقري الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو محتضر لذلك الشاب الأنصاري العاقل، الذي أثنى على عمر خيراً، وعندما خرج قال عمر: ردوه عليّ؛ فعندما رُدَّ إلى عمر قال له: "ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك".
قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجرُّه خيلاء! لأن النهي قد تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً أن يقول: لا أمتثله لأن تلك العلة ليست فيّ، فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره.
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على ما قاله الإمام ابن العربي المالكي: وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة".
4. الإسبال حرام، ولا يليق بأي مسلم ذكر، صغيراً كان أم كبيراً، وتشتد حرمته ويقبح فعله من المنتسبين إلى العلم والدين، سيما الأئمة منهم في الصلاة، لما يعرض وضوءهم وصلاتهم إلى النقصان إن لم نقل إلى البطلان، فالحذر الحذر أخي الحبيب من الإسبال المؤدي إلى البطر والخيلاء والخسران، وعليك أن تبادر باتباع أمر رسولك وحبيبك محمد، وعليك أن تقتدي بأصحاب رسولك في سرعة الاستجابة لأوامره ونواهيه، وعليك أن يكون لك في خُريم الأسدي الأسوة الحسنة، عندما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم الرجل خُريم، لولا طول جمته وإسبال إزاره"، فأخذ خريم شفرة وقطع بها جمته، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه.(3/29)
فعليك أخي المسلم أن تأخذ جلاليبك وسراويلك وقمصانك، وإن كنت مبتلياً بلبس "البناطلين" فخذها كذلك واذهب بها إلى أقرب ترزي، وقص ما زاد على الكعبين والرسغين، والله يسامحك على سعتها، واحذر أن تخيط ثياباً جديدة تزيد على كعبيك ورسغيك، وإلا فاعلم أن النار ستسع ذلك كله، أعاذنا الله وإياكم من النار ومن غضب الجبار.
5. لا ترغب أخي المسلم عن نظر الله إليك يوم القيامة، فهو من أعظم النعم، وقد توعد الله أنه لا ينظر إلى من جر إزاره خيلاء وبطراً، واعلم أن مجرد الجر هو خيلاء.
6. احذر اخي الكريم لباس الشهرة، ولا تشمر سراويلك، وقمصانك، وجلاليبك أعلى من نصف ساقيك، فإسبال الثياب وسعتها شهرة وكذلك تشميرها الزائد عن الحد الشرعي شهرة، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وخير الأمور الوسط، فلتكن ثيابك ما بين نصف ساقيك إلى ما فوق كعبيك.
والشهرة في اللباس تكون في الإسبال، وفي التشمير المخل، وفي السعة، واللون، والهيئة، والصفة، والتشبه بالكفار، وهو كل ما خرج عن العادة والعرف الشرعي، خرَّج أبو داود بسنده عن ابن عمر يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله"، زاد عن أبي عوانة: "ثم تلهب فيه النار"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه كذلك: "من تشبه بقوم فهو منهم".
قال الشيخ بكر أبوزيد: وتحصل الشهرة بتميز عن المعتاد: بلون، أوصفة تفصيل للثوب، وشكل له، أوهيئة في اللبس، أومرتفع أومنخفض عن العادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يحرم لبس الشهرة، وهو ما قصد به الارتفاع، وإظهار الترفع، أوإظهار التواضع والزهد، لكراهة السلف لذلك.
وقال غير واحد من السلف: لباس الشهرة مما يزري بصاحبه ويسقط مروءته.
وقال معمر: عاتبت أيوب على طول قميص، فقال: إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله، وهي اليوم في تشميره.
وقد روى إسحاق بن إبراهيم بن هاني قال: دخلت يوماً على أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وعليَّ قميص أسفل من الركبة وفوق الساقين، فقال: أي شيء هذا؛ وأنكره، وقال: هذا بالمرة لا ينبغي.
وإذا حملتك الغيرة في الإنكار على المسلمين، فتخلص قبلُ من لباس الشهرة، كما يتعين على المسبل أن لا ينكر على المرتدي لباس الشهرة وهو متلبس بالإسبال، ابدأ بنفسك فانهها عن غيها...
7. أما حجاب المرأة فلا يدخل في هذا، فلها أن تلبس العباءة أوأي لباس يغطي جميع جسدها، سواء كان معتاداً في بلدها أم غير معتاد، فالمعروف ما عرفه الشرع، والمنبوذ ما نبذه الشرع.
8. كانت العرب في جاهليتها وبعد إسلامها تمدح تشمير الإزار كما قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في "الاستذكار"، قال متمم بن نويرة في مدح ورثاء مالك أخيه:
تراه كنصل السيف يهتز للندى وليس على الكعبين من ثوبه فضل
وقال العجير السلولي:
و كنتُ إذا داعٍ دعا لمضوفة أشمر حتى يَنْصُفَ السَّاقَ مئزري
وفي رواية:
وكنتُ إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى يبلغ السَّاقَ مئزري
بله قال عمر بن أبي ربيعة معرضاً برجل يجر ثوبه:
كتب القتلُ والقتالُ علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول
وأحب أن أختم هذا بما قال الحافظ الذهبي معلقاً على قول ابن عمر رضي الله عنهما: "أخاف أن أكون مختالاً فخوراً، والله لا يحب كل مختال فخور"، لما فيه من الرد على القائلين أن الإسبال ليس حراماً إلا إذا صُحِبَ بكِبْر وبطر:(3/30)
قلت: كل لباس أوجد في المرء خيلاء وفخراً فتركه متعين ولو كان من غير ذهب ولا حرير، فإنا نرى الشاب يلبس الفرجية الصوف بفرو من أثمان أربع مئة درهم ونحوها، والكبر والخيلاء على مشيته ظاهر، فإن نصحته ولمته برفق كابر، وقال: ما فيّ خيلاء ولا فخر؛ وهذا السيد ابن عمر يخاف ذلك على نفسه، وكذلك ترى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فرجية تحت كعبيه، وقيل له: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار"، يقول: إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء، وأنا لا أفعل خيلاء؛ فتراه يكابر، ويبرئ نفسه الحمقاء، ويعمد إلى نص مستقل عام، فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء، ويترخص بقول الصديق: إنه يا رسول الله يسترخي إزاري؛ فقال: "لستَ يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء"، فقلنا: أبوبكر رضي الله عنه لم يكن يشد إزاره مسدولاً على كعبيه أولاً، بل كان يشده فوق الكعب، ثم فيما بعد يسترخي، وقد قال عليه السلام: "أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، ولا جناح عليه فيما بين ذلك والكعبين"، ومثل هذا في النهي لمن فصل سراويل مغطياً لكعابه، ومنه طول الأكمام زائداً، وتطويل العذبة، وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس، وقد يُعذر الواحد منهم بالجهل، والعالم لا عذر له في تركه الإنكار على الجهلة، فإن خُلع على رئيس خلعة سِيَراء من ذهب وحرير وقندس، يحرمه ما ورد في النهي عن جلود السباع ولبسها، الشخص يسحبها ويختال فيها، ويخطر بيده ويغضب ممن لا يهنيه بهذه المحرمات، ولا سيما إن كانت خلعة وزارة وظلم ونظر مَكَس، أوولاية شرطة، فليتهيأ للمقت وللعزل والإهانة والضرب، وفي الآخرة أشد عذاباً وتنكيلاً، فرضي الله عن ابن عمر وأبيه، وأين مثلُ ابن عمر في دينه، وورعه، وعلمه، وتألهه، وخوفه، من رجل تُعرض عليه الخلافة فيأباها، والقضاءُ من مثل عثمان فيرده، ونيابة الشام لعليّ فيهرب منه؟ فالله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب.
ثانياً: التواضع في اللباس
التواضع في كل شيء مطلوب ومرغوب، في الملبوس، والمأكول، والمركوب، والمسكون، فمن تواضع لله رفعه، ومن ترفع على الله أذله، والتواضع سمة المتقين، والإسراف سمة الجهلة والمتكبرين، ولهذا نهى الشارع الحكيم عن لباس الشهرة، وهو الرفيع جداً أوالوضيع جداً.
لقد ضرب رسولنا الكريم وصحبه الميامين المثل الأعلى والقدوة المثلى في التواضع، وركلوا الدنيا بحذافيرها، وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أويصلي الرجل في الثوب الواحد؟ قال مستنكراً ومتعجباً: أولكل واحد منكم ثوبان؟!
أصحاب الهمم العالية والنفوس الأبية لا يهتمون بالمظاهر، ولا يزينون أنفسهم بالفاخر من الثياب، ولا العالي من اللباس، وإنما يزينونها بالتقوى والعفاف.
أنشد للشافعي رحمه الله:
عليَّ ثياب لو تباع جميعُها بفَلس لكان الفلس منهن أكثراً
وفيهن نفس لو يقاس ببعضها نفوس الورى كانت أجلَّ وأكبرا
وقال أبو الطيب:
لئن كان ثوبي فوق قيمته الفَلسُ فلي فيه نفس دون قيمتها الإنس
فثوبك بدر تحت أنواره دُجَىً وثوبي ليل تحت أطماره شمس
وقال آخر:
لا تنظرن إلى الثياب فإنني خَلِقُ الثياب من المروءة كاسِ
وقال محمود الوراق:
تَصَوَّف فازدهي بالصوف جهلاً وبعض الناس بلبسه مجانة
يريك مجانةَ ويُجَنُّ كبراً وليس الكِبْر من شكل المهانة
تَصَنَّعَ كي يقال له أمين وما معنى التصنع للأمأنة
ولم يرد الإله به ولكن أراد به الطريق إلى الخيانة
وقال آخر:
لا يعجبنك من يصون ثيابه حذر الغبار وعِرْضُه مبذول
ولربما افتقر الفتى فيرأيته دَنِسَ الثيابِ وعِرْضُه مغسول
عن عبد الله بن عمرو قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة طيالسة مكفوفة بديباج، أومزرورة بديباج، فقال: "إن صاحبكم يريد أن يرفع كل راع وابن راع، ويضع كل ذي فارس ابن فارس"، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً، فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه وقال: "ألا أرى عليك ثياب من لا يعقل؟".
ولا يعني التواضع التبذل وعدم الاعتناء بالنظافة.
روى وكيع عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يعجبه إذا قام إلى الصلاة الريح الطيبة، والثياب النقية.
وروي عن عمر رضي الله عنه قال: مروءة الرجل نقاء ثوبه.
وقال رجل لإبراهيم النخعي: ما ألبسُ من الثياب؟ قال: ما لا يشهرك عند العلماء، ولا يحقرك عند السفهاء.
قال ابن مفلح: قال القاضي - أبويَعْلى – وغيره: يُستحب غسل الثوب من العرق والوسخ، نص عليه في رواية المروذي وغيره، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما يجد هذا ما يغسل به ثوبه"، ورأى رجلاً شعثاً فقال: "أما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه؟".
وقال بكر بن عبد الله المزني: البسوا ثياب الملوك، وأميتوا قلوبكم بالخشية؛ وكان الحسن يقول: إن قوماً جعلوا خشوعهم في لباسهم، وكبرهم في صدورهم، وشهروا أنفسهم بلباس الصوف، حتى إن أحدهم بما يلبس من الصوف أعظم كبراً من صاحب المِطرَف بمطرفه.
ثالثاً: التزين(3/31)
يجوز للمسلم ذكراً كان أم أنثى أن يتزين بما شاء إذا تجنب الآتي:
1. الحرام.
2. النجس.
3. لباس الشهرة.
4. ما فيه تشبه بالكفار.
5. ما فيه تشبه الرجل بالمرأة أوالمرأة بالرجل.
من أمثلة ما يحرم التزين به للرجال والنساء
أ. الرجل والصبي
يحرم على الرجل المميز التزين بالآتي:
1. حلق اللحية.
2. حلق شعر الرأس على طريقة الكفار، فالسنة أن يُحلق شعر الرأس كله أويُترك كله، أويُقصَّر كله.
3. لبس شيء من الذهب أوالحرير.
4. التزيي بلبس الكفار والعجم البنطلون والقميص والكرفتة.
5. الخضاب بالحناء للأرجل والأيدي، فلا يحل إلا لعلاج، أما تغيير الشيب بالحناء فمن السنة.
6. الخضاب بالسواد.
ب. النساء
يحرم على المرأة أن تتزين بالآتي:
1. تصفيف الشعر على طرائق الكفار.
2. الذهاب إلى محلات الكوافير.
3. قص الشعر، أوحلقه، أوكيه.
4. استعمال المساحيق ونحوها لتبييض الوجه.
5. وصل الشعر بغيره، إلا القراميط، وهي الأشرطة من القماش والقطن.
6. النمص – تزجيج الحواجب أوحلقها.
7. الوشم.
8. تفليج الأسنان.
9. الصبغ بالسواد.
10. نقش الحنة أوالتطريف، يستحب للمرأة المتزوجة الاختضاب بالحناء إذا كان زوجها حاضراً، ولكن ليس نقش الحناء وتطريفها.
قال ابن مفلح رحمه الله: ويُستحب للمرأة المزوجة الخضاب مع حضور زوجها، ويكره النقش، قال ابن حمدان: والتكتيب ونحوه، والتطاريف، انتهى كلامه؛ فأما الخضاب للرجل فيتوجه إباحته مع الحاجة، ومع عدمها يخرَّج على مسألة تشبه رجل بامرأة في لباس وغيره، ويباح ما صبغ من الثياب بعد نسجه، وقال القاضي: يكره؛ قال ابن حمدان: وهو بعيد.
وروى المروزي في "الورع" من طرق عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن النقش والتطاريف زاد في رواية: ويختضبن غمساً، وروي أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن الخضاب، فقالت: لا بأس، ما لم يكن نقشاً، وعن إبراهيم قال: يكره النقش؛ ورخص في الغمسة، وروى أحمد بإسناده عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر في الخضاب أن تغمس اليد كلها، وقال المروذي: وأخبرتني امرأة قالت: نهاني أبو عبد الله عن النقش في الخضاب، وقال: اغمسي اليد كلها.
الأدلة على تحريم الوشم، والنمص، والتفليج، ووصل الشعر
1. عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن لي ابنة عُرَيْساً، ثم أصابتها حصبة فتمرق شعرها، أفأصله؟ قال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة".
2. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئاً".
3. وعن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عام حج وهو على المنبر، وتناول قصة من شَعْر كانت في يد حرسي، يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه، ويقول: "إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم".
4. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؛ قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله؟ فقال عبد الله: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته؛ فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"؛ فقالت المرأة: فإني أرى شيئاً من ذلك على امرأتك الآن! قال: اذهبي فانظري؛ قال: فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئاً؛ فجاءت إليه فقالت: ما رأيتُ شيئاً؛ فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها".
رابعاً: البدايات عنوان النهايات
الاهتمام بالنشء منذ الصغر والمحافظة عليه وتوجيهه ورعايته له دور كبير في الاستقامة في الكبر، فمن شبَّ على شيء شاب عليه، والتهاون والتفلت من الأحكام والآداب الشرعية من الصغر يؤدي إلى فساد الناشئة وانحرافهم، ومن ثم يصعب عليهم التخلص مما شبوا وترعرعوا عليه.
فالأبناء أمانة في أعناق الآباء، فعليهم أن يراعوا لباس الصغار والأوامر الشرعية، وأن لا يتهاونوا في ذلك، وأن يعودوا الأولاد ذكوراً وإناثاً على التستر والحشمة، ويحذروهم من العري والتبرج، سيما البنات دون البلوغ وبعده، وأن يجنبوهم الاختلاط بالأجانب والخروج والولوج على النساء.
ومما يؤسف له أن كثيراً من الآباء يتركون اختيار ملابس البنين والبنات للأمهات ولا يراقبون تلك الملابس ويمنعون من لبس ما لا يجوز لبسه شرعاً، نحو الملابس الضيقة والواصفة للأبدان، أوالتي فيها تشبه بملابس الجنس الآخر، أوتشبه بالكفار.
والحذر كل الحذر من التهاون باختلاط البنين بالبنات ولو في رياض الأطفال.(3/32)
يقول الشيخ الدكتور بكر أبوزيد: إلباس الصغيرة المميزة الأزياء المحرمة على البالغة، كالألبسة الضيقة، أوالشفافة، أوالتي لا تستر جميع بدنها، كالقصير منها، أومافيه تصاوير، أوصلبان، أوتشبه بلباس الرجال، أوالكافرات، إلى غير ذلك من ألبسة العري والتهتك، التي ثبت بالاستقراء أنها من لدن البغايا المتاجرات بأعراضهن.
من أخطر الأمور التي عمت بها البلوى في هذه الأيام مجاراة الناس "للموضة" في اللباس، وتلقيهم لملابس الكفار، واحتجاج البعض بأن السوق ليس فيه إلا هذا!! وهذا عذر أقبح من الذنب، فينبغي علينا أن لا نكون إمعات للكفار ولمصممي الأزياء من الفجار، وعلينا أن نقوم بشراء القماش ثم تفصيله بما يناسب الطهر والعفاف الذي أمر به ديننا.
خامساً: التنعل
الترغيب والحض على لبس النعال
لقد رغب الشارع الحكيم في لبس النعال، وعد ذلك من النعم العظيمة، لأن النعال تقي الرِّجْل الحر، والبرد، والنجاسات، الطين، والأوساخ؛ ويشترط في النعال ما يشترط في غيرها من اللباس، نحو:
1. الطهارة: أن تكون المادة التي صنع منها النعل طاهرة، سواء كانت من جلد أوغيره، فالجلد يشترط فيه التذكية والدبغ، حيث لا يطهر جلد الميتة إلا بعد دبغه، واختلف أهل العلم في جلود السباع إذا دبغت، فمنهم من أجاز لبسها، ومنه من منع من ذلك.
2. الحل: أن يكون الملبوس حلالاً ليس حراماً، نحو المسروق والمغصوب.
3. أن لا تشبه نعال العجم والكفار، نحو الكعب العالي.
4. لا تشبه نعال الرجال نعال النساء.
5. نعال الشهرة: الرفيعة جداً أوالوضيعة.
6. لا يشترط في النعال لون معين، ولكن عليه تجنب الألوان الصارخة.
ما ورد في فضل النعل
عن جابر رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استكثروا من النعال، فإن أحدكم لا يزال راكباً ما انتعل".
قال ابن مفلح: قال القاضي: وهذا يدل على ترغيب اللبس للنعال، ولأنها قد تقيه الحر والبرد والنجاسات.
إلى أن قال: يكره للرجل والمرأة لباس النعال الصَّرارة، نص عليه، وقال: لا بأس أن تلبس للوضوء؛ وقال له – لأحمد – المروذي: أمروني في المنزل أن أشتري نعلاً سندياً للصبية؛ فقال: لا تشتر؛ فقلت: تكرهه للنساء والصبيان؟ قال: نعم أكرهه؛ وقال: إن كان للمخرج والطين فأرجو، وأما من أراد الزينة فلا؛ وقال عن شخص لبسها: يتشبه بأولاد الملوك، وقال في رواية صالح – ابنه -: إذا كان للوضوء فأرجو، وأما للزينة فأكرهه للرجال والنساء؛ وكرهه أيضاً في رواية محمد بن أبي حرب، وقال: إن كان للكنيف والوضوء، وأكره الصرار؛ وقال: من زي العجم.
وروى أبوبكر الآجري من أصحابنا في "كتاب اللباس" بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يلبس النعال السِّبْتية، ويتوضأ فيها، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ورواه أبوداود والنسائي، وأظنه في الصحيحين أوأحدهما.
قال وكيع: السِّبْتية التي لا شعر فيها؛ وحكى ابن الجوزي عن ابن عقيل: يحرم الصرير في المداس؛ ويحتمله كلام أحمد.
ويسن أن يكون الخف أحمر، ويجوز أسود، وروي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: النعل السوداء تورث الهم؛ وأظن القاضي ذكره في "كتاب اللباس" فيؤخذ منه الكراهة، ويسن أن يكون النعل سبتياً أصفر، وهو ما ليس عليه شعر؛ وروى أبومحمد الخلال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من لبس نعلاً صفراء لم يزل ينظر في سرور، ثم قرأ: "صفراء فاقع لونها تسر الناظرين".
قال في "الرعاية": ويباح المشي في قبقاب الخشب، وقيل: مع الحاجة؛ وذكر ابن تميم أن أحمد رحمه الله قال: لا بأس بالخشب أن يمشي فيه إن كان حاجة؛ ونقلت من مسائل حرب عن أحمد أنه قيل له: فالنعل من الخشب؟ قال: لا بأس بها إذا كان موضع ضرورة.
السنة الاحتفاء أحياناً
من السنة أن يمشي الإنسان حافياً في بعض الأحيان إذا لم يخش ضرراً، فعن فضالة بن عبيد أن بعض الصحابة قال له بمصر: "ما لي أراك شعثاً وأنت أمير الأرض؟ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن كثير من الإرفاه؛ قال: فمالي لا أرى عليكَ حذاء؟ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نحتفي أحياناً".
وعن عبد الله بن شقيق قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عاملاً بمصر، فأتاه رجل من أصحابه فإذا هو شعث الرأس مشعار؛ فقلت: مالي أراكَ شعثاً وأنت أمير؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الإرفاه؛ قلت: وما الإرفاه؟ قال: الترجل كل يوم".
يكره المشي في فردة نعل واحدة
يكره المشيء في فردة نعل واحدة، سواء كان بسبب إصلاح الأخرى أوغير ذلك.
وإليك الأدلة:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "لا يمش أحدكم في نعل واحدة".
2. وفي رواية: "إذا انقطع شِسْع أحدكم فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها".
3. وفي رواية: "ولا تمش في خف واحد".(3/33)
قال ابن مفلح: ويكره المشي في فردة نعل واحدة سواء كان في إصلاح الأخرى أولم يكن، نص عليه في رواية محمد بن الحسن والأثرم وجماعة، زاد في "الرعاية الصغرى": وقيل كثيراً؛ ويكره المشي في نعلين مختلفين، ذكره صاحب التلخيص وابن تميم وابن حمدان.
لقد أجاز بعض أهل العلم المشي في نعل واحدة، منهم علي وعائشة.
فعن عائشة رضي الله عنها أنها مشت في خف واحد وقالت: "لأحْنِثَنَّ أبا هريرة، إنه قال: لا تمش في نعل واحدة ولا خف واحد"، والحديث يردُّ ذلك.
الانتعال قائماً
اختلف أهل العلم في الانتعال قائماً، فمنهم من كرهه ومنهم من أباحه، والراجح كراهية ذلك.
فعن جابر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينتعل الرجل قائماً".
وروي موقوفاً ومرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كره أن ينتعل الرجل قائماً.
وروى أبومحمد الخلال عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتعل قائماً وقاعداً.
الصلاة في النعال
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة في النعال مخالفة لليهود، إذا كانت طاهرة وليس ثمة بسط، أما إن كانت غير طاهرة وكانت هناك بسط فلا يصلي فيها.
سُئل أنس رضي الله عنه: "أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم".
وصح عنه أنه قال: "إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم".
وتزال نجاسة النعل بدلكه بالأرض في أرجح قولي العلماء.
قال أبو العباس القرطبي في شرح حديث أنس هذا: هذا يدل على جواز الصلاة فيهما، وهو أمر لم يختلف فيه إذا كانت النعل طاهرة من ذكي، فإن تحقق فيها نجاسة مجمع على نجاستها، كالدم والعذرة من بول بني آدم، لم يطهرها إلا الغسل بالماء عندنا، وعند كافة العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفاً فيها كبول الدواب وأرواثها الرطبة، فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف أولا؟ قولان عندنا، وأطلق الإجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبوثور، وقال أبوحنيفة: يزيله إذا يبس الحك والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل، ما عدا البول فلا يجزئ عنده فيه إلا الغسل؛ وقال الشافعي: لا يطهر شيئاً من ذلك كله إلا الماء؛ والصحيح قول من قال: بأن المسح يطهره من الخف والنعل، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري: "إذا جاء أحدكم المسجد فإن رأى في نعليه قذراً أوأذى فليمسحه، وليصلِّ فيهما"، أخرجه أبوداود وهو صحيح، فأما لو كانت النعل أوالخف جلد ميتة، فإن كان غير مدبوغ فهو نجس باتفاق، ومختلف فيه إذا دبغ، هل يطهر طهارة مطلقة، أوإنما ينتفع به في اليابسات؟ روايتان عن مالك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وقد سئل عن الصلاة في النعال ونحوه: أما الصلاة في النعل ونحوه مثل الجمجم، والمداس، والزربول، وغير ذلك فلا يكره، بل هو مستحب لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في نعليه، وفي السنن عنه أنه قال: "إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفهوهم"، فأمر بالصلاة في النعال مخالفة لليهود، ومخالفة اليهود قربة.
وإذا علمت طهارتها لم تكره الصلاة فيها باتفاق المسلمين، وأما إذا تيقن نجاستها فلا يصلي فيها حتى تطهر.
لكن الصحيح أنه إذا دلك النعل بالأرض طهر بذلك كما جاءت به السنة، سواء كانت النجاسة عذرة أوغير عذرة، فإن أسفل النعل محل تكرر ملاقاة النجاسة له، فهو بمنزلة السبيلين، فلما كان إزالته عنها بالحجارة ثابتاً بالسنة المتواترة فكذلك هذا.
وإذا شك في نجاسة أسفل الخف لم تكره الصلاة فيه، ولو تيقن بعد الصلاة أنه كان نجساً فلا إعادة عليه في الصحيح، وكذلك غيره كالبدن، والثياب، والأرض .
أحذية جلود النمور
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن افتراش جلود النمور وعن الركوب عليها، ويدخل في ذلك انتعالها، فعن معاوية رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب النمار وعن لبس الذهب إلا مقطماً".
وعند أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر".
قال الدُّمَيْري في حياة الحيوان: قال الشيخ أبوعمرو بن الصلاح في الفتاوى: جلد النمر نجس كله قبل الدباغ سواء كان مذكى أم لا، فيمتنع استعماله امتناع نجس العين، ومعنى هذا أنه يحرم استعماله قطعاً فيما يجب فيه مجانبة النجاسة من صلاة وغيرها.
وهل يحرم على الإطلاق؟ فيه وجهان، وأما بعد الدبغ فنفس الجلد طاهر والشعر الذي عليه نجس، تبعاً لأصله، ولأجل انه غالب ما يستعمل منه، ورد الحديث بالنهي عنه مطلقاً، وفي حديث آخر: "لا تركبوا النمور"، وفي حديث آخر: "نهى عن جلود السباع أن تفترش"، ولا شك أن النمر من السباع، فهذه الأحاديث قوية معتمدة، والتأويل المتطرق إليها غير قوي، وإذا وجد الموفق مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المضطرب فهو ضالته، ومستروحه لا يرى عنه عدلاً.(3/34)
وقال الشوكاني معلقاً على حديث معاوية السابق: أخرجه أبوداود في الخاتم، والنسائي في الزينة بإسناد رجاله ثقات إلا ميمون القناد، وهو مقبول، وقد وثقه ابن حبان.
إلى أن قال: وإنما نهى عن استعمال جلوده لما فيها من الزينة والخيلاء، ولأنه زي العجم، وعموم النهي شامل للمذكى وغيره.
سادساً: التختم
حكم التختم
للنساء مستحب، وللرجال مباح، إلا لذي سلطان فيستحب.
ما يتختم به
يجوز للنساء التختم بالذهب والفضة، أما الرجال فيحل لهم التختم بالفضة.
ما يكره التختم به
يكره التختم بالحديد والنحاس والرصاص.
قال ابن مفلح: ويكره للرجل والمرأة خاتم حديد، وصُفر، ونحاس، ورصاص، نص عليه – أحمد – في رواية إسحاق وجماعة، وقال في رواية مُهَنَّا: أكره خاتم الحديد لأنه حلية أهل النار؛ وقال في رواية أبي طالب: كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاتم من حديد عليه فضة، فرمى به، فلا يصلي في الحديد والصُّفر.
وقال في رواية الأثرم وقد سأله عن خاتم الحديد: ما ترى فيه؟ فذكر حديث عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "هذه حلية أهل النار"، وابن مسعود قال: لبسة أهل النار؛ وابن عمر قال: ما طهرت كف فيها خاتم من حديد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة لرجل لبس خاتماً من صُفر: "أجد منك ريح الأصنام؛ قال: فما أتخذ يا رسول الله؟ قال: فضة".
وقال في "مسنده": حدثنا يحيى عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على بعض أصحابه خاتماً من ذهب، فأعرض عنه، فألقاه واتخذ خاتماً من حديد، فقال: هذا أشرّ، هذا حلية أهل النار؛ فألقاه واتخذ خاتماً من ورق، فسكت عنه"، حديث حسن، وقال بعض الحنفية: يحرم ذلك؛ ويحتمله كلام أحمد.
ظاهر كلام غير واحد من أصحابنا وغيرهم، وهو معنى كلام الشيخ موفق الدين في كتاب الزكاة، إباحة خاتم الفضة للرجل والمرأة لاعتياد كل منهما لبسه، فلا اختصاص، واختاره بعض الشافعية، وكرهه الخطابي للمرأة، لأنه معتاد للرجل.
في أي اليدين يلبس الرجلُ الخاتم؟ وفي أي الأصابع؟
يجوز للرجل أن يتختم في يده اليمنى أواليسرى، لكن اليسرى أفضل، والتختم يكون في الخنصر والبنصر منهما، ويكره التختم في السبابة والوسطى.
قال ابن مفلح: وقال أحمد في رواية صالح والفضل وسُئل عن التختم: في اليمنى أحب إليك أم في اليسار؟ فقال: في اليسار أقر وأثبت؛ وما ذكره في التخيير قدمه ابن تميم وابن حمدان.
وقال بعض الحفاظ: لم يصح في التختم في اليمنى شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الدارقطني: اختلفت الرواية عن أنس، والمحفوظ أنه كان يتختم في يساره، ويكره التختم في السبابة والوسطى، نص عليه، وزاد في "المستوعب" و"الرعاية" للرَّجُل.
ما يُكره أن يكتب على الخاتم
يكره أن يكتب على الخاتم اسم من أسماء الله أوأسماء رسوله لأنه يدخل به الخلاء ويستنجي به، ويمكن أن يكتب فيها مثل: "كفى بالموت واعظاً"، و"رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه"، ونحو ذلك.
قال ابن مفلح: ويكره أن يكتب على الخاتم ذكر الله، قال ابن حمدان: أورسوله؛ قال أحمد في رواية إسحاق: لا يكتب فيه ذكر الله؛ قال إسحاق: لا يدخل الخلاء فيه؛ ويسن أن يجعل فصه مما يلي باطن كفه كفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: أدعية اللباس وآدابه
دعاء لبس الثوب الجديد
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً سماه باسمه عمامة، أوقميصاً، أورداء، ثم يقول: اللهم لك الحمد، أنت كسوتنيه – في رواية من غير حول مني ولا قوة - أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له".
ما يقول من رأى على أخيه ثوباً جديداً
عن ابن عمر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على عمر ثوباً فقال: ثوبك هذا غسيل أم جديد؟ قال: بل غسيل؛ فقال: البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً".
التيامن في التنعل وفي اللباس
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في شأنه كله، في ترجله، وتنعله، وتطهره.
فالسنة إدخال اليد اليمنى والرجل اليمنى والقدم اليمنى أولاً عند اللباس، وفي الخلع العكس، خلع اليد والرجل والقدم اليسرى.
المراجع
• الآداب الشرعية والمنح المرعية للإمام الفقيه المحدث أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي المتوفى 763ه، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعمر القيام، الطبعة الثانية 1417ه، مؤسسة الرسالة.
• التمهيد لابن عبد البر.
• الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
• حياة الحيوان الكبرى للدُّمَيْري المتوفى 808ه، الطبعة الأولى 1415ه، دار الكتب العلمية.
• الرعاية الصغرى لابن حمدان.
• عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس المالكي.
• الغنية لطالبي طريق الحق للشيخ عبد القادر الجيلاني.
• فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ أحمد بن علي بن حجر.
• الكافي في فقه أهل المدينة المالكي لابن عبد البر.
• المجموع شرح المهذب للإمام النووي.(3/35)
• مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمي
=================000000000
ما يجوز للخاطب من المخطوبة وما لا يجوز
ما يجوز للخاطب من مخطوبته
القدر المنظور إليه من المخطوبة
هل يشترط إذنها عند النظر؟
ما لا يجوز للخاطب من مخطوبته
ما لا يجوز للمخطوبة فعله لخاطبها
ما ينبغي أن يحذر منه الخاطب
لقد نهى الإسلام أتباعه عن الخلوة، والاختلاط، والنظر إلى الأجنبية، وعن مصافحتها ولمسها، وحذر من ذلك تحذيراً شديداً، سداً للذريعة، ومنعاً من السهام الإبليسية، والحيل الشيطانية، لهذا فقد أمر كلاً من المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار، وحفظ الفروج والأعراض، وصان الحريم، وحث على الغيرة عليهن، واعتبرها علامة من علامات الإيمان، وعدَّ فقدانها ديوثة وخذلان.
ثم أباح النظر، واللمس، والكلام مع الأجنبية في بعض الأحيان، مراعاة للضرورات، واعتباراً للحاجات، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، من ذلك إباحته للخاطب والمخطوبة أن ينظر كل منهما إلى الآخر، عسى أن يؤدم بينهما، ويؤلف بين قلوبهما.
فما الذي يجوز للخاطب من مخطوبته إذا عزم على الزواج وأيقن بالقبول، وما الذي لا يجوز له؟
?
ما يجوز للخاطب من مخطوبته
إذا كان الرجل راغباً في زواج المرأة عازماً عليه، موقناً بقبوله والركون إليه، يجوز له الآتي:
أولاً: النظر إلى ما يدعوه إلى زواجها، إلى وجهها وكفيها وسائر قوامها.
ثانياً: أن يطلب من إحدى محارمه أوغيرهن من عاقلات النساء أن يصفنها له.
الأدلة على ذلك
1. ما صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أوريتُك في المنام يجيء بك المَلك في سَرَقة حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك فإذا أنتِ هي، فقلت: إن يكُ هذا من عند الله يُمْضِه"، الشاهد فيه "فكشفتُ عن وجهك الثوب"، لأن الأنبياء معصومون في نومهم ويقظتهم.
2. عن سهل بن سعد رضي الله عنه: "أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، جئتُ لأهب لك نفسي؛ فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعَّد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه..." الحديث.
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "قال رجل إنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرتَ إليها؟ قال: لا؛ فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً".
4. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً – قيل المغيرة – خطب امرأة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما".
5. وعن جابر رضي الله عنهما يرفعه: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل".
6. وعن جابر قال: "كنتُ أتخبأ لها، حتى رأيت منها بعض ما دعاني إلى نكاحها".
?
القدر المنظور إليه من المخطوبة
ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب، هي:
1. الوجه والكفان، وهذا مذهب الجمهور.
2. ينظر إلى ما يريد منها إلا العورة، وهذا مذهب الأوزاعي.
3. ينظر إلى ما أقبل منها وما أدبر.
4. لا ينظر إلى شيء من المخطوبة قبل العقد، وهذا قول مردود.
?
هل يشترط إذنها عند النظر؟
1. ينظر إليها من غير إذنها، وهذا مذهب الجمهور.
2. لابد من إذنها، وهي رواية عن مالك.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور.
?
ما لا يجوز للخاطب من مخطوبته
لا يجوز للخاطب من مخطوبته ما يأتي:
1. أن يخلو بها.
2. أن يتصل بها هاتفياً.
3. أن يتكلم معها طويلاً.
4. أن يصافحها.
5. أن يتواعدا أويخرجا معاً، إلا مع بعض المحارم.
?
ما لا يجوز للمخطوبة فعله لخاطبها
1. لا يجوز للمخطوبة أن تتزين وتتجمل لخاطبها.
2. لا يجوز لها أن تدلس عليه باستعمال بعض الكريمات المبيضة ونحوها، والصبغ، ونحو ذلك.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز طيب الله ثراه: (المخطوبة قبل أن يتم العقد عليها امرأة أجنبية عن الخاطب، فهي كالنساء اللاتي في السوق، ولكن الشرع رخص للخاطب أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها للحاجة إلى ذلك، ولأن هذا أحرى أن يؤدم بينهما- أي أن يؤلف بينهما، ولا يحل لها أن تخرج إليه متجملة أومتزينة، لا بثيابها ولا بـ"المكياج"، لأنها أجنبية عنه، لأن الخاطب إذا رآها في هذه الزينة ثم تغيرت بعد زوالها فإنه سوف تتغير الصورة عنده، وربما تكون رغبته نفوراً منها.
والذي يجوز للخاطب أن ينظر إليه من مخطوبته مثل الوجه، والقدمين، والرأس، والرقبة، بشرط أن لا يخلو بها، ولا يطيل المكالمة المباشرة معها إن كلمته، وكذلك لا يجوز له أن يتصل بها هاتفياً لأن ذلك فتنة يزينها الشيطان في قلب الخاطب والمخطوبة).
?
ما ينبغي أن يحذر منه الخاطب
ينبغي للخاطب أن يحذر من الآتي:
1. التلاعب بأعراض الناس واستغلال حاجة المخطوبة للزواج، فإن ذلك من دنيء الأخلاق.
2. تطويل مدة الخطبة.
3. التخلي عن مخطوبته لغير سبب شرعي واضح.
4. أن يكون غرضه التلذذ والنظر وتزجية الأوقات.
5. عليه أن يحب لمخطوبته ما يحبه لأخته، وبنته، ومحارمه.(3/36)
6. أن يتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والعتاق"، أوكما قال.
7. لا يخطب على خطبة أخيه إذا رُكن إليه، وكذلك المرأة لا تخطب على خطبة أختها، فإن ذلك من المحرمات المفسدات للنكاح، قبل وبعد الدخول.
8. أن لا يصرِّح بخِطْبة معتدة، وله أن يلمِّح.
9. إذا خطب امرأة أن لا يتشوَّف إلى غيرها.
10. تعجيل العقد والدخلة.
11. أن يحرص الخاطب على الدين والخلق.
والله أسأل أن يعفنا، وأن يحفظ جوارحنا، وأن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وأن يجعلنا للمتقين إماماً، وصلى الله على محمد القائل: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج"، وعلى آله وصحبه وسلم.
=================000000
عِدَدُ النِّسَاء
تعريف العدة
حُكمُ العدة
سببها
دليلها
حِكَم وعلل مشروعية العدة
بِمَ تُحصى العدة؟
الأقراء، هل هي الحيض أم الأطهار؟
أنواع العِدد
أولاً: عدة المطلقة الحرة
أ. المطلقة غير المدخول بها
ب. المطلقة المدخول بها
1. الحامل
2. المعتدة بالحيض
3. عدة المرتابة
ثانياً: عدة المطلقة الأمَة، وأم الولد
عدة الزانية إذا أرادت الزواج
ثالثاً: عدة المتوفي عنها زوجها
رابعاً: عدة المفقود زوجها
خامساً: عدة كل فرقة في الحياة
سادساً: عدة الذمية
تداخل العدد
متى تبدأ عدة الطلاق والوفاة؟
النفقة والسكنى للمعتدة من طلاق أووفاة
الخطبة للمعتدة من طلاق أووفاة
الإحداد على المعتدات أكثر من ثلاثة أيام
الإحداد
أولاً: الاحداد على غير الزوج
ثانياً: الاحداد على الزوج
ما تمنع منه المحتدة
ما يباح للمحتدة
أين تعتد المتوفى عنها زوجها؟
تمهيد
سر بقاء هذه الشريعة وخلودها، ومقاومتها لقوى الشر والعدوان، وتصديها للمحن والكوارث، والفتن العظام في شمولها، وحفظها، وصلاحها لكل زمان ومكان، وسهولتها، ويسرها، ومراعاتها لواقع الأماكن والأزمان، ولا غرو في ذلك لأنها وحي الرحيم الرحمن.
لقد اهتم الإسلام بالأسرة أيما اهتمام؛ لأنها هي نواة المجتمع المسلم الفاضل، وصانها من التفكك، ورعاها في حالي التوافق، والخصام.
لم يكتف اهتمام الإسلام بالزوجين والأولاد، بل تعداه إلى افتراض وجود أجنة في الأرحام، فشرع لذلك أحكام العِدة وأوجبها على المطلقة، والمتوفي عنها زوجها، والمفقود، وجعل عقد الزوجية من أقوى العقود، وحقوقها من أفضل الحقوق، عندما ابتلى الله الأمة بسبب تقصيرها، وتفريطها، بعد تعاون الزنادقة، والمنافقين المتاظهرين بالإسلام مع اليهود الحاقدين، والنصارى الضالين في إسقاط الخلافة العثمانية، وتقاسمت الدول الاستعمارية الكافرة الدول الإسلامية، بعد أن فصلت بينها بحدود وهمية، أبعد الإسلام عن كل مناحي الحياة، واستبدل المسلمون المقهورون الذي هو أدنى، وأحط، وأذل، بالذي هو خير، وبركة حيث حُكموا بالقوانين الوضعية، والدساتير الجائرة لم يتجرأ المستعمر أن يبعد فقه الأسرة، حيث ظل المسلمون يتحاكمون فيه إلى شريعة ربهم، حيث خصِّصت دائرة في المحاكم العلمانية عرفت بدائرة "الأحوال الشخصية" ولم تتجرأ قوى الشر على تحريف فقه الأسرة إلاَّ أخيراً على يدي بعض المنافقين، الذين أشربوا حب الكفار، من نفر من بني جلدتنا، يتكلمون بلغتنا، ولكنهم يعادون ديننا أكثر وأشد من عداوة الكفار، حيث شرعوا قوانين شيطانية، تحرِّم تعدد الزوجات، وتعتذر للزناة، وتمنع تزويج البنات دون سن الثامنة عشرة، وتبيح السفور، وتذمُّ الحجاب، بل وتمنع من على رأسها خرقة وليس المتنقبة من دخول المستشفيات ولو كانت في حالة وضوع، كما هو الحال في بعض البلاد.
فهذا بحث عن عِدَدُ النساء، عن تعريف العدة، وحُكمها، وعللها وأنواعها، وما يتعلق بها من احداد ونفقة ونحو ذلك، كتبته من باب النصيحة لعامة المسلمين.
وقد دفعني للكتابة عن ذلك أمور هي:
1. جهل كثير من المسلمين بهذه الأحكام الشرعية، وما ينبني عليها، في حين أن معرفتهم لتلك الأحكام من الواجب العيني عليهم.
2. كثرة سؤال الناس، واختلافهم في بعض أنواع العدد.
3. تساهل بعض من يسأل غير أهل العلم عن بعض الأحكام المتعلقة بالعدة، وبعض النساء.
4. ضياع بعض الحقوق المتعلقة بالعدة نحو النفقة على المعتدة من وفاة، أوطلاق رجعي.
5. الإسهام في وجود مؤلف ميسر سهل يمكن الرجوع إليه في هذا الشأن.
والله أسأل أن يوفقني لذلك، وأن يجعل عملي خالصاً ومتقبلاً، وصلى الله وسلم على أفضل زوج في العالمين، وعلى آله وصحبه وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
?
تعريف العدة لغة
مأخوذة من العدد، العِّدة بالكسر مصدر الإحصاء للعدد، والعُدَّة بالضم الشيء المستعد لشيء، والعَدُّ بالفتح الجملة المعدودة.
تعريف العدة شرعاً
تربص يلزم المرأة عند زوال النكاح المتأكد أو شبهته، وقيل: هي حريم لانقضاء النكاح.
?
حُكمُ العدة
حكم العدة الوجوب.
?
سببها
الطلاق، أوالوفاة، أوفقدان الزوج.
?
دليلها
الكتاب، والسنة، والإجماع.
فمن الكتاب(3/37)
1. قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً".
2. وقوله: "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن إرتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللآئي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن".
3. وقوله تعالى: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً".
4. وقوله: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن واحصوا العدة".
ومن السنة
1. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امراته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي امر الله أن تطلق لها النساء".
2. "أمره صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك".
الإجماع
أجمعت الأمة على وجوب العدة على المطلقة، والمتوفي والمفقود زوجها.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (العدد ليست من باب العبادات المحضة، فإنها تجب في حق الصغيرة والكبيرة، والعاقلة والمجنونة، والمسلمة والذمية، ولا تفتقر إلى نية).
?
حِكَم وعلل مشروعية العدة
للعدة حِكَم عدة، وتعليلات كثيرة تختلف باختلاف سبب العدة، ودين المعتدة، ونحو ذلك، وفي الجملة فقد شرعت العدة للحِكَم الآتية:
1. حق لله عز وجل، بامتثال أمره.
2. وحق للزوج، بإعطائه فرصة للمراجعة، وتقديراً لمكانته عند المرأة.
3. وحق للزوجة، وهو النفقة، والسكنى أثناء العدة.
4. تبرئة الرحم حتى لا تختلط الأنساب.
5. للتأكد من وجود الولد أم لا.
?
بِمَ تُحصى العدة؟
يختلف ذلك باختلاف حال النساء وسبب العدة.
فتحصى العِدَّة بـ:
1. الأقراء لمن كانت تحيض، فعدتها ثلاثة قروء، سواءً كان طهراً أو حيضاً حسب اختلاف أهل العلم في ذلك.
2. الشهور لمن كانت لا تحيض إما لصغر أوليأس منه، فعدتها ثلاثة أشهر قمرية.
3. وضع الحمل لمن كانت حاملاً، سواءً كانت عدة طلاق أووفاة.
4. أربعة أشهر وعشراً للمتوفي عنها غير الحامل.
5. امرأة المفقود، وتحصى عدتها بالسنوات والأشهر القمرية.
?
الأقراء، هل هي الحيض أم الأطهار؟
لأهل العلم في تأويل الأقراء في قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" قولان هما:
1. الأقراء هي الحيض.
2. الأقراء هي الأطهار.
والقولان متكافئان من ناحية اللغة، لأن الأقراء من الأضداد يطلق على الحيض ويطلق على الأطهار، وكذلك من ناحية الأدلة، وذهب إلى لكل واحد من القولين طائفة من علماء الأمة المقتدى بهم من لدن الصحابة ومن بعدهم، وهذا من باب اختلاف التنوع الذي لا ينبغي لأحد أن يثرب فيه على أحد وأن كان أحد القولين أرجح من الآخر.
لقد توسع العلامة ابن القيم في مناقشة ذلك وأتى بأدلة الفريقين وناقشها نقاشاً مستفيضاً وانتصر إلى أن المراد بالأقراء الحيض، فمن أراد التوسع فليرجع لزاد المعاد.
?
مَنْ ذهب إلى أن المراد بالأقراء الحيض
ذهب إلى هذا القول من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبو موسى، وعبادة بن الصامت، وأبوالدرداء، وابن عباس، ومعاذ بن جبل؛ وهو قول أصحاب ابن مسعود كما قال ابن القيم: علقمة، والأسود، وإبراهيم، وشُريح؛ وأصحاب ابن عباس: سعيد بن جبير، وطاوس؛ وقول الشعبي، والحسن، وقتادة؛ وقول أئمة الحديث: إسحاق بن راهويه، وأبو عبيدة القاسم، وإحدى الروايات لأحمد، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
?
مَنْ ذهب إلى أن المراد بالأقراء الأطهار
من الصحابة: عائشة، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وفقهاء المدينة السبعة، وأبان بن عثمان، والزهري؛ ومن الأئمة المقتدى بهم: مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، وهومذهب الظاهرية رحمهم الله.
قال القرطبيرحمه الله: (واختلف العلماء في الأقراء فقال أهل الكوفة: هي الحيض، وهو قول عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وعكرمة، والسُّدي.
وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والزهري، وأبان بن عثمان، والشافعي؛ فمن جعل القرء اسماً للحيض سماه بذلك، لاجتماع الدم بالرحم، ومن جعله اسماً للطهر فلاجتماعه في البدن.
إلى أن قال:(3/38)
واتفقوا على أن القرء الوقت، فإذا قلت: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات"، سارت الآية مفسرة في العدد، محتملة في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها، فدليلنا قول الله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن"، ولا خلاف أنه يأمر بالطلاق وقت الطهر فيجب أن يكون هو المعتبر في العدة، فإنه قال: "فطلقوهن" يعني وقتاً تعتد به، ثم قال تعالى: "واحصوا العدة" يريد ما تعتد به المطلقة وهو الطهر الذي تطلق فيه، وقال صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض، ثم تطهر، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" أخرجه مسلم وغيره؛ وهو نص في أن زمن الطهر هو الذي يسمى عدة، وهو الذي تطلق فيه النساء.
ولا خلاف أن من طلق في حال الحيض لم تعتد بذلك الحيض، ومن طلق في حال الطهر فإنه تعتد عند الجمهور بذلك الطهر، فكان ذلك أولى.
وقال الشيخ البسام حفظه الله: أما تفسير الأقراء المذكور في قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء"، فقد اختلف العلماء في ذلك سلفاً وخلفاً على قولين:
أحدهما: أن المراد بالأقراء الأطهار، قالت عائشة إنما الأقراء الأطهار؛ وقال الإمام مالك عن ابن شهاب سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحداً من فقهائنا إلاَّ وهو يقول ذلك.
وهو مروى عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وسالم، والقاسم بن محمد، وعروة وأبي بكر بن عبد الرحمن، وقتادة والزهري، وبقية الفقهاء السبعة وغيرهم، وهو مذهب مالك، والشافعي، وداود، وأبي ثور، ورواية عن أحمد.
الثاني: أن المراد بالأقراء: هي الحيض، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
قال القاضي: الصحيح عن أحمد أن الأقراء هي الحيض وإليه ذهب أصحابنا.
إلى أن قال: أما دليل من يرى أن ـ القرء ـ هو الحيض قوله تعالى: "واللائي يئسن من المحيض" الآية، فقد شرع الله تعالى الاعتداد عند عدم الحيض بالأشهر، مما يدل على أن الأصل الحيض، ولأن المعهود في لسان الشارع استعمال القرء بعد الحيض، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "تدع الصلاة أيام قرئها" رواه أبو داود، وبما رواه النسائي من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "إذا أتى قرؤك فلا تصلي، وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء"، ولأن ظاهر قوله تعالى: "يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" وجوب التربص ثلاثة كاملة، ومن جعل القروء الأطهار يكتفى بطهرين، وبعض الثالث فيخالف ظاهر النص والله أعلم.
?
ثمرة الخلاف في تفسير القروء
أجمع العلماء على أن من طلقت وهي حائض لا تعتد بهذه الحيضة، ثم اختلفوا، فمن قال: إن الأقراء هي الأطهار فإن طلقها في طهر ما لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة أولحظة، ثم تضيف إليه طهرين، فإن رأت الحيضة الثالثة انقضت عدتها.
ومن قال إن الأقراء هي الحيض وطلقت وهي طاهر انتظرت حتى تحيض ثلاثة حيض، فإذا طهرت بعد الثالثة انقضت عدتها.
قال القرطبي: (فإن طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه، ولو ساعة ولو لحظة، ثم استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة، ثم ثالثاً بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت واعتدت بما بقي من ذلك الطهر؛ وقال الزهري في امرأة طلقت في بعض طهرها: إنها تعتد بثلاثة أطهار سوى بقية ذلك الطهر؛ قال أبوعمر: لا أعلم احداً ممن قال: الأقراء الأطهار، يقول هذا غير ابن شهاب الزهري، فإنه قال: تلقي الطهر الذي طلقت فيه، ثم تعتد بثلاثة أطهار، لأن الله عز وجل يقول: "ثلاثة قروء".
قلت: فعلى قوله لا تحل المطلقة حتى تدخل في الحيضة الرابعة، وقول ابن القاسم، ومالك، وجمهور أصحابه، والشافعي، وعلماء المدينة: أن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة، وهو مذهب زيد بن ثابت، وعائشة، وابن عمر، وبه قال أحمد بن حنبل، وإليه ذهب داود بن علي وأصحابه، والحجة على الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في طلاق الطاهر من غير جماع، ولم يقل أول الطهر ولا آخره.
وقال أشهب: لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض، لئلا تكون دفعة دم من غير حيض.
إلى أن قال: وقال بعض من يقول بالحيض: إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة بعد الغسل، وحلت الرجعة قاله سعيد بن جبير، وطاوس، وابن شبرمة، والأوزاعي، وقال شريك: إذا فرطت المرأة في الغسل عشرين سنة فلزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل).
السنة أن تطلق المرأة في طهر لم تمسَّ فيه، فإن طلقها وهي حائض فهذا طلاق بدعي، ولكنه يقع، وعليه أن يؤمر بمراجعتها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فإن شاء أمسك وإن شاء طلق.
وكذلك يكره أن يطلقها وهي حامل لئلا تطول عليها العدة مع وقوع الطلاق.
وهذا كله يرجح قول من قال المراد بالقروء الطهر، والله أعلم.
?
أنواع العِدد
أولاً: عدة المطلقة الحرة
أ. المطلقة غير المدخول بها(3/39)
إذا عقد الرجل على المرأة ولم يدخل ولم يَخلُ بها، ثم طلقها، فليس له عليها عدة ولا رجعة، إلاَّ بخطبة وعقد جديدين.
وليس لها عليه نفقة، ولا سكنى، وليس بينهما توارث، وله أن يمتِّعها بما شاء من المال والملابس، إن لم يكن سمى لها صداقاً فإن سمى لها صداقاً فله نصفه، ودليل ذلك قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً" .
قال القرطبي: (فالمطلقة إذا لم تكن ممسوسة لاعدة عليها بنص الكتاب، وإجماع الأمة على ذلك، فإن دخل فعليها العدة إجماعاً.
إلى أن قال: هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء"، ولقوله: "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهر".
إلى أن قال: قوله تعالى: "فمتعوهن"، قال سعيد: هي منسوخة بالآية التي في البقرة، وهي قوله: "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، أي فلم يذكر المتعة.
?
ب. المطلقة المدخول بها
المطلقة المدخول بها أوإذا خلا بها تجب عليها العدة، سواء كانت هذه الفرقة بطلاق، أوخلع، أوفسخ، أونكاح فاسد كمن تزوج من غير ولي، ولا تجب في نكاح باطل لمن تزوج بخامسة إلاَّ بوطء، سواءً بذلك كانت الطلقة رجعية أوبائنة.
فإن كانت المفارقة حاملاً فبوضع حملها ولو وضعت بعد ساعة من طلاقها، وإن كانت ممن تحيض فعدتها ثلاثة قروء، وإن كانت صغيرة أويائسة فعدتها ثلاثة أشهر.
وإليك تفصيل ذلك من بعض أقوال أهل العلم:
?
1. الحامل
عدتها من وفاة أو طلاق أو فسخ وضع حملها.
قال في نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب: (الحامل وعدتها من وفاة، أوطلاق، أوفسخ وضع ما يتبين فيه خلق إنسان، ولو خفياً، مسلمة كانت أوكافرة، وأقل مدة الحمل ستة أشهر منذ نكاحها، وأمكن اجتماعه بها، فلو أتت به بدون ذلك وعاش لم تنقض به عدتها من زوجها، لعدم لحوقه به، وغالب مدة الحمل تسعة أشهر؛ لأن غالب النساء يلدن فيها، واكثر مدة الحمل أربع سنين لأنها أكثر ما وجد).
و قال القرطبي رحمه الله: (ولا خلاف بين العلماء على أن أجل كُلِّ حامل مطلقة يملك الزوج رجعتها أولا يملك، حرة كانت أومُدَبَّرة أومكاتَبَة، أن تضع حملها.
وقال: (إذا وضعت المرأة ما وضعت من علقة، أومضغة حلت؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تحل إلاَّ بما يكون ولداً.
?
أقل الحمل وأكثره
أقل الحمل ستة أشهر لقوله تعالى: "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً"، واختلف الناس في اكثر الحمل على أقوال، أشهر ما قيل فيه أربع سنوات هذا إذا تركت الحامل لحالها من غير وجع صناعي، أوفتح بطن، وقيل لا حدَّ لكثره.
قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: "الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الرحام وما تزداد وكل شيءٍ عنده بمقدار": (في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر وأكثر، وأجمع العلماء على أن اقل الحمل ستة أشهر، وأن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر.
وهذه الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة، ولهذا قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك، وأظنه في كتاب ابن الحارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الشهر وزيادتها، حكاه ابن عطية.
واختلف العلماء في أكثر الحمل، فروى ابن جريج عن جميلة بنت سعد، وعن الليث بن سعد عن عائشة قالت: إن أكثره ثلاثة سنين؛ وعن الشافعي أربع سنين.
وروي عن مالك في إحدى روايتيه والمشهور عنه خمس سنين، وروي عنه لا حد له ولو زاد على العشرة أعوام، وهي الرواية الثالثة عنه، وعن الزهري ست وسبع؛ قال أبو عمر - ابن عبد البر - ومن الصحابة من يجعله إلى سبع؛ والشافعي مدة الغاية منها أربع سنين؛ والكوفيون يقولون: سنتان لا غير؛ ومحمد بن عبد الحكم يقول: سنة لا أكثر؛ وداود يقول: تسعة أشهر، لا يكون عنده حمل أكثر منها؛ قال أبو عمر: وهذه مسألة لا أصل لها إلاَّ الاجتهاد، والرد على ما عرف من أمر النساء، وبالله التوفيق.
روى الدار القطني عن الوليد بن مسلم: قال: قلت لمالك بن أنس إني حدثتُ عن عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين، قدر ظل المغزل؛ فقال: سبحان الله! من يقول هذا؟! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين؛ وذكره عن ابن المبارك عن ابن مجاهد قال: مشهور عندنا كانت امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين، وكانت تسمى حاملة القيل.(3/40)
وروي أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إني غبتُ عن امرأتي سنتين، وهي حبلى، فشاور عمر الناس، فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين! إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل، فاتركها حتى تضع؛ فتركها فوضعت غلاماً قد خرجت ثناياه، فعرف الرجل الشبه، فقال: ابني ورب الكعبة! فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر.
وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني؛ ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين، وقيل ثلاث سنين، ويقال: إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فماتت به وهو يضطرب اضطراباً شديداً، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه.
وقال حماد بن سلمة: إنما سمي هَرِم بن حيان هرماً لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين، وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين، وقد طلعت سنه فسمي ضحاكاً؛ عباد بن العوام قال: ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاماً شعره إلى شغره إلى منكبيه، فمر به طير فقال: كش .
?
إذا أسقطت الحامل ما في بطنها بشرب دواء ونحوه هل تنقضي عدتها؟ أم لا؟
لا يجوز لمعتدة أن تشرب دواء لتطويل مدة الحيض أوتقصيرها، أولقطعه، ولا يجوز لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسقط ما في بطنها سواء كان نطفة أوتخلق، أثبت الأطباء أنه مشوه أم لا.
ولا يحل إسقاط الجنين إلا إذا أثبت الأطبة الثقات أن في وجوده خطراً على حياة أمه.
لقد رخص بعض الفقهاء من الشافعية والحنابلة في إسقاط الجنين قبل التخلق، أي دون مائة وعشرين يوماً، سيما إذا أثبتت الفحوصات المختبرية أنه مشوه الخلقة، وأجازت ذلك هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، مع بعض التحوطات.
وهذا قول ضعيف، وفيه تجن على خلق من خلق الله عز وجل.
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (وقد رخص طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها ما لم ينفخ فيه الروح، وجعلوه كالعزل، وهو قول ضعيف، لأن الجنين ولد وانعقد، وربما تصور، وفي العزل لم يوجد ولد بالكلية، وإنما تسبب إلى منع انعقاده، وقد لا يمتنع انعقاده إذا أراد الله خلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن العزل: "لا عليكم أن لا تعزلوا، إنه ليس من نفس منفوسة إلا الله خالقها".
وقد صرح أصحابنا بأنه إذا صار الولد علقة لم يجز للمرأة إسقاطه، لأنه ولد انعقد بخلاف النطفة، فإنها لم تنعقد بعد، وقد لا تنعقد أبداً.
ولأنه ورد في بعض روايات حديث بن مسعود رضي الله عنه أن الجنين يمكن أن يتخلق في العلقة وتنفخ فيه الروح.
?
أقل ما تنقضي به العدة من الحمل
أقل ما تنقضي به العدة وتعتق به أم الولد المضغة المخلقة، إذا دخل في العقد الثالث من أطواره، وأقل ذلك أن يكون عمر السقط واحداً وثمانين يوماً.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود أن لا تصوير قبل ثمانين يوماً.
إلى أن قال:
وقد أخذ طوائف من الفقهاء بظاهر هذه الرواية، وتأولوا حديث ابن مسعود المرفوع عليها، وقالوا أقل ما يتبين خلق الولد أحد وثمانون يوماً، لأنه لا تكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة، ولا يتخلق قبل أن يكون مضغة.
وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي بناء على هذا الأصل: إنه لا تنقضي العدة، ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلقة، وأقل ما يمكن أن يتخلق أويتصور في أحد وثمانين يوماً.
وقال أحمد في العلقة: هي دم لا يستبين فيها الخلق، فإن كانت المضغة غير مخلقة فهل تنقضي بها العدة؟ وتصير أم الولد بها مستولدة؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، وإن لم يظهر فيها التخطيط، ولكن كان خفياً لا يعرفه إلا أهل الخبرة من النساء، فشهدن بذلك، قبلت شهادتهن، ولا فرق بين أن يكون بعد تمام أربعة أشهر أوقبلها عند أكثر العلماء، ونصَّ على ذلك الإمام أحمد في رواية خلق من أصحابه، ونقل عنه ابنه صالح في الطفل في الأربعة يتبين خلقه.
قال الشعبي: إذا نكِّس في الخلق الرابع، كان مخلقاً، انقضت به العدة، وعتقت به الأمة، إذا كان لأربعة أشهر؛ وكذا نقل عنه حنبل: إذا أسقطت أم الولد، فإن كان خلقه تاماً عُتقت، وانقضت به العدة إذا دخل في الخلق الرابع في أربعة أشهر ينفخ فيه الروح، وهذا يخالف رواية الجماعة عنه.
وقد قال أحمد في رواية عنه: إذا تبين خلقه، ليس فيه اختلاف أنها تعتق بذلك إذا كانت أمة، ونقل عنه جماعة أيضاً في العلقة إذا تبين أنها ولد أن الأمة تعتق بها، وهو قول النخعي، وحُكي قولاً للشافعي، ومن أصحابنا من طرد هذه الرواية عن أحمد في انقضاء العدة أيضاً، وهذا كله مبني على أنه يمكن التخلق في العلقة.
?
2. المعتدة بالحيض
أقل مدة تنقضي بها عدة الحائض
اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال هي:
• ... شهر: وقد روي هذا عن شريح واستحسنه علي رضي الله عنه، وقال به عدد من أهل العلم.
• ... شهر ونصف: وهو قول للمالكية.
• ... سبعة وأربعون يوماً: وهذا مذهب أبي ثور.(3/41)
• ... ستون يوماً: وهذا مذهب أبي حنيفة وقول للشافعي.
قال القرطبي: (قال ابن المنذر: وقال كل من حفظت عنه من أهل العلم: إذا قالت المرأة في عشرة أيام: قد حضتُ ثلاث حيض وانقضت عدتي؛ أنها لا تصدق ولا يُقبل ذلك منها، إلا أن تقول: قد أسقطتُ سقطاً قد استبان خلقه.
واختلفوا في المدة التي تصدق فيها المرأة، فقال مالك: إذا قالت انقضت عدتي في أمد تنقضي في مثله العدة قبل قولها، فإن أخبرت بانقضاء العدة في مدة تقع نادراً فقولان، قال في المدونة: إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر صُدِّقت إذا صدقها النساء، وبه قال شريح، وقال له علي بن أبي طالب: "قالون"، أي أصبت وأحسنت، وقال في كتاب محمد: لا تصدق إلا في شهر ونصف، ونحوه قول أبي ثور، قال أبو ثور: أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يوماً، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشرة يوماً، وأقل الحيض يوم.
وقال النعمان – أبو حنيفة -: لا تصدق في أقل من ستين يوماً؛ وقال به الشافعي).
?
3. عدة المرتابة
الارتياب قد يكون بانقطاع الدم، أوباشتباه الحمل، أوبالاستحاضة، ونحوه؛ انقطاع الدم إما أن يكون:
1. ليأس، فهذه تعتد بالشهور وتلغي ما اعتدته بالحيض إذا كان دون الثلاثة.
2. لمرض، فلها أن تعالج ذلك وتنتظر حتى تقضي ثلاثة قروء طالت المدة أم قصرت.
3. لا تدري سبب الانقطاع، وهي شابة لم تقارب سن اليأس، فعدتها سنة، تسعة أشهر استبراء، وثلاثة أشهر عدة.
قال القرطبي: (المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة، وقد قيل في المرتابة التي رفعت حيضتها وهي لا تدري ما رفعها أنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها، منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة، فإن طلقها فحاضت حيضة أوحيضتين ثم ارتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للأزواج؛ وهذا قول الشافعي بالعراق، وعلى قياس هذا، وروي عن الشافعي أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سن اليائسات، وهو قول النخعي والثوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق.
إلى أن قال:
وأما من تأخر حيضها لمرض، فقال مالك وابن القاسم وعبد الله بن أصبغ: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة، وقال أشهب: هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أوبالسَّنة.
?
من ارتابت بشبهة حمل
من ارتابت بشبهة حمل لأهل العلم فيها قولان:
1. تعتد بسنة، تسعة للحمل وثلاثة للعدة، وهذا القول أقيس.
2. تعتد بثلاثة قروء.
قال القرطبي: (فإن كانت المرأة شابة، استؤنى بها هل هي حامل أم لا؟ فإن استبان حملها فإن أجلها وضعه، وإن لم يستبن فقال مالك: عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة؛ وبه قال أحمد وإسحاق، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره، وأهل العراق – الأحناف - يرون أن عدتها ثلاثة حيض، بعدما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلى أن تبلغ من الكبر مبلغاً تيأس فيه من الحيض، فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر؛ قال الثعلبي: وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء، وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه، قال الكيَّا: وهو الحق، لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر، والمرتابة ليست آيسة.
قلت: ما قاله أهل العراق ومن وافقهم فيه إجحاف بالمرأة وظلم، والقول الأول وهو أن تجلس سنة فيه تبرأة للرحم، واطمئنان إلى عدم وجود ولد، وفيه رفق بالمرأة حتى إذا أرادت الزاوج كانت لها فرصة الإنجاب، أما القول الثاني فإنه يحرم المرأة من الزواج في الغالب ومن الإنجاب قطعاً.
?
من لا تحيض وهي مرضع
من عادة بعض النساء أنها لا تحيض وهي ترضع، فإن كانت ممن تحيض فعدتها ثلاثة قروء بعد حيضتها، وإن كانت ممن يعتددن بالشهور لصغر أونحوه فتجلس سنة كاملة.
قال القرطبي: (وقد طلق حبََّان بن منقذ امرأته وهي ترضع، فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع، ثم مرض حبَّان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده علي وزيد - رضي الله عنهم - فقالا: نرى أن ترثه، لأنها ليست من القواعد، ولا من الصغار، فمات حبَّان فورثته واعتدت عدة الوفاة.
?
المرتابة باستحاضة
لأهل العلم في عدة المستحاضة ثلاثة أقوال هي:
1. عدتها سنة: وهذا مذهب ابن المسيب، ومالك، والليث بن سعد.
2. عدتها ثلاثة أشهر.
3. عدتها ثلاثة قروء: إن كانت تعلم موعد حيضها وطهرها قبل الاستحاضة.
قال القرطبي: (وأما التي تجهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال، قال ابن المسيب: تعتد بسنة؛ وهو قول الليث، قال الليث: عدة المطلقة وعدة المتوفي عنها زوجها إذا كانت مستحاضة سنة؛ وهو مشهور قول علمائنا، سواءً علمت دم حيضها من دم استحاضتها وميزت ذلك أولم تميزه،عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة، منها تسعة أشهر إستبراء وثلاثة عدة.(3/42)
وقال الشافعي في أحد قوليه: عدتها ثلاثة أشهر؛ وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين، قال ابن العربي: وهو الصحيح عندي؛ وقال أبو عمر - ابن عبد البر -: المستحاضة إذا كان دمها متصل فعلمت اقبال حيضتها أوادبارها اعتدت ثلاثة قروء؛ وهذا أصح في النظر وأثبت في القياس والأثر.
وما قاله ابن عبد البر ورجحه القرطبي هو الراجح أن شاء الله.
?
عدة الصغيرة إذا رأت الدم
إذا شرعت الصغيرة في العدة بالشهور ثم رأت الدم ألغت ما مضى من عدتها بالشهور إذا لم تكمل ثلاثة أشهر، وشرعت في العدة بالأقراء.
?
أقل سن للحيض، واليأس
أقل سن للحيض سن التاسعة، فإن رأت الدم قبل التاسعة فليس بحيض، اما إذا رأته بعد سن التاسعة فهو حيض؛ والحيض المعتبر هو ما تكرر ثلاثة مرات فأكثر.
أما اليأس فليس له حد ويختلف باختلاف النساء والبيئات.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة.
?
إن بلغت سن الخامسة عشر ولم تحض
قولان لأهل العلم:
1. تعتد بالشهور لظاهر قوله تعالى: "واللاَّئي لم يحضن"، وهذا مذهب الجمهور، وهذا الراجح.
2. تعتد عدة المرتابة سنة كاملة.
قال ابن قدامة: (فإن بلغت سناً تحيض فيه النساء في الغالب فلم تحض لخمس عشرة سنة، فعدتها ثلاثة أشهر في ظاهر قول الخرقي، وهو قول أبي بكر، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وضعف أبو بكر الرواية المخالفة لهذا، وقال: رواها أبو طالب فخالف فيها أصحابه، وذلك ما روى أبو طالب عن أحمد تعتد سنة، قال القاضي: هذه الرواية أصح؛ لأنه متى أتى عليها زمان الحيض فلم تحض صارت مرتابة، يجوز أن يكون بها حمل منع حيضها فيجب أن تعتد بسنة.
?
ثانياً: عدة المطلقة الأمَة، وأم الولد
تمهيد
لله در الإمام أبو الحسن الماوردي حين قال في كتابه أدب الدين والدنيا: (ليس دين زال سلطانه إلاَّ بدلت أحكامه، وطمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر فيه وَهْية أثر).
تذكرت تلك الكلمة المضيئة وأنا أريد أن أتحدث عن أحكام عدة الأمة حيث أضحى كثير من المسلمين يستهجن ذكر أي حكم متعلق بالمماليك وذلك لأسباب منها:
1. الخلط بين الرق الشرعي والرق الاجتماعي.
2. ترك المسلمين للجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام بعد أن ركنوا إلى الدنيا.
3. غياب الإسلام عن الحكم واستبدال المسلمين للذي هو أدنى بالذي هو خير.
4. الجهل الفاضح بأبجديات هذا الدين وخلوده.
لهذا يتحتم عليَّ أن أعرِّف الرق الشرعي ليفرق الناس بينه وبين الرق الاجتماعي الذي شرعه في العصر الحديث الأمريكان والأوربيون، وجاراهم في ذلك بعض المسلمين.
يعرف العلماء الرق: بأنه عجز حكمي سببه الكفر، فلا علاقة بين اللون والمستوى المعيشي وبين الرق.
فإذا خرج المسلمون لجهاد الطلب الذي هو أسُّ الجهاد، لمجاهدة من يحول بين الخلق وبين الدخول في الإسلام من الطغاة، والجبابرة، والمترفين، فمن قبل الإسلام فله ما للمسلمين من الحقوق وعليه ما عليهم من الواجبات؛ ومن أبى الإسلام أخذت منه الجزية إن كان من الكفار الكتابيين اليهود والنصارى أوالمجوس؛ ومن رفض الإسلام والجزية قوتل، فمن قتل فهو في النار ومن أسِر فهو رقيق مملوك، ولإمام المسلمين قتله في الحال، وإن امتنَّ عليه بالأسر فهو مملوك وإن أسلم بعد ذلك، إلآَّ أن يعتق أويكاتب سيده.
وعليه فالذي يظهر لي أنه ليس هناك رق شرعي في هذا العصر، لترك المسلمين الجهاد منذ أمد، اللهم إلاَّ أن يكون متوارثاً عن الأجداد.
أما من يطلق عليهم بعض من لا يعرف الشرع بأنهم رقيق فهذا من باب الخطأ والظلم البين، فلا ينبغي أن يتحمل الإسلام أخطاء غيره.
ولكن هذا لا يعني أن نسكت عن بيان الأحكام المتعلق بالأرقاء، ذكوراً كانوا أم إناثاً، في الإمامة، والعتق، والعدة، ونحو ذلك، كما بينها سلفنا الصالح في مصنفاتهم، كما وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن تعقد من ذكر ذلك فقد أوتي من جهله بالإسلام، وانهزامه، واستكانته، وعليه أن يراجع دينه وإيمانه.
بعد هذا التمهيد نرجع إلى موضوعنا وهو عدة المطلقة إن كانت من الإماء، أوأمهات الأولاد، فنقول:
?
الأمة المطلقة لها حالان
1. إما أن تكون ممن تحيض، فعدتها على النصف من عدة الحرة وهي قرءان؛ لأن القرء لا يتجزأ في أرجح قولي العلماء، وهو الذي عله عامة السلف والخلف.
2. وإما أن تكون ممن لا تحيض لصغر أوليأس فعدتها شهر ونصف وقيل شهران.
وقد ذهبت طائفة من أهل العلم منهم الظاهرية إلى أن عدة الأمة مثل عدة الحرة تماماً، وهذا قول مرجوح، ومصادم لظاهر النصوص ولإجماع الأمة.
?
الأدلة على ذلك
1. ما روته عائشة رضي الله عنها ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان".
2. وقال عمر: "عدة الأمة حيضتان، نصف عدة الحرة، ولو قدرت على أن أجعلها حيضة ونصف لفعلت"، وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه منهم أحد.
3. وعن ابن عمر: أيهما رق نقص طلاقه، ذكراً كان أم انثى.(3/43)
4. إجماع العامة من أهل العلم على ذلك.
?
أقوال العلماء في عدة الأمة
قال ابن قدامة بعد أن ذكر أثر عمر السابق: (فدل على انه إجماع منهم، وهو قول عشرة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة، وحسبك ما قالوا.
إلى أن قال: والجمهور من العلماء على أن عدة الأَمة التي تحيض من طلاق زوجها حيضتان، وروي عن ابن سيرين أنه قال: ما أرى عدة الأمة إلآَّ كعدة الحرة، إلآَّ أن تكون مضى في ذلك سنة، فإن السنة أحق أن نتبع.
وقال الأصم عبد الرحمن بن كيسان، وداود بن علي - الظاهري - وجماعة من أهل الظاهر: إن الآيات في عدة الطلاق والوفاة بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة، فعدة الأمة والحرة سواء.
وقال الخرقي في مختصره: (والأمة شهران، أي عدتها بالأشهر، قال ابن قدامة في شرح ما قال الخرقي: اختلفت الروايات عن أبي عبد الله في عدة الأمة، فأكثر الروايات عنه، أنها شهران، رواه عنه جماعة من أصحابه، واحتج فيه بقول عمر رضي الله عنه: عدة أم الولد حيضتان ولو لم تحض كان عدتها شهرين، رواه الأثرم عنه بإسناده، وهذا قول عطاء، والزهري، وإسحاق، وأحد أقوال الشافعي؛ لأن الأشهر بدل القروء، وعدة ذات القروء قرءان، فبدلهما شهران، ولأنها معتدة بالشهور من غير الوفاة، فكان عددها كعدد القروء، لو كانت ذات قروء كالحرة.
والرواية الثانية: أن عدتها شهر ونصف نقلها الميموني، والأثرم، واختارها أبو بكر، وهذا قول علي رضي الله عنه، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن المسيب، وسالم، والشعبي، والثوري، وأصحاب الرأي، وهو قول ثانٍ للشافعي؛ لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة، وعدة الحرة ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف.
إلى أن قال:
والرواية الثالثة: أن عدتها ثلاثة أشهر؛ روي ذلك عن الحسن، ومجاهد، وعمربن عبد العزيز، والنخعي، ويحي الأنصاري، وربيعة، ومالك، وهو القول الثالث للشافعي لعموم قوله تعالى: "فعدتهن ثلاثة أشهر".
وقال ابن القيم: (ولا نعرف التسوية بين الحرة والأمة في العدة عن أحد من السلف إلآَّ محمد بن سيرين، ومكحول؛ فأما ابن سيرين فلم يجزم بذلك، وأخبر به عن رأيه، وعلق القول به على عدم سنة تتبع، وأما قول ابن مسعود فلم يذكر له سند.
?
عدة الزانية إذا أرادت الزواج
لا يصح زواج الزانية إلآَّ بشروط هي:
1. التوبة النصوح، فالإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها، وقد نهى الله عز وجل عن نكاح الزانية غير التائبة بقوله: "الزانية لا ينكحها إلآَّ زانٍ أومشرك وحرم ذلك على المؤمنين".
2. بوضع حملها إن كانت حاملاً، حرة كانت أم أمة.
وإن لم تكن حاملاً فقد اختلف فيها العلماء على قولين هما:
1. تعتد بثلاثة قروء إن كانت من ذوات الأقراء، أو بثلاثة شهور إن كانت صغيرة لا تحيض أوكبيرة انقطع دمها، وهذا مذهب مالك، ورواية عن أحمد.
2. تعتد بحيضة واحدة وهذا مذهب الجمهور.
قال الشيخ البسام في اختياراته الجلية: (اختلف العلماء في الزانية غير الحامل هل تجب عليها عدة أوتستبرأ بحيضة واحدة؟ فذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجب عليها عدة، وإنما تستبرأ بحيضة، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وهي رواية عن أحمد، ويرى مالك استبراءها بثلاث حيض؛ واستدل هؤلاء بقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش"، والدلالة فيه غير واضحة، وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه إلى وجوب العدة عليها، وإن عدتها كعدة المطلقة، وهو قول الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، واختاره الشيخ تقي الدين - ابن تيمية -، وابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن السعدي رحمهم الله، ودليل هذا القول العمومات الواردة في وجوب العدة من الوطء، يقتضي شغل الرحم فوجبت العدة منه كوطء الشبهة).
?
ثالثاً: عدة المتوفي عنها زوجها
1. الحرة
عدة الوفاة تجب بالموت سواءً دخل بها أولم يدخل اتفاقاً، كما دل عليه عموم القرآن والسنة، واتفقوا على أنهما يتوارثان قبل الدخول، ولها كامل الصداق المسمى، وكذلك مهر المثل في أرجح قولي العلماء.
الحرة المتوفي عنها زوجها أما أن تكون:
1. حاملاً: فعدتها بوضع ما استبان من الحمل، ولو كان زوجها على سرير الموت لم يدفن بعد؛ وهناك قول مرجوح أنها تعتد بأطول الأجلين، وضع الحمل أوالأربعة أشهر وعشراً، وقد روي هذا القول عن علي، وابن عباس رضي الله عنهم؛ وقيل إن ابن عباس رجع لقول العامة.
2. غير حامل: فعدتها أربعة أشهر وعشراً، سواءً كانت ممن تحيض أولا تحيض.
هذا بعد أن كانت عدة المتوفي عنها زوجها سنة كاملة فقد خفف الله عليهن ورفق بهن.
?
2. الأمَة وأم الولد
1. إن كانت إحداهما حاملاً فبوضع الحمل.
2. وإن كانت غير حامل فعدتها على النصف من عدة الحرة وهي شهران وخمسة أيام، وقيل كعدة الحرة.
?
الأدلة
1. قوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير".(3/44)
2. حديث سبيعة الأسلمية، وقد ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر، وقال البخاري بأربعين يوماً، فسألت الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: " فأفتاني بأني قد حللت حين وضعتُ حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي".
?
أقوال العلماء في عدة المتوفي عنها زوجها
قال القرطبي رحمه الله: (عدة الحامل المتوفي عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء، وروي عن علي بن أبي طالب، وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين واختاره سحنون من علمائنا.
وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن هذا، والحجة لما روي عن علي، وابن عباس رَوْمُ الجمع بين قوله تعالى: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً"، وبين قوله: "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن"، وذلك أنها إذا قعدت أقصى الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول، وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من حديث سُبيعة الأسلمية: "أنها نفست بعد وفاة زوجها بليال.."، فبيَّن الحديث أن قوله تعالى: "وأولات الأحمال.." الآية محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنفين.
إلى أن قال:
وقال ابن شهاب: ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر؛ وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء، وقال الحسن، والشعبي، والنخعي، وحماد: لا تنكح النفساء ما دامت في دم نفاسها، فاشترطوا شرطين:
1. وضع الحمل.
2. والطهر من دم النفاس.
والحديث حجة عليهم).
وقال ابن القيم رحمه الله: (وأما عدة الوفاة، فتجب بالموت، سواء دخل بها أولم يدخل اتفاقاً، كما دل عليه عموم القرآن والسنة، واتفقوا على أنهما يتوارثان قبل الدخول، وعلى أن الصَّداق يستقر إذا كان مسمى، لأن الموت لما كان انتهاء العقد استقرت به الأحكام، فتوارثا، واستقر المهر، ووجبت العدة.
واختلفوا في مسألتين:
إحداهما: وجوب مهر المثل إذا لم يكن مسمى، فأوجبه أحمد، وأبوحنيفة، والشافعي في أحد قوليه، ولم يوجبه مالك والشافعي في القول الآخر، وقضى بوجوبه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في السنة الصحيحة الصريحة من حديث بَرْوَع بنت واشق، وقد تقدم، ولو لم ترد به السنة لكان هو محض القياس، لأن الموت أجري مجرى الدخول في تقرير المسمى، ووجوب العدة.
والمسألة الثانية: هل يثبت تحريم الربيبة بموت الأم كما يثبت بالدخول بها؟ وفيه قولان للصحابة، وهما روايتان عن أحمد.
والمقصود أن العدة فيه ليست للعلم ببراءة الرحم، فإنها تجب قبل الدخول بخلاف عدة الطلاق).
?
عدة الوفاة تختص بأمرين عن عدة الطلاق
هما:
1. يجب على المتوفى عنها زوجها أن تعتد في المنزل الذي مات زوجها وهي فيه، ودليل ذلك من السنة: "امكثي في بيتك"، قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للفريعة بنت مالك عندما مات زوجها، وفي لفظ: "اعتدي في البيت الذي جاء فيه نعي زوجك"، ولا يجوز لها أن تخرج منه إلا لضرورة قاهرة.
2. وجوب الإحداد عليها.
وسنفصل في ذلك عند الحديث عن حكم الإحداد في العدة.
?
رابعاً: عدة المفقود زوجها
غياب الزوج على حالين:
الأولى: أن يكون معلوم الحياة، متصل الأخبار، معروف البلد والعنوان، مستمر في النفقة على زوجه، فهذا لا مجال لزوجته أن تطالب بفراقه إلا إذا تضررت من ذلك، وامتنع زوجها من الحضور أوأخذها معه، ورفعت أمرها إلى القاضي، كحال كثير من الأزواج الذين سافروا خارج البلاد واستمرأوا الجلوس هناك، فمنهم من يصل غيابه إلى عشرين سنة أويزيد أوينقص عن ذلك، بجانب أن هؤلاء أجرموا في حق زوجاتهم وأولادهم وعرضوهن للفتن، وعرضوا أنفسهم كذلك للفتن، فمن حق المرأة في هذه الحال أن ترفع أمرها إلى القاضي مخيرة له بين الحضور مباشرة أوالطلاق، وللقاضي أن يحدد مدة لذلك، وأن يجتهد أهله وغيرهم في تحريضه على المجيء، فإن تعذر ذلك حكم القاضي بطلاقها منه، ثم تعتد عدة الطلاق المعلومة، ولها أن تتزوج بعد ذلك إن شاءت.
الثانية: أن يكون مجهول المكان، مجهول الحياة، قاطعاً للأخبار والاتصال والنفقة، فحكمه حكم المفقود، ولزوجه الحق إذا أرادت الانفصال عنه والزواج من غيره، ولأهل العلم في ذلك ثلاثة أقوال، هي:
1. تجلس أربع سنين، ثم يطلقها وليه أوالقاضي، ثم تعتد عدة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشراً، ولها بعد ذلك أن تتزوج بمن تشاء، وإذا جاء زوجها الأول وقد تزوجت من ثانٍ خيِّر زوجها الأول بين أن ترد إليه وبين الصداق، مع تفصيل في ذلك لأهل العلم، وهذا أرجح الأقوال وأقيسها، وبهذا قضى الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون.
2. تجلس حتى يموت أقرانه وأنداده، ثم تطلق بعد ذلك وتعتد عدة الوفاة، ولها بعد ذلك أن تتزوج.
3. تجلس إلى أن يحضر أوتأتيها منيتها.(3/45)
والقولان مضران بالمرأة أيما إضرار، وحارمان لها من الزواج، وقد نهى الشارع عن الضرر والإضرار، فقال: "لا ضرر ولا ضرار"، ولهذا فقد أوجب أهل العلم إزالة الضرر عن المتضرر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الصواب في امرأة المفقود مذهب عمر وغيره من الصحابة، وهي أنها تتربص أربع سنين، ثم تعتد للوفاة، ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك، وهي زوجة الثاني ظاهراً وباطناً، ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها، خيِّر بين امرأته وبين مهرها، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده، وهو ظاهر مذهب أحمد.
إلى أن قال: والتخيير فيه بين المرأة والمهر هو أعدل الأقوال).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (ومما ظن أنه خلاف، ما حكم به الخلفاء الراشدون في امرأة المفقود، فإنه قد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أجَّل امرأته – أي المفقود – أربع سنين، وأمرها أن تتزوج – أي بعد عدة الوفاة – فقدم المفقود بعد ذلك فخيَّره عمر بين امرأته وبين مهرها، فذهب الإمام أحمد إلى ذلك، وقال: ما أدري من ذهب إلى غير ذلك إلى أي شيء يذهب؛ وقال أبو داود في مسائله: سمعت أحمد – وقيل له: في نفسك من المفقود؟ فقال: ما في نفسي منه شيء، هؤلاء خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروها أن تتربص؛ قال أحمد: من ضيق علم الرجال أن لا يتكلم في امرأة المفقود.
وقد قال بعض المتأخرين من أصحاب أحمد: إن مذهب عمر في المفقود يخالف القياس، والقياس أنها زوجة القادم بكل حال.
وطائفة ثالثة أخذت ببعض قول عمر وتركوا بعضه، فقالوا: إذا تزوجت ودخل بها الثاني فهي زوجته، ولا ترد إلى الأول، وإن لم يدخل بها ردت إلى الأول).
وقال الماوردي رحمه الله وهو يتحدث عن امرأة المفقود وعدتها: (فأما زوجته إذا بعد عهده، وخفي خبره، ففيها قولان:
أحدهما: أنها تتربص أربع سنين بحكم حاكم ثم بحكم موته في حقها خاصة، ثم تعتد عدة الوفاة، أربعة أشهر وعشراً، فإذا انقضت فقد حلت للأزواج، وهو قوله – أي الشافعي – في القديم، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم؛ ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، إلا أن مالكاً فرَّق بين خروجه ليلاً ونهاراً، فجعله مفقوداً إذا خرج ليلاً دون النهار.
ووجه هذا القول قول الله تعالى: "ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا"، وفي حبسها عليه في هذه الحال إضرار وعدوان.
وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقالت: إن زوجي خرج إلى مسجد أهله وفقد؛ فأمرها عمر أن تتربص أربع سنين، فتربصت، ثم عادت، فقال لها: اعتدي أربعة أشهر وعشراً؛ ففعلت ثم عادت، فقالت: قد حللت للأزواج؛ فتزوجت، فعاد زوجها فأتى عمر، فقال: زوجتَ امرأتي؟! فقال: وما ذاك؟ فقال: غبتُ أربع سنين فزوجتها؛ فقال: يغيب أحدُكم أربع سنين في غير غزاة ولا تجارة، ثم يأتيني فيقول: زوجتَ امرأتي؟! فقال: خرجتُ إلى مسجد أهلي فاستلبني الجن، فمكثت معهم فغزاهم جن من المسلمين، فوجدوني معهم في الأسر، فقالوا: ما دينك؟ قلت: الإسلام؛ فخيروني بين أن أكون معهم وبين الرجوع إلى أهلي، فاخترت الرجوع إلى أهلي، فسلموني إلى قوم، فكنت أسمع بالليل كلام الرجال وأرى بالنهار مثل الغبار، فأسير في أثره حتى هبطت عندكم؛ فخيَّره عمر بين أن يأخذ زوجته وبين أن يأخذ مهرها.
وروى عاصم الأحول عن عثمان قال: أتت امرأة عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: استهوت الجن زوجها؛ فأمرها أن تتربص أربع سنين، ثم أمر ولي الذي استهوته الجن أن يطلقها، ثم أمرها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً، وهذه قضية انتشرت في الصحابة، وحُكم بها عن رأي الجماعة، فكانت حجة، ولأن الفسخ لما استحق بالعُنَّة، وهو فقد الاستمتاع مع القدرة على النفقة، واستحق بالإعسار وهو فقد النفقة مع القدرة على الاستمتاع، فلأن تستحق بغيبة المفقود، وهو جامع بين فقد الاستمتاع وفقد النفقة أولى.
والقول الثاني: أنها باقية على الزوجية، محبوسة على قدوم الزوج، وإن طالت غيبته ما لم يأتها يقين موته، وهو قوله – أي الشافعي – في الجديد، وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب، ومن الفقهاء أبوحنيفة والعراقيون، ووجهه ما رواه سوار بن مصعب عن محمد بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها الخبر"، ذكره الدارقطني في سننه.
وروى ابن عباس مثل ذلك، وهو نص إن ثبت).
ولم يثبت.
?
خامساً: عدة كل فرقة في الحياة
عدة كل فرقة بين زوجين عدة الطلاق، سواء كان سبب الفرقة:
1. خُلع.
2. أولعان.
3. أورضاع.
4. أوفسخ بعيب، أوإعسار، أوإعتاق، أواختلاف دين.
5. أوزنا.
6. أوشبهة.
هذا مذهب العامة من أهل العلم، إلا بعض الخلاف في بعضها.(3/46)
قال ابن قدامة رحمه الله: (وكل فرقة بين زوجين، فعدتها عدة الطلاق، سواء كانت بخُلع، أولعان، أورضاع، أوفسخ بعيب، أوإعسار، أوإعتاق، اواختلاف دين، أوغيره، في قول أكثر أهل العلم، وروي عن ابن عباس أن عدة المُلاعنة تسعة أشهر، وأبى ذلك سائر أهل العلم، وقالوا: عدتها عدة الطلاق، لأنها مفارقة في الحياة، فأشبهت المطلقة، وأكثر أهل العلم يقولون: عدة المختلعة عدة المطلقة، منهم سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، وعروة، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والشعبي، والنخعي، والزهري، وقتادة، وخِلاس بن عمرو، وأبوعياض، ومالك، والليث، والأوزاعي، والشافعي.
وروي عن عثمان بن عفان، وابن عمر، وابن عباس، وأبان بن عثمان، وإسحاق، وابن المنذر: أن عدة المختلعة حيضة، ورواه ابن القاسم عن أحمد، لما روى ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة، رواه النسائي، وعن رُبَيِّع بنت مُعَوِّذ مثل ذلك، وأن عثمان قضى به، رواه النسائي وابن ماجة.
ولنا قول الله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء"، ولأنها فرقة بعد الدخول في الحياة، فكانت ثلاثة قروء كغير الخلع.
إلى أن قال:
والموطوءة بشبهة تعتد عدة المطلقة، وكذلك الموطوءة في نكاح فاسد، وبهذا قال الشافعي.
والمزني بها، كالموطوءة بشبهة في العدة، وبهذا قال الحسن والنخعي، وعن أحمد رواية أخرى، أنها تستبرأ بحيضة، ذكرها ابن أبي موسى، وهذا قول مالك، وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: لا عدة عليها، وهو قول الثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، لأن العدة لحفظ النسب).
?
سادساً: عدة الذمية
تعتد الذمية إذا طلقت أومات عنها زوجها، وعدتها كعدة المسلمة في أرجح قولي العلماء، وقال مالك: تعتد من الوفاة بحيضة.
?
تداخل العدد
في بعض الأحيان قد تتداخل العدد، فقبل أن تنقضي عدة المطلقة الرجعية قد يموت الزوج، فإن بقي على عدتها يوم أوساعة استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، وورثت، وكذلك ترث لو ماتت المعتدة قبل انقضاء عدتها ولو بساعة.
أما البائن بينونة كبرى إذا مات من طلقها ولم تنقض عدتها، أتمت عدتها ولا عدة وفاة عليها.
قال ابن قدامة: (وإذا مات زوج الرجعية، استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً بلا خلاف؛ وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك، وذلك أن الرجعية زوجة، يلحقها طلاقه، وينالها ميراثه، فاعتدت للوفاة، كغير المطلقة، وإن مات مطلق البائن في عدتها، بنت على عدة الطلاق، إلا أن يطلقها في مرض موته فإنها تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أوثلاثة قروء، نص على هذا أحمد، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن؛ وقال مالك، والشافعي، وأبوعبيد، وأبوثور، وابن المنذر: تبني على عدة الطلاق، لأنه مات وليست زوجة له، لأنها بائن من النكاح، فلا تكون منكوحة؛ ولنا أنها وارثة له، فيجب عليها عدة الوفاة، كالرجعية، وتلزمها عدة الطلاق لما ذكروه في دليلهم، وإن مات المريض المطلق بعد انقضاء عدتها بالحيض، أوبالشهور، أوبوضع الحمل، أوكان طلاقه قبل الدخول، فليس عليها عدة لموته، وقال القاضي: عليهن عدة الوفاة، إذا قلنا يرثنه).
وقال القرطبي: (أجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها، ثم توفى قبل انقضاء العدة أن عليها عدة الوفاة وترثه، واختلفوا في عدة المطلقة ثلاثاً في المرض، فقالت طائفة: تعتد عدة الطلاق، هذا قول مالك، والشافعي، ويعقوب، وأبي عبيد، وأبي ثور، قال ابن المنذر: وبه نقول، لأن الله تعالى جعل عدة المطلقات الأقراء، وقد أجمعوا على أن المطلقة ثلاثاً لو ماتت لم يرثها المطلق، وذلك لأنها غير زوجة، فإذا كانت غير زوجة فهو غير زوج؛ قال الثوري: تعتد بأقصى العدتين، وقال النعمان ومحمد: عليها أربعة أشهر وعشراً، تستكمل في ذلك حيض).
?
متى تبدأ عدة الطلاق والوفاة؟
في بعض الأحيان قد لا تعلم المطلقة بطلاقها، ولا المتوفى عنها زوجها بموته إلا بعد حين، فمتى تبدأ العدة، من ساعة الطلاق والوفاة، أم من ساعة العلم بذلك ولو إلى حين؟ قولان للعلماء:
1. تبدأ من ساعة الطلاق والوفاة
2. تبدأ من ساعة العلم بذلك.(3/47)
قال القرطبي: (واختلفوا في المرأة يبلغها وفاة زوجها أوطلاقه، فقالت طائفة: العدة في الطلاق والوفاة من يوم يموت أويطلق، هذا قول ابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وبه قال مسروق، وعطاء، وجماعةمن التابعين، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، والثوري، وأبوثور، وأصحاب الرأي، وابن المنذر، وفيه قول ثانٍ، وهو أن عدتها من يوم يبلغها الخبر، وروي هذا الخبر عن علي، وبه قال الحسن البصري، وقتادة، وعطاء الخرساني، وجُلاس بن عمرو، وقال سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز: إن قامت بينة فعدتها من يوم مات أوطلق، وإن لم تكن بينة فمن يوم يأتيها الخبر، والصحيح الأول، لأن الله تعالى علق العدة بالوفاة أوالطلاق، ولأنها لو علمت بموته فتركت الإحداد انقضت العدة، فإذا تركته مع عدم العلم فهو أهون).
?
النفقة والسكنى للمعتدة من طلاق أووفاة
الحديث عن النفقة والسكنى للمعتدة من طلاق أووفاة أوفسخ، فيه تفصيل بالنسبة للرجعية، والبائن، والمتوفى عنها زوجها من ناحية، وبين الحامل وغير الحامل من ناحية أخرى، وإليك تفصيل ذلك:
أولاً: المطلقة رجعياً
هذه حكمها حكم الزوجة غير المطلقة في كل شيء، في السكنى، والنفقة، وغير ذلك، ولهذا لا يجوز لها أن تخرج من بيت زوجها إلا بعد انقضاء العدة، وما تفعله كثير من النساء سيما عندنا في السودان من الخروج مباشرة بعد طلاقها، وذهابها إلى بيت والديها أوأهلها ليس من السنة ولا من الدين، ولا يعين على الرجعة والوئام، وإنما يؤدي إلى توسيع دائرة الخصومة والنزاع، ويقلل من فرص الرجعة، فلا يحل للرجعية أن تخرج من بيت طليقها إلا بإذنه.
فعلى النساء أن يتقين الله في أنفسهن، ولا تأخذهن العزة بالإثم، ويتصرفن بردود الأفعال.
فالمطلقة الرجعية نفقتها، وكسوتها، وسكناها واجبة على مطلقها، لا يحق له أن ينقص مما كان ينفقه عليه قبل الطلاق شيئاً.
?
ثانياً: البائن بينونة كبرى
البائن بينونة كبرى إما أن تكون ذات حمل فلها النفقة والسكنى حتى ولو كان حملها من وطء شبهة أونكاح فاسد، من أجل حملها، لقوله عز وجل: "وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن".
وإما أن تكون غير حامل، فهذه لا نفقة لها ولا سكنى، ومن أهل العلم من قال لها النفقة دون السكنى، وهم المالكية والشافعية، ومنهم من قال لها السكنى والنفقة وهم الأحناف، والقول الأول هو الراجح، وهو ما ذهب إليه أحمد وإسحاق.
?
ثالثاً: المتوفى عنها زوجها
لا نفقة ولا سكنى لها ولو كانت حاملاً من مال زوجها، إلا إذا تبرع الوارث، أوأنفق عليها من ميراثها أوميراث ما في بطنها.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: "أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم": (قال أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل، لقوله تعالى: "أسكنوهن"، فلو كان معها ما قال: "أسكنوهن"، وقال ابن نافع: قال مالك في قول الله تعالى: "أسكنوهن من حيث سكنتم"، يعني المطلقات اللائي بِنَّ من أزواجهن، فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملاً، فلها السكنى، ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه، لا يتوارثان، ولا رجعة له عليها، وإن كانت حاملاً فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها، فأما ما لم تبن منهن فإنهن نساؤهن يتوارثون، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كن في عدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لأن ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن، حوامل كن أوغير حوامل، وإنما أمر الله بالسكنى للائي بنَّ عن أزواجهن مع نفقتهن.
إلى أن قال:(3/48)
اختلف العلماء في المطلقة ثلاثاً على ثلاثة أقوال، فمذهب مالك والشافعي: أن لها السكنى ولا نفقة لها، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة، ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: أن لا نفقة لها ولا سكنى، على حديث فاطمة بنت قيس، قالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي، فقلت: إن زوجي طلقني، وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة؟ قال: "بل لك السكنى ولك النفقة"؛ قال: زوجها طلقها ثلاثاً؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة"، فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك، وإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة؛ خرجه الدارقطني، ولفظ مسلم عنها: "أنه طلقها زوجها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أنفق عليها نفقة دون، فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لي نفقة أخذتُ الذي يصلحني، وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئاً؛ قالت: فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا نفقة لك ولا سكنى"، وذكر الدارقطني عن الأسود قال: قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس: لا نجيز في المسلمين قول امرأة، وكان يجعل للمطلقة ثلاثاً السكنى والنفقة، وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد، فقال: يا شعبي، اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة، قلت: لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قلت: ما أحسن هذا).
وقال صاحب نيل المآرب الحنبلي في كتاب النفقات: (وكذا رجعية في عدتها: فنفقتها، وكسوتها، وسكناها كزوجة، فأما البائن بفسخ أوطلاق بلا حمل فلا نفقة لها، فإن كانت البائن حاملاً وجبت نفقتها للحمل نفسه لا لها من أجله، فتجب بوجود الحمل ولو من وطء شبهة، أونكاح فاسد، للحوق نسبه فيهما، وتسقط بعدمه، فمن أنفق يظنها حاملاً، فبانت حائلاً رجع، ومن ترك الإنفاق يظنها حائلاً، فبانت حاملاً لزمه ما مضى، ولو قلنا: إن النفقة للحمل، وإنها تسقط بمضي الزمان، وأي مبانة ادعت حملاً وجب الإنفاق ثلاثة أشهر، فإن مضت ولم يبن رجع، وبناء على أن النفقة للحمل فتجب لناشز حامل.
إلى أن قال:
ولا نفقة ولا سكنى لمتوفى عنها – ولو حاملاً – من تركة، لانتقالها عن الزوج إلى الورثة، ولكن نفقة الحامل من حصة الحمل من التركة إن كانت، وإلا فعلى وارثه الموسر).
وقال القرطبي: (إذا كان الزوج يملك رقبة المسكن فإن للزوجة العدة فيه، وعليه أكثر الفقهاء: مالك، وأبوحنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم لحديث الفريعة، وهل يجوز بيع الدار إذا كانت ملكاً للمتوفى، وأراد ذلك الورثة؟
فالذي عليه جمهور أصحابنا أن ذلك جائز، ويشترط فيه العدة للمرأة، قال ابن القاسم: لأنها أحق بالسكنى من الغرماء، وقال محمد بن الحكم: البيع فاسد، لأنها قد ترتاب فتمتد عدتها).
?
الخطبة للمعتدة من طلاق أووفاة
يحرم التصريح بخطبة المعتدة من طلاق أووفاة، ويجوز التعريض للبائن والمتوفى عنها زوجها، لقوله تعالى: "ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أوأكننتم في أنفسكم. ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله".
أما الرجعية فلا يجوز التعريض بخطبتها أصلاً، لأنها زوجة حكماً.
ومن تزوجت في عدتها فنكاحها فاسد، وإن كانا عالمين بالتحريم فعليهما الحد، وإن لم يكونا عالمين بالتحريم فيؤدبان ويعزران، وعليها أن تتم عدتها الأولى، ثم تعتد عدة كاملة من نكاحها الفاسد، والله أعلم.
?
الإحداد على المعتدات أكثر من ثلاثة أيام
أجمع أهل العلم إلا من شذ – الحسن، والشعبي، والحكم بن عتيبة – أن الإحداد يجب على المتوفى عنها زوجها، وأجمعوا أنه لا إحداد على المطلقة الرجعية، واختلفوا في حكم الإحداد على:
1. البائنة.
2. والمختلعة.
3. والملاعنة.
على قولين، أرجحهما عدم وجوبه.
قال الماوردي: (فأما المحتدات فثلاث: معتدة يجب الإحداد عليها، فأما المعتدة التي يجب الإحداد عليها فالمتوفى عنها زوجها، وبوجوب الإحداد عليها قال جميع الفقهاء إلا ما حُكي عن الحسن البصري، والشعبي أن الإحداد غير واجب عليه.
وأما التي لا إحداد عليها فهي الرجعية، لا يجب الإحداد عليها لأنها زوجة، تجري عليها أحكام الزوجات، وفي استحباب الإحداد لها وجهان.
وأما المختلف في وجوب الإحداد عليها فهي المبتوتة، والمختلعة، والملاعنة، فالإحداد مستحب لهن وفي وجوبه قولان.
?
الإحداد
الاحداد لغة: الامتناع.
وشرعاً: ألاَّ تقرب المعتدة من الوفاة شيئاً من الزينة لا في بدنها ولا في ثوبها ولا تلبس حلياً.
وينقسم الإحداد إلى قسمين:
1. الاحداد على غير الزوج.
2. الاحداد على الزوج.
?
أولاً: الاحداد على غير الزوج
حكمه
جائز ورخصة لمن شاءت أن تفعله فعلته، ومن لم ترد فلا شيء عليها.
مدته
ثلاثة أيام فقط.
الدليل على ذلك(3/49)
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة أن تحد على أحد كائن من كان فوق ثلاثة أيام إلآَّ على زوج أربعة أشهر وعشراً، وقد تواترت بذلك الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن سيرين رضي الله عنه قال توفي ابن لأم عطية، فلما كان اليوم الثالث دعت بطيب فيه صفرة فتمسحت به، وقالت: نهينا أن نحد أكثر من ثلاثة أيام إلاَّ على زوج؛ وعن زينب بنت أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما جاء نعي أبي سفيان من الشام، دعت ام حبيبة رضي الله عنها بطيب فيه صفرة في اليوم الثالث فمسحت عارضيها وذراعيها، وقالت: إني عن هذا غنية، لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أنْ تحد على ميت فوق ثلاثة إلاَّ على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً؛ ثم دخلت على زينب بنت جحش رضي الله عنها حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمست منه، ثم قالت: مالي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: " لا يحل لإمرأة.." الحديث.
من هذه الأحاديث وغيرها يتضح أنه لا يحل ولا يجوز لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تحد على أي ميت، أباً كان، أوأخاً، أوأماً، أكثر من ثلاث، إلآَّ على زوج، فإن فعلت فقد عصت الله وارتكبت حراماً.
?
ثانياً: الاحداد على الزوج
حكمه
الوجوب، فقد أوجب الإسلام على الزوجة أن تحد على زوجها، وأجمع العلماء على ذلك ولم يخالف في ذلك إلآَّ الحسن البصري، والحكم بن عتيبة كما سنبينه إن شاء الله.
المدة
مدة احداد الزوجة على زوجها المتوفي هي مدة العدة التي حددها الشرع، وهي أربعة أشهر وعشراً، هذا لغير الحامل، والأمة.
دليل وجوب الاحداد على الزوج
والأدلة هي نفس الأحاديث السابقة التي وردت عند الحديث عن الاحداد على غير الزوج مثل حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلآَّ على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً"، وكذلك ما روته زينب بنت جحش، وأم عطية، وكلها في صحيح البخاري.
علة الاحداد على الزوج أربعة أشهر وعشراً
لقد منع الإسلام المرأة أن تحد على أحد كائناً من كان أكثر من ثلاثة إلاَّ على زوج أربعة أشهر وعشراً وذلك وفاء لعقد الزوجية؛ لأنه من أشرف العقود، وبراءة للرحم.
قال ابن القيم في زاد المعاد قال شيخنا - يعني ابن تيمية: "والصواب أن يقال أنَّ عدة الوفاة هي حرم لانقضاء النكاح ورعاية لحق الزوجية".
وهذا أكبر دليل على ما للرجال من حقوق نحو نسائهم كما قال صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمراً أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن".
من يرى عدم وجوب الاحداد على الزوج، وحجتهم وردها
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: (وأجمعت الأمة على وجوب الاحداد على المتوفي عنها زوجها إلآَّ ما روي عن الحسن البصري، والحكم بن عتيبة.
أما الحسن فروى حماد بن سلمة عن حميد عنه: أن المطلقة ثلاثاً والمتوفي عنها زوجها: تنكحان، وتمشطان، وتختضبان، وتنتقلان، وتصنعان ما تشاءان.
وأما الحكم فذكر عن شعبة: أن المتوفي عنها زوجها لا تحد، وحجتهم كما ذكر ابن القيم حديث منقطع يروى عن الحكم ابن عتيبة عن عبد الله بن شداد ابن الهاد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة جعفر بن أبي طالب: "إذا كان ثلاثة أيام فالبسي ما شئت"، وعن الحجاج بن أرطأة عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن شداد ابن الهاد: "أن أسماء بنت عميس استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تبكي على جعفر وهي امرأته - فأذن لها ثلاثة أيام، ثم بعث لها بعد ثلاثة أيام أن تطهري واكتحلي"، قالوا وهذا ناسخ لأحاديث الاحداد لأنه بعدها، فان أم سلمة روت الإحداد إذ أنه صلى الله عليه وسلم أمرها به أثر موت أبي سلمة، ولا خلاف أن موت أبي سلمة كان قبل موت جعفر، والجواب على ذلك أن هذا الحديث منقطع، فان عبد الله بن شداد ابن الهاد لم يسمع رسول الله صلى الله عيه وسلم ولا رآه، فكيف يقوم حديثه على الأحاديث الصحيحة المسندة التي لا مطعن فيها وفي الحديث الثاني الحجاج بن ارطأة ولا يعارض بحديثه أحاديث الأئمة الاثبات الذين هم فرسان الحديث).
الاحداد واجب على كل الزوجات
الاحداد تستوي فيه جميع الزوجات المسلمة، والكافرة، الحرة، والأمة، والصغيرة، والكبيرة؛ هذا هو رأي الجمهور كالشافعي ومالك في المشهور عنه، كما هو مذكور في رسالة ابن أبي يزيد.
قال ابن القيم رحمه الله: (إلآَّ أن أشهب، وابن نافع قالا: لا إحداد على الذمية؛ ورواه أشهب عن مالك، وهو قول أبي حنيفة، ولا إحداد عند أبي حنيفة على الصغيرة.
وحجتهم في عدم وجوب الاحداد على الكافرة أن الاحداد جاء مرتبطاً بالإيمان بالله واليوم الآخر، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد.." الحديث فلا تدخل فيه الكافرة.(3/50)
ورد ابن القيم رحمه الله على ذلك بقوله: هذا مثل قوله تعالى في لباس الذهب: لا ينبغي هذا للمتقين؛ فلا يدل على أنه ينبغي لغيرهم، وكذلك قوله: "لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعاناً"، فلا يدل على أنه ينبغي لغيرهم أن يكونوا كذلك.
و سبب هذا الخلاف في وجوب إحداد الذمية وعدمه راجع إلى اختلافهم: هل الإحداد هو حق للزوج أم حق لله؟ فالذين يرون أنه حق للزوج يوجبونه، والذين يرون أنه حق لله لا يوجبونه، ويقولون إنها مطالبة أولاً بالإيمان ثم بعد ذلك تؤمر وتنهى).
والصواب والله أعلم أن الاحداد حق للزوج، وإكراماً لعقد الزوجية، وتبرأة للرحم، فالذمية إذن مطالبة به، وينبغي أن تجبر على ذلك، والله أعلم.
?
ما تمنع منه المحتدة
تمنع المحتدة على زوجها من الآتي:
1. الطيب.
2. الزينة: في البدن، الثوب، والحلي.
1. الطيب
تمنع المحتدة على زوجها في عدتها عن كل أنواع الطيب، كالمسك، والعنبر، والكافور، والند، والبخور، وماء الورد، والزهر، والياسمين، وعن كل أنواع الروائح الزيتية والغير زيتية.
وكذلك تمنع عن صابون الحمام ذي الرائحة، وكل أنواع الدهانات والكريمات ونحوها، ولا تمنع من استعمال الزيت، والسمن، وما ليس فيه رائحة.
2. الزينة
كما تمنع أيضاًعن الزينة، والزينة تكون في البدن والثوب والحلي.
أ. في البدن
يحرم على المحتدة على زوجها الخضاب بالحناء أوأن تحمر وجهها، وشفتيها، وغيرهما، وكذلك يحرم عليها النقش والكحل، ومنعها بعض الفقهاء من الكحل حتى ولو اضطرت إليه، كما أثر عن ابن حزم.
نقل الإمام ابن القيم رحمه الله عن ابن حزم قوله: (لا تكتحل ولو ذهبت عيناها لا ليلاً ولا نهاراً.
وحجة ابن حزم رحمه الله ما جاء في الصحيحين عن زينب بنت أم سلمة قالت: سمعت أمي أم سلمة تقول: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عيناها أفأكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا"، مرة، أومرتين، أوثلاثاً، كل ذلك يقول: "لا"، ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشراً، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي البعرة على رأس الحول"، فقالت زينب: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً، ولا شيئاً حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة - حماراً، أوشاة، أو طيرا - فتقتض به، فقلما تقتض بشيءٍ إلآَّ مات، ثم تخرج فتعطى بعرة، فترمى بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره"، قال مالك: تقتض: تدلك به جلدها.
وكذلك احتج المانعون للكحل وغيره من أنواع الطيب بما روته أم عطية الأنصارية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحد المرأة على ميت فوق ثلاثة أيام، إلآَّ على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوبا مصبوغاً إلآَّ ثوب عصب، ولا تكتحل، ولاتمس طيباً إلآَّ إذا طهرت نبذة من قسط أوأظفار".
وكذلك ذكر مالك رحمه الله حديثاً يؤيد ما ذهب إليه ابن حزم عن صفية بنت عبيد - زوج عبدالله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما: " انها اشتكت عينها وهي حاد على زوجها عبد الله، فلم تكتحل حتي كادت عيناها ترمضان".
وقال الجمهور كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة وغيرهم يجوز للمحتدة الاكتحال ليلاً ثم تمسحه نهاراً إذا اضطرت إليه - أي الاكتحال بِكُحْلِ الإثمد تداوياً لا زينة، وحجتهم في ذلك فتوى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم التي رواها أبو داود عن أم حكيم بنت اسيد عن أمها: "أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينها، فتكتحل بالجلاء، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة، فسألتها عن كحل الجلاء؟ فقالت: لا تكتحلي به إلآَّ من أمر لابد منه يشتد عليك، فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار".
قالت عند ذلك أم سلمة رضي الله عنها: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوسلمة، وقد جعلت عليَّ صِبْراً، فقال ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: إنما هو صِبْر يا رسول الله ليس فيه طيب؛ فقال: إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلآَّ ليلاً وتنزعيه بالنهار، ولا تمتشظي بالطيب، ولا الحناء فإنه خضاب؛ قالت، قلت: وبأي شيءٍ امتشط يا رسول الله؟ قال: بالسدر تغلفين به رأسك.
والصواب ما ذهب إليه الجمهور من جواز الاكتحال وما في معناه للمحتدة إن اضطرت لذلك، وأرادت به التداوي ولم ترد به الزينة، فإن الضرورات تبيح المحظورات، فقد أبيح للمضطر أكل الميتة، فإذا اضطرالمرء لأكلها ولم يأكلها حتى مات دخل النار، وأباح الرسول صلى الله عليه وسلم لبس الحرير للزبير ابن العوام لحكة ألمَّت به، وهو كما نعلم حرام على ذكور هذه الأمة، فما بالك باستعمال الكحل لعلاج العينين، وهما حبيبتا كل إنسان، وإذا فقدهما فقد نعمة من أكبر النعم؟
ب. زينة الثياب(3/51)
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المحتدة عن لبس الثياب التي فيها زينة، مثل المعصفر، والممشق، ونحوها، فعن أم سلمة مرفوعاً: "المتوفى عنها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشق ولا الحلي، ولا تختضب ولا تكتحل"، والمعصفر يعم المعصفر، والمزعفر، والمصبوغ بالحمرة، والصفرة، والأخضر، والأزرق.
نقل ابن القيم رحمه الله عن الإمام الشافعي قال: (في الثياب زينتان:
1. جمال الثياب على اللابسين.
2. وستر العورة.
فالثياب زينة لمن يلبسها، وإنما نهيت المحتدة عن زينة بدنها ولم تنه عن ستر عورتها، فلا بأس أن تلبس كل ثوب من البياض، لأن البياض ليس مزيناً، وكذلك الصوف والوبر، وكل ما ينسج على وجهه، ولم يدخل عليه صبغ من خز وغيره، وكذلك كل صبغ لم يرد به التزيين، بل السواد وما صبغ ليقبح أوليلقى الوسخ عنه، فأما ما كان من زينة أوشيء في ثوب وغيره فلا تلبسه المحتدة، وذلك لكل حرة أوأمة، كبيرة أوصغيرة، مسلمة أوذمية").
ج. الحلي
يحرم على المحتدة لبس الحلي كلها حتى الخاتم.
?
ما يباح للمحتدة
1. لا تمنع المحتدة من تقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق الشعر المندوب حلقه، ولا من الاغتسال والاستحمام بصابون ليس فيه رائحة، ولا الامتشاط لأنه يراد للتنظيف وليس الزينة، وما في معناها.
2. كذلك يجوز للمحتدة الخروج في قضاء حوائجها نهاراً، لما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: طلقت خالتي ثلاثاً، فخرجت تجذ نخلها، فلقيها رجل فنهاها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "اخرجي فجذي نخلك لعلك أن تتصدقي أوتفعلي خيراً".
3. إذا كانت المرأة عاملة أوموظفة في الأعمال النسائية أووسط النساء، مثل تعليم بنات جنسها أوفي التطبيب والتمريض لهن، من حقها أن تمنح إجازة، فإن لم تمنح عطلة لذلك لأي سبب، ولم يمكنها أخذ عطلة بغير مرتب، ولم يتعارض ذلك مع عرف أهل بلدها، فإن تعارض فلا، قياساً على السماح لها أن تعمل في جذاذ نخلها ونحوه إن كانت تسكن في ساقيتها أومزرعتها، وإن كان هناك فرق بين هذا وبين خروجها للمكتب أوالمدرسة ونحوها، فلا مانع من خروجها لمثل هذه الأعمال بالنهار في فترة العدة، شريطة أن تكون مستورة وألا تختلط بالرجال الأجانب.
والاختلاط بالأجانب لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، سواء كانت معتدة أوغير معتدة، فقد حرم الإسلام اختلاط النساء بالرجال، وحرم جميع الوسائل التي تؤدي إليه، وسد كل الذرائع التي توصل إليه، قال تعالى آمراً نساء النبي، أمهات المؤمنين، قدوة المؤمنات الصالحات: "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً"، وأمر جميع المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، فقال عز من قائل: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن"، وأمر جميع النساء بالحجاب، فقال: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً".
وسداً لذريعة الاختلاط كذلك فقد جعل الإسلام القوامة في الرجال، ومنع المرأة منعاً باتاً من تولي الولاية العامة كرئاسة الدولة أوأن تكون قاضية، وكل ما فيه مسؤوليات عامة، قال صلى الله عليه وسلم عندما سمع أن العجم في بلاد فارس ولوا أمرهم بنت كسرى: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، ولا يصنع هذا الصنيع إلا من لا خلاق لهم، كما فعل الهنادكة "الهندوس" والإنجليز اليوم، ومن تشبه بهم من المسلمين، أعاذنا الله من التشبه بالكفار، الموجب لغضب الجبار، والمؤدي إلى الخلود في دار البوار.
ملحوظة
تتقيد المحتدة في بضع البلاد الإسلامية بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ولا أثرت عن عَالِم من علماء الإسلام، مثل عدم خروجها من حجرتها عند طلوع الشمس وعند الغروب، وأن تتجه إلى عكس القبلة في هذين الوقتين، وأن لا تنام على سرير، وتمتنع عن أكل أطايب الطعام، وعن تقليم الأظافر، وتسريح الشعر، والاغتسال، ونحو ذلك.
وهذه وغيرها من الأمور المخالفة للسنة وهي من مخلفات الجاهلية الأولى وينبغي الكف عنها.
?
أين تعتد المتوفى عنها زوجها؟
وهناك أمر هام متعلق بالعدة، وهو أين تعتد؟ هل تعتد في بيت زوجها الذي توفي عنها وهي فيه؟ أم أن لها أن تنتقل إلى غيره؟
جمهور العلماء يوجبون عليها أن تعتد في بيتها الذي توفي عنها زوجها وهي فيه، وهناك من يجوِّز لها الانتقال منه لغيره.
?
أدلة الذين يوجبون عليها الاعتداد في بيت زوجها(3/52)
كما ذكرت فإن جمهور العلماء على أن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها الذي توفي عنها زوجها وهي فيه، وحجتهم في ذلك ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زينب بنت كعب بن عجرة عن الفريعة بنت مالك، أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما: "أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطريق القدوم لحقهم فقتلوه، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإنه لم يتركني في مسكن يملكه، ولا نفقة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم؛ فخرجتُ، حتى إذا كنتُ في الحجرة أوفي المسجد دعاني – أوأمر بي- فدُعيت فقال: كيف؟ قالت: فرددتُ عليه القصة التي ذكرتُ من شأن زوجي، قالت: فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله؛ قالت: فاعتددتُ فيه أربعة أشهر وعشراً؛ قالت: فلما كان عثمان رضي الله عنه أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته، فقضى به واتبعه".
وذكر ابن القيم في زاد المعاد أن ابن عبد البر قال: "هذا حديث مشهور معروف عند علماء الحجاز والعراق".
وبجانب حديث الفريعة هذا هناك آثار كثيرة تؤيد ما ذهب إليه الجمهور أوردها ابن القيم في كتابه زاد المعاد، نذكر طرفاً منها:
• ...
قال وكيع حدثنا الثوري عن منصور عن مجاهد عن سعيد بن المسيب: "أن عمر بن الخطاب ردَّ نسوة من ذي الحليفة حاجات أومعتمرات توفي عنهن أزواجهن".
• ...
قال عبد الرازق عن مسيكة: "أن امرأة قد توفي عنها زوجها زارت أهلها فضربها الطلق، فأتوا عثمان فقال: احملوها إلى بيتها وهي تطلق".
• ...
روى عبد الرزاق عن ابن عمر: "أنه كانت له بنت تعتد من وفاة زوجها، وكانت تأتيهم بالنهار فتتحدث إليهم، فإذا كان الليل يأمرها أن ترجع إلى بيتها".
• ...
وروى ابن أبي شيبة عن ثوبان: "أن عمر رخص للمتوفى عنها أن تأتي أهلها بياض يومها".
• ...
وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال: "كان عمر وعثمان – رضي الله عنهما – يرجعانهن حاجات ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة".
• ...
وذكر عبد الرزاق أيضاً عن علقمة قال: "سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن نساء من همدان نعي إليهن أزواجهن؟ فقلن: إنا نستوحش؛ فقال ابن مسعود: تجتمعن بالنهار، ثم ترجع كل امرأة منكن إلى بيتها باليل".
• ...
وذكر الحجاج بن منهال قال: حدثنا أبو عوانة عن منصور عن إبراهيم: "أن امرأة بعثت إلى أم سلمة رضي الله عنها أم المؤمنين: أن أبي مريض وأنا في العدة، أفآتيه فأمرضه؟ فقالت أم سلمة: نعم، ولكن بيتي أحد طرفي الليل في بيتك".
والآثار في هذا المعنى كثيرة جداً، ونكتفي بهذا القدر، وكما قلت فإن هذا هو قول جمهور العلماء كما بينه ابن القيم في زاد المعاد: أحمد، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم، والأوزاعي، وأبي عبيدة، وإسحاق.
وقال ابن القيم: (قال ابن عبد البر: وبه تقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز، والشام، والعراق، ومصر، وحجة هؤلاء حديث الفريعة بنت مالك، وقد تلقاه عثمان بالقبول، وقضى به بحضرة المهاجرين والأنصار، وتلقاه أهل المدينة، والشام، والعراق، ومصر بالقبول).
?
من يجوَِّز لها الانتقال عن بيت زوجها الذي توفي عنها وهي فيه، وحجتهم
وروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أنه يجوز للمتوفى عنها زوجها أن تعتد أنى شاءت، واحتجوا بأمرين هما كما ذكرهما ابن القيم في زاد المعاد:
1. أن الله عز وجل أمر المتوفى عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً، ولم يأمرها بمكان معين.
2. وبما رواه أبو داود قال عطاء قال ابن عباس: "نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت"، والآية هي قوله تعالى: "فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم"، قال عطاء: إن شاءت خرجت، لقوله: "فإن خرجن فلا جناح.." الآية.
3. وكذلك روى عبد الرزاق عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "أنها كانت تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها، وخرجت بأختها أم كلثوم حين قتل طلحة بن عبيد الله في الفتنة إلى مكة المكرمة في عمرة".
والصواب والله أعلم ما ذهب إليه جمهور هذه الأمة سلفاً وخلفاً – من أنها يجب عليها أن تعتد في المنزل الذي توفي عنها زوجها وهي فيه، لا تخرج منه إلا لضرورة – وذلك لورود هذه السنة الصريحة الصحيحة – أعني حديث الفريعة – التي تلقاها أكابر الصحابة بالقبول، ولما في ذلك من الوفاء لعقد الزوجية الذي شرعت العدة من أجله، وللزوج، فاعتدادها في بيته أكبر دليل على وفائها له.
هذا كله إذا لم يكن هناك مانع من بقائها فيه، مثل منع الورثة لها من السكنى فيه، أوطلبوا منها أن تدفع لهم أجراً، أوكان البيت مؤجراً فطلب صاحبه زيادة الأجرة، ويمكنها أن تسكن مع أهلها، أوكان زوجها موظفاً يسكن في بيت حكومي، وطلب منها أن تخلي البيت، أوكان زوجها يعمل خارج بلده، وما شاكل ذلك، فلا حرج عليها أن تنتقل منه والأمر هكذا، أما بدون ضرورة فلا تخرج.
تنبيه(3/53)
لا يجوز لمعتدة من طلاق أووفاة ونحوهما أن تخرج إلى حج أوعمرة، ولو كانت حجة الإسلام وعمرته، كبيرة كانت أم صغيرة، ولو كانت بمكة أومسافرة منها إلى بلدها؛ وإن كانت معتكفة في مسجد وتوفي زوجها قطعت اعتكافها وخرجت لتعتد في بيت زوجها، وقال مالك: لا تخرج إلا بعد قضاء اعتكافها؛ والقول الأول أرجح، والله أعلم
لقد صاغ الإمام القحطاني رحمه الله أحكام عدد النساء شعراً، فقال:
لا تنكحن محدة في عدة فنكاحها وزناؤها شبهان
عِدَدُ النساء لها فرائض أربع لكن يضم جميعها أصلان
تطليق زوج داخل أو موته قبل الدخول وبعده سيان
وحدودهن على ثلاثة أقرؤٍ أوأشهر وكلاهما جسران
وكذاك عدة من توفي زوجها سبعون يوماً بعدها شهران
عدد الحوامل من طلاق أو فنا وضع الأجنة صارخاً أوفاني
وكذاك حكم السقط في إسقاطه حكم التمام كلاهما وضعان
من لم تحض أومن تقلص حيضها قد صح في كلتيهما العَدَدَان
كلتاهما تبقى ثلاثة أشهر حكماهما في النص مستويان
عِدَدُ الجوار من الطلاق بحيضة ومن الوفاة الخمس والشهران
فبطلقتين تبين عن زوج لها لا ردَّ إلا بعد زوج ثان
فكذا الحرائر فالثلاث تبينها فيحل تلك وهذه زوجان
?
المراجع
• ... أحكام الجنائز للأمين الحاج.
• ... أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم الجوزية.
• ... الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
• ... الحاوي الكبير للماوردي.
• ... زاد المعاد في هدى خير العباد لابن القيم.
• ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
• ... الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان.
• ... المغني لابن قدامة.
• ... نونية القحطاني لأبي محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني.
• ... نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب، ومعه الاختيارات الجلية للشيخ البسام
=================000000000
واغيرتاه .. واحجاباه ..واعرضاه .. واحريماه .. واقوامتاه
ما يشترط في لبس المرأة خارج بيتها
ما يشترط في حجاب المرأة ولبسها خارج بيتها سواء كانت بالغة أوتحت البلوغ أوصبية
ما يحل للمرأة لبسه خارج بيتها
ما يحرم للمرأة لبسه خارج البيت
ما يجب على ولاة الأمر
الذي يرى ما تلبسه بعض بناتنا ونسائنا اليوم وهن خارج البيوت، ومختلطات ومجتمعات بالشباب والرجال، ليلاً ونهاراً، في الحافلات، والجامعات، والأسواق، والحفلات العامة والخاصة، ونحوها لا يملك إلا أن يصيح بأعلى صوته قائلاً: واغيرتاه، واحجاباه، واعرضاه، واحريماه، واقوامتاه.
وحق له ذلك، لضياع الفضيلة وانتشار الرذيلة، وذهاب الغيرة، وغياب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن مجتمعنا رسمياً وشعبياً، وخوف نزول البلاء والنقمة والغضب بسبب ما كسبت أيدينا.
أين ولاة الأمر؟ أين أولياء الأمور؟ أين العلماء والدعاة والمصلحون؟ ألم يعلموا أنهم مسؤولون عن ذلك كله؟ أين هم من قوله عز وجل: "الرجال قوامون على النساء"، وقوله: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة"، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" الحديث، حيث عم وخص، ثم عم؟ ومن قوله: "والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أوليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم"، ومن قوله: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا".
ما يشترط في لبس المرأة خارج بيتها
لا شك أن أعظم فتنة للرجال هي النساء، وكانت فتنة بني إسرائيل في النساء كما أخبر الصادق المصدوق، ولا شك أن المرأة كلها عورة حتى الوجه والكفين، وأن حجابها الأول والأفضل هو بيتها: "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى".
فالأصل للمرأة بقاؤها في بيتها، والخروج منه رخصة تقدر بقدرها، وعليها أن لا تخرج من بيتها إلا لضرورة، وفي أضيق نطاق، وإن اضطرت للخروج فعليها أن تخرج متحجبة غير متطيبة، وأن لا تخرج إلا مع ذي محرم.
ما يشترط في حجاب المرأة ولبسها خارج بيتها سواء كانت بالغة أوتحت البلوغ أوصبية
أولاً: أن يكون واسعاً فضفاضاً لا يصف شيئاً من أعضائها، فيحرم عليها وعلى وليها أن تخرج في لباس ضيق يصف شيئاً من جسمها، نحو "الإسكيرت والبلوزة"، و"البنطلون".
ثانياً: أن يكون سميكاً لا يشف عما تحته.
ثالثاً: أن لا يكون زينة في نفسه.
رابعاً: أن لا يشبه لبس الرجال، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال في اللبس والمشية ونحوهما.
خامساً: أن لا يشبه لبس الكافرات، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالكفار، رجلاً كان أم امرأة، فقال فيما صح عنه: "ومن تشبه بقوم فهو منهم".
سادساً: أن لا يكون لباس شهرة، وهو ما شذ عما تلبسه النساء في عرف الشرع، وليس في عرف المجتمع، ولا يكون وضيعاً جداً، ولا رفيعاً جداً.(3/54)
سابعاً: أن يكون سابلاً، فقد أذن الشارع للمرأة أن تسبل مقدار شبر لتغطية قدميها.
تاسعاً: الحذر من السرف والخيلاء في اللبس.
عاشراً: أن لا يكون فيه صورة ما له نفس من إنسان أوحيوان.
أحد عشر: الحذر من الألوان الصارخة أوالتي تكون شعاراً للمبتدعة والفجار.
الثاني عشر: أن يكون الملبوس طاهراً حلالاً، فلا يحل للمرأة أن تلبس شيئاً من فراء الثعالب ونحوها.
ما يحل للمرأة لبسه خارج بيتها
يحل لها أن تلبس ما تشاء إذا توفرت فيه الشروط السابقة، نحو:
1. العباءة الفضفاضة الساترة لجميع الجسم.
2. البالطو الفضفاض السميك.
3. الثوب السوداني ما لم يكن زينة في نفسه، وكان واسعاً ودلته لأسفل قدميها، ولفت به وجهها، أي "تبلمت".
ما يحرم للمرأة لبسه خارج البيت
يحرم على المرأة أن تلبس لبساً لا تتوفر فيه الشروط السابقة، ولا يحل لها على وجه الخصوص أن تخرج من بيتها بـ:
1. إسكيرت وبلوزة ولو غطت شعر رأسها، لوصف ذلك لعورتها ولو كانا سميكين.
2. بنطلون وبلوزة أوفنيلة ونحوها لنفس العلة.
3. بثوب هو زينة في نفسه حاسرة عن عنقها وصدرها ووجهها وعن ساقيها.
ما يجب على ولاة الأمر
أولاً: من الآباء والإخوان والأزواج والأبناء ونحوهم
يجب على ولاة أمر النساء وما تمليه عليهم القوامة الشرعية ما يأتي:
1. أن لا يشتروا الملابس الضيقة الواصفة والتي فيها تشبه بلبس الرجال والكافرات، ولا يسمحوا لمن يعولون بشرائها ولبسها.
2. لا يسمحوا لزوجة ولا بنت ولا صبية أن تخرج من البيت إلا بإذن ومع أحد من محارمها.
3. أن لا تخرج متزينة متطيبة، فإن فعلت فهي زانية حكماً، وهو مسؤول عن ذلك.
4. عليهم أن يمنعوا حريمهم من شهود الحفلات المختلطة في مناسبات الزواج وفي احتفالات التخرج.
5. عليهم أن يمنعوا حريمهم من الاختلاط بالرجال في الجامعات والحافلات والأسواق.
6 . عليهم أن يمنعوا حريمهم من الخروج ليلاً من غير ذي محرم أورفقة مأمونة مهما كان السبب الداعي لذلك.
7. لا يمكنوا أجنبياً من الدخول على نسائهم ومصافحتهن والجلوس معهن.
8. مسؤولية ولاة الأمور مسؤولية تضامنية، فإن قصر فيها الأب فعلى الابن تحملها، وإن قصرت فيها الأم فعلى الأخ أن يرعاها حتى لا يهلك الجميع.
ثانياً: من الحكام والمسؤولين في الوزارات والمصالح والجامعات ونحوها
يجب عليهم أن يعلموا أنهم مسؤولون عن كل ما يجري في المجتمع من فساد، ولهذا عليهم أن يعملوا لسد كل الذرائع ولمنع كل الأسباب التي تؤدي إليه، وإلا فهم مسؤولون عن كل شرف يخدش وعن كل فاحشة ترتكب، عليهم أن يحافظوا على الأخلاق والسلوك.
فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
قبل اهتمامهم بصيانة الطرق وتعبيدها، وبتوفير السلع وإيجادها، ورعاية الخدمات والاهتمام بها، وتوفير الأستاذ والكتاب.
فمن واجبات المسؤولين ما ياتي:
1. إنشاء وزارة أومصلحة أوديوان للحسبة، أوهيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ينبغي لولاة الأمر أن يستكينوا للكفار، أويستجيبوا لدعاة الرذيلة من العلمانيين الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وليعلموا أن حماية الأخلاق والنهي عن الفساد في الارض هو وظيفتهم الأساسية: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"، "أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه".
2. إنشاء شرطة آداب كما كان من قبل، تراقب المظهر العام في الأسواق والشوارع.
3. يفرض زي على النساء سيما الموظفات والطالبات في المدارس والجامعات، لا فرق في ذلك بين المدارس الخاصة والعامة.
4. حرس أمن الجامعات والمدارس يمنع من دخولها كل من لم تلتزم بالآداب الشرعية، وتعاقب المخالفة لذلك في الحال.
5. التوعية الإعلامية عن خطورة التبرج والتفسخ والتحلل في المجتمع في وسائل الإعلام المختلفة، بدلاً أن تشغل هذه الوسائل بما يؤدي إلى فساد المجتمع وتحلله من كل فضيلة عن طريق المسلسلات الهابطة والأغاني الفاضحة ونحو ذلك.
6. تخصيص جامعات وكليات للبنات حسب حاجتهن، أوعزل البنات من الأولاد عن طريق المجموعات، فقد أصبح عدد الطلاب والطالبات في القسم الواحد في الكلية الواحدة لا تسعهم قاعة من القاعات، فلماذا لا يجعل الطلاب مجموعة والبنات مجموعة لحالها؟ وما المانع من ذلك؟هل للاختلاط فائدة سوى التقليد والتحلل والتفسخ ومخالفة أمر الشرع؟
7. أن لا يجعلوا للمرأة ولاية على الرجال، فالرجال قوامون على النساء، وقال صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، فقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفلاح عمن ولوا عليهم النساء، الذي هو الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة.
اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.(3/55)
اللهم أرنا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم على محمد القائل: "أتعجبون من غيرة سعد، فأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"، أوكما قال، وعلى آله وصحبه الأخيار الأطهار، وعلى من اتبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
=================0000000000
حجابك اليوم أختي المسلمة حجابك من النار غداً
حجاب المرأة الأول بيتها
خروج المرأة من بيتها يؤدي إلى محظورين عظيمين، وأمرين خطيرين
الأدلة على أن المرأة كلها عورة، بما في ذلك الوجه والكفين، وعلى حرمة الاختلاط بالأجانب
ما يشترط في حجاب المرأة
وهذا الحجاب يكون
ما لا يجوز للمرأة أن تخرج به من بيتها
الحمد لله الذي أكرم النساء وصانهن، ولهذا أمرهن بالإقرار في البيوت، وحذرهن من الاختلاط بالأجانب، والتبرج، والسفور، فقال: "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى"، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا الصادق الأمين، القائل لأمهات المؤمنين قدوة نساء العالمين بعد حجة الوداع: "هذه ثم ظهور الحُصُر الحديث، ورضي الله عن أمَّي المؤمنين سودة وزينب، حين انصاعتا لهذا الأمر وقالتا: "والذي بعثك بالحق لا تحركنا بعدك دابة"، قال الراوي: فلم تخرجا إلا بعد موتهما، أخرجتا إلى المقبرة.
هل تعلمين أختي المسلمة أن رسولك قال، وقوله حق ووعده صدق: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا"، ولا أحسبك تشكين أن الجنة حق، وأن النار حق، وأن ما توعدين به لآت.
وهل تعلمين أختي المسلمة أن المرأة كلها عورة، من رأسها إلى أخمص قدميها؟ وهل تعلمين كذلك وفقك الله لكل خير وجنبك كل شر أن حجابك الأول هو بيتك؟
وبعد..
فهذه نصيحة لكل مسلمة من أب مشفق، وأخ خائف على أعراض المسلمين، وناصح أمين، وعلى ما ينفعك في دينك ودنياك من الحادبين، عن حجاب المسلمة في الدنيا، الذي هو سيكون حجابها غداً من النار إن شاء الله، عن شروطه، وأوصافه، وكيفيته، وأدلته، عما ينبغي لها أن تلبسه، وما يجب عليها أن تحذره، وما يتعلق بذلك.
أقول وبالله التوفيق:
حجاب المرأة الأول بيتها
الأصل للمرأة أن تقر في بيتها، وأن لا تخرج منه إلا لضرورة ملحة، فالإقرار في البيت للمرأة عزيمة، والخروج رخصة تقدر بقدرها، فالبيت هو حجاب المرأة الأول، هذا ما كان عليه المسلمون السابقون، أما الآن فقد تغيرت الأحوال، وانقلبت الموازين، واختلطت المفاهيم، فأصبح الخروج هو العزيمة، أما البقاء في البيت فهو فقط للراحة وللاستعداد لمعاودة الخروج، سواء كان للمدارس، والجامعات، أوللعمل، والأسواق، والزيارات، والمجاملات، والمنتزهات.
وقد لاحظ الشيخ بكر أبوزيد في كتابه القيم "حراسة الفضيلة" أن البيوت مضافة إلى النساء في القرآن إضافة إسكان ولزوم واستقرار، لا إضافة تمليك، في ثلاث آيات، هي قوله تعالى: "وقرن في بيوتكن"، وقوله تعالى: "واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة"، وقوله تعالى: "لا تخرجوهن من بيوتهن".
ولا أدل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عن ابن عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعه: "المرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها"، ومعلوم أن الراعي ملازم لرعيته لا يغيب عنها أبداً إلا لضرورة، ومن الحديث السابق: "هذه ثم ظهور الحصر".
قال الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: (فإذا كان هذا في النهي عن الحج بعد حجة الفريضة ـ على أن الحج أعلى القربات عند الله ـ فما بالك بما يصنع النساء المنتسبات للإسلام في هذا العصر، من التنقل في البلاد، حتى ليخرجن سافرات، عاصيات، ماجنات إلى بلاد الكفر، وحدهن دون محرم، أومع زوج أومحرم كأنه لا وجود له! فأين الرجال؟! أين الرجال).
ومما يدل على ذلك أن صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المساجد، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في عقر دارها".
خروج المرأة من بيتها يؤدي إلى محظورين عظيمين، وأمرين خطيرين، هما:
1. الخلوة المحرمة.
2. والاختلاط بالأجانب.
وقد انتشر هذان الداءان في مجتمعات المسلمين اليوم بصورة مخيفة تنذر بخطر محقق، ودمار شامل للمجتمع إلا أن يتداركه الله برحمته.
فعلى المسلمين نساءً ورجالاً، رعاة ورعية، أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي أعراضهم، وفي بناتهم وأولادهم.(3/56)
لقد تفشت الخلوة المحرمة بين الرجال والنساء الأجانب واستحلها كثير من الناس، إما جهلاً وإما لغرض خبيث، من تلك الأسباب التي اتخذها الناس ذريعة للخلوة بالأجنبية والاختلاط المحرم الزمالة في الدراسة، الدروس الخصوصية، العمل في تنظيم أوجماعة واحدة، العلاج لدى بعض المشايخ والأطباء، المركبات العامة، وأسوأ تلك الأسباب كلها الخلوة والاختلاط في محيط الجامعات والمعاهد العليا، وبين المسؤولين وسكرتيراتهم، حيث أصبح معظم السكرتيرات نوع خاص من النساء.
فعلى المسؤولين في تلك الجامعات، والوزارات، والمؤسسات، أن يتقوا الله في هؤلاء الشباب والشابات الذين هم أمانة في أعناقهم، وسيتعلقون بهم يوم القيامة، ويوقفوا الاختلاط في الجامعات والمعاهد العليا، فإنه والله جريمة كبيرة، وجريرة عظيمة، وليس التعليم المدني من الأسباب الشرعية التي تبيح المحظورات، فما من عرض ينتهك في هذه الجامعات والمعاهد، ولا حياء يخدش، ولاشاب ولا شابة تفسد، ولا فاحشة ترتكب، ولا زواج عرفي غير شرعي يتم، إلا كان على المسؤولين عن ذلك وأولياء الأمور كفل من وزر ذلك كله.
الأدلة على أن المرأة كلها عورة، بما في ذلك الوجه والكفين، وعلى حرمة الاختلاط بالأجانب
من القرآن الكريم
1. "وقرن في بيوتكن ولا تبرَّجن تبرج الجاهلية الأولى" الآية.
2. "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه.. لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيداً".
3. "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً".
وتعرف هذه الآية بآية الحجاب، قال السيوطي رحمه الله: (هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن).
قالت عائشة رضي الله عنها: "رحم الله نساء الأنصار، لما نزلت "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين" الآية، شققن مروطهن فاعتجرن بها، فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان".
وفي رواية لها عند البخاري: "شققن مروطهن فاختمرن بها".
قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث عائشة السابق في البخاري: "فاختمرن أي غطين وجوههن".
4. آيتا النور: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أوآبائهن..".
5. استثناء القواعد من النساء في قوله تعالى: "والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم" يدل على أن غيرهن يجب عليهن الحجاب.
من السنة النبوية
الأدلة على وجوب تغطية الوجه للمرأة إذا خرجت من بيتها، وهو ما ينازع فيه البعض، من السنة كثيرة جداً وصريحة، نذكر منها ما يأتي:
1. ما صح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن حجة الوداع: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا كشفناه".
ووجه الدلالة فيه أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، فلا يجوز لها تغطيته إلا لأمر واجب.
2. وما قالته عائشة حكته أختها أسماء، قالت: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال".
3. حديث أم المؤمنين السابق: "رحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزلت "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" شققن مروطهن فاختمرن بها".
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المالكي رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: (وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى: "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" يقتضي ستر وجوههن، وأنهن شققن أزرهن فاختمرن أي سترن وجوههن).
4. ما قالته عائشة في قصة الإفك: "وكان صفوان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي عنه بجلبابي".
5. حديث عائشة مع عمها من الرضاع وهو أفلح أخو أبي القعيس لما جاء يستأذن عليها بعد نزول الحجاب، فلم تأذن له حتى أذن له النبي صلى الله عليه وسلم لأنه عمها من الرضاعة.
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على ذلك في الفتح: (وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب).
6. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس".
7. عن أم عطية رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد قلن: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لتلبسها أختها من جلبابها".(3/57)
8. من أقوى الأدلة على وجوب تغطية المرأة لوجهها إذا خرجت من بيتها استفسار أم سلمة رضي الله عنها وخوفها من أن ينكشف قدمها، حين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً؛ فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن؛ قال: يرخينه ذراعاً لا يزدن عليه"، سبحان الله، كيف يكون القدم عورة ولا يكون الوجه عورة؟!
9. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها".
10. وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول على النساء؛ فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت"، والأحماء هم أقرباء الزوج.
الآثار
قال أحمد رحمه الله: "ظفر المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها فلا تُبِن منها شيئاً ولا خفها".
وعنه في رواية: "كل شيء منها عورة، حتى ظفرها"، كما حكى عنه ذلك شيخ الإسلام.
وهذا هو قول مالك رحمه الله.
أدلة المجيزين لكشف الوجه والكفين عند الخروج
كما قال الدكتور بكر أبو زيد حفظه الله فإن أدلة المجيزين لذلك كلها لا تخرج من ثلاث حالات، هي:
1. دليل صحيح صريح، لكنه منسوخ بآيات فرض الحجاب، كما يعلمه من حقق تواريخ الأحداث، أي قبل عام خمس من الهجرة، أوفي حق القواعد من النساء، أوالطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء.
2. دليل صحيح لكنه غير صريح، لا تثبت دلالته أمام الأدلة القطعية الدلالة من الكتاب والسنة.
3. دليل صريح لكنه غير صريح.
ثم عقب على ذلك بقوله: هذا مع أنه لم يقل أحد في الإسلام بجواز كشف الوجه واليدين عند وجود الفتنة، ورقة الدين، وفساد الزمان، بل هم مجمعون على سترهما كما نقله غير واحد من العلماء.
ما يشترط في حجاب المرأة
اعلموا إخواني وأخواتي المسلمين والمسلمات، رعاة العرض والكرامة، والعفاف والصيانة، أنه يشترط في حجاب المرأة ما يأتي:
1. أن يكون ساتراً مغطياً لجميع بدنها من رأسها إلى أخمص قدميها.
2. أن لا يكون شفافاً يصف جسمها.
3. أن لا يكون ضيقاً يحكي محاسنها.
4. أن لا يشبه لبس الرجال، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال.
5. أن لا يشبه لبس الكافرات، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن تشبه بقوم فهو منهم".
6. أن لا يكون زينة في نفسه.
7. أن لا يكون لباس شهرة.
8. أن لا يكون محرماً ولا نجساً.
والأدلة على ذلك كثيرة منها
الحديث السابق: "نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام".
وما رواه مالك في موطئه عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه أنها قالت: "دخلت حفصة بنت عبد الرحمن على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى حفصة خمار رقيق، فشقته عائشة وكستها خماراً كثيفاً".
قال الحافظ ابن عبد البر: (المعنى في هذين الحديثين سواء، فكل ثوب يصف ولا يستر فلا يجوز لباسه بحال، إلا مع ثوب يستر ولا يصف، فإن المكتسية به عارية كما قال أبو هريرة، وهو محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إلى أن قال: أما قوله "كاسيات عاريات" فمعناه كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة، إذ لا تسترهن تلك الثياب، وقوله "مائلات" يعني عن الحق، "مميلات" يعني لأزواجهن إلى أهوائهن).
وقال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم معلقاً على حديث "صنفان من أهل النار": (هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع هذان الصنفان، وهما موجودان، وفيه ذم هذين الصنفين، قيل معناه كاسيات من نعم الله عاريات من شكرها، وقيل معناه تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهاراً بحالها ونحوه، وقيل معناه: تلبس ثوباً رقيعاً يصف لون بدنها، وأما مائلات فقيل معناه عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه، مميلات أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم).
وهذا الحجاب يكون
بأي كيفية تفي بالغرض، إذا توفرت فيها الشروط السابقة، نحو:
1. العباءة، وخمار لتغطية الوجه، والأفضل أن تكون سوداء، وهي تختلف في نوعها وفي كيفية لبسها، فعلى المرأة أن تتقي الله في نفسها، وأن تشتري الساتر منها، وأن تغطي بها جميع بدنها.
2. الثوب، شريطة أن يكون ساتراً غير واصف، ولا زينة في نفسه، وأن تدليه على الأرض وتلف بطرف منه وجهها، فقد كان النساء ولا يزال بعضهن يلبس الثوب ولم يُر منها شيء، ولكن الآن تغيرت نوعية الثياب فأصبح جلها زينة فاتنة، وكيفية لبسه حيث لا يوضع منه شيء على الوجه والجيب، ومن لبست هذا النوع وبهذه الكيفية فلتبشر بالوعيد بأنها من أصحاب النار، فهي كاسية عارية، فاتنة مفتنة.
3. البالطو، شريطة أن يكون واسعاً، طويلاً، سميكاً غير كاشف ولا واصف لبدن المرأة، ولا زينة زائدة، مع خمار لتغطية الوجه.
ولها أن تكشف عن عينها في كل هذه الحالات.
تنبيه(3/58)
اللائي يلبسن البالطو أوالعباءة، أوالثوب، أوغير ذلك ويسترن كل جسمهن إلا الوجه واليدين أحسنّ، ولكنهن مقصرات آثمات بكشف وجوههن وأيديهن، وعليهن أن يكملن هذا النقص ويتداركن هذا الخلل، وهو ليس بالشيء الصعب ولا العسير، كما قيل:
ولم أر في عيوب الناس عيباً كعجز القادرين على التمام
وليعلمن أن عدم تغطية وجوههن خذلان واضح لأخواتهن المتحجبات، وعليهن أن لا يتمسكن بمجرد الخلاف الذي ورد في ذلك، فالخلاف المجرد من الدليل ليس فيه حجة لأحد، فليس كل خلاف يستراح له ويعمل به، وعليهن الاقتداء بأمهات المؤمنين، والصحابيات، ومن سار على نهجهن.
ما لا يجوز للمرأة أن تخرج به من بيتها
يحرم على المرأة أن تخرج من بيتها بالآتي:
1. البنطلون، لما فيه من التشبه بالكفار، وبالرجال، ولحكايته لصورتها.
2. "الإسكيرت والبلوزا" أوالتنورة، لما فيها من التشبه بالرجال، وبالكافرات، ولحكايتها ووصفها لعورتها.
3. بفستان قصير، سواء كان مع ثوب حاسر أم لا.
4. الحلي والزينة المكشوفة، ولا تحرك يدها وتضرب برجلها لتعلم بما تلبس.
فمن فعلت فلتعلم أنها داخلة في ذلك الصنف الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أنه من أهل النار.
واعلمي أختي المسلمة أنك لن تقوي على النار، ولا على مواجهة غضب الجبار، وتذكري حين توضعين وحدك في القبر، ويتولى عنك الأصدقاء، والأحبة، والزوج، والأهل، وتفضين إلى ما قدمت، وتيقني أن حجابك عن الأجانب اليوم سيكون حجاباً لك من النار غداً، وأن الناس في الدار الآخرة فريقان، فريق في الجنة وهم الأنبياء والرسل ومن تبعهم بإحسان، وفريق في السعير وهم إبليس وجنوده من الجن والإنس، ومن والاه من الكفار والمشركين، ودعاة الرذيلة، وتحرير المرأة من الأوامر الشرعية والآداب المرعية، الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وإياك إياك أن تنسي هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومؤيم الأزواج والزوجات، وميتم البنين والبنات، حين تلتف الساق بالساق، فيجتمع على المرء سكرات الموت وحسرات الفوت، فأعدي لهذا اليوم عدته، ولهذا السفر زوادته، فإنه والله أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى عباد الله الصالحين.
=================0000000
ختان الأنثى واجب رغم أنف الرُّوَيبضة
"إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم" الإمام مالك
أدلة الختان السني للأنثى
علة ختان الأنثى
من قال بوجوب ختان الأنثى السني من العلماء المقتدى بهم
من قال إنه سنة من الأئمة
مما يدعو إلى العجب من هذه الدعوى المشبهوهة أمور
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
من علامات الساعة التي أخبر بها الصادق المصدوق وتحققت اتخاذ الرؤوس الجهال، فقد صحَّ عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"، ونطق الرويبضة في أمر العامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يُصَدَّق فيها الكاذب، ويُكَذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرُّويبضة"، قيل: وما الرُّويبضة؟ قال: "الرجل التافه في أمر العامة"، يصدِّق ذلك تصدُّر كثير من الورَّاقين وغيرهم للفتيا في أمور شرعية بل عقدية، نحو إباحة الرِّدة وإنكار حدها ـ ومن أباح الردة وأنكر حدها فقد كفر بإجماع الأمة ـ والمناداة بسن قانون يحظر ختان السنة، وغيرها كثير.
أدلة الختان السني للأنثى
تعجبت جداً لزعم البعض أن الأحاديث التي أمرت بختان الأنثى كلها ضعيفة لسببين:
الأول: عدم اعتدادهم بالسنة، صحيحة كانت أم ضعيفة، بل عدم اعتداد بعضهم بالقرآن، حيث نادى بتسوية الأنثى بالذكر وقد تولى الله عز وجل تقسيم الأنصباء على المواريث في كتابه، ولم يدعها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير من هؤلاء لا يقرُّ بالإسلام جملة إلا نفاقاً.
ثانياً: أما أحاديث ختان الأنثى فهي تتراوح بين الصحيح والحسن، وقد تلقتها الأمة بالقبول، وأجمعت على مشروعيته للذكر والأنثى، ثم اختلفوا، فمنهم من أوجبه عليهما وهو الراجح، ومنهم من قال: سنة على النساء؛ والأحاديث هي:
1. صحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط".
قال مالك: (من الفطرة ختان الرجال والنساء).(3/59)
فالختان للذكر والأنثى من جملة سنن الفطرة، ولا مجال للتفريق إلا بدليل صحيح صريح، ومن الغريب أن الداعين لعدم مشروعية ختان الأنثى من العلمانيين هم الداعون لتسوية الذكر بالأنثى في الميراث، وفي تولي الحكم والقضاء، وفي الحقوق السياسية، مخالفة للأمة وخرقاً للإجماع، ولكن لأن هذه المسألة وافقت أهواء أسيادهم الكفار، وفيها دعم لاتفاقية "سيداو" لأنها تعين على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، لهذا تدعمها منظمات وشخصيات مشبوهة، تناقضَ هؤلاء كعادتهم ونادوا بالتفريق بين الذكر والأنثى.
2. صحَّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاوز الختانُ الختان"، وفي رواية: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل".
3. قوله صلى الله عليه وسلم لخاتنة الأنصار أم عطية: "اخفضي ولا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل".
4. وعن شداد بن أوس رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء".
علة ختان الأنثى
شرع ختان الأنثى لعلتين، كل واحدة منهما أخطر من الأخرى:
1. لإزالة النتن الذي يكون في أعلى البظر، قال ابن منظور رحمه الله في مادة "لخن": (اللخن قبح ريح الفرْج، وامرأة لخناء، واللخناء التي لم تختن، وفي حديث عمر: يا ابن اللخناء؛ هي التي لم تختن، وقيل اللخن النتن).
2. تعديل شهوة المرأة، ولهذا يقال في المنابذة: يا ابن الغلفاء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا يقال في المشاتمة: يا ابن الغلفاء؛ فإن الغلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، ولهذا يوجد من الفواحش في نساء التتار ونساء الفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين، وإذا حصلت المبالغة في الختان ضعفت الشهوة، فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود بالاعتدال، والله أعلم).
فمن أراد الطهر، والعفاف، والفضيلة، فعليه الالتزام بالختان السني، ومن أراد غير ذلك فعليه بما يدعو له العلمانيون والمنظمات الكافرة، وهو عدم الختان.
من قال بوجوب ختان الأنثى السني من العلماء المقتدى بهم
للأدلة الصحيحة السابقة، وللعلل السالفة أوجب ختان الأنثى السني عدد من أهل العلم المقتدى بهم، منهم على سبيل المثال لا الحصر:
1. الإمام الشعبي.
2. ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك.
3. الأوزاعي.
4. الإمام الشافعي.
5. يحيى بن سعيد الأنصاري.
6. الإمام أحمد في المشهور عنه.
7. سُحنون من المالكية.
8. شيخ الإسلام ابن تيمية.
9. العلامة ابن القيم.
10. الشيخ منصور بن يونس البهوتي المصري المتوفى 1051ه .
من قال إنه سنة من الأئمة
1. الإمام أبو حنيفة.
2. الإمام مالك.
3. الإمام أحمد في رواية عنه.
مما يدعو إلى العجب من هذه الدعوى المشبهوهة أمور، هي:
1. أن جل القائمين عليها والداعمين لها مادياً من المنظمات الكافرة والمشبوهة، ومن المنافقين الذين ليس لهم أدنى غرض في الدين، ولا يحق لهم الحديث عن حكم من الأحكام الشرعية، أما القليل من المخدوعين من بعض استشاريي النساء والتوليد وغيرهم فقد أصابتهم ردة فعل من الختان الفرعوني المحرم ذي الأضرار البليغة، وقد ناقشنا كثيراً منهم فهم لا يميزون بين ختان السنة والختان الفرعوني، ولا يحل لأمثالهم الجهل بذلك أو التجاهل.
2. ختان الأنثى من سنن الفطرة، وهو حكم شرعي، فلا يحل لأحد أن يتطفل ويخوض فيه إلا إذا كان من أهل الاختصاص ـ العلماء الشرعيين.
3. مطالبة هؤلاء الوراقين والمتطفلين بسن قانون يحرم ختان الأنثى السني ويوجب القصاص والدية على من يريد أن يعف بناته على الرغم من عدم إقرارهم بالحدود الشرعية، بل والمناداة بإلغائها ليتحاكموا إلى ما سنه أسيادهم الكفار من قوانين وضعية.
4. تجرؤهم على أهل الحل والعقد من العلماء الذين تصدوا لهذه الدعوى المشبوهة الداعية إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، والنيل من الطبيبة الماهرة "ست البنات" استشارية النساء والتوليد بسبب إخراجها لكتابها القيم الذي دللت فيه على مشروعية ختان الأنثى وبينت الأضرار المترتبة على ترك ذلك، فجزاها الله خيراً، وينبغي للنساء الفضليات أن يتصدرن لمواجهة العلمانيات، فنعوذ بالله من جلد الفاجرين والفاجرات، وضعف واستهانة الأتقياء والتقيات، فلابد من مدافعة أهل الباطل حتى لا يعم الفساد الأرض
00000000000
الدليل الأغر على أن ختان الأنثى واجب
تمهيد
تعريف ختان السنة
أول من خُتنت من النساء أمنا هاجر عليها السلام
العلة والحكمة في وجوب ختان الأنثى
من قال بوجوب ختان الأنثى من العلماء المقتدى بهم
من قال إنه سنة من العلماء المقتدى بهم
الخلاصة
تمهيد
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذي اصطفى.
الإسلام دين الفطر السليمة، والطباع القويمة: "فطرة الله التي فَطَر الناس عليها"، فكل مولود يولد على فطرة الإسلام: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أوينصرانه، أويمجسَّانه".(3/60)
والفطرة هي الطريقة الحسنة القديمة، والسنن الحميدة التي سنها الأنبياء والمرسلون، واستحبها عباد الله الصالحون من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
من تلكم السنن الحميدة، والخصال المجيدة، الختان للذكر والأنثى.
وبعد...
فهذا بحث عن حكم ختان الأنثى، وأنه واجب مثل ختان الذكر تماماً، وقد دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع عدة أسباب منها:
• ... اللغط الكثير والزخم المثير الذي يدور في وسائل الإعلام المختلفة المقروءة والمسموعة والمشاهدة في هذه الأيام عن هذا الموضوع.
• ... الحملة المسعورة التي تنادي بسن قانون يحرم ختان الأنثى أياً ما كان نوعه.
• ... الخلط المتعمد وغير المتعمد بين ختان السنة المشروع المحمود والختان الفرعوني البغيض المذموم.
• ... عدم تمييز البعض بين الآداب الشرعية والسنن المرعية من ناحية، وبين العادات والتقاليد الاجتماعية ذات الجذور الوثنية والفرعونية من ناحية أخرى.
• ... تطفل البعض بحسن نية وبغير حسن نية في الحديث عن أحكام شرعية لا ينبغي لأحد غير العلماء الشرعيين المختصين أن يتكلم فيها، فختان الأنثى من جملة سنن الفطرة التي شرعها الإسلام وسنها الأنبياء والرسل الكرام، ووضح حكمها العلماء الأعلام ، فلا يحل لأحد من استشاريي النساء والتوليد ولا لقانوني، ولا لواحدة من اتحاد النساء أن يتكلم عن حكم الشرع في هذا، دعك عن لجان حقوق الإنسان.
ويعد هذا من التعدي البين على دين الله، ومن التقول على شرع الله، ومن التطفل المذموم، والتدخل المحموم.
ينبغي لولاة الأمر أن يتدخلوا لإيقاف مثل هذه المؤتمرات المشبوهة، فهذه من أولى مهام المسؤولين، إذ لا يحل لكل إنسان أو كل مجموعة من الناس عقد المؤتمرات ومناقشة الأمور الدينية والأحكام الشرعية، والعمل على سن قانون يحظر فيه ما يشاء ويبيح ما يشاء دون علم المسؤولين أو على غفلة منهم.
وقبل الشروع في المقصود أود التنبيه على الآتي:
أولاً: أن الدين ليس بالرأي، كما قال علي رضي الله عنه: "لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره"؛ فالدين بالدليل، بالكتاب والسنة، فقد أمرنا عند التنازع أن نرد الخلاف إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: الختان الفرعوني ليس من السنة، ويكفيه قبحاً وسوءاً اسمه، وكل المضار التي يحتج بها الأطباء ويرفعونها في دعوى حظر ختان الأنثى هي ناتجة من الختان الفرعوني، وليس من الختان السني، فعلى الأطباء الذين يتصدرون ذلك أن يتقوا الله في أنفسهم أولاً، وأن يتصفوا بالعلمية والموضوعية، وأن لا يخلطوا بين الختان الفرعوني المذموم وبين ختان السنة الذي أوجبه الشارع، وليعلموا أنهم سيقفون وسيسألون عن كل ذلك.
ثالثاً: مجرد الخلاف لا ينفي الشيء ولا يثبته، فكون بعض أهل العلم قال إن ختان الأنثى سنة، وهو قول مرجوح كما سنبينه، لا يبرر لأحد أن يتجرأ ويدعي أن هذا غير مشروع، وينادي بسن قانون يحرمه ويعاقب من يمارس ذلك.
رابعاً: أحذر نفسي وإخواني المسلمين من اتباع الهوى والتشبث ببعض أقوال أهل العلم لتحقيق ما تهواه النفوس.
خامساً: زعم البعض أنه لا يوجد ختان سنة للأنثى من الافتراء على الله، وقد قال الله عز وجل: "إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون".
فكون الختان السائد في السودان وفي صعيد مصر وفي كثير من البلاد الإفريقية هو الختان الفرعوني فهذا لا ينفي أن هناك ختان سنة، والجهل بالشيء لا يدل على عدم وجوده، وصدق من قال: "من جهل شيئاً عاداه"، ولله در علماء الحديث حيث قرروا: "أن من علم حجة على من لم يعلم".
سادساً: عدم التزام طائفة من المسلمين بذلك مهما كثرت لا يدل على عدم مشروعية ختان الأنثى، بل لقد اختلف المسلمون في مسائل عقدية، مثل تكفير تارك الصلاة كسلاً وعدم تكفيره، وفي رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم لربه بعيني رأسه، وكذلك اختلفوا في قراءة المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية، ونحو ذلك.
سابعاً: الخلاف كله ليس سواء، فهناك خلاف راجح وخلاف مرجوح، وخلاف سائغ وخلاف ممنوع، وهكذا.
ثامناً : الحذر من التعامل بردود الأفعال، ولنعلم أن الحسنة بين سيئتين، ودين الله قوامه الوسطية، فلا إفراط ولا تفريط.
وبعد، فقد حان أوان الشروع في المقصود.
تعريف ختان السنة
الختان لغة: القطع، قال ابن منظور رحمه الله: (وأصل الختن القطع، والختان موضع الختن من الذكر، وموضع القطع من نواة الجارية، قال أبو منصور: هو موضع القطع من الذكر والأنثى، ومنه الحديث المروي: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل"، وهما موضع القطع من ذكر الغلام وفرج الأنثى).
ختان الأنثى اصطلاحاً : هو قطع شيء يسير من الجلدة التي كعُرْف الديك فوق مخرج البول، وتحرم المبالغة في القطع.(3/61)
وينبغي على الخاتنات والقابلات أن يتقين الله ولا يمارسن الختان الفرعوني، وعليهن أن يلتزمن بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لخاتنة الأنصار أم عطية: "أخفضي ولا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل".
أول من خُتنت من النساء أمنا هاجر عليها السلام
ختان الذكر والأنثى من سنن المرسلين، وقد شرع على لسان إبراهيم في نفسه وزوجه هاجر عليهما السلام، قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: (وقد روى أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عليّ: أن سارة لما وهبت هاجر لإبراهيم فأصابها، غارت سارة، فحلفت ليغيرن منها ثلاثة أشياء، فخشي إبراهيم أن تقطع أذنيها أو تجدع أنفها، فأمرها أن تخفضها وتثقب أذنيها).
لا غرابة في ذلك، فإن السعي شرع لسعي هاجر بين الصفا والمروة، وكذلك رمي الجمار شرع إحياء لسنة إبراهيم عندما عرض له الشيطان في تلك الأماكن ليصده عن ذبح ابنه والوفاء بوعده لربه، فحصبه لذلك.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله معلقاً على ختن هاجر: (ولا ينكر هذا كما كان مبدأ السعي ـ سعي هاجر بين جبلين تبتغي لابنها القوت، وكما كان مبدأ الجمار ـ حصب إسماعيل للشيطان لما ذهب مع أبيه، فشرعه الله سبحانه لعباده، تذكرة وإحياءاً لسنة خليله، وإقامة لذكره، وإعطاءاً لعبوديته والله أعلم).
حكم ختان الأنثى
ذهب أهل العلم رحمهم الله في حكم ختان الأنثى والذكر مذاهب، هي:
1. واجب على الرجال والنساء، وهذا مذهب سحنون من أئمة المالكية، والشافعي، ورواية عن أحمد ، وكثير من علماء السلف والخلف.
2. سنة للذكر والأنثى، وهو مذهب أبي حنيفة، وبعض أصحاب مالك، والشافعي، والرواية الثانية عن أحمد.
3. واجب على الرجال سنة على النساء، وهو مذهب بعض الشافعية.
يتضح من ذلك أنه لا فرق في حكم ختان الذكر والأنثى، فحكمهما سواء، وهو يتراوح بين الوجوب والسنة ، والراجح أنه واجب، وذلك للأدلة الآتية:
• ... قوله تعالى حاضاً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم عليه السلام: "وأوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً"، قال قتادة من أئمة التفسير: هو الاختتان.
• ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاوز الخِتانُ الختانَ فقد وجب الغسل"، وفي رواية: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل".
وهذا الحديث أقوى دليل على وجوب ختان الأنثى، فالآية السابقة قد يرى البعض أن المراد بملة إبراهيم فيها التوحيد، ولكن لا مجال لتأويل هذا الحديث، فقد ساوى بين الذكر والأنثى في حكم الختان.
(قال صالح بن أحمد لأبيه: وفي هذا أن النساء كن يختتن، وسئل عن الرجل تدخل عليه امرأته فلم يجدها مختونة أيجب عليها الختان؟ قال: الختان سنة.
قال الخلال: وأخبرني أبو بكر المروزي وعبد الكريم الهيثم ويوسف بن موسى، دخل كلام بعضهم في بعض، أن أبا عبد الله سئل عن امرأة تدخل على زوجها ولم تختتن: أيجب عليها الختان؟ فسكت والتفت إلى أبي حفص، فقال : تعرف في هذا شيئاً؟ قال: لا. فقيل له: أتى عليهما ثلاثون وأربعون سنة. فسكت. قيل له: فإن قدرت على أن تختتن؟ قال: حسن.
قال: وأخبرني محمد بن يحيى الكحال، قال: سألت أبا عبد الله عن المرأة تختتن؟ فقال : قد خرجت فيه أشياء. ثم قال: ونظرت فإذا خبر النبي صلى الله عليه وسلم: "حين يلتقي الختانان"، ولا يكون واحداً إنما هما اثنان. قلت لأبي عبد الله: فلا بد منه؟ قال: الرجل أشد. وذلك أن الرجل يختتن، فتلك الجلدة مدلاة على الكمرة فلا ينقي ما ثم، والنساء أهون، لا خلاف في استحبابه للأنثى، واختلف في وجوبه.
وعن أحمد في ذلك روايتان: إحداهما: يجب على الرجال والنساء، والثانية، يختص وجوبه بالذكور).
4. ومن الأدلة على وجوب الختان للذكر والأنثى ما اتفق عليه الشيخان عن أبي هريرة يرفعُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط".
5. حديث أم عطية عندما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "اخفضي ولا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل".
وفي رواية: "إذا ختنتِ فلا تنهكي".
6. قال ابن عبد البر رحمه الله: (وروي عن أم عطية ـ الأنصارية ـ أنها كانت تخفض نساء الأنصار).
7. واستدل الموجبون كذلك لختان الأنثى بأن في المشاتمة يقال يا ابن الغلفاء ، وذلك لأن الغلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر من المختونة .
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم الإمام رحمه الله: (ولهذا يقال في المشاتمة: يا ابن الغلفاء، فإن الغلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، ولهذا يوجد من الفواحش في نساء التتار ونساء الإفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين، وإذا حصلت المبالغة في الختان ضعفت الشهوة، فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود بالاعتدال، والله أعلم).
وقد كان ذلك جواباً على سؤال هل تختتن المرأة أم لا؟ فأجاب بالإيجاب، ثم علق على ذلك .
العلة والحكمة في وجوب ختان الأنثى(3/62)
العلة والحكمة في وجوب ختان الأنثى تعديل الشهوة عند المرأة، فيالها من علة عظيمة وحكمة بليغة وفائدة كبيرة، كما أن العلة والحكمة في وجوب ختان الذكر تطهيره من النجاسات التي تختزن في الغلفة إذا لم تقطع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وذلك أن المقصود بختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة، والمقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها، فإنها إذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله معلقاً على حديث أم عطية السابق: "إذا ختنت فلا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل": (ومعنى هذا أن الخافضة إذا استأصلت جلدة الختان ضعفت شهوة المرأة، فقلت حظوتها عند زوجها، كما أنها إذا تركتها كما هي لم تأخذ منها شيئاً ازدادت غُلمتها، فإذا أخذت منها وأبقت، كان ذلك تعديلاً للخلقة والشهوة).
أقوال أهل العلم في حكم ختان الأنثى
قال ابن أبي زيد: (قال مالك: إن النساء يخفضن الجواري. قال غيره: روي أن النبي عليه السلام قال: الختان سنة للرجال مكرمة النساء، وهو في النساء الخفاض، وينبغي أن لا يبالغ في قطع المرأة.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم عطية وكانت تخفض: يا أم عطية أشمي ولا تَنْهكي، فإنه أمْرَى للوجه ودَمِه، وأحظى عند الزوج. يقول: أكثر لماء الوجه ودمه، وأحسن في جماعها.
قال مالك: وأحب للنساء قص الأظافر وحلق العانة، والاختتان، مثل ما هو على الرجال.
قال: ومن ابتاع أمة فليخفضها إن أراد حبسها، وإن كانت للبيع فليس ذلك عليه).
فها نحن نرى أن الإمام مالك رحمه الله ساوى بين ختان الأنثى والذكر في الحكم بقوله "أحب"، وكلمة "أحب" و"أكره" عندما ترد في كلام السلف المتقدمين ليس المراد منهما الاستحباب وكراهية التنزيه، وإنما يريدون بذلك الوجوب والتحريم، ولكن لورعهم وليقظة الوازع الديني في قلوب من يخاطبون يستعملون أحب وأكره، فانتبه لذلك واعرف مغزى مصطلحات القوم حتى لا تنخدع.
وقال حافظ المغرب ابن عبد البر رحمه الله: (وقال ابن القاسم: قال مالك: من الفطرة ختان الرجال والنساء، قال مالك: وأحب للنساء من قص الأظفار، وحلق العانة مثل ما هو على الرجال. ذكره الحارث بن مسكين، وسحنون، عن ابن القاسم).
وقال الإمام النووي رحمه الله: (الختان واجب على الرجال والنساء عندنا، وبه قال كثيرون من السلف، كذا حكاه الخطابي. وممن أوجبه أحمد، وقال مالك وأبو حنيفة: سنة في حق الجميع. وحكاه الرافعي وجهاً لنا، وحكى وجهاً ثالثاً أنه يجب على الرجال وسنة في المرأة، وهذان الوجهان شاذان، والمذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي رحمه الله وقطع به الجمهور أنه واجب على الرجال والنساء).
وقال الإمام الخطابي في معالم السنن: (وأما الختان، فإنه وإن كان مذكوراً في جملة السنن فإنه عند كثير من العلماء على الوجوب، وذلك أنه شعار الدين وبه يعرف المسلم من الكافر).
وقال الشيخ منصور بن يونس البهوتي الحنبلي المصري رحمه الله: (ويجب ختان ذكر بأخذ جلدة الحشفة، وقال جمع: إن اقتصر على أكثرها جاز. ويجب ختان أنثى بأخذ جلدة فوق محل الإيلاج تشبه عرف الديك، ويستحب ألا تؤخذ كلها نصاً لحديث :" اخفضي ولا تنهكي فإنه أنضر للوجه وأحظى للزوج"، رواه الطبراني والحاكم عن الضحاك بن قيس مرفوعاً، وللزوج جبر زوجته المسلمة عليه).
وقال الحافظ العراقي رحمه الله: (الختان هو قطع الغلفة التي تغطي الحشفة من الرجل وقطع بعض الجلدة التي في أعلى فرج المرأة، ويسمى ختان الرجل إعذاراً وختان المرأة خفضاً، واختلف العلماء هل هو واجب؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه سنة وليس بواجب، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي، وذهب الشافعي إلى وجوبه وهو مقتضى قول سحنون من المالكية... واحتج من قال سنة بحديث أبي المليح بن أسامة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء"، رواه أحمد في مسنده، والبيهقي، ورواه البيهقي من رواية أبي أيوب وابن عباس. قال ابن عبد البر: إنه يدور على الحجاج بن أرطأة وليس ممن يحتج به، فقلت: قد رواه الطبراني في مسند الشاميين من غير طريق الحجاج، من رواية سعيد بن بشر بن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس ، وأجاب من أوجبه بأنه ليس المراد بالسنة هنا خلاف الواجب، بل المراد به الطريقة، واحتجوا على وجوبه بقوله تعالى: "أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً").(3/63)
وقال ابن قدامة رحمه الله: (ويشرع الختان في حق النساء أيضاً. قال أبو عبد الله: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل"، فيه بيان أن النساء كن يختتن، وحديث عمر: إن ختانة ختنت، فقال: "أبقي منه شيئاً إذا خفضت"، وروى الخلال بإسناد عن شداد بن أوس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الختان سنة للرجال، ومكرمة للنساء"، وعن جابر بن زيد مثل ذلك موقوفاً عليه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخافضة أشمي ولا تًنْهكي، فإنه أحظى للزوج وأسرى للوجه"، والخفض ختانة المرأة).
وقال الشيخ البسام في الاختيارات الجلية في شرح ما قاله صاحب عمدة الطالب "ويجب ختان ذكر وأنثى": (هذا المشهور من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقدمه في المحرر والفروع والفائق وغيرهم، قال في النظم: هذا أولى، ونصره المجد في شرح الهداية).
من قال بوجوب ختان الأنثى من العلماء المقتدى بهم
قال بوجوبه كثير من السلف والخلف، منهم:
1. الشعبي.
2. وربيعة.
3. والأوزاعي.
4. الإمام الشافعي رحمه الله.
5. الإمام أحمد في المشهور عنه.
6. سحنون من المالكية.
7. شيخ الإسلام ابن تيمية.
8. العلامة ابن القيم.
9. الشيخ منصور بن يونس البهوتي.
10. ويحيى بن سعيد الأنصاري.
من قال إنه سنة من العلماء المقتدى بهم
قال بسنية ختان الأنثى كذلك كثير من السلف، أشهرهم:
1. الإمام أبو حنيفة رحمه الله.
2. الإمام مالك رحمه الله.
3. الإمام أحمد في رواية عنه.
قال ابن القيم رحمه الله: (ونقل كثير من الفقهاء عن مالك أنه سنة، حتى قال القاضي عياض: الاختتان عند مالك وعامة العلماء سنة، ولكن السنة عندهم يأثم بتركها، فهم يطلقونها على مرتبة بين الفرض والندب).
الخلاصة
1. أن حكم الختان يعم الذكر والأنثى.
2. أن الختان واجب على الذكر والأنثى، وإن كان في حق الذكر آكد.
3. الدليل العمدة في تسوية الذكر والأنثى في الختان قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل".
4. أن حكم الختان للذكر والأنثى يتراوح بين الوجوب والسنة، فمن قالوا بوجوبه من العلماء أوجبوه على الجنسين معاً، ومن قالوا بسنيته عموا بذلك الذكر والأنثى.
علة ختان الأنثى تختلف من علة ختان الذكر، فالعلة والحكمة في مشروعية ختان الأنثى تعديل الشهوة، أما بالنسبة للذكر فللتخلص من النجاسات، فلا علاقة البتة بين العلتين ولا صلة بين الحكمين، فتدليل البعض لعدم وجوب ختان الأنثى (بعدم المعنى الموجود في ختان الذكر لأنه لا يتوصل به إلى كمال الطهارة)، كما قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله لا معنى له أبداً، لاختلاف العلتين، ولأن حاجة الأنثى إلى تعديل شهوتها أمر مقصود لذاته، خاصة في هذا العصر الذي كثر فيه عدد النساء، وتأخر فيه الزواج، وعزف كثير من الشباب عنه لكثرة الفساد وسهولة الوصول إلى الحرام.
فالعلة هذه ينبغي أن تراعى وأن تعتبر فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فعفة الأنثى وصيانتها وتحصينها من الوقوع في الحرام واجب، والختان من أقوى الأسباب التي تعين على ذلك، ولذلك شرع.
5. تهاون كثير من الناس وتركهم لختان الأنثى لا ينبغي أن يكون دافعاً لنا للتخلص من هذه السنة الحميدة، فلا أسوة في ترك السنن المرعية والآداب الشرعية، وإن الأسوة والقدوة تكون بإحياء السنن وإماتة البدع.
6. زعم البعض أنه لا يوجد ختان سنة قول باطل مردود، وحجة داحضة مرفوضة، بل ختان السنة يمارس في كثير من بلاد المسلمين، في نيجيريا مثلاً فإن البنت تختن في يوم سابعها كما أخبرني عدد من الطلاب النيجيريين، وفي السودان عدل كثير من الناس ونفر من الخفاض الفرعوني إلى خفاض السنة، والأمر في كل يوم في ازدياد وتخلص من الخفاض الفرعوني وإحياء لختان السنة.
7. بدلاً من أن نشن حرباً شعواء على الختان من حيث هو علينا أن نميز بين الحق والباطل، والسنة والبدعة، وأن نفرق بين الختان الذي له أضرار كثيرة ومخاطر وخيمة، وبين الختان السني الذي كله خير، وبركة، ورحمة، وعافية، وصحة.
8. لا يحل لأحد أن يفتي في حكم شرعي إلا إذا كان من أهل الاختصاص، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ولا حرج على الأطباء المختصين أن يتكلموا عن أضرار الختان أو الخفاض الفرعوني، ولكن الحرج كل الحرج أن يدعي البعض أنه ليس هناك ختان سنة أبداً، وأن ختان الأنثى غير مشروع أصلاً، وهي من أكثر الأمور خطراً ومنعاً أن يتحدث فيها من لا علم له بها؟
فرد بعض الأطباء المسلمين لبعض الأحاديث والآيات التي تصف بعض العلاجات نحو قوله تعالى: "فيه شفاء للناس" أي العسل، وحديث الذباب، وتقمص بعض الشياطين للإنس، ونحو ذلك، من التطفل البين الواضح، ومن الرد البين الواضح لما صح عن الله ورسوله، وقد توعد الله من فعل ذلك بالوعيد والثبور وعظائم الأمور.(3/64)
9. واجب استشاريي النساء والتوليد، والقانونيين، واتحاد المرأة، توعية القابلات والخاتنات بأضرار الخفاض الفرعوني، ودلهن على خفاض السنة، وترغيبهن وحثهن على ذلك، بدلاً من القيام بالحملات المسعورة وعقد المؤتمرات لتضليل الناس والتقول على الله ورسوله من غير علم، فقط لإيجادهم فرصاً واسعة في وسائل الإعلام المختلفة، بينما يحرم العلماء وطلاب العلم الشرعي عن مجرد التعقيب والرد على ما كتب في الصحف أو قدم في الإذاعة المسموعة والمرئية، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
10. خفاض البنات كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، وهو من بقايا ملة إبراهيم والحنيفية السمحاء، إذ أن كثيراً من السنن الحميدة التي كانت سائدة عند العرب في جاهليتهم نحو إعفاء اللحى، وختان الذكر والأنثى، وغيرهما، من بقايا ملة إبراهيم وليست من العادات الجاهلية كما يظن البعض، هدانا الله وإياهم، ولهذا قال عليّ رضي الله عنه في غزوة بدر وقد ضرب أحد المشركين ضربة قاضية: "خذها مني يا ابن قاطعة البظور".
11. الدافع الأول والأخير في اعتقادي لهذه الحملة المحمومة المسعورة ليس هو الحرص على صحة المرأة المسلمة وسلامتها، ولكن التشبه بالكفار، وتقليد من حذرنا الله ورسوله من تقليدهم والتشبه بهم.
12. ألا يخشى المنادون بسن قانون يحظر ختان السنة أن يدخلوا في عموم الوعيد الوارد في قوله عز وجل: "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون".
13. الذين يستدلون على عدم مشروعية ختان الأنثى السني، ويريدون حظره بقانون، بأنه لا يمارس في السعودية، ولو كان حقاً لمورس هناك!! نقول لهم: هذه كلمة حق أريد بها باطل، وإن الحق لا يعرف بالرجال.
ومن عجيب أمر هؤلاء أنهم يرفضون الاستدلال بكلام أي عالم سعودي في العقيدة والتمسك بالسنة ، وفي تغطية الوجه ونحو ذلك: "ولكن إن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا"، فهذا الاستدلال باعثه الهوى.
14. وثمة شيء آخر أن المجتمع النسائي في السعودية وغيرها من دول الخليج يختلف عن مجتمعنا السوداني في أمور هي:
• ... الزواج المبكر.
• ... الالتزام وتغطية الوجه والكفين ـ الحجاب الشرعي.
• ... انتشار سنة التعدد.
• ... عدم الاختلاط في المدارس والجامعات والمعاهد العليا والمركبات العامة.
• ... عدم دخول الرجال الأجانب على النساء من السنن الحميدة التي ينشأ عليها الصفار ويكبر عليها الكبار.
بينما نجد عكس ذلك كله عندنا، مما يجعل وجه المقارنة بيننا وبينهم غير صحيح، فالزواج متأخر، والاختلاط بين الشباب والشابات متفشٍ في الجامعات، والمعاهد العليا، والمركبات، والأسواق، والاحتفالات، والعلاقات الأسرية المفتوحة، ودخول الرجال الأجانب على النساء الأجنبيات، من الأمور السائغة في المجتمع السوداني ، ومن امتنع من ذلك يوصف بأنه خائن وأن قلبه مريض، ونحو ذلك من الإفك والافتراء، وقد صدق من قال: "رمتني بدائها وانسلت".
فقياس مجتمعنا السوداني مثلاً بالمجتمع السعودي ـ سيما في جانب النساء قياس مع الفارق والفارق الكبير جداً.
15. اعلم أخي الكريم أن دين الله محفوظ وشرعه قائم، ولن يستطيع أحد كائن من كان أن يبدل شرع الله ، فالإسلام دين الفطرة.
16. أن مسؤولية ختان الأنثى هي مسؤولية أولياء الأمور في البيوت، فعليهم أن لا يتساهلوا في هذا الأمر، وأن لا يدعوا جهة رسمية كانت أم متطفلة أن تتدخل في ذلك، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، وإنما الطاعة في المعروف، وتذكر أيها الأب الكريم والولي أنك راعٍ، وأنك مسؤول عن رعيتك، وتذكري أيتها الأم الرؤوم أنك راعية في بيت زوجك، فوظيفتك الأساسية هي في حماية من تعولين وعفتهم ، والعمل على ما يعين على ذلك، وختان السنة أكبر معين بعد توفيق الله وحفظه، وغرس الخلق الكريم والسلوك المستقيم في البنات.
17. في توجيهه صلى الله عليه وسلم لخاتنة الأنصار: "اخفضي ولا تنهكي" تحذير من الخفاض الفرعوني، ويعتبر هذا من معجزاته الخبرية الكثيرة التي حذر منها أوأخبر بها وحدثت وتفشت بعده.
18. من المنكر الواضح والخطأ الفاضح ادعاء البعض عدم مشروعية ختان الأنثى ، وقد أوجبه عدد من أهل العلم المقتدى بهم، ولم يفرقوا بينه وبين ختان الذكر ، منهم على سبيل المثال لا الحصر كما مر الشافعية، وهو المشهور من مذهب أحمد، وسحنون من المالكية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم ، والشيخ منصور بن يونس البهوتي ، وغيرهم كثير، واعتبره سنة عامة العلماء، فهل يحل لأحد أن يترك قول هؤلاء الأخيار ويتبع قول بعض الأطباء والقانونيين وبعض النساء؟
19. استحب بعض أهل العلم للرجل جبر زوجته المسلمة الكبيرة عليه، منهم عدد من الحنابلة، منهم أحمد الإمام، والشيخ منصور البهوتي شيخ الحنابلة في وقته.(3/65)
20. إن الختان الفرعوني على الرغم من كراهيته والأضرار الكثيرة المترتبة عنه خير من الغلفة والغلمة ـ وهي اشتداد الشهوة عند الفتاة غير المختونة ـ لما فيه من تعديل شهوة البنت، فدرء المفاسد الدينية مقدم على جلب المنافع الدنيوية والله أعلم.
21. ما كتبت هذا التوضيح والبيان إلا نصحاً لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وتحذيراً من تدخل غير المختصين في الحديث عن الأحكام الشرعية والسنن المرعية، وتنبيهاً للمسؤولين وأولياء الأمور أن يتقوا الله فيمن يعولون، وأن لا يسمحوا لكل من هب ودب أن يتكلم ويفتي ويشرع القوانين لحظر ما لا تهواه نفسه لأي غرض من الأغراض.
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يهديهم سبل السلام، وأن يوفقهم للتمسك والاقتداء بسن الأنبياء والمرسلين، ويجنبهم تقليد الكفرة والملحدين، وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه والباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه، اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد، وصلى الله وسلم وبارك وعظم على رسول الملحمة ونبي الرحمة، المحيي لسنن المكرمة، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع هداه، والسلام
=================0
الحضانة
أهميتها ، حكمها ، شروطها ، الأولى بها
تمهيد
تعريف الحضانة وحكمها
من لا تثبت لهم الحضانة
مذاهب أهل العلم في حضانة الرقيق
مذاهب أهل العلم في حضانة الكافر للمسلم
مذاهب أهل العلم في حق الأم في الحضانة إذا تزوجت
الأولى بحضانة الطفل
الأدلة على أن الأم مقدمة على الأب في الحضانة
الترتيب في الحضانة
إذا بلغ الصبي المحضون غير المعتوه سبع سنين
إذا أسقطت الأم النفقة عن الأب مقابل أن تخص بالحضانة فلا يحق لها المطالبة بالنفقة بعد
تمهيد
الحمد لله الذي لم يخلق العباد عبثاً، ولم يتركهم سدى، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الفرد الصالح هو أساس الأسرة الفاضلة، والأسرة الفاضلة هي نواة المجتمع الخير، ولهذا فإن الإسلام عُني بالفرد منذ نعومة أظفاره، بل قبل ذلك عندما أمر الرجل أن يختار الزوجة الصالحة والنبت الحسن.
وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهمية تنشئة الطفل تنشئة صالحة، فقال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أوينصِّرانه، أويمجِّسانه".
لقد سبق الإسلام الأمم والشعوب الكافرة التي انتبهت لأهمية المحاضن، وخطورتها، وتأثيرها في تكييف عقلية الناشئة على المنهج، والفلسفة، والسلوك الذي يراد منه، فكان للشيوعيين مثلاً محاضن خاصة "لتشويع" المواليد ومسخ فطرتهم، وترويضهم على المنهج الشيوعي الإباحي، وكذلك فعل الخارجي قرنق ، حيث كان يأخذ الأطفال ويربيهم في محاضن خاصة على الحقد والكراهية للإسلام والعرب، ويغرس فيهم من أصناف البغض وأسبابه ما الله به عليم؛ ينفقون عليها الأموال الطائلة، ويوكلون التخطيط والإشراف عليها لمن مردوا على بغض الإسلام والمسلمين، وأشربوا كراهية الدين.
ولهذا فإن الحضانة في الإسلام لها أهمية خاصة، وخطورة بالغة، من أجل ذلك أوجبها الإسلام على الأب أو من ينوب عنه، في حال الوفاة أو العجز.
وتزداد أهمية الحضانة ويعظم قدرها عندما يفترق الزوجان، وتنشأ بينهما نزاعات وخصومات تعرض الطفل لمخاطر كبيرة، ولانحرافات مثيرة، إذا لم يلتزم الطرفان المتنازعان بالأحكام الشرعية والآداب المرعية، ويتقيا الله في أنفسهما وأولادهما، ويقدما مصلحة الأولاد على حظوظ النفس.
وبعد...
فهذا بحث عن تعريف الحضانة، وحكمها، ومن الذي تجب له الحضانة؟ ومن أولى الناس بالحضانة؟ وعن شروط الحاضن، ونحو ذلك.
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يهديهم سبل الرشاد، وأن يجعلنا وإياهم ممن لا ينسون الفضل بينهم، لأن الفضل لا يذهب ولا يضيع بين الله والناس، وأن يحلينا وإياهم بالسماحة في تعاملنا مع إخواننا المسلمين، لندخل في دعائه صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين.
تعريف الحضانة وحكمها
لغة: الحضانة لغة من الحضن، وهو الجنب ، لأن الحاضن يضم الطفل المحضون إلى جنبه.
وشرعاً: حفظ صغير أو معتوه أومعاق عما يضره، وتربيته ورعاية مصالحه، إلى أن يكبر، أويصح؛ والحضانة والكفالة سواء.
حكم الحضانة
الوجوب.
دليل الحكم
دليل وجوب الحضانة للصغير قوله تعالى عن مريم عليها السلام: "فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "بحسب المرء من الإثم أن يضيع من يعول".(3/66)
قال ابن قدامة رحمه الله: (كفالة الطفل ووحضانته واجبة، لأنه يهلك بتركه، فيجب حفظه من الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه، وإنجاؤه من المهالك، ويتعلق بها حق القرابة، لأن فيها ولاية على الطفل واستصحاباً له، فتعلق بها الحق ككفالة اللقيط).
من تجب لهم الحضانة
الحضانة تجب للصغير حتى يكبر، وللمجنون والمعتوه إلى أن يفيقا، وللمعاق.
من لا تثبت لهم الحضانة
الحضانة ولاية وكفالة وسلطان، فلا تثبت لهؤلاء اتفاقاً:
1. الطفل.
2. المعتوه.
3. الفاسق.
4. المبتدع.
ولا لهؤلاء، مع اختلاف في ذلك:
1. العبد.
2. الكافر .
3. الأم إذا تزوجت.
قال ابن قدامة رحمه الله: (ولا تثبت الحضانة لطفل، ولا معتوه، لأنه لا يقدر عليها، وهو محتاج إلى من يكفله فكيف يكفل غيره! ولا فاسق، لأنه غير موثوق به في أداء الواجب من الحضانة، ولا حظ للولد في حضانته لأنه ينشأ على طريقته).
المبتدع أشد خطراً على الولد من الفاسق، لأن الفاسق قد يؤثر على سلوك الطفل، ولكن المبتدع يؤثر في اعتقاده، عن طريق تأثيره على عقله الباطن.
مذاهب أهل العلم في حضانة الرقيق
ذهب أهل العلم في ثبوت الحضانة للمملوك مذهبين:
1. لا تثبت له الحضانة، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وبه قال عطاء، والثوري، رحمهم الله.
2. وقال مالك بثبوت الحضانة للرقيق.
قال ابن شاس في "عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة": (ولا يشترط الحرية، بل للأمة حضانة ولدها من زوجها عبداً كان أم حراً).
وقد علل الجمهور، وهم المانعون من حضانة الرقيق، بأن المملوك لا يملك أمر نفسه، فقد يباع، أويمنعه أويشغله سيده عن ذلك ، وهذا تعليل سائغ لعدم ثبوت الحضانة للمملوك، رجلاً كان أوامرأة.
وقال ابن قدامة: (ولا الرقيق، وبهذا قال عطاء، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، وقال مالك في حر له ولد حر من أَمَة: الأم أحق به، إلا أن تباع فتنقل، فيكون الأب أحق بها؛ لأنها أم مشفقة أشبهت الحرة، ولنا، أنها لا تملك منافعها التي تحصل الكفالة بها، لكونها مملوكة لسيدها، فلم يكن لها حضانته كما لو بيعت ونقلت).
مذاهب أهل العلم في حضانة الكافر للمسلم
ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين كذلك:
1. لا حضانة لكافر على مسلم، وهذا مذهب مالك في المشهور عنه، والشافعي، وأحمد.
2. وذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى ثبوت الحضانة للكافر على المسلم.
استدل المانعون لحضانة الكفار للمسلم بأن الحضانة ولاية وسلطنة ولا تحل ولاية الكافر على المسلم ، قال الله تعالى :" ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ".
وإذا منع الفاسق من الحضانة فمن باب أولى وبالأحرى أن يحرم من ذلك الكافر، إذ يخشى أن يطعم الصغير الحرام كلحم الخنزير والخمر، ونحو ذلك.
واستدل المجيزون لحضانة الكافر للمسلم بما رواه أبو داود في سننه عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع بن سنان: "أنه أسلم، وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ابنتي، وهي فطيم، أوشبهه. وقال رافع: ابنتي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقعد ناحية؛ وقال لها: اقعدي ناحية؛ وقال: ادعواها؛ فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهدها؛ فمالت إلى أبيها، فأخذها".
قلت: قوله صلى الله عليه وسلم عندما رأى الصبية تميل إلى أمها الكافرة: "اللهم اهدها"، أقوى دليل على عدم جواز حضانة الكافر للمسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة، فجبر خاطر الأم في أول الأمر بتخيير الصبية، وحسمه بدعائه أخيراً، هذا مع العلم أن الحديث ضعيف.
قال ابن شاس المالكي رحمه الله: (لكن بشرط أن تكون الأم عاقلة، ولا يشترط كونها مسلمة على المشهور، بل للذمية من الحضانة ما للمسلمة إن كانت في حرز، وتمنع أن تغذيهم بخمر أوخنزير، فإن خيف أن تفعل بهم ذلك ضمت بهم إلى ناس من المسلمين، وروى ابن وهب أن لا حضانة لها).
وقال الإمام الماوردي الشافعي في كتابه الحاوي الكبير وهو يعدد شروط الحاضن: (الشرط الثالث : الإسلام في الولد المسلم، فإن كان أحد أبويه كافراً سقطت كفالته بكفره، وقال أبو سعيد الإصطخري: لا تبطل كفالته بكفره، حكاه ابن أبي هريرة عن أبي حنيفة.
إلى أن قال:
وهذا خطأ، لقول الله تعالى: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً"، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك"، ولأن افتراق الأديان يمنع من ثبوت الولاية كما يمنع منها على المال، وفي النكاح، لايؤمن أن يفتنه في دينه، وربما ألف من كفرها ما يتعذر انتقاله عنه بعد بلوغه).
وقال ابن مودود الحنفي: (والذمية أحق بولدها المسلم ما لم يخف عليه الكفر).
قلت: قوله "ما لم يخف عليه الكفر"، هذا الاستثناء لا قيمة له، لأن الخوف من الكفر متوقع من أي كافر، وإلا لا يكون كافراً، وليس لهذا مثل إلا قول القائل:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء(3/67)
علماً أن كل الكفار اليوم محاربون، ولو كانوا يعيشون في بلاد إسلامية، وذلك لعدم تطبيق أحكام أهل الذمة عليهم، ولا أحكام الإسلام على أهله.
وقال ابن قدامة: (ولا تثبت لكافر ـ أي الحضانة ـ على مسلم، وبهذا قال مالك، والشافعي، وسوار، والعنبري، وقال ابن القاسم، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: تثبت له.
إلى أن قال:
ولنا أنها ولاية، فلا تثبت لكافر على مسلم، كولاية النكاح والمال، ولأنها لم تثبت للفاسق فالكافر أولى، فإن ضرره أكثر، فإنه يفتنه عن دينه، ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر، وتزيينه له، وتربيته عليه ، وهذا أعظم الضرر، والحضانة إنما تثبت لحظ الولد، فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه وهلاك دينه، فأما الحديث فقد روي على غير هذا الوجه، ولا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال، قاله ابن المنذر، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنها تختار أباها بدعوته، فكان ذلك خاصاً في حقه).
الذي يحدث في هذا العصر لمن ابتلي بزواج الكافرات، خاصة من يسكن في ديار الكفر، عكس ما عليه الإسلام تماماً، إذ الطفل في تلك البلاد ملك للدولة، سيما إذا حدث فراق بين الزوج والزوجة، فإن الأب يمنع منعاً باتاً من مقابلة أبنائه، دعك عن أخذهم وحضانتهم، فمن عاش في تلك البلاد أوتزوج من نسائها الكافرات فلا يلومن إلا نفسه، لأنه جعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، علماً أنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج الكتابية إلا إذا كانت:
1. ذمية تعيش في ديار الإسلام.
2. وخشي الوقوع في الزنا.
3. طمع في إسلامها.
مذاهب أهل العلم في حق الأم في الحضانة إذا تزوجت
الأم أولى من الأب في حضانة ولدها ما لم تتزوج، فإذا تزوجت فأقوال لأهل العلم:
1. منهم من أثبت لها الحضانة حتى بعد الزواج، إذا قبل زوجها بذلك.
2. ومنهم من لم يثبت لها الحضانة لعدم تفرغها لولدها.
3. ومنهم من أثبت لها حضانة البنت ومنعها من حضانة الولد.
قال ابن قدامة رحمه الله: (إن الأم إذا تزوجت سقطت حضانتها، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ من أهل العلم، قضى به شريح، وهو قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وحكي عن الحسن ـ البصري ـ أنها لا تسقط بالتزويج، ونقل مهنا عن أحمد: إذا تزوجت الأم، وابنها صغير، أخذ منها. قيل له: فالجارية مثل الصبي؟ قال: لا، الجارية تكون معها إلى سبع سنين. فظاهر هذا أنه لم يزل الحضانة عن الجارية لتزوج أمها، وأزاله عن الغلام، ووجه ذلك ما روي أن علياً وجعفراً وزيد بن حارثة تتنازعوا في حضانة ابنة حمزة، فقال علي: ابنة عمي، وأنا أخذتها. وقال زيد: بنت أخي. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين زيد وحمزة، وقال جعفر: بنت عمي، وعندي خالتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخالة أم"، وسلمها لجعفر، رواه أبو داود بنحو هذا المعنى، فجعل لها الحضانة وهي متزوجة، والرواية الأولى هي الصحيحة، قال ابن أبي موسى: وعليها العلم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتِ أحق به ما لم تنكحي"، ولأنه إذا تزوجت اشتغلت بحقوق الزوج عن الحضانة، فكان الأب أحفظ له... وأما بنت حمزة ، فإما قضى بها لخالتها لأن زوجها من أهل الحضانة، ولأنه لا يساويه في الاستحقاق إلا علي ، ولقد ترجح جعفر بأن امرأته من أهل الحضانة، فكان أولى. وعلى هذا متى كانت المرأة متزوجة لرجل من أهل الحضانة كالجدة تكون متزوجة للجد لم تسقط حضانتها).
وقال ابن شاس: (ويشترط أيضاً كونها فارغة، فإن كانت متزوجة، أونكحت ودخلت بطل حقها، إلا إذا كان الزوج جد الطفل، فإنها لا تسقط حضانتها، وقال ابن وهب: تسقط. قال أصبغ والحارث بن مسكين: العمل على ما قال مالك، ولا يؤثر رضى الزوج، ولا يرجع حقها إن طلقت، وقيل يرجع، وإذا كانت في مسكن الزوج، فللزوج ألا يرضى بدخول الطفل داره).
الذي يترجح لدي والله أعلم أن الأم إذا وافقت على حضانة ولدها بعد الزواج وقبل زوجها ذلك فهي أولى، وإن لم يقبل زوجها فقد سقط حقها في ذلك.
والخلاصة
أن كل ما يخاف منه على الولد في بدنه أوأخلاقه في الحال أوالمال يسقط حق الحضانة.
الأولى بحضانة الطفل
إجمالاً، فإن:
1. الأم مقدمة على الأب ما لم تتزوج.
2. جنس النساء مقدم في الحضانة على جنس الرجال.
3. جداته لأمه على جداته لأبيه.
4. تقدم أخواته على إخوته.
5. وخالاته على أخواله.
6. وعماته على أعمامه.
7. الذي يحكم على كل ذلك مصلحة الطفل المحضون.
الأدلة على أن الأم مقدمة على الأب في الحضانة
الأدلة على تقديم الأم على الأب كثيرة، منها:
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأم: "أنت أحق به ما لم تنكحي".
2. وقال أبو بكر الصدق رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه بعد أن حكم بعاصم لأمه أم عاصم: "ريحها، وشمها، ولطفها، خير له منك"، وفي رواية: "من الشهد عندك".
3. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "ريح الأم، وفراشها، وحجرها، خير له من الأب حتى يشب ويختار لنفسه".
الترتيب في الحضانة
1. الأم وإن علت ما لم تتزوج.
2. الأب وإن علا.(3/68)
3. أم الأم وإن علت.
4. وأم الأب وإن علت.
5. الأخت الشقيقة.
6. الأخت لأم وإن سفلت.
7. الأخت لأب.
8. الخالة الشقيقة، ثم لأم، ثم لأب.
9. العمة الشقيقة، ثم لأم، ثم لأب.
ويضبط كل هذا مراعاة مصلحة الطفل، بحيث يقدم الأدنى على الأعلى إذا ترجحت مصلحة الطفل عنده.
قال ابن شاس رحمه الله في اجتماع الحواضن: (والنظر في أطرف:
الأول ـ في النسوة: والأم أولى من سائرهن بالحضانة، ثم أمها، ثم جدة الأم لأمها وإن بعدت، ثم الخالة، واختلف في خالة الخالة، هل هي كالخالة عند فقدها أم لا؟ ثم الجدة لأب، ثم جدة الأب لأبيه، ثم الأخت، ثم بنت الأخت، ثم العمة، ثم بنت الأخ.
الثاني ـ في الذكور: وأولاهم الأب، ثم الأخ، ثم الجد، ثم ابن الأخ، ثم العم، ثم ابن العم، ثم اختلف في الموالي الأعلى والأسفل، هل لهما حق في الحضانة أم لا؟
الثالث ـ في اجتماع الذكور والإناث: ولا شك في تقديم الأم وأمها على جميع الرجال، وتقدم جميع النساء على من عدا الأب من الرجال.
فأما الأب ومن بعد الجدة للأم فقد اختلف أيهم يقدم:
فمذهب الكتاب ـ المدونة ـ أنه يقدم على من سوى الأخت.
وقيل: إن جميع النساء مقدمات عليه.
وقيل: إنه لا يقدم عليه إلا الأم والجدة.
وقيل: الخالة مقدمة عليه ، وهو مقدم على أمه ومن بعدها ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الأم أصلح من الأب، لأنها أرفق بالصغير، وأعرف بتربيته، وحمله، وتنويمه، وأصبر عليه، وأرحم فهي أقدر وأصبر في هذا الموضوع، فتعينت في حق الطفل تميز المخير في الشرع.
ثم قال: ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس له نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقاً، بل لا يقدم المعتدي، أوالمفرط على العادل البار مطلقاً، فكل من قدناه إنما نقدمه إذا حصل به مصلحة الحضانة، واندفعت به مضرتها، فأما مع وجود فساد من أحدهما فالآخر أولى بها بلا ريب).
وقال ابن القيم رحمه الله: (التقديم والتأخير والقرعة، لا تكون إلا إذا حصلت به مصلحة الولد، وكون كل واحد من الوالدين نظير الآخر، فلو كانت الأم أصون من الأب، وأغير منه قدمت عليه، ولا التفات إلى قرعة، ولا تخيير للصبي في هذه الحال، فإن الصبي ضعيف يؤثر البطالة واللعب فيكون عند من هو أنفع له، ولا تتحمل الشريعة غير هذا).
إذا بلغ الصبي المحضون غير المعتوه سبع سنين
إذا بلغ المحضون الصغير غير المعتوه ولا المجنون ولا المعاق سن السابعة فقد ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب، وفصلوا تفصيلات، وفرقوا بين الصبي والصبية، وإليك ملخص أقوالهم:
( أ ) الغلام
ذهب أهل العلم في الغلام إذا بلغ سن السابع ولم يكن معتوهاً ولا مجنوناً ولا معاقاً مذاهب هي:
1. يخير بين أبويه، فمن اختاره كان معه، وقد قضى بذلك عمر، وعلي رضي الله عنهما، وشريح القاضي، وهو مذهب الشافعي وأحمد.
2. وقال مالك: الأم أولى به حتى يثغر.22
3. وقال أبو حنيفة: إذا أكل ولبس، واستنجى بنفسه فالأب أولى به.
استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بالتخيير بالآتي:
• ... بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاماً بين أبيه وأمه.
• ... وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت"، فأخذ بيد أمه فانطلقت به.
• ... وبأن عمر خير غلاماً بين أبيه وأمه.
• ... وروي عن عمارة الجرمي أنه قال: "خيرني علي بين عمي وأمي، وكنت ابن سبع سنين أوثمان.
واستدل المانعون للتخير بأن الصبي لا يمكنه التمييز بين ما فيه مصالحه الدينية والدنيوية، وقد يؤثر في بعض الأحيان من يلعب عنه ويترك تأديبه، وينفر ممن يوجهه ويقوم بتأديبه.
الذين قالوا بالتخيير اشترطوا كذلك شرطين هما:
1. أن يكون الأب والأم من أهل الحضانة، أما إن كان أحدهما ليس من أهل الحضانة فلا حظ له في ذلك.
2. أن لا يكون الصبي معتوهاً أو مجنوناً أو معاقاً.
قال ابن مودود الحنفي: (ويكون الولد عندهن حتى يستغني عن الخدمة، فيأكل وحده، ويشرب وحده، ويلبس وحده، ويستنجي وحده، وقدره أبو بكر الرازي بتسع سنين، والخصاف بسبع اعتباراً للغالب، وإليه الإشارة بقول الصديق رضي الله عنه: هي أحق به حتى يشب؛ ولأنه إذا استغنى احتاج إلى التأدب بآداب الرجال، والتخلق بأخلاقهم، وتعليم القرآن والحرف، والأب على ذلك أقدر، فكان أولى وأجدر).
وقال ابن شاس المالكي: (ثم الأم أولى بالصغير الذكر إلى حيث يبلغ الاحتلام، وقيل إلى حيث يُثْغِر.
وقال ابن الماجشون: إذا استغلظ أو قارب الاحتلام، أوأنبت واسود نباته، فللأب ضمه إلى نفسه).
وقال الإمام الماوردي الشافعي :( وقد اختلف الفقهاء في أي أبويه أحق بكفالته بعد السبق ؟ على ثلاثة مذاهب :(3/69)
أحدها : وهو مذهب الشافعي : أن الولد يخير بينهما ، فيكون مع من اختاره منهما ، سواء كان غلاماً أو جارية ، اختار أباه أو أمه .
والمذهب الثاني: وهو مذهب مالك أن الأم أحق بالغلام والجارية من غير تخيير.
والمذهب الثالث: وهو مذهب أبي حنيفة أن الأم أحق بالجارية والأب أحق بالغلام).
وقال ابن قدامة بعد ذكر الآثار السابقة مرجحاً التخيير: (وهذه قصص في مظنة الشهرة، ولم تنكر، فكانت إجماعاً، ولأن التقديم في الحضانة لحق الولد، فيقد من هو أشفق، لأن حظ الولد عنده أكثر، واعتبرنا الشفقة بمظنتها إذا لم يمكن اعتبارها بنفسها، فإذا بلغ الغلام حداً يعرب عن نفسه، ويميز بين الإكرام وضده فمال إلى أحد الأبوين ، دل على أنه أرفق به ، وأشفق عليه ، فقد بذلك).
الذي يترجح لدي أن التخيير هو الحل الأمثل لفض النزاع بين الأب والأم، ولهذا يصار إليه، إذ ليس هناك طريقة أفضل منه لفض النزاع والله أعلم.
(ب) البنت
أما البنت بعد السابعة إن لم تكن معتوهة أو مجنونة أو معاقة ففيها مذاهب هي:
1. الأحناف: تكون الجارية عند الأم والجدة لأم حتى تحيض، وعند غيرهما حتى تستغني، وقيل حتى تشتهى، وعللوا ذلك بأنها تحتاج إلى التأدب بآداب النساء، وتعلم أشغالهن، والأم أقدر على ذلك.
2. المالكية: تكون عند أمها حتى تتزوج ويدخل بها زوجها
3. الشافعية: تخير كما يخير الغلام.
4. الحنابلة: لهم روايتان:
1. المشهور منهما أن حضانة البنت بعد السبع تكون عند أبيها
2. تكون لأمها
الذي ينبغي أن يراعى في الحضانة للصغير والمعتوه المصلحة، فمن ترجحت مصلحته عند أحد الأبوين وجب أن يصار إليها.
قال الشيخ البسام: (قال الفقهاء الحنابلة: إذا تمت البنت سبع سنين ، صارت حضانتها لأبيها حتى يتسلمها زوجها ، لأنه أحفظ لها، فإن كان الأب عاجزاً عن حفظها، أويهملها لاشتغاله عنها، أو قلة دينه، والأم قائمة بحفظها قدمت.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا قدر أن الأب تزوج بضرة، وتركها عند الضرة، لا تعمل لمصلحتها، بل ربما تؤذيها، وتقصر في مصلحتها، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها فالحضانة للأم قطعاً ، نظر للمصلحة إذ هو المقصود من الحضانة).
تنبيهات
الأول: الذي يقولون بتخيير الغلام والجارية بعد السابعة يقولون متىاختار أحدهما يُسلم إليه، ثم إذا اختار الآخر رد إليه، وإن عاد واختار الأول رد إليه، وهكذا.
الثاني: إذا كان الولد عند الأم يكون عندها ليلاً وبالنهار يكون مع أبيه، أما البنت فإذا كانت مع أي أحد من الأبوين أوغيرهما بقيت عنده ليلاً ونهاراً.
الثالث: لا ينبغي لأحد الأبوين أن يمنع المحضون من زيارة الآخر.
الرابع: إذا مرضت البنت فأمها أولى بتمريضها، فإن كانت عندها تولت ذلك، وإن كانت عند أبيها أو غيره ردت لأمها.
الخامس: إذا سافر أحد الأبوين، دون الآخر فالمقيم أولى بالحضانة من المسافر، هذا إذا لم يكن الطريق والبلد آمناً، أما إذا كان البلد آمناً وكذلك الطريق فالأب أحق بالمحضون من الأم؛ ولا ينبغي للأب أن يحتال بالسفر ليحرم الأم من الحضانة.
السادس : النفقة على المحضون قصر على الأب، أومن يحل محله عند موته أوعجزه، وذلك بتوفير:
1. الأكل والشرب.
2. الملابس.
3. الغسيل.
4. العلاج.
5. السكن ما ينوب المحضون منه.
ويحكم كل ذلك ما تعارف عليه الناس، وحسب عادتهم، ويختلف ذلك بحال الأب عسراً ويسراً.
قال ابن شاس المالكي، تحت عنوان "في المستحق للمحضون الفقير على أبيه الملي": (وذلك ما يأكله ويشربه، ويفتقر إليه من غسل، ومؤونة، ويلزم إخدامه إذا كان يليق بمثله.
وقيل : لا تلزم الخدمة .
وكذلك الخلاف في السكنى، والمشهور وجوبها للحاجة إليها، ورأى في الشاذ أنه فيها تبع.
ويتفرع على المشهور فرعان: الأول: هل تلزم أجرة جميع المنزل، أوما ينوب الولد؟ في ذلك قولان.
الفرع الثاني وهو مرتب على الأول، إذ قلنا: الواجب ما ينوب الولد، هل بقدر الانتفاع، أوعلى عدد الرؤوس؟ فيه قولان أيضاً).
هذا إذا كان المحضون فقيراً، أما إذا كان وارثاً غنياً فالنفقة من ماله.
إذا أسقطت الأم النفقة عن الأب مقابل أن تخص بالحضانة فلا يحق لها المطالبة بالنفقة بعد
إذا أسقطت الأم النفقة على المحضون مقابل أن تنفرد بالحضانة فليس لها المطالبة بذلك في المستقبل ، وللأب أن ينزع منها الطفل، فالمسلمون عند شروطهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا أخذت الأم الولد على أن تنفق عليه، ولا ترجع على أبيه بما أنفقته مدة الحضانة، ثم أرادت أن تطالب بالنفقة في المستقبل فللأب أن يأخذ الولد منها أيضاً، فإنه لا يجمع لها بين الحضانة في هذه الحال، ومطالبة الأب بالنفقة مع ما ذكرنا بلا نزاع، لكن لو اتفقا على ذلك، فهل يكون العقد لازماً بينهما؟ هذا فيه خلاف، والمشهور في مذهب مالك أنه لازم.
قال في شرح الإقناع: ومن أسقط حقه في الحضانة سقط لإعراضه عنه، وله العود في حقه متى شاء، لأنه يتجدد بتجدد الزمان، كالنفقة.(3/70)
السابع: إذا أخذ الولد من الأم بعد زواجها، ثم طلقت أو مات عنها زوجها رُدّ إليها.
الثامن: إذا أبت الأم إرضاع الولد إلا بأجرة فلها أجرة المثل، وإن تمنعت عن إرضاعه بأجرة أوبغيرها للأب أن يسترضع لولده غيرها.
التاسع: تنتقل الحضانة إذا لم يوجد أحد الأقربي إلى:
1. باقي العصبة: الأقرب فالأقرب ، فتقدم الإخوة على بنيهم، ثم الأعمام ثم بنوهم، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم، وهكذا .
2. ثم تنتقل الحضانة إلى ذوي الأرحام من الذكور والإناث، وأولاهم أبو أم ، ثم أمهاته، فالأخ لأم، فالخال.
3. ثم تنتقل إلى الحاكم لعموم ولايته.
العاشر : إذا كانت المحضونة أنثى فيعتبر أن يكون العاصب من محارمها، ولو من رضاع أومصاهرة، إن تم لها تسع سنين، فإن لم يكن العاصب المستحق للحضانة محرماً، سلمها لثقة يختارها، أو إلى محرمه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
=================000000
الغيرة
أولاً : الغيرة المحمودة
الغيرة على محارم الله
الغيرة والتنافس في أعمال الخير والبر
الغيرة على الأعراض والحريم
ثانياً : الغيرة المذمومة
علاج الغيرة المذمومة
الحمد لله الذي أعطى كل نفس خلقها وهداها، وفجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد صاحب النفس الزكية والخلق الرضية والمناهج السوية، وعلى آله وصحبه الغيورين الأصفياء، البررة الأتقياء، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يبعثون.
ثم أما بعد ...
فإن النفس البشرية عالم غريب، وسر عجيب، حيث تتفاوت النفوس تفاوتاً عجيباً وتختلف اختلافاً كبيراً، منها ما هو في الثرى، ومنها ما هو في الثريا، فهناك نفوس زاكية مطمئنة، بينما هناك نفوس أمارة مضمحلة، ولله در ابن القيم حيث قال: (سبحان الله، في النفس: كِبْر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل، وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجُعْل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسق الفارة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، غير أن الرياضة والمجاهدة تُذْهب ذلك، فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند ولا تصلح سلعته لعقد لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم.
انظر وقارن بين ما قاله هابيل في رده على قابيل وقد قال له: "لأقتلنك" قال: "إنما يتقبل الله من المتقين لإن بسطتَ إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يديَ إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين".1
وبين ما قاله يوسف الصديق لإخوته: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين"2، وقد ألقوه في الجب، وهموا بقتله، وحالوا بينه وبين أبيه وأهله.
وبين ما قاله الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم لأهل مكة وقد دخلها فاتحاً منتصراً: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، قال ذلك لمن أخرجوه وأذوه وأرادوا قتله هو وأصحابه، تعلم تباين النفوس، وتفاوتها، واختلافها.
ومن الأمور التي تتفاوت فيها النفوس، وتتباين، وتختلف اختلافاً كبيراً، الغيرة، فمن الناس من يغار لله ولرسوله ولمحارمه وعرضه ومنهم من يغار لنفسه وشهواته.
والغيرة هي ثوران النفس لخير كان أم لشر، بسبب الحمية والأنفة، أوالتنافس والحسد.
والغيرة نوعان:
• ... نوع يحبه الله ورسوله، وهي الغيرة المحمودة.
• ... ونوع يكرهه الله ورسوله، وهي الغيرة المذمومة.
ولكل من هذين النوعين صور عدة، وأشكال شتى، ومواقف مختلفة.
?
أولاً : الغيرة المحمودة
الغيرة على محارم الله
أفضل أنواع الغيرة وأحسنها الغيرة على محارم الله، حيث يغضب المرء ويثور إذا انتهكت المحارم، واقترفت الآثام، وتعديت الحدود.
وأشد الناس غيرة بعد الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال عندما تعجب أصحابه من غيرة سعد بن عبادة: "أتعجبون من غيرة سعد، فأنا أغير منه والله أغير مني، ومن غيرته أن حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن".
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو إمام الغيورين حيث كان لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله عز وجل، وكان لا يداهن ولا يجامل في ذلك أبداً، فعن أبي هريرة قال: "قيل يا رسول الله ، أما تغار؟ قال: والله إني لأغار، والله أغير مني، ومن غيرته نهى عن الفواحش"، وقالت عائشة: "ما خُيِّر رسول الله بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى".3
ولهذا غضب غضباً شديداً على حبه، وابن حبه أسامة بن زيد عندما جاء ليشفع في تلك المرأة المخزومية، وقال له: "أتشفع في حد من حدود الله؟! والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".(3/71)
والغيرة على محارم الله هي سمة عباد الله الصالحين، وجنده المفلحين.
الغيرة والتنافس في أعمال الخير والبر
قال تعالى: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار"، ومن ذلك تنافس الفقراء عندما جاءوا إلى رسول الله وقالوا: "ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا، والنعيم المقيم.." الحديث.
ومن ذلك أيضاً تنافس الصحابة على الجهاد والإنفاق ومحاولة مسابقة عمر لأبي بكر.
الغيرة على الأعراض والحريم
من الغيرة المحمودة التي يحبها الله ورسوله والمؤمنون الغيرة على الحريم والأعراض، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً"، وقال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهل بيته وهو مسؤول"، ولله در القحطاني حيث قال في نونيته:
إن الرجال الناظرين إلى النساء مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحومَ أسودُها أُكِلت بلا عوض ولا أثمان
كان الصحابة رضي الله عنهم أشد الناس غيرة على محارمهم وأكثرهم حفظاً لأعراضهم يمثل ذلك أصدق تمثيل ما قاله سعد بن عبادة عندما نزل قوله: "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة"، قال سعد: أهكذا نزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله : يا معشر الأنصار أتسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، ولا طلق امرأة قط فاجترأ أحد منا أن يتزوجها من شدة غيرته. قال سعد: يا رسول الله إني لأعلم أنها حق، وإنها من الله، ولكني قد تعجبت أن لو وجدت لكاعاً، قد تفخذها رجل، لم يكن لي أن أهيجه، ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته"، وفي رواية: "فقال يا رسول الله إن وجدتُ على بطن امرأتي رجلاً أضربه بسيفي"، أو كما قال.
وكان عمر والزبير رضي الله عنهما غاية في الغيرة على الأعراض والحريم، وقد كانا يغاران من خروج نسائهما إلى المسجد، دعك من الخروج إلى الأسواق والشوارع والمنتزهات.
?
ثانياً : الغيرة المذمومة
الغيرة المذمومة سببها التنافس والحسد على أعراض شخصية وأمور دنيوية، وهي أنواع منها:
• ... الغيرة والتنافس بين أصحاب المهنة الواحدة، كالتجار، والحدادين، والنجارين، ونحوهم، فما من أصحاب مهنة واحدة إلا وتجد بينهم تنافساً وحسداً إلا من رحم الله.
• ... الغيرة والتنافس من أصحاب النعم، ولذا قالوا: "كل ذي نعمة محسود".
• ... الغيرة بين الأنداد، فالمعاصرة سبب للمنافرة، وأسوأ هذا النوع الغيرة بين العلماء، ونعني بذلك علماء السوء، أما العلماء الربانيون فلا يتنافسون ولا يتحاسدون، لأنهم يعلمون أن أجرهم و نوالهم من الله ذي النوال العظيم والخير العميم.
• ... الغيرة بين الضرائر خاصة، والنساء عامة، والأطفال، ومردُّ ذلك إلى الأثرة، وحب الذات، والحرص، والطمع؛ والغيرة بين الضرائر غريزة طبيعية وسجية نفسية، ولو برئت منها ضرة لبرئت منها أمهات المؤمنين، وزوجات رسول رب العالمين، فقد كانت عائشة تغار من خديجة وهي لم ترها؛ وسبب الغيرة بين الضرائر هو الحب للزوج.
• ... ونحو الغيرة بين الأمهات، والزوجات، والأخوات.
• ... الغيرة بين الأبناء.
• ... والمبالغة في الغيرة على الحريم والأعراض حيث تصل إلى درجة الوهم.
?
علاج الغيرة المذمومة
مما لا شك فيه أن لكل داء دواء إلا أدواء معلومة وأمراض مفهومة، منها الموت، والهرم، والحماقة، والحسد؛ فالغيرة المذمومة لها أسباب كثيرة ومختلفة، منها ما يمكن تجنبه والحذر منه، كل هذا بعد دعاء الله وتوفيقه، ومنها ما لا سبيل لعلاجه.
من تلك الأسباب التي تولد الغيرة المذمومة ، والتنافس القبيح، والتي يمكن تداركها خاصة بين الضرائر والأبناء، و بين الأمهات والآباء والأخوان والأخوات من ناحية، والزوجات من ناحية أخر، ما يلي:
أولاً: العدل والإنصاف، وعدم المحاباة في القسمة والإنفاق بين الزوجات والأبناء، فقد كان يعدل ويقسم ويتحرى الإنصاف ومع ذلك يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، ويعني بذلك الحب وما ينتج عنه فهو أمر قلبي لا يستطيع المرء التحكم فيه، فكان يعدل بين أزواجه في المبيت، والنفقة، والسفر، حيث كان يقرع بينهن، والمراد بالعدل بين الزوجات و الأولاد في النفقة أن يعطي كلاً منهم ما يحتاجه، وليس المراد التسوية في كل شيء، فما تحتاجه الزوجة الشابة من الملابس والزينة لا تحتاجه الكبيرة، وما يكفي الزوجة ذات الأولاد يختلف مما يكفي امرأة لها ولد واحد أو لم تلد بعد.(3/72)
ثانياً: العدل في المعاشرة، والمعاملة، والتبسم، والضحك، وبشاشة الوجه، بين الزوجات، وبين الأولاد، فكان صلى الله عليه وسلم إذا وضع حسناً في فخذه اليمنى وضع حسين على فخذه اليسرى، وكانا يركبان على ظهره الشريف في وقت واحد.
ثالثاً: في المنحة والهبة، فلا يحل له أن يهب لإحدى زوجاته دون الأخريات ولا لأحد أبنائه دون الآخرين، فقد جاء بشير بن سعد ليشهد الرسول صلى الله عليه وسلم على ما منح ابنه النعمان. قال له: أكل بنيك منحت هكذا؟ قال: لا. فقال له: لا تشهدني على جور، أشهد على ذلك غيري؛ إلا إذا كان هناك ما يوجب ذلك من مرض، أوعاهة، أوكثرة عيال، ونحو ذلك، فقد منح ابن عمر أحد أبنائه دون غيره لكثرة عياله، والله أعلم.
واعلم أن الحيف والظلم والمحاباة لها آثار خطيرة ونتائج وخيمة في الدنيا قبل الآخرة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لبشير بن سعد: "ألا تحب أن يكونوا لك في البر سواء ؟".
أما بالنسبة للحيلولة بين الغيرة والتنافس بين أهل الزوج وزوجته وأبنائه، فالأمر يحتاج إلى حكمة وحنكة وحسن تصرف من الزوج، حيث يعطي كل ذي حق حقه من غير إفراط ولا تفريط، وألا يسمح لزوجته بالتدخل فيما يخص أهله، وألا يجعل أهله رقباء على زوجته مع وجوده، وعليه ألا يتأثر بما يقول أحد الطرفين في الآخر.
واحذر أخي الحبيب أن تكون ممن يبر زوجته ويعق أمه، ويدني صديقه ويباعد أباه وأخاه.
والله أسأل أن يحبِّب إلينا الإيمان، ويزينه في قلوبنا، ويكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وصلى الله وسلم على خاتم الرسل والنبيان.
=================00
المحرمات من النساء
أسباب التحريم
أدلة التحريم
القسم الأول : المحرمات على التأبيد
القسم الثاني : المحرمات على التأجيل والتوقيت
الرضاع المحرم
لبن الفحل
تحريم بنت الزوجة التي دخل بأمها سواء كانت ربيبة أم ل
البنت لا تحرم بمجرد العقد على الأم، بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد على البنت
الجمع بين الأختين
من كانت له أمتان فكان يطأ إحداهما فأراد أن يطأ الآخرة
من ملك أمة أو اشتراها
الوطء بالزنى هل يحرم أم لا ؟
الوطء بالزنى هل يحرم أم لا ؟
زواج الرجل بنته أوأخته أوبنت ابنه من الزنا
التحريم باللواط
تحريم حليلة الابن سواء كان من نسب أو رضاع
إذا طلق الرجل امرأة يملك رجعتها
قاعدة من تحرم الجمع بينهما
كره بعض أهل العلم الجمع بين الآتي من النساء من غير تحريم
في الجملة يجوز للرجل أن يجمع بين المرأتين إذا كان بينهما حرمة بلا نسب أونسب بلا حرمة
ما يباح من النساء
عقوبة من تزوج إحدى محارمه أو جمع بين من لا يحل له الجمع بينهن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الإسلام دين الفطرة، ولهذا فإن كل تشريعاته وأوامره ونواهيه موافقة للفطرة السليمة "فطرة الله التي فطر الناس عليها" غير مصادمة لها، ولهذا حرم الزواج من القرابات القريبة، كالأم وإن علت، والبنت وإن سفلت، لأن الطباع السليمة تنفر من ذلك غاية النفور، وتأباه كل الإباء، ولا تألف معاشرة هؤلاء معاشرة زوجية.
كذلك فإن الإسلام حريص كل الحرص على أن تكون العلائق بين أفراد المجتمع عامة، والأسرة خاصة، يسودها الود، وتميزها المحبة، لهذا سد كل الذرائع التي يمكن أن تضعف هذه العلاقة أو تؤدي إلى قطيعتها بين أفراد الأسرة الواحدة، من أجل ذلك حرم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
ومن أهل العلم من كره من غير تحريم الجمع بين بنتي العم أو الخال لذات السبب ؛ فالعلة إذاً والحكمة في نهي الرجل أن يتزوج بعض النساء أو أن يجمع بين بعضهن راجعة لهذين السببين:
1. عدم مصادمة الفطر السليمة والطباع المستقيمة.
2. الحرص على أن تسود العلاقات الطيبة والصلات الحسنة بين أفراد الأسرة الواحدة.
وبعد..
فهذا بحث عن المحرمات من النساء، عن أسباب التحريم، وأقسامه، وعن أدلته، وعلله، وعن حكم من تعاطى شيئاً من ذلك إن جهلاً أو عمداً.
والله أسأله أن يهدي جميع إخواننا المسلمين للعمل بكتابه، واتباع سنة نبيه ، وهدي أصحابه وأتباعه، وأن يجنبنا الأهواء المضلة، والبدع المذلة، والطرق المضمحلة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على من تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
فنقول وبالله التوفيق:
أسباب التحريم
1. النسب.
2. الرضاع.
3. المصاهرة.
4. الإحصان.
5. الشرك.
6. إن كانت تحته أربع نسوة.
7. اللعان.
أدلة التحريم(3/73)
1. قوله تعالى: "حُرِّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً. والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم".
2. وقوله :" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ".
3. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة".
وفي رواية: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب".
4. وعن جابر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أوعلى خالتها".
5. قوله صلى الله عليه وسلم لقيلان بن سلمة حين أسلم، وكان تحته عشرة نسوة: "أمسك أربعاً وفارق سائرهن".
نوعا التحريم
المحرمات في النكاح قسمان أو نوعان هما:
1. تحريم مؤبد لا يزول أبداً، كتحريم البنت، والأم، والأخت.
2. وتحريم مؤقت مؤجل يزول بزوال السبب، كالجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها أوخالتها، فإذا طلق الأولى وانقضت عدتها أوماتت حلت له الأخت، والعمة، والخالة.
القسم الأول : المحرمات على التأبيد
أ. من النسب سبع، هن:
1. الأم وإن علت، من جهة الأب ومن جهة الأم.
2. البنت وإن سفلت.
3. الأخت شقيقة ، أو لأب أو لأم.
4. بنت الأخ، شقيقاً كان، أم لأب، أم لأم، وإن نزلت.
5. بنت الأخت ، شقيقة كانت، أم لأب، أم لأم، وإن نزلت.
6. العمة ، لأبوين، أو لأب، أو لأم.
7. الخالة لأبوين، أو لأب، أو لأم.
ب. من الرضاع سبع، وهن:
1. الأم من الرضاع.
2. البنت من الرضاع.
3. الأخت من الرضاع.
4. بنت الأخ من الرضاع.
5. بنت الأخت من الرضاع.
6. العمة من الرضاع.
7. الخالة من الرضاع.
ج. من المصاهرة ست، وهن:
1. زوجة الأب وإن علا.
2. زوجة الابن للصلب وإن سفل.
3. أم الزوجة وإن علت.
4. الربيبة ـ وهي بنت الزوجة التي دخل بها.
5. الملاعِنة.
6. المشركة، شيوعية كانت، أووثنية، أومجوسية.
القسم الثاني : المحرمات على التأجيل والتوقيت
وهن إحدى عشرة امرأة:
1. أخت الزوجة لأبوين، أولأب أولأم .
2. عمة الزوجة من نسب أورضاع، لأبوين، أولأب، أولأم.
3. خالة الزوجة من نسب أورضاع، لأبوين، أولأب، أولأم.
4. بنت أخت الزوجة من نسب أورضاع ، لأبوين ، أولأب، أولأم.
5. زوجة الغير.
6. المشركة، شيوعية، أوبوذية ، أومجوسية ، أووثنية.
7. الزوجة الخامسة لمن في عصمته أربع زوجات.
8. المطلقة التي لم تنقض عدتها، لقوله تعالى: "ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله".
9. المعتدة.
10. الزانية حتى تتوب.
توضيحات مهمة
أولاً : الرضاع المحرم
الرضاع المحرم هو:
1. الذي يكون في الصغر في الحولين.
2. ولو مصة واحدة.
وقال الشافعي: خمس رضعات. وشذت طائفة وقالت: لا تحرم إلا عشر رضعات، وشذ الليث ابن سعد حيث قال: إن رضاع الكبير يوجب التحريم.
والدليل على أن الرضاع المحرم هو الذي يكون في الصغر ، ولو مجة أو مجتين، ما خرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل، فكأنه تغير وجهه، كأنه كره ذلك، فقالت: إنه أخي. فقال: انظرن ما إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة".
قال القرطبي رحمه الله: (التحريم بالرضاع إنما يحصل إذا اتفق الإرضاع في الحولين.. ولا فرق بين قليل الرضاع وكثيره عندنا، إذا وصل إلى الأمعاء، ولو مصة واحدة، واعتبر الشافعي في الإرضاع شرطين: أحدهما خمس رضعات لحديث عائشة قالت: "كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرِّمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله وهن مما يقرأ في القرآن".. وفي حديث سهلة: "أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن". الشرط الثاني أن يكون في الحولين، فإن كان خارجاً عنهما لم يحرم لقوله تعالى: "حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وليس بعد التمام والكمال شيء، واعتبر أبو حنيفة بعد الحولين ستة أشهر، ومالك شهر واحد و نحوه.. وانفرد الليث ابن سعد من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم، وهو قول عائشة رضي الله عنها، وروي عن أبي موسى الأشعري. وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك، وهو ما رواه أبو حصين عن أبي عطية قال: قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت فتورم ثديها، فجعل يمصه ويمجه، فدخل في بطنه جرعة منه، فسأل أبا موسى، فقال: بانت منك، وآت ابن مسعود فأخبره. ففعل، فأقبل بالأعرابي على أبي موسى، فقال: أرضيعاً ترى هذا الأشمط! إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم. فقال الأشعري: لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم.(3/74)
إلى أن قال: لا يحرم إلا بثلاث رضعات، واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان"، خرجه مسلم. وهو مروي عن عائشة، وابن الزبير، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وهو تمسك بدليل الخطاب، وهو مختلف فيه، وذهب من عدا هؤلاء من أئمة الفتوى إلى أن الرضعة الواحدة تحرم إذا تحققت كما ذكرنا، مستمسكين بأقل ما ينطلق عليه اسم الرضاع، وعضد هذا بما وجد من العمل عليه بالمدينة، وبالقياس على الصهر).
وقال في عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير: (ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة: فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع، لعموم هذه الآية. هذا قول مالك، ويحكى عن ابن عمر، وإليه ذهب سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والزهري. وقال آخرون: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات).
ثانياً : لبن الفحل
ذهب أهل العلم في تحريم لبن الفحل مذهبين:
1. الجمهور قالوا بتحريم لبن الفحل.
2. ذهبت طائفة من السلف إلى أن لبن الفحل لا يحرم، وإنما التحريم قاصر على الأم.
استدل الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة بحديث عائشة رضي الله عنها: "أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب، فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت ، فأمرني أن آذن له".
وصورة المسألة تتضح برجل له امرأتان، أرضعت إحداهما صبياً، والأخرى صبية، فالجمهور قالوا : يحرم على الصبي تزوج الصبية، لأنها أخته من الرضاع، وقال من خالفهم: يجوز لهذا الصبي أن يتزوج هذه الصبية.
جاء في كتاب عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير: (ثم اختلفوا: هل يحرم لبن الفحل كما هو قول الجمهور الأئمة الأربعة وغيرهم؟ أو إنما يختص الرضاع بالأم، ولا ينتشر إلى ناحية الأب، كما هو قول لبعض السلف؟ على قولين).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث عائشة السابق: (وفي الحديث أن لبن الفحل يحرم فتنتشر الحرمة لمن ارتضع الصغير لبنه، فلا تحل له بنت زوج المرأة التي ارتضعته من غيرها مثلاُ، وفيه خلاف قديم حكي عن ابن عمرو، وابن الزبير، ورافع بن خديج، وزينب بنت أم سلمة وغيرهم، ونقله ابن بطال عن عائشة وفيه نظر، ومن التابعين عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، والقاسم، وسالم، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبي قلابة، وإياس بن معاوية، أخرجها ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وعن ابن سيرين: "نبئت أن ناساً من أهل المدينة اختلفوا فيه"، وعن زينب بنت أم سلمة أنها سألت والصحابة متوافرون، وأمهات المؤمنين فقالوا:" الرضاعة من قِبل الرجل لا تحرم شيئاً"، وقال به من الفقهاء: ربيعة الرأي، وإبراهيم بن علية، وابن بنت الشافعي، وداود وأتباعه، وأغرب عياض ومن تبعه في تخصيصهم ذلك بداود وإبراهيم مع وجود الرواية عمن ذكرنا، وحجتهم في ذلك قوله تعالى: "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" ولم يذكر العمة ولا البنت كما ذكرهما في النسب. وأجيبوا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ولا سيما وقد جاءت الأحاديث الصحيحة. واحتج بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟ والجواب أنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه وأيضاً فإن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معاً، فوجب أن يكون الرضاع منهما كالجد، لما كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به ، لتعلقه بولده، وإلى هذا أشار ابن عباس بقوله في هذه المسألة: "اللقاح واحد"، أخرجه ابن أبي شيبة، وأيضاً فإن الوطء يدر اللبن فللفحل فيه نصيب.
وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار كالأوزاعي في الشام، والثوري وأبي حنيفة وصاحبيه في أهل الكوفة، وابن جريج في أهل مكة ، ومالك في أهل المدينة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأتباعهم إلى أن لبن الفحل يحرم وحجتهم هذا الحديث الصحيح).
والصواب ما ذهب إليه الأئمة الأربعة وجمهور أهل العلم، أن لبن الفحل يحرم كما يحرم لبن الأم، لهذا الحديث الصحيح الصريح، فقد خصص الآيات والأحاديث الأخر وأبطل كل قياس، إذ لا قياس مع نص صحيح صريح، والله أعلم.
ثالثاً : تحريم بنت الزوجة التي دخل بأمها سواء كانت ربيبة أم لا
قال تعالى: "وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، فالربائب جمع ربيبة وهي بنت المرأة من غيره، فهذه تحرم على زوج أمها، سواء كانت ربيبة أي تربت معه في البيت أم لا، لأن لفظ الربيبة خرج مخرج الغالب.. وهذا مذهب العامة من أهل العلم، وشذ الظاهرية وقالوا إن الربيبة لا تحرم على زوج أمها إلا إذا كانت في حجره.(3/75)
ودليل العامة أن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: "قلت: يا رسول الله ، هل لك في بنت أبي سفيان؟ قال: فأفعل ماذا؟ قلت: تنكح. قال: أتحبين؟ قالت: لست لك بمخلية، وأحب من شركني فيك أختي. قال: إنها لا تحل لي. قالت: بلغني أنك تخطب. قال: ابنة أم سلمة؟ قالت: نعم. قال: لو لم تكن ربيبتي ما حلت لي، أرضعتني وإياه ثويبة. فلا تعرضن علي بناتكن وأخواتكن"، وقال الليث: حدثنا هشام: "درة بت أم سلمة".
والشاهد أنها لم تكن في حجره صلى الله عليه وسلم.
جاء في عمدة التفسير للحافظ ابن كثير: (فجمهور الأمة على أن الربيبة حرام، سواء كانت في حجر الرجل، أولم تكن في حجره، قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، كقوله تعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً".
ثم ذكر حديث أم حبيبة السابق، وقال: فجعل المناط في التحريم مجرد تزويجه أم سلمة، وحكم بالتحريم لذلك، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، وجمهور الخلف والسلف. وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل، فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم. وروى ابن أبي حاتم عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: "كانت عندي امرأة فتوفيت، وقد ولدت لي، فوجدت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب، فقال: مالك ؟ فقلت: توفيت المرأة. فقال علي: لها ابنة؟ قلت: نعم، هي بالطائف. قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي بالطائف. قال: فانكحها. قلت: فأين قول الله "وربائبكم اللاتي في حجوركم"؟ قال: إنها لم تكن في حجرك، إنما ذلك إذا كانت في حجرك"، وإسناده قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم. وهو قول غريب جداً، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه، وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك، واختاره ابن حزم، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية، فاستشكله، وتوقف في ذلك).
لله در الحافظ ابن حجر، حيث قال بعد أن ذكر بعض الأدلة التي استدل بها أهل الظاهر: (ولولا الإجماع الحادث في المسألة، وندرة المخالف لكان الأخذ به أولى، لأن التحريم جاء مشروطاً بأمرين: أن تكون في الحجر، وأن يكون الذي يريد التزوج قد دخل بالأم، فلا تحرم بوجود أحد الشرطين).
والراجح والله أعلم أن بنت المرأة لا تحل لزوج أمها سواء كانت تربت في حجره أم لا، وسواء كانت ربيبة من زوجة أوفي ملك يمين.
قال ابن عبد البر: (لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها من ملك اليمين، لأن الله حرم ذلك في النكاح، قال: "وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم"، وملك اليمين عندهم تبع للنكاح، إلا ما روي عن ابن عمر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أهل الفتوى ولا من تبعهم).
رابعاً: البنت لا تحرم بمجرد العقد على الأم، بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد على البنت
الضمير في قوله تعالى: "من نسائكم اللاتي دخلتم بهن" يرجع إلى الربائب وليس إلى الأمهات، لأنه أقرب مذكور، ولهذا ذهب العامة من أهل العلم إلى أن البنت لا تحرم بمجرد العقد على الأم، بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد على البنت، وقد زعم البعض أن الضمير يرجع إلى الأمهات مع الربائب.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وقد فهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب، فقال: لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها لقوله: "فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم"، وروى ابن جرير عن علي، في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها، أيتزوج أمها؟ قال: هي بمنزلة الربيبة. وروي عن زيد بن ثابت قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج بأمها. وهذا القول مروي عن علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير، ومجاهد، وابن جبير، وابن عباس، وقد فيه معاوية. وذهب فيه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد الصابوني.
وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم، بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد. وهذا مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، وجمهور الفقهاء قديماً وحديثاً، ولله الحمد والمنة. قال ابن جرير: والصواب قول من قال: الأم من المبهمات، لأن الله لم يشرط معهن الدخول، كما شرط ذلك مع أمهات الربائب، مع أن ذلك أيضاً إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه).
وقال القرطبي رحمه الله: (قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع، إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم، وبهذا قال جميع أئمة الفتوى بالأمصار. وقالت طائفة من السلف: الأم والربيبة سواء، لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى).
خامساً : الجمع بين الأختين
يحرم الجمع بين الأختين، سواء كانتا:
1. من نسب، شقيقات، أولأب ، أولأم.
2. أومن الرضاع.
3. أومن ملك يمين.(3/76)
هذا ما عليه العامة من أهل العلم، وانفرد البعض، وقال نفر من السلف بأنه يجوز الجمع بين الأختين من ملك اليمين سواء كان بزواج أو بوطء .
ودليل العامة قوله تعالى: "وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" الآية، ولحديث أم حبيبة السابق، ولا يجوز له أن يعقد على أختها إلا إذا طلقها وانقضت عدتها أوماتت.
قال الحافظ ابن حجر: (والجمع بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع، سواء كانت شقيقتين، أم من أب، أم من أم، وسواء النسب والرضاع، واختلف فيما إذا كانتا بملك يمين، فأجازه بعض السلف، وهو رواية عن أحمد، والجمهور وفقهاء الأمصار على المنع، ونظيره الجمع بين المرأة وعمتها أوخالتها).
وقال القرطبي: (والأختان لفظ يعم الجميع بنكاح وبملك يمين، وأجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية، وقوله عليه السلام: "لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن"، واختلفوا في الأختين بملك اليمين، فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بملك اليمين في الوطء، وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع، وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة، واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها، فقال الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها. وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت. قال أبو عمر: من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه، ومن جعله كالوطء لم يجزه. وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد على أخت الزوجة، لقوله تعالى: "وأن تجمعوا بين الأختين" يعني الزوجتين بعقد النكاح.
ثم قال: وشذ أهل الظاهر فقالوا: يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما يجوز الجمع بينهما في الملك، واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين: "حرمتهما آية، وأحلتهما آية" ذكره عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن قبيصة بنت ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن أختين مما ملكت اليمين، فقال: لا آمرك، ولا أنهاك، أحلتهما آية وحرمتهما آية. فخرج السائل فلقي رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال معمر: أحسبه قال علي. قال: وما سألت عنه عثمان؟ فأخبره بما سأله وبما أفتاه، فقال له: لكني أنهاك، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالاً. وذكر الطحاوي والبيهقي عن علي وابن عباس مثل قول عثمان. والآية التي أحلتهما قوله تعالى: "وأحل لكم ما وراء ذلكم"، ولم يلتفت أحد من أهل الفتوى إلى هذا القول، لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل. وممن قال ذلك من الصحابة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وعثمان، وابن عباس، وعمار، وابن عمر، وعائشة، وابن الزبير، وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله، فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل. وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك، وجعل مالكاً فيمن كرهه، ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك، وكذلك الأم وابنتها.
قال ابن عطية: ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء، وتستقرأ الكراهية من قول مالك: أنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ الأخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما فلم يلزمه حداً.
قال أبو عمر ـ ابن عبد البر ـ: أما قول علي: "لجعلته نكالاً"، ولم يقل لحددته حد الزنى، فلأن من تأول آية، أو سنة، ولم يطأ عند نفسه حراماً فليس بزانٍ بإجماع، وإن كان مخطئاً، إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله، وقول السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين: "أحلتهما آية وحرمتهما آية" معلوم محفوظ ، فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية).
سادساً: من كانت له أمتان فكان يطأ إحداهما فأراد أن يطأ الآخرة
لا يحل له ذلك إلا بالآتي:
1. إما أن يحرم فرج الأولى عليه.
2. وإما أن يبيع الأولى.
3. وإما أن يعتقها.
4. وإما أن يزوجها من غيره.
قال القرطبي: (واختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة، ثم أراد أن يتطأ الأخرى، فقال علي، وابن عمر، والحسن البصري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أوعتق، أو بأن يزوجها. قال ابن المنذر: وفيه قول ثانٍ لقتادة.. فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه ولا يقربها ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الأولى المحرمة ثم يغشى الثانية.. ومذهب مالك: إذا كان أختان عند رجل فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته).
سابعاً : من ملك أمة أو اشتراها
لا يجوز له أن يطأها حتى تستبرئ بحيضة واحدة ، وإن كانت حبلى فبوضع حملها.
ثامناً: الوطء بالزنى هل يحرم أم لا ؟
قولان لأهل العلم:
1. لا يحرم كما يحرم الوطء الحلال، وهذا قول العامة من أهل العلم، وهو الراجح.
2. يحرم، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم.(3/77)
قال القرطبي رحمه الله: (واختلفوا في الوطء بالزنى هل يحرم أم لا؟ فقال أكثر أهل العلم لو أصاب رجل امرأة بزنى، لم يحرم عليه نكاحها بذلك، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها، أوبابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحد ثم يدخل بامرأته. ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أوابنتها لم تحرما عليه بذلك. وقالت طائفة : تحرم عليه. روي هذا القول عن عمران بن حصين، وبه قال الشعبي وعطاء، والحسن، وسفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وروي عن مالك، وأن الزنى يحرم الأم والابنة، وأنه بمنزلة الحلال. وهو قول أهل العراق. والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز أن الزنى لا حكم له لأن الله سبحانه وتعالى قال: "وأمهات نسائكم" وليست التي زنى بها من أمهات نسائه، ولا ابنته من ربائبه، وهو قول الشافعي وأبو ثور، لأنه لما ارتفع الصداق في الزنى، ووجوب العدة، والميراث، ولحوق الولد، ووجوب الحد، ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز. وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها، فقال: "لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح"، ومن الحجة للقول الآخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج وقوله: "يا غلام، من أبوك؟" قال: فلان الراعي. فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال، فلا تحل أم المزني بها ولا بناتها لآباء الزاني ولا لأولاده، وهي رواية ابن القاسم في المدونة).
تاسعاً : زواج الرجل بنته أوأخته أوبنت ابنه من الزنا
ذهب العامة من أهل العلم إلى أن البنت أوالأخت من الزنى لا تحل لمن زنى بأمها، وأباح ذلك الشافعي وعبد الملك بن الماجشون من المالكية رحمهما الله.
قال القرطبي: (اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى، أوأخته، أوبنت ابنه من زنى، فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون، منهم عبد الملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي.
وقال: ويستدل به أيضاً ـ قول جريج: "يا غلام من أبوك" على أن المخلوقة من ماء الزنى لا تحل للزاني بأمها، وهو مشهور. قال عليه السلام: "لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها"، ولم يفصل بين الحرام والحلال، وقال عليه السلام: "لا ينظر الله إلى من كشف قناع امرأة وابنتها"، قال ابن خويزمنداد: ولهذا قلنا إن القبلة، وسائر وجوه الاستمتاع ينشر الحرمة. وقال عبد الملك بن الماجشون: إنها تحل، وهو الصحيح لقوله تعالى: "وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً" يعني بالنكاح الصحيح.. ووجه التمسك بالحديث على تلك المسألتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك، وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح، وإظهار كرامته فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى، وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فثبتت البنوة وأحكامها. فإن قيل: فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والأبوة من التوارث والولايات وغير ذلك، وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلِمَ تصح تلك النسبة؟ فالجواب: إن ذلك موجب ما ذكرناه. وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثنيناه، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل، والله أعلم).
عاشراً: التحريم باللواط
اختلف أهل العلم في ذلك، هل يحرم النكاح باللواط أم لا ؟على قولين: ذهب الجمهور أبو حنيفة ومالك، والشافعي أن النكاح لا يحرم باللواط ، وذهب الثوري وأحمد أن من فجر بصبي فقد حرمت عليه أمه وأخته.
وقال الأوزاعي: إذا لاط بغلام، وولد للمفجور به بنت، لم يجز للفاجر أن يتزوجها لأنها بنت من قد دخل به وهو قول أحمد بن حنبل.
والصواب ما ذهب إليه الجمهور من أن النكاح لا يحرم باللواط لأنه شذوذ وهو ضد الفطرة السليمة .
أحد عشر: تحريم حليلة الابن سواء كان من نسب أو رضاع
يحرم على الرجل حليلة ابنه سواء كان من نسب أورضاع، أما من تبنٍ فلا، لقوله عز وجل: "وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" الحديث.
الثاني عشر: إذا طلق الرجل امرأة يملك رجعتها
أجمع العلماء على أن ليس له أن ينكح أختها، أورابعة، أويجمع بينها وبين عمتها، أوخالتها، إلا بعد انقضاء عدتها.
أما من طلق من لا يملك رجعتها فاختلف فيه، قيل ينتظرها حتى تنقضي عدتها، وقيل لا يلزمه ذلك.
فمن قال لا ينكح حتى تنقضي عدتها منهم علي، وزيد، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، والنخعي، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وأصحاب الرأي.
ومن قال له أن ينكح زيد بن ثابت وعطاء في رواية عنهما، وسعيد بن المسيب، والحسن، والقاسم، وعروة بن الزبير، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد، قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك وبه أقول.(3/78)
وهو الراجح، لأنه لا يملك عليها عدة، فما فائدة الانتظار؟!
الثالث عشر : قاعدة من تحرم الجمع بينهما
قال الشعبي: كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكراً لم يجز له أن يتزوج الأخرى فالجمع بينهما باطل. قيل له: عمن هذا؟ قال: عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سفيان الثوري: تفسيره عندنا أن يكون من النسب، ولا يكون بمنزلة امرأة وابنة زوجها يجمع بينهما إن شاء.
قال أبو عمر ـ ابن عبد البر: وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، والأوزاعي، وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحديث وغيرهم فيما علمت، لا يختلفون في هذا الأصل.
الرابع عشر : كره بعض أهل العلم الجمع بين الآتي من النساء من غير تحريم
وهن:
1. الجمع بين ابنة رجل وامرأته.
2. الجمع بين بنتي العم.
3. الجمع بين بنتي الخال.
4. الجمع بين ابنة عمه وابنة خاله.
5. الجمع بين المرأة وقريبتها.
قال القرطبي: (وقد كره قوم من السلف أن يجمع الرجل بين ابنة رجل وامرأته، من أجل أن أحدهما لو كان ذكراً لم يحل له نكاح الأخرى. والذي عليه العلماء أنه لا بأس بذلك، وأن المراعى النسب دون غيره من المصاهرة، ثم ورد في بعض الأخبار التنبيه على العلة في منع الجمع بين من ذكر، وذلك ما يفضي إليه الجمع من الغيرة. فروى ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة. وقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"، ذكره أبو علي الأصيلي في فوائده وابن عبد البر وغيرهما. ومن مراسيل أبي داود عن حسين بن طلحة قال :" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على أخواتها وقريبتها ، وسواء كانت بنت عم، أوبنت عمة، أوبنت خال أو بنت خالة"، روى ذلك عن إسحاق بن طلحة وعكرمة، وقتادة، وعطاء، في رواية ابن أبي نجيح، وروى عنه ابن جريج أنه لا بأس بذلك، وهو الصحيح، وقد نكح حسن بن حسين ابن علي في ليلة واحدة ابنة محمد بن علي وابنة عمر بن علي، فجمع بين ابنتي عم، ذكره عبد الرزاق. زاد ابن عيينة: فأصبح نساؤهم لا يدرين إلى أيتهما يذهبن. قد كره مالك هذا، وليس بحرام عنده.
وفي سماع ابن القاسم سئل مالك عن ابنتي العم: أيجمع بينهما؟ فقال : ما أعلمه حراماً، فقيل له: أفتكرهه؟ قال: إن ناساً ليتقونه. قال ابن القاسم: وهو حلال لا بأس به. قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً أبطل هذا النكاح، وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع. وكذلك الجمع بين ابنتي عمه وابنتي خاله).
لقد جمع عبد الله بن جعفر لما مات علي رضي الله عنه بين امرأة علي وابنته .
الخامس عشر : في الجملة يجوز للرجل أن يجمع بين المرأتين إذا كان بينهما حرمة بلا نسب أونسب بلا حرمة
فالأول مثل أن يجمع بين المرأة وابنة زوجها، والثاني مثل الجمع بين بنت العم والخال .
ما يباح من النساء
يباح كل من سوى من ذكرنا من المحرمات ، ويدخل في ذلك الكتابية لكن بشروط هي:
1. أن تكون ذمية.
2. أن ينوي دخولها في الإسلام.
3. أن يكون مضطراً.
4. كما تباح زوجة العم والخال، إذا طلقا أوماتا.
عقوبة من تزوج إحدى محارمه أو جمع بين من لا يحل له الجمع بينهن
من تزوج إحدى محارمه، أوجمع بين من لا يحل له الجمع بينهن، فسخ نكاحه في الحال، فإن كان جاهلاً عُلِّم، وإن كان عالماً بالتحريم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
خرج أهل السنن عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: رأيت خالي أبا بردة ومعه رايته، فقلت: إلى أين؟ فقال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وأخمس ماله".
المراجع
• ... الاستذكار لابن عبد البر.
• ... الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
• ... عمدة التفسير للحافظ ابن كثير اختصار وتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر.
• ... فتح الباري للحافظ ابن حجر.
• ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمي
=================000000
حق الأبناء على الآباء
الحقوق : حق الأبناء على الآباء 1 / 4 - حسن اختيار أمه ـ التعوذ من الشيطان ـ اختيار اسم الابن ، تربيته لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .(3/79)
أيها الإخوة المؤمنون ... في الدرس الماضي أنهينا بفضل الله عزَّ وجل حقوق الآباء على الأبناء ، وها نحن أولاء في هذا الدرس ننتقل إلى موضوعٍ آخر متمَّمٍ للأول ألا وهو حقوق الأبناء على الآباء ، لأن كل حقٍ يقابله واجب ، وكل واجبٍ يقابله حق ، فما دام للآباء حقوقٌ على الأبناء ، لابدَّ من أن يكون للأبناء حقوقٌ على الآباء ، والحديث الشريف الذي تعرفونه جميعاً :
" رحم الله والداً أعان ولده على برِّه"
موضوع حقوق الزوج على الزوجة ، وحقوق الزوجة على الزوج ، وموضوع حقوق الآباء على الأبناء ، وحقوق الأبناء على الآباء ، هذه موضوعاتٌ دقيقةٌ جداً ، لأنه ما من واحدٍ من الإخوة الحاضرين إلا وتمسُّه هذه الموضوعات ، فإذا أدَّيت ما عليك من حقوق صار الطريق إلى الله سالكاً ، وإذا كان هناك تقصيرٌ ، أو مجاوزةٌ ، أو جنوحٌ ، أو مخالفةٌ ، أو إساءةٌ كانت هذه الأعمال حجاباً بين العبد وبين ربه ، والحديث الذي تعرفونه أيضاً جميعاً هو أن الإنسان قد يستحق النار يوم القيامة فيقف بين يدي الله عزَّ وجل ويقول :
"يا رب لا أدخل النار حتى أًُدخِل أبي قبلي "
وهذا الطفل الذي شبَّ على الانحراف ، وشجَّعته أمه الجاهلة على ذلك ، وكبر وارتكب جريمةً استحقَّ عليها الإعدام ، قُبَيْلَ إعدامه طلب أن يلتقي أمه ـ هكذا الصحيح ـ أكثرهم يقول : أن يلتقي بأمه ، فلما جئ له بأمه قال : مدي لسانك كي أقبِّله . مدَّت لسانها فعضَّه وقطعه ، وقال : لو لم يكن هذا اللسان مشجِّعاً لي على الجرائم ما فقدت حياتي ..
إهمال تربية البنينَ جنايةٌ عادت على الآباءِ بالويلاتِ
* * *
إذاً الحديث النبوي الشريف :
" رحم الله والداً أعان ولده على برِّه"
هو عنوان هذا الموضوع : حقوق الأبناء على الآباء .
يا أيها الإخوة الأكارم ... جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، يشكو إليه عقوق ابنه ، فأحضر سيدنا عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ابنه وأنَّبه على عقوقه لأبيه . فقال الابن : " يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوقٌ على أبيه ؟ " . قال : " بلى " . فقال " فما هي يا أمير المؤمنين ؟ " . قال : " أن ينتقي أمه ، وأن يحسن اسمه ، وأن يعلِّمه الكتاب ـ القرآن ـ " . فقال الابن : " يا أمير المؤمنين إنه لم يفعل شيئاً من ذلك ، أما أمي فإنها زنجيةٌ كانت لمجوسي ، وقد سماني جُعْلاً ـ أي خنفساء ـ ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً " . فالتفت أمير المؤمنين إلى الرجل وقال له : " أجئت تشكو عقوق ابنك ، لقد عققته قبل أن يعقَّك، وأسئت إليه قبل أن يسئ إليك؟ " .
هذا النص أن ينتقي أمه ، وأن يحسن اسمه ، وأن يعلِّمه القرآن ، فإذا أهمل الأب هذه الأشياء يكون قد عَقَّ ابنه قبل أن يعقَّه ابنه ، ويكون الأب قد أساء إليه قبل أن يسئ الابن إلى أبيه .
فأول واجبٍ على الآباء تجاه الأبناء أن يحسن الأب اختيار الزوجة، إن هذا الواجب يسبق وجود الولد ، الواجب الأول بل هو أخطر واجب إنه يسبق وجود الولد ، وهو أن يحسن اختيار أمه .
النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
" خير فائدة أفادها المرء المسلم بعد إسلامه امرأة صالحة تسره إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها ، وتحفظه في غيبته في ماله ونفسها"
من كنز العمال : عن " يحيى بن جعدة مرسلا
فأثمن شيءٍ أن تحسن اختيار الزوجة ، ينبغي أن تكون الزوجة صالحة " تسرُّه إذا نظر إليها " أي أنها نظيفة ، " وتطيعه إذا أمرها ، وتحفظه في غيبته في ماله ونفسها " .
وفي حديثٍ آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قيل يا رسول الله :
"أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ قَالَ الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ "*
(من سنن الترمذي: عن أبي هريرة)
في هذا الحديث ليس فيه كلمة إليها ، أي إذا نظر إلى غرفة النوم تسره ، منظَّمة ومرتَّبة، والملاءة نظيفة ، وإذا نظر إلى المطبخ تسرُّه ، وإذا نظر إلى أولاده تسرُّه ، وإذا نظر إلى البيت إجمالاً تسرُّه ، أي أنها تقوم بواجبها خير قيام ، أي تحسن تبعُّل زوجها .
والنبي عليه الصلاة والسلام كما تعرفون يقول :
"اعلمي أيتها المرأة وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها يعدل ذلك كله ـ يعني الجهاد في سبيل الله ـ"
(من كنز العمال: عن أسماء بنت يزيد الأنصاريَّة)
"تسره إذا نظر ، ولا تعصيه إذا أمر ، ولا تخالفه بما يكره في نفسها وماله"
(من المأثور: عن معاذ)
هذه صفات الزوجة الصالحة ، لأن اختيار الزوجة الصالحة أول واجبٍ على الآباء تجاه الأبناء الذين سوف يأتون إلى الدنيا .
وفي حديثٍ آخر عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال : قال عليه الصلاة والسلام :
" تنكح المرأة على إحدى خصال ؛ لجمالها ، ومالها ، وخُلُقها ، ودينها فعليك بذات الدين والخلق تربت يمينك"
رواه أحمد بإسنادٍ صحيح وابن حبَّان في صحيحه
وفي حديثٍ آخر عن النبي عليه الصلاة والسلام ، رواه البخاري ومسلم ، يقول عليه الصلاة والسلام :(3/80)
" تنكح المرأة لأربع ؛ لمالها ، ولخلقها ، ولجمالها ، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك "
أي إن لم تفعل ما نلت إلا التُراب ، والتراب شيءٌ لا قيمة له إطلاقاً، إذا جهدت ، وتحمَّست ، وانقضضت ، وأمسكت بشيء فإذا هو تراب ، يقال تربت يمينك ، أي لن تأخذ شيئاً ، لم تنل شيئاً ، لم تفلح في هذا الزواج .
العلماء قالوا : " يستحب أن تختار امرأة تسرُّك إذا نظرت إليها " . هذا من السنة ، لكن العلماء أيضاً ومنهم الماوردي يقول : " كره العلماء أن يختار الإنسان امرأةً ذات جمالٍ بارع لأنها متعبةٌ إلى أقصى الحدود ، فإنها تزهو بجمالها ، وتحب أن ينظر الناس إليها ، وربَّما تعاند زوجها ، وربَّما تتفلَّت من أوامر الشرع تفلُّت البعير " . لذلك هذا رأي بعض العلماء ، أنه يجب أن تختار زوجةً تسرك إذا نظرت إليها ، أما أن تختارها فائقةً فائقةً فهذا ربما عاد عليك بالمتاعب التي لا حصر لها .
في حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام :
"من تزوَّج المرأة لجمالها أذلَّه الله ..."
هي تزهو عليه بجمالها وهو يتصاغر أمام هذا الجمال ، فكأنها هي الآمرة الناهية ، وكأنها هي القَيِّمة ، وكأن لها القِوامة ، لذلك :
"من تزوَّج المرأة لجمالها أذلَّه الله ـ أي لجمالها فقط ـ ومن تزوَّجها لمالها أفقره الله ، ومن تزوجها لحسبها زاده الله دناءةً فعليك بذات الدين تربت يداك"
لكن لو أنك تزوجت امرأةً غنيَّة وطابت لك عن بعض مالها ، فهذا يأكله الزوج هنيئاً مريئاً ، كما قال الله عزَّ وجل في القرآن الكريم :
(سورة النساء)
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
"إياكم وخضراء الدمن"
(من أحاديث الإحياء: عن "ابي سعيد الخدري")
الدِّمَن جمع دِمْنَة وهي المزبلة ، وخضراء الدمن أحياناً تنبت نبتةٌ في هذه القمامة ، فإذا هي نضرة ، لأنها كلها سماد ، هذه سمَّاها النبي عليه الصلاة والسلام خضراء الدمن ، قال عليه الصلاة والسلام :
"إياكم وخضراء الدمن ، فقيل: وما خضراء الدمن ؟ قال : المرأة الحسناء في المنبت السوء " .
(من أحاديث الإحياء: عن "ابي سعيد الخدري")
البيئة سيِّئة ، البيئة غير إسلاميَّة ، البيئة غير ديِّنة ، متفلِّتة ، الجو العائلي جو مريض ، الجو العائلي جو غير صحي ، الشاعر الحكيم قال :
ليس الجمال بأثوابٍ تُزيننا إن الجمال جمال العلم والأدبِ
* * *
حديثٌ آخر رواه سيدنا أنسٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام :
" من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا ، ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقرا ، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة ، ومن تزوج امرأة لم يرد بها إلا أن يغض بصره ويحصن فرجه أو يصل رحمه بارك الله له فيها وبارك لها فيه " .
(من كنز العمال: عن "عوف بن مالك الأشجعي")
والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا حضر عقد قِران يقول :
"بارك الله لكما وعليكما وفيكما"
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال قال عليه الصلاة والسلام:
"لا تزوجوا النساء لحسنهن ..."
فإذا ذُكرت كلمة حُسن أو جمال المقصود الجمال وحده ، أي أنك آثرت الجمال على الدين ، هناك رقَّةٌ في الدين وتفوُّقٌ في الجمال ، آثرت الجمال على الأخلاق ، هناك شراسةٌ في الأخلاق ، ورقةٌ في الدين ، وتفوُّقٌ في الجمال فالأمر فيه نذر السّر ، إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام كلمة الجمال أو الحُسن فالمقصود به من آثره على بعض الشروط الأخرى .
يقولون : إن واحداً وضع عشرة شروط ، أول شرط الجمال ، ثاني شرط الكمال ، الثالث الغنى ـ المال ـ الرابع الحسب ، الخامس النسب ، السادس الثقافة ، السابع إلى أن صاروا عشرة ، أرسل والدته فلم يجد ، فتخلَّى عن شرط ، عمل جولة ثانية بعد سنة ، فلم يجد فتخلى عن شرط ثانٍ ، عمل جولة ثالثة فلم يجد فتخلى عن شرط ثالث ، بعد عشر سنوات بقي على شرطٍ واحد وهو أن يعثر على امرأةٍ ترضى به ، فعلى المرء ألا يعقِّد الأمور كثيراً .
"لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن"
أي جميلة وجاهلة ، حسنها يرديها ، يجعلها تستعلي عليه ، لا يحتملها زوجها فيطلِّقها ، وهذا يحصل دائماً ، استعلاؤها على زوجها يحملها على أن تكون فظَّةً معه ، وقد لا يحتمل الزوج هذا ، فيكون الفراق والشِقاق ، إذاً :
"لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تزوَّجوهنَّ لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ـ المال يطغي ـ ولكن تزوَّجوهنَّ على الدين ، ولأمة خرماء ـ أي أذنها مشرومة ـ سوداء ذات دينٍ أفضل"
(رواه بن ماجة من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم)
وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بالباءة ـ أي بالزواج ـ وينهى عن التبتُّل نهياً شديداً ، ويقول :
"تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"
(من تفسير ابن كثير )(3/81)
النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق وحبيب الحق اختار لنا هذين الشرطين : الودود الولود . أي ما من طبعٍ أبغض عند الرجل في المرأة من أن تكون لئيمة ، أو قاسية ، أو متكبِّرة ، أو لها لسانٌ سليط ، أو مستعلية ، النبي عليه الصلاة والسلام قال : " تزوَّجوا الودود " . تحب زوجها ، تتحبَّب إليه ، ترضيه ، تؤثره على كل شيء ، هذه الودود ، الولود لأنها إذا أنجبت لك طفلاً ملأ هذا الطفل البيت أنساً ولطفاً ، ومحبَّةً واشتياقاً ، ومتَّن العلاقة بين الزوجين ، " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة " .
(من المأثور عن أنس)
وقال عليه الصلاة والسلام :
"عليكم بالأبكار ، فإنهن أعذب أفواها"
(من الجامع الصغير: عن "عويمر ابن ساعدة" )
أي كلامها لطيف ، وليست كلما تحدثت بكلمتين قالت عن زوجها الأول : المرحوم ما كان يفعل هذا ، المرحوم ما كان يفعل هذا ، وفي هذا تنغيص لزوجها الحالي ..
"عليكم بالأبكار ، فإنهن أعذب أفواها ـ أي كلامها لطيف ـ وأنتق أرحاما، وأرضى باليسير"
( من الجامع الصغير : عن " عويمر ابن ساعدة " )
هذا كلُّه من حقوق الأبناء على الآباء ، أي ليحسن الأب اختيار الزوجة الصالحة ..
"الدنيا متاع ، و خير متاعها المرأة الصالحة"
( من المأثور : عن " ابن عمرو " )
أراد ابن عمر رضي الله عنه ألا يتزوَّج ، فقالت له أخته حفصة: " أي أخي لا تفعل ، تزوَّج فإن ولد لك ولد فماتوا كانوا لك أجراً، وإن عاشوا دعوا الله عزَّ وجل لك " . لقول النبي عليه الصلاة والسلام :
"إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ "*
( من صحيح مسلم : عن " أبي هريرة " )
الأنبياء العِظام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كلهم تزوَّجوا ، قال الله عزَّ وجل :
(سورة الرعد: من آية 38 )
الأنبياء تزوَّجوا ، الزواج لا يتعارض مع الدين بل هو في خدمة الدين ..
(سورة النحل: من آية " 72 " )
من فضل الله على الإنسان أن جعل له زوجة ، وجعل له منها أبناءً ، ورزقهم من الطيِّبات . هناك أب ذكر لأبنائه فضله عليهم فقال :
وأول إحساني إليكم تخيُّري لماجدة الأعراق بادٍ عفافها
* * *
أول إحساني إليكم يا أبنائي تخيري لماجدة الأعراق بادٍ عفافها ، هذا هو الحق الأول ، حق ابنك عليك أن تحسن اختيار أمه .
* * *
الآن الحق الثاني :
التعوُّذ بالله من الشيطان قبل اللقاء الزوجي
لأن في هذا الموضوع أحاديث كثيرة وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن هناك سؤال دقيق ، كلَّما سألني سائل : حول التعوذ قال إنني تعوَّذت بالله فلم يحصل ما أريد ؟ وأرد عليه قائلاً : ربنا عزَّ وجل قال :
(سورة فصلت : من آية 36 )
يقول لك : استعذت بالله ولم يحصل شيء ، فما جدوى هذه الاستعاذة ؟
في الجواب عن هذا نقول : إن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم :
السميع باستعاذتك ، والعليم لما في قلبك ، استنبط العلماء من هذه الآية أن الاستعاذة باللسان لا قيمة لها ، ولا تكفي ، ولا جدوى منها ، ما لم يكن القلب في أعماقه متجهاً إلى الله بالاستعاذة ، فلذلك :
(سورة الناس)
قل أعوذ لا تقبل هذه الاستعاذة ، ولا تُجدي ، ولا تقطف ثمارها إلا إذا كانت نابعةً من قلبك ، بالدليل أن الله سبحانه وتعالى ختم الآية فقال :
(سورة فصلت)
سميعٌ لهذه الاستعاذة ولكن يعلم أن قلبك ليس في مستواها ، فإذا اتجه الإنسان إلى الله عزَّ وجل بكليَّته مستعيذاً لابدَّ من أن ينجيه من كل مكروه، هذا شيءٌ ثابت .
الله عزَّ وجل قال :
(سورة الإسراء)
فالمشاركة في الأولاد أن الزوج الذي ينسى أن يستعيذ بالله قبل اللقاء الزوجي ، قد يشرَكه في هذا اللقاء الجن ، وعندئذٍ يأتي الابن شريراً مخيفاً ، هذا تفسير بعض العلماء لهذه الآية .
النبي عليه الصلاة والسلام فيما روى البخاري ومسلم ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما من طرقٍ كثيرة ـ أي صار هذا حديثاً متواتراً تواتراً معنوياً ـ من طرقٍ كثيرة أنه قال :
"لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ "*. أي الشيطان لم يضر هذا الولد .
(من صحيح البخاري: عن ابن عبَّاس)
هذا الحديث واضح .
الإمام الداودي قال : " معنى لم يضرَّه أي لم يفتنه عن دينه إلى الكفر" . وليس المراد أن هذا الابن معصومٌ عن المعصية ، فالقضية سهلة إذا كان الواحد قد سمى فهل يأتيه ولد صالح عالِم جليل ، لا بل إن العلماء يقولون: ليس معنى هذا أنه يصبح معصوماً عن المعصية ، ولكن لم يضرُّه الشيطان فيهوي به إلى الكفر ، إذا كان قد استعاذ الزوج بالله من الشيطان الرجيم قبل اللقاء الزوجي .(3/82)
وكلكم يعلم أن الإنسان إذا دخل بيته ولم يسلِّم قال الشيطان لإخوانه : " أدركتم المبيت في هذا البيت ـ الليلة هنا ، طول الليل مشاكل ، أدركتم المبيت ـ فإذا جلس إلى الطعام ولم يسمِ قال الشيطان لإخوانه : وأدركتم العشاء ـ كذلك وعند العشاء ، يشبع الجماعة ـ فإذا دخل ولم يسلِّم ، وجلس إلى الطعام ولم يسمِّ قال الشيطان لإخوانه : أدركتم المبيت والعشاء معاً " أي أنكم الليلة نومكم هنا والعشاء كذلك جاهز . إذاً خلاصة التوجيه النبوي أن الإنسان عليه أن يسلِّم إذا دخل إلى بيته قائلاً السلام عليكم ، وعليه أن يسمي إذا أكل ، عندئذٍ يجنبه الله الشيطان في علاقاته وفي طعامه .
* * *
الواجب الذي يلي هذا الواجب هو :
أن يتخيَّر له اسماً حسناً ذكراً كان أو أنثى
ففي الحديث الشريف :
"إنكم تُدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم ".
(رواه أبو داود بإسنادٍ جديد)
هكذا قال عليه الصلاة والسلام . بعضهم يسمي ابنه جعيفص مثلاً ، ما هذه جعيفص ؟ عبد الرحمن ، عبد اللطيف مثلاً ، عبد الله ، حَسن ، حُسين كذلك ، هناك أسماء كثيرة جداً ؛ أسماء إسلاميَّة ، وأسماء أخلاقيَّة ، من ذلك اسم مجيب أحياناً ، واسم هُمام ، لدينا أسماء كثيرة فيها معنى الشجاعة وغيرها .
طبعاً سبب هذه الأسماء القبيحة جهلٌ قائم بالأهل ، إن سمَّاه اسماً قبيحاً يعيش ولا يموت كما يزعمون ، يسميه فلفل ، فجلة ، خيشة ، جدي ، في أسماء أخرى أيضاً ، هذه الأسماء يتوهَّم الآباء أنها تقي ابنهم من الأمراض ومن الموت ، هذا كله كلام فارغ ولا أساس له من الصحَّة ، هذه أسماء مزرية بأصحابها .
وهناك أسماء مستوردة ؛ ميمي ، وشونو ، وسونا ، وفيفي ، وشوشو ، هذه أسماء لا تليق بالمسلم أساساً ، لا تسمي اسماً خشناً ولا اسماً مستورداً ، نريد اسماً إسلامياً ، والآن لدينا الكثير من الكتب بالأسواق ، وعندنا معاجم حوالي أربعة أو خمسة آلاف اسم مرتَّبة ترتيباً جيداً ، اقتنِ كتاباً منها ، فاختيار الاسم شيء مهم جداً ، هذا الاسم سوف يكون علماً على هذا الابن في حلِّه وترحاله ، في علاقاته ، في حركاته وسكناته ، في نشاطاته .
النبي عليه الصلاة والسلام ، عن ابن عمر رضي الله عنه ، وفيما رواه الإمام مسلم يقول
"إن أحب أسمائكم إلى الله عزَّ وجل عبد الله وعبد الرحمن"
وكان عليه الصلاة والسلام إذا لم يعرف اسم إنسان قال له :
"ادن مني يا عبد الله" هذا اسم يطلق على الكل ، يا عبد الله.
وعن جابرٍ رضي الله عنه قال : " ولد لرجلٍ منا غلام فسمَّاه القاسم ، فقلنا لا نُكنيك أبا القاسم ولا كرامة ـ رسول الله أبا القاسم ـ فُأخبِر النبي عليه الصلاة والسلام فقال : سمِّّّّ ابنك عبد الرحمن " .
(رواه البخاري ومسلم)
أحياناً يكون بالأسرة رجل وقور وله قيمته يسمونه باسمه ، وهذا الابن أحياناً يشذ ، ينحرف ، يتعرض لدعاء سوء من الأهل ، فتضيع الطاسة بين الكبير والصغير ، فتصير هذه مشكلة ، فيفضَّل إذا كان في الأسرة إنسان وهو عميد الأسرة له قيمته ، فلا تعمل إحراجات وتسمي الصغير باسمه ، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يرضَ ، قال له : " سمه عبد الرحمن
والنبي أمرنا في حديثٍ آخر رواه أبو داود :
"تسموا بأسماء الأنبياء"
"وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن"
إبراهيم ، سيدنا إبراهيم .
"تسموا بأسماء الأنبياء وأصدقها حارثٌ وهُمام ، وأقبحها حربٌ ومرَّة"
وكان عليه الصلاة والسلام يبدِّل الأسماء ، أحياناً هذا الكلام أسوقه للمعلمين ، إذا عندك طفل له اسمه لا يليق ، أنت بدِّل له اسمه أثناء العام الدراسي في تعاملك معه ، لا أقول بالسجلات فلها وضع آخر ، وقت تقديم الشهادة تأخذ اسمه الصحيح ، لكن أثناء التعامل اليومي أطلق عليه اسماً لطيفاً ينتعش فيه هذا الطفل ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال عن سعيد بن المسيِّب بن حَزْن ، أعطيه الحُزن والحَزَن هو المعروف ، معروف عند الجميع ، وهو ما يعتري النفس من ألم ..
(سورة النمل: من آية 70)
الحُزن والحَزَن بمعنى واحد ، لكن الحَزْن الأرض الوعرة ، قال عليه الصلاة والسلام :
"أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلاثًا أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ "*
(من مسند أحمد: عن ابن عبَّاس)
الحَزْن الأرض الوعرة ، أما الحَزَن والحُزن بمعنى واحد وهو الألم النفسي .
فعن سعيد بن المسيب بن حَزْن عن أبيه أنه جاء النبي عليه الصلاة والسلام فقال : " ما اسمك ؟ " . قال : حَزْن . فقال : " أنت سهل " . قال: لا أغير اسماً سمَّانيه أبي . ـ يصطفل هو وشأنه ـ فقال بن المسيِّب فيما بعد : " فما زالت الحزونة فينا بعد " . أي غلظ الوجه وشيءٌ من القساوة .
(رواه البخاري)
النبي عليه الصلاة يقول لك : " أنت سهل " وهو يقول : لا اسمي حزْن ويرفض تسمية النبي : قال : "فما زالت الحزونة فينا بعد " . والحزونة غلظ الوجه وشيءٌ من قساوة القلب .(3/83)
امرأةٌ اسمها عاصية سمَّاها النبي جميلة ، لماذا عاصية ؟ ما اسمكِ ؟ قالت : أنا عاصية . فقال لها : " بل أنتِ جميلة " .
وامرأةٌ اسمها برَّة فقال عليه الصلاة والسلام : " أنتِ زينب " . الأنسب أن يختار الإنسان اسماً مناسباً ، والذي أعرفه أن الإنسان له الحق أن يبدِّل اسمه ، فإذا لم يرق له اسمه الذي سماه به أبوه فله الحق أن يبدِّل اسمه حتى في قيود الدولة وسجلاتها ، هذا من حقوق الأبناء على الآباء .
الحقيقة الأسماء القبيحة أسبابها عادة قبيحة ، وعقليَّة قبيحة ، وتصوُّر قبيح إذ يزعم الجهلة أن هذه الأسماء القبيحة تقي صاحبها من الضرر ، والهلاك ، والموت، والآفة ، والمرض ، والحق أنه لا يقي الإنسان إلا الله عزَّ وجل ، لكن النبي قال :
"العين حق ، إن العين ـ أي عين الحسود ـ تضع الجمل في القدر ، والرجل في القبر"
المحسود الغافل عن الله عزَّ وجل تؤثِّر فيه عين الحسود ، أما المحسود المُقبِل على الله لا تؤثِّر فيه عين الحسود .
وللتعوُّذ موضوعٌ آخر إن شاء الله ، التعوُّذ بالله من الحسد وغيره يحتاج إلى موضوع تفصيلي نتحدَّث عنه في وقتٍ آخر .
* * *
نختار أيضاً من حقوق الأبناء على الآباء ما ورد في كتاب إحياء علوم الدين عن رياضة الصِبيان :
فاعلم أن الطريق في رياضة الصبيان ـ والمقصود هنا بالرياضة هي التربية ـ من أهم الأمور وأوكدها ، والصبي أمانةٌ عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرةٌ نفيسة ساذجة ، خاليةٌ من كل نقشٍ وصورة ، وهو قابل لكل ما نُقِش ، ومائلٍ إلى كل ما يمال به إليه ، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة ، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلمٍ له ومؤدِّب ، وإن عوِّد الشر وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك ، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له، وقد قال الله عزَّ وجل :
(سورة التحريم: من آية 6 )
إذا كان الأب يصونه عن نار الدنيا ، فلأن يصونه عن نار الآخرة أولى ، وصيانته عن نار الآخرة بأن يؤدِّبه ويهذبه ـ الكلام للإمام أبو حامد الغزالي ـ ويعلّمه محاسن الأخلاق ، ويحفظه من قُرَناء السوء ، ولا يعوِّده التنعُّم ، ولا يحبِّب إليه الزينة وأسباب الرفاهية فيضيِّع عمره في طلبها إذا كبر ، فيهلك هلاك الأبد ، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره ، فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأةً صالحةً متدينةً تأكل الحلال ، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه ، إذا وقع عليه نشوء الصبي انعجنت طينته من الخبث فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث . قال : فإذا رأى فيه مخايل التمييز ـ صار مدركاً ـ فينبغي أن يحسن مراقبته ..
"لاعب ولدك سبعاً ، وأدِّبه سبعاً ، وراقبه سبعاً ، ثم اترك حبله على غاربه"
وأول ذلك ظهور أوائل الحياء ، فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ، ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه ، حتى يرى بعض الأشياء قبيحاً ومخالفاً للبعض الآخر، وهذه عندئذٍ هديَّةٌ من الله تعالى إليك ، وبشارةٌ تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب .
وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام ، فينبغي أن يؤدَّب فيه فلا يأخذ الطعام إلا بيمينه ، وأن يقول عليه : بسم الله عند أخذه ، وأن يأكل مما يليه ، فقد ورد عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال : كنت غلاماً في حجر النبي عليه الصلاة والسلام ، وكانت يدي تطيش في الصحفة ـ أي يأكل من كل الأطراف ـ فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام :
"يا غلام سمِّ الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك"
(متفقٌ عليه)
وأن يعوِّده ألا يبادر إلى الطعام قبل غيره ، وألا يحدق النظر إليه ، ولا إلى من يأكل ، ولا أن يسرع في الأكل ، وأن يجيد المضغَ ، وألا يوالي بين الُّلقم ، ولا يلطِّخ يديه ولا ثوبه ، وأن يعوَّد الخبز القِفار في بعض الأوقات ـ من حين لآخر خبز فقط ، هذا توجيه الإمام الغزالي ـ وأن يعوَّد في بعض الأوقات الخبز القفار حتى لا يصير الإدام حتماً . هذا مصداق قول النبي عليه الصلاة والسلام :
"اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم"
(من كشف الخفاء: عن أبو عبيد)
ويقبِّح عنده كثرة الأكل ، ويمدح عنده الصبي المتأدِّب القليل الأكل ، وأن يحبِّب إليه الإيثار بالطعام ، وقلَّة المبالاة فيه ، والقناعة بالطعام الخشن أي طعامٍ كان .
ابن المقفَّع له صديق قال عنه : " من أعظم الناس في عيني ، وكان رأس ما عظَّمه في عيني صغر الدنيا في عينيه ، فكان خارجاً عن سُلطان بطنه ، فلا يشتهي ما لا يجد ، ولا يكثر إذا وجد " .
قال : وأن يحبِّب إليه الثياب البيض دون الملوَّن ، والإبريسيم ـ أي المعرَّق ـ فإن هذا من شأن النساء والمخنَّثين ، وإن الرجال يستنكفون منه ، ومهما رأى على صبيٍ ثوباً من إبريسيم أو ملوَّن فينبغي أن يستنكره ويذمَّه.(3/84)
وإن الصبي إذا أهمل من ابتداء نشأته خرج في الأغلب رديء الأخلاق ، كذَّاباً ، حسوداً، سروقاً ، نمَّاماً ، لحوحاً ، ذا فضول ، وضحك، وكِياد ، ومجانة ـ أي من المجون ـ وإنما يُحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب ، ثم يُشغل في المكتب ؛ فيتعلَّم القرآن ، وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار وأحوالهم ، ليغرس في نفسه حب الصالحين . ويحفظ من الشعر والنثر الأدبي ما يقوِّم لسانه ، ويجعله محباً للغة العربيَّة وعاشقها .
قال : فإذا ظهر على الصبي خُلقٌ جميل وفعلٌ محمود ، فينبغي أن يكرَّم عليه ـ يجب أن تثني على ابنك إذا رأيت منه خُلقاً حميداً ؛ أمانةً ، وفاءً ، صدقاً ـ ويجازى عليه لما يفرح به ، وأن يُمدح بين أظهر الناس ، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرَّةً واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ـ غلط غلطة ننتقده انتقاداً صارخاً أمام الناس على غلطة واحدة ، لا فهذا لا ينبغي أن نفعله وكما جاء في وصية الغزالي : فإذا خالف ذلك في بعض الأحوال مرَّةً واحدة فينبغي أن نتغافل عنه ـ وأن لا نهتك ستره ، وألا نكاشفه ، ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر على أحدٍ مثله ـ أي أن التغافل على أخطاء قليلة حكمةٌ تربويَّة ، أما إذا عاد ثانيةً يُعاتب عتاباً رقيقاً فيما بينك وبينه ، ويقال له : إياك أن تعود إلى ذلك مرَّةً ثانية ـ
قال : وليكون الأب حافظاً مع ابنه هيبة الكلام ، فلا يوبِّخه إلا أحياناً، والأم تخوِّفه بالأب وتزجره عن القبائح ، قال : وينبغي أن يمنع الابن من النوم نهاراً فإنه يورِّث الكسل ، وألا يمنع منه ليلاً ، ولكن يُمنع الفُرش الوطيئة حتى تتصلَّب أعضاؤه ـ الفرش الوثيرة المريحة هذه تعوِّده النوم ـ وينبغي أن يمنع من كل فعلٍ يفعله خفيةً ، فإنه لا يخفيه إلا وهو يعتقد أنه قبيح ، فإذا تعوَّد ترك فعل القبيح فقد تعوَّد شيئاً طيباً ، ويعوَّد في بعض النهار المشي ، والحركة ، والرياضة حتى لا يغلب عليه الكسل ، ويعوِّد ألا يكشف أطرافه وألا يسرع في المشي ، وألا يرخي يديه بل يضمهما إلى صدره .
ويُمنع أن يفتخر على أقرانه بشيءٍ مما يملكه أبوه ـ أبي كذا ، أبي عنده ، بيته ، سيارته، حاجته ـ أو بشيءٍ من مطاعمه ، وملابسه ، أو أدواته ، بل يعود التواضع والإكرام لكل من عاشره . ويُمنع أن يأخذ من الصبيان شيئاً بطريق الحيلة ، بل يعلم أن الرفعة في الإعطاء والدناءة في الأخذ ، وإن كان الأخذ من أولاد الأغنياء لؤمٌ وخسَّة ، فإن الأخذ من أولاد الفقراء يعلِّم الطمع ، والمهانة ، والذِلَّة ـ على الحالتين ـ وأن يُقبَّح عند الصبيان حب الذهب والفضَّة والطمع فيهما .
ويعوَّد ألا يبصق في مجلسه ، وألا يتمخَّط ، ولا يتثاءب بحضرة غيره ، وألا يستدبر غيره ، وألا يضع رجلاً فوق رجل ، وألا يضع كفَّه تحت ذقنه ، ولا يعتمد رأسه في ساعده فإن هذا دليل الكسل ، ويعلِّم كيفية الجلوس ويمنع كثرة الكلام ، ويمنع أن يبتدئ بالكلام ، ويعلَّم ألا يتكلَّم إلا جواباً وبقدر السؤال ، ويعلَّم حسن الاستماع ممن هو أكبر منه سناً ، وأن يقوم لمن هو أكبر منه سناً ، ويوسِع له في المكان ، ويُمنع من لغو الكلام والفُحش ، ومن اللعن والسب ، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيءٌ من ذلك .
وإذا ضربه المعلِّم ينبغي ألا يكثر الصُراخ والشَغَب ـ هذه الزعبرةـ ولا يستشفع بأحد بل يصبر ، وينبغي أن يعلَّم طاعة والديه ، ومعلِّمه ، ومؤدِّبه ، وكل من هو أكبر منه سناً من قريبٍ أو أجنبيٍ ، وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم ، وأن يترك اللعب بين أيديهم .
هذا فصل ورد في إحياء علوم الدين عن رياضة الصبيان ـ تأديب الصبيان ـ وهو فصلٌ تربويٌ مهمٌ جداً إذا أخذ الأب به ، وإذا طبَّقه بقدر إمكانه ولكن الظروف صعبةٌ جداً ، أي قبل أن تستطيع أن تؤثِّر بابنك هناك ألف مؤثِّرٍ آخر ، كما قال الله عزَّ وجل :
(سورة الروم: من آية 41 )
فأرجو أن يكون هذا الكلام واقعياً ، لكن قبل سنواتٍ طويلة ، قبل مئات السنين كان الجو جواً صحياً ، والأخلاق هي السائدة ، والحكمة هي المسيطرة .
وفي درسٍ آخر إن شاء الله هناك واجباتٌ كثيرة هي على الآباء تجاه أبنائهم ؛ تعليم القرآن، وتعليم السباحة ، والرماية ، وركوب الخيل ، والخِتان ، والأذان في أذنه ، وتحنيكه ، والعقيقة .
أشياء كثيرة إن شاء الله نأخذها في الدرس القادم تتميماً لموضوع حقوق الأبناء على الآباء :
"ورحم الله والداً أعان ولده على برِّه"
والحمد لله رب العالمين
=================00000000
التربية الإسلامية ومراحل النّمو
للدكتور عباس محجوب
أستاذ مساعد بكلية الدعوة بالجامعة(3/85)
قسم علماء التربية التربية إلى مستويات تختلف باختلاف مراحل نمو الإنسان باعتبار التربية عملية ملازمة للإنسان في نموه الطبيعي ونمو استعداداته وميوله وقدراته، ومع الاختلاف البسيط في هذه التقسيمات إلا أننا يمكن أن نأخذ بالتقسيم التالي: ا- مرحلة ما قبل الولادة. 2- مرحلة الطفولة. 2- مرحلة المراهقة. 4- مرحلة الشباب. أولا: مرحلة ما قبيل الولادة: حض الإسلام على الزواج باعتباره حاجة فطرية للإنسان فطره اللّه عليها وهيأه لها ووجهه إليها ليقوم بواجبه في الحياة من المحافظة على النوع الإنساني وتكاثر هذا النوع وزيادته, وفى ذلك يقول اللّه سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: آية 1). وقد وضع الإسلام ضوابط لاختيار الزوج حتى يختار كل منهما الشريك الأصلح لأداء هذه المهمة في الحياة، فالرجل مطالب باختيار المرأة ذات الدين التي تفهم واجباتها الشرعية في البيت والحياة والتي يقوم سلوكها على أساس السلوك الإسلامي والآداب الإسلامية، وإذا لم يكن الدين بمعناه الواسع هو أساس الاختيار لم يكن البناء قائما على أسس سليمة وفي ذلك يقول الرسول صلى اللّه عليه وسلم: "من تزوج امرأة لعزها لم يزده اللّه إلا ذلا، ومن تزوجها لمالها لم يزده اللّه إلا فقرا، ومن تزوجها لحسبها لم يزده اللّه إلا دناءة ومن تزوج امرأة لم يرد بها إلا أن يغض بصره ويحصن فرجه أو يصل رحمه، بارك الله له فيها وبارك لها فيه"1 .. كما يقول: "ولا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل"2 .. فذات الدين هي التي تقوم بحق الله وحق الزوج وحق الأمة في تربية الجيل المؤمن باللّه السائر على هديه. كما أن على الزوج أن تختار زوجها ممن يتوفر فيه الشروط المناسبة لها وأهمها الدين والخلق حتى يمكنه أن يقوم بواجبه، واجب الرعاية والقوامة والتربية "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" 3 واشتراط الدين والأخلاق أمر مهم حتى تعيش الأسر في أجواء شريفة مؤمنة وفي كنف رجال صالحين يتقون اللّه في نسائهم وأولادهم وحتى تتحقق السعادة في ظل البيت المؤمن وتنشأ الأجيال مؤمنة باللّه متحملة المسؤوليات ناقلة للصفات الطيبة من الأبوين الطيبين، ولذلك حذر الرسول صلى اللّه عليه وسلم من التهاون في الاختيار وترك الصفات الإسلامية المطلوبة من أصالة وصلاح وشرف فقال: "إياكم وخضراء الدمن، قالوا وما خضراء الدمن يا رسول اللّه؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء" 4 .. وقد أثبت العلماء أن الصفات الخِلْقِيةَ والخُلُقِيةَ تنتقل عن طريق الوراثة كما تنتقل الصفات المادية وإلى هذا أشار القرآن الكريم في استنكار المستنكرين لمريم حيث قالوا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} (سورة مريم 28) وقد رأى بعض علماء النفس والتربية أن الإصابة بمرض الزهري أو وجود أي نوع من العيوب الوراثية العقلية بعين الزوجين يؤدي إلى إنجاب أطفال يحملون المرض نفسه كما أن الأطفال الذين يولدون لأبوين يدمنان السكر والمخدرات بأنواعها خاصة في ساعات التلقيح كثيرا ما يصابون بأمراض عقلية وعصبية قل أن يشفوا منها لأن الأبوين لا يورثان الصفات الجسمية فقط بل الصفات النفسية ولذلك يرى بعض العلماء أن الرجال المتفائلين ينجبون أولادا متحررين من العادات القبيحة والخوف والأوهام, أما الحمقى والموهومون والسكارى فينجبون أولادا عصبي المزاج مصابين بمركب نقص، يعانون من العقد والإحساس بالضعف وعن ذلك يقول كريس مورسون: "إن الجينات جزء من خلايا الوراثة, غير أن خلايا الوراثة لا تشترك فى التكوين العام للجسم، ولكنها منعزلة ولا تسهم في أي وجه من وجوه النشاط الأقل أهمية التي تقوم بها الكائنات الحية، إن هذه الخلايا تحفظ الشبه الكامل للنوع، ويبدو أنها لا تتأثر بمسلك الوالدين إلا أن سوء الخلق، أو المرض، أو الحوادث، قد تمدها بمواد جد فقيرة لتشتغل بها. إن الوالدين القويين قد ينسلان أطفالا أقوياء، ولكن ذلك لأنه كان هناك أسلاف أقوياء، وان الوالدين قد يمنحان طفلهما مبدأ طبيعيا ليعيش فيه، أوقد يهبانه مباءة لا تصلح مكانا لنفس خالدة". إن الأبوة والأمومة هما أعظم تبعة تقع على عاتق الإنسان والله سبحانه وتعالى يقول {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (النور: آية 32)، والرسول صلى اللّه عليه وسلم يطلب اختيار وانتقاء الزوج من النساء فيقول: "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء"5 وقد سئل سيدنا عمر رضي الله عنه عن حق الولد على أبيه فأجاب "أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه, ويعلمه(3/86)
القرآن". إن نشأة الأجيال على الطهارة والعفة والاستقامة تعتمد على الصفات التي يتوارثها الأبناء عن الآباء خلقية أو جسمية أو عقلية، وقد حثت الأحاديث النبوية على تحسين النسل بتفضيل المرأة البعيدة أو التي لا صلة قربى تربطها بالرجل حرصا على انتفاء العيوب الوراثية التي يحملها الزوجان عن الأبناء وقد أثبتت التجارب العلمية في اختبارات الذكاء صحة هذه النظرية التي تنادي بالتغرب في الزواج حتى لا يأتي نسل ذوي القرابة ضعفاء الجسم والخلق وغيرها من العيوب الوراثية. ولأن تربية الأبناء تبدأ قبل الولادة كما قلنا فإن الأمر لا ينتهي باختبار كل من الزوجين الصحيحين لبعضهما بل لابد من تعهد الجنين فترة الحمل بتعهد الأم نفسها وإبعادها عما يسبب لها الضعف والقلق النفسي وإحسان معاشرتها ومعاملاتها لأن الحالة الصحية والنفسية للحامل تؤثر كثيرا على الجنين ولذلك يرى الدكتور ( الكسيسى كاريل ): "أن للحمل قواعد يجب أن تتعلمها النساء في مدارس خاصة لذلك من حيث السلوك الذي يجب اتباعه أثناء الحمل والنواحي الغذائية التي تهتم بها والمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها المولود أثناء الحمل والرضاعة من جراء إسراف النساء في التدخين وشرب القهوة والمسكرات والمخدرات"6 . فالتربية قبل الولادة هي التي يطلبها الإسلام في زوجة صالحة وامرأة منجبة خالية من الأمراض والعيوب وزوج يتميز بالاستقامة وحسن الرعاية والإنفاق وحسن المعاملة وحسن التربية لأنه مسؤول عنها أمام اللّه سبحانه وتعالى بنص حديث الرسول صلى اللّه عليه وسلم "إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أو ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته"7 . وقد ثبت مما تقدم أن العامل الوراثي له أثر كبير في مستقبل الطفل وتربيته فكانت أهمية مراعاة هذه الجوانب في اختيار كل من الزوجين للآخر كما أن العوامل البيئية لا نستطيع إغفالها أو التقليل من دورها، وعلى رأس هذه العوامل الناحية الغذائية للأم من حيث كمه وكيفه لأن الأم التي تعاني من نقص غذائي قد تلد طفلا يعاني نقصا جسمانيا أو عقليا أو اضطرابا نفسيا حادا، كما أن المرض الذي يصيب الأم عامل هام في التأثير على نمو الجنين هذا بالإضافة لعامل الإفراط في تناول المكيفات كالتدخين وشرب الخمر والمخدرات وكلها تعوق نمو الجنين في بطن أمه ثم تؤثر في مستقبل حياته الصحية والنفسية والعقلية، ولذلك كله لابد من الاهتمام بالمرأة الحامل نفسيا واجتماعيا وغذائيا حتى يتهيأ للطفل الذي يراد تربيته الظروف المساعدة لإيجاد بيئة صالحة للنمو. الطفولة الأولى: تبدأ هذه المرحلة في الغالب من فترة الولادة إلى ست سنوات أو سبع كما يرى كثير من علماء التربية والنفس وإن كانت هناك تقسيمات أخرى.. وقد اهتم الإسلام بالطفل من حيث تربيته على أسس معينة منذ ولادته وتبدأ بالتهنئة والبشارة بالمولود ذكرا كان أو أنثى، وفى القرآن ما يشير إلى ذلك كما في قصة زكريا {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران: 39) وقوله: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} (مريم: 7)، ويمكن أن تكون التهنئة مادية بتقديم الهدايا وغيرها، كما يستحب له التأذين في الأذن اليمنى والإقامة في اليسرى حتى يكون الأذان والإقامة من أول ما يسمع الطفل كما أن في ذلك رمزاً إلى المهمة التي جاء بها في الوجود وهي عبادة الله وتلبية النداء إلى العبادة وقد فعل ذلك الرسول صلى اللّه عليه وسلم للحسن بن علي كما يستحب تحنيكه وحلق رأسه يوم سابعه والتصدق بوزنه فضة أو ذهبا على الفقراء وكلها قد فعلها سيد الخلق صلى اللّه عليه وسلم بل إن الإسلام يحدد نوع الاسم الذي يستحسن تسمية المولود به لما للاسم من دلالة على المسمى فإذا كان الاسم جميلا متفائلا ذا دلالة طيبة سر به صاحبه وإن كان قبيحا متشائما كان مثار سخرية واستهزاء بصاحبه، ولهذه الدلالة النفسية للأسماء على أصحابها غير الرسول صلى اللّه عليه وسلم أسماء كثير من أصحابه أمثال حزن وحرب بسهل وسلم وغيرهما والرسول صلى اللّه عليه وسلم يقول: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وبأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم" 8 كما دعا الإسلام أن لا يسمى بأسماء الله كالملك والوهاب والصمد وغير ذلك ولا الأسماء الدالة على تعظيم غير الله أو المعبودة غيره كعبد يغوث وعبد العزى وعبد الرسول وعبد النبي وغيرها ويدخل في هذا ما نرا5 في بلاد العرب من يسمون أبناءهم بأسماء لينين وخرشوف وقاقارين وغاندي وأتاتورك أو من يسمون بأسماء النصارى واليهود مثل جوزيف وألين ومارية وغيرها أو التسميات المائعة التي يسمى بها كثير من الأولاد والبنات. ويحض الإسلام على اختيار أسماء الأنبياء وما يدل على العبادة للّه فقد(3/87)
روي عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قوله "تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى اللّه: عبد اللّه وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة"9 . والرضاعة تمثل جانبا مهما في حياة الطفل المستقبلية ولذلك جعلها الإسلام من وظيفة المرأة وحدد لها مدة {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233)، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن للرضاعة أثراً كبيراً في تربية المولود وأخلاقياته، فالمرأة السيئة الخلق الكثيرة الانفعال تؤثر في المولود، وقد اشترط كثير من علماء المسلمين اختيار المرضع للطفل لأن اللبن يعدى كما رأوا أن تكون المرضع صالحة تأكل من الحلال لأن طباع الطفل تتأثر باللبن وقد نهى الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن إرضاع الحمقاء، ولأن الرضاع وظيفة خاصة بالمرأة فلا يجب استبدال الرضاع الطبيعي بالصناعي لأن اللبن الصناعي لا يعطي الأطفال القيمة الغذائية الكاملة التي يحتاجون إليها ولأن له تأثيراً على العواطف والطباع. أما بالنسبة للحضانة وهى التي تستمر إلى السابعة فإن الأم هي التي تقوم بها لأنها مهيأة بعواطفها ورقتها وحنانها ورحمتها للقيام بذلك الدور فالطفل السوي هو الذي ينشأ في حضن والديه مستمتعا بدفء عواطفهما ورحمتهما بعيدا عن الاضطرابات النفسية والعصبية والنقص في النمو وغير ذلك من الأمراض التي يمكن أن يصاب بها الطفل الفاقد لوالديه أو لأمه فالظروف التي ينشأ فيها الأطفال هي التي تؤثر في مستقبل حياتهم ونموهم فقد أثبتت الدراسات النفسية أن كثيرا من الانحرافات التي تظهر في الكبار راجعة إلى مواقف وظروف عاشها الشخص في طفولته، ولذلك يرى علماء التربية أن إحساس الطفل بالأمن والاستقرار والمحبة هو الذي يسهل له عملية التكيف والتوافق المطلوبين من كل عضو من أعضاء المجتمع فإذا عاش الطفل في وسط عائلي يحيطه بالرعاية والحب ويشعره بمكانته في المنزل ويقدم له الكثير في سبيل إسعاده أحس بالأمن والطمأنينة ونما نموا طبيعيا خاصة إذا عاش في عائلة مستقرة متجانسة غنية في القيم الاجتماعية الإسلامية ثابتة في أساليب تعاملها مع الطفل لا يحس بالتناقض في معاملة والديه له ولأن الأسرة تمثل البيئة الاجتماعية الأولى التي ينشأ فيها الطفل اهتم الإسلام بنظام الأسرة وتنظيم العلاقات بين الرجل والمرأة وقيام هذه العلاقة على أساس من الرحمة والمودة والعطف والاحترام المتبادل وأداء كل واحد لما عليه من حقوق نحو الآخر وغض الطرف من الجانبين عن بعض نواحي النقص خاصة من الرجل ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"10 . إن حضانة الأم لطفلها من أهم العوامل المساعدة على تحقيق النمو الكامل له كما أنه العامل المهم في إحداث التكيف بين الطفل والمجتمع الذي يعيش فيه أما إذا انشغلت المرأة عن حضانة أطفالها بالانشغال بالعمل خارج المنزل أو بالانفصال عن زوجها أو بالتعالي على الحضانة وترك الأمر للخادمة في البيت أو الحضانة الصناعية في المدارس والمؤسسات- إذا حدث ذلك نتيجة لهذا الحرمان من الأمومة أدى ذلك إلى التأخر في نواحي النمو المختلفة وتعرض الأطفال للاضطرابات النفسية في حياتهم المقبلة، وقد أجريت بحوث على عدد من الأطفال بلغوا 123 طفلا أعمارهم بين عام وأربعة أعوام يعيشون في مؤسسات مختلفة وقارنوا هذا العدد بأطفال مثلهم يعيشون مع أسرهم ولكنهم في الصباح يذهبون الى دور الحضانة نسبة لانشغال الأمهات بالعمل فكانت النتيجة أن نمو الأطفال في المؤسسات يختلف عن النمو مع أسرهم لأن حرمان الطفل من أمه يعطل نموه جسميا وذهنيا واجتماعيا وإن القليل من عناية الأم قد تثمر11 ، أما إذا عاش الطفل كل وقته تحت حضانة أمه فإن نموه سيكون متكاملا والدليل على ذلك رجوع كثير من الدول التي تعتمد على الحضانة الصناعية إلى تشجيع الحياة العائلية وتكريم الأمهات اللائي يتفرغن لتربية أطفالهن. وفي هذه المرحلة يرى علماء التربية من المسلمين أمثال ابن سينا والغزالي أن الطفل يجب إبعاده عن الرذائل وقرناء السوء، وأن يبعد عن الكلام الفاحش واللغو واللعن والشتم ومن تعود على ذلك من الأطفال لأن أصل تأديب الصبي حفظه من قرناء السوء12 . الطفولة الثانية: تبدأ هذه المرحلة من السابعة إلى الثانية عشرة وهي المرحلة التي يلتحق فيها الطفل بالمدرسة بعد أن تعلم القراءة والكتابة وهي المرحلة التي يمكنه أن يتذكر ما يحدث أمام بصره وسمعه نتيجة لقوة ذاكرته وقدرته على الحفظ وتعلم اللغات فيها، ولذلك جعل الرسول صلى اللّه عليه وسلم هذه المرحلة هي مرحلة أمر الطفل بالصلاة حيث يقول: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع"13، وفي هذه المرحلة يعلم الطفل امتثال أوامر اللّه سبحانه واجتناب نواهيه ويعرف بالحلال والحرام ويوجه إلى حب رسول(3/88)
اللّه صلى الله عليه وسلم وآل بيته عملا بقوله صلى اللّه عليه وسلم: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيته وتلاوة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله"14 كما أنه يلقن آداب الأكل والشرب كما فعل الرسول صلى اللّه عليه وسلم مع عمر بن أبي سلمة الذي يقول: "كنت غلاما في حجر رسول اللّه صلى الله عديه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: يا غلام سم اللّه تعالى، وكل بيمينك وكل مما يليك"15 . وفي هذه المرحلة يتعرف الطفل على زملائه في المدرسة ويكون مع بعضهم صداقات وهو ما يسمى في علم النفس الحديث بشلة الرفاق ولأن الحاجة إلى الأصدقاء والرفقاء من الأمور الطبيعية والمهمة فقد اهتمت التربية الإسلامية بذلك، ودعت إلى أن يختار الأب لابنه الأصدقاء المؤمنين والجلساء الصالحين ليس بطريقة مباشرة وإنما باختيار أصدقائه هو ممن لهم مثل أبنائه وتوطيد صلته بهم حتى تنشأ العلاقة بين الأطفال بحكم سنهم، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي"16, ويقول: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، أو تشتري منه، أو تجد منه ريحا طيبا، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا منتنة"17 ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم- مبينا أن الفرد يقارن بخليله سيئا كان أم حسنا-: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"18, والقرآن يوضح أن أصدقاء الشر أعداء لبعضهم يوم القيامة وأن أصدقاء الخير والتقوى سعداء حتى في الآخرة {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} (الزخرف 67) ويقول تعالى موضحا أثر رفقة السوء على الإنسان وندمه على ذلك {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} (الفرقان 27- 29) وقد نبه علماء التربية في الإسلام أمثال ابن سينا والغزالي وغيرهما إلى أهمية هذه الناحية في التربية وأثر اختيار الأصدقاء على مستقبل الأطفال وتوجيههم إلى الخير والشر، فابن سينا يرى أن الطفل يتأثر برفيقه ويكتسب منه كثيرا من العادات لما ركب فيه من نزعة التقليد والمحاكاة فيقول: "وينبغي أن يكون مع الصبي صبية من أولاد الحلة حسنة آدابهم مرضية عاداتهم فإن الصبي عن الصبية ألقن وهو عنه آخذ وبه آنس"19 أما الغزالي فيقول: "وقد قال اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فَأنْ يصونه عن نار الآخرة أولى. وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء، ولا يعوده التنعم ولا يحبب إليه الزينة وأسباب الرفاهية، فيضيع عمره في طلبها إذا كبر، فيهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال"20 ويقول: "ويمنع الطفل من لغو الكلام وفحشه ومن اللعن والشتم ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء، وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء"21 . ومن أهم الحاجات التربوية في هذه المرحلة غرس الإيمان بالله في نفس الطفل وتبسيط مبادئ العقيدة وتنشئته على الخوف من اللّه وإحساسه بأن اللّه مطلع عليه مراقب لأعماله وأن عليه أن يستعين باللّه ويلجأ إليه ويدعوه ويطلب منه الهداية للخير، وعلى الوالد ألا يدع فرصة إلا واستفاد منها في ترسيخ المثل العليا واليقين في الله ولنا في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأسوة الحسنة فقد روى ابن عباس قوله: "كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ اللّه تجده تجاهك، إذا سألت فأسال اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللّه عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف"22 . ولابد أيضا من الاهتمام بالجانب العملي في العقيدة بتعليم الصبي أمور دينه وحثه على المواظبة على الصلاة واعتياد المساجد وتقوية صلته بأبناء حيه ممن يشهدون الصلاة في المساجد. مرحلة البلوغ: مرحلة البلوغ من المراحل الطبيعية في النمو إذا سارت في مجراها الطبيعي وهي المرحلة التي تسمى في علم النفس بمرحلة المراهقة وهي التي تبدأ في حوالي الثانية عشرة من العمر وتقابل في مراحل التعليم المرحلة المتوسطة والثانوية "والمراهقة لفظ وصفي يطلق على المرحلة التي يقترب فيها الطفل وهو الفرد غير الناضج انفعاليا وجسمانيا(3/89)
وعقليا في عشر السنوات التالية من الحياة غاية النضج الانفعالي والجسمي والعقلي والمراهق هو فرد، ولد أو بنت في مرحلة بين الطفولة والرجولة أي بين المرحلة التي يكون النضج فيها غير كامل وبين مرحلة النضج الكامل"23 وهذه المرحلة تبدأ في الغالب من الثالثة عشرة إلى حوالي الواحدة والعشرين وتختلف من فرد إلى آخر ومن مكان إلى مكان وهي مرحلة نمو طويلة قد تمتد إلى عشر سنوات كما أنها مرحلة من الناحية الاجتماعية مرحلة تكليف وتحمل المسؤوليات والواجبات فلذلك ربطت الإسلام بين هذه المرحلة وبين القيام بالتكاليف الشرعية ولم يخرج علماء الشريعة الإسلامية في تحديد سن المراهقة عن الفترة ما بين العاشرة والتاسعة عشرة وهي التي حددوها بالاحتلام عملا بحديث رفع القلم عن ثلاث منهم الصبي حتى يحتلم وترتبط هذه المرحلة بالتفكير في الزواج والحياة الأسرية، لذلك كان على المجتمع أن يهيء أذهان الشباب للاتجاهات الصحيحة للزواج وللأفكار السليمة عنه لأن الزواج يكمل النمو النفسي للإنسان ولذلك حض الرسول صلى اللّه عليه وسلم الشباب على الزواج: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"24 ومن أهم الظواهر في هذه الفترة ظاهرة النمو العقلي الذي يقتضي التركيز على التربية الخلقية والتي تأتي في قمتها توجيه البالغ إلى الإيمان باللّه على أساس من القناعة والحجة لا يتزعزع في مستقبله بما يتعرض له من وسائل التشكيك والتغيير، وقد علمنا القرآن كيفية التدرج في ذلك من الحسي إلى المعنوي في آيات كثيرة تدعو إلى التفكير في السماء والنبات والليل والنهار والبحار والنجوم والجبال والأنهار الخ... والتفكير في خلق الإنسان {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} (الطارق/4- 10) والتفكير في السماء والأرض وما فيها، وتفكير الإنسان في طعامه كيف نبت وتشكل وتنوع لونا ورائحة ومذاقا وهو يسقى بشيء واحد هو الماء ويخرج من مكان واحد هو الأرض ويتغذى بعناصر طاهرة هي الشمس والهواء وغيرهما. والتفكير بهذا الأسلوب القرآني يفتح البصائر وينير العقول ويدفع إلى الخشوع والخضوع لعظمة الله ومراقبته في السر والعلانية والإخلاص له والتوجه إليه بكل عمل لأن اللّه لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصا له وابتغى به وجهه.. ولا بد من التركيز على العوامل المؤدية إلى الشعور الدائم بمراقبة الله عز وجل مثل تجنب الشهوات الباطلة والحسد والبغض إلا في اللّه والحقد والكذب والنميمة وما إلى ذلك من العوامل التي تبغض إليه الرذيلة وتحببه في الفضيلة. ولأن المراهق يعيش مرحلة الإحساس بالذات فإنه يشعر بالخجل ويهتم بالبطولات الأمر الذي يتطلب التركيز على دراسة جوانب البطولة في حياة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وسيرته ومغازيه وسيرة الصحابة والسلف رضوان اللّه عليهم وفي ذلك يقول سعد بن أبي وقاص: "كنا نعلم أولادنا مغازي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن الكريم". أما الخجل فظاهرة تحتاج إلى تغيير ليحل محله الحياء لأن الخجل انكماش وسلبية وانطواء والحياء التزام بالفضيلة وتجنب للرذيلة ومظهر من مظاهر الإيمان وسكينة للنفس وضبط للتصرفات وصحوة للضمير وخجل من الله والنفس والناس وتقتضي التربية هنا تعليم النشء الحياء من النظر إلى المحرمات والاستماع إليها والقرب من المنكرات ونزاهة اللسان عن الفحش والبذاءة والخوض في الباطل وفي ذلك يقول الغزالي: "فينبغي أن يحسن مراقبته وأول ذلك ظهورا أوائل الحياء فإنه إن كان يحتشم ويستغني ويترك بعض الأفعال فليس ذاك إلا لإشراق نور العقل عليه حتى يرى بعض الأشياء قبيحا ومخالفا للبعض فصار يستحيي من شيء دون شيء وهذه هدية من اللّه تعالى وبشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ فالصبي المستحيي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه أو تمييزه"25 . والتربية في هذه المرحلة تنتقل من مرحلة التقليد والمحاكاة إلى التوعية العقلية بالأسباب والقوانين المتعلقة بالتزام الفضيلة والبعد عن الرذيلة وصيانة اللسان والبطن والفرج من المحرمات خوفا من اللّه وحياء منه، وعن ذلك يقول رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: "استحيوا من اللّه حق الحياء، قلنا: إنا نستحي من الله يا رسول اللّه- والحمد لله- قال: ليس ذلك.. الاستحياء من اللّه حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى, ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة، وآثر الآخرة على الأولى فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء"26 . إن هذه الفترة تحتاج إلى سياسة حكيمة واحترام لمشاعر البالغ ورغبته في الاستقلال والإحساس بنفسه وشخصيته وإقامة علاقة من(3/90)
الثقة والاحترام بينه وبين والده حتى يمكن توجيهه بما يساعده على النمو والنضج والاتزان. التربية الجنسية: من أهم الظواهر في هذه الفترة قلة اعتماد البالغ أو المراهق على والديه في سبيل تطلعه إلى الاستقلال بنفسه إذ أنه يعتبر نفسه رجلا وليس ذلك الطفل الذي كان يأتمر بأمر والديه في كل صغيرة وكبيرة فهو قد أصبح ناضجا يحتاج إلى تطوير علاقاته مع الأصدقاء والمجتمع, والإسلام لم يهمل هذه الناحية من التربية وأول المبادئ التي يرى الإسلام قيام حياة الفرد عليها هي الاستقامة على قوانين الفطرة الطبيعية في الإنسان واتباع هذه القوانين وعدم الخروج عليها، وقوانين الفطرة تقتضي تربية الناس على حياة الطهارة والشرف والعفة والفضيلة والتقوى, وإن الخروج على هذه التربية والانحراف عنها إنما هو خروج على القوانين التي خلق اللّه عليها الكون والسموات والأرض والكائنات ومنها الإنسان {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه/50) فإذا تجاوز الإنسان الحدود التي وضعها اللّه له والقوانين التي أمره بالتزامها في الدنيا فإنه بسلوكه يظلم نفسه ويعرض نفسه لعقوبات تفرضها عليه قوانين اللّه الطبيعية المودعة فيه؛ لأن من يتعد حدود اللّه فقد ظلم نفسه, ولذلك حرم الإسلام الزنا وكل علاقة غير شرعية وحرم الوسائل والأبواب المؤدية إليها، ولذلك فإن التربية الإسلامية القائمة على الإيمان الكامل والعقيدة الثابتة وعلى الطهر والبراءة والخوف من اللّه ومراقبته في السر والعلانية والعبودية المطلقة للّه فإنها تخلق العفة في النفوس وتحبب حياة الشرف والفضيلة والعفة، وهذه المراقبة الدائمة هي التي تجعل الشاب المسلم في موقف القوي أمام غواية الشيطان ونداء الشهوة واللّه تعالى يقول: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف 201،200). ولا يكفي البقاء على حياة العفة ولذلك دعا الإسلام إلى الزواج باعتباره الوسيلة الطبيعية لمشكلة الجنس، وقد ذكرنا حديث الرسول صلى اللّه عليه وسلم ودعوته للشباب أن يغض بصره ويحصن فرجه بالزواج وإلا فعليه بالصوم لأن الصوم يقلل من حدة الشهوة ويزيد طاقة الإنسان الروحية، وقد روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قوله: "الغلام يعق عنه يوم السابع ويسمى ويحاط عنه الأذى فإذا بلغ ست سنين أدب، وإذا بلغ تسع سنين عزل عن فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضرب على الصلاة والصوم، فإذا بلغ ست عشرة زوجه أبوه، ثم أخذ بيده وقال: قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك، أعوذ باللّه من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة"27 . فالآباء مسئولون عن تربية أبنائهم وتعليمهم وتزويجهم حصانة لهم أو مساعدتهم على ذلك فإذا لم يتيسر للشباب الزواج تحصّنَ بالتعالي على الغريزة والاستعفاف والتمسك بالفضائل وتصريف الطاقات في عبادة اللّه وفي ذلك يقول تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النور/33) وليس ذلك الطلب للرجال فقط بل للنساء أيضا وقد خصهن اللّه بعد تلك الآية العامة بآية خاصة إذ يقول: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} (النور/60). والمسلم الذي يتمسك بحياة العفة والشرف أمام الإغراء ولا يلين جعله الرسول صلى اللّه عليه وسلم من الذين يظلهم اللّه بظله يوم لا ظل إلا ظله وهو شاب دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين, وفي القرآن مثال لذلك المسلم الشاب في قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز التي راودته عن نفسه وهددته وتوعدته بالسجن والإذلال ففضل السجن على معصية الله والتخلي عن العفة واستنجد باللّه طالبا منه أن يقف معه في محنته ويصرف عنه كيدها فاستجاب اللّه لدعائه لعلم اللّه بإخلاصه وصدق دعواه وطهارة نفسه {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف/24). ولم تكتف التربية في الإسلام بذلك إنما سد الأبواب التي يمكن أن تثير الشهوة وتؤدي إلى الفساد ومنها غض البصر للرجال والنساء {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (النور 30. 31) وعلى النساء أيضا ألا ينظرن إلى الرجال فقد روت أم سلمة رضي اللّه عنها قالت: "كنت عند رسول الله صلى اللّه عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم(3/91)
مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلنا: يا رسول اللّه أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟"28 . ومنها تحريم خلو الرجل بالمرأة الأجنبية لأنه ما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، وقد روى ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوله: "لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقال له رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا؟ قال: انطلق فحج مع امرأتك"29 ومن الاحتياطات التي اتخذها الإسلام لحفظ الرجال والنساء وحماية المجتمع مما يؤدي إلى الانحلال الأخلاقي والفوضى في العلاقات الجنسية الأمر بالاحتشام والنهي عن السفور والتبرج وإظهار المحاسن من النساء لأن هذه الأشياء هي التي تثير الشباب وتحرك غرائز الرجال وتجعل كلا من الجنسين يبحث عن الآخر لإرضاء شهوته المثارة دائما واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} (النور/31). ولا يشك مسلم في حرمة ما نرى من لباس تلبسه النساء تبعا لخطوط (الموده) ونزولا لرغبة بيوت الأزياء العالمية وكثير منها لا يستر شيئا وقد يحدد كل شيء في جسم المرأة ويظهر مفاتنها ثم تلبس مع ذلك (باروكة) تزيدها فتنة وإغراء ولا تتورع عن كشفه ما وجدت لذلك سبيلا وهن اللائي قصدهن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه أبو هريرة حيث يقول: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا"30 ومن تربية الإسلام في تحديد علاقات الرجال بالنساء أمر اللّه بالسؤال من وراء حجاب طهارة للقلوب {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (الأحزاب/53) كما أمر المرأة ألا يكون في حديثها ما يدعو إلى الفتنة والإغراء والإثارة {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} (الأحزاب/33) كما أمر النساء بالقرار في البيوت إلا لحاجة وعدم التبرج والحشمة في اللباس واللسان والمشي {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب/33). ومن تربية الإسلام في تنظيم العلاقات وجوب استئذان الأطفال إذا بلغوا الحلم حتى ينشأ الجيل سليما معافى محترما لحرمة الحريات الشخصية للرجال والنساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النور/ 58- 59). ومن تربية الإسلام في العلاقات الجنسية تحريم الشذوذ في أنواعه المختلفة حتى لا يتجه الناس إلى تفريغ طاقاتهم الجنسية في أوجه أخرى يظنونها غير محرمة كما حرم المظاهر الشاذة في تشبه الرجال بالنساء واسترجال النساء فقد روى ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المتخنثين من الرجال والمترجلات من النساء كما لعن المتشبهين من الجنسين بالجنس المغاير لهما سواء أكان هذا التشبه في الأصوات أو الحركات أو فعل شيء هو من خواص جنس دون آخر كلبس بعض الرجال للباروكات وإطالة الأظافر والشعور ولبس الكعوب العالية ووضع مساحيق الزينة واستعمال أدوات التجميل ولبس السلاسل الذهبية على المعاصم والنحور وتزجيج الحواجب وأخذ الحقن التي تزيد نسبة هرمونات في الأنوثة في الرجال حتى لا يظهر الشعر في الشارب والذقن وحتى يتكور الصدر ويبرز كالنساء وكلبس الملابس الشفافة المبينة للعورة وغيرها، وقد روى أبو هريرة رضي اللّه عنه قال: "لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرجل يلبس لبس المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل"31 . أما الشذوذ المتمثل في اللواط والسحاق بين النساء فإن الإسلام قد حرم ذلك وأغلظ في العقوبة لما في هذين النوعين من إفساد خلقي كبير ودلالة على تحلل الأمة وسوء خلقها وتحكم الشهوات فيها، وقد لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثا ( من عمل عمل قوم لوط) كما(3/92)
بين الرسول صلى اللّه عليه وسلم مدى خوفه على أمته من انتشار تلك الظاهرة فيها والتي استنكرها القرآن الكريم في حكايته لقوم لوط {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (العنكبوت/29) ويقول: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (الشعراء/165). ومن مظاهر الشذوذ مزاولة كثير من الشباب للعادة السرية نتيجة لما يتعرض له الشباب من مثيرات للغرائز في مظاهر الفتنة من النساء في الشوارع والأمكنة العامة وأمام دور العلم والعبادة وما يقدم على أجهزة التلفاز من تمثيليات مثيرة وأغان مائعة ودعايات للبلاد والأزياء كلها تدعو إلى الفحش والرذيلة، زيادة على ما يعرض في المكتبات من مجلات فاضحة وقصص مثيرة وأفلام جنسية هابطة وأجهزة عرض رخيصة لهذه الأفلام، زيادة على الكتلوجات الجنسية التي تعرض الجنس ممارسا والصور التي تباع لذلك- أمام هذا الإغراء كله يتجه كثير من الشباب والرجال بعامة إلى مزاولة الزنا واللواط والاستمناء عن طريق اليد أو عن طريق آخر مع ما في هذه العادة من تحطيم لشباب الأمة وقواها الجسدية والعقلية والنفسية ومع ما فيها من آثار في مستقبل الشاب الجنسية وعلاقاته الزوجية ومع ما في ذلك من أضرار اقتصادية باهظة واجتماعية مخيفة ولعل هذا هو المقصود مع غيره في قوله تعالى {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (المعارج/31) وذلك بعد أن بين القرآن أن من صفات المؤمنين أنهم يحفظون فروجهم إلا على زوجاتهم أو ما ملكت أيمانهم. إن حياة النقاء والطهر لا تكون إلا بتشجيع الآباء والدولة لشبابها بالزواج المبكر فإذا كانت الدولة تنشئ بنوكا عقارية لبناء المنازل من الطين والأسمنت عن طريق السلفيات المادية فإن بناء الأسر والبيوت أولى من ذلك لتحصن الدولة أبناءها وتعد جيوشها وتحمي حماها بشباب مؤمن طاهر نقي بدلا من الشباب المخنث المائع المنهوك القوى من الانسياق وراء الشهوات والملذات هذا بالإضافة إلى تشجيع الشباب على الصوم مرتين في الأسبوع ليسمو بروحه على غرائزه وليقوى إيمانه بعبادته وإقامة مجتمع إسلامي نظيف تحكم العلاقة بين الرجال والنساء منهم وشريعته ونظامه من حيث المناهج الدراسية والمواد الإعلامية وتزجية أوقات الفراغ بأنواع الرياضة الممارسة في أجواء صافية حتى يسود الأمن والاستقرار النفسي والجنسي بالتزام أوامر اللّه والخوف منه ومراقبته. إن الإسلام لا يحتقر الطاقة الجنسية ولا يطالب بالابتعاد عنها لأن الرغبة الجنسية في الإنسان هي التي تؤدي إلى تعمير الأرض وكثرة التوالد الذي يؤدي إلى بقاء النوع واستمراره.. فلذلك اعتبر الرسول صلى اللّه عليه وسلم في العلاقة الجنسية بين الرجل وزوجته صدقة فقد قال عليه الصلاة والسلام: "وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله إن أحدنا ليأتي شهوته ثم يكون عليها أجر قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وضعها في حلال فله عليها أجر"32 . وقد كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم صريحا في معالجة كثير من الأمور المتعلقة بالجنس والذي كان القرآن ينزل بها فقد روى الإمام أحمد أن اليهود إذا حاضت المرأة فيهم لم يواكلوها ولم يجامعوها فيسأل أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم النبي عن ذلك فأنزل اللّه تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ثم قال الرسول صلى اللّه عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، وقد روى عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا وروي أن مسروقا ركب إلى عائشة فقال: "السلام على النبي وعلى أهله فقالت: عائشة مرحبا مرحبا فأذنوا له فدخل فقال: إني أريد أسألك عن شيء وأنا أستحي فقالت: إنما أنا أمك وأنت ابني فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض فقالت: له كل شيء إلا فرجها"33والأحاديث كثيرة في ذلك فليرجع إليها من أحب وقد روى أبو داود عن معاذ بن جبل قال سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عما يحل من امرأتي وهي حائض قال: "ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل". والإسلام يحدد مكان الجماع إبعادا للمسلم عن ممارسة الشذوذ مع زوجته فيقول اللّه تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (البقرة/223) أي في الفرج وأكد ذلك بقوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ(3/93)
وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} (البقرة/ 223) ومما ذكر عن سبب نزول هذه الآية ما روته أم سلمة من أن الأنصار كانوا يجبون نساءهم وكانت اليهود تقول: إن من أجب امرأته كان ولده أحول فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فجبوهن فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت: لن تفعل ذلك حتى آتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت اجلسي حتى يأتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخرجت فسألته أم سلمة فقال: ادعي الأنصارية فدعتها فتلا عليها هذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} والحرث هو مكان الولد و ولا يكون الولد إلا في الفرج، أما قوله {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} فيقصد به تسمية الله عند الجماع فقد جاء في البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا"34 . وقد رخص الله للمسلمين مجامعة النساء في ليل رمضان إذ كان المحلل في أول الإسلام الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء فمن نام أو صلى العشاء حرم عليه ذلك كله فوجد المسلمون مشقة في ذلك وكان البعض يخونون أنفسهم35 فنزل قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} (البقرة/187). ولأن الإسلام يدعو الشباب الذي لم يتزوج إلى التسامي والعفة فإن أسلوب الإقناع الفكري والمنطقي من الأمور التي عالج الرسول صلى الله عليه وسلم بها مشكلة محاولة الانحراف والزنا فقد جاء شاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب من الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يأذن له بالزنا فزجره الصحابة وأسكتوه إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أدناه منه في رفق ودون غضب وسأله "أتحبه للأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، وسأله أتحبه للإبنتك" واستمر يسأله عن أخته وعمته وخالته ويخبره بأن الناس لا يرضونه لهم كما لا يرضاه هو لأهله ثم وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على قلب الشاب وسأل اللّه أن يغفر له ذنبه ويطهر قلبه ويحصن فرجه فلم يلتفت الشاب إلى شيء بعدها، فهذا نموذج من أسلوبه صلى الله عليه وسلم في علاج مشاكل الشباب خاصة ما يتعلق بالجنس فالشباب يوجه إلى بذل الجهد العقلي أو الروحي أو الجسدي في سبيل التسامي وتوجيه طاقاته إلى العمل النافع والاستغراق في عبادة الله والاهتمام بالرياضة البدنية والقرآن يبين لنا كثيرا من المواقف التي تسمو فيها النفس المتجهة إلى الله على نداء الجسد وسعار الشهوة فسيدنا يوسف عليه السلام كما ذكرنا سابقا مثال للشاب المؤمن الذي نشأ على تقوى اللّه ومراقبته فصمد أمام إغراء ملكة جميلة وأذل كبريائها وهي تدعوه لنفسها وقد حسبت أن ذلك أمر يعجز كل الرجال عن رفضه وإذا بيوسف ثابت شامخ ذاكر نهي اللّه وجميل العزيز عليه فيقول: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ولم ينسَ الالتجاء إلى اللّه وطلب العون منه {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (يوسف/33، 34). والشاب المؤمن الذي يرفض الفاحشة ويعف نفسه خوفا من الله من السبعة الذين يظلهم اللّه بظله يوم لا ظل إلا ظله. إِن الإسلام لا يكبت الرغبات الجنسية كما يظن من لا يفرقون بين الكبت والضبط-لأن الإسلام يضبط الرغبات ويوجهها لتكون أداة بناء وتعمير لا أداة هدم وتخريب للمجتمع فالطريق السوي لمشكلة الجنس هو الزواج لان من صفات المؤمنين أنهم يحافظون على فروجهم إلا على زوجاتهم أو ما ملكت أيمانهم لأن الجنس في الإسلام وسيلة متاع وسكن ومودة ورحمة به يحقق الإنسان غاية وجوده وهو انتشار النوع وتعمير الأرض وعبادة اللّه. ولم يكن الجنس وحده الذي ضبطه الإسلام بل ضبط الدوافع الفطرية الكامنة في الإنسان كلها حتى يكون المجتمع المسلم مجتمعا وسطا متوازنا في حياته الروحية والجسدية معا.
مرحلة الرشد(3/94)
وهي التي تسمى بمرحلة النضوج أو وسط العمر وتقع في الفترة ما بين الأربعين والستين وفيها يكتمل نمو الإنسان وينضج عقله وتطمئن نفسه ويبلغ أشده، وتربية الإسلام في هذه المرحلة أن يجدد التوبة وأن يرجع إلى الله ويعزم على ترك المعاصي وفي ذلك يقول اللّه سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الأحقاف/ 15. 16) وفي تفسير الآية يقول ابن كثير مشيرا إلى قوله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ}: "أي قوي وشب وارتجل وبلغ أربعين سنة أي تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه ويقال: إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين"36 . وفي هذه المرحلة يكون المرء قد نضج أخلاقيا الأمر الذي يقلل احتمال انحرافه بعد هذه السن فهو دائم الدعاء إلى الله أن يثبته ويقويه ويعصمه من الزلل (فقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد: "اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك فاقبلها وأتمها علينا"37 . أما مرحلة الشيخوخة والتي تبدأ من الستين فهي مرحلة العطاء لا الأخذ والاستعانة باللّه وطلب العون والانقطاع إلى عبادة اللّه والتضرع إليه وهي المرحلة التي يلجأ إلى أهلها من قبلهم مستفسرين سائلين يطلبون التوجيه والعون لأنهم أهل الذكر يحبهم الله ويغفر لهم ويشفعهم في أهلهم. وهكذا نجد الإسلام قد تعهد الإنسان بالتربية والهداية والتوجيه في جميع مراحل حياته وإلى أن يفارق الدنيا ورسم له الطريق الواضح المستقيم الذي يعصم من الزلل ويقود إلى النجاة. والجنة بعون الله وفضله.
=================000000
مشاكل الأطفال مع حلولها التربوية
مص الأصابع وقضم الأظافر
هذا العيب زيادة على أنه ينقل الجراثيم إلى الجسم ، فإنه يشوش وضعية الأسنان والفكين ، ومص الأصابع يدل أحياناً على توقف نمو الطفل العقلي ، بعكس قضم الأظافر الذي يدل على زيادة النشاط وفرط التعب وقلة النوم .
1) ويرى المربون أنها ناجمة عن قلة حنان ومحبة الوالدين أو أحدهما للطفل ، فقد دعا أحد علماء النفس إحدى الأمهات بالاهتمام بطفلها المصاب بعادة مص الأصابع وزيادة حبه والعطف عليه ، فزال عنه هذا العيب تدريجياً .
2) كما ينشأ عن رغبة الطفل في إثارة أبويه وإزعاجهما ، لعلمه أنهما يتألمان من عمله .
3) ويقضم الطفل أظافره عقب حوادث الغيرة والحسد ، فيجب معالجة أسباب ذلك كما أوضحنا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب .
وقد أشار بعض المربين للتخلص من هذه العادات إذا لم يكن لها أسباب نفسية ، بل هي نتيجة عادات قديمة ، أن يربط سوار عادي أو رباط خاص يحول دون وصول يديه إلى فمه مع تمكنه من حركتها ريثما ينسى هذه العادة .
ومهما كان من أمر هذه العادات الضارة فينبغي التفاهم مع الطفل في ضررها من الناحية الصحية والاجتماعية حتى يتعاون مع أبويه للتخلص منها برفق ، وإن الشدة والعقوبة لا ينفعان في هذه الأحوال غالباً .
الطفل البوال
نقصد بالبوال الذي يبول في فراشه ليلاً دون أن يشعر . ولهذه الآفة أسباب :
1) أسباب مرضية وشدة في الحساسية للجهاز البولي ، وهناك أمراض تلعب دورها في حدوث هذا المرض كديدان الأمعاء وحمض البول وسوء التغذية وفقر الدم واضطراب الجهاز العصبي ، لذا يجب مراجعة طبيب أخصائي في بادئ الأمر .
والإمساك سبب هام من أسباب التبول لما يؤدي من إخراج السوائل المتراكمة في الجهاز الهضمي عن طريق جهاز البول .
2) الإكثار من الماء ومن الأطعمة السائلة في وجبة العشاء المتأخر . فينبغي تركها والإقلال منها ، وإيقاظ الطفل مرة أو مرتين في الليل للتبول .
3) سبب لا شعوري نتيجة عناية أمه بأخيه ، فهو يود بصورة لا شعورية جلب انتباه أمه نحوه .
4) إلقاء الحكايات المخيفة على الطفل قبل النوم .
هذا – ولا بد من الإشارة إلى أن أموراً خطيرة تقع بسبب تبول الطفل في فراشه منها توبيخه وضربه وإهانته مما يسبب له العقد النفسية وفقدان شخصيته والثقة بنفسه .
ومنها افتخار الأم بأنها علمت أبنها مبكراً على النظافة وعدم التبول في لباسه ، فإذا كان عملها باللطف واللين فحسن ، وإذا كان بالشدة والخوف فضرره كبير وعواقبه وخيمة .
الولد تارك الصلاة(3/95)
الطفل أمانة عند والديه وهما مسؤولان عنه أمام الله فعليهما أن يحسنا تربيته ليكون لهما ذُخراً في الدنيا والآخرة . قال ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) .
وهؤلاء الآباء كثيراً ما يشكون من أولادهم لعدم قيامهم بصلاتهم ، مدعين أنهم طالما نصحوهم وأنبوهم لتركهم الصلاة .
1) إن هؤلاء الآباء يُشكرون على عاطفتهم الدينية ، إنما ينبغي أن نصارحهم أنهم تأخروا في حض أولادهم على الصلاة ، قال عليه الصلاة والسلام : ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر – ضرباً غير مبرح – وفرقوا بينهم في المضاجع ) .
ولو فعل الآباء والأمهات هذه الوصية النبوية لحققوا غايتهم من مثابرة ولدهم على الصلاة حيث يكون قد اعتاد عليها منذ الصغر حينما يكون لين العود كثير الطاعة .
2) وهناك سبب آخر في ترك الأولاد للصلاة على الرغم من ممارستهم لها منذ الصغر ، هو معاشرتهم لرفقاء السوء الذين لم يعمل الآباء على اختيارهم ، أو وضعهم في مدارس لا دينية وعند مدرسين فاسدين وغير صالحين .
فكم يجدر بالآباء والأمهات مضاعفة العناية بأولادهم في الصغر والكبر ، فإن مسئوليتهم عظيمة قال : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ) الحديث..
3) ومن أهم أسباب ترك الأولاد للصلاة ضعف عقيدتهم الدينية ، فإنه لا بد حتى يصلي الإنسان أن يكون حاملاً لعقيدة دينية صحيحة ، وهذه العقيدة بحاجة إلى ثقافة إسلامية ، فيجب على الآباء تأمينها لأولادهم في المدرسة وفي البيت .
جاءني مرة نائب ، ودار الحديث بيننا حول ضرورة عناية الأبوين بتربية أبنائهما التربية الدينية ، وقد رجاني زيارته في البيت في أيام معينة لتوجيه أولاده الطلاب ، فحبذا لو يكون جميع الآباء على منوال هذا النائب الكريم .
وغرس العقيدة في الأطفال يحتاج إلى مهارة دقيقة ، فلا يجوز تخويفهم على الدوام بالإله والنار ، بل لا بد من تحببهم بخالقهم ولفت نظرهم إلى عجائب الكون وما فيه من نعم سخرها الله تعالى كلها للإنسان زيادة على ما أعده لهم من كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين يوم القيامة إذا كانوا من الصالحين .
وتدريب الأولاد على الصلاة يحتاج إلى حكمة وصبر ، والقدوة الحسنة المبكرة هي خير ما يفيد في هذا الموضوع ، فإن الأبوين المثابرين على صلاتهما لا بد أن يقتدي بهما أولادهما ويكونوا قرة عين لهما . . .
الولد المغتاب والنمام
لعل الكثيرين لا يعتبرون الغيبة والنميمة نقصاً ينبغي الإسراع لمعالجته على الرغم من أخطار هاتين الصفتين القبيحتين من النواحي الاجتماعية والأخلاقية ، فكم فرقت الغيبة والنميمة بين الإخوان وكم سببت من الفتن والمنازعات ، وقد جاءت الآثار في النهي عنهما قال تعالى : ( ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) .
قال عليه الصلاة والسلام : ( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) .
نعم على الرغم من نتائج الغيبة والنميمة الاجتماعية وعلى الرغم من تهديدات القرآن والحديث للابتعاد عنهما نرى الكثيرين يستسهلون أمرهما وخطرهما كل ذلك ويا للأسف نتيجة فساد مجتمعنا الذي بعد عن الإسلام بعد السماء عن الأرض حيث فقدت فيه الروح الإسلامية غالباً كما فقدت بفقدها روح الكرامة والمروءة .
لذا كله ذكرت هذا البحث لأصل به إلى الآباء والأمهات قبل أطفالهم وأدعوهم لترك الغيبة والنميمة حتى ينشأ أولادهم نشأة إسلامية سامية يأنفون من الاتصاف بهاتين الرذيلتين بل الجريمتين .
والغريب أن الغيبة والنميمة لا تكون في بعض الأحيان عن سوء قصد ، إنما هي المسايرة للمتكلم فلا تكاد المرأة تذكر إحدى جاراتها بسوء في اجتماع من الاجتماعات حتى ينهال عليها التأييد من الحاضرات بقصد المسايرة . . !
إن الصديق الصادق هو من يدافع عن أخيه في غيابه ويمنع الناس من ذمه واغتيابه .
قال عليه الصلاة والسلام : (من ذب عن لحم أخيه في الغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار ) ، والدفاع عن المسلم بحق في غيابه لفاعله أجر عظيم .
وجاء رجل من قيس إلى النبي وقال له : العن حُميراً فأعرض عنه ، فأعاد عليه ، فقال عليه السلام : ( رحم الله حميراً ، أفواههم سلام ، وأيديهم طعام ، وهم أهل أمن وإيمان ) .(3/96)
إن الغيبة والنميمة زيادة على أنهما من اللؤم فهما من علامات الجبن والضعف ، فإذا اتصف بهما الطفل منذ صغره أصبح شخصية حقيرة مبغوضة لا يؤمل له النجاح ، وكان الوزر في ذلك على أبويه اللذين علماه هاتين الرذيلتين بصورة لا شعورية وعفوية ، فإن ابن النمام نمام ، وابن المغتاب مغتاب إلا من رحم ربك ! فعلى الآباء والأمهات أن يتركوا الغيبة والنميمة لينجوا من عقوبتهما ويسلموا من عاقبتهما ، ويحفظوا أولادهم من ويلاتهما حتى ينشؤوا رجالاً نبلاء صالحين وليعلم الجميع أن الغيبة والنميمة لا يغفر الله تعالى ذنبهما إلا بطلب العفو ممن اغتيب ونمّ عليه ! !
ونرى ختاماً للبحث أن نذكر القصة التالية في أضرار النميمة فهي لا تخلو من طرافة وعظة :
يروى أن رجلاً باع عبداً وقال للمشتري ليس فيه عيب إلا النميمة . قال : رضيت ، فاشتراه ، فمكث الغلام أياماً ، ثم قال لزوجة مولاه : إن سيدي لا يحبك ، وهو يريد أن يتسرى عليك ، فخذي الموسى واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتى أسحره عليها ، فيحبك . ثم قال للزوج : إن امرأتك اتخذت خليلاً وتريد أن تقتلك ، فتناوم لها حتى يعرف ذلك ، فجاءت المرأة بالموسى فظن أنها تريد قتله فقام إليها فقتلها ، فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج ووقع القتال بين القبيلتين ! !
الطفل المخرب
يشكو كثير من الآباء والأمهات من تخريب أولادهم كل ما تصل إليه أيديهم من الأشياء والأدوات ، فيكثرون عليهم من اللوم والتأنيب ويعاقبونهم بأنواع الجزاء المختلفة دون أن يجدوا لذلك فائدة مما يزيد غضبهم وقلقهم .
ما هي أسباب التخريب ؟
للتخريب أسباب منها :
1) قلنا مراراً إن لدى الطفل غرائز تدفعه للعمل والحركة والبحث عن أسرار الأشياء ، من هذه الغرائز غريزة حب الاستطلاع وغريزة التخريب والبناء ، وهذه الغرائز من نعم الله تعالى ، وضعها في الأطفال ، فيجهل كثير من الآباء فهم سرها ومغزاها .
إن الولد الذي يعثر على ساعة أبيه ويسمع دقاتها ، تشتاق نفسه إلى معرفة أسرارها الداخلية مدفوعاً بغريزة حب الاستطلاع فيأخذ في فكها وتركيبها ليتعلم .
يثور الأب على ساعته ، وحق له أن يثور على هذه الساعة ، فيأخذ في عقاب الطفل ، فيتألم لما ناله من جزاء يرى أنه لا يستحقه ، لأنه إنما كان يقصد بعمله من تفكيك الساعة الوقوف على أسرارها
فما هو الحل العملي الطبيعي في هذه الحال ؟
الحل أن يقدم الآباء والأمهات لأبنائهم وبناتهم على الدوام أدوات رخيصة يمكن فكها وتركيبها ليشبعوا غريزتهم دون أذى ، كما يحسن أن يخصصوا لأطفالهم غرفة خاصة أو مكاناً خاصاً ليقوموا في عمل ما يشاءون دون أن يفسدوا أغراض المنزل .
إن الآباء والأمهات لو فعلوا ذلك لاستفادوا فوائد كثرة منها : يحفظون أدوات الدار سليمة ، ويشجعون أولادهم على البحث والملاحظة والاختراع .
أما إذا هم اقتصروا على عقاب الطفل ومنعه من اللعب بالأشياء ، فإنهم يقلبون البيت إلى جحيم ، ويقتلون في الطفل الغرائز المفيدة التي تجعل منه مخترعاً ومفكراً ، وقد يحدثون فيه الكبت ( الحصر ) وهو يؤدي إلى كثير من الأمراض العصبية المختلفة كما ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع .
هذا ولابد من الإشارة قبل الانتهاء من هذا البحث ، إلى أن أحسن الألعاب ليس أغلاها ثمناً ، وهي ذات ( الزنبرك ) بل الذي يمكن تفكيكه وتركيبه بسهولة ، لذا كانت ألعاب ( الميكانو ) وعدة قطع خشبية متلفة الأحجام والأشكال وملونة يبني بها الطفل ما يريد ، خيراً بكثير من الألعاب الثمينة التي لا تتطلب من الطفل إلا النظر أو العمل القليل فقط .
2) قد يصادف أن كثيراً من الأطفال يخربون الأشياء دون فائدة ولا غاية ، وهذا صحيح ، وعملهم هذا ليس ناشئاً من غرائز حب الاستطلاع والفك والبناء ، إنما هو يعود إلى أسباب نفسية ناجمة عن الغيرة والغضب والحسد ، وقد بحثنا عن أسباب هذه الأمور في مواضعها .
3) وهناك حالات قليلة نجدها عند بعض الأطفال الذين يخربون ويهدمون كثيراً مما يصل إلى أيديهم من أدوات المنزل دون أن يكون ذلك لحب الاستطلاع ، أو نتيجة الغيرة أو الحسد .
وهذه الحال تعود إلى أسباب لا شعورية بحاجة إلى طبيب نفساني لمعالجتها تعود إلى أمور مكبوتة منذ الصغر .
الولد الكسلان
كثيراً ما يسئ الآباء والمعلمون معاملة الولد الكسلان ويعاقبونه ويحتقرونه ، مما يولد عنده الشعور بالنقص فيفقد الثقة بنفسه وتضمحل شخصيته مع أن الكسلان كثيراً ما يكون بحاجة إلى الشفقة والعطف والمعالجة !
للكسل أسباب كثيرة :
1) سبب مرضي انتاني ، فيجب مراجعة الطبيب الأخصائي في الأطفال عند ظهور خمولهم وكسلهم .
2) سوء طريقة المعلمين في تربية الطفل وتعليمه ، فإن الشدة والخوف يخبلان العقل ، وسوء نظام طرق التدريس يُفسد الذهن .
3) حرمان الطفل من عناية أمه ومربيته وحبهما ، مما يطفئ جذوة نشاطه ، فإن الطفل بحاجة إلى المحبة كما هو بحاجة إلى الغذاء !(3/97)
4) عدم ميله إلى المعلومات التي يتلقاها ، أو أنها فوق سويته العقلية .
5) من عدم مؤازرة الأبوين لطفلهما في خطواته الأولى التعليمية ، فإن لكل جديد دهشة ، فلا بد للأبوين أن يساعداه في المراحل الأولى ، وإذا لم يقدرا على ذلك استعانا بغيرهما وسعيا لتشجيعه على الدوام والتعاون مع معلميه .
6) سوء نظام البيت واستيلاء الفوضى فيه مما يعكر صفو الطفل ويشوش ذهنه ولا يجعل فيه رغبة فيه المدرسة .
الولد الكذاب
الكذب صفة قبيحة وهو مفتاح الجرائم ، لذلك يجب حماية الأطفال منه منذ الصغر ، واستئصاله منهم إذا وُجد .
والكذب يرجع إلى الأسباب الآتية :
1) شدة الآباء والمربين وقساوتهم ، فإن الولد إذا خاف منهم اضطر إلى الكذب خشية العقوبة .
2) اتصاف الأبوين بالكذب ، وكذبهم على الناس وعلى أولادهم ، ومثل هذين الأبوين ينشئان أولاداً كاذبين من الطراز الأول مهما حاولوا وعظهم للتمسك بالصدق . فإن هذه الصفة لا تكتسب إلا بالقدوة والتدريب شأن اكثر الصفات الأخلاقية .
جلس رجل يوماً إلى ولده وأخذ ينصحه بعدم الكذب مدة طويلة ، وبينما هو في وعظه إذ قُرع باب البيت ، فقال الأب لابنه : اذهب وافتح الباب وإذا حضر فلان فقل له : إن والدي غير موجود في الدار !
3) إن شعور الطفل بالنقص ، كثيراً ما يدفعه إلى الكذب فيتحدث عن مغامراته وبطولاته الموهومة ليعوض عن نقصه ، فعلاج ذلك يكون بدراسة الطفل الناقص من هذا الكتاب .
4) قد يكذب الطفل حباً بالمدح المدفوع بغريزة حب الذات ، فيمكن إشباع غريزته هذه بتكليفه بأعمال تتناسب ومقدرته وشكره ومدحه حين تنفيذها .
5) هناك كثير من الكذب يتعلمه الأولاد من الحكايات الكاذبة التي يقصها عليهم آباؤهم ومربيهم . ففي قصص القرآن الكريم وقصص البطولة والمروءة العربية والإسلامية غنى عنها .
6) يكذب بعض الأطفال أحياناً ويذكرون أنهم شاهدوا حيوانات معينة أو فعلوا أموراً ولم يفعلوها ، وهذا النوع من الكذب ناشئ غالباً من شدة خيال الأطفال كأنهم يعيشون في حلم ، فهم لا يفرقون بين الواقع والخيال .
وهذا النوع من الأطفال ينبغي تدريبهم للتفريق بين الحقيقة والخيال بالنصح والتمرين .
الولد الغضوب
الغضب ميل غريزي لا يمكن استئصاله والتخلص منه ، ولكن بالاستطاعة ضبطه والسيطرة عليه .
وأقصد بالسيطرة ، السيطرة الداخلية التي يقوم بها الولد بنفسه ، لا السيطرة الخارجية كسيطرة الأب الذي يمنع ابنه من إظهار الغضب بالقوة .
إن كتمان الغضب على هذه الطريقة يؤدي إلى اضطراب وغليان وثورة تختفي في نفس الولد وتسبب له الأمراض العصبية .
لذلك كانت معالجة الغضب بحاجة إلى انتباه ودقة ، وخير وسيلة للنجاة من الغضب هي تقوية إرادة الطفل حتى يستطيع ضبط نفسه . فالإرادة في الإنسان ( كالفرامل ) في السيارة .
لماذا يغضب الطفل ؟
قلنا أن الغضب ميل غريزي يثور ويشتد إذا قام أحد بمنع الطفل من تنفيذ غريزة من غرائزه . نأخذ مثالاً على ذلك : طفل يريد أن يلعب ، واللعب ميل فطري ، فإذا منع من ذلك ظهرت عليه علامات الغضب .
لذا كان من واجب الآباء والمربين ملاحظة هذه النقطة الحساسة ، فيسعون على الدوام لعدم منع الطفل من تنفيذ غرائزه إذا لم يكن له من تنفيذها محذور . أما التي يظهر محذورها فيمكن تحويلها كما تحدثنا عن ذلك في مقدمة هذا الكتاب .
ما هي أسباب الغضب ؟
للغضب أسباب كثيرة نذكر منها :
1) الغيرة ، وهي ناجمة عن عدم عدل الأبوين في معاملة أولادهما ، فإذا وجد طفل أباه يحسن معاملة أخيه ويعطيه أكثر منه ، اشتعلت نيران الغضب في نفسه ، وكان السبب في ذلك هذا الأب . فالمساواة والعدل حتى في الحب واجب ديني وتربوي .
2) الكيد ، يغضب الطفل إذا كاد له أحد رفقائه أو إخوته ، فلكي ننقذ هذا الطفل من غضبه يجب أن نبعده عمن يكيدون له .
3) القدوة السيئة ، إن الولد الذي يجد أباه وأمه يغضبان لأقل سبب ويثوران على الدوام ، لا بد أن ينشأ على مثالهما ، فعل الآباء أن يكونوا على بينة من الأمر ويضبطوا أنفسهم على الدوام وخاصة أمام أولادهم .
4) تكليف الولد ما لا يطاق ككثير من الأوامر والطلبات ، وقديماً قيل : إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع .
والغضب زيادة على أضراره النفسية ، فإن له أضراراً جسيمة شديدة ، فإن الغضب يفسد الدم ويقلل مقاومته وربما سبب مرض السرطان ! .
وقد يكون الغضب مقروناً بنوبات عصبية كالوقوع على الأرض وتمزيق الثياب ، وتوتر في أعضاء الجسم ، فينبغي الإسراع بتجنب أسباب الغضب ومراجعة الأطباء إذا اقتضى الأمر ، وهذا خير من سماع وصفات الدجالين وحجبهم التي نهى الشارع الإسلامي عنها .
وقد تكون هذه النوبات قصدية يفعلها الولد ليتوصل إلى مراده من أبويه ، فيجب في هذه الحال عدم الانتباه إليها ، فإذا علم أن هذه المظاهر لا تلفت اهتمام أبويه تركها من نفسه .(3/98)
هذا وإن الغضب ميل غريزي كما قلنا ، وهو ضروري في هذه الحياة ، وإذا زال من الولد كان أشبه منه على الحياة ، فينبغي أن ندرب الطفل على الغضب لدينه وشرفه ووطنه ، وهذا خير من أن يغضب لأمور تافهة .
وقد ورد عن النبي لزوم الجلوس والاضطجاع والوضوء بالماء البارد في حالات الغضب . فما أجدرنا نحن وأولادنا باللجوء إلى ذلك إذ لا يخفى تأثير الجسد على النفس .
الولد العنيد المتمرد
نذكر من أسباب التمرد :
1. صعوبة وكثرة أوامر الآباء والمعلمين التي لا تطاق ، فتدفع الطفل لرفضها وعدم تنفيذها . بل والثورة عليها ، ومن المفيد في هذا الشأن أن نذكر للطفل الفائدة من العمل المطلوب منه تنفيذه .
2. سوء تصرف الأبوين وخلافهم على طريقة تربية الطفل أمامه .
3. قال أحد المربين : " ويمكن اعتبار العصيان والتمرد شكلاً من أشكال الاعتداد بالنفس ، قد وضع في غير موضعه ، وهو يتأتى من المرض حين يحس الطفل بالتعب والانحلال القوي " .
4. ضعف شخصية القائمين على تربية الطفل وتبدل أوامرهم من حين إلى آخر وخضوعهم للطفل عند طلب حاجاته المرفوضة إذا تكرر طلبه .
فينبغي للآباء والمربين أن يكونوا حازمين ولا يصدروا أوامرهم إلا إذا تحققوا من تنفيذها ، وإذا رفضوا إعطاء الطفل شيئاً بناء على طلبه ، فيجب أن يستمروا على هذا المنع ، ولو ألحَّ وبكى حتى يعرف أن البكاء والتمرد لا يفيدانه .
ومن الخير تدريب الطفل على طلب حاجاته بهدوء ولطف .
5. سرعة طلب تنفيذ الأوامر ، يسبب عناد الطفل وتمرده عليها ، فلا بد من إعطائه شيئاً من المهلة والحرية . وليس معنى هذا : التساهل معه .
6. وينشأ التمرد أحياناً عن الحسد وعدم معاملة الأولاد بصورة عادلة متساوية .
7. قد ينشأ العناد والعصيان عند الطفل من استعمال الآباء والمربون للشدة والقسوة في تربيته ، فيضطر للثورة والانفجار ، وفي الاستعاضة عن ذلك باللين والنصح خير كثير .
8. شدة غيرة الأبوين وخوفهما على الطفل في غير سبب معقول ، يؤدي به إلى التمرد والعصيان كالأم التي تود حجز طفلها في بستان خشية سقوطه في النهر ، وكان الأجدر بها التنزه في بستان أمين وعدم حجز حرية ولدها .
الولد العاصي
كثير من الآباء والأمهات يشكون من عدم إطاعة أولادهم لأوامرهم . والعصيان يعود إلى سبب من الأسباب التالية :1)
1) قد تكون أوامر الآباء مخالفة لغرائز الأطفال ، وفي إطاعتها ضرر لهم ، كالنهي عن ترك اللعب والحركة ، وعن فك الأشياء وتركيبها .
2) قد تكون أوامر الآباء والمربين غير ثابتة ، كأن ينهوا الأطفال عن أعمال مرة ، ثم يعودوا بعد ذلك يتساهلوا مرة أخرى .
3) قد تكون الأوامر فوق طاقتهم ومقدرتهم ، وقديماً قيل : " إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع " . وهذه الأوامر تُسبب للطفل الأزمات العصبية وسوء الخُلق . فينبغي في هذه الحال تجزئة الأوامر وطلب تنفيذها بصورة تدريجية .
4) ليس عند الأطفال التفكير السليم ، ودماغهم لا يستطيع تنفيذ ما يؤمر به إلا بطريقة بطيئة ، لذلك كان من الواجب التريث في طلب تنفيذ هذه الأوامر ، ريثما تنضج في عقله .
5) ومن أسباب العصيان جهل الآباء بأهم مبدأ من مبادئ التربية ، وهو أن لكل إنسان ميوله واستعداده الخاص به ، فليس من الإمكان فرض اقتراحات وأوامر على الطفل لا تتفق وميوله .
فالآباء كثيراً ما يفرضون ما يشتهون من العلوم والمهن على أولادهم ليختصوا فيها دون أن يميلوا إليها ، وإذا رفضوا ما اقتُرح عليهم – وحق لهم الرفض – نسبوا عملهم إلى العصيان .
6) هناك كثير من أوامر الآباء والمربين تحمل معها فكرة عصيانها لأنها بصيغة الأوامر المجردة ، ولا تحمل معها روح التعاون والاستهواء . فهناك فرق عظيم بين قولنا للطفل : أملئ سطلاً من الماء البارد . وبين قولنا : ابني ولد مطيع ، إنه سيذهب الآن بسرعة ليملئ سطل ماءً بارداً .
ذلك أن الطفل محب للظهور وله شخصية ينبغي احترامها ، ولا يجوز بحال من الأحوال تحطيمها بالأوامر المختلفة ، وبالقوة والعقاب ، فينشأ ناقماً على أبويه وضعيفاً مخبولاً لا فائدة منه للمجتمع .
7) كثر من الأوامر تلقى في أوقات غير مناسبة ، كأن يكون الولد يلعب أو يأكل ، فينبغي اختيار الوقت المناسب لهذه الأوامر . وإذا كان الولد يلعب ونود أن يحضر لتناول الطعام ، لا نرى مانعاً من إعلامه برغبتنا قبل مدة كي يستعد لإنهاء لعبه ما دام هذا اللعب بنظره ليس أُلهية لا مغزى لها ، إنما هو عمل مفيد منتج !
8) لا أرى مانعاً من تفهيم الطفل فائدة ما نأمره به إذا أمكن ، وهذا خير من أن يكون آلة صماء تطيع دون معرفة سبب تلك الطاعة . فإذا طلب منا شراء دراجة مثلاً ، ولم نستطع ، بسبب عجز ميزانيتنا ، تلبية طلبه ، أوضحنا له وارداتنا وكيف تنفق ولا يبقى منها شئ ، وإن شراء الدراجة يسبب الحرمان من الخبز واللحم ، وهذا خير من قولنا : لا ، نحن لا نشتري لك دراجة .(3/99)
ونختتم هذا البحث بوصية لأحد كبار المربين : " إذا أردت غرس عادة الطاعة ، فتفرغ أول كل شئ على دراسة ابنك ، وقف على ما يفكر فيه ، واعرف كيف يستجيب لما يعرض عليه .
فكِّر ملياً في وعودك قبل أن تعده بها ، فإذا وعدت فأوف بوعدك ، أو أوضح لولدك العلة في خلف الوعد حتى تستبقي ثقة الطفل بك " ونرى من حق الولد على أبيه أن يُثني عليه في حال طاعته ، ويشكره ويكافئه من حين إلى آخر بغية تشجيعه واستمراره على الطاعة ، فإن حب الإحسان وتقبُّل الثناء فطري عند الكبار والصغار .
=================0000000
حقوق الزوجين
خامساً : حقوق الزوجين :
إذا تم عقد الزواج صحيحاً مستوفياً لأركانه وشروطه ، رتب الشارع بمقتضاه حقوقاً وواجبات متبادلة بين الزوجين ، وذلك انطلاقاً من قوله _ تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } ، أي: للنساء من الحقوق على الرجال مثل ما للرجال على النساء من واجبات .
أقسام الحقوق الزوجية :
وتنقسم الحقوق الزوجية إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : حقوق الزوج على الزوجة : حقوق الزوج على زوجته
كثيرة يمكن تلخيص أهمها كما يلي :
1 _ الطاعة : يجب على الزوجة أن تكون مطيعة لزوجها ، وتنفذ كل ما يأمر به ـ إلا أن يكون معصية لله ـ وأن تتجنب كل ما ينهى عنه وما لا يرضاه ـ إلا أن يكون طاعة لله ـ لأن الطاعة مجلبة للهناء والرضاء ، والمخالفة تولد الشحناء والبغضاء، وتوجب النفور وتفسد المحبة .
وطاعة المرأة لزوجها واجبة عليها شرعاً ، فإن له حق القوامة عليها ، يقول الله _ تعالى _ { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } 1، وهذه القوامة لا تعني الاستبداد والتسلط والقهر ، بل هي ولاية النصح والتوجيه والرعاية والحماية ، يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير الآية { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } 2، الدرجة إشارة إلى حضِّ الرجال على حسن العشرة ، والتوسع للنساء في المال والخلق ، أي : ينبغي أن يتحامل على نفسه3.
2 _ الأمانة: على الزوجة أن تحفظ غيبة زوجها في نفسها وبيته وماله وولده ، قال تعالى: { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ } 4، أي: مطيعات لأزواجهن، يحفظن أنفسهن، وأموال أزواجهن وأولادهم في غيبتهم5، وقال r "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده ، فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته"6 فعلى الزوجة أن تحسن تربية أولادها وِفق الدين والفضيلة ، وأن تصون نفسها عما يدنس شرفها وشرف زوجها ، وأن تحافظ على ماله7.
3 _ حسن العِشرة : يجب على الزوجة معاشرة زوجها بالمعروف من كفِّ الأذى وغيره ، فلا تؤذيه ، ولا تشق عليه ، كما عليه معاشرتها بالمعروف أيضاً ، قال r : " أيما امرأة ماتت وزوجها راضٍ عنها دخلت الجنة "8 وقد تطيع المرأة زوجها طاعة عمياء ، ولكنها لا تحسن عشرته ، فتطيعه فيما يأمر به ، ولكن لا يمنعها ذلك أن تكون سليطة اللسان ، عابسة الوجه ، قاسية النظرة ، خشنة المعاملة ، مما يؤدي إلى كثرة المشكلات والخصومات ، وفشل الحياة الزوجية9 .
4 _ حق التأديب : للزوج الحق في تأديب زوجته عند نشوزها أو عصيانها أمره بالمعروف لا في المعصية ، قال _ تعالى _ { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } 10، فالمرأة مكلفة بطاعة زوجها ـ كما أشرنا من قبل ـ فإذا خالفت وعصت فإن الزوج يملك حق تأديبها ، وذلك بالطرق المشروعة ، وهي المذكورة في الآية السابقة ، وهي على الترتيب ، فيبدأ بالوسيلة الأولى الوعظ والإرشاد ، فإذا أصرت لجأ إلى الثانية الهجر في المضجع والإعراض ، فإن لم تفلح لجأ إلى الثالثة الضرب11.
والمراد بالضرب في الآية الضرب غير المبرح ، وغير الشائن ، فلا يحل أن يضربها بعصا ، ولا يحل له أن يلطمها على وجهها ، والرجل الكامل لا يرضى لنفسه أن يضرب زوجته ، والنبي r لم يضرب امرأة قط ، فالتأديب في تطبيقه لا يتعلق بكل زوجة، وإنما الزوجة المشاكسة الناشزة12، وقد سئل ابن عباس عن الضرب غير المبرح ؟ قال بالسواك ونحوه13.(3/100)
5 _ الحداد على الزوج: إذا مات الزوج اقتضى الوفاء له أن تظهر الزوجة الحزن والأسى على فراقه أربعة أشهر وعشراً، اعترافاً بالفضل والجميل، وذلك بتجنب الطيب والزينة، وأن تلزم بيت الزوجية فلا تبارحه إلا للضرورة، وتمتنع خطبتها صراحة في هذه المدة14 قال _ تعالى _ { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } 15.
القسم الثاني : حقوق الزوجة على زوجها : حقوق الزوجة على زوجها كثيرة أيضاً يمكن تلخيص أهمها في الحقوق التالية :
1 ـ حسن المعاشرة : إذا كانت الزوجة مطالبة بأن تحسن عشرة زوجها، فالزوج بالمثل مطالب بذات المعاملة ، قال _ تعالى _ { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } 16، وحسن العشرة يكون باللين والرفق في المعاملة ، وأن يوفيها حقها من المهر والنفقة، وأن يبتسم في وجهها ولا يعبس بدون ذنب ، وأن يتجمل لها كما تتجمل له ، وأن يصبر على أذاها17 ـ وهذا أمر مستحب ـ قال r " ولا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقاً رضي غيره"18.
يقول ابن كثير في تفسيره للآية السابقة : " أي : طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله، كما قال
تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } 19 "20.
2 _ العدل : ويكون العدل من المتزوج بواحدة أن يعاملها بما يحب أن تعامله به ، بحيث لو فعلت به مثل الذي يفعل بها لقبله منها ، وليتذكر قوله _ تعالى _ { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف … } ، فيطعمها مما يطعم ، ويكسوها مما يلبس، ويسكنها السكن اللائق بها ، وأن لا يسيء إليها بالقول أو الفعل .
أما إذا كان متزوجاً أكثر من واحدة ؛ فالعدل تتشعب نواحيه ، فيصبح مطالباً بالعدل بينهن جميعاً ، فلا يظلمهن ، ولا يفرق في المعاملة بين واحدة وأخرى بل عليه المساواة في المعاملة الظاهرة بينهن ، في المطعم والملبس والمسكن ، والمعاملة بالقول أو الفعل ، وكذلك المبيت بأن يبيت عند كل واحدة بقدر ما يبيت عند الأخرى ، فقد قال _ تعالى _ { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } 21، والمطلوب هو العدل الظاهر في الأمور المادية المقدورة ، وليس المطلوب العدل والمساواة في المحبة القلبية، قال _ تعالى_ { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ } 22، وقد كان النبي r يعدل بين زوجاته في الأمور المادية ، ويقول : "اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني في تملك ولا أملك"23 أي : في الحب والمودة24
3 _ المهر : وهو حق واجب للزوجة على زوجها ، فيجب أن يؤدي لها ما اتفق عليه من مهر ، ولا يحق لأحد أن يستولي على شيء من المهر إلا برضاها التام، الخالي من الإكراه والمجاملة ، قال _ تعالى _ { وآتوا النساء صَدُقاتهنَّ نِحلة ، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } 25، وأجمع العلماء على أنه لا حدَّ لكثيره ، واختلفوا في قليله ، قال _ تعالى _ { وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ؟ } 26.
والحكمة من وجوب المهر : هي إظهار خطر هذا العقد ومكانته ، وإعزاز المرأة وإكرامها ، وتقديم الدليل على محبة الزوج لها، ورغبته فيها ، واحترامه لشخصها، ودوام الزواج، وفيه تمكين للمرأة من التهيؤ للزواج بما يلزم من لباس ونفقة27.
4 _ النفقة : وهي حق للزوجة على زوجها ، قال _ تعالى _ { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } 28، والنفقة تشمل الطعام والشراب والكسوة والسكنى اللائقة بها ، ويكون الطعام والكسوة على حسب قدرة الزوج من يسار وإعسار ، قال _ تعالى _ { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } 29، وقال r: "إذا أنفق المسلم نفقة على أهله _ وهو يحتسبها _ كانت له صدقة "30 والمراد بالأهل : الزوجة ، وقيل : الزوجة والأقارب31 .
القسم الثالث: الحقوق المشتركة بين الزوجين :
لا يثبت عقد الزواج للرجل حقوقاً ينفرد بها فحسب، ولا للزوجة حقوقاً تختص بها دون الرجل، بل إنه يثبت مجموعة من الحقوق المشتركة للزوجين يتساوى أمامها الزوج والزوجة، وتجب لكل منهما على الآخر أهمها:(3/101)
1 _ إباحة المعاشرة الزوجية : قرر الإسلام أن المعاشرة الزوجية حق لكلٍ من الزوجين ، فيحل استمتاع كلٌ منهما بالآخر على النحو المقرر شرعاً ، ما لم يمنع منه مانع ، قال _ تعالى _ { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } 32، والعلاقة الجنسية أمر عظيم الأثر على العلاقة الزوجية ، وربما كان إهمال الزوجين لها ، وعدم إيلائها الاهتمام الكافي منهما سبباً في تكدر الحياة، وافتقارها إلى عنصر السعادة والمحبة والسكن33 .
2 _ حرمة المصاهرة: بمجرد عقد الزواج تحرم على الزوج أصول الزوجة، كما تحرم فروعها بالدخول، وكذلك يحرم عليها أصول وفروع الزوج، قال _ تعالى _ { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً } 34 وقوله _ تعالى _ { …وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } 35.
والحكمة من حرمة المصاهرة أن العشرة لما حلت بين الزوجين ربطت بينهما، وجعلت بينهما لُحمة تشبه النسب أو أقوى ، ثم ربطت بين أسرتيهما برباط المصاهرة، فصارتا كأنهما أسرة واحدة ، فلا جرم كانت أم زوجة الإنسان كأمه وبنتها كبنته ، وزوجة
أبيه بمنزلة أمه ، وزوجة ابنه بمنزلة ابنه في الكرامة36 .
3 _ حق التوارث: الزواج الصحيح يثبت التوارث بين الزوجين بمجرد العقد، فأيهما مات قبل الآخر والعقد قائم ثبت للموجود في الإرث من تركة الآخر نصيباً مفروضاً ، قال _ تعالى _ { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ … } 37، فيرث الزوج نصف تركة زوجته إن لم يكن لها ولد ( ابن أو بنت ) فإن كان لها ولد له ربع التركة ، كما ترث الزوجة زوجها ولها ربع التركة إن لم يكن له ولد ( ابن أو بنت ) فإن كان له ولد فلها ثمن التركة38 .
4 _ انتساب الأولاد إليهما وحقهما في رعايتهم : التناسل من أغراض الزواج الرئيسة ، حفظاً للبقاء ، واستمراراً للنوع ، وثبوت النسب حق لكلٍ من الزوجين ، كما أنه حق للأولاد ، وقد حرم الإسلام على الزوجين أن ينكر أحدهما النسب ، أو يبدل فيه، قال r "أيُّما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ، ولن يدخلها الله جنته ، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه به على رؤوس الخلائق بين الأولين والآخرين"39 فمن حق الأولاد أن يعيشوا بينهم في حضانتهم ورعايتهم ، تحفُّهم المحبة والحنان
===========
حقوق الزوجين ...
الأسد السلفي
بسم الله الرحمن الرحيم
حق الزوجين
للزواج آثار هامة ، ومقتضيات كبيرة فهو رابطة بين الزوج وزوجته ، يلزم كل واحد منهما بحقوق للآخر : حقوق بدنية ، وحقوق اجتماعية ، وحقوق مالية .
فيجب على الزوجين أن يعاشر كل منهما الآخر بالمعروف ، وأن يبذل الحق الواجب له بكل سماحة وسهولة من غير تكره لبذله ولا مماطلة . قال الله تعالى : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف)(النساء: الآية19) الآية وقال تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة)(البقرة: الآية228) الآية . كما يجب على المرأة أن تبذل لزوجها ما يجب عليها بذله ، ومتى قام كل واحد من الزوجين بما يجب عليه للآخر كانت حياتهما سعيدة ودامت العشرة بينهما ، وإن كان الأمر بالعكس حصل الشقاق والنزاع وتنكدت حياة كل منهما .
ولقد جاءت النصوص الكثيرة بالوصية بالمرأة ومراعاة حالها ، وأن كمال الحال من المحال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( استوصوا بالنساء خيرا ، فإن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء ). وفي رواية : ( إن المرأة خلقت من ضلع ولن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر ) . ومعني لا يفرك: لا يبغض .(3/102)
ففي هذه الأحاديث إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم أمته كيف يعامل الرجل المرأة وأنه ينبغي أن يأخذ منها ما تيسر لأن طبيعتها التي منها خلقت أن لا تكون على الوجه الكامل ، بل لابد فيها من عوج ، ولا يمكن أن يستمتع بها الرجل ، إلا على الطبيعة التي خلقت عليها وفي هذه الأحاديث أنه ينبغي للإنسان أن يقارن بين المحاسن والمساوئ في المرأة فإنه إذا كره منها خلقا فليقارنه بالخلق الثاني الذي يرضاه منها ولا ينظر إليها بمنظار السخط والكراهية وحده .
وإن كثيراً من الأزواج يريدون الحالة الكاملة من زوجاتهم ، وهذا شيء غير ممكن وبذلك يقعون في النكد ، ولا يتمكنون من الاستمتاع والمتعة بزوجاتهم ، وربما أدى ذلك إلى الطلاق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ). فينبغي للزوج أن يتساهل ويتغاضى عن كل ما تفعله الزوجة إذا كان لا يخل بالدين أو الشرف .
ومن حقوق الزوجة على زوجها : أن يقوم بواجب نفقتها من الطعام والشراب والكسوة والمسكن . وتوابع ذلك لقوله تعالى : ( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(البقرة: الآية233) قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وسئل ما حق زوجة أحدنا عليه قال : ( أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت ) . رواه أبو داؤود .
ومن حقوق الزوجة على زوجها : أن يعدل بينها وبين جارتها إن كان له زوجة ثانية ، يعدل بينهما في الإنفاق والسكنى والمبيت وكل ما يمكنه العدل فيه ، فإن الميل إلى إحداهما كبيرة من الكبائر ، قال صلى الله عليه وسلم : ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) . وأما ما لا يمكنه أن يعدل فيه كالمحبة وراحة النفس فإنه لا إثم عليه فيه ؛ لأن هذا بغير استطاعته قال الله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ )(النساء: الآية129). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) .
ولكن لو فضل إحداهما على الأخرى في المبيت برضاها فلا بأس ؛ كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سوده حين وهبته سوده لعائشة ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل وهو في مرضه الذي مات فيه ؛ أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء ، فكان في بيت عائشة حتى مات .
أما حقوق الزوج على زوجته فهي أعظم من حقوقها عليه لقوله تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )(البقرة: الآية228) والرجل قوام على المرأة يقوم بمصالحها وتأديبها وتوجيهها كما قال تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ )(النساء: الآية34) .
فمن حقوق الزوج على زوجته : أن تطيعه في غير معصية الله وأن تحفظه في سره وماله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) .
ومن حقوقه عليها : أن لا تعمل عملا يضيع عليه كمال الاستمتاع حتى لو كان ذلك تطوعا بعبادة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه ) .
ولقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الزوج عن زوجته من أسباب دخولها الجنة ؛ فروى الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة )
===========
حقوق الزوجين
جعل الإسلام لكل من الزوجين حقوقًا كما جعل عليه واجبات، يجب أن يعلمها خير عِلم، حتى يؤدي ما عليه من واجب خير أداء، ويطلب ما له من حق بصورة لائقة، وإذا علم الزوج والزوجة ما له وما عليه، فقد ملك مفتاح الطمأنينة والسكينة لحياته، وتلك الحقوق تنظم الحياة الزوجية، وتؤكد حسن العشرة بين الزوجين، ويحسن بكل واحد منهما أن يعطى قبل أن يأخذ، ويفي بحقوق شريكه باختياره؛ طواعية دون إجبار، وعلى الآخر أن يقابل هذا الإحسان بإحسان أفضل منه، فيسرع بالوفاء بحقوق شريكه كاملة من غير نقصان.
حقوق الزوجة:
للزوجة حقوق على زوجها يلزمه الوفاء بها، ولا يجوز له التقصير في أدائها، قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228] .
وهذه الحقوق هي:(3/103)
1- النفقة: أوجب الإسلام على الرجل أن ينفق على زوجته من ماله وإن كانت ميسورة الحال، فيوفر لها الطعام والشراب والمسكن والملبس المناسب بلا تقصير ولاإسراف، قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسًا إلا ما أتاها} [الطلاق:7]. وقال: {وأسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} [الطلاق: 6].
وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجة والأبناء، فقال صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)_[مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها (أي: يبتغى بها وجه الله ورضاه) كانت له صدقة) [متفق عليه].
وإذا أنفقت المرأة من مال زوجها في سبيل الله من غير إفساد ولا إسراف، كان ذلك حسنة في ميزان زوجها، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها -غير مفسدة- كان لها أجرها بما أنفقتْ، ولزوجها أجره بما كسب [مسلم].
وللزوجة أن تأخذ من مال زوجها -من غير إذنه- ما يكفيها، إذا قصر في الإنفاق عليها وعلى أبنائها، ولا تزيد عن حد الكفاية. فقد سألتْ السيدة هند بنت عتبة -رضي الله عنها- رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان (زوجها) رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) [متفق عليه] .
2- حسن العشرة: يجب على الرجل أن يدخل السرور على أهله، وأن يسعد زوجته ويلاطفها، لتدوم المودة، ويستمر الوفاق. قال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} [النساء: 19] .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا عمليّا لحسن معاشرة النساء، فكان يداعب أزواجه، ويلاطفهن، وسابق عائشة -رضي الله عنها- فسبقتْه، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها، فقال: (هذه بتلك) [ابن ماجه] وقال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) [ابن ماجه] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وألطفهم بأهله)_الترمذي]، وتقول السيدة عائشة -رضي الله عنها-: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله (أي: يساعدهن في إنجاز بعض الأعمال الخاصة بهن)، فإذا سمع الأذان خرج. [البخاري، وأبوداود].
ولحسن العشرة بين الزوجين صور تؤكِّد المحبة والمودة، وهي:
- السماح للزوجة بالتعبير عن رأيها: فالحياة الزوجية مشاركة بين الزوجين، والرجل يعطي زوجته الفرصة لتعبر عن رأيها فيما يدور داخل بيتها، وهذا مما يجعل الحياة بين الزوجين يسيرة وسعيدة. ويجب على الرجل أن يحترم رأي زوجته، ويقدره إذا كان صوابًا، وإن خالف رأيه. فذات يوم وقفت زوجة عمر بن الخطاب لتراجعه (أي تناقشه) -رضي الله عنهما- فلما أنكر عليها ذلك، قالت: ولِمَ تنكر أن أراجعَك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجِعْنه. [البخاري].
ولما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يتحللوا من العمرة ليعودوا إلى المدينة (وكان ذلك عقب صلح الحديبية سنة ست من الهجرة)، تأخر المسلمون في امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا محزونين من شروط صلح الحديبية، وعدم تمكنهم من أداء العمرة في ذلك العام، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة -رضي الله عنها- فذكر لها ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله. أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا منهم، حتى تنحر بُدْنَك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، فلما رأى المسلمون ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم زال عنهم الذهول، وأحسوا خطر المعصية لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاموا ينحرون هَدْيهَم، ويحلق بعضهم بعضًا، وذلك بفضل مشورة أم سلمة.
-التبسم والملاطفة والبر: يجب على الرجل أن يكون مبسوط الوجه مع أهله، فلا يكون متجهمًا في بيته يُرهب الكبير والصغير، بل يقابل إساءة الزوجة بالعفو الجميل، والابتسامة الهادئة مع نصحها بلطف، فتسود المحبة تبعًا لذلك ويذهب الغضب.
فعن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمتَ، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح (أي: لا تقل لها: قبحك الله)، ولا تهجر إلا في البيت)
[أبو داود، وابن حبان]، وقال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضِّلَع أعلاه؛ فإن ذهبتَ تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج) [متفق عليه] .(3/104)
3- تحصين الزوجة بالجماع: الجماع حق مشترك بين الزوجين، يستمتع كل منهما بالآخر، فبه يعف الرجل والزوجة، ويبعدا عن الفاحشة، ويُؤْجرا في الآخرة. وللزوجة على الرجل أن يوفيها حقها هذا، وأن يلاطفها ويداعبها، وعلى المرأة مثل ذلك.
وقد اجتهد بعض العلماء؛ فقالوا: إنه يستحب للرجل أن يجامع زوجته
مرة -على الأقل- كل أربع ليال، على أساس أن الشرع قد أباح للرجل الزواج بأربع نسوة، ولا يجوز للرجل أن يسافر سفرًا طويلاً، ويترك زوجته وحيدة، تشتاق إليه، وترغب فيه. فإما أن يصطحبها معه، وإما ألا يغيب عنها أكثر من أربعة أشهر.
4- العدل بين الزوجات: من عظمة التشريع الإسلامي، ورحمة الله بعباده المؤمنين، ومنعًا للفتنة وانتشار الفاحشة، ورعاية للأرامل اللاتي استشهد أزواجهن، وتحصينًا للمسلمين، أباح الإسلام تعدد الزوجات، وقصره على أربع يَكُنَّ في عصمة الرجل في وقت واحد، والمرأة الصالحة لا تمنع زوجها من أن يتزوج بأخرى، إذا كان في ذلك إحصان له، أو لمرض أصابها، أو لرعاية أرملة، أو لمجابهة زيادة عدد النساء في المجتمع عن عدد الرجال، فإذا تزوج الرجل بأكثر من واحدة فعليه أن يعدل بينهن، قال تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع فإن خفتم إلا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3].
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من لا يتحرى العدل بينهن، فقال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له امرأتان، يميل مع إحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط) [الترمذي]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل بين زوجاته، حتى إنه كان يقرع بينهن عند سفره. [البخاري] .
والعدل بين الزوجات يقتضي الإنفاق عليهن بالتساوي في المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، والمبيت عندهن، أما العدل بينهن في الجانب العاطفي، فذلك أمر لا يملكه الإنسان، فقد يميل قلبه إلى إحدى زوجاته أكثر من ميله للأخرى، وهذا لا يعنى أن يعطيها أكثر من الأخريات بأية حال من الأحوال.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) [أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه]. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} [النساء: 129] .
5- المهر: وهو أحد حقوق الزوجة على الزوج، ولها أن تأخذه كاملا، أو تأخذ بعضه وتعفو عن البعض الآخر، أو تعفو عنه كله، وقد ورد فيما سبق تفصيلاً.
حقوق الزوج:
يمثل الرجل في الأسرة دور الربان في السفينة، وهذا لا يعني إلغاء دور المرأة، فالحياة الزوجية مشاركة بين الرجل والمرأة، رأس المال فيها المودة والرحمة، والرجل عليه واجبات تحمل أعباء الحياة ومسئولياتها، وتحمل مشكلاتها، وكما أن للمرأة حقوقًا على زوجها، فإن له حقوقًا عليها، إذا قامت بها سعد وسعدت، وعاشا حياة طيبة كريمة، قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم} [البقرة: 228] .
وقد سألت السيدة عائشة -رضي الله عنها- رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أي الناس أعظم حقًّا على المرأة؟ قال: (زوجها)، فقالت: فأي الناس أعظم حقًّا على الرجل؟ قال: (أمه) [الحاكم، والبزار].
وللرجل على المرأة حق القوامة، فعلى المرأة أن تستأذن زوجها في الخروج من البيت، أو الإنفاق من ماله، أو نحو ذلك، ولكن ليس للزوج أن يسيء فهم معنى القوامة، فيمنع زوجته من الخروج، إذا كان لها عذر مقبول، كصلة الرحم أو قضاء بعض الحاجات الضرورية. فما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم.
والقوامة للرجل دون المرأة، فالرجل له القدرة على تحمل مشاق العمل، وتبعات الحياة، ويستطيع أن ينظر إلى الأمور نظرة مستقبلية، فيقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34] .
ومن الحقوق التي يجب على الزوجة القيام بها تجاه زوجها:
1-الطاعة:
أوجب الإسلام على المرأة طاعة زوجها، ما لم يأمرها بمعصية الله تعالى، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد أعدَّ الله تعالى لها الجنة إذا أحسنت طاعته، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت) [أحمد، والطبراني].(3/105)
وقال أيضًا: (أيما امرأة ماتت، وزوجها عنها راضٍ؛ دخلت الجنة) [ابن ماجه]. وروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله. أنا وافدة النساء إليك؛ هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أجروا، وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن -معشر النساء- نقوم عليهم، فما لنا من ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج، واعترافًا بحقه يعدل ذلك (أي: يساويه (وقليل منكن من يفعله) [البزار، والطبراني].
2- تلبية رغبة الزوج في الجماع:
يجب على المرأة أن تطيع زوجها إذا طلبها للجماع، درءًا للفتنة، وإشباعًا للشهوة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه فليأتِ أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه) [مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا : (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح) [البخاري، ومسلم، وأحمد].
ولا طاعة للزوج في الجماع إذا كان هناك مانع شرعي عند زوجته، ومن ذلك :
- أن تكون المرأة في حيض أو نفاس .
- أن تكون صائمة صيام فرض؛ كشهر رمضان، أو نذر، أوقضاء، أو كفارة، أما في الليل فيحل له أن يجامعها؛ لقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187] .
- أن تكون مُحْرِمَة بحج أو عمرة .
أن يكون قد طلب جماعها في دبرها
ما يحلّ للرجل من زوجته في فترة حيضها:
يحرم على الرجل أن يجامع زوجته وهي حائض؛ لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222]، ويجوز للرجل أن يستمتع بزوجته فيما دون فرجها.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر إحدانا إذا كانتْ حائضًا أن تأتزر ويباشرها فوق الإزار. [مسلم]. فإذا جامع الرجل زوجته وهي حائض، وكان عالمًا بالتحريم، فقد ارتكب كبيرة من الكبائر، عليه أن يتوب منها، وعليه أن يتصدق بدينار إن كان الوطء في أول الحيض، وبنصف دينار إن كان في آخره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا واقع الرجل أهله، وهي حائض، إن كان دمًا أحمر فليتصدَّقْ بدينار، وإن كان أصفر فليتصدَّقْ بنصف دينار)_[أبو داود، والحاكم]. ويقاس النفاس على الحيض.
3- التزين لزوجها:
حيث يجب على المرأة أن تتزين لزوجها، وأن تبدو له في كل يوم كأنها عروس في ليلة زفافها، وقد عرفت أنواع من الزينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كالكحل، والحناء، والعطر. قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر) [الترمذي، والنسائي].
وكانت النساء تتزين بالحلي، وترتدي الثياب المصبوغة بالعُصْفُر (وهو لون أحمر)، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته ألا يدخل أحدهم على زوجته فجأة عند عودته من السفر؛ حتى تتهيأ وتتزين له، فعن جابر-رضي الله عنه -أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يَطْرُقَ الرجل أهله ليلاً.
[متفق عليه].
وما أبدع تلك الصورة التي تحكيها إحدى الزوجات، فتقول: إن زوجي رجل يحتطب (يقطع الأخشاب، ويجمعه من الجبل، ثم ينزل إلى السوق فيبيعها، ويشترى ما يحتاجه بيتنا)، أُحِسُّ بالعناء الذي لقيه في سبيل رزقنا، وأحس بحرارة عطشه في الجبل تكاد تحرق حلقي، فأعد له الماء البارد؛ حتى إذا قدم وجده، وقد نَسَّقْتُ متاعي، وأعددت له طعامه، ثم وقفتُ أنتظره في أحسن ثيابي، فإذا ولج (دخل) الباب، استقبلته كما تستقبل العروسُ الذي عَشِقَتْهُ، فسلمتُ نفسي إليه، فإن أراد الراحة أعنته عليها، وإن أرادني كنت بين ذراعيه كالطفلة الصغيرة يتلهى بها أبوها. وهكذا ينبغي أن تكون كل زوجة
مع زوجها. فعلى المرأة أن تَتَعَرَّف الزينة التي يحبها زوجها، فتتحلى بها، وتجود فيها، وعليها أن تعرف ما لا يحبه فتتركه إرضاءً وإسعادًا له، وتتحسَّس كل ما يسره في هذا الجانب.
4- حق الاستئذان:
ويجب على المرأة أن تستأذن زوجها في أمور كثيرة منها صيام التطوع، حيث يحرم عليها أن تصوم بغير إذنه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد (أي: حاضر) إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: (ومن حق الزوج على الزوجة ألا تصوم إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها) [الطبراني]. ولا يجوز للمرأة أن تأذن في بيت زوجها إلا بإذنه، ولا أن تخرج من بيتها لغير حاجة إلا بإذنه.(3/106)
عن ابن عباس وابن عمر قالا: أتت امرأة من خثعم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أيِّم (لا زوج لي)، وأريد أن أتزوج، فما حق الزوج؟ قال: (إن حق الزوج على الزوجة: إذا أرادها فراودها وهي على ظهر بعير لا تمنعه، ومن حقه ألا تعطي شيئًا من بيته إلا بإذنه، فإن فعلتْ كان الوزر عليها، والأجر له، ومن حقه ألا تصوم تطوعًا إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت، ولم يُتقبَّل منها، وإن خرجت من بيتها بغير إذنه لعنتها الملائكة حتى ترجع إلى بيته أو أن تتوب) [البيهقى، والطبراني].
5- المحافظة على عرضه وماله:
يجب على المرأة أن تحافظ على عرضها، وأن تصونه عن الشبهات، ففي ذلك إرضاء للزوج، وأن تحفظ مال زوجها فلاتبدده، ولاتنفقه في غير مصارفه الشرعية، فحسن التدبير نصف المعيشة، وللزوجة أن تنفق من مال زوجها بإذنه. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها -غير مفسدة- كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب. [مسلم].
6- الاعتراف بفضله:
يسعى الرجل ويكدح؛ لينفق على زوجته وأولاده، ويوفر لهم حياة هادئة سعيدة، بعيدة عن ذل الحاجة والسؤال، والرجل يحصن زوجته بالجماع، ويكفيها مئونة مواجهة مشاكل الحياة؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها) [أبو داود، والترمذي، وابن حبان].
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم النساء أن يجحدن فضل أزواجهن، فقال صلى الله عليه وسلم: (اطلعتُ في النار، فإذا أكثر أهلها النساء؛ يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط) [البخاري]. ولا يخفى على الزوجة عظم فضل زوجها عليها، فعليها أن تديم شكره والثناء عليه؛ لتكون بذلك شاكرة لله رب العالمين.
7- خدمة الزوج:
الزوجة المسلمة تقوم بما عليها من واجبات، تجاه زوجها وبيتها وأولادها وهي راضية، تبتغي بذلك رضا ربِّها تعالى، فقد كانت أسماء بنت أبي بكر تخدم زوجها الزبير بن العوام -رضي الله عنه- في البيت، وكان له فرس، فكانتْ تقوم على أمره.
كما كانت فاطمة -رضي الله عنها، بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقوم بالخدمة في بيت علي بن أبي طالب زوجها، ولم تستنكف عن القيام باحتياجاته، ولما طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم خادمًا يعينها على شئون البيت، ولم يكن ذلك متوفرًا، أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تذكر الله إذا أوت إلى فراشها، فتسبح وتحمد وتكبر، فهذا عون لها على ما تعانيه من مشقة.
وهذا الحق من باب الالتزام الديني، وليس حقًّا قضائيًّا، وعلى هذا نصَّ الشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم.
=============
حقوق الزوجين
جعل الإسلام لكل من الزوجين حقوقًا كما جعل عليه واجبات، يجب أن يعلمها خير عِلم، حتى يؤدي ما عليه من واجب خير أداء، ويطلب ما له من حق بصورة لائقة، وإذا علم الزوج والزوجة ما له وما عليه، فقد ملك مفتاح الطمأنينة والسكينة لحياته، وتلك الحقوق تنظم الحياة الزوجية، وتؤكد حسن العشرة بين الزوجين، ويحسن بكل واحد منهما أن يعطى قبل أن يأخذ، ويفي بحقوق شريكه باختياره؛ طواعية دون إجبار، وعلى الآخر أن يقابل هذا الإحسان بإحسان أفضل منه، فيسرع بالوفاء بحقوق شريكه كاملة من غير نقصان.
حقوق الزوجة:
للزوجة حقوق على زوجها يلزمه الوفاء بها، ولا يجوز له التقصير في أدائها، قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228] .
وهذه الحقوق هي:
1- النفقة: أوجب الإسلام على الرجل أن ينفق على زوجته من ماله وإن كانت ميسورة الحال، فيوفر لها الطعام والشراب والمسكن والملبس المناسب بلا تقصير ولاإسراف، قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسًا إلا ما أتاها} [الطلاق:7]. وقال: {وأسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} [الطلاق: 6].
وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجة والأبناء، فقال صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)_[مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها (أي: يبتغى بها وجه الله ورضاه) كانت له صدقة) [متفق عليه].
وإذا أنفقت المرأة من مال زوجها في سبيل الله من غير إفساد ولا إسراف، كان ذلك حسنة في ميزان زوجها، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها -غير مفسدة- كان لها أجرها بما أنفقتْ، ولزوجها أجره بما كسب [مسلم].(3/107)
وللزوجة أن تأخذ من مال زوجها -من غير إذنه- ما يكفيها، إذا قصر في الإنفاق عليها وعلى أبنائها، ولا تزيد عن حد الكفاية. فقد سألتْ السيدة هند بنت عتبة -رضي الله عنها- رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان (زوجها) رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) [متفق عليه] .
2- حسن العشرة: يجب على الرجل أن يدخل السرور على أهله، وأن يسعد زوجته ويلاطفها، لتدوم المودة، ويستمر الوفاق. قال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} [النساء: 19] .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا عمليّا لحسن معاشرة النساء، فكان يداعب أزواجه، ويلاطفهن، وسابق عائشة -رضي الله عنها- فسبقتْه، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها، فقال: (هذه بتلك) [ابن ماجه] وقال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) [ابن ماجه] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وألطفهم بأهله)_الترمذي]، وتقول السيدة عائشة -رضي الله عنها-: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله (أي: يساعدهن في إنجاز بعض الأعمال الخاصة بهن)، فإذا سمع الأذان خرج. [البخاري، وأبوداود].
ولحسن العشرة بين الزوجين صور تؤكِّد المحبة والمودة، وهي:
- السماح للزوجة بالتعبير عن رأيها: فالحياة الزوجية مشاركة بين الزوجين، والرجل يعطي زوجته الفرصة لتعبر عن رأيها فيما يدور داخل بيتها، وهذا مما يجعل الحياة بين الزوجين يسيرة وسعيدة. ويجب على الرجل أن يحترم رأي زوجته، ويقدره إذا كان صوابًا، وإن خالف رأيه. فذات يوم وقفت زوجة عمر بن الخطاب لتراجعه (أي تناقشه) -رضي الله عنهما- فلما أنكر عليها ذلك، قالت: ولِمَ تنكر أن أراجعَك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجِعْنه. [البخاري].
ولما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يتحللوا من العمرة ليعودوا إلى المدينة (وكان ذلك عقب صلح الحديبية سنة ست من الهجرة)، تأخر المسلمون في امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا محزونين من شروط صلح الحديبية، وعدم تمكنهم من أداء العمرة في ذلك العام، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة -رضي الله عنها- فذكر لها ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله. أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا منهم، حتى تنحر بُدْنَك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، فلما رأى المسلمون ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم زال عنهم الذهول، وأحسوا خطر المعصية لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاموا ينحرون هَدْيهَم، ويحلق بعضهم بعضًا، وذلك بفضل مشورة أم سلمة.
-التبسم والملاطفة والبر: يجب على الرجل أن يكون مبسوط الوجه مع أهله، فلا يكون متجهمًا في بيته يُرهب الكبير والصغير، بل يقابل إساءة الزوجة بالعفو الجميل، والابتسامة الهادئة مع نصحها بلطف، فتسود المحبة تبعًا لذلك ويذهب الغضب.
فعن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمتَ، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح (أي: لا تقل لها: قبحك الله)، ولا تهجر إلا في البيت)
[أبو داود، وابن حبان]، وقال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضِّلَع أعلاه؛ فإن ذهبتَ تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج) [متفق عليه] .
3- تحصين الزوجة بالجماع: الجماع حق مشترك بين الزوجين، يستمتع كل منهما بالآخر، فبه يعف الرجل والزوجة، ويبعدا عن الفاحشة، ويُؤْجرا في الآخرة. وللزوجة على الرجل أن يوفيها حقها هذا، وأن يلاطفها ويداعبها، وعلى المرأة مثل ذلك.
وقد اجتهد بعض العلماء؛ فقالوا: إنه يستحب للرجل أن يجامع زوجته
مرة -على الأقل- كل أربع ليال، على أساس أن الشرع قد أباح للرجل الزواج بأربع نسوة، ولا يجوز للرجل أن يسافر سفرًا طويلاً، ويترك زوجته وحيدة، تشتاق إليه، وترغب فيه. فإما أن يصطحبها معه، وإما ألا يغيب عنها أكثر من أربعة أشهر.
4- العدل بين الزوجات: من عظمة التشريع الإسلامي، ورحمة الله بعباده المؤمنين، ومنعًا للفتنة وانتشار الفاحشة، ورعاية للأرامل اللاتي استشهد أزواجهن، وتحصينًا للمسلمين، أباح الإسلام تعدد الزوجات، وقصره على أربع يَكُنَّ في عصمة الرجل في وقت واحد، والمرأة الصالحة لا تمنع زوجها من أن يتزوج بأخرى، إذا كان في ذلك إحصان له، أو لمرض أصابها، أو لرعاية أرملة، أو لمجابهة زيادة عدد النساء في المجتمع عن عدد الرجال، فإذا تزوج الرجل بأكثر من واحدة فعليه أن يعدل بينهن، قال تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع فإن خفتم إلا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3].(3/108)
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من لا يتحرى العدل بينهن، فقال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له امرأتان، يميل مع إحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط) [الترمذي]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل بين زوجاته، حتى إنه كان يقرع بينهن عند سفره. [البخاري] .
والعدل بين الزوجات يقتضي الإنفاق عليهن بالتساوي في المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، والمبيت عندهن، أما العدل بينهن في الجانب العاطفي، فذلك أمر لا يملكه الإنسان، فقد يميل قلبه إلى إحدى زوجاته أكثر من ميله للأخرى، وهذا لا يعنى أن يعطيها أكثر من الأخريات بأية حال من الأحوال.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) [أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه]. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} [النساء: 129] .
5- المهر: وهو أحد حقوق الزوجة على الزوج، ولها أن تأخذه كاملا، أو تأخذ بعضه وتعفو عن البعض الآخر، أو تعفو عنه كله، وقد ورد فيما سبق تفصيلاً.
حقوق الزوج:
يمثل الرجل في الأسرة دور الربان في السفينة، وهذا لا يعني إلغاء دور المرأة، فالحياة الزوجية مشاركة بين الرجل والمرأة، رأس المال فيها المودة والرحمة، والرجل عليه واجبات تحمل أعباء الحياة ومسئولياتها، وتحمل مشكلاتها، وكما أن للمرأة حقوقًا على زوجها، فإن له حقوقًا عليها، إذا قامت بها سعد وسعدت، وعاشا حياة طيبة كريمة، قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم} [البقرة: 228] .
وقد سألت السيدة عائشة -رضي الله عنها- رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أي الناس أعظم حقًّا على المرأة؟ قال: (زوجها)، فقالت: فأي الناس أعظم حقًّا على الرجل؟ قال: (أمه) [الحاكم، والبزار].
وللرجل على المرأة حق القوامة، فعلى المرأة أن تستأذن زوجها في الخروج من البيت، أو الإنفاق من ماله، أو نحو ذلك، ولكن ليس للزوج أن يسيء فهم معنى القوامة، فيمنع زوجته من الخروج، إذا كان لها عذر مقبول، كصلة الرحم أو قضاء بعض الحاجات الضرورية. فما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم.
والقوامة للرجل دون المرأة، فالرجل له القدرة على تحمل مشاق العمل، وتبعات الحياة، ويستطيع أن ينظر إلى الأمور نظرة مستقبلية، فيقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34] .
ومن الحقوق التي يجب على الزوجة القيام بها تجاه زوجها:
1-الطاعة:
أوجب الإسلام على المرأة طاعة زوجها، ما لم يأمرها بمعصية الله تعالى، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد أعدَّ الله تعالى لها الجنة إذا أحسنت طاعته، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت) [أحمد، والطبراني].
وقال أيضًا: (أيما امرأة ماتت، وزوجها عنها راضٍ؛ دخلت الجنة) [ابن ماجه]. وروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله. أنا وافدة النساء إليك؛ هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أجروا، وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن -معشر النساء- نقوم عليهم، فما لنا من ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج، واعترافًا بحقه يعدل ذلك (أي: يساويه (وقليل منكن من يفعله) [البزار، والطبراني].
2- تلبية رغبة الزوج في الجماع:
يجب على المرأة أن تطيع زوجها إذا طلبها للجماع، درءًا للفتنة، وإشباعًا للشهوة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه فليأتِ أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه) [مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا : (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح) [البخاري، ومسلم، وأحمد].
ولا طاعة للزوج في الجماع إذا كان هناك مانع شرعي عند زوجته، ومن ذلك :
- أن تكون المرأة في حيض أو نفاس .
- أن تكون صائمة صيام فرض؛ كشهر رمضان، أو نذر، أوقضاء، أو كفارة، أما في الليل فيحل له أن يجامعها؛ لقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187] .
- أن تكون مُحْرِمَة بحج أو عمرة .
أن يكون قد طلب جماعها في دبرها
ما يحلّ للرجل من زوجته في فترة حيضها:
يحرم على الرجل أن يجامع زوجته وهي حائض؛ لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222]، ويجوز للرجل أن يستمتع بزوجته فيما دون فرجها.(3/109)
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر إحدانا إذا كانتْ حائضًا أن تأتزر ويباشرها فوق الإزار. [مسلم]. فإذا جامع الرجل زوجته وهي حائض، وكان عالمًا بالتحريم، فقد ارتكب كبيرة من الكبائر، عليه أن يتوب منها، وعليه أن يتصدق بدينار إن كان الوطء في أول الحيض، وبنصف دينار إن كان في آخره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا واقع الرجل أهله، وهي حائض، إن كان دمًا أحمر فليتصدَّقْ بدينار، وإن كان أصفر فليتصدَّقْ بنصف دينار)_[أبو داود، والحاكم]. ويقاس النفاس على الحيض.
3- التزين لزوجها:
حيث يجب على المرأة أن تتزين لزوجها، وأن تبدو له في كل يوم كأنها عروس في ليلة زفافها، وقد عرفت أنواع من الزينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كالكحل، والحناء، والعطر. قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر) [الترمذي، والنسائي].
وكانت النساء تتزين بالحلي، وترتدي الثياب المصبوغة بالعُصْفُر (وهو لون أحمر)، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته ألا يدخل أحدهم على زوجته فجأة عند عودته من السفر؛ حتى تتهيأ وتتزين له، فعن جابر-رضي الله عنه -أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يَطْرُقَ الرجل أهله ليلاً.
[متفق عليه].
وما أبدع تلك الصورة التي تحكيها إحدى الزوجات، فتقول: إن زوجي رجل يحتطب (يقطع الأخشاب، ويجمعه من الجبل، ثم ينزل إلى السوق فيبيعها، ويشترى ما يحتاجه بيتنا)، أُحِسُّ بالعناء الذي لقيه في سبيل رزقنا، وأحس بحرارة عطشه في الجبل تكاد تحرق حلقي، فأعد له الماء البارد؛ حتى إذا قدم وجده، وقد نَسَّقْتُ متاعي، وأعددت له طعامه، ثم وقفتُ أنتظره في أحسن ثيابي، فإذا ولج (دخل) الباب، استقبلته كما تستقبل العروسُ الذي عَشِقَتْهُ، فسلمتُ نفسي إليه، فإن أراد الراحة أعنته عليها، وإن أرادني كنت بين ذراعيه كالطفلة الصغيرة يتلهى بها أبوها. وهكذا ينبغي أن تكون كل زوجة
مع زوجها. فعلى المرأة أن تَتَعَرَّف الزينة التي يحبها زوجها، فتتحلى بها، وتجود فيها، وعليها أن تعرف ما لا يحبه فتتركه إرضاءً وإسعادًا له، وتتحسَّس كل ما يسره في هذا الجانب.
4- حق الاستئذان:
ويجب على المرأة أن تستأذن زوجها في أمور كثيرة منها صيام التطوع، حيث يحرم عليها أن تصوم بغير إذنه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد (أي: حاضر) إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: (ومن حق الزوج على الزوجة ألا تصوم إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها) [الطبراني]. ولا يجوز للمرأة أن تأذن في بيت زوجها إلا بإذنه، ولا أن تخرج من بيتها لغير حاجة إلا بإذنه.
عن ابن عباس وابن عمر قالا: أتت امرأة من خثعم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أيِّم (لا زوج لي)، وأريد أن أتزوج، فما حق الزوج؟ قال: (إن حق الزوج على الزوجة: إذا أرادها فراودها وهي على ظهر بعير لا تمنعه، ومن حقه ألا تعطي شيئًا من بيته إلا بإذنه، فإن فعلتْ كان الوزر عليها، والأجر له، ومن حقه ألا تصوم تطوعًا إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت، ولم يُتقبَّل منها، وإن خرجت من بيتها بغير إذنه لعنتها الملائكة حتى ترجع إلى بيته أو أن تتوب) [البيهقى، والطبراني].
5- المحافظة على عرضه وماله:
يجب على المرأة أن تحافظ على عرضها، وأن تصونه عن الشبهات، ففي ذلك إرضاء للزوج، وأن تحفظ مال زوجها فلاتبدده، ولاتنفقه في غير مصارفه الشرعية، فحسن التدبير نصف المعيشة، وللزوجة أن تنفق من مال زوجها بإذنه. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها -غير مفسدة- كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب. [مسلم].
6- الاعتراف بفضله:
يسعى الرجل ويكدح؛ لينفق على زوجته وأولاده، ويوفر لهم حياة هادئة سعيدة، بعيدة عن ذل الحاجة والسؤال، والرجل يحصن زوجته بالجماع، ويكفيها مئونة مواجهة مشاكل الحياة؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها) [أبو داود، والترمذي، وابن حبان].
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم النساء أن يجحدن فضل أزواجهن، فقال صلى الله عليه وسلم: (اطلعتُ في النار، فإذا أكثر أهلها النساء؛ يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط) [البخاري]. ولا يخفى على الزوجة عظم فضل زوجها عليها، فعليها أن تديم شكره والثناء عليه؛ لتكون بذلك شاكرة لله رب العالمين.
7- خدمة الزوج:
الزوجة المسلمة تقوم بما عليها من واجبات، تجاه زوجها وبيتها وأولادها وهي راضية، تبتغي بذلك رضا ربِّها تعالى، فقد كانت أسماء بنت أبي بكر تخدم زوجها الزبير بن العوام -رضي الله عنه- في البيت، وكان له فرس، فكانتْ تقوم على أمره.(3/110)
كما كانت فاطمة -رضي الله عنها، بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقوم بالخدمة في بيت علي بن أبي طالب زوجها، ولم تستنكف عن القيام باحتياجاته، ولما طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم خادمًا يعينها على شئون البيت، ولم يكن ذلك متوفرًا، أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تذكر الله إذا أوت إلى فراشها، فتسبح وتحمد وتكبر، فهذا عون لها على ما تعانيه من مشقة.
وهذا الحق من باب الالتزام الديني، وليس حقًّا قضائيًّا، وعلى هذا نصَّ الشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم.
موسوعة الأسرة المسلمة من موقع كويت 25
===============
حقوق الزوجين
جعل الإسلام لكل من الزوجين حقوقًا كما جعل عليه واجبات، يجب أن يعلمها خير عِلم، حتى يؤدي ما عليه من واجب خير أداء، ويطلب ما له من حق بصورة لائقة، وإذا علم الزوج والزوجة ما له وما عليه، فقد ملك مفتاح الطمأنينة والسكينة لحياته، وتلك الحقوق تنظم الحياة الزوجية، وتؤكد حسن العشرة بين الزوجين، ويحسن بكل واحد منهما أن يعطى قبل أن يأخذ، ويفي بحقوق شريكه باختياره؛ طواعية دون إجبار، وعلى الآخر أن يقابل هذا الإحسان بإحسان أفضل منه، فيسرع بالوفاء بحقوق شريكه كاملة من غير نقصان.
حقوق الزوجة:
للزوجة حقوق على زوجها يلزمه الوفاء بها، ولا يجوز له التقصير في أدائها، قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228] .
وهذه الحقوق هي:
1- النفقة: أوجب الإسلام على الرجل أن ينفق على زوجته من ماله وإن كانت ميسورة الحال، فيوفر لها الطعام والشراب والمسكن والملبس المناسب بلا تقصير ولاإسراف، قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسًا إلا ما أتاها} [الطلاق:7]. وقال: {وأسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} [الطلاق: 6].
وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجة والأبناء، فقال صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)_[مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها (أي: يبتغى بها وجه الله ورضاه) كانت له صدقة) [متفق عليه].
وإذا أنفقت المرأة من مال زوجها في سبيل الله من غير إفساد ولا إسراف، كان ذلك حسنة في ميزان زوجها، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها -غير مفسدة- كان لها أجرها بما أنفقتْ، ولزوجها أجره بما كسب [مسلم].
وللزوجة أن تأخذ من مال زوجها -من غير إذنه- ما يكفيها، إذا قصر في الإنفاق عليها وعلى أبنائها، ولا تزيد عن حد الكفاية. فقد سألتْ السيدة هند بنت عتبة -رضي الله عنها- رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان (زوجها) رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) [متفق عليه] .
2- حسن العشرة: يجب على الرجل أن يدخل السرور على أهله، وأن يسعد زوجته ويلاطفها، لتدوم المودة، ويستمر الوفاق. قال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} [النساء: 19] .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا عمليّا لحسن معاشرة النساء، فكان يداعب أزواجه، ويلاطفهن، وسابق عائشة -رضي الله عنها- فسبقتْه، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها، فقال: (هذه بتلك) [ابن ماجه] وقال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) [ابن ماجه] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وألطفهم بأهله)_الترمذي]، وتقول السيدة عائشة -رضي الله عنها-: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله (أي: يساعدهن في إنجاز بعض الأعمال الخاصة بهن)، فإذا سمع الأذان خرج. [البخاري، وأبوداود].
ولحسن العشرة بين الزوجين صور تؤكِّد المحبة والمودة، وهي:
- السماح للزوجة بالتعبير عن رأيها: فالحياة الزوجية مشاركة بين الزوجين، والرجل يعطي زوجته الفرصة لتعبر عن رأيها فيما يدور داخل بيتها، وهذا مما يجعل الحياة بين الزوجين يسيرة وسعيدة. ويجب على الرجل أن يحترم رأي زوجته، ويقدره إذا كان صوابًا، وإن خالف رأيه. فذات يوم وقفت زوجة عمر بن الخطاب لتراجعه (أي تناقشه) -رضي الله عنهما- فلما أنكر عليها ذلك، قالت: ولِمَ تنكر أن أراجعَك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجِعْنه. [البخاري].(3/111)
ولما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يتحللوا من العمرة ليعودوا إلى المدينة (وكان ذلك عقب صلح الحديبية سنة ست من الهجرة)، تأخر المسلمون في امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا محزونين من شروط صلح الحديبية، وعدم تمكنهم من أداء العمرة في ذلك العام، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة -رضي الله عنها- فذكر لها ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله. أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا منهم، حتى تنحر بُدْنَك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، فلما رأى المسلمون ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم زال عنهم الذهول، وأحسوا خطر المعصية لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاموا ينحرون هَدْيهَم، ويحلق بعضهم بعضًا، وذلك بفضل مشورة أم سلمة.
-التبسم والملاطفة والبر: يجب على الرجل أن يكون مبسوط الوجه مع أهله، فلا يكون متجهمًا في بيته يُرهب الكبير والصغير، بل يقابل إساءة الزوجة بالعفو الجميل، والابتسامة الهادئة مع نصحها بلطف، فتسود المحبة تبعًا لذلك ويذهب الغضب.
فعن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمتَ، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح (أي: لا تقل لها: قبحك الله)، ولا تهجر إلا في البيت)
[أبو داود، وابن حبان]، وقال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضِّلَع أعلاه؛ فإن ذهبتَ تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج) [متفق عليه] .
3- تحصين الزوجة بالجماع: الجماع حق مشترك بين الزوجين، يستمتع كل منهما بالآخر، فبه يعف الرجل والزوجة، ويبعدا عن الفاحشة، ويُؤْجرا في الآخرة. وللزوجة على الرجل أن يوفيها حقها هذا، وأن يلاطفها ويداعبها، وعلى المرأة مثل ذلك.
وقد اجتهد بعض العلماء؛ فقالوا: إنه يستحب للرجل أن يجامع زوجته
مرة -على الأقل- كل أربع ليال، على أساس أن الشرع قد أباح للرجل الزواج بأربع نسوة، ولا يجوز للرجل أن يسافر سفرًا طويلاً، ويترك زوجته وحيدة، تشتاق إليه، وترغب فيه. فإما أن يصطحبها معه، وإما ألا يغيب عنها أكثر من أربعة أشهر.
4- العدل بين الزوجات: من عظمة التشريع الإسلامي، ورحمة الله بعباده المؤمنين، ومنعًا للفتنة وانتشار الفاحشة، ورعاية للأرامل اللاتي استشهد أزواجهن، وتحصينًا للمسلمين، أباح الإسلام تعدد الزوجات، وقصره على أربع يَكُنَّ في عصمة الرجل في وقت واحد، والمرأة الصالحة لا تمنع زوجها من أن يتزوج بأخرى، إذا كان في ذلك إحصان له، أو لمرض أصابها، أو لرعاية أرملة، أو لمجابهة زيادة عدد النساء في المجتمع عن عدد الرجال، فإذا تزوج الرجل بأكثر من واحدة فعليه أن يعدل بينهن، قال تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع فإن خفتم إلا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3].
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من لا يتحرى العدل بينهن، فقال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له امرأتان، يميل مع إحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط) [الترمذي]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل بين زوجاته، حتى إنه كان يقرع بينهن عند سفره. [البخاري] .
والعدل بين الزوجات يقتضي الإنفاق عليهن بالتساوي في المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، والمبيت عندهن، أما العدل بينهن في الجانب العاطفي، فذلك أمر لا يملكه الإنسان، فقد يميل قلبه إلى إحدى زوجاته أكثر من ميله للأخرى، وهذا لا يعنى أن يعطيها أكثر من الأخريات بأية حال من الأحوال.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) [أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه]. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} [النساء: 129] .
5- المهر: وهو أحد حقوق الزوجة على الزوج، ولها أن تأخذه كاملا، أو تأخذ بعضه وتعفو عن البعض الآخر، أو تعفو عنه كله، وقد ورد فيما سبق تفصيلاً.
حقوق الزوج:
يمثل الرجل في الأسرة دور الربان في السفينة، وهذا لا يعني إلغاء دور المرأة، فالحياة الزوجية مشاركة بين الرجل والمرأة، رأس المال فيها المودة والرحمة، والرجل عليه واجبات تحمل أعباء الحياة ومسئولياتها، وتحمل مشكلاتها، وكما أن للمرأة حقوقًا على زوجها، فإن له حقوقًا عليها، إذا قامت بها سعد وسعدت، وعاشا حياة طيبة كريمة، قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم} [البقرة: 228] .
وقد سألت السيدة عائشة -رضي الله عنها- رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أي الناس أعظم حقًّا على المرأة؟ قال: (زوجها)، فقالت: فأي الناس أعظم حقًّا على الرجل؟ قال: (أمه) [الحاكم، والبزار].(3/112)
وللرجل على المرأة حق القوامة، فعلى المرأة أن تستأذن زوجها في الخروج من البيت، أو الإنفاق من ماله، أو نحو ذلك، ولكن ليس للزوج أن يسيء فهم معنى القوامة، فيمنع زوجته من الخروج، إذا كان لها عذر مقبول، كصلة الرحم أو قضاء بعض الحاجات الضرورية. فما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم.
والقوامة للرجل دون المرأة، فالرجل له القدرة على تحمل مشاق العمل، وتبعات الحياة، ويستطيع أن ينظر إلى الأمور نظرة مستقبلية، فيقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34] .
ومن الحقوق التي يجب على الزوجة القيام بها تجاه زوجها:
1-الطاعة:
أوجب الإسلام على المرأة طاعة زوجها، ما لم يأمرها بمعصية الله تعالى، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد أعدَّ الله تعالى لها الجنة إذا أحسنت طاعته، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت) [أحمد، والطبراني].
وقال أيضًا: (أيما امرأة ماتت، وزوجها عنها راضٍ؛ دخلت الجنة) [ابن ماجه]. وروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله. أنا وافدة النساء إليك؛ هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أجروا، وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن -معشر النساء- نقوم عليهم، فما لنا من ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج، واعترافًا بحقه يعدل ذلك (أي: يساويه (وقليل منكن من يفعله) [البزار، والطبراني].
2- تلبية رغبة الزوج في الجماع:
يجب على المرأة أن تطيع زوجها إذا طلبها للجماع، درءًا للفتنة، وإشباعًا للشهوة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه فليأتِ أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه) [مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا : (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح) [البخاري، ومسلم، وأحمد].
ولا طاعة للزوج في الجماع إذا كان هناك مانع شرعي عند زوجته، ومن ذلك :
- أن تكون المرأة في حيض أو نفاس .
- أن تكون صائمة صيام فرض؛ كشهر رمضان، أو نذر، أوقضاء، أو كفارة، أما في الليل فيحل له أن يجامعها؛ لقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187] .
- أن تكون مُحْرِمَة بحج أو عمرة .
أن يكون قد طلب جماعها في دبرها
ما يحلّ للرجل من زوجته في فترة حيضها:
يحرم على الرجل أن يجامع زوجته وهي حائض؛ لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222]، ويجوز للرجل أن يستمتع بزوجته فيما دون فرجها.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر إحدانا إذا كانتْ حائضًا أن تأتزر ويباشرها فوق الإزار. [مسلم]. فإذا جامع الرجل زوجته وهي حائض، وكان عالمًا بالتحريم، فقد ارتكب كبيرة من الكبائر، عليه أن يتوب منها، وعليه أن يتصدق بدينار إن كان الوطء في أول الحيض، وبنصف دينار إن كان في آخره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا واقع الرجل أهله، وهي حائض، إن كان دمًا أحمر فليتصدَّقْ بدينار، وإن كان أصفر فليتصدَّقْ بنصف دينار)_[أبو داود، والحاكم]. ويقاس النفاس على الحيض.
3- التزين لزوجها:
حيث يجب على المرأة أن تتزين لزوجها، وأن تبدو له في كل يوم كأنها عروس في ليلة زفافها، وقد عرفت أنواع من الزينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كالكحل، والحناء، والعطر. قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر) [الترمذي، والنسائي].
وكانت النساء تتزين بالحلي، وترتدي الثياب المصبوغة بالعُصْفُر (وهو لون أحمر)، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته ألا يدخل أحدهم على زوجته فجأة عند عودته من السفر؛ حتى تتهيأ وتتزين له، فعن جابر-رضي الله عنه -أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يَطْرُقَ الرجل أهله ليلاً.
[متفق عليه].
وما أبدع تلك الصورة التي تحكيها إحدى الزوجات، فتقول: إن زوجي رجل يحتطب (يقطع الأخشاب، ويجمعه من الجبل، ثم ينزل إلى السوق فيبيعها، ويشترى ما يحتاجه بيتنا)، أُحِسُّ بالعناء الذي لقيه في سبيل رزقنا، وأحس بحرارة عطشه في الجبل تكاد تحرق حلقي، فأعد له الماء البارد؛ حتى إذا قدم وجده، وقد نَسَّقْتُ متاعي، وأعددت له طعامه، ثم وقفتُ أنتظره في أحسن ثيابي، فإذا ولج (دخل) الباب، استقبلته كما تستقبل العروسُ الذي عَشِقَتْهُ، فسلمتُ نفسي إليه، فإن أراد الراحة أعنته عليها، وإن أرادني كنت بين ذراعيه كالطفلة الصغيرة يتلهى بها أبوها. وهكذا ينبغي أن تكون كل زوجة(3/113)
مع زوجها. فعلى المرأة أن تَتَعَرَّف الزينة التي يحبها زوجها، فتتحلى بها، وتجود فيها، وعليها أن تعرف ما لا يحبه فتتركه إرضاءً وإسعادًا له، وتتحسَّس كل ما يسره في هذا الجانب.
4- حق الاستئذان:
ويجب على المرأة أن تستأذن زوجها في أمور كثيرة منها صيام التطوع، حيث يحرم عليها أن تصوم بغير إذنه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد (أي: حاضر) إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: (ومن حق الزوج على الزوجة ألا تصوم إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها) [الطبراني]. ولا يجوز للمرأة أن تأذن في بيت زوجها إلا بإذنه، ولا أن تخرج من بيتها لغير حاجة إلا بإذنه.
عن ابن عباس وابن عمر قالا: أتت امرأة من خثعم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أيِّم (لا زوج لي)، وأريد أن أتزوج، فما حق الزوج؟ قال: (إن حق الزوج على الزوجة: إذا أرادها فراودها وهي على ظهر بعير لا تمنعه، ومن حقه ألا تعطي شيئًا من بيته إلا بإذنه، فإن فعلتْ كان الوزر عليها، والأجر له، ومن حقه ألا تصوم تطوعًا إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت، ولم يُتقبَّل منها، وإن خرجت من بيتها بغير إذنه لعنتها الملائكة حتى ترجع إلى بيته أو أن تتوب) [البيهقى، والطبراني].
5- المحافظة على عرضه وماله:
يجب على المرأة أن تحافظ على عرضها، وأن تصونه عن الشبهات، ففي ذلك إرضاء للزوج، وأن تحفظ مال زوجها فلاتبدده، ولاتنفقه في غير مصارفه الشرعية، فحسن التدبير نصف المعيشة، وللزوجة أن تنفق من مال زوجها بإذنه. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها -غير مفسدة- كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب. [مسلم].
6- الاعتراف بفضله:
يسعى الرجل ويكدح؛ لينفق على زوجته وأولاده، ويوفر لهم حياة هادئة سعيدة، بعيدة عن ذل الحاجة والسؤال، والرجل يحصن زوجته بالجماع، ويكفيها مئونة مواجهة مشاكل الحياة؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها) [أبو داود، والترمذي، وابن حبان].
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم النساء أن يجحدن فضل أزواجهن، فقال صلى الله عليه وسلم: (اطلعتُ في النار، فإذا أكثر أهلها النساء؛ يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط) [البخاري]. ولا يخفى على الزوجة عظم فضل زوجها عليها، فعليها أن تديم شكره والثناء عليه؛ لتكون بذلك شاكرة لله رب العالمين.
7- خدمة الزوج:
الزوجة المسلمة تقوم بما عليها من واجبات، تجاه زوجها وبيتها وأولادها وهي راضية، تبتغي بذلك رضا ربِّها تعالى، فقد كانت أسماء بنت أبي بكر تخدم زوجها الزبير بن العوام -رضي الله عنه- في البيت، وكان له فرس، فكانتْ تقوم على أمره.
كما كانت فاطمة -رضي الله عنها، بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقوم بالخدمة في بيت علي بن أبي طالب زوجها، ولم تستنكف عن القيام باحتياجاته، ولما طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم خادمًا يعينها على شئون البيت، ولم يكن ذلك متوفرًا، أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تذكر الله إذا أوت إلى فراشها، فتسبح وتحمد وتكبر، فهذا عون لها على ما تعانيه من مشقة.
وهذا الحق من باب الالتزام الديني، وليس حقًّا قضائيًّا، وعلى هذا نصَّ الشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم.
=================00000
حتى يحبك الله ثم زوجتك كن كريمًا
ماجدة عمر
والزوجة تكره الزوج البخيل، وتتمنى الانفصال عنه، ولكن خوفها على أولادها، وحرصها على بيتها يحملانها على الصبر.
فماذا تقول الزوجات وهن يجأرن بالشكوى من بخل أزواجهن:
صابونة فى كيس
تقول السيدة/ زينب أحمد: تزوجت من رجل بخيل لدرجة الشح، كان يستولى على راتبى أول الشهر، وبرغم ذلك كان يطالبنى بالاقتصاد الشديد فى النفقات فى الأكل والشرب، ومن شدة بخله كان يأمرنى بوضع الصابونة فى كيس حتى لا تبلى بسرعة.
لم أستطع الحياة معه، وفى أقل من سنة تم الانفصال.
علقة ساخنة
آمال حنفى - ربة بيت - تقول: لى صديقة ضربها زوجها ضربًا مبرحًا من شدة بخله؛ لأنها عادت إليه من عملها، ومرتبها ينقص جنيه اشترت به إفطارًا، وعاشت معه سنوات صابرة ومحتسبة أجرها عند الله، ولكن صبرها نفذ نتيجة بخله الشديد، وانفصلت عنه.
غياب العاطفة
وتحكى أخرى أن زوجها يأخذ راتبها كله، ويحرمها من أبسط الأشياء، ويعد عليها قطع اللحم، وثمرات الفاكهة، ويحرم طفله الصغير من شرب اللبن، وهى أحيانًا تشترى طعامًا بدون علمه، ثم ترمى الورق، وأى أثر للطعام حتى لا يراه الزوج، كما تشترى الخضر والفاكهة آخر النهار حتى تكون بسعر أرخص، وتأخذ فرق السعر لشراء ما يلزمها.
الكريم حبيب الرحمن(3/114)
تقول سامية كمال : بخل الزوج يمكن تعديله بالالتزام بالدين فعلى الزوجة أن تذكر زوجها بأن الكريم حبيب الرحمن عكس البخيل الذى يبغضه الله، ويبغضه الناس، وبالإقناع ممكن أن يتغير الزوج ولو قليلاً، ولا داعى للانفصال؛ لأن ذلك له آثار سيئة على الأطفال.
تقول أمانى عبد الله: إن أصعب شيء فى الحياة هو البخل، والزوجة تستطيع أن تتحمل الفقر ولا تتحمل بخل الزوج، ونصيحتى للزوجة أن تلجأ للتقشف، وتقلل من نفقاتها، وتعيش على الأشياء الضرورية، وعليها أن تنسى أنها زوجة وتتذكر فقط أمومتها، وتعطى كل مشاعرها لأولادها تعويضًا عن بخل الأب.
- أين يقف الشرع الحنيف من بخل الزوج؟
تقول الداعية الإسلامية منى صلاح - رئيسة جمعية منابر النور - البخل لا يجتمع مع الإيمان، وأكثر ما يهدد الأسرة البخل؛ لأنه يترتب عليه بخل فى المشاعر، والبخيل لا يتغير؛ لأن هذا طبع فطره الله عليه، ولكن لابد أن يستعيذ البخيل بالله من البخل، قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «البخيل بعيد عن الله، بعيد عن الناس، بعيد عن الجنة، والكريم قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة»
فالزوج البخيل يدفع زوجته للكذب، فهى تشترى الأشياء بثمن وتخبر زوجها بغير الحقيقة، كذلك تحاول عدم طلب أى طلبات منه حتى لا يغضب، ولكى تحافظ على بيتها، والزوجة الصالحة تعلم جيدًا أن الصبر على الزوج السيئ أجره الجنة.
ولما جاءت امرأة أبى سفيان إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) تشكى له بخل زوجها فقال لها: «خذى ما يكفيك أنت وولدك بالمعروف»
ويقول الله عز وجل فى حديثه القدسى: «يا ابن آدم أنفق أنفق عليك».
تربية خاطئة
ويقول د. محمد حسن غانم - أستاذ علم النفس بجامعة حلوان - الرجل البخيل نتاج لتربية أبوية خاطئة فهو لم يولد بخيلاً، ولكنه اكتسب هذا السلوك أثناء فترة الطفولة، فهذه الصفة الذميمة وليدة تربية طويلة، وليست وليدة لحظة فيبقى حبه الأول وانتماؤه للمال.
ويضيف: أن البخيل ليس فى المال فقط، ولكنه فى المشاعر أيضًا، فهو يحسبها بالقلم والمسطرة، وربما فى فترة الخطوبة يكون كريمًا فى إنفاقه، وفى مشاعره، ولكن يظهر مشاعره الحقيقية بعد الزواج.
وبدون شك فإن الزوجة ترفض فى البداية وتشعر بالصدمة، وإذا كانت أسرتها ترفض هذا الوضع فهى تقف بجانبها حتى يتم الطلاق ويوافق الزوج البخيل على الطلاق، ولكنه يشترط أن يكون بدون أى خسارة أى لا يغرم نفقة أو مؤخرًا.
وأحيانًا ونظرًا لظروف الزوجة واقتناعها وأهلها بأن الطلاق شيء بغيض فإنها تعيش معه، وتصبر وتشعر أنها فى سجن، ويشعر أطفالها بالاضطراب النفسى.
=================00000000
كيف تجددين حياتك الزوجية أيتها الزوجة !!
1الزوجة الذكية هي التي تبقي شعلة الحب مشتعلة في بيتها، وأواصر العاطفة متأججة دائمًا مع زوجها، ورغم أن هذا مطلب لكل الزوجات، لكن الساعيات لتحقيق هذا المطلب قليلات، إذ ربما يرونه جاهزًا يتسلمنه كما يتسلمن وجبة غداء من مطعم!
هذا المطلب صناعة مشتركة بين الزوجين، لا يقل دور الزوجة في تحقيقه عن دور الزوج، هذه السطور قد تساعدك في ذلك:
(1) إذا كنت تشتكين من غياب زوجك كثيرًا عن المنزل بسبب أعماله ومشاغله فخير لك أن تتعلمي هواية تقضين بها وقت فراغك بدلاً من أن تشتكي لزوجك كلما عاد إلى المنزل خصوصًا إذا كان غيابه لأسباب حقيقية وضرورية ليس من بينها طبعًا السهر الزائد مع الأصدقاء.
(2) أكثر ما ينفر الأزواج من بيت الزوجية كثرة المشاكل وشعورهم بالعجز عن حلها، فلا تشعري زوجك بذلك ولا تكثري من الشكوى إليه في كل صغيرة وكبيرة، وتجنبي إثارة المشاكل معه قدر الإمكان.
(3) احذري أن تقدمي قائمة بطلباتك في لحظات الود والصفاء بينك وبين زوجك، ولا تكوني متسلطة في طلباتك وتفهمي قدراته المالية وأولوياته، فما ترينه أنت أولوية أولى قد لا يكون كذلك إذا عرفت بقية الالتزامات التي ينبغي عليه أن يؤديها.. هذه اللحظات أولى بأن تملئيها بكلمات الحب والملاطفة والتدليل لزوجك.
(4) احذري أن يساورك شعور بالوحدة والافتقاد لمن يساندك ويستمع إليك، وإذا حدث ذلك فأخبري زوجك.
(5) احرصي على التجديد في البيت وفي ملابسك وعطرك وزينتك بما يضفي على البيت مناخًا من البهجة والسعادة ويجعله مرفأ لزوجك يرسو إليه ويأنس إليه ويستريح فيه.
(6) في بداية الزواج وفي فترة الملكة ( بعد العقد وقبل الدخول ) كان زوجك هو الذي يبادر بالاتصال بك والسؤال عنك والتودد إليك، أي أنه كان يقوم بدور الطالب وأنت المطلوبة، الآن وبعد مدة من زواجكما إذا شعرت بأنك لم تعودي مطلوبة لديه كما كنت فلا ضير أن تغيري الأدوار وتقومي أنت بدور الطالب الذي يسعى ليتقرب من المطلوب.
(7) في النقاش بينكما تجنبي الصوت المرتفع، وأسلوب السخرية، وتجنبي أن تكوني سلبية أي يقتصر دورك على مجرد الاستماع بلا تعليق أو إضافة.(3/115)
(8) احذري من التذمر المستمر من كل نقص ترينه في البيت والشكوى من كثرة الأعمال التي تؤدينها، فرعايتك لزوجك وأطفالك وواجباتك المنزلية حق عليك وليس تفضلاً منك، وتذمرك المستمر يجعل زوجك ييأس من رضاك فلا يحرص عليه.
تجملوا وتهادوا وتجنبوا الجدال
هناك عدة أسباب تمثل عوامل رئيسية في فتور الحب بين الزوجين بعد مرور بضع سنوات على زواجهما وإنجاب الأطفال وانشغال الزوجة بأولادها تنظيفًا وتربية ورعاية مما يبعدها على ملازمة زوجها ورعايته ويحدَّ من وقتها المخصص له، بل ربما تسبب الأطفال باضطرار الزوج للنوم في غرفة أخرى خصوصًا إذا كان موظفًا تتطلب وظيفته النهوض مبكرًا كما هو شأن غالب الموظفين، وقد تكون رعاية الأطفال وتربيتهم سببًا في اختلاف وجهات النظر بين الزوجين، وبالتالي وجود المشادة الكلامية بينهما مما ينعكس سلبًا على الدفء العاطفي بينهما.
كما لا يخفى أن إنجاب الأطفال يؤثر على قوام المرأة ورشاقتها، وهي عوامل ذات تأثير كبير على جذب الزوج لزوجته..
ومن المؤسف أن الكثير من النساء تغفل هذا الجانب المهم فيترهّل جسمها وتفقد جمال قوامها ورشاقتها بعد الإنجاب وكان من الممكن تفادي هذه المشكلة المؤرقة بالحفاظ على التمارين الرياضية عبر الوسائل المختلفة.
ومن الأهمية المصارحة بين الزوجين فيما يتأذى منه الآخر كرائحة الفم أو العرق أو رائحة أثار الطبخ في الملابس أو الجسم خصوصًا مع وجود أسباب التغلب على هذه المؤثرات كالأدوية الطبية وأدوات التجميل والعطور المفيدة في القضاء على هذه المنغصات.
ومن العوامل أن إهمال الزوجة لنفسها في مظهرها وزينتها ورائحتها معول هدم للحب والألفة والتقارب بين الزوجين .. فالمرأة الفطنة هي من تحرص على أن لا يشم منها زوجها إلا ما يحب وأن يراها بشكل يسرّه ويبهجه وتخطئ بعض الزوجات بتخصيص ملابس مشابهة لملابس الخادمة تستخدمها في البيت بينما تلبس الملابس الجميلة في الذهاب للمناسبات والزيارات بما يثير حفيظة الزوج ويعكس عدم اهتمامها به في حياتهما العادية.
----------
إهمال الزينة بعد الزواج و آثاره !
في بداية الحياة الزوجية تحرص الزوجة على التزين لزوجها، لكن مع مرور الوقت قد تعتقد أن الكلفة بينهما زالت فتهمل زينتها، ومن المؤلم أن هذا الإهمال يقتصر على الزوج، إذ أنها تحرص على الزينة عند زيارة صديقاتها أو قريباتها.
ليس مطلوبًا منك أن تقضي جل يومك أمام المرآة لتتزيني لزوجك، فأساس الزينة المحافظة على النظافة مع لمسات بسيطة تعرفها كل امرأة.. تزيّنك لزوجك حق له وواجب عليك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته".
وقديمًا قالت اُمامة بنت الحارث في وصيتها المشهورة لابنتها قبل زفافها: "...التفقد لموضع أنفه، والتعهد لموضع عينه، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، وإن الكحل أحسن الموجود، والماء أطيب الطيب المفقود". ولا يعني التزين للزوج إرهاقه ماديًا بشراء المزيد من وسائل الزينة الحديثة.
حب التزين فطرة
ورغم أن حب الزينة من فطرة النساء، أقرها الله تعالى بقوله: {أوَ مَن يُنشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين}[الزخرف:18] ، فإن اهتمام المرأة بالزينة كثيرًا ما يتأثر بمرحلتها العمرية، ففي مرحلة (الملكة أي بعد العقد ) تحرص الفتاة على أن تكون الأجمل والأحلى في عين خاطبها، لكن أهمية هذا الحرص تتراجع بعد الزواج وتعدد المسئوليات.
يقول أحد الشباب بعد 3 سنوات من زواجه: "هذه ليست الفتاة الجميلة التي تزوجتها". وترد الزوجة بأنها تدون كل يوم الأعمال التي يجب عليها أن تنفذها، فتجد نفسها في نهاية اليوم في غاية الإرهاق والتعب، ولا وقت لديها للزينة.
لكن إحدى النساء تلقي باللائمة على هذه الزوجة وتعتبرها مقصرة في حق زوجها وحق نفسها، فأدوات الزينة الحالية تجعل المرأة لا تحتاج لأكثر من نصف ساعة لتبدو في أبهى صورة، وحب التجمل غريزة في المرأة لا يجب أن تلغيه أي مشاغل.
دور الزوج
ويمكن للزوج أن يلعب دورًا مهمًا في حرص زوجته على الزينة أو إهمالها لها، فقد يتجاهل زينتها أو يكثر من انتقاده لها فيحبطها، وقد يتجاهل زينة نفسه بينما تحرص هي على زينتها، ومثل هذا الزوج ينسى هدي النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: "حبب إليَّ من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة" [رواه النسائي].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أُرَجّل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض". والترجيل تسريح الشعر واللحية ودهنه.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له شعر فليكرمه".(3/116)
لا نستطيع أن نلقي بالمسؤولية التامة على الزوج في إهمال زوجته للزينة، فأكثر ما تتحجج به الزوجات في إهمال زينتهن هو كثرة المشاغل، ولذلك تدعو الاختصاصية الاجتماعية نورة سليمان إلى تدريب الفتيات قبل الزواج على تعدد المسئوليات لتكون كل واحدة منهن مسئولة عن أبناء وزوج وبيت وزينة نفسها، لا تطغى مسئولية على أخرى، وتقول: للأسف نحن لا نربي أبناءنا على حسن استغلال الوقت وتقسيمه بين المسئوليات ولذلك كثيرًا ما تفشل الزوجة في تقسيم وقتها بين بيتها وزوجها وأولادها.
كبرنا على ذلك !!!
وبعض النساء يهملن زينتهن بعد الزواج انطلاقًا من فهم خاطئ لوظيفة هذه الزينة، فبعض الفتيات يعتقدن أن الخطوبة والأيام أو السنوات الأولى من الزواج هي فترة التجمل والتزين، وإذا حدثتهن عن ان الزينة من حسن التبعل للزوج أجبن: "كبرنا على ذلك".
هؤلاء ينسين أن تزين المرأة لزوجها يجب ألا يصرفها عنه صارف إلا ما أقره الشرع (كالحداد على قريب) فهذه أم سليم رضي الله عنها تتزين لزوجها في يوم عصيب، عن أنس رضي الله عنه قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: "لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه". قال: فجاء فقربت إليه عشاء فأكل وشرب ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها. فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قال: فاحتسب ابنك. فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لكما في غابر ليلتكما".
مجلة الأسرة العدد 156
---------
من أخطاء الأزواج
الشيخ محمد إبراهيم الحمد
لا تفعل
يعتبر صلاح البيوت صلاحًا للأمة، وصلاح الأمة هو السبب الأعظم لعزتها وكرامتها، ولا تصلح أمة إلا بصلاح البيوت، ولا تصلح البيوت إلا بصلاح الزوجين واستقامتهما على أمر الله تعالى.
وفي البيت الإسلامي يتخرج رجالات الأمة ونساؤها وعظماؤها، ذلك أن رابطة الزوجية من أعظم الروابط، فمتى سارت هذه الرابطة على أساس من البر والتقوى والمحبة والرحمة عظم شأن الأمة، وهيب جنابها، ومتى أهملت هذه الحقوق تفصمت تلك الرابطة، فشقيت البيوت وحل بالأمة التفكك والدمار، والذي يتأمل في حياة الناس يرى خللاً كبيرًا وتفريطًا كثيرًا في شأن تلك الرابطة ، مما يفقد الحياة الزوجية سعادتها وأنسها والخلل الحاصل من الأزواج في الجانب كبير نذكر بعضًا من هذه الأخطاء راجين أن يكون في ذكرها تنبيه لبعضنا عن تكرار الخطأ في حياته المستقبلية.
أولاً: الشك في الزوجة وسوء الظن بها:
فمن الأزواج من هو ذو طبيعة قلقة، ونفس متوترة، فتراه يغلب جانب الشك، ويجنح كثيرًا إلى سوء الظن، ويفسر الأمور على أسوأ الاحتمالات، فقد يسيء الظن بالزوجة في أمانتها المالية، فربما اتهمها بأنها تسرق من ماله وقد يتمادى سوء الظن ببعضهما إلى عرض زوجته فيتهمها في حشمتها من خلال تصرفات يراها عليها ، وتجد بعض الأزواج يكثر الاتصال بالمنزل كلما خرج منه، وإذا كان الهاتف مشغولاً وقع في الشك والريبة، وبعضهم يخرج من عمله بين الفينة والأخرى، وفي أوقات غير متوقعة ليراقب منزله.
وكل هذا من غير برهان وبينة، وإنما هو تسويل لبعض النفوس الجاهلة، فكم وقع من قتل وطلاق وأذى بسبب سوء ظن لا يثبت له قدم بعد التثبت والتحقيق.
ولا يعني حسن الظن بالزوجة قلة الغيرة، وإلقاء الحبل على الغارب، وإنما المطلوب الاعتدال في الغيرة، فلا يتغافل عما تخشى عواقبه، ولا يبالغ في إساءة الظن، وبالجملة فالتحسس والمبالغة في الغيرة أمر لا يقره دين ولا عقل.
ولهذا عقد الإمام البخاري في صحيحه بابًا قال فيه: لا يطرق أهله ليلاً إذا أطال الغيبة مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم، ثم ساق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً".
ثانيًا: الاستهانة بالزوجة:
فمن الأزواج من يستهين كثيرًا بزوجته فلا يراها إلا هملاً مضاعًا، فلا يعتد بكلامها ولا يستشيرها في أي شيء من أمره، ولا يأخذ برأيها، وربما احتج على هذه الأفعال بأن القوامة للرجل، وبأن المرأة ناقصة عقل ودين!
ومن صور الاستهانة بالزوجة أن يحقرها أمام أبنائها ويصفها بسوء التدبير، وأن يذم أهلها أمامها، وهذا المسلك خطأ كبير، فالمرأة إنسان مكرّم لها عقل ورأي.
ثالثًا: التخلي عن القوامة:
كما أن هناك من لا يعتد بالمرأة، فيهضم حقها ولا ينظر إليها إلا بازدراء، فهناك من تخلى عن قوامته، وأسلم قيادته لزوجته، فقولها هو القول ورأيها هو الفصل والذي يدفعها لذلك دافع الغرور بالمال أو الجمال أو المستوى التعليمي.
وإذا اجتمع إلى ذلك ضعف الزوج واهتزاز شخصيته، فقد وافق شن طبقة، لذلك تخرج متى شاءت، وتلبس ما شاءت، ولو كان لباس شهرة أو تبرج أو تشبُّه بالكافرات.
وما عجب أن النساء ترجّلت ولكن تأنيث الرجال عجيب(3/117)
رابعًا: قلة الحرص على تعليم الزوجة أمر دينها:
فهذا من مظاهر التقصير في حق الزوجة، وقد يكون الرجل ذا صلاح وتقى وعلم ودعوة، ومع ذلك لا يحرص على إيصال ذلك الخير لزوجته وأهل بيته، ولذلك من الواجب للزوجة على زوجها أن يعلمها أمور دينها، ويرسخ في قلبها حب الله، وخوفه ورجاءه، ومراقبته، والتوكل عليه.
=================00
مفاتيح القلوب
الزواج ليس بيتًا صغيرًا ينعزل فيه العروسان عن العالم، إنه ارتباط أسرتين، كما هو رباط بين فردين، وحتى ينجح هذا الارتباط؛ هناك عدة مفاتيح ومهارات إذا أتقنها كل عروسين.. ظللتهما الدعوات الصالحة من أهليهما، وأغلقا بابًا واسعًا؛ تتسلل منه الخلافات والمنغصات.
خبراء فنون التعامل وكسب الآخر يرشدون الأزواج والزوجات إلى هذه المهارات:
نسيان الإساءة:
نسيان الإساءة من فضل الله على عباده، وهى نعمة رزقهم الله إياها، فعلى العروسين أن ينسيا أى إساءة، فينسى الإنسان إساءة المسيئين، وجفوة الجافين، ويسمو ليصل إلى أمر أعظم من النسيان، وهو الصفح والغفران.
ومن أراد راحة البال وحُسن العاقبة والمآل، فليحاول نسيان ما يلقاه من الآخرين، وليبدأ صفحة جديدة مع من قصروا فى حقه.
المرونة والحكمة:
أجواء الأسرة الجديدة غريبة عليكما، لذا يجب أن يكون التعامل مع أفراد الأسرة فيه ذكاء وفطنة؛ حتى لا تتوتر العلاقات وتنقطع، ولتحافظا دائمًا على شعرة معاوية ، كما تقول الحكمة «لو كان بينى وبين خصومى مقدار شعرة؛ ما انقطعت أبدًا، فإن هم شدوا أرخيت، وإن هم أرخوا شددت».
فن « لا»
إن قضاء حاجات الآخرين وتلبية مطالبهم، ومجاملتهم فى المواقف والمناسبات، وحُسن ضيافتهم، كلها أمور مطلوبة، ولكن لكل شيء حدودًا لا ينبغى تجاوزها، وحتى لا تكلفى نفسك ما لا تطيقين؛ تعلَّمى فن الاعتذار وقول كلمة (لا)، ولكن بتأدب فى قولها، فلا تقوليها وأنت غاضبة، أو بصوت مرتفع، أو منفر، بل قوليها وأنت مبتسمة، وبأسلوب رقيق مؤدب، وأشعرى من قلت له: (لا) بأنك متألمة؛ لأنك لم تستطيعى تلبية المطلوب.
الهدية
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تهادوا؛ فإن الهدية تذهب وحر الصدور» (رواه الترمذى)، فالهدية تؤلف القلوب، وتعمق أواصر المحبة والمودة بين الناس، وكلما كانت الهدية بلا مناسبة، ومما يرغب فيه المهدى إليه ويحبه كانت أوقع، فاجعلا الهدية رسول حب بينكما وبين أسرة كل منكما، جربا ولن تندما.
الآباء جسر إلى الأبناء
حماتك وحموك أقصر طريق إلى قلب زوجك والعكس، فالإنسان يعتبر إكرام والديه إكرامًا له، وإهانتهما إهانة له، فإذا أراد كل زوج وفاقًا مع شريكه، فليحب أبويه ويحترمهما، ولا يتحدث عنهما بسوء مهما كانت الأسباب حتى لا يدق مسامير فى نعش الزواج.
نحلة لا ذبابة
تقف النحلة على الزهور لتمتص الرحيق وتخرج العسل، ولا تقف الذبابة إلا على القاذورات، وكأنها تتتبع زلات الناس وعوراتهم وتتصيد أخطاءهم، ولو أراد الإنسان إحصاء عيوب أى شخص لوجد العديد من الأخطاء، ولكن هذا ليس شيم الكرام - والانشغال بعيوب النفس أولى لإصلاحها وإعفائها من عقوبة الغيبة وتتبع العورات.
حفظ الأسرار
حفظ السر أهم ما يحقق الثقة بين الناس، وإفشاؤه يهدم جسور هذه الثقة، فليكن كل من الزوجين مستودع سر أسرة الآخر، خاصة الأب والأم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حدث الرجل رجلاً بحديث ثم التفت فهو أمانة»، وجملة «السر فى بئر» التى نرددها جميعًا من مفاتيح القلوب.
القناعة
ولماذا أنا ؟ تساؤل يجب ألا يردده الزوجان أبدًا، وهما يقارنان نفسيهما بالآخرين، فلماذا شقتى غرفتان، وشقة فلان ثلاثة ؟
ولماذا أركب «الميكروباص» وسيارة فلان أحدث طرازًا ؟ وغير ذلك أسئلة تتردد فى النفس، ولكن آثارها تبدو فى التعامل مع الآخرين، وفى نظرات الحسد وعباراته التى تنطلق رغمًا عن قائلها.
القناعة مع الأخذ بأسباب الارتقاء بعيدًا عما لدى الآخرين سر من أسرار السعادة والوفاق.. جرباه.
ابتسامة النقد
بعض الناس يعتبرون أنفسهم آلهة لا يراجعون ولا ينقدون - هؤلاء يخسرون الكثير فى علاقاتهم الاجتماعية، وينفرون الناس منهم، والفطن هو من يعتبر النقد دفعة والمعارضة - مكسبًا حتى لو صدرت عن نفس حاقدة.. المهم موضوع النقد والمعارضة، فقد يكون صاحبه محقًا، فابتسما فى مواجهة النقد، ووسعا صدريكما له، فلا معصوم سوى النبى صلى الله عليه وسلم ، وملاطفة الحماة أو معارضة أخت الزوج - أو والد الزوجة ليست جرائم إلا إذا أراد الزوجان اعتبارها كذلك - وهما فى هذه الحالة خاسران.
نقد السلوك لا نقد الشخص
شتان بين «أنت أخطأت» و«ما فعلته ليس مقبولاً»، فنقد السلوك لا الشخص فن ورسالة موجزة توصل معانى إيجابية للمنقود، أهمها: «إننى أحبك وأحترمك، ولا أرفضك، بل لى تحفظ على سلوك صدر منك»،(3/118)
فالآخرون يصبحون أفضل إن لم يشعروا برفض غيرهم لهم، ويجدون فى إرشادهم إلى السلوك الصائب، بدلاً من صب نيران النقد الهدام على رءوسهم، أفضل حافز للتغيير.
=================000
الزوج المثالى
الورد أجمل هدية
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «خيركم خيركم لأهله» فهل أنت من خيار الناس؟ وهل تعرف ما لزوجتك عليك من حقوق وتسعى لأدائها فتكون بذلك زوجًا مثاليًا؟
وهل تحل خلافاتك الزوجية بالرجوع للقرآن والسنة أم تفكر بالزواج من أخرى كلما ضقت بزوجتك؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها اقرأ معنا نصائح غالية للدكتور محمد رشيد العويد ، يقدمها لكل زوج يسعى لحياة سعيدة فى الدنيا والآخرة.
الزوج المثالى
ـ من هو الزوج المثالى؟
- لقد شرحت صفات الزوج المثالى مفصلة فى كتابى (الزوج المثالى )، وأوجزها فى هذه الإجابة، فأقول: إنه الزوج الذى يكرم زوجته ولا يهينها، ويكثر من إسماعها كلمات طيبات، ويستر أخطاءها، ويغار عليها، ويتغافل عن كثير مما يصدر منها، ويصبر عليها، ويزيد صبره فى أيام حيضها، ويطيّب خاطرها، ويدعو لها، ويكتم سرها، ويوفر لها سكنًا مستقلاً، ويعينها فى بيتها ما استطاع، ولا يبخل عليها ولا على أولادها، ويتنظف لها ويتزين، ويسامرها ويمازحها، ولا يأخذ حقًا من حقوقها إلا بإذنها .
ـ هل تأثر دور الزوج ومسؤولياته فى المجتمع العربى بالتغيرات الاجتماعية فى العقود الأخيرة؟ وكيف كان شكل هذا التأثر؟
- لا شك فى أنه تأثر، وتأثر كثيرًا، ذلك أن تعدد الحاجات مع قلة الدخل، وزيادة الأعباء مع ضيق الأوقات، أثقلت كاهل الزوج، وكانت سببًا فى إحداث ضغط نفسى كبير عليه، سلبه كثيرًا من صبره وحلمه. وانعكس هذا بدوره على صلته بزوجته وحسن معاملته لها.
يضاف إلى هذا خروج المرأة من بيتها بعد أن كانت قارة فيه، سواءً أكان هذا الخروج للعمل إعانة للزوج أم لغيره.
هذا الخروج الكثير أطلع المرأة على ما لم تكن تطلع عليه جدتها، وجعلها تقارن نفسها بغيرها، وزاد من طموحها المادى، وهذا جميعه دفعها لمواجهة زوجها فصارت ندًا له، ومن ثَمَّ لم تعد مطواعة له لينة كما كانت جدتها.
القوامة
ـ ما تقييمكم لرؤية الزوج العربى للقوامة، وهل تلمسون من واقع قربكم من واقع الأسرة العربية فهمًا سليمًا، ومن ثَمَّ ممارسات رشيدة فى التعامل مع القوامة؟
- أكثر الأزواج يرى فى القوامة ما له، ولا يرى ما عليه، يرى ما تمنحه القوامة من قيادة ولا يرى ما تلزمه به من نفقة ورعاية. وعليه فإننا نحتاج إلى تبصير الزوج بما توجبه القوامة عليه من حقوق للزوجة، ينبغى أن يؤديها قبل حصوله على ما تعطيه إياه من قيادة.
يقول القرطبى (رحمه الله) فى قوله تعالى {الرجال قوامون على النساء} أى قوامون بالنفقة عليهن، والذب عنهن (حمايتهن).
وإذا لم يقم الرجل بالإنفاق على المرأة لم يكن قوامًا عليها، ولزوجته حق طلب الطلاق عند ذلك.
يقول القرطبى: فهم العلماء من قوله تعالى {وبما أنفقوا من أموالهم} أنه متى عجز (الزوج) عن نفقتها لم يكن قوامًا عليها، وإذا لم يكن قوامًا عليها كان لها فسخ العقد؛ لزوال المقصود الذى شُرع لأجله النكاح، وفيه دلالة واضحة على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة.
ويعرف الرازى القوامة بقوله: القوامة اسم لمن يكون مبالغًا فى القيام بالأمر، يقال هذا قيم المرأة وقوامها للذى يقوم بأمرها ويهتم بحفظها.
إذن فإنه ينبغى أن يتعلم الزوج أن من أهم ما تعنيه القوامة أن عليه أداء ما لزوجته من حقوق: ينفق عليها، ولا يمنّ عليها بهذا الإنفاق، ويوفر لها الأمن النفسى والروحى والمادى.
التخصص
ـ هل أنتم مع المنطق السائد بأن على الزوجة قسطًا أكبر مما على الزوج من مسؤوليات، أم ترون الأمر شركة وشورى، ولا يستقيم بتحميل طرف من الأعباء والمسؤوليات أكثر، مما يتحمل الآخر؟
ـ أرى الأمر من منظور التخصص، فكثير مما يعمله الرجل خارج بيته لا تقدر المرأة عليه، أو لا تجد فطرتها فيه، وكثير مما تعمله المرأة فى بيتها من تربية لأولادها ورعاية لهم لا يقدر عليه الرجل أو لا يجد فطرته فيه.
مثل المهندس والطبيب ؛ فليس من المنطق أن ينتقص الطبيب من عمل المهندس ولا المهندس من عمل الطبيب ، فكل منهما يعمل فى تخصص يحتاجه المجتمع ولا يستغنى عنه ، ولا يستطيع كل منهما أن يقوم بما يقوم به الآخر ، فلا الطبيب قادر على بناء جسر أو عمارة ، ولا المهندس يستطيع علاج مريض .
وتخلى المرأة عن مهامها الجليلة فى بيتها، وحسبانها أنها أقل شأنًا من عمل الرجل خارج بيته، أسهما فى اختلال الأسرة، ثم اختلال المجتمع.
آثار خروج المرأة للعمل
ـ كيف انعكس خروج المرأة للعمل على قيام الرجل بدوره الأسرى: هل إيجابيًا فى صورة مزيد من المشاركة إعذارًا للزوجة وتعاونًا معها أم سلبًا فى صورة التخلى عن مسؤولية الإنفاق، أو بعضها اعتمادًا على دخل الزوجة؟
ـ للإجابة عن هذا السؤال أحب أن أذكر ما يلى:(3/119)
1 - تعبير (عمل المرأة ) أو (المرأة العاملة)، حين يطلق فإن الأذهان تنصرف إلى المرأة التى تعمل خارج البيت، وكأن المرأة التى ترعى زوجها، وتلبى حاجاته وترعى أولادها وتربيهم وتلبى حاجاتهم امرأة عاطلة لا تعمل، وهذا خطأ بليغ ينبغى تصحيحه بقولنا ((المرأة العاملة خارج بيتها))، مؤكدين بهذا أن هناك ((امرأة عاملة داخل بيتها ))، ولعل الثانية تقوم بأعمال أجل، وأخطر وأهم من أعمال الأولى.
2 - حين عملت المرأة خارج بيتها، وحملت أعباء غير قليلة عن الرجل، فإن هذا الأخير لم يقابل مشاركتها له خارج البيت بمشاركته لها داخل البيت؛ فقليل من الرجال يعينون زوجاتهم فى أعمال البيت، وحتى أولئك الذين يشاركونهن ويعينونهن لا يقومون إلا بأعمال هينة يسيرة ليس فيها تخفيف حقيقى من أعبائها.
3 - قدر غير قليل مما تكسبه المرأة من عملها خارج بيتها تنفقه على مظهرها فى عملها، وعلى مواصلات تنقلها إليه، وعلى خادمة لم تحضرها إلا لترعى أولادها وتعينها فى بيتها بسبب عملها خارجه.
4 - مطالبات الرجل لزوجته بالإنفاق على البيت ومشاركته فى هذا الإنفاق كانت وراء خلافات زوجية كثيرة.
5 - لو وضع ما تكسبه المرأة من عملها خارج بيتها فى كفة، وما تخسره مع زوجها وأولادها بسبب خروجها من بيتها وغيابها عنه فى كفة أخرى، لوجدنا أن ما تخسره أكثر مما تربحه.
6 - كثير مما تدخره الزوجة من عملها خارج بيتها يأخذه زوجها منها ليستثمره لها، فيضيع فى تجارة خاسرة أو غيرها.
على هذا كله فإنى أقول: إن عمل المرأة خارج بيتها خسارة كبيرة لها ولأسرتها ولمجتمعها.
ـ هناك مقولات وأمثال سائرة ومتوارثة تعكس نظرة تشاؤمية للخلافات الزوجية مثل: (ما انكسر لا يمكن إصلاحه)، أو (النسب كاللبن إذا تعكر لا يصفو أبدًا)، فما تقييمكم لها؟
- إذا صدقت هذه الأمثال فى بعض الحالات فإنها تخيب فى كثير منها. لقد وجدت أزواجًا وصل بينهم الخلاف إلى حدود الضرب والشتم، وفصلت فى بعض نزاعاتهم المحاكم، ورغم هذا عادوا للعيش معًا، وواصلوا حياتهم بنجاح طيب.
ولقد وفقنى الله فى الإصلاح بين أزواج وزوجات وصل بهم الخلاف إلى مستويات يكاد من يطلع عليها أن يرى عودتهم للعيش معًا تحت سقف واحد مستحيلة، لكن توفيق الله كان قريبًا حين توفرت إرادة الإصلاح لدى كل من الزوجين، كما قال تعالى: {إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما}.
لكن هذا لا ينفى أن هناك حالات أرى أن استمرار الزوجين فيها معًا صعب، ويكون الحل عندها هو انفصالهما بالطلاق.
اذكرها بخير
ـ فى حالة مرور الحياة الزوجية بمنعطف خطير بم تنصحون الزوج ؟ وماذا تقولون لمن يتجه تفكيرهم إلى التعدد دون بذل جهد حقيقى فى عبور هذا المنعطف ؟
ـ أنصحه بما يلى:
1 - احرص أولاً على إبعاد الإحساس بالصدمة، وقل لنفسك: هذا ما كنت أتوقع حدوثه.
2 - لا تشاور إلا من تكون واثقًا من حكمته ومحبته وإخلاصه لك؛ ولا توسع دائرة من تستشيرهم.
3 - استحضر ما يأتيك من أجر فى صبرك على ما تلقاه فى ذلك المنعطف من عنت ومعاناة وهم وضيق.
4 - اذكر زوجتك بخير أمام من يسعى للإصلاح بينكما، وقل له أنا أعذرها، وأقدر أن ما تحمله من أعباء جعلها تفعل ما فعلت، أو تقول ما قالت.
5 - لا تدع الدعاء وأنت فى ذاك المنعطف: اللهم أصلحنى لزوجتى، وأصلحها لى، وأصلح ما بيننا.
مشكلات زوجية مصدرها الزوج
ـ من خلال خبرتكم وقربكم من واقع الأسرة العربية ما أهم المشكلات الزوجية التى يكون الزوج مصدرًا لها؟
ـ المشكلات الناتجة عن بخل الزوج، وهى كثيرة؛ إذ يتنازع الزوجان حين تطالبه الزوجة بشراء ما تحتاجه هى وأولادها، فيمسك يده عنها ويبخل فى الإنفاق عليها.
ـ المشكلات التى تحدث بسبب جهل الزوج طبيعة المرأة المختلفة عن طبيعة الرجل. فالمرأة أكثر عاطفة وأشد رهافة وأرق إحساسًا من الرجل.
ـ المشكلات التى تنشأ نتيجة كثرة غياب الزوج عن البيت، وعدم حمله لمسؤولياته كلها، فترهق الزوجة من تحملها مسؤوليات زوجها مع مسؤولياتها، فتضيق به وتثور عليه.
كيف تدمر حياتك الزوجية ؟!!
ـ كما وصفتم الزوج الأقرب إلى المثالى ماذا تقولون لزوج ما تحت عنوان: كيف تدمر حياتك الزوجية ؟
- أقول لكل زوج: أنت تدمر حياتك الزوجية حين تؤثر أصدقاءك على زوجتك وأولادك، وحين تنفق بسخاء على نفسك ومتعك وهواياتك، وتبخل على بيتك وأهلك، وحين تبش فى وجوه من هم خارج بيتك، وتعبس فى وجوه من هم داخله.
أنت تدمر حياتك الزوجية حين تصرخ فى وجه زوجتك، وتقذفها بشتائم مقذعة تحفظها ولا تنساها أبدًا، وأنت تدمر حياتك الزوجية حين تمد يدك على زوجتك ضاربًا لها دون أن تبدأ بالموعظة والهجر، وأنت تدمر حياتك الزوجية حين تتعامل مع زوجتك محاولاً تغيير طبيعتها التى خلقها الله تعالى عليها.
0000000000000
مركز الإعلام العربي
=================0
وصفة سحرية للسعادة الزوجية
سعاد عثمان علي
نتمنى لكم حياة سعيدة(3/120)
السعادة الزوجية مطلب عزيز لكل أسرة وهدف قريب المنال لكل من حرص عليه وسعى إليه .
الأسرة السعيدة مرتع العطاء والأمان وراحة البال وطريق النجاح ، ونقدم لكم وصفة نافعة بإذن الله للحياة الزوجية السعيدة فنقول:-
أولاً:- عادةً الرجل هو الذي يغار على المرأة وإذ بنا نسمع عن غيرة المرأة الجنونية من أمه وأخواته ومن أمور كثيرة لا يحق لها الغيرة فيها، يا أختاه الحكمة تقول: إذا أردت أن تطاع فمر (فأمر) بما يستطاع .
ثانياً:- أشعريه دائما بالأمان والثقة وبأنك تتمنين أن تطول الحياة بكما معا ومع أطفالكما، وابتعدي عن الأحقاد، لا تحقري أعماله ولا مشترواته، ولا تقللي من شأنه أو من شأن وظيفته أو شهادته، فهذه الأعمال إن وقعت فيها سوف تنسفين كل عوامل المحبة والاحترام بينكما.
ثالثاً:- لماذا نجيد التحدث برقة وإيثار مع الناس ولا نتحدث بذلك مع أزواجنا وأولادنا؟
ليتك ياأختاه من اليوم تبدلين طريقة التحدث العدائية مع زوجك وأبنائك وخادمتك، بل تحدثي بكل هدوء ومنطقية وبما يفيد، ولاتكرري الكلام بدون فائدة، وابتعدي عن الدعاء عليه بالسوء ومن التهديد فكلا الطريقتين لا فائدة منها إلا زيادة الحقد والمشاكل.. بل أبدلي الجدل بالتفاهم وأبدلي الدعاء السيء بالنصح والإرشاد جربي ذلك وسوف تكسبين بإذن الله.
رابعاً:- مهما طالت العشرة بينكما فلا تهملي أناقتك ولا نظافة المنزل، بالأخص غرفة النوم، فهي أحب الغرف إلى قلب الزوج فعلى المرأة أن توليها عناية خاصة.. فمن خلالها يمكن أن ينسى الزوجان الهموم وترتفع غيوم الخلافات ونكد المعايش وصعوبات الحياة.. وبالتالي عليك أن لا تجعلي شكلها يبدو قديما أو مهترئا، بل احرصي على تجديدها ودوام تنظيفها وتغيير ترتيبها بين الحين والآخر.. واحرصي على دوام تعطيرها وتزيينها في حدود طاقة البيت المالية وإياك وإهمالها فهي مدخل الشقاق وعدم الوفاق.
واحرصي على نظافة البيت ولا تندمي على الجهد والوقت الذي سوف تبذلينه في العناية بزوجك وأبنائه، وعليك مع هذا ألا تغضبي من أخطائهم المتتالية والتي أنت تظنينها جحودا ، قال الشاعر:-
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا ترمى بصخر فتعطي أطيب الثمر
خامسا:- عليك أن تكتمي جميع أسراركما وإياك ونشر مشاكلكما بين الصديقات ولو بدعوى البحث عن حل، صدقيني يا أخيتي إن شكواك للناس لن تفيدك شيء بل إنها تقلل من شأنك ومن احترامك في نظر الغير، مع تعريض بيتك للفضائح ونشر ما ينبغي ستره.. وإياك والجدل معه وأمام الأطفال، اتركي الغضب فجميعنا يمكنه أن يعود نفسه على قوة الاحتمال كما أرجو أن لا تحرجيه ولا أن تشكيه لأهله.
سادسًاً:- أرجو أن تمحي كلمة طلقني من قاموس حياتك فالطلاق لن يريحك ولا سيما بعد أن تنجبي الأطفال، والزوج كثيراً ما يكون متعقلا ولا يستجيب لمهاترة الزوجة، لكن الحصيلة لتلك المهاترات هو قلق الأبناء وزرع الخوف الدائم في حياتهم بالطلاق.. الطلاق يا أختاه هو سبب تعاسة الأبناء وانحراف البنات وتعاسة الأم وتدهور الحياة الاجتماعية .
سابعًا :- لا تكذبي على زوجك أبداً، ولا تعصيه في أمر من الأمور إلا فيما كان فيه معصية لله تبارك وتعالى؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإن كنت تخافين جبروته لا تقولي له الذي حدث وهو غاضب، أخبريه عندما يكون هادئا متعقلا متقبلا، وسوف يكون الموقف في صالحك بإذن الله تعالى وقتها سيصبح جميع أبنائك صادقين صرحاء لا يخافون من كلمة الحق وتذكري بأن الاعتراف بالحق فضيلة.
ثامناً :- احرصي على عمل اجتماع أسري كل أسبوعين مرة يكون الحديث لوالدهم ومرة يكون فيها الحديث لك وقدمي التوجيهات لأبنائكما على شكل طلب رقيق وحث الأبناء على النجاح بصورة أمنيات لأن نراكم بإذن الله تعالى كذا وكذا وليس بالأسلوب القديم وهو أسلوب التقريع والتهديد و المقارنة بالآخرين مما يجعلهم يشعرون بالنقص في نفوسهم فتكون النتائج عكسية.
دائما وأبدا أسمعي زوجك وأسمعي أبنائك كلمة الحمد، الحمد لله الذي جعلكم أسرة وعائلة واحدة وأعطاكم من نعمه العظيمة وعددي نعم الله عليكم حتى يشعر الجميع بالنعم التي تحيط بكم و يشعر الجميع بالرضى والسعادة، وذكريهم بالله تعالى وبعظيم هذه المنن التي أنعمها عليكم. مع أصدق دعواتي للجميع بالتوفيق .
------
تاءات السعادة الخمسة
هدية جميلة
هل الزواج يقتل الحب ؟ يتردد هذا السؤال على ألسنة بعض الأزواج والزوجات بعد مرور سنوات من الزواج، وبعد أن تحولت حياتهم الزوجية إلى علاقة روتينية رتيبة يظللها الملل والكآبة.
هذا الاستطلاع يؤكد أن الزواج يحيى الحب ويروى شجرته، ويطمئن كل عروسين على سعادتهما وحبهما اللذين بوسعهما الحفاظ عليهما مهما مر من سنوات زواجهما كما حافظ عليهما هؤلاء الأزواج والزوجات.
تاءات السعادة(3/121)
تعلن الحاجة قوت القلوب - 50 سنة زواجًا - فتعلن أن سر سعادتها الزوجية يكمن فى خمس تاءات حافظت عليها منذ زواجها فى علاقتها بزوجها هى: ( التفاهم/ التسامح/ التفاؤل/ التزين/ التجديد ) فتقول: أنا بطبعى متسامحة مع الآخرين وزوجى أولى بالتسامح وأولى بالابتسامة والزينة، خاصة عندما يكون هذا الزوج رجلاً كريمًا محبًا وبحكم عمله كتاجر ترك لى مسئولية تربية الأولاد، فلم أشغله بمشاكلهم بل كنت أظهر لهم حبى لوالدهم، وهو كذلك حتى يعتادوا على هذه المشاعر الحميمة فى أسرتهم وبعد زواجهم، وكذلك فإنى حرصت أن أبدو أمام زوجى عروسة دائمًا حتى إن زوجى مازال يدعو لى بالعمر الطويل، وبأن يسبقنى هو إلى الموت.
ومن جميل طباع زوجى التى جعلتنى أقدره إلى جانب حبى له، أنه لم يقف بينى وبين أهله، رغم أنى أقمت معهم ست سنوات صعبة، تحملت فيها كثيرًا، فإنه كان يطيب خاطرى ويخفف عنى ويهون عليَّ.
وكان يطعمنى أحلى طعام، ولم يكن يأكل طعامًا خارج البيت، إلا ويأتى لى بمثله؛ لذلك فأنا الآن أرد له الجميل فى مرضه ولا آكل إلا معه، وأخدمه بحب فى كبره كما عاملنى بحب وأنا شابة.
الصدق والصراحة
ـ الحاجة أم ياسر أكثر من ثلاثين سنة زواجًا تقول: الصدق والصراحة أهم أسس بناء الأسرة السعيدة من أول يوم فى الزواج، والتوفيق أولاً وأخيرًا من الله تعالى، فأنا أم لولدين وثلاث بنات، أعيش أحلى أيام العمر مع زوجى الحبيب، فهو واسع الأفق، يتفهم، يستوعبنى فى كل حالاتى، مما يسهل عليَّ مصارحته بكل مشكلة فى بدايتها فيساعدنى فى حلها قبل أن تتفاقم، كما أن وجود الأولاد يخلق فرصًا أكبر للاستقرار الأسرى والتضحية، والتنازل من أجل سعادتهم ولو على حساب احتياجات الأب والأم، فالشعور بالمسئولية يولد حرصًا لدى الطرفين على نجاح الزواج، واستمرار العشرة.
وأتصور أن نجاح زواجى من بدايته كان بفضل الله، ثم بنصائح والدتى وتوجيهاتها لى بطاعة زوجى والحرص على بيتى لأنه أصبح مملكتى، وأننى أصبحت ضيفة على أهلى ووالديَّ، وكذلك بحسن صلتى بأهل زوجى، وبرى بهم فهما مفتاح قلب زوجى، وهذه النصائح أوجهها أنا بدورى لأبنائى وبناتى حتى تستمر المودة والرحمة والسكن والعشرة الطيبة بين الزوجين.
النجاح هدف
أما السيدة راوية متولى محمود متزوجة منذ 24 عامًا فتقول: منذ بداية زواجى وضعت نصب عينيّ هدفًا ساميًا، وهو إنجاح هذه الأسرة التى أصبحت مسئولة عنها؛ لذا فإنى لا أطيق المبيت بعيدًا عن زوجى أو بيتى، ثم جاء الأولاد برباط متين عمق علاقتى بزوجى وزاد حبى له؛ لأنه كان سببًا بعد الله تعالى فى إشباع غريزة الأمومة عندى، فضلاً عن أن عقل زوجى الكبير وسعة أفقه جعلاه مرجعًا لى فى كل أمورى، مما يشعرنى بالأمان والطمأنينة حينما ألجأ إليه وألوذ بعقله فى كل صغيرة وكبيرة.
ست الكل
مفرح عباس - مدرس - 39 سنة زواجًا: زوجتى هى ست الكل، فهى مازالت أنيستى وحبيبتى، إنها أم أولادى، وسكنى بعد زواج الأولاد، ففيها كل سمات الزوجة الصالحة والحبيبة الرقيقة، لا أذكر يومًا أنها أغضبتنى، أو طلبت منى ماهو فوق طاقتى، كما أنها تعمل ولها دخل خاص تضعه كله فى البيت، وفى تلبية طلبات الأولاد دون أن تجرحنى أو تشعرنى أنها تساعدنى.
والأهم من ذلك كله أنها دائمًا جسر التواصل بينى وبين أهلى، فهى دائمًا تحثنى على بر إخوتى وزيارتهم برغم أنهم فى محافظة أخرى، ولذلك أنا أقدر لها هذا الصنيع، وأرده إليها بالترحيب بأهلها فى كل وقت، ومساعدتها فى رعاية والدها المريض بسماحة ورضا.
وهى كذلك امرأة فاضلة، دائمة الذكر لله وقراءة القرآن، وتحسن معاملة الجيران، إنها كلمة السر فى سعادتى فى هذه الدنيا.
ليس تنازلاً مهينًا
أم عبد الرحمن 12 سنة زواجًا: عندما اخترت زوجى توسمت فيه حسن الخلق، وطيبة القلب، والالتزام الدينى، وكان بالفعل كذلك طوال فترة زواجنا، فهو يتقى الله فيَّ، ويسارع باسترضائى إذا أغضبنى، ويكفى أنه آوانى وأصبح لى سكنًا وملجأ بعد الله تعالى.
لذا فأنا أسعى الآن إلى إرضائه، حتى وإن كان هو المخطئ بعكس بداية الزواج؛ إذ تغيرت المفاهيم، وبالعشرة واستمرار الحياة اقتنعت أن مبادرة الزوجة بإرضاء زوجها ليس تنازلاً يقلل قدرها أو يهين كرامتها، بل يزيدها قربًا من الله ويبارك لها فى كل شئون حياتها.(3/122)
أما محمد عبد الحميد - موظف فيقول: تعرفت على زوجتى عندما كانت تعمل قريبًا من محل عملى، وكنت أراقبها عن بعد لأتأكد من أخلاقها قبل الارتباط، وهى بعد سنوات من زواجنا والحمد لله عند ظنى بها، فهى إنسانة فطرية وربة بيت منظمة ونظيفة ومهتمة بنفسها وبزينتها داخل البيت، رغم أن تعليمها محدود، لكن التعليم ليس كل شيء، فصفات الإنسان الطيبة تجعله محبوبًا ومتفوقًا على المتعلمين، ومما زاد حبى لها مع مرور الوقت جودها وكرمها، وحسن صلتها بأهلى جميعًا، حتى إن أمى كانت تعاتبنى من أجلها، وتوصينى بها دائمًا؛ لذلك فأنا أنفذ وصية أمى حتى بعد موتها، وما زلت أحب زوجتى وأم أولادى لحب أمى لها.
عامليه بمثل ما تحبين أن يعاملك
د. ج. محرم - طبيبة - 15 سنة زواجًا - تقول: إنها لم تفكر من قبل فى الوقوف أمام هذا السؤال، كيف يستمر الحب بعد الزواج؟ وإذا كان القول بأن وجود القبول قبل الزواج عامل مهم فى استمرار الحب بعد الزواج قد يحبط بعض الزوجات اللاتى لم يمررن بتجربة الزواج بعد حب، فإن هناك عدة ملامح يمكن أن تولد الحب، وتعمق بين الزوجين حتى مع مرور سنوات وسنوات على الزواج أهمها:
- أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، فأنا أعامل زوجى بمثل ما أحب أن يعاملنى، وهذه القاعدة تجعلنى أعدِّل كثيرًا من مواقفى معه، وعندما أستحضر الإخلاص والدفع بالتى هى أحسن، تمر المشاكل بسهولة ولا يهم من المخطئ، ومن يبدأ بالصلح.
- أن أعتبر أن نجاحى فى حياتى الزوجية، وخاصة مع صعوبة طباع زوجى، واختلافه عنى، نوعًا من التحدى ومعيارًا لنجاحى فى المعاملات الاجتماعية مع الآخرين، والقدرة على ضبط نفسى، والتحكم فى مشاعرى وانفعالاتى، وأنا أتصور أن التنازل عن الرأى أحيانًا قد يكون عنصر نجاح فى إدارة الخلافات وتجاوزها، المهم أن أعرف متى أتنازل؟ وإلى أى درجة يكون هذا التنازل، وأن تكون عندى القدرة على توصيل مشاعرى لزوجى، واحترامه ومكانته عندى وإلا فهناك خلل فى شخصيتى أنا وليس فى زوجى.
- من المهم مراعاة الاستمرارية والنفس الطويل فى العطاء حتى وإن كان زوجى لا يبادلنى نفس العطاء، وهنا نعود لقاعدة الإخلاص والتجارة مع الله، وهذه مجاهدة تجيدها المرأة التى لديها إصرار على نجاح أسرتها وعلاقتها بزوجها.
- النظر إلى سلبيات الزوج فى إطارها وحجمها الطبيعى، فأكره فيه هذه الصفة فقط، ولا أكره شخصه نفسه، وأحاول التكيف والتعامل الذكى مع هذه السلبيات إن لم أستطع دفعه إلى الإقلاع عنها؛ لأن الطباع لها بعد تربوى متجذر فى شخصية المرء من الصعب التخلى عنها.
شهر عسل دائم
وتتحدث د. ماجدة هزاع بعد عشرين سنة من الزواج عن علاقتها بزوجها د. عبد الفتاح إدريس وكأنهما مازالا فى شهر العسل، فتقول: مازال الحب ينبض بيننا كأننا عاشقان، وبرغم أن الحياة ليست كلها حبًا، وكلامًا حلوًا، فإن هناك مواقف صعبة يتم التغلب عليها بالمودة والرحمة، وحسن التفاهم.
ولقد تزوجت د. عبد ا لفتاح إديس خلال (40) أربعين يومًا بما فيها الخطبة والعقد والبناء، ومن يومها لم أغضب عند أهلى يومًا؛ لأننى أشعر أن قلب د. عبد الفتاح فى يدى وقلبى، وقلبى معه فلا أستغنى عنه أبدًا، وعندما يسافر أودعه بدموع عينى وقلبى، وبرغم مشاغلى الجامعية فأنا أقوم بكل واجباتى الزوجية بحب وحسن تبعل، وجاء الأولاد فزاد الحب وتوثقت رابطتنا خاصة أننا نعمل فى مجال واحد «أستاذ فقه فى جامعة الأزهر».
وأنا أتعامل مع زوجى بسماحة وبلا تعصب للرأى، أو تمسك بالموقف، وعندما تحدث مشكلة لا نسمح لها أن تتمكن منا بل نناقشها بالحب والتراحم والمعاملة بالحسنى، انطلاقًا من القاعدة النبوية «تبسمك فى وجه أخيك صدقة»، «وخيرهما من يبدأ بالسلام»، هذا فى عموم علاقة المسلمين فما بال الزوج إذا عفا وغفر لزوجته وكذلك الزوجة.
ومن تجربتى أنصح كل فتاة مقبلة على الزواج أن تعالج مشاكلها مع زوجها داخل بيتها، فإذا تفاقمت المشكلة واستعصت على الحل فلا مانع من استشارة العقلاء، وذوى الخبرة والتجربة «فلا خاب من استشار»، فالميثاق الغليظ الذى يربط بين الزوجين يستأهل الحفاظ عليه، بما يرتبه من حقوق للزوجين والأبناء وعشرة بالمعروف تولد الحب وتوثق عراه.
بدأنا اثنين وسنعود اثنين
وتعطى الأستاذة فتحية على - 23 سنة زواجًا - معنى جديدًا للحب بعد الزواج فتقول: لقد تحول حب المشاعر والعواطف الجياشة فى السنوات الأولى من الزواج إلى ذوبان كلينا فى الآخر، فأنا الآن أبحث عما يرضيه ويسعده، وأوثر أولوياته على أولوياتى، فبالإيثار يحلو طعم الحياة، وتصبح أكثر يسرًا، وعندما جاء الأولاد أصبحت العلاقة أكثر توطيدًا وقوة، فتعددت أهدافنا وتشعبت اهتماماتنا وقربتنا دوامة الحياة، ومتاعبها وتبعاتها، وزادت مساحة التفاهم، ووحدة الهدف بيننا حتى إننى أستشعر لذة وطعمًا جميلاً للمشكلات فى ظل وجود الحب؛ لأن الحب يقدم حلولاً سريعة لهذه المشكلات.(3/123)
ويكفى أننى لا أتخيل وجودى بعيدًا عن بيتى وزوجى وأولادى، بل أشعر بالغربة والوحدة بعيدًا عنهم، والحمد لله فأنا وزوجى متفقان على أننا بدأنا اثنين وسنعود اثنين بعد زواج أبنائنا لنبدأ رحلة حب وحياة جديدة.
حب وعبادة
أما الداعية الإسلامى الشيخ مسعد أنور فيرى أن الحب بعد الزواج يستمر ويزداد إذا قامت الحياة الزوجية من البداية على الدين، وعامل الزوجان بعضهما على قاعدة الدين، وإذا كانت الزوجات وكذلك الأزواج يشتكون من تغير معاملة أزواجهم أو زوجاتهم بعد أعوام من الزواج، وأن الحب لم يعد موجودًا بعد أن حل محله الجفاء والروتين الممل، فهل فتش كل منا فى نفسه؟ وهل فتشت كل منكن فى نفسها لتعرف كيف تكسب قلب وحب زوجها بعد الزواج؟ ويهمس فى أذن كل زوجة بأنها هى مفتاح سعادة بيتها، وحب زوجها، إذا راعت فى علاقتها بزوجها:
- الإخلاص بحيث تتحول كل معاملاتها مع زوجها حتى زينتها له إلى عبادة تؤجر عليها.
- الاستعانة بالله تعالى بأن يثبت قلبيهما ويؤلف بينهما.
- وحسن الاستقبال وطلاقة الوجه والكلمة الطيبة والاعتدال فى مطالب الحياة، وحفظ سره، ونشر حسناته، وستر سيئاته، واحترام مشاعره وتقدير غيرته.
===============
ثلاثون وصية تسعدين بها زوجك
الدكتور حسان شمسي باشا
ليس في العالم كله مكان بضاهي البيت السعيد جمالا وراحة . فأينما سافرنا ، وأنى هللنا ، لا نجد أفضل من البيت الذي تخيم عليه ظلال السعادة .
والبيت السعيد هو ذلك البيت الذي لا خصام فيه ولا نزاع .. الذي لا يُسمع فيه الكلام اللاذع القاسي ، ولا النقد المرير . هو البيت الذي يأوي إليه أفراد الأسرة فيجدون فيه الراحة والهدوء والطمأنينة .
وتقع المسؤولية في خلق السعادة البيئية على الوالدين . ولكننا أردنا هذا المقال أن نبين كيف تستطيع المرأة بذكائها وحكمتها وحسن معاملتها أن تسعد زوجها و من ثم تسعد بيتها .
1. تذكري أنك أنت مسؤولة عن إسعاد زوجك وأولادك ، وتذكري أن رضا زوجك عنك يدخلك الجنة . قال رسول الله-- : " أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة " .
2. لا تحمِّلي زوجك ما يفوق طاقته . فلا تحشري رغباتك ولا تكدسي طلباتك مرة واحدة ، حتى لا يرهق زوجك فيهرب منك . وإذا أصررت على مطالبك الكثيرة ، فقد يرفضها جميعا ويرفضك أنت رفضا تاما ، غير آسف ولا نادم . وتذكري ما قاله عمر بن عبد العزيز لابنه : " إنني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملةً ، فيرفضونه جملةً " .
وعن علي رضي الله عنه عن النبي-- قال : " إن الله يحب المرأة المَلِقَةَ البزْعة
( أي الظريفة ) مع زوجها ،الحصان ( أي الممتنعة عن غيره ) "
3. لا تكلفيه أن يتحلى مرة واحدة بكل الصفات والفضائل والمكارم التي تشتهين أن
تجتمع فيه . فمن النادر جدا أن تجتمع كل تلك الصفات في شخص واحد !
4. حين يتزوج رجل امرأة ، يتعلق بصورتها الحلوة كما رآها في الواقع ، ويود أن يحفظ لها هذه الصورة سليمة صافية ساحرة طوال حياته ، فلا تشوهي صورتك التي في ذهنه .
حافظي على جمالك وأناقتك ، ونضرة صحتك ، ورشاقة حركاتك ، وحلاوة حديثك ، ولا تتحدثي بصوت أجش ، ولا ترددي ألفاظا سوقية هابطة ، وإذا تخليت عن هذه السمات النسوية المطلوبة ، أو أهملت شيئا منها ، هبطت صورتك في نظر زوجك ، وابتعدت أنت عن الصورة النسوية الرائعة التي ينشدها كل رجل في امرأته .
جاء في وصف رسول الله-- للمرأة الصالحة أنه قال : " … وإذا نظر إليها (أي
زوجته) سرَّته "
5. حافظي على تدينك . التزمي بالحجاب الإسلامي ، ولا تتساهلي في أن يرى أحدٌ شيئا من جسدك ولو للمحة عابرة ، فإن زوجك يغار عليك ويحرص على ألا يراك إلا من تحل له رؤيتك .
تزوج رجل بنتا أُعجب بحجابها وتدينها ، حين ردت على صاحبتها في مناقشة مسموعة ، إذ قالت " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " . وقال لها إنه سيظل دائما يتصورها بهذه الصورة الطاهرة السامية : مؤمنة بالله ، راضية بقدره ، متمسكة بالمبادئ السامية والأفكار الطاهرة . ولعل زوجك يرى فيك مثل ذلك ، فلا تحطمي صورتك في قلبه وعقله تجملي لزوجك قبل أن يأتي إلى البيت في المساء ، فيراك في أحسن حال . البسي ثوبا نظيفا لائقا ، واستعملي من العطور ما يحب ، ضعي على صدرك شيئا من الحلي التي أهداها إليك ، فهو يحب أن يرى أثر هداياه عليك ، وكوني كما لو كنت في زيارة إحدى صديقاتك أو قريباتك .
6. لا تنشغلي بأعمال البيت عن زوجك ، فتظهر كل أعمال الطهي والتنظيف والترتيب عندما يأتي الزوج إلى بيته متعبا مرهقا . فلا يراك إلا في المطبخ ، أو في ثياب التنظيف والعمل !! قومي بهذه الأعمال في غيابه .
7. رتبي بيتك على أحسن حال . غيري من ترتيب غرفة الجلوس من حين لآخر . ضعي لمساتك الفنية في انتقاء مواضع اللوحات أو قطع التزيين وغيرها .
8. لا تتحسري على العاطفة الملتهبة ، ومشاعر الحب الفياضة وأحلام اليقظة التي كنت تعيشين فيها قبل الزواج ، فهي تهدأ بعد الزواج وتتحول إلى عاطفة هادئة متزنة
9. إذا كان الرجل هو صاحب الكلمة الأولى في العلاقة الزوجية ، فأنت المسؤولة عن النجاح والتوافق والانسجام في الزواج . ومهما بلغتِ من علم وثقافة ، ومنصب وسلطان، ارضخي لزوجك والجئي إليه ، ولا تصطدمي معه في الرأي . واهتمي في مناقشاتك معه بأن تتبادلي الأفكار مع زوجك تبادلا فعليا ، فتفاعل الآراء المثمر خير من استقطابها استقطابا مدمرا .
10. أشعري زوجك دائما بمشاركتك له في مشاعره وأفراحه ، وهمومه وأحاسيسه . أشعريه أنه يحيا في جنة هادئة وادعة ، حتى يتفرغ للعمل والإبداع والإنتاج مما يجعل حياته حافلة مثمرة .
11. جربي الكلام الحلو المفيد ، والابتسامة المشرقة المضيئة ، والفكاهة المنعشة ، والبشاشة الممتعة ، وابتعدي عن الحزن والغم ، والهذر واللغو ، والعبوس والتجهم ، والكآبة والاكتئاب .
12. أظهري لزوجك مهارتك وبراعتك وتفوقك على سائر النساء ، وسيزداد تمسك زوجك بك ، واعتزازه بصفاتك الشخصية ، حين تتقنين كل شيء تعملينه .
13. لا تضيعي وقتك في ثرثرات هاتفية مع صاحباتك ، أو في قراءة مجلات تافهة تتحدث عن أخبار الممثلين والممثلات ، والمغنين والمغنيات ، وفي قراءة قصص الحب والعلاقات الغرامية والأوهام . فما أكثر تلك المجلات في أيامنا ، وما أكثر النساء اللواتي يقضين معظم أوقاتهن في قراءة تلك المجلات التافهة الهابطة .
اختاري من المجلات ما يفيد ذهنك وعقلك وقلبك ، وما يزيدك ثقافة وتعينك على حل مشاكل البيت والأولاد .
15 . اختاري من برامج التلفاز ما يفيدك ويزيدك ثقافة وخبرة ، ولا تضيعي وقتك في المسلسلات الهابطة والأفلام المائعة .
16 . شجعي زوجك على النشاط الرياضي والبدني خارج البيت . امش معه إن أمكن واستمتعا بالهواء الطلق في عطلة نهاية الأسبوع وكلما سنحت الفرصة لذلك .
17 تخيري الأوقات المناسبة لعرض مشاكل الأسرة ومناقشة حلها ، إذ يصعب حل المشاكل قبل خروج زوجك للعمل في الصباح بسبب قلة الوقت ، ولا تناقشي أي مشكلة عند عودته من عمله في المساء مرهقا متعبا . ولعل المساء هو أفضل فترة لمناقشة المشاكل ومحاولة حلها ، ولا تناقشي مشاكل الأبناء في حضورهم ، حتى لا يشعروا أنهم أعباء ثقيلة عليك وعلى زوجك ، وأنهم سبب الخلاف بين الوالدين .
18 لا تسرعي بالشكوى إلى زوجك بمجرد دخوله البيت من أمور تافهة مثل صراخ الأولاد . ولا تطلبي من زوجك أن يلعب دور الشرطي للأولاد ، يقبض على المتهم ويحاكمه أو يضر به .
19 لا تنتقدي سلوك زوجك أمام أطفاله ، ولا تستعملي ألفاظا غير لائقة يرددها الأبناء من بعدها مثل " جاء البعبع " أو " وصل الهم " …
فبعض النساء ، إن تكاسل ولدها في المذاكرة قالت له : لن تنجح أبدا في حياتك فأنت كسول فاشل مثل أبيك ، وإذا مرض زوجها قللت من أهمية مرضه ، وإن حدثها زوجها بقصة قاطعته قائلة " لقد سمعتها من قبل .. " وغير ذلك من الأمور التي قد تبدو تافهة ولكنها تحمل في طياتها الكثير من الآلام للزوج !!
20.حذار حذار من الإفراط في الغيرة و العتاب ، وتجنبي التصرفات التي تؤجج غيرة زوجك ، وتبلبل أفكاره . أوصى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ابنته فقال : " إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق ، وإياك وكثرة العتب فإنه يورد البغضاء "
21.إياك أن تغاري من حب زوجك لأمه وأبيه . فكيف نقبل من زوجة مسلمة أن تبدأ حياتها بالغيرة من حب زوجها لأهله ، وهو حب فطري أوجبه الله على المسلمين لا يمس حب زوجها لها من قريب أو بعيد ؟ وكيف نقبل من زوجة مسلمة أن توحي لزوجها أن يبدأ حياته معها بمعصية الله تعالى ورسوله-- في أهله ، يعق والديه ويقطع رحمه من أجل رضا زوجته ؟!
وهو ما أنبأ عنه الرسول-- عن تغيير حال المسلمين وأخلاقهم في المستقبل ، فأخبر بأنه في ذلك الزمان : " أطاع الرجل زوجته وعق أمه ، وبر صديقه وجفا أباه "
22. لا تنقلي مشاكل بيتك إلى أهلك ، فتوغري صدور أهلك ضد زوجك . بل حلي تلك المشاكل بالتعاون مع زوجك .
لا تستعل على زوجك إذا ما كنت أغنى منه أو أعلى حسبا ونسبا أو أكثر ثقافة وعلما ، فلا يجوز استصغار الزوج وانتقاص قدره والتعالي عليه . يقول رسول الله-- :
" لا ينظر الله تبارك وتعالى إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه " .
24.لا تمتنعي على زوجك في المعاشرة الزوجية . قال الرسول-- : " إذا دعا الرجل
امرأته إلى فراشه ، فلم تأته ، فبات غضبان عليها ، لعنتها الملائكة حتى تصبح " .
وتذكري أن أول حقوق للزوج على زوجه طاعتها له . فقد قال رسول الله-- :
" لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " .
ولا تصومي نفلا إلا بإذن زوجك . قال رسول الله-- : " لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ( أي في غير رمضان ) ولا تأذن في بيته إلا بإذنه "
25. لا تنسِ فضل زوجك عليكِ ، فقد جعل النبي-- تناسي فضل الزوج سببا لدخول المرأة النار ، وسمَّاه كفراً . فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال النبي-- :
" أُريتُ النار ، فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن " . قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ( أي الزوج ) ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهرَ ، ثم رأتْ منك شيئا قالت : ما رأيت منك خيرا قط " .
26. حافظي على أموال زوجك ، ولا تنفقي شيئا من ماله إلا بإذنه ، وبعد أن تستوثق من رضاه . قال رسول الله-- : " لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذنه . قيل يا رسول الله ولا الطعام ؟ قال : ذلك أفضل أموالنا " .
وإذا أعسر زوجك فتصدقي عليه من مالك ، وإن لم يكن لك مال ، فاصبري على شظف العيش معه لعل الله تعالى يفرج عليكما .
27. إذا كنت من الأمهات العاملات ، فلا تتصوري أن ما يحتاج إليه زوجك وأولادك هو المال وحده ، فتغدق الأم عليهم المال تعويضا عن تقصيرها في أداء مهامها الإنسانية . وهيهات هيهات أن يتساوى اللبن الصناعي مع لبن الأم الرباني الطبيعي . أو يتساوى حنان الخادمة مع حنان الأم .. وطعام الخادمة الكافرة مع طعام الزوجة النظيفة ، وتربية المربية الجاهلة مع تربية الأم الواعية .
28. لا تضجري من عمل زوجك ، فإن أسوأ ما تصنع بعض النساء هو إعلان الضجر من عمل الزوج . والإعلان يكون عادة في خلق النكد ، والدأب على الشكوى ، واتهام الزوج بإهمالها .. واللجوء إلى بيت أمها غضبى .
29. تذكري أن الزوج الذي اعتاد أن يرى أمه هي أول من تستيقظ من نومها ، ثم توقظ كل من في البيت بعد ذلك ، وتجهز لهم الفطور ، وتعاون الصغار في ارتداء ملابسهم ، لن يرضى بامرأة اعتادت أن تنام حتى منتصف الشمس في كبد السماء . !!
30. تذكري أن البيت المملوء بالحب والسلام ، والتقدير المتبادل والاحترام، مع طعام مكون من كسرة خبز وماء ، خير من بيت مليء بالذبائح واللحوم وأشهى الطعام ، وهو مليء بالنكد والخصام !!
رواه ابن ماجة والترمذي
رواه الديلمي
رواه ابن ماجة
رواه الترمذي
رواه النسائي والبزار والحاكم وقال صحيح الإسناد
متفق عليه
رواه الترمذي وصححه
رواه البخاري
رواه البخاري
رواه الترمذي بسند جيد
==================
ثلاثون وصية تسعد بها زوجتك
الدكتور حسان شمسي باشا
السعادة الزوجية أشبه بقرص من العسل تبنيه نحلتان ، وكلما زاد الجهد فيه زادت حلاوة الشهد فيه . وكثيرون يسألون كيف يصنعون السعادة في بيوتهم ، ولماذا يفشلون في تحقيق هناءة الأسرة واستقرارها .
ولا شك أن مسؤولية السعادة الزوجية تقع على الزوجين .فلا بد من وجود المحبة بين الزوجين. وليس المقصود بالمحبة ذلك الشعور الأهوج الذي يلتهب فجأة وينطفئ فجأة ، إنما هو ذلك التوافق الروحي والإحساس العاطفي النبيل بين الزوجين .
والبيت السعيد لا يقف على المحبة وحدها ، بل لا بد أن تتبعها روح التسامح بين الزوجين . والتسامح لا يتأتى بغير تبادل حسن الظن والثقة بين الطرفين . والتعاون عامل رئيسي في تهيئة البيت السعيد ، وبغيره تضعف قيم المحبة والتسامح . والتعاون يكون أدبياً ومادياً . ويتمثل الأول في حسن استعداد الزوجين لحل ما يعرض للأسرة من مشكلات . فمعظم الشقاق ينشأ عن عدم تقدير أحد الزوجين لمتاعب الآخر ، أو عدم إنصاف حقوق شريكه .
ولا نستطيع أن نعدد العوامل الرئيسة في تهيئة البيت السعيد دون أن نذكر العفة بإجلال وخشوع ، فإنها محور الحياة الكريمة ، وأصل الخير في علاقات الإنسان .
وقد كتب أحد علماء الاجتماع يقول : " لقد دلتني التجربة على أن أفضل شعار يمكن أن يتخذه الأزواج لتفادي الشقاق ، هو أنه لا يوجد حريق يتعذر إطفاؤه عند بدء اشتعاله بفنجان من ماء .. ذلك لأن أكثر الخلافات الزوجية التي تنتهي بالطلاق ترجع إلى أشياء تافهة تتطور تدريجياً حتى يتعذر إصلاحها " .
وتقع المسؤولية في خلق السعادة البيتية على الوالدين ، فكثيراً ما يهدم البيت لسان لاذع ، أو طبع حاد يسرع إلى الخصام ، وكثيراً ما يهدم أركان السعادة البيتية حب التسلط أو عدم الإخلاص من قبل أحد الوالدين وأمور صغيرة في المبنى عظيمة في المعنى . وهاك بعضاً من تلك الوصايا التي تسهم في إسعاد زوجك .
1. لا تُهنْ زوجتك ، فإن أي إهانة توجهها إليها ، تظل راسخة في قلبها وعقلها . وأخطر الإهانات التي لا تستطيع زوجتك أن تغفرها لك بقلبها ، حتى ولو غفرتها لك بلسانها ، هي أن تنفعل فتضر بها ، أو تشتمها أو تلعن أباها أو أمها ، أو تتهمها في عرضها .
2. أحسِنْ معاملتك لزوجتك تُحسنْ إليك . أشعرها أنك تفضلها على نفسك ، وأنك حريص على إسعادها ، ومحافظ على صحتها ، ومضحٍّ من أجلها ،إن مرضتْ مثلاً ، بما أنت عليه قادر .
3. تذكر أن زوجتك تحب أن تجلس لتتحدث معها وإليها في كل ما يخطر ببالك من شؤون. لا تعد إلى بيتك مقطب الوجه عابس المحيا ، صامتا أخرسا ، فإن ذلك يثير فيها القلق والشكوك .!
4. لا تفرض على زوجتك اهتماماتك الشخصية المتعلقة بثقافتك أو تخصصك ، فإن كنت أستاذا في الفلك مثلا فلا تتوقع أن يكون لها نفس اهتمامك بالنجوم والأفلاك !!
5. كن مستقيما في حياتك ، تكن هي كذلك . ففي الأثر : " عفوا تعف نساؤكم " رواه الطبراني . وحذار من أن تمدن عينيك إلى ما لا يحل لك ، سواء كان ذلك في طريق أو أمام شاشة التلفاز ، وما أسوأ ما أتت به الفضائيات من مشاكل زوجية !!
6. إياك إياك أن تثير غيرة زوجتك ، بأن تذكِّرها من حين لآخر أنك مقدم على الزواج من أخرى ، أو تبدي إعجابك بإحدى النساء ، فإن ذلك يطعن في قلبها في الصميم ، ويقلب مودتها إلى موج من القلق والشكوك والظنون . وكثيرا ما تتظاهر تلك المشاعر بأعراض جسدية مختلفة ، من صداع إلى آلام هنا وهناك ، فإذا بالزوج يأخذ زوجته من طبيب إلى طبيب !!
7. لا تذكِّر زوجتك بعيوب صدرت منها في مواقف معينة ، ولا تعيِّرها بتلك الأخطاء والمعايب ، وخاصة أمام الآخرين .
8. عدِّل سلوكك من حين لآخر ، فليس المطلوب فقط أن تقوم زوجتك بتعديل سلوكها، وتستمر أنت متشبثا بما أنت عليه ، وتجنب ما يثير غيظ زوجتك ولو كان مزاحا .
9. اكتسب من صفات زوجتك الحميدة ، فكم من الرجال ازداد التزاما بدينه حين رأى تمسك زوجته بقيمها الدينية والأخلاقية ، وما يصدر عنها من تصرفات سامية .
10. الزم الهدوء ولا تغضب فالغضب أساس الشحناء والتباغض . وإن أخطأت تجاه زوجتك فاعتذر إليها . لا تنم ليلتك وأنت غاضب منها وهي حزينة باكية . تذكَّر أن ما غضبْتَ منه - في أكثر الأحوال - أمر تافه لا يستحق تعكير صفو حياتكما الزوجية ، ولا يحتاج إلى كل ذلك الانفعال . استعذ بالله من الشيطان الرجيم ، وهدئ ثورتك ، وتذكر أن ما بينك وبين زوجتك من روابط ومحبة أسمى بكثير من أن تدنسه لحظة غضب عابرة ، أو ثورة انفعال طارئة .
11. امنح زوجتك الثقة بنفسها . لا تجعلها تابعة تدور في مجرَّتك وخادمة منفِّذةً لأوامرك . بل شجِّعها على أن يكون لها كيانها وتفكيرها وقرارها . استشرها في كل أمورك ، وحاورها ولكن بالتي هي أحسن . خذ بقرارها عندما تعلم أنه الأصوب ، وأخبرها بذلك وإن خالفتها الرأي فاصرفها إلى رأيك برفق ولباقة .
12. أثن على زوجتك عندما تقوم بعمل يستحق الثناء ، فالرسول-- يقول : " من لم يشكر الناس لم يشكر الله " رواه الترمذي .
13. توقف عن توجيه التجريح والتوبيخ ، ولا تقارنها بغيرها من قريباتك اللاتي تعجب بهن وتريدها أن تتخذهن مُثُلاً عليا تجري في أذيالهن ، وتلهث في أعقابهن .
14. حاول أن توفر لها الإمكانات التي تشجعها على المثابرة وتحصيل المعارف . فإن كانت تبتغي الحصول على شهادة في فرع من فروع المعرفة فيسِّرْ لها ذلك ، طالما أن ذلك الأمر لا يتعارض مع مبادئ الدين ، ولا يشغلها عن التزاماتها الزوجية والبيتية . وتجاوبْ مع ما تحرزه زوجتك من نجاح فيما تقوم به .
15. أنصتْ إلى زوجتك باهتمام ، فإن ذلك يعمل على تخليصها مما ران عليها من هموم ومكبوتات ، وتحاشى الإثارة والتكذيب ، ولكن هناك من النساء من لا تستطيع التوقف عن الكلام ، أو تصبُّ حديثها على ذم أهلك أو أقربائك ، فعليك حينئذ أن تعامل الأمر بالحكمة والموعظة الحسنة .
16. أشعر زوجتك بأنها في مأمن من أي خطر ، وأنك لا يمكن أن تفرط فيها ، أو أن تنفصل عنها .
17. أشعر زوجتك أنك كفيلٌ برعايتها اقتصاديا مهما كانت ميسورة الحال . لا تطمع في مالٍ ورثتْهُ عن أبيها ، فلا يحلُّ لك شرعاً أن تستولي على أموالها .
ولا تبخل عليها بحجة أنها ثرية ، فمهما كانت غنية في حاجة نفسية إلى الشعور بأنك البديل الحقيقي لأبيها .
18.حذار من العلاقات الاجتماعية غير المباحة . فكثير من خراب البيوت الزوجية منشؤه تلك العلاقات .
19. وائم بين حبك لزوجك وحبك لوالديك وأهلك ، فلا يطغى جانب على جانب ، ولا يسيطر حب على حساب حب آخر . فأعط كل ذي حق حقه بالحسنى ، والقسطاس المستقيم
20.كن لزوجك كما تحب أن تكونَ هي لك في كل ميادين الحياة ، فإنها تحب منك كما تحب منها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي
21 . أعطها قسطا وافرا وحظا يسيرا من الترفيه خارج المنزل ، كلون من ألوان التغيير ، وخاصة قبل أن يكون لها أطفال تشغل نفسها بهم .
22. شاركها وجدانيا فيما تحب أن تشاركك فيه ، فزر أهلها وحافظ على علاقة كلها مودة واحترام تجاه أهلها .
23. لا تجعلها تغار من عملك بانشغالك به أكثر من اللازم ، ولا تجعله يستأثر بكل وقتك، وخاصة في إجازة الأسبوع ، فلا تحرمها منك في وقت الإجازة سواء كان ذلك في البيت أم خارجه ، حتى لا تشعر بالملل والسآمة .
24. إذا خرجت من البيت فودعها بابتسامة وطلب الدعاء . وإذا دخلت فلا تفاجئها حتى تكون متأهبة للقائك ، ولئلا تكون على حال لا تحب أن تراها عليها ، وخاصة إن كنت قادما من السفر .
25. انظر معها إلى الحياة من منظار واحد ..وقد أوصى رسول الله-- بالنساء بقوله:" أرفق بالقوارير " وقوله : " إنما النساء شقائق الرجال " و قوله : " استوصوا بالنساء خيرا "
26. حاول أن تساعد زوجك في بعض أعمالها المنزلية ، فلقد بلغ من حسن معاشرة الرسول-- لنسائه التبرع بمساعدتهن في واجباتهن المنزلية . قالت عائشة رضي الله عنها :
" كان-- يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة "
27. حاول أن تغض الطرف عن بعض نقائص زوجتك ، وتذكر ما لها من محاسن ومكارم تغطي هذا النقص لقوله-- فيما رواه مسلم " لا يفرك ( أي لا يبغض ) مؤمنٌ مؤمنة إن كرِهَ منها خُلُقاً رضي منها آخر " .
28. على الزوج أن يلاطف زوجته ويداعبها ، وتأس برسول الله-- في ذلك : " فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ؟ " . وحتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وهو القوي الشديد الجاد في حكمه - كان يقول : " ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي ( أي في الأنس والسهولة ) فإن كان في القوم كان رجلا " .
29. استمع إلى نقد زوجتك بصدر رحب ، فقد كان نساء النبي-- يراجعنه في الرأي ، فلا يغضب منهن .
30 . أحسن إلى زوجتك وأولادك ، فالرسول-- يقول : " خيركم خيركم لأهله " . فإن أنت أحسنت إليهم أحسنوا إليك ، وبدلوا حياتك التعيسة سعادة وهناء . لا تبخل على زوجك ونفسك وأولادك ، وأنفق بالمعروف ، فإنفاقك على أهلك صدقة . قال-- : " أفضل الدنانير دينار تنفقه على أهلك … " .
------
رواه أحمد في مسنده
رواه أحمد في مسنده
رواه البخاري
رواه البخاري
رواه البخاري
رواه الترمذي
رواه مسلم وأحمد
=================
ثلاثون وصية للنجاح في الحياة
الدكتور حسان شمسي باشا
كلنا يريد النجاح في الحياة ، ولكن البعض منا يخفق في الوصول إليه لأنه يظن أن النجاح كلمة مستحيلة صعبة المراد . والحقيقة أننا ربما نكون قد أهملنا أسباب النجاح ، وأخلدنا إلى الأرض ، فزادتنا هوانا على هوان .
والنجاح هو طموحك من الحسن إلى الأحسن ، فالكمال لله تعالى وحده ، وإذا سمعت أحدا يقول لك : " وصلت إلى غايتي في الحياة " فاعلم أنه قد بدأ بالانحدار . وعلى الإنسان السعي نحو النجاح ، والله تعالى لا يضيع أجر العاملين . يقول بديع الزمان الهمذاني :
وعلي أن أسعى وليس عليّ إدراك النجاح
وإليك هذه الوصايا لمن أراد أن يقطف ثمار النجاح من بستان الحياة .. وما هي إلا دعوة للوصول إلى الفلاح في الدارين،إذ ما قيمة نجاح الدنيا ، إن كان في الآخرة خسران مبين!!
1. عليك بتقوى الله تعالى فهي خير زاد .. وأفضل وصية .. فالله تعالى يقول : " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ " الطلاق 1-2 . ويقول تعالى أيضا : " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا(4) " الطلاق
2. املأ قلبك بمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم محبة أبويك ومن حولك .. فالحب يجدد الشباب ، ويطيل العمر ، ويورث الطمأنينة .. والكراهية تملأ القلوب تعاسة وشقاء ..اجعل في بيتك ما يكفيك من حب أهلك وعائلتك .. فالحب يضمد الجراح ، ويبعث في القلب حرارة الإلفة والمودة.
3. اجعل حبك لنفسك يتضاءل أمام حبك لغيرك .. فالله تعالى يقول : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ " الحشر 9 .والسعداء يوزعون الخير على الناس ، فتتضاعف سعادتهم .. والأشقياء يحتكرون الخير لأنفسهم ، فيختنق في صدورهم . اجعل قلبك مليئا بالحب والتسامح والحنان .. فالأشقياء هم الذين امتلأت قلوبهم حقدا وكراهية ونقمة .
4. لا تذرف الدموع على ما مضى ، فالذين يذرفون الدموع على حظهم العاثر لا تضحك لهم الدنيا ، والذي يضحكون على متاعب غيرهم ، لا ترحمهم الأيام . لا تبك على اللبن المسكوب .. بل ابذل جهدا إضافيا حتى تعوض اللبن الذي ضاع منك .
وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان " رواه مسلم
5. اجعل نفسك أكثر تفاؤلا .. فالمتفائل يتطلع في الليل إلى السماء ، ويرى حنان القمر ، والمتشائم ينظر إلى السماء ولا يرى إلا قسوة الظلام . كن أكثر تفاؤلا مما أنت عليه ، فالمتفائل يجذب إليه محبة الآخرين .. والمتشائم يطردها عن نفسه .. يقول الحليمي : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل ، لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى ، والتفاؤل حسن ظن به ، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال ". فعن معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - قال : قلت يا رسول الله ، منا رجال يتطيرون . فقال : ذلك شيء يجدونه في صدورهم ، فلا يصدّنهم " . رواه مسلم . وقال النووي : معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ولا عتب عليكم في ذلك ، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم .
6. كن أكثر إنصافا للناس مما أنت عليه .. فالظلم يقصّر العمر ، ويذهب النوم من العيون .. ونحن نفقد الذين نحبهم لأننا نظلم ونغالط في حسابهم .. نركز حسابنا على أخطائهم .. وننسى فضائلهم .. نطالبهم بأن يكونوا خالين من كل عيب .. ونبرر أخطاءنا بحجة أننا بشر غير معصومين . يقول الإمام محمد بن سيرين : " ظلمك لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره " ، ويقول ابن القيم : " كيف ينصف الخلق من لم ينصف الخالق " .
7. إذا رماك الناس بالطوب ، فاجمع هذا الطوب لتسهم في تعمير بيت .. وإذا رموك بالزهور فوزعها على الذين علّموك .. الذين أخذوا بيدك وأنت تكافح عند سفح الجبل
8. كن واثقا بالله تعالى أولا ثم بنفسك .. وتعرف على عيوبك .. وتيقن أنك لو تخلصت من عيوبك لكنت أكثر قربا من أحلامك . تذكر أخطاءك لتتخلص من عيوبك. وانس أخطاء إخوانك وأصدقائك كي تحافظ عليهم .. واعلم أن من سعادة المرء اشتغاله بعيوب نفسه عن عيوب غيره ..
9. إذا نجحت في أمر .. فلا تدع الغرور يتسلل إلى قلبك .. فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول : " وإن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد " رواه مسلم. ويقول تعالى : " فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى(32)" النجم. وإذا وقعت على الأرض فلا تدع الجهل يوهمك أن الناس قد حفروا لك الحفرة .. حاول الوقوف من جديد وافتح عينيك وعقلك كي لا تقع في حفر الأيام ونكبات الليالي . إذا وقعت فتعلم كي تقف لا كيف تجزع .. وإذا وقفت فتذكر الواقعين على الأرض .. لتنحني لهم وتساعدهم على الوقوف .
10. إذا انتصرت على خصومك فلا تشمت بهم .. وإذا أصيبوا بمصيبة فشاركهم ولو بالدعاء . فالله تعالى يقول : " وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ(43) الشورى . ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " اللهم لا تشمت بي عدوا حاسدا " .وقال عليه الصلاة والسلام : " لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك " . رواه الترمذي .
11. لا تجمع بين القناعة والخمول .. ولا بين العزة والغرور .. ولا بين التواضع والمذلة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تواضع لله رفعه الله حتى يجعله في أعلى عليين رواه ابن ماجة
11. اختر لنفسك من الصالحين صديقا واحرص عليه .. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " الرجل على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل " رواه الترمذي . لا تعاتبه في كل صغيرة وكبيرة. غض الطرف عن زلاته ، فإن الكمال لله تعالى وحده .. ضع نصب عينيك إخلاصه لله ، وسلوكه المستقيم .. حافظ عليه ، فإنك إن ضيعته فقد لا تجد من يشاركك هموم الحياة ويدلك على الخير . قال عبد الله بن جعفر : عليك بصحبة من إذا صحبته زانك ، وإن غبت عنه صانك ، وإن احتجت إليه عانك ، وإن رأى منك خلة سدها أو حسنة عدها وأصلحها " .
12. لا تخاصم الآخرين ، فالخصام يمزق حبل الصداقة ، ويخلق سدودا وهمية بين الأرواح. اجعل نفسك في كل عام أوسع صدرا من عامك الذي مضى ، فالسعداء لا تضيق صدورهم .. وهم يتسامحون مع غيرهم ويحتملون عيوبهم .. وانس إساءة الناس وتذكر جميلهم
13. تسامح مع الذين أخطأوا في حقك ، والتمس لهم الأعذار .. تسامح وأسرف في
تسامحك .. فالتسامح يطيل العمر ، ويعيد إليك الثقة بالناس واحترام الآخرين لك .. اغسل تجاعيد الكراهية من قلبك وذاكرتك .. وتعلم أن تعاقب من أساؤوا إليك بالنسيان لا بضربهم بالسكاكين . : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ، كان إذا خرج من بيته قال : إني تصدقت بعرضي على الناس " رواه أبو داوود . قال الإمام النووي : أي لا أطلب مظلمتي ممن ظلمني لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهذا ينفع في إسقاط مظلمة كانت موجودة قبل الإبراء ، فأما ما يحدث بعده فلا بد من إبراء جديد بعدها " .
14. أعط الآخرين من قلبك وعقلك ومالك ووقتك .. ولا تقدم لهم فواتير الحساب .. وإذا ساعدت غيرك فلا تطلب من الناس أن يساعدوك .. وليكن عملك خالصا لوجه الله تعالى .وإذا أنت أسديت جميلا إلى إنسان فحذار أن تذكره ,وإن أسدى إنسان إليك جميلا فحذار أن تنساه. قال تعالى : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى " البقرة 264 .
وتذكر قول الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
15. اعتبر كل فشل يصادفك إحدى تجارب الحياة التي تسبق كل نجاح وانتصار .. فالليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر .قال أحدهم :النجاح سلالم لاتستطيع أن ترتقيها ويداك في جيبك.!!
16. احمد الله تعالى على طبق الفول .. ولا تلعن الأيام لأنها لم تقدم لك طبق الكافيار في كل يوم . كن قنوعا .. وإياك والحسد ، فالله تعالى قد اختص أناسا بنعمة أسداها إليهم .. فلا تتمنى زوال النعمة عن الآخرين .. بل اسأل الله تعالى من فضله .. فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس ،وكن قتعا تكن أشكر الناس ، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا ،وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما، وأقلّ الضحك فإن كثر الضحك تميت القلب " رواه ابن ماجة .
17. لا تنس في كل يوم أن تطلب من الله العفو والعافية . ففي الحديث الذي رواه الترمذي ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " اسألوا الله العفو والعافية فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية " رواه الترمذي
18. اسأل الله تعالى علما نافعا ورزقا واسعا . فالعلم هو الخزانة التي لا يتسلل إليها اللصوص .. وألف دينار في يد الجاهل تصبح حفنة من التراب ، وحفنة من التراب في يد متعلم تتحول إلى ألف دينار .. قال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - لرجل من أصحابه : يا عميل ، العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والعلم حاكم والمال محكوم عليه ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكوا بالإنفاق " . والعلم يحطم الغرور .. والغرور هو قشرة الموز التي تتزحلق عليها ، وأنت تتسلق حبل النجاح .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلوا الله علما نافعا ، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع " . رواه ابن ماجة . ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ،ومن قلب لا يخشع ،ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع ، ومن هؤلاء الأربع " رواه ابن ماجة .
19. حاول أن تسعد كل من حولك ، لتسعد ويسعد الآخرون من حولك .. فأنت لا تستطيع الضحك بين الدموع .. ولا الاستمتاع بنور الفجر وحولك من يعيش في الظلام. وسعادة الإنسان تتضاعف بعدد الذين تنجح في إسعادهم .. وإذا اتسع رزقك ، فحاول أن تسعد الناس ببعض مالك .. وإذا ضاق رزقك ، فحاول أن تسعدهم بالكلمة الطبية .. . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له " . رواه مسلم . وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم : "اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة " رواه الشيخان . وقال عليه الصلاة والسلام : لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق " رواه مسلم
20حاول أن تتذكر الذين ساعدوك في أيام محنتك .. والذين مدوا لك أيديهم وأنت تتعثر .. والذين وقفوا معك عندما أدارت لك الدنيا ظهرها .. والذين أخرجوك من وحدتك يوم تخلى عنك بعض من حولك .. لا تقل إنك شكرتهم ورددت لهم الجميل .. اشكرهم مرة أخرى ، ورد لهم الجميل كلما استطعت . قال عليه الصلاة والسلام : " من لا يشكر الناس لا يشكر الله " رواه الترمذي .وقال عليه الصلاة والسلام : من صنع إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " . رواه أبو داوود .
21. حاول أن تتذكر أسماء الذين أسأت إليهم من غير قصد .. اسأل الله تعالى أن يعفوا عنك ، وادع الله لهم أن يطلبوا منه الغفران لك . ولا تحاسب الناس .. فحسابهم إضاعة للوقت ..
22. خذ بيد الضعيف حتى يسترد قوته .. وقف بجانب اليائس حتى يبصر بارقة الأمل .. وكن مع الفاشل حتى يدرك طريق النجاح . حاول أن تضمد جروح بعض الناس ، وتسهم في ترميم بيوت آيلة للسقوط . وتأمل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في تجسيد العلاقة القائمة بينك وبين الآخرين : " المؤمن مرآة المؤمن ، والمؤمن أخو المؤمن ، يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه " رواه أبو داوود وحسنه الألباني .
23. إذا زحف الظلام ، فكن أحد حملة الشموع ، لا أحد الذين يقذفون الفوانيس بالحجارة .. وإذا جاء الفجر ، فكن من بين الذين يستقبلون أشعة النهار ، لا أحد الكسالى الذين لا يدركون شروق الشمس .
24. حاول أن تسدد بعض ديون الناس عليك . فبعضهم أعطاك خلاصة تجاربه خلال أعوام من الزمان مضت .. وبعضهم أعطاك ثقته ، فلم تقف وحدك في مواجهة عواصف الحياة .. وبعضهم أضاء لك شمعة وسط الظلام ، فأبصرت الطريق في النهار .. وبعضهم ملأ عقلك .. وآخرون ملأوا قلبك .. وأعظم من ذلك ، شكر المولى تعالى المتفضل عليك بالنعم كلها ، وكيف بنا إذا قال لنا الله تعالى يوم القيامة - كما في الحديث القدسي الذي يرويه مسلم - : " يا بن آدم ، حملتك على الخيل والإبل وزوّجتك النساء وجعلتك تربع وترأس ، فأين شكر ذلك ؟ " فهل أعددنا لذاك السؤال جوابا ..!!
25. إذا اقتربت من قمة الجبل ، فلا تدع الغرور يفقدك صوابك ، ولا تتوهم أن الذين يقفون عند السفح هم الأقزام .. قال الله تعالى : " وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18) " لقمان . ولقد سئل الحسن البصري عن التواضع فقال : التواضع هو أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلما إلا رأيت له عليك فضلا .
تغلب على أنانيتك ، ومد يدك لتساعد الواقفين عند السفح للوصول إلى قمة الجبل . وإذا تعثرت قدمك بعد الوصول إلى قمة الجبل فلا تتهم غيرك بأنهم سبب وقوعك . تعرف على أخطائك وعيوبك ، حتى إذا وصلت إلى قمة الجبل مرة أخرى عرفت كيف تثبت أقدامك بزيادة عدد الذين يقفون معك عند القمة .
26. لا تفتش عن عيوب الآخرين : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم " رواه مسلم . قال الخطابي : معناه ، لا يزال يعيب الناس ويذكر مساوئهم ويقول فسد الناس وهلكوا ، فإن فعل ذلك فهو أسوأ حالا منهم فيما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة منهم " .قال مالك : إذا قال ذلك تحزنا لما يرى في الناس من أمر دينهم فلا أرى به بأسا ، وإذا قال ذلك عجبا في نفسه وتصاغرا للناس فهو المكروه الذي يُنهى عنه " .
27. لا تجعل لليأس طريقا إلى قلبك ، فاليأس يغمض العيون .. فلا ترى الأبواب المفتوحة ولا الأيدي الممدودة .قال تعالى : " قُلْ يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) الزمر .
28. أيقن بأنك إذا أتقنت عملك وأحببته وتفانيت فيه .. تستطيع أن تحقق ما عجز عنه الآخرون ، ولا تنس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " رواه أبو يعلى
29. تذكر أن المؤمن يستطيع أن يحتمل الجوع ، ويستطيع أن يحتمل الحرمان .. يستطيع أن يعيش في العراء .. ولكنه لا يستطيع أن يعيش ذليلا .. والله تعالى يقول : " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ "
.3. حاسب نفسك قبل أن تحاسب .. وأحص أعمالك قبل أن تحصى عليك .. . قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(18) " سورة الحشر . قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنه أهون لحسابكم ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتجهزوا ليوم تعرضون فيه لا تخفى منكم خافية "
=================
مجمع الفقه الإسلامي واختلافات الزوج والزوجة الموظفة
شعار منظمة المؤتمر الإسلامي
أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته السادسة عشرة بدبي (دولة الإمارات العربية المتحدة) ــ من 9 إلى 14 أبريل الحالي ــ قرارا وفتوى عن اختلافات الزوج والزوجة الموظفة، وعن انفصال الذمة المالية بين الزوجين ، جاء فيه :
أولاً : انفصال الذمة المالية بين الزوجين
للزوجة الأهلية الكاملة والذمة المالية المستقلة التامة، ولها الحق المطلق في إطار أحكام الشرع مما تكسبه من عملها، ولها ثروتها الخاصة، ولها حق التملك وحق التصرف بما تملك ولا سلطان للزوج على مالها، ولا تحتاج لإذن الزوج في التملك والتصرف بمالها.
ثانيا: النفقة الزوجية:
تستحق الزوجة النفقة الكاملة المقررة بالمعروف، وبحسب سعة الزوج، وبما يتناسب مع الأعراف الصحيحة والتقاليد الاجتماعية المقبولة شرعا، ولا تسقط هذه النفقة إلا بالنشوز.
ثالثا: عمل الزوجة خارج البيت:
(1) من المسؤوليات الأساسية للزوجة رعاية الأسرة وتربية النشء والعناية بجيل المستقبل، ويحق لها عند الحاجة أن تمارس خارج البيت الأعمال التي تتناسب مع طبيعتها واختصاصها بمقتضى الأعراف المقبولة شرعا، بشرط الالتزام بالأحكام الدينية والآداب الشرعية ومراعاة مسؤوليتها الأساسية.
(2) إن خروج الزوجة للعمل لا يسقط نفقتها الواجبة على الزوج المقررة شرعا، وفق الضوابط الشرعية، ما لم يتحقق في ذلك الخروج معنى النشوز المسقط للنفقة.
رابعا : مشاركة الزوجة في نفقات الأسرة:
(1) لا يجب على الزوجة شرعا المشاركة في النفقات الواجبة على الزوج ابتداء، ولا يجوز إلزامها بذلك.
(2) تطوع الزوجة بالمشاركة في نفقات الأسرة أمر مندوب إليه شرعا لما يترتب عليه من تحقيق معنى التعاون والتآزر والتآلف بين الزوجين.
( 3) يجوز أن يتم تفاهم الزوجين واتفاقهما الرضائي على مصير الراتب أو الأجر الذي تكسبه الزوجة.
(4) إذا ترتب على خروج الزوجة للعمل نفقات إضافية تخصها فإنها تتحمل تلك النفقات.
خامسا: اشتراط العمل:
(1) يجوز للزوجة أن تشترط في عقد الزواج أن تعمل خارج البيت فإن رضى الزوج بذلك ألزم به، ويكون الإشتراط عند العقد صراحة.
(2) يجوز للزوج أن يطلب من الزوجة ترك العمل بعد إذنه به إذا كان الترك في مصلحة الأسرة والأولاد.
(3) لا يجوز شرعا ربط الإذن (أو الاشتراط) للزوجة بالعمل خارج البيت مقابل الاشتراك في النفقات الواجبة على الزوج ابتداء أو إعطائه جزءا من راتبها وكسبها.
(4) ليس للزوج أن يجبر الزوجة على العمل خارج البيت.
سادسا: اشتراك الزوجة في التملك :
إذا أسهمت الزوجة فعليا من مالها أو كسب عملها في تملك مسكن أو عقار أو مشروع تجاري فإن لها الحق في الاشتراك في ملكية ذلك المسكن أو المشروع بنسبة المال الذي أسهمت به.
سابعا: إساءة استعمال الحق في مجال العمل:
(1) للزواج حقوق وواجبات متبادلة بين الزوجين، وهي محددة شرعا وينبغي أن تقوم العلاقة بين الزوجين على العدل والتكافل والتناصر والتراحم، والخروج عليها يعد محرم شرعا.
(2) لا يجوز للزوج أن يسيء استعمال الحق بمنع الزوجة من العمل أو مطالبتها بتركه إذا كان بقصد الإضرار أو ترتب على ذلك مفسدة وضرر يربو على المصلحة المرتجاة.
(3) ينطبق هذا على الزوجة إذا قصدت من البقاء في عملها الإضرار بالزوج أو الأسرة أو ترتب على عملها ضرر يربو على المصلحة المرتجاة منه.
توصيات:(3/124)
• يوصي المجمع بإجراء دراسات اجتماعية واقتصادية وطبية لآثار عمل الزوجة خارج البيت على الأسرة وعلى الزوجة نفسها لما لهذه الدراسات من أثر في تجلية حقائق الموضوع، وتكون عينات الدراسة من مجتمعات مختلفة.
• يؤكد المجمع على وجوب غرس مفهوم التكامل بين الزوجين وحرص الإسلام على أن تكون العلاقة بينهما قائمة على المودة والرحمة.
• يوصي المجمع بعقد ندوة متخصصة تتناول شؤون المرأة المسلمة بعامة، ودورها في تنمية المجتمع الإسلامي بخاصة، بما يواكب مسيرة التطور الحضاري، وفق المعايير الشرعية، ليصار إلى اعتماد قرارات المجمع وتوصياته، لدى جميع الحكومات والهيئات الإسلامية أمام المؤتمرات الدولية بشأن المرأة والسكان
=================00
مآسى جحود الأبناء على أسِّرة المستشفيات
بروا أباءكم تبركم أبناؤكم
تتراقص الفرحة فى عينى كل أم حينما تعرف أن فى أحشائها جنينًا.. وتكبر الفرحة مع أول ابتسامة وأول صرخة لفلذة الكبد.. تتفانى الأم وتبذل عمرها وراحتها لأجله أو لأجلها، وتمر السنون ليحين وقت حصاد الغرس.. ترى ماذا تحصد أمهاتنا؟.. وماذا يجنى آباؤنا من سعى العمر الطويل ومعاناة السنين؟.. تجولت فى بعض المستشفيات، وصدمتنى الإجابة!
رأسها الأشيب محاط بالضمادات.. آهاتها تكسر القلب، والحزن يسكن عينيها.. هى أم سقطت فى حمام منزلها، وهى تعيش وحدها بعد زواج أبنائها، وظلت يومًا كاملاً تئن وتنزف إلى أن تذكرها ابنها وذهب لزيارتها، ونقلها إلى المستشفى وانصرف مرتاح الضمير، لتكمل هى مأساة وحدتها!
كل واحد فى بيته
على السرير المجاور لمحتها.. ساقاها مفرودتان والجبس يخفى ضعفهما، سألتها عن حالها فابتسمت بحزن وقالت: كما ترين.. ساقاى اللتان كانتا لا تتعبان انكسرتا.. ولولا أن الجيران سمعوا آهاتى بعد أن انزلقت قدماى ونقلونى بفضل الله إلى المستشفى لظللت وحدى حتى الموت قرأت فى عينى السؤال، فقالت بأسى: أولادى.. كل واحد فى بيته مشغول بحاله، يا بنتى الحافظ هو الله.. وربنا يكفيك شر المرض!
أما تلك العجوز؛ فقد جعلنى منظرها أكاد أجرى فى الشوارع وأصرخ منادية أبناءها ليغيثوا أمهم بعد عمر العطاء الطويل، كانت نائمة بلا حول ولا قوة - لا تدرى بشيء حولها بعد أن أصابتها الغيبوبة، بينما يتسلل إليها محلول التغذية قطرة قطرة، ولكنه لا يبلل شفتيها الجافتين.
أشارت إليها الممرضة بحزن وقالت: القلوب صارت مثل الحجارة، فقد أحضرت لنا إحدى دور المسنين هذه السيدة بعد أن تركها أبناؤها فيها وتوقفوا عن زيارتها، وحتى بعد مرضها لا أحد يسأل عنها، مسكينة، والجحود أصعب من المرض.
أما هذا الشيخ.. فقد حزم أمره واتخذ قراره وذهب على قدميه إلى المستشفى بعد أن أصابه السرطان وانفض من حوله أبناؤه، فقرر أن يغادر منزله لكيلا يموت وحيدًا، حكايته قالتها لى الممرضة وهى تشير إلى مكانه، وتقول: وتحققت أمنيته ومات هنا، وشيعناه بدموعنا.
وعلى سرير آخر كانت ترقد مكومة.. دقيقة الحجم ، بينما يمر عليها الأطباء ويداعبونها دون أن يعطوها أى دواء..
سألت أحدهم، فقال: إن عندها حزمة أمراض والعلاج غير مفيد، ولا يفيدها إلا الوجود وسط أسرتها وأبنائها، ولكن للأسف.. تركها ابنها هنا منذ أسابيع، ولم يعد يسأل عنها، وليس أمامنا إلا أن نلحقها بدار مسنين بعد أن تتحسن حالتها.
نقطة ضوء
ووسط قتامة تلك الصورة.. كانت هناك بعض نقاط الضوء، فقد أحاط مجموعة من الرجال والسيدات بامرأة عجوز.. يطعمونها ويجففون عرقها، ويعدلون وسادتها، وعرفت أنهم أبناؤها الذين لا يفارقونها ويتناوبون عليها ليل نهار.
وفى الوقت نفسه - حكى لى طبيب قصة مؤثرة عن زميله الذى رفض أن يتزوج ليرعى أمه الأرملة دون أن تشاركه فيها زوجة - فقد تزوج كل إخوته وأخواته، وتفرغ هو لأمه، وفى فترة غيابه عنها كان يوفر لها من يقم على خدمتها من الممرضات اللاتى يعملن فى المستشفى، ويبذل فى سبيل ذلك أموالاً طائلة.. ومن شدة حبه لأمه كان يجلس أمامها على ركبتيه يضاحكها، وكان يمشط شعرها بنفسه برفق حتى لا تتألم، وظل هكذا حتى توفيت أمه، وخلت حياته منها، فلم يتحمل فراقها ولحق بها بعد شهرين، وكان عمره وقتها (60) عامًا!
خلل تربوى
يفسر لنا الدكتور على السيد - أستاذ أصول التربية بكلية التربية النوعية جامعة القاهرة - ظاهرة جحود الأبناء بالفجوة التى أحدثتها التطورات المعاصرة فى شتى مجالات الحياة بين جيل وجيل، بالإضافة إلى خلل التربية فى نطاق الأسرة، وتدليل الأبناء مما ينشئهم غير متحملين للمسئولية، فضلاً عن نقص الوعى الدينى لدى الأبناء، وضيق ذات اليد .
ديموقراطية التربية
ويفسر د. على دور التربية أكثر فى جحود الأبناء، مؤكدًا أن هناك ثلاثة أنماط من التربية الأسرية هى: النمط التشاوري ، وهو الذى يشرك فيه الآباء الأبناء فى معظم الأمور الخاصة بالأسرة، وبالتالى يقلل من حدوث المشكلات وسوء التفاهم بينهم.(3/125)
والنمط الثانى هو: النمط الديكتاتورى، وفى هذا النمط يكون ولى الأمر، سواءً كان الأب أو الأم متسلطًا وحاكمًا بأمره، ومن الممكن أن يُحدث ذلك شرخًا قويًا فى شخصيات الأبناء، ويتولد عنه الكبت والإحباط وعدم الانتماء إلى الأبوين.
أما النمط الثالث فهو نمط اللامبالاة، وهو الذى لا يعرف متى يخرج الأبناء ومتى يعودون، ليس لديه القدرة على حل المشكلات أو تحمل المسئولية، وبالتالى لا يشعر أبناؤه بالدفء العاطفى داخل الأسرة، مما قد ينتج عنه إهمال الأبناء فى معاملة آبائهم ردًا لكيل بكيل.
=================000
ذوو الاحتياجات الخاصة طاقات متى نستغلها ؟
وقفة إنصاف!
هذا هو الشعار الذى ترفعه نخبة من مفكرينا الذين ساءهم ما يتعرض له المبتلون فى مجتمعاتنا من ظلم وإساءة فهم، ومعاملة، فهم مهمشون اجتماعيًا، مشوهو الصورة إعلاميًا، يتم التعامل معهم بمرجعيات بعيدة عن الموقف الإسلامى الجميل من هذه الفئة التى لم يخل منها المجتمع الإسلامى الأول، الذى قدم أروع صور احترام وتقدير أصحاب الابتلاءات.
شهادة هؤلاء المفكرين نقدمها لتكون دعوة لإعادة النظر فى مواقفنا الأسرية، والاجتماعية، والإعلامية من ذوى الاحتياجات الخاصة.
عتاب الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) فيهم
د. عبد المقصود باشا - أستاذ التاريخ الإسلامى بجامعة الأزهر، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية: إذا طالعنا التاريخ الإسلامى وجدنا أمثلة ونماذج كثيرة تحض على التعامل الخاص والسوى مع ذوى الاحتياجات الخاصة، بل إن الله جل فى علاه أمر بذلك، وحض عليه، بل ووجه إلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) عتابًا حتى يلقى مثل هؤلاء الناس العناية كلها من المجتمع.
وكلنا يعرف سبب نزول سورة (عبس)، والتوجيه لنا جميعًا بقوله: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى}، فقد عوتب خير البشر لتوليه عن شخص «أعمى» لا يراه، ولكن الله (سبحانه وتعالى) يريد أن يربى خلقه على توقير هؤلاء وتقديرهم، والاهتمام بهم.
ويضيف د. عبد المقصود أن مفهوم ذوى الاحتياجات الخاصة فى الإسلام لا يقتصر على المبتلين أو المعاقين، فالمسنون وفاقدو العائل لهم احتياجات خاصة أيضًا، اعتنى بها الإسلام.
فهذا عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) يقابل عجوزًا يهوديًا يتكئ على عصاه، يتسول فى الطرقات، فيسأله عمر: ما ألجأك إلى هذا؟ فيقول العجوز اليهودى: الحاجة، فيأخذه بيده، يكاد أن يحمله، ثم يذهب به إلى خازن بيت المال، فيقول له عمر (رضى الله عنه): أيها الخازن انظر إلى هذا وأقرانه، فليكن لهم نصيب شهرى من بيت مال المسلمين، فلا يضطرون بعدها إلى ذل المسألة.
فتأمل أيها القارئ الكريم قول الله (عز وجل) تجاه الأعمى، وتصرف عمر بن الخطاب تجاه اليهودى الطاعن فى السن، أبعد هذا يمكن أن تكون هناك حضارة اهتمت بهذه النوعيات من البشر قدر اهتمام الحضارة الإسلامية فى عصورها الزاهرة؟
فقد قال ابن بطوطة - صاحب الرحلات العظيمة - التى جاب فيها أقطار الدنيا فى عصره أنه رأى أثناء رحلته إلى الأندلس دارًا واسعة الأرجاء، فيها المتنزهات والمستشفيات والمطابخ، فلما سأل لمن هذه الدور الكثيرة ذات الأسوار الضخمة والمطابخ العديدة، والمشافى المتخصصة، فقيل له: إنها للمطلقات والعوانس الذين قعدت بهن ظروف الحياة.
وكانت هذه الدور تسع ألف مطلقة وعانس، تؤمن فيها حياتهن من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن، وعلاج.
ولم يكن مثل هذه الدور فى كل بلاد أوروبا فى ذلك الوقت، ولا شك أن المطلقات والعوانس أيضًا ذوات احتياجات خاصة.
الصورة الحسنة
د. شعيب الغباشى - أستاذ الصحافة الإسلامية بجامعة الأزهر: إذا قيمنا دور وسائل الإعلام فى خدمة المعوقين نجدها تركز على فئات مجتمعية معينة، وتغفل وتتغافل، وتهمش فئات أخرى، وهذا لون من الضعف وقلة التوازن فى تناول هذه الوسائل، ومن هذه الطوائف المهمشة فئات ذوى الاحتياجات الخاصة، فلا نكاد نراهم فى وسائل الإعلام.
وإن حدث فإنهم يظهرون بصورة مشوهة وسلبية تقزز المشاهد، وتدفعه إلى عدم الاكتراث بهم، ومثال ذلك ما تم عرضه فى فيلم يقدم قصة رجل كفيف غير مستقيم الأخلاق، وغير منضبط التصرفات، ويمارس الفاحشة، ويقترف ما يتناقض مع ما يتوهم البعض أنه عليه من دين أو علم شرعى.
ويقع على عاتق وسائل الإعلام إبراز الواقع الذى يعيشه هؤلاء المبتلون بصورته الحقيقية من غير تزييف، أو محاباة.
وعلى الجانب الآخر هؤلاء لهم احتياجات إعلامية وفنية وتربوية، على وسائل الإعلام أن تلبيها لهم، وأن تحققها، بمعنى أن تقدم أعمالاً خاصة بهم ولهم مترجمة بلغة الإشارة للصم والبكم، وتهتم بالمؤثرات الصوتية للمكفوفين، ويجب تعميم خدمة الترجمة هذه فى كل المسلسلات والبرامج، حتى تحقق هدف التواصل مع هذه الشريحة المهمة فى المجتمع والمهمشة فى الحياة.
عباقرة ومبدعون(3/126)
د. محمود حماد - أستاذ الإذاعة والتليفزيون بقسم الصحافة والإعلام جامعة الأزهر: إذا اعتبرنا أن الأطفال المبتلين مشكلة، فينبغى أن تولى الدولة عنايتها بدراسة هذه المشكلة، وتقديم الحلول التى تساعد أسر هؤلاء الأطفال على التعامل معهم، فتقيم المراكز التأهيلية والترفيهية والتربوية التى تأمن فيها الأسر على أبنائها، وتقدم فيها خدمة حقيقية، بحيث لا يقتصر الأمر على الرعاية أو الاهتمام فقط من ناحية الأكل والشرب، وإنما ينبغى أن تمتد الرعاية إلى الناحية الطبية والنفسية والإعداد والتدريب، حتى تنمو القدرات الخاصة عند هؤلاء الأطفال، بحيث يتعلمون مهارات وخبرات تمكنهم من إعالة أنفسهم، أو الاعتماد على المجتمع فى أدنى الحدود، وبالتالى يجب على كل أجهزة الإعلام فى الدولة أن تقدم الصورة الإيجابية لهؤلاء، باعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من كيان المجتمع، وليسوا مجرد تمائم أو شيوخًا طيبين نلتمس منهم البركة، فهؤلاء الناس يمكن أن يكونوا عباقرة ومبدعين، وقد حدث ذلك بالفعل؛ إذ قامت إحدى عالمات النفس الاجتماعى حول احتياجات المعاقون، وكيفية تنمية المهارات عندهم، وتمكنت بالفعل من إخراج مبدعين فى مجالات عديدة من خلال بعض النماذج التى انتقتها، وأعدت لها برامج تدريب ورعاية وتأهيل جيدة.
عدم الخجل
د. سعيدة أبو سوسوا - أستاذ الصحة النفسية بكلية الدراسات الإنسانية جامعة الأزهر: بدأت وسائل الإعلام تهتم فى هذه الأيام بذوى الاحتياجات الخاصة أكثر من السنوات الماضية، والدور الذى يقع على عاتقها من وجهة نظرى هو دور التوعية المستنيرة التى تعتمد على النظرية والتطبيق.
وتبدأ هذه التوعية داخل الأسرة بدءًا بالأم وتدريبها على كيفية التعامل السوى مع ابنها المعوق، وألا تحرج منه، فبعض الناس قد يخجلون من ابنهم المعوق لنقص فى أنفسهم، ولجهل فى دينهم، ولهؤلاء أقول: لا تخجلوا من أطفالكم المعوقين، وكونوا لهم سندًا فى هذه الحياة، فهم نعمة عظيمة لمن صبر عليها، وأحسن استخدامها، والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه»، فهذا فضل تشاركون فيه الأنبياء، وأولى الصبر من الناس.
وأقول لأم المعوق: لا تفرقى فى المعاملة بين طفلك المعوق وبين إخوته العاديين بدعوى أنه لا يفهم، فمن الواجب عليك أن تحيطيه بمزيد من العطف والحنان والرعاية، خصوصًا إذا كان مبتلى ذهنيًا، وليس الرعاية حكرًا على الأم وحدها، بل واجبة على الأسرة كلها من الأب والأبناء والأهل والأقارب، فهؤلاء عليهم جميعًا مساعدة الأم فى ذلك؛ لأن الطفل المبتلى يحتاج إلى رعاية خاصة، وخدمات أكثر من الفرد العادى.
وتضيف د. سعيدة: إننى أعيب على بعض الآباء ضجرهم بأولادهم المعوقين مع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال فى حديثه الشريف: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راع فى بيته ومسؤول عن رعيته»، وهذا الضجر خطأ كبير، وقسوة غير مقبول، فهؤلاء يتسمون بقدرات عقلية محدودة لا تتفق مع أعمارهم.
ومع الأسف الشديد نحن نرى فى مجتمعاتنا أناسًا قد نزعت الرحمة والشفقة من قلوبهم، وربما يكونون من أهل هؤلاء الأطفال، ويستغلون المعوقين استغلالاً سيئًا بحثًا عن التربح المشبوه من خلال التسول.
وعلى الأسر المسلمة التى أصيبت بنوع من هذا البلاء أن توجه اهتماماتها نحو تنمية قدرات هؤلاء الأطفال، ودفعهم نحو التعلم، وحتى لا يقعوا فى براثن الجهل والأمية اللذين يزيدان الأمر سوءًا، وليبتغوا من وراء ذلك الأجر والثواب من الله الكريم، وأذكرهم بقول الله (عز وجل) فى حديثه القدسى الجليل على لسان حبيبه محمد (صلى الله عليه وسلم):« إذا ابتليت عبدى ببلاء فى جسمه أو ماله أو أهله، واستقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم القيامة من أن أنصب له ميزانًا أو أرفع له ديوانًا وأدخله الجنة بغير حساب».
سياسة الدمج
د. أمينة كاظم - أستاذة علم النفس بجامعة عين شمس: على المجتمع أن يتقبل هؤلاء الأفراد بصدر رحب، وأن يتبنى سياسة الدمج بينهم وبين غيرهم من الأفراد العاديين، خصوصًا فى المدارس والنوادى والمحافل الترفيهية، مع العمل على رفع كفاءتهم المهارية عن طريق متخصصين مهرة، خاصة فى السن المبكرة فى الحضانة، وفى مراحل التعليم المختلفة ليكونوا فيما بعد أعضاء فعالين فى المجتمع ومتكيفين مع واقعهم المقدر والمحتوم، وقد رأينا الكثيرين منهم قد تحدوا الإعاقة، وهبوا يشاركون فى الأنشطة المختلفة خاصة الرياضية منها، والتى قد يعجز عنها إنسان عادى فنراهم فى مباريات السباحة وغيرها، وقد تفوقوا على غيرهم.
ونشاهد أيضًا الكثير من إنجازاتهم المحلية والعالمية فى كافة مجالات الحياة، وما ذلك كله إلا لأنهم تحدوا إعاقتهم، وتمكنوا من إرادتهم حتى قويت فيهم.
تنمية الجوانب الإيجابية(3/127)
د. رفعت عبد الباسط - أستاذ علم الاجتماع بكلية التربية جامعة حلوان: هم فئة من فئات المجتمع يجب الاهتمام بهم، والوقوف بجانبهم، وتقديم الرعاية الكاملة لهم من الدولة والمجتمع، بحيث يكون لهم دور إيجابى، ويجب توعية الناس بأصول التعامل معهم، وإنشاء مؤسسات تنظم دورات تدريبية لهم، وللتعرف على خصائصهم النفسية، والأخطاء التى قد يرتكبها الآخرون فى التعامل معهم، والحمد لله يوجد الآن الكثير من هذه المؤسسات.
ولابد أن نركز على الجوانب الإيجابية فيهم، حتى يصل إليهم أن كل إنسان فيه نقص وقصور، والكمال لله وحده ، فبعض الناس يميل إلى التعلم، والبعض الآخر يعرض عنه، وبعضهم يخاف، والبعض الآخر شجاع وهكذا.
فما من إنسان على وجه البسيطة إلا وفيه جوانب نقص تجبرها جوانب تميز أخرى.
000000000000
مهما عانيت فى الدنيا.. لا تيأس !!
صفا شاكر
1ضغوط الحياة ومشكلاتها لا تنتهى، فالدنيا ليست دار قرار، بل هى دار ابتلاء واختبار، وحين نواجه هذه المشكلات بثقة فى الله تمر بسلام، إلا أن هناك من آثر الهروب من مشكلاته بعد أن سقط فى هوة اليأس والقنوط فكان الانتحار قي نظره هو الحل الوحيد.
وهذا التحقيق محاولة للوقوف على أسباب الانتحار ودوافع المنتحرين، وكيف نقى أبناءنا وشبابنا من الوقوع فى اليأس والقنوط.
أنقذنى الله
بداية تقول (فوزية) 36 سنة: سافرت منذ خمس سنوات للعمل كمدرسة بإحدى الدول العربية، وكنت أرسل الأموال إلى زوجى أولاً بأول ليقوم بتجديد المنزل، والإنفاق على الأولاد.
وبعد أن قررت الرجوع إلى القاهرة والاستقرار مع أسرتى، فوجئت بأن كالون الشقة تم تغييره، وفتحت لى سيدة أخبرتنى بأنها الزوجة الجديدة، شعرت بعدها أن الحياة لم يعد لها قيمة، فقررت الخلاص منها لولا أن أنقذى الله من هذا التفكير فى الوقت المناسب.
أما منى 20 سنة فتقول: رفضت أسرتى الارتباط بالشاب الذى أحبه؛ حيث وقفت الظروف المادية حائلاً دون إتمام الزواج، فاسودت الدنيا فى وجهى، وقررت الانتحار، ولكن الأزمة مرت بسلام، وشعرت برحمة الله بعد أن نجانى من مصير أسود.
أما س. أ تقول: أنا فتاة أبلغ العشرين من عمرى حاولت الانتحار مرتين، فأنا لا أشعر بالرضى عن نفسى، وأعانى من الكبت وقلة الثقة بالنفس والآخرين، والخجل المفرط الذى يجعلنى أخشى أن أرفع سماعة الهاتف للرد على أى شخص، وأية مشكلة تحدث لى تجعلنى أفكر فى الانتحار، وأن الحياة قد انتهت، ولكنى أعلم أن الانتحار حرام، وأخشى عقاب الله، ولا أعرف ماذا أفعل.
تقول إحسان - طالبة بالصف الأول الثانوى - طلب منى والدى أن أقطع صلتى ببعض زميلاتى بعد أن لاحظ سلوكهن السيئ، ولكنى لم أقطع علاقتى بهن، وعندما علم والدى ثار وضربنى، فشعرت بالإهانة، وفكرت فى إنهاء حياتى، وبالفعل حاولت الانتحار، ولكنى أشعر بالندم فلم يكن الأمر يستدعى كل هذا، فأبى يخاف عليّ ولذلك ضربنى.
تقول هبة - طالبة جامعية - تعرفت على شاب فى أحد الأندية الرياضة، وأخبرنى أنه يعمل فى ألمانيا، وسيسافر لإنهاء بعض الأعمال ويعود ليتزوجنى، لكنى فوجئت به فى أحد الأيام بصالة بلياردو بصحبة فتاة، واكتشفت كذبه وخداعه لى، ولذلك أن لا أريد أن أعيش.
وتكشف د. نشوى مهدى - المدرسة بالمركز القومى للسموم - رقمًا مفزعًا فتقول: استقبل المركز خلال الأربعة أشهر الأول من افتتاحه 134 سيدة حاولن الانتحار بنسبة 35% من إجمالى ما يستقبله المركز من حالات تسمم عامة، وبالنسبة للرجال فقد تم استقبال 81 حالة، وحتى الآن فإن حالات السيدات التى تدخل المركز بسبب محاولات الانتحار أكثر بكثير من الرجال.
وتضيف د. نشوى: أكثر هذه الحالات نستقبلها أكثر من مرة؛ لأنها تكرر المحاولة مرات عديدة، فسبب المشكلة الأساسى لم يحل، والمركز وظيفته العلاج الطبى، وليس النفسى، فتخرج الحالة، وهى تعانى ذات الإحباطات، ورغم أننا ننصح الأهل بأن يتوجهوا بالمريض إلى طبيب نفسى، فإن البعض لا يستجيب وتكون النتيجة دخول هذا الشخص المركز مرة أخرى بمحاولة جديدة إلى أن تنجح إحدى هذه المحاولات.
الموت مثل الحياة
ويفسر الدكتور محمود عبد الرحمن حمودة - أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر، والحائز على جائزة الدولة فى الطب النفسى - ارتفاع نسبة محاولات الانتحار لدى السيدات قائلاً: إذا كانت السيدات أكثر فى محاولات الانتحار، إلا أن الرجال أكثر انتحارًا مقارنة بالسيدات بنسبة 3:1؛ لأن الوسائل التى ينفذ الرجال بها الانتحار عنيفة مقارنة بالوسائل التى يحاول بها السيدات الانتحار.(3/128)
ويضيف: إذا كان الاضطراب النفسى الذى يوصل المريض لليأس وفقد الحيلة سببًا رئيسًا للانتحار، فإن هناك عوامل مصاحبة ومؤثرة فى حالات المنتحرين، فقد يكون سوء الحالة الصحية الجسمانية، ومعاناة الشخص من العديد من الأمراض الميئوس من شفائها، وكذلك الشعور بالوحدة من عوامل الانتحار، واعتقاد الشخص بأن الموت لا يختلف عن الحياة، فكلاهما وحدة وعزلة، وقد يكون ما يعانيه كبار السن من أمراض صحية ووحدة واكتئاب عاملاً مؤثرًا فى انتحار بعضهم.
كبت وتدليل
ويُحمِّل الدكتور حمدى ياسين - أستاذ الصحة النفسية، ورئيس قسم علم النفس بجامعة عين شمس - الآباء مسئولية انتحار الشباب قائلاً: يخطئ الآباء كثيرًا حين يغرسون فى أذهان أبنائهم قناعات ذهنية بأن الحياة خالية من المشاكل، وأنها مشرقة دائمًا، ولا معنى للبكاء ولا للفشل فيها، فكل ما يطلبونه مجاب، ولا يوجد مستحيل، هذا التدليل الزائد لهم يخلق جيلاً من الشباب غير قادر على مواجهة الصدمات والمشكلات، ومع أصغر مشكلة تواجههم تتحطم الصورة الذهنية التى رسمها الآباء لأبنائهم، فيفقدون معنى الحياة، ويكون الموت فى ظنهم هو الخيار الوحيد.
كما أن الكبت الزائد، ومحاولة التحكم فى مصائر الأبناء يؤدى إلى ذات النتيجة؛ حيث يصير الشاب بلا هدف، وكل المطلوب منه تحقيق أهداف والديه، مهما كانت لا تتفق مع قدراته، فتطمس شخصية الابن وتضطرب حالته الوجدانية، ومن هنا تظهر الاضطرابات النفسية.
ويضيف د. حمدى أن على الآباء أن يوفروا الدعم الأسرى لأبنائهم من خلال توجيههم إلى أن الحياة كما أن فيها نجاحًا، هناك أيضًا فشل، وأنهم لابد وأن يصعدوا السلم درجة بدرجة، وعليهم أن يبثوا الأمل فى أولادهم، وأن يتركوهم يعبرون عن أنفسهم، ولكن بعد تحميلهم المسئولية وإشعارهم بأنهم لابد أن تكون طموحاتهم مكافئة لمستوى قدراتهم حتى يتسنى لهم تحقيقها.
كما يؤكد أهمية المثل الأعلى، ويرى أن الإعلام بما يقدمه من نماذج حققت نجاحات مادية وشهرة تجعل الشباب أمام طموحهم الجارف، وعدم تقديرهم الحقيقى لإمكاناتهم يتصورون أن هذه النماذج هى المثل الأعلى الذى يجب تقليده، والسير على نهجه، وحين يفشل الشاب لا يرى سوى الموت حلاً لمشكلاته.
يأس من روح الله
يقول الدكتور عبد الصبور شاهين - الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة: الانتحار يأس من روح الله ورحمته، والحق تبارك وتعالى يقول على لسان نبيه يعقوب (عليه السلام): {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، فمهما كانت المشكلات التى تواجهنى عليّ أن أفزع إلى رحمة الله، وأعالج المشكلة بدلاً من الهروب منها، فالهروب جبن وضعف، والرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يقول: «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».
ومن ثَمَّ لابد أن نجعل حياتنا فى يد الله لا فى يد الشيطان، ونتخلق بالصبر والرضا بقضاء الله، فهما يحميان الفرد من الوقوع فى حفرة اليأس.
{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}، فالدنيا دار ابتلاء، وليست دار قرار، فعلينا أن نتزود منها بما يُصلح أمر أخرانا، لا أن نجعلها سببًا فى عذابنا بنار جهنم.
ويوصى كل مسلم بالإكثار من قول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» ، و الاستغفار فالنبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب»، فالله سبحانه قادر على تفريج الكربات مهما اشتدت.
وأختم كلامى بقوله (صلى الله عليه وسلم): «ما أصاب مسلمًا قط هم أو حزن فقال: اللهم إنى عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتى بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته فى كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به فى علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبى، ونور صدرى، وجلاء حزنى، وذهاب همى، إلا أذهب الله همه، وأبدله مكان حزنه فرحًا»
=================
الرحلات العائلية متعة الأبدان وحفظ الإيمان
1ما إن تطل العطلة الصيفية برأسها حتى تلقي بظلالها على جدول أعمال العائلات، فالأبناء وقد انتهوا من عام دراسي طويل ينتظرون المكافأة من أبيهم الذي يتمنى أن يجد بدوره في الأجازة ما يجدد نشاطه ويزيح عنه عناء عام طويل من العمل المتواصل ، أما الأم فهي الجندي المجهول وصاحبة العطاء الأكبر ومن ثم لا تقل توقعاتها عن توقعات الأبناء والزوج.
وبين الأماني والأمنيات تأتي الرحلات العائلية كبيت القصيد، إذ يكاد يكون هناك إجماع على أن تلك الرحلات هي الجائزة التي ينتظرها الجميع، قد تختلف وجهات تلك الرحلات وأهدافها ولكن كل يبحث فيها عن مبتغاه.
الرحلة العائلية الناجحة هي تلك التي تبدأ قبل أن تبدأ، أي تلك التي تخطط لها العائلة وتتفق على جدولها ووجهتها وتستهدف منها تحقيق أهداف تربوية وترفيهية وثقافية.(3/129)
أما الرحلات العائلية العشوائية فهي تربك الأسرة اجتماعيًا وماليًا دون أن تحقق فائدة، ولذلك من الأهمية بمكان أن يجتمع أفراد الأسرة ويحددوا مدة الرحلة ووجهتها وبرنامجها وتوزيع الأدوار خلالها، وبذلك تتحول الرحلة إلى نوع من التدريب على تحمّل المسئولية والشورى العملية في الأسرة دون أن تفقد طابعها الترويحي.
غياب التخطيط للرحلة العائلية يحولها إلى موضوع خلاف بين أفراد الأسرة ابتداء من مدتها ومرورًا بوجهتها وانتهاء ببرنامجها، كثير من الأسر تشهد خلافًا بين الزوج وزوجته أو بينهما أو أحدهما وبين الأولاد حول هذا الموضوع فتتحول الرحلة العائلية من موضوع للتآلف والتواصل بين أفراد الأسرة إلى سبب للخلافات، وربما يقلل من الخلاف حول هذا الموضوع الاتفاق على مبادئ عامة حول الرحلة العائلية كتحديد بلدان لا ينبغي أن تكون مقصدًا للرحلة لأسباب شرعية، وتحديد سقف زمني لها لا تتجاوزه، وكذلك سقف مادي للإنفاق حتى لا تتحول الرحلة إلى أحد أسباب استنزاف ميزانية الأسرة، وتحديد بلد أو مكان جديد للرحلة كل عام.
أكثر من مجرد ترفيه:
أضحت الرحلات العائلية جزءًا من الحياة الاجتماعية لملايين الأسر، ولذلك ينبغي توظيفها فيما يتجاوز الترفيه إلى أهداف تربوية وتثقيفية، فالرحلة يمكن أن تكون نوعًا من التعليم الذاتي بزيارة الأماكن التاريخية ومعرفة ثقافات الشعوب وأساليب عيشها، بل إن اشتراك أفراد الأسرة في رحلة واحدة من شأنه أن يقوي العلاقات بينهم، فالوالد الذي يراه أبناؤه طوال العام مشغولاً في عمله سيقضي طوال أيام الرحلة مع أبنائه .
وفي الرحلة يمكن أن يتواصل أبناء العائلات الممتدة فيجتمع الأبناء وزوجاتهم وأبناؤهم مع والديهم، بل إن الرحلات العائلية فرصة لا تعوض لتحرير الأبناء من الإنترنت والتلفاز، فيتقارب الآباء والأبناء أكثر، ويمكن أن تكون الرحلة مناسبة جيدة لتعويد الأبناء الصغار على تحمل المسئولية، وذلك بتكليفهم ببعض الأعمال وتنمية مداركهم وتوسيع خبراتهم، ولفت انتباههم إلى عظمة الله وقدرته عند زيارة الأماكن الغريبة، وعند زيارة المنتزهات والحدائق العامة يجب إلزامهم بتحري النظام والنظافة والسلوك المهذب، وعند زيارة بعض البلدان الفقيرة يمكن اصطحاب الأبناء إلى المناطق الفقيرة ولفت انتباههم إلى المقارنة بين حالهم وحال سكان هذه المناطق ليستحضروا نعمة الله عليهم ويتعلموا القناعة والرضا.
ضرورة أم إسراف:
(أم غيداء) تعتبر الرحلة العائلية في بعض الأحيان ضرورة لأفراد الأسرة، وفي أحيان أخرى تعد إسرافًا وهدرًا للوقت والمال والغفلة عن فرائض الله؛ فالرحلة يمكن أن تبرز روح التعاون بين أفراد الأسرة بتبادل الأدوار والمهام فيما بينهم، ويمكن أن تكون مصدر تثقيف بزيارة الأماكن الجميلة والمناظر الخلابة والمتاحف.
ولا تخلو الرحلة من الفائدة كمعرفة معلومات جديدة وانشراح صدر وتقارب بين الأفراد.
ولصداقة الآباء مع أبنائهم أثر في إبهاج الرحلة، إذ تقوى فيما بينهم أواصر المتعة مما يبدد روح الأنانية وحب الذات، فالسفر مع العائلة فرصة ليتواصل الآباء المشغولين مع أبنائهم ويكشفوا دواخلهم ليتحسسوا همومهم وأوجاعهم.
(خالد الخليوي) ينتقد بعض الآباء خلال الرحلات العائلية؛ فالواحد منهم لا يعرف أهله إلا في الذهاب والإياب ويعطيهم الحرية التامة لقضاء الوقت ليهرب إلى مآربه الخاصة، والرحلات العائلية ليست أمرًا ضروريًا ولا هي مجرد ترف، ولكنها من البرامج المهمة في إنجاح الحياة العائلية وإدخال السرور والفرح على القلوب والأرواح، ومن ثم تجديد الحياة والنشاط لتلك الأسرة، لذا ينبغي للجميع المشاركة في اقتراح الرحلة وتحديد وجهتها وبرنامجها.
التخطيط الجيد
ويبدأ تخطيط الرحلة بأن يعلن أحد أعمدة البيت (الأب أو الأم مثلاً) فكرة هذا المشروع الاجتماعي الترويحي، وكذلك يعلن للجميع من صغار وكبار ذكور وإناث استقبال اقتراحاتهم من حيث جهة السفر وموعدها ومدتها ومعرفة الخطوط العريضة لبرنامج الرحلة.
وبعد جمع هذه الاقتراحات تأتي المناقشة الخاصة بين الأم والأب لتحديد ما وقع عليه الاختيار مراعين في ذلك ظروف العائلة (الدراسية، المادية، الاجتماعية...).
وتكون الرحلة مصدر تثقيف وتوعية من خلال مجموعة نقاط:
- إجراء المسابقات المتنوعة التي يفترض أن تكون قد أعدت من قبل.
- تحضير بعض الخواطر العلمية المتنوعة والمختصرة التي يمكن أن تقرأ بين الحين والآخر وخاصة بعد الصلوات.
- أن يُظهر الأبوان بعض الآداب والقيم التي يكون عليها المسلم أثناء سفره (كترك المكان نظيفًا والحفاظ على ممتلكات الآخرين).(3/130)
أما من ناحية إبراز روح التعاون بين أفراد الأسرة فهذا يختلف باختلاف أفراد العائلة، فالسفر امتحان لما تعلموه في الحضر، فمن كانوا كسالى في بيوتهم اتكاليين في قضاء حوائجهم يرمون بكل شيء على الأب أو على أحد الأولاد، فهؤلاء لا شك في إخفاق رحلتهم وفشلهم في تحقيق أهدافها؛ لأن من أعظم أسس النجاح سيادة روح التعاون والتنافس.
وحتى لا تتحول الرحلة العائلية إلى مجرد تسلية وترفيه يمكن للآباء والأمهات مراعاة الجوانب التالية:
· - مشاركة الأبناء في وضع برنامج للرحلة لتعويدهم على التخطيط المسبق .
- الحرص على الصلاة في أوقاتها مع الجماعة أثناء الرحلة لكي يتعلم الأبناء أن المتعة الحلال لا تعني إهمال الفروض الدينية.
- بعد إتمام الرحلة يجب إشراك الأبناء في تقييمها وتحديد الإيجابيات والسلبيات، فمن شأن ذلك أن يعلم الأبناء مفهوم تصحيح الأخطاء.
الرحلات العائلية ضرورة للترابط الأسري:
تذهب الدكتورة مريم راشد التميمي - الأستاذة المساعدة في قسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب للبنات بالدمام - إلى أن الرحلات العائلية تزيد من حجم الترابط العائلي وتقوي أواصره.. لاسيما مع هيمنة الطابع العملي على حياة الأسرة والانشغال بأعباء الدراسة والعمل..
وتقول: إن طبيعة الحياة العصرية وإيقاعاتها المشحونة بجو العمل باتت تحتم الاهتمام بتنظيم تلك الرحلات العائلية التي تزيد من تمتين الأواصر الأسرية وتغلفها بروح اجتماعية محببة إلى النفس.
وتنصح الدكتورة مريم التميمي بضرورة استثمار تلك الرحلات فيما يعين على التقرب من الله عز وجل واستغلال الفرصة المتاحة عبر تلك الرحلات في أداء عبادة عظمية هي عبادة التأمل، داعية الآباء والأمهات أن يعوا أهمية ربط الطفل بما يشاهده في الكون الفسيح وفضاءاته الواسعة بالإيمان بالله عز وجل عبر التأمل في ملكوت الله والشعور بعظمة الخالق، كما تحذر من اقتراف المحظورات والآثام عبر تلك الرحلات، وكذلك ارتياد المناطق والدول التي تشيع فيها المنكرات والمعاصي؛ لأن ذلك يضعف حصانة الفرد الداخلية ويسهل وقوعه في منزلقات الشرور والمعاصي.
ــــــــــــــــ
مجلة الأسرة عدد 157
=================0000
إفشاء الأسرار العدو الأول للحياة الزوجية
السعادة الزوجية حلم كل فتاة مخطوبة وهدف كل زوجة، وهي حلم وهدف يستحق أن نبذل فيه قصارى جهدنا، وحتى يؤتى هذا الجهد ثماره علينا أن نعي ما يحيط به من أخطاء وما يتهدده من أعداء، والكيس من اتعظ بغيره، فكم من بيوت غابت عنها السعادة رغم أن الزوجين بذلا وسعهما لتحقيقها لكنهما وقعا في أخطاء أذهبت جهودهما سدى.. لكي تحمي سعادتك احذري الأخطاء وتجنبي الأعداء.
و أحد أخطر هذه الأخطاء هو "إفشاء الأسرار"، فأسرار البيت أمانة يجب عليك المحافظة عليها وتفريطك بها يذهب ثقة زوجك بك، فاحذري أن تكون أسرار بيتك موضوعًا لثرثرتك أو فضفضتك؛ كما قد يخيل إليك، ولا تظني أن صديقتك ستحفظ سرك الذي ضاق به صدرك، صدق الشاعر حين قال:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيق
وفوق هذا وقبله فإن حفظك لسر بيتك مطلب شرعي تتعبدين لله به، خصوصًا علاقتك الخاصة بزوجك.. عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده فقال: لعل رجلاً يقول ما يفعله بأهله ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها" فأرم القوم - أي سكتوا ولم يجيبوا - فقالت: إي والله يا رسول الله إنهن ليفعلن وإنهم ليفعلون. قال: "فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقى شيطانة فغشيها والناس ينظرون".
ضرره أكثر من نفعه:
ويؤكد علماء النفس أن ترويح الزوجة عن نفسها بالفضفضة إلى صديقاتها ونشر أسرار بيتها غالبًا ما يصنع من القلق أكثر مما يجلب من الراحة، صحيح أن الراحة قد تكون آنية وعاجلة لكن القلق حتمًا سيظهر بعد أن تنتشر هذه الأسرار وتجني الزوجة الندم والخسران، فلا أحد من الرجال يستريح لإفشاء أسرار حياته الزوجية، وقديمًا حذرت أمامة بنت الحارث ابنتها في وصيتها المشهورة قبل زواجها فقالت: "... فإن أفشيت سره فلن تأمني غدره...".
الأسرار أنواع ودرجات:
أسرار البيت ليست على درجة واحدة من الأهمية، فهناك أسرار العلاقة الخاصة بين الزوجين وهذه يجب أن تحتفظ بها الزوجة في بئر عميق داخل نفسها - وكذلك الزوج - وقد مر علينا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من إفشاء هذه الأسرار.
وهناك الأسرار المتعلقة بالخلافات بين الزوجين، وهذه تقدر بقدرها، والزوجة العاقلة هي التي تحفظ هذه الأسرار ولا تنقل منها إلا ما يعالج المشكلة، ولكن ليس إلى صديقاتها أو قريباتها، بل إلى من تتوسم فيهم الحكمة ليحققوا النصيحة الإلهية: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}[النساء:35].(3/131)
ويجب ألا تبادر الزوجة إلى ذلك بمجرد حدوث المشكلة وألا تفعل ذلك مع كل صغيرة وكبيرة، فما أكثر المشكلات التي لا تحتاج إلى تدخل من أحد بل مجرد حنكة وصبر في الزوجة.
تقول إحدى الأمهات: تزوجت ابنتي منذ عشر سنوات، ما اشتكت إلي ولا إلى والدها من زوجها قط.. لم تخبرني أبدًا عن مشكلة إلا بعد حلها، غاية ما كانت تطلبه مني الدعاء حتى أنني كنت أعرف أنها تواجه مشكلة عندما تلح علي في طلب الدعاء.
وهناك الأسرار المتعلقة بخصوصيات البيت وهذه أيضًا لا يجوز نشرها حتى لا تصبح الأسرة كتابًا مكشوفًا أمام الآخرين.. قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}[التحريم:10] قال بعض المفسرين عن هذه الخيانة: إن امرأة نوح كانت تكشف سره فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، أما امرأة لوط فكانت إذا استضاف لوط أحدًا أخبرت أهل المدينة ممن يعملون السوء حتى يأتوا ويفعلوا بهم الفاحشة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن مجلة الأسرة العدد رقم 156
=================0000000
الخادمة الأجنبية قنبلة موقوتة في البيت
خطر الخادمة
خادمة تضع الطفل الصغير في الثلاجة عندما يبكي فتصيبه البرودة الشديدة ويتوقف عن البكاء، وأخرى تضع الدبابيس في رأس الطفل إذا صرخ فيسكت وينام لمدة طويلة، وعندما علمت أن مخدومها لا يريدها وسيعيدها إلى بلادها، وفي اللحظات الأخيرة وضعت طفله في الغسالة فمات وهربت، أما الثالثة فإنها تضع القاذورات في الأطعمة حتى تكف الأسرة عن مطالبتها بالطبخ، والكارثة في التي تضع الزجاج المطحون في الطعام انتقاما من مخدومتها.
و سيدة تكتشف أن خادمتها جلبت معها كتب السحر التي تحوي أدعية شركية لإلحاق الضرر بالأسرة.
ولم ينته الأمر عند هذا الحد بل إن واحدة تحمل سفاحا من شاب في الأسرة وتهدد بالفضيحة إن لم يدفعوا لها في الحال ما تريد، وزاد الطين بلة أن الطفل يقلد الخادمة في عباداتها الشركية، والمصيبة أنها تجلب الأفلام الجنسية وتشاهدها مع الأطفال الصغار.
وهكذا تتحول “الخادمة” في المنزل إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت والضحية الأولى هم الأطفال الصغار، وإن كانت الأخطار لا تقف عند هذا الحد بل تمتد إلى جميع أفراد الأسرة من شباب وشابات وأزواج وزوجات.
بداية تدق دراسة سعودية ناقوس الخطر وتشير إلى أن 59 في المائة من المربيات والخادمات يفضلن إقامة العلاقة العاطفية والجنسية قبل الزواج، و69 في المائة من الخادمات لا تزيد أعمارهن على العشرين، وجميعهن من أوساط يسودها الفقر والجهل والتخلف، وأن 75 في المائة منهن غير مسلمات ومعظمهن ينتمين إلى ديانات غير سماوية وان 5.97 في المائة من المربيات غير المسلمات يمارسن الطقوس العقائدية لهن أمام الأطفال.
وأرجعت الدراسة وجود الخدم في المجتمعات الخليجية إلى عدة أسباب منها، دخول المجتمع عصر الترف، واتساع وتعدد مجالات عمل رب الأسرة وخروج المرأة للعمل وتقصير بعض الأمهات في واجباتهن المنزلية، واتجاه الأزواج إلى إراحة الزوجات وكثرة أفراد الأسرة، وأخيرا التقليد وحب الظهور والتفاخر بكثرة الخدم.
وأكدت الدراسة أيضا أن هؤلاء الخدم يؤثرون سلبا في الأسرة والطفل لأن الصغير يبقى مع الخادمة مدة أطول من بقائه مع أمه، فيتكلم بأسلوبها الركيك ويستعمل الرموز بدلا من النطق ما يؤثر في حصيلته اللغوية، ومما يزيد الأمر خطورة أن الخدم ينقلون عاداتهم وتقاليدهم وثقافة مجتمعاتهم التي تغاير القيم والثقافة الإسلامية، فيؤثرون على الصغار في لغتهم ومعرفتهم ونفسياتهم ما أدى إلى تفشي المنكرات وضياع كثير من الأبناء والبنات بسبب سوء التربية وعدم المراقبة، فتنتشر العقائد الفاسدة والأفكار المنحرفة وتشيع الرذيلة والمفاهيم الخاطئة.
ثقافة وعادات مختلفة
ويؤكد الدكتور محمد النكلاوي أستاذ علم الاجتماع في جامعة القاهرة أن المربية الأجنبية تنقل الى الطفل العربي ثقافة معينة وتربية مختلفة، فهي تنتمي إلى قوم لا يعرفون “العيب” ولا يتمسكون بالعادات، كما أنها لا تعلم شيئا عن عاداتنا العربية والإسلامية التي يتربى الطفل فيها على أخلاق القرآن الذي يحمل كل مقومات تهذيب الأخلاق، فضلا عن أن هؤلاء المربيات والخادمات يضعفن اللغة ويؤثرن في ثقافة النشء، إضافة إلى إحداث عزلة بين الآباء والأمهات، وبذلك ينفصل الطفل عن الأسرة وينسلخ البيت العربي عن أصوله.(3/132)
ويحذر الدكتور النكلاوي من هذه الأخطار ويقول: يجب أن تكون لنا وقفة أمام هذا الخطأ الجسيم لأنه إذا تركنا لهذه المأساة أن تتفشى في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، فإننا بذلك نربي أجيالا يغترب لسانها وتفتقد معالم دينها وتتشبع في أحضان مربيات أجنبيات بالغريب من الطباع والتقاليد والبعد عن الدين، فإذا توافرت كل هذه السلبيات فماذا بقي لنا أن نحتفظ به لتربية أبنائنا اللهم إلا ضياع هذه الأجيال القادمة التي يجب أن تحمل رسالة الأمة من مسؤوليات دينية وسياسية وثقافية واجتماعية.
سلبيات بالجملة
وفي السياق نفسه يقول الدكتور محمد يوسف الشيخ الأستاذ في كلية التربية بجامعة الأزهر إن وجود المربية في البيت ليس له إيجابيات على وجه الإطلاق بل العكس تماما هو الصحيح، فسلبياتها كثيرة جدا من شتى النواحي، وأكثرها خطرا الخلل الكبير الذي تحدثه في تربية الطفل، فهي تنقل ثقافة البيئة التي نشأت فيها وتغرس ثقافة مجتمعها من عادات وتقاليد وأسلوب تفكير، والكارثة الكبرى إذا كانت من دين مختلف، فيتربى الطفل تلقائيا على مبادئ دين آخر، فالخادمة تجلس مع الطفل وتلاعبه وتتحدث معه أكثر مما تفعل أمه، وبالتالي يتأثر بها بسهولة لأن الطفل بطبيعته يقلد الكبار خاصة من يكونون ملاصقين له باستمرار فيقلدهم بطريقة عشوائية، لأنه لا يدرك الصواب من الخطأ، ومهما حاولت الأم أن تجعل المربية أو الخادمة تحت المراقبة فإنها ستفشل لأنه من غير المعقول أن تراقبها على مدار الساعة، ومن هنا فالأولى بالأم بدلا من تضييع الوقت في مراقبة الخادمة أن تستثمره في تربية ولدها بنفسها والاستغناء تماما عن المربية.
ويؤكد الدكتور الشيخ أن غياب دور الأم في التربية يضعف العلاقة الطبيعية التي تنشأ بينها وبين طفلها فيحرم من العطف والحنان اللذين ينتظرهما منها والتي من المفترض أن تشعر بما يدور في رأسه وتفهمه من دون أن يتكلم، ولا ينبغي أن يشاركها احد في هذه المهمة سوى الأب صاحب الحق في هذا وإلى جانب أن المربية مرفوضة في تربية الطفل فهي أيضا مرفوضة لأنها تفشي أسرار البيت.
مشاعر الأمومة
ويمسك الدكتور العارف بالله محمد حسن أستاذ علم النفس في جامعة عين شمس بطرف الحديث فيقول: إن الأصل في تربية الأبناء أنها تعتمد على الأم باعتبار أن دورها بالنسبة للطفل يتعدى الرعاية المادية المتمثلة في تقديم الطعام وتغيير الملابس وتلبية المتطلبات الأساسية، إلى توصيل مشاعر الأمومة الحقيقية من خلال ابتسامتها وأحضانها الدافئة وإرضاعها له بشكل طبيعي ورعايتها بعد ذلك من خلال العلاقة المباشرة وجها لوجه، والتي تسمح بتعليمه اللغة الصحيحة وبناء القيم الايجابية لديه، بالإضافة إلى تعديل وتقويم السلوكيات الخاطئة حتى تكون لبنات الشخصية الأولى لدى الطفل في إطار اجتماعي صحيح وهذا هو الوضع الأمثل.
ويضيف الدكتور العارف بالله: ان الاعتماد على المربية الأجنبية التي تحمل لغة مختلفة وعادات وتقاليد مغايرة وقيما لا تتفق مع مجتمعاتنا العربية والإسلامية، كل ذلك يسهم في إكساب الطفل أنماطا سلوكية شاذة وغير طبيعية لأنه ينشأ على قيم وتقاليد غير صحيحة، بالإضافة إلى أن المربية الأجنبية مهما كانت مدربة على أساليب التربية العلمية فهي لن تستطيع توصيل المشاعر العاطفية التي تشعر الصغير بالحب والأمان، وإذا كانت هناك ضرورة ملحة لوجود الخادمة فلتكن مسلمة ملتزمة بسلوكيات وآداب وتعاليم الإسلام مع إشراف الأم على تربية أبنائها إشرافا كاملا، فغياب هذا الدور يؤدي إلى شخصيات منحرفة غير متكاملة وغير سوية، وقد يحدث أيضا انعدام في التوازن النفسي الذي لا يحققه إلا الأب والأم للطفل.
الطفولة مرحلة خطرة
ويضع الدكتور منيع عبد الحليم محمود عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر النقاط على الحروف بقوله: إن مرحلة الطفولة من أكثر وأدق مراحل العمر أهمية في حياة الإنسان عامة والمسلم خاصة، حيث يكون الطفل بطبيعته وفطرته مستعدا لتلقي المبادئ الأساسية للدين الإسلامي والتي تظل معه ويتمسك بها طوال حياته، ولذلك يجب أن يحاط الطفل بجميع أنواع الرعاية النفسية والصحية، وفي الدول المتقدمة يدركون مدى خطورة هذه المرحلة السنية ومن ثم يركزون معظم اهتمامهم على المرحلة الابتدائية، فوجود المربية الأجنبية، خاصة من تدين بغير الإسلام، قنبلة موقوتة وغزو ثقافي لعقول الأطفال يبعدهم عن مبادئهم وأخلاقهم، فإذا كانت الأم قادرة ماديا وفي حاجة إلى من يساعدها على أعمال المنزل، فيجب ألا يكون للخادمة علاقة بالطفل لا من قريب ولا من بعيد، بل يقتصر نشاطها وعملها على الأعمال المنزلية فقط، كما يجب أن تكون مسلمة ملتزمة بأخلاق وقيم ومبادئ الإسلام، وان يكون وجودها في المنزل تحت إشراف كامل، ويقظة من الزوجة طوال الوقت، وألا تكون لابنها مجرد جليسة، بل تكون أما قلبا وقالبا تحتويه بين ذراعيها وفي أحضانها حبا وحنانا وتربيه على الفضائل والأخلاق الكريمة.(3/133)
نزرع الشوك بأيدينا
ويعود بنا الدكتور أحمد طه ريان أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إلى الوراء ليذكرنا بأن العرب كانوا دائما يختارون لأبنائهم مرضعات من طبقات معينة ممن يتميزن بالخلق الكريم والحلم وسعة الصدر، لأن الطفل يتربى ويكتسب خلال تربيته من صفات المربية، فالمربية غير المسلمة لا تتحرز عن النجاسات، وربما تشرب الخمر، وتمارس طقوسا شركية طبقا لمعتقدها، ومن ثم يشب الطفل على تقاليدها في البداية، ثم ما يلبث أن يكتسب عاداتها وتقاليدها وسلوكياتها خلال فترة معايشتها له والإشراف على تربيته، ومعنى هذا أننا نزرع الشوك، فنحن بأيدينا نزرع في أولادنا منذ الصغر البعد عن الإسلام والبعد عن الأخلاق السوية باختيار من يقوم على تربيته بشكل غير صحيح.
ويضيف الدكتور ريان: إن اختيار مربية إسلامية ليس كافيا وحده، فليست كل مربية مسلمة تربي أبناء صالحين لذلك يشترط في المربية أن تكون ملتزمة بتعاليم الإسلام في سلوكياتها وملابسها وتعاملاتها، لأن الطفل في الصغر مثل "العجينة" التي تتشكل كيفما يريد القائم على أمر تربيته، يتأثر بأي حركة أو صوت أو كلمة، ولذلك يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فالأب والأم مسؤولان عن اختيار المربية الصالحة الملتزمة بتعاليم الإسلام لضمان تخريج أجيال قادرة على تحمل أعباء الريادة في المستقبل، خاصة في هذا العصر الذي أصبح فيه الإسلام والمسلمون هدفا دائما لكل المخططات والمؤامرات التي تدبر وتحاك للنيل من الإسلام والإساءة إليه والإنقاص من شأن المسلمين.
أخيراً فإنه من المؤسف أن نرى الأسر المسلمة تستأجر المربيات وخادمات المنازل من دون انتقاء ومن دون البحث عن الشخصيات الصالحة المؤتمنة، فالأسرة المسلمة مطالبة شرعا بمراقبة سلوك أبنائها وتصرفاتهم مع الخادمات مهما كانت جنسياتهن ودياناتهن والحرص على عدم الخلوة من أي نوع لا مع الكبار ولا مع الصغار، فأعظم الخطر يكون على الأطفال الذين يجهلون أمور الدين فيسهل التأثير فيهم وتتزعزع عندهم العقيدة، وتغرس فيهم قيم ومبادئ تخالف الإسلام ويتعلمون قيما وطقوسا باطلة.
الخطر محدق.. فماذا ننتظر؟
ـــــــــــــــــــ
عن جريدة الخليج الإماراتية
=================00000000000
تضخيم الصغائر يقوض الحياة الزوجية
الخلاف يؤثر على الأطفال
تضخيم صغائر الأمور في الحياة الزوجية يشكل مسمارًا ينخر في كيان الحياة الزوجية ومطرقة قد تحيل الحياة الأسرية إلى رماد تتناثر ذرَّاته في لحظات معدودة.
الأستاذة جميلة المرزوق - إحدى المشاركات في إلقاء المحاضرات في الدورات التثقيفية للمقبلات على الزواج - تقول: إن تضخيم صغائر الأمور في الحياة الزوجية وتوسيع رقعة المشكلات القائمة بين الزوجين بسبب هفوات صغيرة قد يزل بها أحد طرفي الحياة الزوجية أو كلاهما مما يساهم في توسيع الفجوة القائمة بين الزوجين، كما أن المبالغة في معاتبة الطرف الآخر على الزلات الصغيرة وتكرار الحديث عنها بشكل يتخذ منحى اللوم والتقريع ينذر بفتح أبواب الشقاق على مصراعيها، وما يستتبعه من مشكلات جمة يمكن أن تؤثر على سير الحياة الزوجية.
وتنادي الأستاذة بالتحلي بروح المرونة في التعامل مع أمور الحياة وتجنب مغبة المكابرة والعناد، لاسيما في تلك الأمور التي لا تقع في قائمة أولويات الحياة الزوجية.
وتواصل حديثها قائلة: إن تعظيم الاهتمام بصغائر الأمور في الحياة الزوجية وإيلاءها اهتمامًا مضاعفًا عادة ما يؤدي إلى إحداث روح الشقاق بين الزوجين وتجذير هوة الخلافات وتضييق فرص الاستقرار الأسري وحرمان الأسرة من الشعور بطعم الصفاء والاستقرار العائلي.
إن الزوجة التي تؤجج روح المشاكل من (لاشيء) إنما تفتح النوافذ لتعميق روح الخلاف في حياتها الزوجية وإثارة زوابع الاضطراب وبراكين المشاحنات اليومية، وربما يؤدي هذا الأمر إلى خفوت لغة الحوار في الحياة الزوجية وتلاشيها، فالزوج الذي يبوح لزوجته بأمر ما فإذا به يفاجأ بأنها قد تحولت إلى ثور هائج يثير الزوابع والبراكين ، حتمًا سيتفادى بسط الحديث والنقاش معها في المستقبل تفاديًا لما قد يحدث من مشكلات وزوابع، وبذلك تضمحل لغة الحوار بين الطرفين وتتفكك عرى التواصل.
طريقة وضع الدجاج على الطبق
وتروي جميلة المرزوق في هذا السياق قصة زوجة ظلت في بيت أسرتها بعد زواجها لمدة تربو على الشهرين بعد نزاع على وضعية الدجاج المطبوخ في طبق التقديم قائلة: النماذج الواقعية التي يجدر ذكرها في هذا السياق أن إحدى الزوجات قامت بإعداد طعام الغداء في الأسبوع الثاني من زواجها فقامت بوضع الدجاج على صحن الأرز بطريقة لم تعجب الزوج الذي سارع على الفور بافتعال المشاكل وإثارة حمم الخلاف والنزاع بسبب أمر تافه لا يكاد يشكل أي أهمية في سياق الحياة الزوجية.(3/134)
معجون أسنان كاد يتسبب بالطلاق
كما تشير إلى قصة أخرى كادت أن تنتهي بالطلاق بين الزوجين والسبب في الخلاف (معجون أسنان)!! فقد نسيت الزوجة في يوم ما أن تغلق معجون الأسنان بعد استخدامه في الوقت الذي أثار هذا الأمر أعصاب الزوج؛ حيث فوجئ بأن المعجون أصبح جافًا نتيجة عدم إغلاقه، فوجه سيلاً من الإهانات والانتقادات الجارحة للزوجة ونعتها بأبشع النعوت واتهمها بأنها مهملة وغير مؤدبة ولم تتربَّ بطريقة جيدة.
زوجة أخرى نسيت تغيير الصابونة بعد أن قاربت على الذوبان، فإذا بزوجها يصنع من الحبة قبة ويكيل لها قائمة من الاتهامات والشتائم.
وتحذر جميلة المرزوق من استنزاف الأعصاب وإرهاق النفس في أمور تافهة وتدعو إلى الترفع عن سفاسف الأمور وتركها جانبًا في الوقت الذي يجدر بكلا الزوجين إيلاء الاهتمام والنقاش لأمور هي من صميم الحياة الزوجية وجوهرها كبسط النقاش حول حياة الأبناء ومستقبل الحياة الزوجية وكيفية تأمين المستقبل العائلي للأسرة، وكيفية تحقيق طموحات الزوجين وتطلعاتهما بشكل أفضل..
إن التأني قبل إصدار الأحكام والتروي قبل إشعال فتيل الخلاف من أجل أمور سخيفة لا تسمن ولا تغني من جوع، أمر ينبغي وضعه في قائمة أولويات الزوجين، ومسألة مهمة يجدر بكلا الطرفين، ومشادات قد تنتهي بتدمير الحياة الزوجية وتفكك عراها..
الكلام الطيب والحوار الهادئ هما أفضل بلسم
وترى جميلة المرزوق أن الكلام الطيب والحوار الهادئ هما أفضل بلسم لمداواة المشكلات قبل استفحالها، والدواء الناجع للجروح قبل تفاقمها، غذ أن استخدام الكلمة الطيبة يمثل مفتاحًا ناجعًا لإطفاء نيران الغضب، وإخماد براكينه قبل أن تتحول إلى بركان ثائر يمكن أن ينتهي بتقويض الحياة الزوجية، وتلبيد أجوائها بالضبابية والخلافات الدائمة.
وتحذر في ختام حديثها من المغالاة في الخوض في المشكلات الصغيرة حتى لا تتحول إلى قنابل نارية مؤججة تقتل استقرار الزوجين والعمل على محاولة تهدئة الطرف الآخر في حال الغضب كبديل عن الانسياق معه في سورة الغضب أو الابتعاد عنه في حال غضبه حتى يهدأ
=================00000
بذكائك وحكمتك تسعدين زوجك وأسرتك
نور الهدى سعد
حفظك الله ياولدي
ليس فى العالم كله مكان يضاهى البيت السعيد جمالاً وراحة. فأينما سافرنا، وأنى حللنا، لا نجد أفضل من البيت الذى تخيم عليه ظلال السعادة.
فكيف تستطيع المرأة بذكائها وحكمتها وحسن معاملتها أن تصنع هذا البيت فتسعد زوجها، ومن ثم تسعد بيتها ؟
يجيبنا من خلال نصائحه د. حسان شمسى باشا - استشارى أمراض القلب، و أحد أبرز المهتمين بالعلاقات الأسرية وصحة الأسرة النفسية، وله العديد من المؤلفات فى هذا المجال - فيقول:
- تذكرى أنك أنت المسئولة عن إسعاد زوجك وأولادك، وتذكرى أن رضا زوجك عنك يدخلك الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة ".
- لا تُحمِّلى زوجك ما يفوق طاقته. ولا تحشدى رغباتك ولا تكدسى طلباتك مرة واحدة، حتى لا يُرهق زوجك فيهرب منك. وإذا أصررت على مطالبك الكثيرة، فقد يرفضها جميعًا ويرفضك أنت رفضًا تامًا، غير آسف ولا نادم.
- لا تكلفيه أن يتحلى مرة واحدة بكل الصفات والفضائل والمكارم التى تشتهين أن تجتمع فيه ، فمن النادر جدًا أن تجتمع كل تلك الصفات فى شخص واحد!
- حين يتزوج رجل امرأة، يتعلق بصورتها الحلوة كما رآها فى الواقع، فلا تشوهى صورتك التى فى ذهنه. وحافظى على جمالك وأناقتك، ونضرة صحتك، ورشاقة حركاتك، وحلاوة حديثك .
جاء فى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة الصالحة أنه قال: "وإذا نظر إليها - أى زوجته - سرَّته".
- حافظى على تدينك. التزمى بالحجاب الإسلامى، ولا تتساهلى فى أن يرى أحدٌ شيئًا من جسدك ولو للمحة عابرة، فإن زوجك يغار عليك، ويحرص على ألا يراك إلا من تحل له رؤيتك.
- لا تنشغلى بأعمال البيت عن زوجك، قومى بهذه الأعمال وانتهى منها قبل عودته
- رتبى بيتك على أحسن حال ، غيرى من ترتيب غرفة الجلوس من حين لآخر ، ضعى لمساتك الفنية فى انتقاء مواضع اللوحات أو قطع التزيين وغيرها.
- لا تتحسرى على العاطفة الملتهبة، ومشاعر الحب الفياضة وأحلام اليقظة التى كنت تعيشين فيها قبل الزواج، فهى تهدأ بعد الزواج وتتحول إلى عاطفة هادئة متزنة.
- إذا كان الرجل هو صاحب الكلمة الأولى فى العلاقة الزوجية، فأنت المسئولة عن النجاح والتوافق والانسجام فى الزواج. ومهما بلغتِ من علم وثقافة، ومنصب وسلطان، ارضخى لزوجك والجئى إليه، ولا تصطدمى معه فى الرأى.
واهتمى فى مناقشاتك معه بأن تتبادلى الأفكار مع زوجك تبادلاً فعليًا، فتفاعل الآراء المثمر خير من استقطابها استقطابًا مدمرًا.
- أشعرى زوجك دائمًا بمشاركتك له فى مشاعره وأفراحه، وهمومه وأحاسيسه ، أشعريه بأنه يحيا فى جنة هادئة وادعة، حتى يتفرغ للعمل والإبداع والإنتاج.(3/135)
- جربى الكلام الحلو المفيد، والابتسامة المشرقة المضيئة، والفكاهة المنعشة، والبشاشة الممتعة، وابتعدى عن الحزن والغم، والهذر واللغو، والعبوس والتجهم، والكآبة والاكتئاب.
- لا تضيعى وقتك فى ثرثرات هاتفية مع صاحباتك، أو فى قراءة مجلات تافهة.
واختارى من المجلات والكتب ما يفيد ذهنك وعقلك وقلبك، وما يزيدك ثقافة ويعينك على حل مشاكل البيت والأولاد ، ومن برامج التلفاز ما يفيدك.
- شجعى زوجك على النشاط الرياضى والبدنى خارج البيت ، امش معه إن أمكن واستمتعا بالهواء الطلق فى عطلة نهاية الأسبوع، وكلما سنحت الفرصة لذلك.
- تخيرى الأوقات المناسبة لعرض مشاكل الأسرة ومناقشة حلها، إذ يصعب حل المشاكل قبل خروج زوجك للعمل فى الصباح بسبب قلة الوقت، ولا تناقشى أى مشكلة عند عودته من عمله مرهقًا متعبًا.
ولعل المساء هو أفضل فترة لمناقشة المشاكل ومحاولة حلها، ولا تناقشى مشاكل الأبناء فى حضورهم، حتى لا يشعروا أنهم أعباء ثقيلة عليك وعلى زوجك، وأنهم سبب الخلاف بين الوالدين.
- لا تطلبى من زوجك أن يلعب دور الشرطى للأولاد، يقبض على المتهم ويحاكمه أو يضربه.
- لا تنتقدى سلوك زوجك أمام أطفاله، ولا تستعملى ألفاظًا غير لائقة يرددها الأبناء من بعدك مثل "جاء البعبع" أو "وصل الهم".
- حذار حذار من الإفراط فى الغيرة والعتاب، وتجنبى التصرفات التى تؤجج غيرة زوجك، وتبلبل أفكاره. أوصى عبد الله بن جعفر بن أبى طالب ابنته فقال: "إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب فإنه يورد البغضاء".
- إياك أن تغارى من حب زوجك لأمه وأبيه ، فهو حب فطرى أوجبه الله على المسلمين لا يمس حب زوجها لها من قريب أو بعيد؟
- لا تنقلى مشاكل بيتك إلى أهلك، فتوغرى صدور أهلك ضد زوجك ، بل حلى تلك المشاكل بالتعاون مع زوجك.
- لا تستعلِ على زوجك إذا ما كنت أغنى منه أو أعلى حسبًا ونسبًا، أو أكثر ثقافة وعلمًا، فلا يجوز استصغار الزوج وانتقاص قدره والتعالى عليه..
- لا تمتنعى على زوجك فى المعاشرة الزوجية. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح".
- وتذكرى أن أول حقوق الزوج على زوجه طاعتها له.
فلا تصومى نفلاً إلا بإذن زوجك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه - أى فى غير رمضان - ولا تأذن فى بيته إلا بإذنه".
- لا تنسِ فضل زوجك عليكِ، فقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم تناسى فضل الزوج سببًا لدخول المرأة النار، وسمَّاه كفرًا. فعن ابن عباس (رضى الله عنهما) قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "أُريتُ النار، فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن". قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير - أى الزوج - ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهرَ، ثم رأتْ منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرا قط".
- حافظى على أموال زوجك، ولا تنفقى شيئًا من ماله إلا بإذنه، وبعد أن تستوثقى من رضاه.
وإذا أعسر زوجك فتصدقى عليه من مالك، وإن لم يكن لك مال، فاصبرى على شظف العيش معه، لعل الله تعالى يفرج عليكما.
- إذا كنت من الأمهات العاملات، فلا تتصورى أن ما يحتاج إليه زوجك وأولادك هو المال وحده، فهيهات هيهات أن يتساوى اللبن الصناعى مع لبن الأم الربانى الطبيعى ، أو يتساوى حنان الخادمة مع حنان الأم.. وطعام الخادمة مع طعام الزوجة النظيفة، وتربية المربية الجاهلة مع تربية الأم الواعية.
- لا تضجرى من عمل زوجك، فإن أسوأ ما تصنع بعض النساء هو إعلان الضجر من عمل الزوج. والإعلان يكون عادة فى خلق النكد، والدأب على الشكوى، واتهام الزوج الإهمال.. واللجوء إلى بيت أمها غضبى.
- تذكرى أن الزوج الذى اعتاد أن يرى أمه هى أول من تستيقظ من نومها، ثم توقظ كل من فى البيت بعد ذلك، وتجهز لهم الفطور، وتعاون الصغار فى ارتداء ملابسهم، لن يرضى بامرأة اعتادت أن تنام حتى انتصاف الشمس فى كبد السماء.
- تذكرى أن البيت المملوء بالحب والسلام، والتقدير المتبادل والاحترام، مع طعام مكون من كسرة خبز وماء، خير من بيت مليء بالذبائح واللحوم وأشهى الطعام، وأيضًا بالنكد والخصام!
=================00000000000
إلى كل مخطوبة ... قبل أن تتخذي القرار
إلى كل مخطوبة
تلقيت ذات يوم اتصالاً من إحدى الفتيات تسأل: هل هذا الرجل مناسب لأن يكون زوجًا لي؟ هذا بعد أن ذكرت معلومات قليلة عن شاب تقدم لخطبتها، وعلى الرغم من أني لا أعرف الفتاة ولا الشاب لكني لمست القلق العميق الذي تعيشه هذه الفتاة!
والحقيقة أنه في لحطة من اللحظات يصبح هذا السؤال مصيريًا يشغل بال أي فتاة تقدم لخطبتها شاب.
وعلى الرغم من أن اندفاعنا الفوري لتقييم الوضع المادي لزوج المستقبل وما تعد به وظيفته من رفاهية ومكانة اجتماعية، وبالتالي يأتي القرار بالقبول أو الرفض، لكنه لا شك مؤشر خادع وكثيرًا ما جلب لفتياتنا التعاسة والشقاء.(3/136)
أثارت هذه الفتاة تفكيري فبدأت أبحث عن مؤشرات قد تساعد الفتيات على اتخاذ هذا القرار الخطير.. سأحاول أن أذكر بعضها هنا، ولابد أن أذكر أن هذه مؤشرات عامة ويبقى لكل حالة خصوصيتها.
أولاً: اسألي عنه في المسجد القريب من بيته: الشاب المحافظ على الصلاة أقدر على الحفاظ على بيته ولن يخذله الله.
لقد أثبت المتدينون – وبكل فخر – أنهم أكثر إخلاصًا وتفانيًا في إنجاح حياتهم الزوجية والحفاظ عليها وحمايتها لأنهم ينظرون إلى الزواج على أنه تعبير آخر عن التزامهم وتدينهم.
ثانيًا: اسألي عن عدد أصدقائه ومدة علاقته بهم: عدد الأصدقاء يعطي دلالة على طبيعة الشخصية، فالشاب الذي يمتلك علاقة وثيقة بشخص أو اثنين فقط يوصف بأنه ذو شخصية انطوائية.
وهذا له تأثيره السلبي على العلاقة مستقبلاً بالزوجة، والشاب قليل الارتباطات سوف يلقي بعبء عاطفي ونفسي كبير على زوجته في المستقبل، وكثيرًا ما تعتقد الفتيات خطأ أن بقاء الرجل في البيت بشكل متواصل من حسناته أو أنه حسنة في الزواج، وهذا غير صحيح.
كما أن الشاب الذي لديه ارتباطات كثيرة غالبًا ما يكون على حساب حياته الزوجية. الشاب الذي يحافظ على صداقاته لفترة طويلة أدعى لأن يحافظ على بيت الزوجية، بينما الشاب الذي يُعرف عنه أنه يتنقل في علاقاته من شخص إلى آخر كل بضعة أشهر يوحي بعلامة سلبية وقد تكون خطيرة.
ثالثًا: كيف يعامل أخواته البنات؟: هذا مؤشر مهم ، فاحترام الشاب لرغبات وحاجيات أخواته ومساعدتهنَّ وخدمتهنَّ بشكل أو بآخر مؤشر قوي على موقفه المستقبلي من زوجته.
رابعًا: الخادم أو العامل الذي يعمل لديه أو من يجلب له الشاي في العمل ويقضي له أغراضه الصغيرة سيعطيك معلومات مهمة، فالكريم من الناس يقدر صغير الشأن كما يقدر كبيره، فيبتسم في وجهه ويحيّيه كل صباح ويكرمه في الأجر الذي يعطيه ، ومثل هؤلاء أدعى لأن يكرموا زوجاتهم ويحسنوا معاملتهنَّ.
أما سيّئ الطباع فلا يقدر إلا من يرجو منه مصلحة معينة، بل ويحتقر غيره وهذه علامة خطيرة.
خامسًا: الغضب: فالشاب الذي لا يملك السيطرة على غضبه شاب ضعيف مهما عظم جسده وعلا صوته، وللغضب عواقب وخيمة على الحياة الزوجية، فكم هدم من بيوت وحوَّل حياة أقوام إلى حطام وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: "ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عن الغضب".
سادسًا: الاهتمام بعمله وإتقانه: فهذا مؤشر على جدية الرجل والتزامه، وهذا يشمل كل أشكال الأعمال، فالبائع المهتم والمتقن أكثر التزامًا في حياته الزوجية – في معظم الأحيان – من أستاذ الجامعة المستهتر الفاشل.
صحيح أن السؤال عن الشاب بشكل مباشر من أكثر من مصدر أمر مهم؛ لكنه قد يعطي معلومات مضللة أحيانًا، خاصة لو سُئل عنه أصدقاؤه والمقربون منه، ولذا أحببت أن أذكر هذه المؤشرات العملية.
وأختم بأن أذكِّر بالالتجاء إلى الله عز وجل والطلب منه أن ييسر الزوج الصالح قبل أن يأتي، واستخارته سبحانه فيمن تقدم.
ألبسكم الله ثوب السعادة ودامت حياتكم كلها أفراحًا.
=================000
الفهرس العام
حكم نقش الحناء وتطريفها ... 1
أيها المسلمون تداركوا معقلكم الأخير ... 3
علامات البلوغ وموجباته ... 7
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن ... 11
لِبَاس المُسْلم ... 23
ما يجوز للخاطب من المخطوبة وما لا يجوز ... 87
عِدَدُ النِّسَاء ... 91
الإحداد ... 123
واغيرتاه .. واحجاباه ..واعرضاه .. واحريماه .. واقوامتاه ... 134
حجابك اليوم أختي المسلمة حجابك من النار غداً ... 139
ختان الأنثى واجب رغم أنف الرُّوَيبضة ... 147
الدليل الأغر على أن ختان الأنثى واجب ... 151
الحضانة ... 164
الغيرة ... 177
المحرمات من النساء ... 182
حق الأبناء على الآباء ... 199
التربية الإسلامية ومراحل النّمو ... 214
مشاكل الأطفال مع حلولها التربوية ... 231
حقوق الزوجين ... 243
ما يحلّ للرجل من زوجته في فترة حيضها: ... 264
حتى يحبك الله ثم زوجتك كن كريمًا ... 275
كيف تجددين حياتك الزوجية أيتها الزوجة !! ... 277
إهمال الزينة بعد الزواج و آثاره ! ... 279
من أخطاء الأزواج ... 281
مفاتيح القلوب ... 283
الزوج المثالى ... 286
وصفة سحرية للسعادة الزوجية ... 291
تاءات السعادة الخمسة ... 293
مجمع الفقه الإسلامي واختلافات الزوج والزوجة الموظفة ... 298
مآسى جحود الأبناء على أسِّرة المستشفيات ... 301
ذوو الاحتياجات الخاصة طاقات متى نستغلها ؟ ... 303
مهما عانيت فى الدنيا.. لا تيأس !! ... 308
الرحلات العائلية متعة الأبدان وحفظ الإيمان ... 312
إفشاء الأسرار العدو الأول للحياة الزوجية ... 315
الخادمة الأجنبية قنبلة موقوتة في البيت ... 317
تضخيم الصغائر يقوض الحياة الزوجية ... 322
بذكائك وحكمتك تسعدين زوجك وأسرتك ... 324
إلى كل مخطوبة ... قبل أن تتخذي القرار ... 328
الباب السادس - ركن الفتوى ... 576(3/137)
الباب السابع- ركن مواسم الخير ... 576
الباب الثامن - ركن العقيدة ... 576
الباب التاسع -ركن السلوك ... 576
الباب العاشر - ركن العظات والعبر ... 576
الباب الحادي عشر - ركن السير والتراجم ... 331
الباب الثاني عشر - ركن العبادات ... 331
الباب الثالث عشر - ركن المعاملات ... 331
الباب الرابع عشر - ركن الترويح عن النفس ... 331(3/138)
الدين النصيحة (4)
الباب السادس - ركن الفتوى
الاحتفال بالمولد النّبوي الشّريف بين الابتداع والاتباع
المقدمة الأولى: ما حقيقة محبة الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم؟ وما علامة ذلك؟
المقدمة الثانية: هل هناك بدعة حسنة محمودة، وأخرى سيئة مذمومة؟
بدعة لغوية
بدعة شرعية
بدعة إضافية
المقدمة الثالثة: هل هناك علاقة بين المصالح المرسلة وبين المحدثات البدائع؟
متى ظهرت بدعة الاحتفال بالمولد الشريف ؟ ومن أول من أحدثها ؟
أقوال وفتاوى بعض أهل العلم في بدعية الاحتفال بالمولد الشريف
تاج الدين عمرو بن علي اللخمي الشهير بالفاكهاني (654 – 734ه )
الحافظ أحمد بن علي بن حجر (المتوفى سنة851ه) رحمه الله
ابن الحاج المالكي ( 1060-1128/1129ه ) رحمه الله
شبه يرفعها المجيزون للاحتفال بالمولد ودحضها
الخلاصة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أكمل الله على يديه الدين، وأتمَّ به النعمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد..
فإن خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة.
مع إطلالة كل عام هجري أضحى من الواجب على أهل العلم وطلابه أن يذكّروا إخوانهم المسلمين بأمر لا يُعين عليه إلا الله، فقد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره، ألا وهو الاحتفال بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم، في ربيع الأول من كل عام؛ وذلك لأن الذكرى واجبة، نفعت أم لم تنفع، معذرةً إلى الرب ولعلهم أو بعضهم يتقون.
وقبل الشروع في المقصود، وهو بيان حكم الشرع في هذا العمل، هناك تمهيدات ومقدمات لابد من التنبيه عليها، والإشارة إليها، لصلتها الوثيقة باستيعاب حكم الشرع في هذا العمل، فأقول وبالله التوفيق:
?
المقدمة الأولى
ما حقيقة محبة الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم؟ وما علامة ذلك؟
حبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان وبغضه كفر ونفاق، بل لا يكتمل إيمان العبد حتى يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ماله، وولده، ونفسه التي بين جنبيه، كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه .
لقد بين الله سبحانه وتعالى حقيقة هذه المحبة ودل على علامتها، حيث قال: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم" سواء كان سبب نزولها كما قال ابن جرير يرحمه الله: (أنزلت في قوم قالوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا نحب ربنا" فأمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: إن كنتم صادقين فيما تقولون، فاتبعوني، فإن ذلك علامة صدقكم فيما قلتم من ذلك)، أوكانت نزلت في وفد نجران ـ كما ذكر ـ الذين قدموا عليه من النصارى: (إن كان الذي تقولون في عيسى من عظيم القول، إنما تقولونه تعظيماً لله وحباً له، فاتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره: (هذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة، فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل متابعته، وجميع ما يدعو إليه طريقاً إلى محبته ورضوانه، فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما).
وقال الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير له: (هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي، في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ" متفق عليه؛ ولهذا قال: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِب إنما الشأن أن تُحَب).
فحقيقة وعلامة محبة الله ورسوله هي اتباع أوامرهما، واجتناب نواهيهما؛ فالحب الوجداني وحده لا يكفي، على الرغم من أهميته، ما لم يكن مقروناً بحب الاتباع والانقياد والطاعة له صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي؛ إذ لو كان وحده كافياً نافعاً لنفع أبا لهب الذي أعتق جاريته ثويبة لأنها بشرته بولادة محمد صلى الله عليه وسلم، ولنفع أبا طالب في الخروج من النار، فقد كان محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حامياً له، بله مادحاً له ولدينه.(4/1)
ومن العجيب الغريب قصر البعض، هدانا الله وإياهم سبل السلام، محبته صلى الله عليه وسلم على هذا الحب الوجداني، متمثلاً في إنشاد وتلحين القصائد والمدائح، التي لا تخلو غالباً من الغلوّ إن سلمت من الشركيات، والرقص والتواجد، وإحياء الحوليات، والاحتفال بالمواليد، بل لقد بلغ الغرور ببعضهم أن يحكم على من لا يقرّهم على ذلك، ويشاركهم فيه، ويمارسه معهم، بأنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم!! وهذا لعمرالله من الافتراء المبين، والظلم المشين، والغرور اللئيم، حيث قلبوا الموازين، وافتروا على رب العالمين، وتلاعبوا بسنة سيد المرسلين، وأجحفوا في حق إخوانهم في الدين، حيث جعلوا البدعة سنة، والمنكر معروفاً، والباطل حقاً.
?
المقدمة الثانية
هل هناك بدعة حسنة محمودة، وأخرى سيئة مذمومة؟
اعلم أخي الحبيب، وفقني الله وإياك، أن البدعة في الاصطلاح تنقسم إلى ثلاثة أنواع هي:
بدعة لغوية
وهي كل أمر حادث ، سواء كان في العادات أوالعبادات، نحو اختراع الساعة، والسيارة، ومُكبّر الصوت، وما شابه ذلك، وهي من المباحات.
بدعة شرعية
وهي كل أمر مُحدث ليس له أصل في الدّين يُراد به التقرب إلى الله عز وجل، فهي خاصة بالعبادات، نحو البناء على القبور، والسماع الصوفي، وما شابه ذلك.
بدعة إضافية
وهي أن يكون أصل العمل مشروعاً، ولكنه عُمِل بكيفية غير مشروعة، نحو: الذكر بالاسم المفرد "الله، الله" أو"هو، هو"، وما شابه ذلك.
والذي يعنينا هنا هو البدعة الشرعية، وهل فيها حسن وقبيح؟
اعلم أخي الموفّق إلى كل خير أن البدع كلها سيئة وباطل، وإن كانت متفاوتة في السوء، فمنها ما هو كفر، ومنها ما هو حرام، ومنها ما هو مكروه؛ وكلها مردودة على صاحبها، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليك طرفاً من الأدلة على ذلك:
• حديث عائشة في الصحيح ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، متفق عليه؛ وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ"، فالمخترِع للبدعة والمقلّد له فيها سواء، وقد عدَّ العلماء هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
• حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: "... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عُضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة ضلالة".
وكلمة "كل بدعة" نكرة في صيغة العموم، تشمل كل بدعة صغيرة كانت أم كبيرة، جليلة كانت أم حقيرة، سواء كانت قولية، أوعملية، أواعتقادية.
• حديث جابر في خطبته صلى الله عليه وسلم: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".
• قوله عز وجل: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"، فالدين قد تمّ وكمُل، وماذا بعد التمام والكمال إلا النقص والخسران؟
ولهذا قال الإمام مالك: "ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً"، وقال: "من زعم أن الدين لم يكتمل فقد زعم أن محمداً خان الرسالة".
ويتشبث البعض في تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة ببعض الشبه، ويتذرع ببعض الآثار والأقوال نشير إليها مع دحضها، نحو:
• قوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتدع بدعة ضلالة"، أُخِذ منه بمفهوم المخالفة الذي يقول به بعض الأصوليين أن هناك بدعة حسنة؛ وكلمة ضلالة هنا لا مفهوم لها كما لا مفهوم لكلمة "أضعافاً مضاعفة" في قوله تعالى: "لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة" الآية.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله رادّاً لهذه الشبهة ودافعاً لها: (... الإضافة فيه لا تفيد مفهوماً وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول ـ فإن الدليل دلّ على تعطيله في هذا الموضع كما دلّ الدليل على تحريم قليل الربا وكثيره، فالضلالة لازمة للبدعة بإطلاق بالأدلة المتقدمة، فلا مفهوم أيضاً).
• قوله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة عليه وزرها و وزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
فقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك عندما حثَّ على الصدقة المشروعة على بعض المجهدين من الأعراب، فسارع إلى ذلك أحد الأنصار فجاء بصرَّة كادت يده تعجز عنها بل عجزت ـ كما في الحديث ـ فتتابع الناس على الصدقة حين رأوه، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وقال: "من سنّ في الإسلام.." الحديث.
فمراد الحديث: من أحيى في الإسلام سنة قد أميتت، لا أن يُحدث فيه أمراً جديداً لا أصل له.
• قول عمر رضي الله عنه عندما جمع الناس في صلاة القيام على أُبَيِّ بن كعب وقد كانوا يصلونها جماعات متفرقة، فدخل المسجد و سره اجتماعهم: "إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة هي".(4/2)
فالمراد بالبدعة هنا البدعة اللغوية لا الشرعية، إذ صلاة القيام جماعة لها أصل في السنة، فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين أو ثلاثة، وعندما اجتمعوا له بعد ذلك لم يخرج عليهم خشية أن تُفرض عليهم، وكان صلى الله عليه وسلم يحب التخفيف على الأمة، بجانب أنها من عملِ عمر وعملُ عمر سنة يُقتدى بها.
• زعم بعض أهل العلم ـ القرافي وابن الصلاح رحمهما الله ـ أن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة، وهذا وهم منهما وممن قلدهما، والله يتجاوز عنا وعنهما، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم مهما كانت منزلة القائل.
?
المقدمة الثالثة
هل هناك من علاقة بين المصالح المرسلة وبين المحدثات البدائع التي ليس لها أصل في الدين؟
هناك خلط بين البدع والمصالح المرسلة، والمصالح المرسلة هي كل ما جلب خيراً أو دفع ضراً، ولم يرد في الشرع ما يثبته أو ينفيه، مع موافقته لمقاصد الشرع وحاجة الناس الماسة له، نحو كتابة القرآن وجمعه في مصحف في عهد الخليفتين الراشدين أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما، وكتابة العلم، وتدوين السنة، واتخاذ المحراب، وسنّ عثمان للأذان الأول للجمعة عندما توسعت المدينة وكَثُر الناس بها، ونحو ذلك؛ فهل هناك من علاقة بين هذه المصالح المرسلة من ناحية وبين المحدثات البدائع التي ليس لها أصل في الدين، نحو الاحتفال بالموالد والحوليات وما شاكلها؟ هل هناك من علاقة بين ما فعله السلف الصالح، واقتضته المصلحة، وحتّمته الحاجة، وبين ابتداع الخلَف لأمور ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تؤثر عن عَلَم من الأعلام؟! اللهم لا وألف لا.
?
متى ظهرت بدعة الاحتفال بالمولد الشريف ؟ ومن أول من أحدثها ؟
لم تظهر هذه البدعة إلا في نهاية الربع الأول من القرن السابع الهجري، أي في عام 625هـ، على يد الملك المظفّر أبي سعيد كوكبري صاحب إربل سامحه الله، المتوفى 630هـ، أحد حكام المماليك.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه: (وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول، ويحتفل به احتفالاً هائلاً... وقد صنف الشيخ أبوالخطاب ابن دحية له مجلداً في المولد النبوي سماه: "التنوير في مولد البشير النذير"، فأجازه على ذلك بألف دينار.
ثم حكى عن سبط ابن الجوزي أنه قال: حكى بعض من حضر سِماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يحضر عنده المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر(!!)، ويرقص بنفسه معهم(!!).
فلو كان الاحتفال بالمولد الشريف ديناً مشروعاً لما غفل عنه الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان في القرون الفاضلة وعُني به المتخلفون عن السنة؛ والله لو كان خيراً لما سبق إليه المظفر وقصر عنه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ولم ينبه عليه الأئمة المقتدى بهم؛ فالخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع؛ ورحم الله مالكاً الإمام فقد كان من أشد الأئمة بغضاً للابتداع في الدين ولهذا كان دائماً ينشد:
وخيرُ أمورِ الدينِ ما كان سنةً وشرُّ الأمورِ المحدثاتُ البدائعُ
ولله در التابعي الجليل والإمام القدير وأحد تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه إبراهيم النخعي رحمه الله حيث قال: (لو رأيت الصحابة رضي الله عنهم يتوضؤون إلى الكعبين ما توضأت إلا كذلك وأنا أقرأها إلى المرفقين وذلك أنهم لا يُتهمون في ترك سنة، وهم أرباب العلم، وهم أحرص خلق الله على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يظن ذلك بهم أحد إلا ذو ريبة).
?
أقوال وفتاوى بعض أهل العلم في بدعية الاحتفال بالمولد الشريف
لقد أفتى العديد من أهل العلم قديماً وحديثاً ببدعية الاحتفال بالمولد الشريف، ولكننا سنشير إلى فتوى ثلاثة من الأقدمين وهم:
تاج الدين عمرو بن علي اللخمي الشهير بالفاكهاني (654 – 734ه )(4/3)
وهو الفقيه المالكي صاحب شرح الفاكهاني على الرسالة، وقد صرح هذا العالم الرباني ببدعية الاحتفال بالمولد الشريف في أي صورة من صوره في كتاب له أسماه "المورد في الكلام عن عمل المولد"، جاء فيه: (... أما بعد فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد، هل له أصل في الشرع؟ أو هو بدعة وحَدَث في الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً، والإيضاح عنه معيناً، وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا يُنقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطَّالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون؛ وبدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا إما أن يكون واجباً، أومندوباً، أومباحاً، أومكروهاً، أومحرماً؛ وليس بواجب إجماعاً ولا مندوباً، لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون فيما علمتُ، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلتُ؛ ولا جائز أن يكون مباحاً لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين؛ فلم يبق إلا أن يكون مكروهاُ أوحراماً، وحينئذ يكون الكلام فيه من فصلين، والتفرقة بين حالين:
أحدهما : أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه، و لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئاً من الآثام؛ وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشنيعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام، وعلماء الأنام، سرج الأزمنة، وزين الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية حتى يُعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يُؤلمه ويوجعه، لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء: أخذ المال حياءً كأخذه بالسيف؛ لا سيما إذا انضاف إلى ذلك شيء من الغناء، مع البطون الملأى، بآلات الباطل من الدفوف والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم، وإما مشرفات.
إلى أن قال:
( وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات، فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ).
الحافظ أحمد بن علي بن حجر (المتوفى سنة851ه) رحمه الله
نقل عنه السبوطي رحمه الله: (وقد سئل شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة).
ولا غيرهم ! ثم عاد فحسّنها إذا تُحرِّي في عملها المحاسن(!!)، وهذا فيه تناقض، فليت شعري كيف تكون عبادةً حسنةً مهما تحروا فيها من المحاسن إذا لم يتعبدنا الله بها، ولم يفعلها السلف الصالح؟!
ابن الحاج المالكي ( 1060-1128/1129ه ) رحمه الله
قال: (ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد.
إلى أن قال: وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسّماع، فإن خلا منه وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد، ودعا إليه الإخوان، وسَلِم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ أن ذلك زيادة في الدين، وليس من عمل السلف الماضين... ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما يسعهم).
فها نحن نرى أن علماء الإسلام جزاهم الله خيراً بينوا حكم الشرع في عمل المولد واعتبروه من البدع الحادثات والمنكرات منذ ظهور هذه البدعة، وما فتئوا في كل وقت وحين ينبِّهون على ذلك، فما أحسن أثر العلماء على الناس، وما أقبح أثر الناس على العلماء.
?
شبه يرفعها المجيزون للاحتفال بالمولد ودحضها
يرفع المجيزون للاحتفال بالمولد شبهاً ضعيفة وحججاً واهية يتشبثون بها في عمل المولد، وهي شبه مدفوعة من غير دفع، و لو لا خشية أن يتأثر بها من يسمعها أويقرأها لما سُطّرت في دفعها كلمة واحدة.
وقد تولى كبر هذه الشبه الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله وسامحه، وقد سجل هذه الشبه في رسالة له بعنوان: "حسن المقصد في عمل المولد"، مُتَضَمَّنة في الحاوي للفتاوى، ومن ثمَّ قلده فيها المقلدون من غير نظر ولا بصيرة، ومن العجيب اعتبار السيوطي هذه الشبه أصولاً بنى عليها جوازالاحتفال بالمولد(!!)، والشبه هي:
• قوله صلى الله عليه وسلم معللاً لصيام يوم الإثنين: "ذلك يوم ولدتُ فيه"، قال السيوطي: (فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي وُلِد فيه، فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله)!(4/4)
أقول: لو اكتفى المجيزون للاحتفال بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم بصيام يوم الثاني عشر من ربيعِ الأول لما كان لهم في هذا الحديث دليل، دعك من أن يحتفلوا به، وعجباً لهذا الفهم الذي أُوتيه الإمام السيوطي رحمه الله ولم يخطر ببال أحد من سلف هذه الأمة الذين هم خيرها وأفضلها ولا بال خلفها، فوالله لو كان هذا الفهم سائغاً لما غفلت عنه القرون الفاضلة واُستدرك في القرن العاشر، قرن التخلف والانحطاط.
• أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة ووجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، سألهم عن سبب صيامه فقالوا: هذا هو اليوم الذي نجّى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وحزبه، فنصومه شكراً لله.
قال السيوطي تبعاً لابن حجر: فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أودفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود، والصيام، والصدقة، والتلاوة؛ وأيُّ نعمة أعظم ببروز هذا النبي، نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يُتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء.
ثم قال: فهذا ما يتعلق بأصل عمله.
قلتُ: إن كانت هذه أمثل حجج القوم في الاحتفال فما لهم والله من حجة، فاستنتاج هذا الفهم من علة صيام يوم عاشوراء لا يقل عجباً وغرابة من الشبهة السابقة، وهذا من أفسد الأقيسة وأبطلها.
ثم نعود فنقول: لماذا لم يرد هذا الفهم وذاك الدليل على خير القرون، الذين وصفهم ابن مسعود رضي الله عنه ولا ينبئك مثل خبير بأنهم: "أَبَرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً".
• أما الشبهة الثالثة التي برر بها الإمام السيوطي جواز الاحتفال بالمولد الشريف فهي رواية لم يوضِّح مخرجها ولا درجة صحتها، حيث قال: (وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقَّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهارٌ للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك، فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع والطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات واظهار المسرّات).
هذه الحادثة ولو صحت لما كان فيها دليل لما رمى إليه السيوطي، لاحتمالات كثيرة تصادم الاحتمال الذي ذهب إليه السيوطي، إذ ربما لم يعق عنه جده عند ولادته، أوربما ذبح ذلك لأي غرض آخر، وثمة شيء آخر: هل كرَّر ذلك فيما بقي من عمره حتى يُستدل بها على الاحتفال بالمولد؟!
• الشبهة الرابعة رؤيا منامية رؤيت لإمام من أئمة الكفر، وهو أبو لهب، بعد موته، فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار، إلا أنه يُخفف عني كل ليلة اثنين باعتاقي لثويبة عندما بشّرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وبإرضاعها له.
هذه الرؤيا لو رُؤيت لأحد من المؤمنين الصالحين لما أُخذ منها حكم شرعي، فكيف وهي لكافرٍ معاندٍ لرسول الله وحبيبه صلى الله عليه وسلم؟! بجانب أن الكافر لا يثاب على عمل، قال تعالى: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً"، وقال: "لئن أشركت ليحبطن عملك"، هذا إذا كان حبه حب تعبد واتباع فكيف إذا كان حبّ حميّة؟!
?
الخلاصة
• أن الاحتفال بالمولد الشريف بدعة حادثة ليس لها أصل في الدين بأي صورة من صوره، أسبوعية كانت أم سنوية، قرنت بالسماع وبغيره من المحرمات كالاختلاط أم خلت منه.
• أن الذين يحتفلون بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم نحسب أن دافعهم إلى ذلك حبه، ولكن الحب وحده لا يكفي، فلا بد من متابعة السنة وموافقة الشرع، فكم طالبٍ أمراً لم يصبه وراجِ رجاءً فأخطأه، ومؤمل أملاً لم يدركه.
• أن الدين تم وكمُل بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم يكن في ذلك اليوم ديناً وشرعاً فلن يكون اليوم ديناً أو شرعاً.
• أن مجرد الخلاف ليس دليلاً مسوِّغاً للتشبث به مهما كانت درجة ومنزلة قائله، ما لم يكن قائماً على دليل، فكما قيل:
فليس كل خلافٍ جاء معتبراً إلا خلافاً له حظٌ من النظر
• أن مرجع المسلمين عند الخلاف والنزاع إلى الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، لا إلى قول فلان وعلان.
• أن الدين ليس بالرأي والعقل، وإلا لكان باطن الخف أولى بالمسح عليه من ظاهره، كما قال الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، ولهذا فإن التحسين والتقبيح العقليين لا قيمة لهما البتة في أمور الشرع، فما تراه أنت حسناً يستقبحه غيرك.(4/5)
واللهَ أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهدينا وإياهم سبل الرشاد، ويجنبنا وإياهم البدع وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل مكان وزمان أمر رشد، يُعز فيه أهل الطاعة، ويُذلّ فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبي الهدى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
------
فتوى عن حكم لبس المرأة للإسكيرت والبلوزا والبنطلون خارج البيت
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد..
ورد إلينا سؤال من بعض الغيورين عن حكم لبس المرأة "للإسكيرت والبلوزا والبنطلون" خارج بيتها، فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: الأصل للمرأة أن تقر في بيتها ولا تخرج منه إلا لضرورة تقدر بقدرها، لقوله تعالى: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى".
ولقوله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين قدوة المؤمنات الصالحات بعد حجة الوداع: "هذه ثم ظهور الحصر"، ولهذا قالت سودة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما وعن جميع أمهات المؤمنين: "والذي بعثك بالحق لا تحركنا بعدك دابة".
ثانياً: إذا اضطرت المرأة للخروج فعليها أن تخرج متحجبة بما في ذلك الوجه والكفان، غير متطيبة، متجنبة مخالطة الرجال الأجانب والخلوة بهم.
ثالثاً: يشترط في لباس المسلم عموماً بجانب الحل والطهارة شروط أجمع عليها أهل العلم قاطبة قديماً وحديثاً، هي:
1. أن يكون واسعاً لا يصف ولا يحكي شيئاً من العورة، وذلك لنهي عمر رضي الله عنه عن لبس القباطي، وعلله بقوله: "إنه إن لم يشف فإنه يصف"، أي شكل البدن وحجمه.
2. أن لا يكون شفافاً يصف البشرة، سيما العورة، فلابد أن يكون سميكاً لا يصف العورة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما.. ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام".
3. أن لا يشبه لباس الكفار، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن تشبه بقوم فهو منهم".
4. أن لا يشبه لباس الرجال لباس النساء ولا العكس، للعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
5. أن لا يكون لباس شهرة، وهو الرفيع جداً، أوالوضيع جداً، أوالمخالف لما اعتاده الناس، إن لم يكن في عادتهم مخالفة شرعية، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة".
هذه الشروط كلها أوجلها لا تتوفر في "الإسكيرت والبلوزا والبنطلون":
•فهو يصف العورة ويحكيها إن خلا من بيان لون البشرة.
•وهو يشبه لباس الكافرات، ولا يرد على ذلك أن البعض يطلق على "الإسكيرت" التنورة - مع الفارق بينها وبين التنورة - التي كانت تلبس داخل البيوت.
•وهو يشبه لباس الرجال، سيما البلوزا والبنطلون.
•وهو يبدي محاسن المرأة ومفاتنها ويظهرها.
•هذا بجانب ما يحدثه من الفتنة منها وعليها، ومن الإغراء بالتشبه بها، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
وعليه فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخرج بذلك، ولا يحل لأوليائها أن يسمحوا لها بذلك.
وينبغي للمرأة إذا خرجت من بيتها أن لا تخرج إلا وهي لابسة:
•العباءة.
•أوالبالطو.
•أوالثوب السابل، الساتر، السميك، غير الواصف.
أوما شابه ذلك.
والله الموفق للصواب والهادي إلى سبيل الرشاد، والمعين على العفة، والحفظ، والحجاب.
=================00000000
حكم التداوي بالحرام والنجس
أقوال أهل العلم في ذلك
الخلاصة
من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن رفع عنها الحرج والأصرار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، وجعل للضرورات أحكاماً خاصة بها، ولم يحرم ما حرم عليها إلا لخبثه وضرره عليها، دنيا وأخرى، عُلمت العلة أم لم تعلم، إذ الهدف من التشريعات الربانية كلها المحافظة على الحاجيات الخمسة، وهي: الدين، والعقل، والعرض، والنفس، والمال، وجعل الدين والعقل مقدمان على ما سواهما.
ومن رحمته كذلك أن جعل لكل داء دواء، إلا الموت والهرم، علمه من علمه وجهله من جهله، وشرع للأمة تعاطي الدواء والعلاج، وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم تعلم الطب من فروض الكفايات، بحيث إذا تركته الأمة كلها أثمت، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله فيما رواه عنه حرملة: "العلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان".
وبعد..
فإن الله عز وجل أنه لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها، وإليك الأدلة التي تنهى عن التداوي بالحرام والنجس:
1. خرَّج مسلم في صحيحهبسنده إلى وائل الحضرمي أن طارق بن سويد الجُعْفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر؟ فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء".(4/6)
2. وخرَّج أبو داود بسنده من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داءٍ دواء، فتداوَوا ولا تداوَوا بالمحرم".
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التداوي بالخبيث".
4. وفي صحيح مسلم وغيرهعن طارق بن سويد الحضرمي قال: قلت: يا رسول الله، إن بأرضنا أعناباً نعتصرها، فنشرب منها؟ قال: "لا"، فراجعته، قلت: إنا نستشفي للمريض؛ قال: "إن ذلك ليس بشفاء، ولكنه داء".
5. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر يجعل في الدواء، فقال: "إنها داء وليس بدواء".
6. وذكر البخاري تعليقاً في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم".
7. عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها".
8. وفي رواية عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: نبذت نبيذاً في كوز فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغلي، فقال: "ما هذا؟" قلت: اشتكت ابنة لي فصنعت لها هذا؛ فقال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حَرَّم عليكم".
لهذه الأسباب ذهب العامة من أهل العلم، وهم:
1. المالكية.
2. الحنابلة.
3. وجمهور الحنفية.
4. ووجه في مذهب الشافعي.
إلى حرمة التداوي بالحرام والنجس، ولم يفرقوا بين الخمر وغيرها، ولا بين حالتي الضرورة والاختيار، وذهب بعض الشافعية إلى جوازالتداوي بالحرام غير الخمر للضرورة، وذهب أبوثور بإباحته للتداوي، والراجح ما ذهب إليه العامة من أهل العلم.
وذلك للآتي:
أولاً: أن الله لم يقدر – تقديراً شرعياً – شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها للأدلة السابقة الذكر.
ثانياً: أن العلاج والتداوي ليس واجباً عند جماهير أهل العلم وإنما هو من المباحات.
ثالثاً: العلاج والتداوي بالحلال الطيب ليس متيقناً كسد الرمق بأكل شيء من الميتة، وإزالة الغصة بشربة من المسكر.
رابعاً: الأمور التي رخص فيها الشارع الحكيم بتعاطي الحرام وتناوله عند الضرورة معلومة، وليس منها التداوي، وهي:
1. جواز أكل المضطر للميتة من غير الإنسان في أرجح قولي العلماء، وإن لم يأكل المضطر حتى مات فهو آثم.
2. إزالة الغصة بالحرام والمسكر، واختلفوا في إزالته بالخمر على قولين، والراجح إزالتها بالخمر والمسكر.
3. لبس الحرير لمن به حكة أومرض.
4. شد الأسنان أوالعظام بشيء من الذهب.
5. التلفظ بكلمة الكفر لمن خشي القتل، والأفضل الثبات وعدم التلفظ لمن قوي على ذلك.
خامساً: استدلال المخالف القائل بجواز التداوي بالحرام والخبيث للمضطر سوى الخمر بحديث العرنيين، حيث أمر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بلقاح من الإبل ليشربوا من ألبانها وأبوالها، فيه نظر، لأن بول وروث ما يؤكل لحمه من الحيوانات والطيور طاهر عند عامة أهل العلم، وزعم الشافعية نجاسة أبوال وأرواث ما يؤكل لحمه مردود بالحديث الصحيح الصريح، وبقول الإمام الشافعي رحمه الله: "إذا وجدتم الحديث في قارعة الطريق فهو مذهبي".
سادساً: إجازتهم للمضطر التداوي بالحرام كالدم، وشحم ولحم الخنزير، والكلب، ونحو ذلك، ومنعهم التداوي بالخمر، تحكم لا دليل عليه، إذ الكل من أحرم الحرام، ومن أخبث الخبائث، ويشملها جميعاً قوله صلى الله عليه وسلم، وقد أوتي جوامع الكلم: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها"، والأحاديث التي نهت عن التداوي بالحرام عمت وخصت، والتي خصت بالخمر سببها سؤال الناس عنها.
سابعاً: لا يرد على ذلك إجازة من أجازللمسحور – المعقود – الذي لم يجد أحداً يحله سوى ساحر – وهو قول مرجوح – أن يذهب إليه، لأن حل المعقود هنا متيقن إذا شاء الله عز وجل، وليس مثل التداوي بالمحرم، فالعاقد يمكنه أن يحل على الرغم من أنه باع آخرته بثمن بخس إذ تعاطى هذا النوع من السحر من الكفر البين بحكم الله عز وجل: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر".
ثامناً: سداً للذرائع: حتى لا يفضي ذلك ويؤدي إلى تعاطي الحرام سيما في هذا العصر الذي ضعف فيه الوازع الديني، وقل فيه الورع، بل انعدم، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
?
أقوال أهل العلم في ذلك
سنشير في هذه العجالة إلى أقوال بعض أهل العلم المقتدى بهم وبمذاهبهم في حكم التداوي بالحرام.
• قال ابن أبي زيد رحمه الله: (قيل لمالك: هل تُغسل القرحة بالبول أوالخمر؟ قال: إذا طهرها بعد ذلك بالماء فنعم، وإني لأكرهالخمر في الدواء وغيره، وبلغني أنه إنما يدخل هذه الأشياء من يريد الطعن في الدين، والبول عندي أخف.
وفي رواية ابن القاسم: أنه كره التعالج بالخمر وإن غسله بالماء.
قال: وبلغني أن ابن عمر أخبره غلامه أنه عالج به جملاً فكره ذلك.(4/7)
قال مالك: ولا يشرب بول الإنسان ليُتداوى به، ولا بأس بشرب أبوال الأنعام الثمانيةالتي ذكرها الله سبحانه، قيل له: كل ما يؤكل لحمه؟ قال: لم أقل إلا أبوال الأنعام، ولا خير في بول الأتن؛ قيل له: الشاة تحلب فتبول في الإناء؟ قال: لا بأس به).
• قال ابن شاس المالكي المتوفى 616هـ، وهو يتحدث عما يحل عند الضرورة: (وأما جنس المستباح، فكل ما يرد عنه جوعاً أوعطشاً فيدفع الضرورة، أويخفضها، كالأطعمة النجسة، والميتة من كل حيوان غير الآدمي، وكدم، وشرب المياه النجسة وغيرها من المائعات سوى الخمر، فإنها لا تحل إلا لإساغة الغصة، على خلاف فيها، فأما الجوع والعطش فلا، إذ لا يفيد ذلك، بل ربما زاد العطش، وقيل: تباح، فإنها تفيد تخفيف ذلك على الجملة ولو لحظة، وقال الشيخ أبو بكر: إن ردت الخمر عنه جوعاً أوعطشاً شربها، واختاره القاضي أبو بكر؛ فأما التداوي بالخمر فالمشهور من المذهب لا يحل؛ قال القاضي أبو بكر – ابن العربي -: ولا يأكل المضطرُ ابنَ آدم، وإن مات، قاله علماؤنا).
• وقال ابن المَوَّاق المتوفى 897هـ في "التاج والإكليل لمختصر خليل": (وأما التداوي بها فمشهور المذهب أنه لا يجوز التداوي بها، ويجوز استعمالها للضرورة – لإزالة الغصة – فالفرق أن التداوي لا يتيقن البرء بها).
• وقال القادري الحنفي رحمه الله: (وبول ما لا يُؤكل لحمه عند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجوز التداوي به، وعند محمد يجوز التداوي وغيره.
إلى أن قال: وفي "التتمة" سئل أبو يوسف بن محمد والحسن بن علي عن مريض قال له طبيب: لابد لك من أكل لحم الخنزير حتى يدفع عنك العلة؛ قالا: لا يحل له أكله).
• وقال الإمام الذهبي رحمه الله: (ومعلوم أن الأطباء قالوا إنها دواء لبعض الأمراض، لكن يجوز أن الله تعالى سلبها المنفعة لمَّا حرمها، وأطلع على ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: هي داء وليست بدواء.
إلى أن قال: وفي رواية أبي طالب، ذكر لأحمد إن أبا ثور قال: يُتداوى بالخمر(!!)؛ فقال: هذا قول سوء؛ ولذلك نقل المروزي عنه أنه حكي له قول أبي ثور: إذا أجمعت الأطباء على أن يسقى المريض الخمر؟ قال: يسقى؛ ورواية المروزي: فأنكر أحمد هذا إنكاراً شديداً، ولذلك قال أحمد: (لا يجوز التداوي بالترياق لما فيه من لحوم الأفاعي والخمر، أوألقي فيه لحوم الحيات، فلا أرى أن يشربه؛ ولذلك قال في لبن الأتان: لا يشرب، ولا للضرورة، وكذلك أبوالها؛ والدليل ما روى أبوهريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من تداوى بحلال الله كان له فيه شفاء؛ وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الأتن وألبانها يوم خيبر، ويجوز شرب أبوال الإبل للضرورة، نص عليه في رواية أبي صالح محمد بن الحسن، وإسحاق بن إبراهيم، وحرب، وعبد الله، والأثرم، وإبراهيم بن الحارث، وأما شربها لغير ضرورة فهل يجوز؟ الصحيح أنه يجوز لحديث أنس المتقدم).
• وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في جواب سؤال: "هل يجوز التداوي بالخمر؟": (التداوي بالخمر حرام بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك جماهير أهل العلم.
إلى أن قال:
وليس هذا مثل أكل المضطر للميتة، فإن ذلك يحصل به المقصود قطعاً، وليس له عنه عوض، والأكل منها واجب، فمن اضطر إلى الميتة ولم يأكل حتى مات دخل النار، وهنا لا يعلم حصول الشفاء، ولا يتعين هذا الدواء، بل الله يعافي العبد بأسباب متعددة، والتداوي ليس بواجب عند جماهير العلماء، ولا يقاس هذا بهذا، والله أعلم.
وقال كذلك وقد سئل عن جواز التداوي بالخمر: أما التداوي بالخمر فإنه حرام عند جماهير الائمة كمالك، وأحمد، وأبي حنيفة، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي.
إلى أن قال:
والذين جوزوا التداوي بالمحرم قاسوا ذلك على إباحة المحرمات كالميتة والدم للمضطر، وهذا ضعيف لوجوه:
أحدها: أن المضطر يحصل مقصوده يقيناً بتناول المحرمات... وأما الخبائث بل وغيرها فلا يتعين حصول الشفاء بها، فما أكثر من يتداوى ولا يشفى.
الثاني: أن المضطر لا طريق له إلى إزالة ضرورته إلا الأكل من هذه الأعيان، وأما التداوي فلا يتعين تناول هذا الخبيث طريقاً لشفائه...
الثالث: أن أكل الميتة للمضطر واجب عليه في ظاهر مذهب الأئمة وغيرهم، كما قال مسروق: من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار؛ أما التداوي فليس بواجب عند جماهير الأئمة.
وسئل عن رجل وصف له شحم خنزير لمرض به، هل يجوز له ذلك أم لا؟ فأجاب: وأما التداوي بأكل شحم الخنزير فلا يجوز... وما أبيح للحاجة جاز التداوي به، كما يجوز التداوي بلبس الحرير على أصح القولين، وما أبيح للضرورة كالمطاعم الخبيثة فلا يجوز التداوي بها.
وسئل عن مريض قال له الأطباء: مالك دواء غير أكل لحم الكلب والخنزير؟ فأجاب: لا يجوز التداوي بالخمر وغيرها من الخبائث).(4/8)
• وقال العلامة ابن القيم عن قبح المعالجة بالمحرمات: (والمعالجة بالمحرمات قبيحة عقلاً وشرعاً، أما الشرع فما ذكرنا من الأحاديث وغيرها.
وأما العقل فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيباً عقوبة لها، كما حرمه على بني إسرائيل... وإنما حرم على هذه الأمة ما حرَّم لخبثه، وتحريمه له حماية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه فإن أثر في إزالتها، لكنه يعقب سَقماً أعظم منه في القلب، بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سُقم البدن بسَقم القلب.
وأيضاً: فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضد مقصود الشارع.
وأيضاً: فإنه داء كما نص عليه صاحب الشريعة، فلا يجوز أن يتخذ دواء.
وأيضاً: فإنه يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث، لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالاً بيناً...
وأيضاً: فإن في إباحة التداوي به، ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه، ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها، مزيل لأسقامها، جالب لشفائها، فهذا أحب شيء إليها، والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن، ولا ريب أن بين سد الذريعة إلى تناوله وفتح الذريعة إلى تناوله تناقضاً وتعارضاً).
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية عن حكم الشريعة الإسلامية في شرب الخمر عند ضرورة، كأن يكون الدكتور أمر بشربها؟
الجواب: (يحرم التداوي بشرب الخمر، وأي شيء مما حرم الله من الخبائث عند جماهير العلماء.
وقالت بعد أن ذكرت الأدلة التي نهت عن التداوي بالحرام:
ومن أباح التداوي بالخمر قاسه على إباحة أكل الميتة والدم للمضطر، وهو مع معارضته للنص ضعيف، لأنه قياس مع الفارق، إذ أن أكل الميتة والدم تزول بهما الضرورة ويُحفظ الرمق، وقد تعين طريقاً لذلك، أما شرب الخمر للتداوي فلا يتعين إزالة المرض به، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه داء وليس بدواء، ولم يتعين طريقاً للعلاج، ورحم الله مسلماً استعان في علاج مرضه بما أباح الله من الطيبات، واكتفى به عما حرمه الله سبحانه من الخبائث المحرمات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم).
وسأل اللجنة سائل قائلاً: أنا طبيب ومهمتي تقتضي التداوي بالمخدرات أحياناً، مثل المورفين، والكوكايين، والفاليوم، فما حكم الإسلام في ذلك؟
الجواب: (لا يجوز التداوي بالمحرمات لثبوت الأدلة الشرعية الدالة على التحريم).
?
الخلاصة
• أن العلاج والتداوي بالحرام والنجس لا يحل أبداً، وهذا مذهب العامة من أهل العلم، وما ذهب إليه بعض الشافعية مردود، وما قاله أبوثور فهو قول سوء مرذول.
• وأنه لا فرق في ذلك بين الخمر وغيرها من المحرمات والخبائث.
• أن العلاج بالحلال الطيب ليس واجباً عند جماهير العلماء.
• أن العلاج ليس متيقناً بالأدوية الطيبة، دعك عن الأدوية المحرمة الخبيثة، ولهذا لا يقاس العلاج بالمحرم بأكل المضطر للميتة مثلاً.
• ليس كل خلاف يُستراح له ويُعمل به، وإنما الخلاف المعتبر الذي يقوم على الدليل، سواء كان راجحاً أم مرجوحاً.
• لا يحل لأحد تتبع زلات العلماء وسقطاتهم مهما كانت منزلة القائل بها، كالزلة التي وقع فيها أبوثور رحمه الله على جلالة قدره، حتى حق للإمام أحمد أن يصف قوله هذا بأنه قول سوء.
اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعي
=================0000000000
حكم التداوي بالمحرمات
التداوي من الأمراض قد يكون بأدوية مباحة، وقد يكون بأدوية محرمة. ومن الأدوية المحرمة: التداوي بالمواد المسكرة، أو المخدرة، أو التداوي بالذهب أو الفضة في حق الرجال، أو بلبس الحرير في حقهم كذلك، أو اتخاذ الأدوية النجسة أو الخبيثة، أو التداوي بسماع الغناء والمعازف، أو بالسم أو ما اشتمل عليه، أو نحو ذلك.
وفي البداية أقرر اتفاق الفقهاء على حرمة التداوي بالمحرم مطلقاً، إذا لم تَدْعُ الضرورة إليه، بأن وجد البديل المباح الذي يغني عنه، أما إذا دعت إليه الضرورة فقد اختلف الفقهاء في حكم التداوي به على مذهبين:
? المذهب الأول: يرى أصحابه جواز التداوي بالمحرم، على تفصيل بينهم في ذلك.(4/9)
إلى هذا ذهب بعض الحنفية؛ إذ يرون جواز الاستشفاء بالحرام إذا أخبر طبيب مسلم أن فيه شفاء للمريض، ولم يوجد دواء مباح يقوم مقامه في التداوي به من المرض، وما عليه مذهب الشافعية وقطع به جمهورهم هو جواز التداوي بالمحرمات بسبب النجاسة ـ غير المسكر ـ إذا لم يوجد طاهر يقوم مقامها في التداوي، وكان المتداوي عارفاً بالطب، يعرف أنه لا يقوم غير النجس مقامه في المداواة، أو كان يعرف ذلك من تجربة سابقة له مع المرض، أو أخبره طبيب مسلم بذلك، وأما الطاهرات المحرمة كالحرير ونحوه فيجوز التداوي به في أظهر قولين في المذهب، بالقيود السابقة في التداوي بالنجس، ومذهب الظاهرية جواز التداوي بالمحرم مطلقاً، إلا لحوم بني آدم، وما يقتل من تناوله، فلا يحل التداوي به وإن دعت إليه الضرورة(1).
? المذهب الثاني: يرى من ذهب إليه أنه لا يجوز التداوي بالمحرم.
إلى هذا ذهب جمهور الحنفية، وهو مذهب المالكية، ووجه في مذهب الشافعية، وإليه ذهب الحنابلة(2).
أدلة المذهبين:
استدل أصحاب المذهب الأول على جواز التداوي بالمحرم بشرطه بما يلي:
أولاً: الكتاب الكريم: قال ـ تعالى ـ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119].
وجه الدلالة من الآية: أسقط الحق ـ سبحانه ـ تحريم ما فصل تحريمه عند الضرورة إليه؛ فكل محرم هو عند الضرورة حلال، والتداوي بمنزلة الضرورة، فيباح فيه تناول هذه المحرمات للتداوي بها استناداً إلى هذه الآية.
ثانياً: السنة النبوية المطهرة: روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن رهطاً من عرينة أتوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: إنا اجتوينا المدينة، وعظمت بطوننا، وارتهست أعضادنا، فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يلحقوا براعي الإبل، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فلحقوا براعي الإبل، فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صلحت بطونهم وأبدانهم، ثم قتلوا الراعي وساقوا الإبل، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبعث في طلبهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وأُلقُوا في الحرة يستسقون فلا يُسقَوْن»(1).
وجه الدلالة منه:
رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء القوم بشرب أبوال الإبل على سبيل التداوي مما أصابهم من مرض، وقد صحت أبدانهم بعد شربه، والتداوي ـ كما قال ابن حزم ـ بمنزلة الضرورة التي ترخص في تناول المحرم، ولا يعد تناوله في هذه الحالة محرماً؛ فإن ما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المأكل والمشرب(2).
اعتُرض على الاستدالال به بما يلي:
أ - قال العيني والمرغيناني: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خص العرنيين بذلك، لما عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا، فلا يحل تناوله لعدم تيقن الشفاء فيه، فلا يعرض على الحرمة، وهو كما خص الزبير بن العوام بلبس الحرير لحكة كانت به أو للقمل(3)، أو لأنهم كانوا كفاراً في علم الله تعالى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس(4).
أجيب عن هذا الاعتراض:
قال ابن المنذر: من زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام فلم يصب؛ إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل، ويؤيد هذا تقرير أهل العلم استعمال الناس أبوال الإبل في أدويتهم قديماً وحديثاً، وعدم إنكارهم ذلك(5).
رد هذا الجواب:
قال ابن حجر: إن المختلف فيه لا يجب إنكاره، فلا يدل ترك إنكاره على جوازه(6).
ب - قال السرخسي: حديث أنس رواه قتادة عنه، وفيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص للعرنيين في شرب ألبان الإبل ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكر هذا في رواية حميد الطويل عنه، والحديث حكاية حال، فإذا دار بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة، فإنه يسقط الاحتجاج به(7).
ج - افترض العيني اعتراضاً حيث قال: إن أبوال الإبل كانت محرمة الشرب، فلا يجوز التداوي به(8)؛ لِمَا روي عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله ـ تعالى ـ لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها»(9)، وما روي عن أبي الدرداء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله ـ عز وجل ـ أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام»(10).
أجيب عن هذا الاعتراض بما يلي:
1- قال البيهقي: هذان الحديثان ـ إن قيل بصحتهما ـ يُحمَلان على النهي عن التداوي بالمسكر، أو على التداوي بكل محرم في غير حال الضرورة إلى التداوي به، جمعاً بينهما وبين حديث العرنيين(11).
2- قال ابن حزم: إن الحديث الذي روي عن أم سلمة باطل؛ لأن في سنده سليمان الشيباني، وهو مجهول، وقد جاء اليقين بإباحة الميتة والخنزير عند خوف الهلاك من الجوع؛ فقد جعل الله ـ تعالى ـ شفاءنا من الجوع المهلك فيما حرم علينا في غير تلك الحال.(4/10)
ونقول: نعم إن الشيء ما دام حراماً علينا فلا شفاء لنا فيه، فإذا اضطررنا إليه فلا يحرم علينا حينئذ، بل هو حلال، فهو لنا حينئذ شفاء، وهذا ظاهر الخبر(1).
3 - قال بعض العلماء: إن حديث أم سلمة وقع جواباً لمن سأل عن التداوي بالخمر وغيره من سائر المسكرات، فلا يجوز إلحاق غير المسكر به؛ لأن شرب المسكر يجر إلى مفاسد كثيرة، ولأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن في الخمر شفاء، فجاء الشرع بخلاف ذلك(2).
رد جواب هؤلاء بما يلي:
1- قال العيني: حديث أم سلمة أخرجه ابن حبان في صحيحه وصححه، وسليمان الشيباني أحد الثقات، وقول من يدعي خصوصية هذا بالخمر قول مردود؛ لأن دعوى الخصوصية لا تسمع إلا بدليل، والجواب القاطع عن هذا: أن حرمة التداوي بالمحرم محمول على حال الاختيار، وأما في حال الاضطرار فلا يكون حراماً، كتناول الميتة في المخمصة، والخمر عند العطش وإساغة اللقمة(3).
2 - قال الشوكاني: إن قصر النهي عن التداوي بالمحرم على الخمر فقط، قصر للعام على السبب بدون موجب، والمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب، وأما النهي عن التداوي بالمحرم فهو محمول على التداوي به حال الاختيار، وأما في حال الضرورة فلا يكون حراماً، كإباحة تناول الميتة للمضطر؛ فالنهي عن التداوي بالحرام باعتبار الحالة التي لا ضرورة فيها، والإذن بالتداوي بأبوال الإبل باعتبار حالة الضرورة وإن كان حراماً، ولو سلم بهذا فالتداوي إنما وقع بأبوال الإبل خاصة، فلا يجوز إلحاق غيره به، لما ثبت من حديث ابن عباس مرفوعاً: «إن في أبوال الإبل شفاء للذربة بطونهم»(4)، ولا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه(5).
استدل أصحاب المذهب الثاني على حرمة التداوي بالمحرم بما يلي:
أولاً: الكتاب الكريم:
قال ـ تعالى ـ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
وجه الدلالة من الآية:
أفادت هذه الآية أن الشارع حرم تناول كل خبيث، ولو كان هذا لأجل التداوي به، سواء كان خبثه لنجاسته أو لغيرها.
ثانياً: السنة النبوية المطهرة:
1 - روي عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها».
2 - روي عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام».
وجه الدلالة منهما:
بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أم سلمة، أن الله ـ تعالى ـ لم يجعل فيما حرمه على هذه الأمة شفاء مما يصيبها من الأدواء، فدل على عدم جواز التداوي بالمحرم؛ لأنه لا أثر له في الشفاء من الأمراض، ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي الدرداء عن التداوي بالمحرم، والنهي يفيد التحريم عند الإطلاق؛ لأنه حقيقته، فأفاد كسابقه حرمة التداوي بالمحرم، سواء كانت حرمته بسبب نجاسته أو استقذاره أو غير ذلك.
اعترض على الاستدلال بهما بما سبق أن اعترض به عليهما، وأجيب عن هذه الاعتراضات بما أجيب به عليها من قبل(6).
وقد تأول بعض العلماء هذين الحديثين بما يلي:
أ - قال النووي: إن النهي عن التداوي بالمحرم في حديثيْ أم سلمة وأبي الدرداء، محمول على حال عدم الحاجة إلى التداوي به، بأن يكون هناك من الأدوية المباحة ما يقوم مقام المحرم في التداوي به(1).
ب - قال البيهقي: إن هذين الحديثين إن صحا فإنهما يحملان على النهي عن التداوي بالمسكر، أو التداوي بكل محرم في غير حال الضرورة، ليكون جمعاً بينهما وبين حديث العرنيين(2).
تعقب الشوكاني قوله هذا:
قال: لا يخفى ما في هذا الجمع من التعسف؛ فإن أبوال الإبل يمنع الخصم اتصافها بكونها حراماً أو نجساً، وعلى فرض التسليم بذلك فالواجب الجمع بين العام، وهو تحريم التداوي بالحرام، وبين الخاص وهو الإذن بالتداوي بأبوال الإبل، بأن يقال: يحرم التداوي بكل حرام إلا أبوال الإبل، هذا هو القانون الأصولي(3).
ج - قال العيني: «الجواب القاطع أن الحكم الذي جاء به حديث أم سلمة (وفي حكمه حديث أبي الدرداء) من حرمة التداوي بالمحرم، محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار فلا يكون حراماً، كتناول الميتة في المخمصة، والخمر عند العطش وإساغة اللقمة، وقال ابن رسلان والشوكاني بمثل ذلك»(4).
د - قال ابن البزار: إن حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ فيه نفي الحرمة عن الدواء المحرم، إذا علم أن فيه شفاء، ولم يوجد ما يقوم مقامه من الأدوية المباحة، ومعنى هذا الحديث وفقاً لذلك: إن الله أذن لكم بالتداوي، وجعل لكل داء دواء؛ فإذا كان في ذلك الدواء شيئاً محرماً، وعلمتم به الشفاء، فقد زالت حرمة استعماله؛ لأنه ـ تعالى ـ لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم»(5).(4/11)
هـ - قال ابن عابدين: «إن معنى «لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم»: يحتمل أن يكون هذا القول قد قيل في داء عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذ يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تتكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء بالحرام، وإنما يكون بالحلال»(6).
3 - روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الدواء الخبيث»(7).
وجه الدلالة منه:
أفاد هذا الحديث حرمة التداوي بالدواء الخبيث، وقد اختلف العلماء في المراد بالدواء الخبيث، فقال الحاكم: هو الخمر بعينه بلا شك، وقال الترمذي وابن ماجة: هو السم، وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون هو الدواء المكروه الذي تنفر النفس عنه، لما فيه من المشقة، والعوض عنه موجود. ويحتمل أن يريد به ما يجمع الضار والنافع كالترياق، ويحتمل أن يريد به الخمر، ويحتمل أن يريد به ما تستعمله العامة من الأدوية المجهولة، مما تسقيه أو تكتب فيه، توهم الناس أنه علم وهو سخافة وتلاعب، أو مما يعلقونه: كالخرز والودع، وقال الخطابي: قد يكون خبث الدواء من وجهين: أحدهما خبث النجاسة، وهو أن يدخله المحرم كالخمر ونحوها من لحوم الحيوانات غير المأكولة اللحم، وقد يصف الأطباء بعض الأبوال وعذرة بعض الناس لبعض العلل، وهي كلها خبيثة نجسة، وتناولها محرم، إلا ما خصته السنة من أبوال الإبل، وسبيل السنن أن يقر كل شيء منها في موضعه، وألا يضرب بعضها ببعض، الوجه الثاني: أن خبث الدواء قد يكون من جهة الطعم والمذاق، ولا ينكر أن يكون قد كره ذلك لما فيه من المشقة على الطباع، ولتكره النفوس إياه، والغالب أن طعوم الأدوية كريهة ولكن بعضها أيسر احتمالاً وأقل كراهة من بعض(8)، فإذا كان المراد بالدواء الخبيث هو المحرم أو المشتمل عليه، فإن هذا الحديث دليل على حرمة التداوي بالمحرم.
تأول بعض العلماء هذا الحديث:
أ - قال النووي: «إن النهي عن التداوي بالدواء الخبيث محمول على الحال التي لا تكون فيها ضرورة إليه، بأن يكون هناك دواء غير خبيث يغني عنه ويقوم مقامه»(1).
ب - قال البيهقي: «إن هذا الحديث إن قيل بصحته، محمول على النهي عن التداوي بالمسكر، أو على التداوي بكل محرم في غير حال الضرورة، ليكون جمعاً بينه وبين حديث العرنيين(2).
تعقب الشوكاني قوله هذا بما تعقب به هذا القول من قبل»(3).
ثالثاً: قول الصحابي:
1 - روي عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «إن الله ـ تعالى ـ لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم»(4).
وجه الدلالة منه:
نفي هذا الخبر أن يكون فيما حرم الله ـ سبحانه ـ على هذه الأمة شفاء، فدل هذا على عدم جواز التداوي بالمحرم.
تأول بعض العلماء هذا الخبر:
قال ابن عابدين والبابرتي: قول ابن مسعود هذا يحتمل أن يكون قد صدر عنه في داء عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذ يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تنكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء بالحرام، وإنما يكون بالحلال(5).
2- روي عن نافع مولى ابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ قال: «كان ابن عمر إذا دعا طبيباً يعالج بعض أهله اشترط عليه أن لا يداوي بشيء مما حرم الله عز وجل»(6).
وجه الدلالة:
أفاد هذا الأثر أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان لا يرى جواز التداوي بالمحرم، ومثل هذا لا يكون منه إلا عن توقيف؛ لأنه لا مدخل للرأي فيه.
رابعاً: المعقول:
1- إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ إنما حرم ما حرمه على هذه الأمة لخبثه، حماية وصيانة لها عن تناوله؛ فلا يناسب هذا أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل؛ فإنه إن أثر في إزالتها أعقب سقماً أعظم منها في القلب، بقوة الخبث الذي فيه؛ فمن يتداوى به يكون قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب(7).
2 - إن مقتضى تحريم شيء تجنبه والبعد عنه، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته، وهذا يخالف مقصود الشارع(8).
3 - إن الدواء المحرم خبيث، ويكسب نفس المتداوي به صفة الخبث؛ لأن النفس تتأثر بكيفية الدواء تأثراً بيناً؛ فإذا كانت كيفيته خبيثة اكتسبت النفس منه خبثاً(9).
4 - إن في إباحة التداوي بالمحرم ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها، مزيل لأسقامها، وكانت تميل إليه؛ فهذا أحب شيء لها، وقد سد الشارع الذريعة إلى تناوله بكل ممكن، وثمة تعارض وتناقض بين سد الذريعة إلى تناوله وفتحها(10).
المناقشة والترجيح:(4/12)
إن الذي تركن النفس إليه من هذين المذهبين ـ بعد الوقوف على أدلتهما، وما اعترض به على بعضها، وما أجيب به عن بعض هذه الاعتراضات ـ هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول، من جواز التداوي بالمحرم في الجملة، إذا ثبت أن فيه دواء لداء معين، ولم يوجد دواء مباح يقوم مقامه في التداوي به من هذا الداء، ووصف الدواء المحرم طبيب مسلم عدل ثقة حاذق بالطب، أو كان المريض يعلم أنه لا ينفع في مرضه إلا هذا المحرم، لمعرفته بالطب، أو لتجربة سابقة له مع هذا المرض، ولم يكن في التداوي به ـ والحال هذه ـ اعتداء على حياة محقون الدم أو صحته، وكان الغالب من استعمال هذا الدواء السلامة لمن استعمله، وذلك لما استدل به أصحاب المذهب الأول من الكتاب الكريم والسنة المطهرة.
وأما ما استدل به أصحاب المذهب الثاني على حرمة التداوي بالمحرم فإنها محمولة على التداوي به في غير حال الضرورة إليه، كما قال ابن عابدين والبابرتي والعيني والبيهقي والنووي وغيرهم، أو أن الحرمة تزول عند الحاجة إلى استعمال الدواء المحرم، فلا يكون التداوي في هذه الحالة بمحرم، وإنما يكون بالحلال كما قال ابن البزاز وابن حزم وغيرهما، وحل التداوي به في هذه الحالة لا يقتضي الترغيب فيه وملابسته كما يقول أصحاب هذا المذهب؛ وذلك لأنه لا يتداوى به إلا عند الضرورة إليه، وهي حال نادرة التحقق، وإذا تحققت فلا تقتضي دوام ملابسته، للاقتصار منه على ما تندفع به الضرورة.
0000000000000
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 1 / ص 1841)
رقم الفتوى 4214 التداوي مشروع بما لم تعلم حرمته
تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420
السؤال
أنا أتعالج من مرض الاكتئاب وأعطاني الدكتور دواء وأنا لا أعلم إذا كان الدواء مركبا من محرمات أم لا . سؤالي هو: هل يجوز استعماله لأنني قرأت في كتاب بأن التداوي بالحرام لا يجوز.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالتداوي مشروع ولم ينزل الله داءً إلا جعل له دواءً. وفي سنن الترمذي عن أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: "نعم عباد الله، تداووا فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً إلا داءً واحدا"ً. قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: "الهرم". وقد ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتداوى وأصحابه كانوا يتداوون.
وعليه فلا حرج عليك أن تتداوى عند هذا الطبيب، وتستعمل الدواء الذي يعطيك، إلا إذا علمت أنه اشتمل على ما هو محرم فاجتنبه، ولست مطالباً بالبحث عما اشتمل عليه: أمحرم أم لا. لأن الأصل في الأشياء الإباحة، هذا إذا لم يخبرك مخبر أنه مركب مما هو محرم، وننصحك بوصفة نافعة لما تعانيه وهي التوبة إلى الله تعالى وكثرة الاستغفار والأعمال الصالحة وتقوية وترسيخ الإيمان بالله تعالى والتسليم لقضائه وقدره، وتفويض الأمر كله إليه، وعليك بقراءة القرآن خاصة، فإن فيه شفاءً لما في الصدور، وعليك بذكر الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكثرة الالتجاء إلى الله تعالى.
----
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 9 / ص 162)
رقم الفتوى 70195 موقف الشرع من التداوي بالشرك والكفر
تاريخ الفتوى : 24 ذو القعدة 1426
السؤال
تعاني زوجتي ومنذ فترة لا بأس بها من آلام في الرأس بشكل متكرر مع دوار تمت مراجعة عدة أطباء من اختصاصات مختلفة (قلبية، عامة، أذنية، غدد..) دون فائدة تذكر.
في الآونة الأخيرة ازدادت آلام الرأس وبدأت تشعر بخوف وضيق تنفس وعصبية زائدة وكثرة المنامات المخيفة وأحياناً الكوابيس راجعنا إحدى العارفات بالله فأفادتها بأنها تحتاج إلى صلحة (ذبح خروف في منزلنا بوجودها أي العارفة بالله). أصبحنا في حيرة من أمرنا
أفيدونا زادكم الله خيراً مع العلم بأن زوجتي لا تنقطع عن تلاوة القرآن الكريم وأداء الصلاة في مواعيدها تماماً.
سؤالنا: ما الذي يحصل لها وهل كلام العارفة بالله صحيحاً (كوننا نجهل هذه المواضيع) وما العلاج المناسب في مثل حالتها ؟
زادكم الله خيراً وجزاكم عنا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(4/13)
فلربما كان الذي أصاب زوجتك سحراً أو حسداً أو مساً من الجن ، والمرجع في هذا لأهل الاختصاص بعلاج ما ذكرنا من احتمالات ، وبغض النظر عما ألمَّ بزوجتك من أعراض فإنه لا يجوز بحال معالجة السحر بذبح الذبائح، سواء أكان المذبوح خروفاً أو غيره ، وما تدعيه هذه المرأة محض كذب وافتراء ، وإنما هي مشعوذة دجالة من الدجالين الذين يتعاملون مع الشياطين ، والذبح لهم شرك بالله عياذاً بالله من ذلك ، وهذا هو الوصف الصائب لها ولأمثالها ، ولا ينبغي وصفها بأنها عارفة بالله ، قال الدكتور عمر سليمان الأشقر في كتابه عالم الجن والشياطين : وبعض الناس يحاولون استرضاء الجني الذي يصرع الإنسان بالذبح له ، وهذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله ، وروي أنه نهى عن ذبائح الجن ، وقد يزعم بعض الناس أن هذا من باب التداوي بالحرام ، وهذا خطأ كبير ، فالصواب أن الله لم يجعل الشفاء في شيء من المحرمات ، وعلى القول بجواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخمر ، فلا يجوز أن يستدل بذلك على الذبح للجني ، لأن التداوي بالمحرمات فيه نزاع لبعض العلماء ، أما التداوي بالشرك والكفر فلا خلاف بين العلماء في تحريمه ، ولا يجوز التداوي به باتفاق . انتهى
وعلى هذا.. فنحذر الأخ السائل من ذبح خروف أو غيره ، كما نحذره من التعامل مع هذه المرأة التي تتعاطى هذا الأمر ، فإذا أراد معالجة السحر فعليه أن يلتجئ إلى الله سائلاً إياه العافية والرحمة من هذا البلاء ، وعليه أن يتحصن بالرقى والأذكار الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسيجدها في كتب الأذكار : كالكلم الطيب لشيخ الإسلام ، وصحيحه ل لألباني ، والوابل الصيب لابن القيم ، والأذكار للنووي ، وتحفة الذاكرين للشوكاني ، كما يمكنك أن تستعين براق يحسن الرقية بكتاب الله كالفاتحة ، وآية الكرسي ، والمعوذات وغيرها ، وبالرقى والأذكار الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أن يكون الراقي صالحاً ذا دين متبعاً الكتاب والسنة .
يقول الدكتور الأشقر في عالم الجن والشياطين : وينبغي للمعالج أن يكون قوي الإيمان بالله معتمداً عليه ، واثقاً بتأثير الذكر وقراءة القرآن ، وكلما قوي إيمانه وتوكله قوي تأثيره ، فربما كان أقوى من الجن فأخرجه ، وربما كان الجني أقوى فلا يخرج ، وربما كان المخرج للجني ضعيفاً فتقصد الجن إيذاءه، فعليه بكثرة الدعاء والاستعانة عليهم بالله ، وقراءة القرآن ، خاصة آية الكرسي . انتهى
وراجع الفتوى رقم : 67018 ، ولمعرفة ما يفعله المرء عند حصول الأحلام المزعجة والكوابيس ، راجع الفتاى ذات الأرقام التالية : 31518 // 68043 // 40025 ، ولمعرفة علاج السحر والعين وصفات المعالج بالقرآن راجع الفتوى رقم: 2244 // 5689 // 5252 // 10981 // 6347 .
والله أعلم .
------
قافلة الداعيات - (ج 175 / ص 11)
ــ الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس :
عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية ـ على أثر سماء كانت من الليلة ـ فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب . وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب " رواه البخاري أنظر فتح الباري 2/333 . ومن ذلك اللجوء إلى أبراج الحظ في الجرائد والمجلات فإن اعتقد ما فيها من أثر النجوم والأفلاك فهو مشرك وإن قرأها للتسلية فهو عاص آثم لأنه لا يجوز التسلي بقراءة الشرك بالإضافة لما قد يلقي الشيطان في نفسه من الاعتقاد بها فتكون وسيلة للشرك .
ــ ومن الشرك اعتقاد النفع في أشياء لم يجعلها الخالق عز وجل كذلك كما يعتقد بعضهم في التمائم والعزائم الشركية وأنواع من الخرز أو الودع أو الحلق المعدنية وغيرها بناء على إشارة الكاهن أو الساحر أو اعتقاد متوارث فيعلقونها في رقابهم أو على أولادهم لدفع العين بزعمهم أو يربطونها على أجسادهم أو يعلقونها في سياراتهم وبيوتهم أو يلبسون خواتم بأنواع من الفصوص يعتقدون فيها أمورا معينة من رفع البلاء أو دفعه وهذا لاشك ينافي التوكل على الله ولا يزيد الإنسان إلا وهنا وهو من التداوي بالحرام وهذه التمائم التي تعلق في كثير منها شرك جلي واستغاثة ببعض الجن والشياطين أو رسوم غامضة أو كتابات غير مفهومة وبعض المشعوذين يكتبون آيات من القرآن ويخلطونها بغيرها من الشرك وبعضهم يكتب آيات القرآن بالنجاسات أو بدم الحيض وتعليق كل ما تقدم أو ربطه حرام لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من علق تميمة فقد أشرك ) رواه أحمد 4/156 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 492 .
=================00
حكم التداوي بأبوال الإبل
حكم التداوي بأبوال الإبل (2/1)
أ.د. عبدالفتاح محمود إدريس(4/14)
لقد كان للآثار الجانبية لكثير من الأدوية الكيميائية أثر في عودة الناس إلى الطبيعة، ليأخذوا منها أدويتهم، ويختاروا منها ما يتفق وفطرتهم التي فُطِروا وفُطِر أسلافهم عليها، فلا ينكر أحد الوصفات العلاجية من عناصر الطبيعة لكثير من الأمراض، التي ما زال السلف يورثون كيفية التعالج بها إلى الخلف، ولا يعدم المرء في أي مجتمع من المجتمعات مهما كانت درجة رقيه وتقدمه، من له علم ودراية وخبرة بكيفية التداوي بعناصر الطبيعة، من أعشاب أو زهور أو نباتات أو بذور أو نحوها، وكيفية إعدادها للتعالج بها من الأدواء المختلفة، وانطلاقاً من هذا الموروث الذي يعود إليه الكثيرون في زماننا، كان هذا المقال يتناول موقف الفقه الإسلامي من التعالج بأبوال الإبل، هذا الدواء الذي عرفه الأقدمون، وتعالجوا به من أدواء عدة، والذي عكف بعض الباحثين المعاصرين على استجلاء آثاره في المداواة من الأمراض، ومدى تأثيره في البدن المريض، ولقد كان للنتائج التي تمخضت عنها بحوثهم أثر في الوقوف على كثير من الجوانب العلاجية له؛ ولذا كان من المناسب بيان حكم التداوي بها من الأمراض التي تفيد فيها، بعد بيان حكم تناولها حال الاختيار، والأثر العلاجي لها من الأمراض.
حكم تناول أبوال الإبل حال الاختيار:
لا خلاف بين العلماء على أنه لا يباح تناول أبوال الحيوانات في حال الاختيار، سواء كانت مأكولة اللحم، ومنها الإبل، أو لم تكن، وسواء قيل بطهارتها أو نجاستها(1).
استدل لحرمة تناول أبوال الحيوانات لغير ضرورة أو حاجة بما يلي:
السنة النبوية المطهرة: أحاديث منها:
1- روي عن أبي هريرة } أن النبي { قال: "استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه"(2).
وجه الدلالة منه:
أمر رسول الله { بالتباعد عن البول والتحرز منه، والأمر بهذا يفيد وجوبه، وقد بين رسول الله { أن البول يكون سبباً في عذاب من لا يستنزه منه، وأنه يعجل له به في قبره، وهذا العذاب لا يكون إلا على فعل أمر حرمه الشارع، وقد عم رسول الله { في الأمر بالاستنزاه من البول، ولم يفصل بين نوع منه وآخر، وهذ يقتضي حرمة ملامسة البول أو ملابسته، وعدم التحرز منه مطلقاً، سواء كان بول آدمي أو غيره، وسواء كانت ملامسته للشرب أو لغيره، والتمسك بعموم هذا الحديث في الأبوال كلها أولى - كما قال العيني والبابرتي وابن حزم -(3) لأنه ظاهر في تناول جميع الأبوال، فيجب اجتنابها لهذا الوعيد.
2- روي عن جسرة قالت: حدثتني عائشة رضي الله عنها قالت: "دخلت على امرأة من اليهود، فقالت: إن عذاب القبر من البول، فقلت: كذبت، فقالت: بلى، إنا لنقرض منه الثوب والجلد، فخرج رسول الله { إلى الصلاة وقد ارتفعت أصواتنا، فقال: ما هذه؟، فأخبرته بما قالت، فقال: صدقت، فما صلى بعد يومئذ إلا قال في دبر الصلاة: رب جبريل ورب ميكائيل واسرافيل أعذني من حر النار وعذاب القبر"(4).
وجه الدلالة منه:
صدّق رسول الله { هذه اليهودية فيما قالته، من أن عذاب القبر من البول، والبول في الحديث عام، فيشمل جميع الأبوال سواء كانت من آدمي أو غيره، وقد أفاد الحديث أن ملامسة البول وعدم التحرز منه في البدن والثوب يوجب استحقاق العذاب، فدل على حرمة تناوله لغير ضرورة أو حاجة.
3- ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مر رسول الله { بقبرين، فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر كسرة، فقيل: يا رسول الله لم فعلت هذا؟، فقال: لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا"(5).
وجه الدلالة منه:
بين رسول الله { في هذا الحديث أن عدم التوقي أو التحرز من البول كبيرة، وأنه يعجل لمرتكبها العذاب في قبره، وهذا يدل على حرمة ملابسة الأبوال عامة بأي وجه من الوجوه؛ لما يفيده عموم هذا الحديث، وقال ابن حزم: "افترض رسول الله { على الناس اجتناب البول جملة، وتوعد على ذلك بالعذاب، وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه بول دون بول، ومن يدعي الخصوصية فيه يكون مدعياً على الله تعالى وعلى رسوله { ما لا علم له به بالباطل، إلا بنص ثابت، وقد وجدنا أن رسول الله { سمى البول جملة، والنجو(6) جملة "الأخبثين"، والخبيث محرم، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله { يقول: "لا يصلي بحضرة طعام، ولا هو يدافع الأخبثين"(7)، وقد قال الله تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث(157) {الأعراف: 157}، فصح أن كل أخبث وخبيث حرام(8).
اعترض على الاستدلال به ممن يرى طهارة أبوال الإبل:
أ- قال الصنعاني: إن الحديث نص في بول الإنسان؛ لأن الألف واللام في البول للعهد، أو هي عوض عن المضاف إليه، أي: عن بوله، ومن حمل الحديث في جميع الأبوال، وأدخل فيه أبوال الإبل فقد تعسف(9).
ب - افترض ابن حزم اعتراضان على الاستدلال بعموم هذا الحديث في الأبوال كافة:(4/15)
قال في أحدهما: إنما خاطب رسول الله { الناس، فأراد نجوهم وبولهم فقط.
أجاب عنه:
قال نعم، إنما خاطب رسول الله { الناس، ولكن أتى بالاسم الأعم الذي يدخل تحته جنس البول والنجو، ولا فرق بين من قال: إنما أراد عليه الصلاة والسلام نجو الناس وبولهم خاصة، وبين من قال: إنما أراد عليه الصلاة والسلام بول كل إنسان عليه خاصة، لا بول غيره من الناس، وكذلك في النجو، فصح أن الواجب حمل ذلك على ما تحت الاسم الجامع للجنس كله.
وقال في الثاني: إن هذا الخبر الذي فيه العذاب في البول، إنما هو من رواية الأعمش عن مجاهد، وقد تكلم فيها، وأيضاً فإنه مرة رواه عن مجاهد عن ابن عباس، ومرة عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس، وأيضاً فإن ابن راهويه ومحمد بن العلاء ويحيى وأبا سعيد الأشج رووه عن وكيع عن الأعمش، فقالوا فيه: "كان لا يستتر من بوله"، وهكذا رواه عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن مجاهد.
أجاب عنه:
قال: هذا كله لا شيء، أما رواية الأعمش عن مجاهد، فإن شعبة ووكيع ذكرا في هذا الحديث سماع الأعمش له من مجاهد، فسقط هذا الاعتراض، وأيضاً فقد رويناه من غير طريق الأعمش، لكن من طريق منصور عن مجاهد عن ابن عباس، فسقط التعلل جملة، وأما روايته مرة عن مجاهد عن ابن عباس، ومرة عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس، فهذا قوة للحديث، فكلاهما صحب ابن عباس، فسمعه مجاهد من ابن عباس، وسمعه كذلك من طاوس عن ابن عباس فرواه كذلك، ولا شيء في هذا مما يقدح في الرواية، وأما رواية من روي "من بوله"، فقد عارضهم من فوقهم، فرواه زهير ابن حرب ومحمد بن المثني ومحمد بن بشار كلهم عن وكيع، فقالوا: "من البول"، ورواه ابن عون وابن جرير عن أبيه عن منصور عن مجاهد فقالا: "من البول"، ورواه شعبة وعبيدة بن حميد عن منصور عن مجاهد فقالا: "من البول"، ورواه شعبة وأبو معاوية الضرير وعبد الواحد بن زياد عن الأعمش، فقالوا: "من البول"، فكلا الروايتين حق، ورواية هؤلاء تزيد على رواية الآخرين، وزيادة العدل واجب قبولها، فسقط كل ما تعللوا به، وصح فرضاً وجوب اجتناب كل بول ونجو(10).
الاستعمالات الطبية لأبوال الإبل:(4/16)
كانت أبوال الحيوانات توصف قديماً لعلاج بعض الأمراض التي يظن نفعها فيها، ومن ذلك: استعمالها لعلاج القروح والحكة، والجرب والبرص، والبهق والحمى والتشنج، والاستسقاء وتضخم الطحال، وتسكين بعض الآلام، وتفتيت حصوات الكلى والمثانة، وعلاج نهش الأفاعي وعقر الكلاب، ونحو ذلك، وليس لكل أبوال الحيوانات هذه الخصائص في العلاج، وإنما ذلك لبعضها، وأبين في هذا الصدد ما ينفع بول الإبل في علاجه من الأمراض، قال ابن سينا في قانونه: أنفع الأبوال بول الجمل الأعرابي وهو "النجيب"، وبول الإبل يفيد في علاج مرض "الحزاز"(11)، وقد استخدمت أبوال الإبل وخاصة بول الناقة البكر كمادة مطهرة لغسل الجروح والقروح، ولنمو الشعر وتقويته وتكاثره ومنع تساقطه، وكذا لمعالجة مرض القرع والقشرة، وفي رسالة الماجستير المقدمة من مهندس تكنولوجيا الكيمياء التطبيقية محمد أوهاج محمد، التي أجيزت من قسم الكيمياء التطبيقية بجامعة الجزيرة بالسودان، واعتمدت من عمادة الشئون العلمية والدراسات العليا بالجامعة في نوفمبر 1998م بعنوان: (MEDICAL USES OF SOME ASTUDY ON THE CHEMICAL COMPOSITION THE URINE OF THE ARABIAN CAMEL - دراسة في المكونات الكيميائية وبعض الاستخدامات الطبية لبول الإبل العربية)، يقول محمد أوهاج: إن التحاليل المخبرية تدل على أن بول الجمل يحتوي على تركيز عالٍ من: البوتاسيوم والبولينا والبروتينات الزلالية والأزمولارتي، وكميات قليلة من حامض اليوريك والصوديوم والكرياتين، وأوضح في هذا البحث أن ما دعاه إلى تقصي خصائص بول الإبل العلاجية، هو ما رآه من سلوك بعض أفراد قبيلة يشربون هذا البول حينما يصابون باضطرابات هضمية، واستعان ببعض الأطباء لدراسة بول الإبل؛ حيث أتوا بمجموعة من المرضى ووصفوا لهم هذا البول لمدة شهرين، فصحت أبدانهم مما كانوا يعانون منه، وهذا يثبت فائدة بول الإبل في علاج بعض أمراض الجهاز الهضمي، كما أثبت أن لهذا البول فائدة في منع تساقط الشعر، ويقول: إن بول الإبل يعمل كمدر بطيء مقارنة بمادة الفيروسمايد FRUSAMIDE، ولكن لا يخل بملح البوتاسيوم والأملاح الأخرى التي تؤثر فيها المدرات الأخرى، إذ إن بول الإبل يحتوي على نسبة عالية من البوتاسيوم والبروتينات، كما أنه أثبت فعالية ضد بعض أنواع البكتيريا والفيروسات، وقد تحسن حال خمس وعشرين مريضاً استخدموا بول الإبل من الاستسقاء، مع عدم اضطراب نسبة البوتاسيوم واثنان منهم شفوا من آلام الكبد، وتحسنت وظيفة الكبد إلى معدلها الطبيعي كما تحسن الشكل النسيجي للكبد، ومن الأدوية التي تستخدم في علاج الجلطة الدموية مجموعة تسمى FIBRINOLTICS، تقوم آلية عمل هذه المجموعة على تحويل مادة في الجسم من صورتها غير النشطة PLASMINOGEN إلى الصورة النشطة PLASMIN، وذلك من أجل أن تتحلل المادة المسببة للتجلط FIBRIN أحد أعضاء هذه المجموعة هو UROKINASE الذي يستخرج من خلايا الكلى أو من البول كما يدل الاسم URO(12)، وقد كشف عميد كلية المختبرات الطبية بجامعة الجزيرة السودانية، البروفسير: أحمد عبدالله أحمداني عن تجربة علمية باستخدام بول الإبل لعلاج أمراض الاستسقاء وأورام الكبد، فأثبتت نجاحها لعلاج المرضى المصابين بتلك الأمراض، وقال في ندوة نظمتها جامعة الجزيرة: إن التجربة بدأت بإعطاء كل مريض يومياً جرعة محسوبة من بول الإبل مخلوطاً بلبنها حتى يكون مستساغاً، وبعد خمسة عشر يوماً من بداية التجربة انخفضت بطون أفراد العينة وعادت لوضعها الطبيعي وشفوا تماماً من الاستسقاء، وذكر أنه جرى تشخيص لأكباد المرضى قبل بداية الدراسة بالموجات الصوتية، وتم اكتشاف أن كبد خمسة عشر مريضاً من خمس وعشرين في حالة تشمع، وبعضهم كان مصاباً بتليف الكبد بسبب مرض البلهارسيا، وقد استجاب جميع المرضى للعلاج باستخدام بول الإبل، وبعض أفراد العينة من المرضى استمروا برغبتهم في شرب جرعات بول الإبل يومياً لمدة شهرين آخرين، وبعد نهاية تلك الفترة أثبت التشخيص شفاءهم جميعاً من تليف الكبد، وقال: إن بول الإبل يحتوي على كمية كبيرة من البوتاسيوم كما يحتوي على زلال ومغنسيوم، إذ إن الإبل لا تشرب في فصل الصيف سوى أربع مرات فقط ومرة واحدة في الشتاء، وهذا يجعلها تحتفظ بالماء في جسمها لاحتفاظه بمادة الصوديوم، إذ إن الصوديوم يجعلها لا تدر البول كثيراً؛ لأنه يرجع الماء إلى الجسم، وأوضح أن مرض الاستسقاء ينتج عن نقص في الزلال أو في البوتاسيوم، وبول الإبل غني بهما، وأشار إلى أن أفضل أنواع الإبل التي يمكن استخدام بولها في العلاج هي الإبل البكرية(13)، وقد أشرفت الدكتورة أحلام العوضي، المتخصصة في الميكروبيولوجيا بالمملكة العربية السعودية على بعض الرسائل العلمية امتداداً لاكتشافاتها في مجال التداوي بأبوال الإبل، ومنها رسالتا عواطف الجديبي، ومنال قطان، ومن خلال إشرافها على رسالة الباحثة منال القطان نجحت في تأكيد فعالية مستحضر تم إعداده(4/17)
من بول الإبل، وهو أول مضاد حيوي يصنع بهذه الطريقة على مستوى العالم، ومن مزايا المستحضر كما تقول د. أحلام: إنه غير مكلف ويسهل تصنيعه ويعالج الأمراض الجلدية: كالإكزيما والحساسية والجروح والحروق وحب الشباب وإصابات الأظافر والسرطان والتهاب الكبد الوبائي وحالات الاستسقاء، بلا أضرار جانبية، وقالت: إن بول الإبل يحتوي على عدد من العوامل العلاجية كمضادات حيوية (البكتيريا المتواجدة به والملوحة واليوريا)، فالإبل تحتوي على جهاز مناعي مهيأ بقدرة عالية على محاربة الفطريات والبكتريا والفيروسات، وذلك عن طريق احتوائه على أجسام مضادة(IgG)(14)، كما يستخدم في علاج الجلطة الدموية، ويستخرج منه FIBRINOLYTICS، والعلاج من الاستسقاء (الذي ينتج عن نقص في الزلال أو البوتاسيوم، حيث إن بول الإبل غني بهما)، كما أن في بول الإبل علاجاً لأوجاع البطن وخاصة المعدة والأمعاء، وأمراض الربو وضيق التنفس، وانخفاض نسبة السكر في المرضى بدرجة ملحوظة، وعلاج الضعف الجنسي، ويساعد على تنمية العظام عند الأطفال، ويقوي عضلة القلب، ويستخدم كمادة مطهرة لغسل الجروح والقروح، وخاصة بول الناقة البكر، ولنمو الشعر وتقويته وتكاثره ومنع تساقطه، ولمعالجة مرض القرع والقشرة، كما يستخدم بول الإبل في مكافحة الأمراض بسلالات بكتيرية معزولة منه، وقد عولجت به فتاة كانت تعاني من التهاب خلف الأذن يصاحبه صديد وسوائل تصب منها، مع وجود شقوق وجروح مؤلمة، كما عولجت به فتاة لم تكن تستطع فرد أصابع كفيها بسبب كثرة التشققات والجروح، وكان وجهها يميل إلى السواد من شدة البثور، وتقول الدكتورة أحلام: إن أبوال الإبل تستخدم أيضاً في علاج الجهاز الهضمي، ومعالجة بعض حالات السرطان، وأشارت إلى أن الأبحاث التي أجرتها هي على أبوال الإبل، أثبتت فاعليتها في القضاء على الأحياء الدقيقة كالفطريات والخمائر والبكتريا، وأجرت الدكتورة رحمة العلياني من المملكة العربية السعودية أيضاً تجارب على أرانب مصابة ببكتريا القولون، حيث تم معالجة كل مجموعة من الأرانب المصابة بداوء مختلف، بما في ذلك بول الإبل، وقد لوحظ تراجع حالة الأرانب المصابة التي استخدم في علاجها الأدوية الأخرى باستثناء بول الإبل الذي حقق تحسناً واضحاً(15).
الهوامش:
1- المرغيناني: الهداية، البابرتي: العناية (1 - 101،102) قاضي زادة: نتائج الأفكار (4/10)، ابن عابدين: رد المحتار (215/4)، ابن عبدالبر: الكافي في فقه أهل المدينة المالكي (188)، حاشية العدوى على كفاية الطالب الرباني (453/2)، ابن جزي: القوانين الفقهية (295)، المجموع (41/9،50)، الأردبيلي: الأنوار لأعمال الأبرار (518/2)، حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم (302/2)، ابن قدامة: المغني (596/8)، البهوتي: كشاف القناع (189/6)، ابن حزم: المحلى (168/1)، (398/7)، العيني: عمدة القارئ (33/3)، (318/17)، محمد شمس الحق: عون المعبود (7/4)، (353/10).
2- يستنزه: من التنزه وهو الإبعاد، والحديث أخرجه الدارقطني في سننه من حديث ابن سيرين عن أبي هريرة وقال: الصواب أنه مرسل، ومن حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقال: صحيح، ومن حديث مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً، وقال: لا بأس به، ومن حديث قتادة عن أنس، وقال: المحفوظ أنه مرسل، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث ابن عباس، وقال رواه البزار والطبراني في الكبير وفيه أبو يحيى القتات، وثقة ابن معين في رواية وضعفه الباقون، وقال الصنعاني، رواه ابن خزيمة وصححه، وقال العيني: صححه ابن خزيمة وغيره مرفوعاً، وذكره ابن حجر في تلخيص الحبير وقال: أعله أبو حاتم، فقال: إن رفعه باطل، إلا أن هذا الحديث إسناده حسن، وليس فيه غير أبي يحيى القتات وفيه لين، وقد تعضد هذا الحديث بأحاديث أخرى صحيحة (سنن الدارقطني 127/1، 128)، الهيثمي: مجمع الزوائد (207/1)، ابن حجر: تلخيص الحبير (117/1)، العينى: عمدة القارئ (34/3)، الصنعاني: سبل السلام (131).
3- عمدة القارئ (34/3)، العناية (101/1)، المحلى (179/1).
4- أخرجه أحمد في مسنده، والنسائي في سننه وفي عمل اليوم والليلة، وابن أبي شيبة في مصنفه، وذكره الحسيني في البيان والتعريف، وقواه المناوي في فيض القدير (مسند أحمد 61/6، سنن النسائي (400/1، 40/6، عمل اليوم والليلة 200/1، مصنف ابن أبي شيبة 115/1، الحسيني: البيان والتعريف (238/1، المناوى: فيض القدير 458/2).(4/18)
5- لا يستتر من بوله: أي لا يجعل بينه وبين البول سترة، أي لا يتحفظ منه، وهو بمعنى رواية "لا يستنزه": من التنزه وهو الإبعاد، فيكون المراد بالاستتار من البول: التنزه عن البول والتوقي منه، إما بعدم ملابسته وإما بعدم الاحتراز عن مفسدة تتعلق به، كانتقاض الطهارة، وعبر عن التوقي بالاستتار على سبيل المجاز، ووجه العلاقة بينهما أن من استتر عن شيء فقد بعد عنه واحتجب، وذلك شبيه بالبعد عن ملابسة البول (القنوجي: عون الباري على البخاري 418/1-419)، والحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين (صحيح البخاري 52/1، صحيح مسلم 136/1).
6- النجو: ما يخرج من البطن عند التغوط، واستنجى: أي مسح موضع النجو أو غسله (مختار الصحاح- 598- نجا).
7- أخرجه مسلم في صحيحه (155/1).
8- المحلى (179/1).
9- سبل السلام (132).
10- المحلى (179/1-180).
11- ابن سينا: القانون في الطب (446/1-117)، الحزاز: قيل: إنه وجع في القلب من غيظ ونحوه (مختار الصحاح- 207-حزز).
12- مقال في صحيفة الاتحاد الإماراتية عدد (9515) الصادر في 2001/7/24م.
13- موقع: www.alkhaldi.k.com، وموقع: http//www.tabiby.com/asp/tabeey.asp
14- موقع: htt//www.khayma.com/roqia
15- موقع: http//www.khayma.com/roqi، د. أحلام العوضي: عجائب وأسرار العلاج بأبوال الإبل، د. رحمة العلياني: تأثير أبوال الإبل على كلية الأرانب الصغيرة المصابة ببكتريا القولون، د. سناء خليفة: تأثير أبوال الإبل على أمعاء الأرانب الصغيرة المصابة ببكتريا القولون (بحوث ألقيت في المؤتمر العالمي السابع للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، والمنعقد بدبي في المدة من 1-4 صفر 1425ه).
0000000000000000000
حكم التداوي بأبوال الإبل (2/2)
أ.د. عبدالفتاح محمود إدريس
تناول الكاتب - وفقه الله - مسألة التداوي بأبوال الإبل وحكمها في حال الاختيار وأنه لا خلاف بين العلماء على أنه لا يباح تناول أبوال الإبل حال الاختيار، وذكر الأدلة على ذلك، ثم بين الاستعمالات الطبية لأبوال الإبل، وفي هذا العدد يعرض حكم تناول أبوال الإبل للتداوي بالتفصيل والترجيح.
حكم تناول أبوال الإبل للتداوي بها:
إذا كان لأبوال الإبل هذه الاستخدامات المتعددة في مجال العلاج من الأمراض في عصرنا، كان لابد من بيان آراء الفقهاء في حكم التداوي بها، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول:
يرى أصحابه حل التداوي بأبوال الإبل، قال به عطاء الخراساني، والحسن البصري، والنخعي، وجمهور الحنفية، الذين يرون أن جواز التداوي به مقيد بأن يخبر طبيب مسلم أن فيه شفاء، وأن لا يوجد من الأدوية المباحة ما يقوم مقامه في التداوي من المرض، وإليه ذهب المالكية، وهو ما عليه مذهب الشافعية والذي قطع به جمهورهم وصوبه النووي، إذا لم يجد المريض طاهراً يقوم مقامه، وكان عارفاً بالطب يعرف أنه لا يقوم غيره مقامه، أو من تجربة سابقة له مع هذا المرض، أو أخبره بذلك طبيب مسلم عدل، وإليه ذهب الحنابلة، والظاهرية، قال الزهري في أبوال الإبل: كان المسلمون يتداوون بها فلا يرون بها بأساً، وقال ابن تيمية: لست أعلم مخالفاً في جواز التداوي بأبوال الإبل(1).
المذهب الثاني:
يرى من ذهب إليه حرمة التداوي بأبوال الإبل وغيرها من سائر الأبوال، روي هذا عن أبي حنيفة، وهو وجه لبعض الشافعية، ووصفه النووي بالشذوذ(2).
أدلة هذه المذاهب:
استدل أصحاب المذهب الأول على حل التداوي بأبوال الإبل بما يلي:
أولاً: الكتاب الكريم:
قال تعالى: وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه(119) {الأنعام: 119}.
وجه الدلالة من الآية:
أحل الله تعالى للمسلمين حال الضرورة ما حرمه عليهم في غيرها، فأسقط سبحانه تحريم ما فصل تحريمه عند الضرورة إليه، وأبوال الإبل مما حرم تناوله في غير حال الضرورة إليه، فإذا كان ثمة ضرورة إلى تناولها للتداوي بها، حل ذلك دون فرق بين نوع منه وآخر.
ثانياً: السنة النبوية المطهرة:
ما رواه أنس } قال: "إن رهطاً من عرينة أتوا إلى رسول الله {، فقالوا: إنا اجتوينا المدينة، وعظمت بطوننا، وارتهست أعضادنا، فأمرهم النبي { أن يلحقوا براعي الإبل فيشربوا من ألبانها وأبوالها،فلحقوا براعي الإبل، فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صلحت بطونهم وأبدانهم، ثم قتلوا الراعي وساقوا الإبل، فبلغ ذلك النبي {، فبعث في طلبهم، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون"(3).
وجه الدلالة منه:
رخص رسول الله { لهؤلاء القوم بشرب أبوال الإبل، على سبيل التداوي مما أصابهم من مرض، وقد صحت أبدانهم بعد شربه، والتداوي - كما قال ابن حزم - بمنزلة الضرورة التي ترخص في تناول المحرم، ولا يعد تناوله في هذه الحالة محرماً، فإن ما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المأكل والمشرب(4)، وهذا دليل على حل التداوي به عند الضرورة إليه.
اعترض على الاستدلال به بما يلي:(4/19)
أ- قال العيني والمرغيناني: إن رسول الله { خص العرنيين بذلك؛ لما عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا فلا يحل شربه؛ لأنه لا يتيقن الشفاء فيه فلا يعرض عن الحرمة، وهو كما خص الزبير بن العوام بلبس الحرير لحكة كانت به أو للقمل؛ فإنه كان كثير القمل، أو لأنهم كانوا كفاراً في علم الله تعالى، ورسول الله { علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس، والتمسك بعموم قوله {: "استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه" أولى؛ لأنه ظاهر في تناول جميع الأبوال، فيجب اجتنابها لهذا الوعيد(5).
أجيب عن هذا الاعتراض:
قال ابن المنذر: من زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام فلم يصب؛ إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل، ويؤيد هذا تقرير أهل العلم استعمال الناس أبوال الإبل في أدويتهم قديماً وحديثاً، وعدم إنكارهم ذلك(6).
رد هذا الجواب:
قال ابن حجر العسقلاني: إن المختلف فيه لا يجب إنكاره، فلا يدل ترك إنكاره على جوازه(7).
ب - قال السرخسي: حديث أنس رواه قتادة عنه، وفيه أن رسول الله { رخص للعرنيين في شرب ألبان الإبل، ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكر هذا في رواية حميد الطويل عنه، والحديث حكاية حال، فإذا دار بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة، فإنه يسقط الاحتجاج به(8).
ج - افترض العيني اعتراضاً: أن أبوال الإبل إذا كانت محرمة الشرب، فلا يجوز التداوي بها(9)، لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله { قال: "إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها"(10)، وما روي عن أبي الدرداء } أن رسول الله { قال: "إن الله عز وجل أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء داوء، فتداووا ولا تتداووا بحرام"(11).
أجيب عن هذا الاعتراض بما يلي:
1- قال البيهقي: هذان الحديثان - إن قيل بصحتهما - يحملان على النهي عن التداوي بالمسكر، أو على التداوي بكل محرم في غير حال الضرورة إلى التداوي به، جمعاً بينهما وبين حديث العرنيين(12).
2- قال ابن حزم: إن الحديث الذي روي عن أم سلمة باطل؛ لأن في سنده سليمان الشيباني وهو مجهول، وقد جاء اليقين بإباحة الميتة والخنزير عند خوف الهلاك من الجوع، فقد جعل الله تعالى شفاءنا من الجوع المهلك فيما حرم علينا في غير تلك الحال، ونقول: نعم إن الشيء مادام حراماً علينا فلا شفاء لنا فيه، فإذا اضطررنا إليه فلم يحرم علينا حينئذ، بل هو حلال فهو لنا حينئذ شفاء، وهذا ظاهر الخبر(13).
3- قال بعض العلماء: إن حديث أم سلمة وقع جواباً لمن سأل عن التداوي بالخمر وغيره من سائر المسكرات، فلا يجوز إلحاق غير المسكر به؛ لأن شرب المسكر يجر إلى مفاسد كثيرة، ولأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن في الخمر شفاء، فجاء الشرع بخلاف ذلك(14).
رد جواب هؤلاء بما يلي:
1- قال العيني: حديث أم سلمة أخرجه ابن حبان في صحيحه وصححه، وسليمان الشيباني أحد الثقات، وقول من يدعي خصوصية هذا بالخمر قول مردود؛ لأن دعوى الخصوصية لا تسمع إلا بدليل، والجواب القاطع عن هذا أن حرمة التداوي بالمحرم على حالة الاختيار، وأما في حال الاضطرار فلا يكون حراماً، كتناول الميتة في المخمصة والخمر عند العطش وإساغة اللقمة(15).
2- قال الشوكاني: إن قصر النهي عن التداوي بالمحرم على الخمر فقط، قصر للعام على السبب بدون موجب، والمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب، وأما النهي عن التداوي بالمحرم فهو محمول على التداوي به حالة الاختيار، وأما في حال الضرورة فلا يكون حراماً، كإباحة تناول الميتة للمضطر، فالنهي عن التداوي بالحرام باعتبار الحالة التي لا ضرورة فيها، والإذن بالتداوي بأبوال الإبل باعتبار حالة الضرورة وإن كان حراماً، ولو سلم بهذا فالتداوي إنما وقع بأبوال الإبل خاصة، فلا يجوز إلحاق غيره به؛ لما ثبت من حديث ابن عباس مرفوعاً: "إن في أبوال الإبل شفاء للذربة بطونهم"(16)، ولا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه(17).
تأول بعض العلماء حديثي أم سلمة وأبي الدرداء بما يلي:
قال النووي: إن النهي عن التداوي بالمحرم في حديثي أم سلمة وأبي الدرداء محمول على حال عدم الحاجة إلى التداوي به، بأن يكون هناك من الأدوية المباحة ما يقوم مقام المحرم في التداوي به(18).
قال البيهقي: إن هذين الحديثين إن صحا فإنهما يحملان على النهي عن التداوي بالمسكر، أو التداوي بكل محرم في غير حال الضرورة (أي في حال وجود دواء مباح غيره يغني عنه ويقوم مقامه) ليكون جمعاً بينهما وبين حديث العرنيين؛ إذ أباح فيه رسول الله { لنفر من عرينة أن يشربوا أبوال الإبل للتداوي بها من مرض أصابهم(19).(4/20)
تعقب الشوكاني قوله: قال: لا يخفى ما في هذا الجمع من التعسف؛ فإن أبوال الإبل يمنع الخصم اتصافها بأنها حرام أو نجس، وعلى فرض التسليم فالواجب الجمع بين العام وهو تحريم التداوي بالحرام، وبين الخاص وهو الإذن بالتداوي بأبوال الإبل، بأن يقال: يحرم التداوي بكل حرام إلا أبوال الإبل، هذا هو القانون الأصولي(20).
قال العيني: الجواب القاطع: إن الحكم الذي جاء به حديث أم سلمة (وفي حكمه حديث أبي الدرداء)، من حرمة التداوي بالمحرم محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار فلا يكون حراماً، كتناول الميتة في المخمصة، والخمر عند العطش، وإساغة اللقمة، وقال ابن رسلان والشوكاني بمثل ذلك(21).
قال ابن البزاز: إن حديث أم سلمة فيه نفي الحرمة عن الدواء المحرم إذا علم أن فيه شفاء، ولم يوجد ما يقوم مقامه من الأدوية المباحة، ومعنى هذا الحديث وفقاً لذلك: إن الله تعالى أذن لكم بالتداوي، وجعل لكل داء دواء، فإذا كان في ذلك الدواء شيئ محرم وعلمتم به الشفاء، فقد زالت حرمة استعماله؛ لأنه تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم(22).
قال ابن عابدين: إن معنى "لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" يحتمل أن يكون هذا القول قد قيل في داء، عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذ يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تنكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء بالحرام، وإنما يكون بالحلال(23).
استدل أصحاب المذهب الثاني على حرمة التداوي بأبوال الإبل، بما يلي:
أولاً: السنة النبوية المطهرة:
1- حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله { قال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم".
وجه الدلالة منه:
إن تناول أبوال الحيوانات قد حرمه الشارع، وما حرم تناوله لم يجعل فيه شفاء للمسلمين، فنفي أن يكون في محرم دواء، فدل الحديث على عدم جواز التداوي بالمحرم.
اعترض ابن حزم والبيهقي وغيرهما على الاستدلال به بما سبق أن اعترض به عليه، وأجيب عن هذين الاعتراضين بما أجيب به عنهما قبلاً.
2- حديث أبي الدرداء } أن رسول الله { قال: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام".
وجه الدلالة منه:
أمر رسول الله { بالتداوي من الأدواء المختلفة، ونهى عن التداوي بما حرمه الشارع، وإذا كان تناول البول محرماً، فإنه يحرم التداوي به حتى لا يكون تداوياً بمحرم.
تأول النووي والبيهقي والعيني وابن البزاز وابن عابدين حديثي أم سلمة وأبي الدرداء، بما سبق أن تأولوهما به.
3- حديث أبي هريرة } قال: "نهى رسول الله { عن الدواء الخبيث".
وجه الدلالة منه:
أفاد هذا الحديث حرمة التداوي بالدواء الخبيث، وقد قيل في تفسير الدواء الخبيث في الحديث بأنه النجس الحرام، أو ما تنفر عنه الطباع، وقد فسر الخطابي الدواء الخبيث، فقال: قد يكون خبثه لنجاسته، فقد يصف الأطباء بعض الأبوال وعذرة بعض الناس لبعض العلل، وهي كلها خبيثة نجسة، وتناولها محرم(24)، فدل هذا الحديث على حرمة التداوي بأبوال الحيوانات عامة لأنها نجسة أو تعافها النفس، وهي على كلا الحالين خبيثة.
تأول النووي والبيهقي هذا الحديث بما تأولاه به من قبل، وتعقب الشوكاني قول البيهقي بما تعقبه به قبلاً.
ثانياً: قول الصحابي:
روي عن ابن مسعود } قال: "إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم"، وفي رواية أخرى "إن الله تعالى لم يجعل في رجس شفاء"(25).
وجه الدلالة منه:
نفى عبدالله بن مسعود } أن يكون فيما حرمه الله تعالى على هذه الأمة أو في النجس شفاء، فدل على عدم جواز التداوي بالمحرم (ومنه بول الإبل الذي يحرم تناوله حال الاختيار باتفاق الفقهاء)، كما دل على عدم جواز التداوي بالنجس (ومنه البول عند من يقولون بنجاسة الأبوال عامة، سواء كانت من مأكولة اللحم أو من غيرها، وهو قول جابر بن زيد والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وحماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وأبي يوسف، وجمهور الشافعية)(26)، وقول ابن مسعود هذا لا يكون منه إلا عن توقيف؛ لأنه لا مدخل للرأي فيه.
تأول ابن عابدين والبابرتي هذا الأثر:
قالا: إن قول ابن مسعود هذا يحتمل أن يكون قد صدر عنه في داء عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذ يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تنكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء بالحرام، وإنما يكون بالحلال(27).
ثالثاً: المعقول:
إن هذه الأبوال لا يتيقن الشفاء في تناولها، فلا يعرض عن الحرمة(28).
المناقشة والترجيح:(4/21)
بعد استعراض المذهبين في هذه المسألة، وما استدل به لهما، وما اعترض به على بعض هذه الأدلة، وما أجيب به على بعض هذه الاعتراضات، وما تأول به العلماء بعض هذه الأدلة، فإنه يترجح في نظري مذهب القائلين بحل التداوي بأبوال الإبل، إذا لم يوجد طاهر يقوم مقامها في التداوي به، ووصفها للمريض طبيب مسلم عدل ثقة حاذق بالطب، أو كان المتداوي عارفاً بالطب، يعرف أنه لا يقوم غير بول الإبل مقامه في المداواة، أو يعرف ذلك من تجربة سابقة له مع المرض؛ وذلك لما استدل به أصحاب هذا المذهب؛ ولأن التداوي بأبوال الإبل كان نافعاً لما أصاب العرنيين من مرض، فوصف لهم رسول الله { ما ألفوه أو ما يناسب مرضهم، فقد كانت هذه الإبل ترعى الشيح والقيصوم، وأبوال الإبل التي ترعى ذلك تدخل في علاج نوع من أنواع الاستسقاء(29)؛ ولهذا قال ابن العربي: "أما أبوال الإبل فإنما دلهم عليها؛ لما فيها من الحرافة، وفيها منفعة لأدواء البطن وخاصة الاستسقاء، وفي الحديث أنهم اجتووا المدينة، والجوي داء البطن، فكان بول البعير من منافعه"(30)، بل تذكر بعض الروايات أنهم طلبوا من رسول الله { الخروج إلى اللقاح، فقالوا: "يا رسول الله قد وقع هذا الوجع(31)، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل"(32)، فإذنه لهم بالخروج إليها لشرب أبوالها وألبانها قد جاء بناء على طلبهم؛ لما ألفوه من التداوي بمثل ذلك.
وما استدل به أصحاب المذهب الثاني على حرمة التداوي بأبوال الإبل، من حديثي أم سلمة وأبي الدرداء، فلا يفيدهم فيما ذهبوا إليه؛ وذلك لما أورده بعض العلماء على الاستدلال بهما، وما تأول به بعضهم هذين الحديثين، بما يفيد حل التداوي بالمحرم إذا دعت إليه الضرورة أو الحاجة، كما تأول بعض العلماء حديث أبي هريرة وأثر ابن مسعود، ولا يشترط لجواز المداواة بهذه الأبوال تيقن الشفاء بتناولها كما قالوا في معقولهم، وإنما يكفي في ذلك غلبة الظن؛ إذ ليس ثمة دواء يقطع بالشفاء من تناوله، فمجرد غلبة ظن الشفاء بتناول البول كافية لإباحة التداوي به، إذا لم يوجد مباح يقوم مقامه في التداوي، ووصفه طبيب مسلم عدل ثقة، أو كان المريض يعلم نفعه له لمعرفته بالطب، أو من تجربة سابقة له مع المرض.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
الهوامش:
0000000000000
1- الهداية والعناية (101/1،102)، نتائج الأفكار (81/8)، رد المحتار (215/5،216)، الطوري: تكملة البحر الرائق (233/8)، ابن رشد الجد: البيان والتحصيل (323/18)، رد المحتار (215/4)، النووي: المجموع (50/9،51)، النووي: روضة الطالبين (285/3)، الشربيني: مغني المحتاج (188/4)، الأنوار لأعمال الأبرار (518/2)، حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم (302/2)، كشاف القناع (189/6،200)، فتاوى ابن تيمية (562/21)، المحلى (168/1،175) مصنف عبدالرزاق (259/9)، صحيح البخاري (23/4)، عون الباري (436/1)، الشوكاني: نيل الأوطار (50/1)، (93/9).
2- الهداية (مع فتح القدير) (101/1،102)، نتائج الأفكار (81/8)، المجموع (50/9)، روضة الطالبين (285/3).
3- الرهط: هم جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وعرينة: حي من بجيلة، والجوى: هو داء السل، وتطاول المرض، ويطلق على داء الصدر، واجتواه، أي كرهه، واجتووا المدينة: أي أصابهم الجوى وهو داء الجوف إذا تطاول، أو كرهوا الإقامة بها واستوخموها، أو لم يوافقهم طعامها، وارتهست أعضادنا: أي اصطكت، والحرة: أرض ذات حجارة سود بظاهر المدينة المنورة، تبدو وكأنها أحرقت بالنار (عمدة القارئ 234/21، عون الباري 435/1، شرح النووي على صحيح مسلم 154/11، الفيروز آبادي: القاموس المحيط- 708 - رهس)، والحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين (صحيح البخاري 9/4، صحيح مسلم 154/11-156).
4- المحلى (175/1).
5- عمدة القارئ (33/3-34)، الهداية (102/1).
6- نيل الأوطار (49/1).
7- عون الباري (436/1).
8- عمدة القارئ (33/3).
9- المصدر السابق (34).
10- أخرجه ابن حبان في صحيحه وصححه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأخرجه البيهقي في سننه وسكت عنه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في معجمه الكبير ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، غير حسان بن مخارق فقد وثقه ابن حبان، وأخرجه ابن حزم في المحلى وقال: في سنده سليمان الشيباني وهو مجهول (ابن بلبان: الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 69/10، المستدرك 218/4، السنن الكبرى 5/10، مجمع الزوائد 86/5، عمدة القارئ 34/3، المحلى 175/1-176).(4/22)
11- أخرجه البيهقي وأبو داود في سننيهما وسكتا عنه، وقال الشوكاني: في إسناده إسماعيل بن عياش، وفيه مقال كما قال المنذري، ولكن إذا حدث عن أهل الشام فهو ثقة، وقد حدث هنا عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي، وهو شامي، عن أبي عمران الأنصاري، وهو أيضاً شامي، وأخرجه الطبراني في الكبير عن أم الدرداء ترفعه، وقال الهيثمي: رجاله ثقات (البيهقي: السنن الكبرى 5/10، الطبراني: المعجم الكبير 254/24، مجمع الزوائد 86/5، سنن أبي داود 335/3، نيل الأوطار 93/3).
12- السنن الكبرى (5/10).
13- المحلى (176/1-177).
14- نيل الأوطار (49/1).
15- عمدة القارئ (34/3).
16- الذرب: فساد المعدة، والمرض الذي لا يبرأ، والحديث أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير وعبدالرزاق في مصنفه من حديث ابن عباس عن النبي {، وذكره ابن حجر في فتح الباري وقال: أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعاً إلى النبي {، وكذا ذكره الشوكاني، وقال الهيثمي: في سنده ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. (المعجم الكبير 238/12، مجمع الزوائد 88/5، مصنف عبدالرزاق 259/9، ابن حجر: فتح الباري 143/10، نيل الأوطار 61/1).
17- نيل الأوطار (49/1-50).
18- المجموع (51/9،53).
19- السنن الكبرى (5/10).
20- نيل الأوطار (94/9).
21- عمدة القارئ (34/3، نيل الأوطار (49/1-50)، محمد شمس الحق، عون المعبود (352/10).
22- رد المحتار (249/5).
23- المصدر السابق (215/4).
24- عون المعبود (7/4).
25- أخرجه ابن حزم بسنده في المحلى (215/9).
26- الهداية والعناية (101/1،102) الشيرازي: المهذب (46/1)، المحلى (222/1،239،240)، عمدة القارئ (33/3).
27- العناية (500/8)، رد المحتار (215/4).
28- الهداية (102/1).
29- عمدة القارئ (33/3).
30- عارضة الأحوذي (197/8).
31- يراد بالوجع هنا: الموم الذي وقع بالمدينة عند نزولهم إليها، والموم: هو البرسام، وهو نوع من اختلال العقل، ويطلق على ورم الرأس وورم الصدر، وأصل اللفظة فارسية، وقيل: الموم: هو الجدري الكثير المتراكب، وقيل: هو أشد الجدري، والموم بالفارسية: هو الجدري الذي كله قرحة واحدة، وقيل: هو بثر أصغر من الجدري، وقيل: غير ذلك (ابن منظور: لسان العرب 4301/6، الزبيدي: تاج العروس 70/9 - موم).
32- عون الباري (434/1).
-------
هل يجوز بناء مسجد في قطعة مجاورة لمقبرة كفار تجاه القبلة؟
الحمد لله.
أولاً:
الأصل أن لا يجمع بين المسجد والقبر أوالقبور، خاصة إذا كانت هذه القبور لمن يعتقد فيهم، وذلك للأدلة الآتية:
1. ما خرجه مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها".
2. وما خرجه الشيخان عن أبي هريرة يرفعه: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
3. ولما خرجه الشيخان عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما قالا: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا.
قال النووي: (اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهوراً بالصلاح أوغيره لعموم الأحاديث، قال الشافعي والأصحاب: وتكره الصلاة إلى القبور سواء كان الميت صالحاً أوغيره).
ثانياً:
• إذا كان القبر سابقاً للمسجد فلا تصح الصلاة فيه أبداً إلا أن يزال القبر أوالقبور.
• وإن كان المسجد سابقاً للقبر ينبش القبر ويحول، وإن لم يتمكن من ذلك نظر.
• فإن كان القبر إلى جهة القبلة لا تصح الصلاة فيه في أرجح قولي العلماء، وذهب مالك إلى جواز الصلاة فيه إن كان محاطاً بجدران.
• وإن كان لغير القبلة فأحيط بجدران جوَّز الصلاة فيه بعض أهل العلم، ومنع من ذلك بعضهم، منهم أحمد، هذا إن لم يكن هناك بديل، أما إذا كان هناك بديل لزم الذهاب إليه.
ثالثاً: أما ما يتعلق بالسؤال:
• إن كانت هناك إمكانية للحصول على قطعة أخرى أواستبدالها لزم ذلك إن لم يكن مرهقاً، فمن يتقي الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.
• وإن لم تكن هناك إمكانية لإيجاد بديل غيرها، وكانت المقبرة مسورة، فُصل بينها وبين المسجد بفاصل، حبذا لو كان هذا الفاصل في شكل مثلث رأسه إلى جهة المسجد، هكذا:
ويمكن الاستفادة من ذلك في أي غرض من الأغراض، كما فعل بالحجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عندما أدخلت في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، بعد موت الصحابة.
قال ابن القيم في نونيته:
فأجاب ربُّ العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاؤه بدعائه في عزة وحماية و صيان
وذلك لأن الضرورات تبيح المحظورات.
هذا بجانب أن مقابر الكفار لا يرجى التعلق بها.
والله أعلم، فإن أصبتُ فمن الله وله الحمد والمنة، وإن أخطأتُ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان مما قلت.
=================00000000
الفتاوى المهمة فيمن تحلُّ لهم الزكاة الواجبة ومن لا تحلُّ من الأمة(4/23)
لا شك أن مصارف الزكاة الواجبة معلومة معروفة، فقد بينها ربنا أوضح بيان، وفصلها رسولنا صلى الله عليه وسلم وزادها تبياناً.
قال تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم".
فيجوز دفع الزكاة لأي صنف من هذه الأصناف الثمانية، بل لأفراد صنف واحد، واستحب أهل العلم أن تشمل الزكاة كل هذه الأصناف مع تقدير الحاجات وتقديم المهمات.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّة قوي".
وفي الجملة فإن الزكاة الواجبة لا تعطى لـ:
1. كافر أومشرك.
2. مبتدع معلن لبدعته وداع لها، أما غير المعلن والداعي فيمكن أن يعطى منها.
3. فاسق مجاهر بفسقه وفجوره، أما مستور الحال فيعطى منها.
4. تارك الصلاة المصرُّعلى تركها.
5. آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرفهم ومكانتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إن كان أحدُهم من العاملين عليها.
6. لغني، والغني هو من كان يملك النصاب، وهو ما زاد على المليونين من الجنيهات السودانية.
7. قوي واجد للعمل، أما إن لم يكن واجداً للعمل فيعطى منها.
وبالنسبة للشخص المعين فإنه لا يعطي زكاته الواجبة عليه لهؤلاء:
1. لأصوله، وتشمل الجدود والجدات من قبل الأبوين وإن علوا.
2. لفروعه، وتشمل الأبناء والبنات وإن نزلوا.
3. لزوجته.
4. لكل من تجب عليه نفقتهم.
السنة أن يميز هؤلاء في دفع الزكاة على غيرهم من الفقراء:
1. المجاهدون، والمرابطون، والغزاة، والمأسورون، وذووهم.
2. الأهل والأقارب.
3. الدعاة إلى الله.
4. طلاب العلم الشرعي.
5. الجيران.
6. أهل بلده.
لكن هناك نوازل وملمات تحتاج إلى نظر واجتهاد قد تغيب على كثير من الناس، فتعين التنبيه عليها وخصها بالذكر، وإفرادها بالفتوى، وما يتعلق بها ممن يعطى ومن لا يعطى من الزكوات.
من تلك النوازل، وهذه الملمات، على سبيل المثال لا الحصل ما يأتي:
س1. ما الذي ينبغي أن يحذر منه المزكي في إخراج زكاته؟
ج1. ينبغي عليه أن يحذر الآتي:
• ...
أن يحابي بها قريباً أوصديقاً على حساب من هم أشد فقراً وحاجة من أقربائه، فالفقراء هم شركاء أرباب المال، فإن كانت حاجة القريب مثل حاجة الأجنبي فالقريب أولى، أما إن كانت حاجة الأجنبي أشد قدِّم على القريب.
• ...
أن يدفع بها مذمة عن نفسه، أولمن يقطع بها لسانه عنه.
• ...
أن يقي بها ماله.
وليعلم أنه وكيل في إخراج زكاته، وعلى الوكيل أن ينفذ وصية موكله.
قال الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة رحمهما الله: كانوا يقولون: لا يحابي بها قريباً، ولا يدفع بها مذمة، ولا يقي بها ماله.
ومن صور دفع المذمة عن النفس ووقاية المال دفع زكاته لمن يعملون عنده من الموظفين، والعمال، والفقراء، والحراس، أودفع الزكاة لمن يخشى ضررهم، وشرهم، وسطوهم على محاله التجارية، ونحو ذلك.
س2. هل يجوز للمرء دفع زكاته لوالديه وإن علوا أوأحدهما إن كانا غارمين؟
ج2. قولان لأهل العلم: الجواز والمنع، والأظهر الجواز، خاصة إن لم يكن قادراً على إعانتهما في هذا الغرم من غير الزكاة، والله أعلم.
س3. من كان له دَيْن على معسر، هل يجوز خصم هذا الدين من الزكاة؟
ج3. لا يجوز، وله أن يعطيه من زكاته ولكن لا يشترط عليه أن يسدد له بها دينه أوبعضه، اللهم إلا أن يعطيه عن طواعية.
وله أن يسقط من زكاته زكاة الدين الهالك أوعلى المعسر.
س4. هل يجوز للمزكي أن يرسل زكاته إلى أقاربه المحتاجين في غير البلد الذي يعيش فيه؟
ج4. نعم، يجوز نقل الزكاة في حالات، هي:
1. إذا اكتفى أهل البلد.
2. أوكان أهله وأقاربه أكثر حاجة ممن يعيش بين ظهرانيهم.
3. للمجاهدين في سبيل الله والمرابطين ولذويهم أينما كانوا.
س5. هل يجوز للمرء دفع الزكاة للأقارب المحتاجين الذين لا تلزمه نفقتهم؟
ج5. نعم يجوز سواء كانت قرابتهم قريبة أم بعيدة، كالإخوان والأخوات وغيرهم.
س6. إذا عجز الإنسان عن نفقة من تجب عليه نفقتهم هل يجوز له أن يعطيهم من زكاته؟
ج6. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الأقوى جواز دفعها إليهم في هذه الحال، لأن المقتضى موجود، والمانع مفقود، فوجب العمل بالمقتضى السالم من المعارض المقاوم).
س7. إن كان الولد مَدِيناً ولا وفاء له هل يجوز له أن يأخذ من زكاة أبيه؟
ج7. نعم، يجوز له ذلك.
س8. هل يجوز دفع الزكاة للمساجد، ولتجهيز الموتى، وإعداد المقابر؟
ج8. لا، لا يجوز أن يدفع شيء من الزكاة الواجبة لشيء من ذلك، وعلى المسلمين أن يتبرعوا لهذه الأعمال من غير الزكاة، فوجوبها عليهم وجوب كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثموا.
س9. هل تعطى الزكاة لتارك الصلاة مع إقراره بوجوبها عليه؟(4/24)
ج9. لا، لا يجوز أن يُعطى تارك الصلاة كسلاً من الزكاة شيئاً، ومن أعطاه منها لا تجزئ عنه، اللهم إلا إذا وعده بالصلاة وأراد أن يتألفه بذلك، لأن تارك الصلاة كسلاً كافر كفراً مخرج من الملة في أرجح قولي العلماء.
س10. هل يجوز إعطاء الزكاة لرجل فقير له ولد غني لا ينفق عليه وهو يتعفف عن سؤاله؟
ج10. نعم يجوز، لأن نفقة الوالد على ولده لا تجب إلا بالحكم، فإذا ترك الطلب كان كمن لم يكن له ولد.
س11. هل يجوز للولد إعطاء قدر من زكاته لوالديه الفقيرين وإن علوا ولمن يعولون إن كان عاجزاً عن الإنفاق عليهم من غير الزكاة؟
ج11. نعم يجوز، شريطة أن لا يحرم من هم أشد حاجة منهم، والله أعلم.
س12. متى تجب الزكاة على شريك في زراعة أومضاربة؟
ج12. لا تجب على الشريك زكاة حبوب ولا مال إلا إذا كان نصيبه وحده بلغ النصاب.
س13. المزارع الذي استوعبت الديون كل إنتاجه ولم يبق له إلا جوال أونصف جوال هل عليه زكاة؟
ج13. لا، ليس عليه زكاة لا للدولة ولا لغيرها، ويترك ما بقي له، فالراجح من قولي العلماء أن الدَّين يسقط زكاة جميع الأموال، والله أعلم.
س14. هل تعطى الزكاة إلى المعتوهين والمجانين؟
ج14. نعم، يجوز أن تعطى لأوليائهم الذين ينفقون عليهم إن كانوا فقراء، أما إن كان أولياؤهم أغنياء فلا يعطوا من الزكاة.
س15. هل يجوز إعطاء الزكاة للموظف والعامل إن كان معاشه لا يكفيه وعياله؟
ج15. نعم يجوز أن يعطوا من الزكاة لأنهم في عداد الفقراء.
س16. كم أكبر قدر يدفع من الزكاة للفقير؟
ج16. ما كان دون النصاب، والنصاب في السودان الآن حوالي مليونين ومائة ألف تقريباً، فيمكن أن يعطى أقل من المليونين.
س17. إلى متى تجب نفقة الآباء على الأبناء، والبنات، والإخوان، والأخوات؟
ج17. تجب نفقة الأبناء والإخوان لمن له إخوان ينفق عليهم إلى البلوغ، ويستحسن إلى التخرج، فما زاد على ذلك فهو فضل؛ أما البنات والأخوات فينفق عليهن إلى الزواج، وكذلك إذا طلقت إحداهن أومات زوجها عادت نفقتها إلىأبيها، أوأخيها، أوعمها، أوأحد أوليائها من العصبة، إلا إذا كانت غنية أولها من ينفق عليها من أبنائها.
س18. هل يجوز للمرء صرف زكاته كلها لأخته الفقيرة أوأخيه الفقير ممن لا تجب عليه نفقتهم؟
ج18. نعم يجوز وتجزئ عنه.
س19. هل يجوز إعطاء الزكاة لمن غلب على ظنه أنه يصرفها في معصية الله؟
ج19. لا يجوز، وإن أعطاه والحال هكذا لا تجزئ عنه، وعليه أن يعيد إخراجها.
س20. هل تجب التسوية بين الأقارب الفقراء؟
ج20. لا تجب التسوية بينهم في إعطاء الزكاة والتفرقة تكون حسب حاجتهم وتدينهم، فمن كان أكثر ديانة وحاجة قدِّم على غيره، ولا يُحرم الغير.
س21. كيف التوفيق بين الأقارب والأباعد الفقراء في الزكاة؟
ج21. لا شك أن الأقارب المحتاجين يقدمون على الأباعد الفقراء، ولكن ينبغي أن لا يحرم الفقراء الأباعد محاباة لأقاربه، بل إن كان الفقير البعيد أكثر حاجة من الفقير القريب قدِّم البعيد.
قال الونشريسي المالكي في المعيار المعرب3 وقد سئل هل يسوِّي بين قرابته والفقراء؟ أويؤثرهم؟ أو يفضلهم عليهم؟ وكذا تفضيل بعض قرابته على بعض؟ مجيباً: (اختلف المذهب في ذلك، وأختارُ أن يفضل قرابته ويوسع عليهم، وهو الذي تقتضيه الأحاديث، فإن كان في الزكاة اتساع فيفضل الشقيق على الكلالة، ولا يحرم الآخر، فلا أرى لرب مال أن يخص بزكاته إلا من تيقن أنه من أهل الصلاة، فإن شك فلا يعطيه، فإن فعل أجزأه، والكفارة كذلك، ويعطى الأوسط من الشبع والمعتاد عندهم كان أكثر من مُدٍّ أوأقل، ويعطى معه الإدام4 ؛ وأجاب القيرواني أبو الطيب: إعطاء القرابة أولى عندي ممن يساويهم في الفقر، ويعطي على قلة الزكاة وكثرتها، وإن كان لا يعطف عليهم وليس لهم مرفق فلا بأس بإعطائهم قوت سَنَة، ودفع الزكاة إلى الأصلح حالاً أولى من دفعها لسيء الحال، إلا أن يخشى عليه الموت فيعطى، وإذا غلب على الظن أن المعطى له ينفقها في المعصية فلا يعطى، ولا يجزئ إن وقعت، ومن لا تلزمه نفقته، وليس في عياله ولا عادة برفقه فيجوز له إعطاؤهم، وليجتهد في ذلك، إلا أن يقصد محمدتهم ودفع مذمتهم؛ وأجاب أبوعمران عن مسألة إيثار القرابة إن لم يرجُ محمدتهم ولا دفع مذمتهم وصح ذلك فله الإعطاء كما يعطي أمثالهم من فقرهم وحاجتهم وتعطفهم).
س22. هل يجوز لأحد أن يمسك زكاة أحد أقاربه الفقراء أوغيرهم ويعطيه إياها منجمة مقسطة كل شهر؟
ج22. لا، لا يجوز، بل عليه أن يملكه إياها، فإن ردها إليه وطلب منه أن يقسطها عليه فعل، وإلا فلا.
س23. هل يجوز للمرأة دفع زكاتها لزوجها وأولاده ولو كانوا منها؟
ج23. نعم يجوز، لأن نفقته ليست واجبة عليها، وقد سألت زينب زوجة ابن مسعود رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدفع زكاتها لعبد الله وولده فأجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك.
س24. من هو الفقير الذي يستحق أخذ الزكاة؟(4/25)
ج24. هو كل من لم يملك نصاب العين أوقيمته من العروض، ونصاب النقدين يساوي مليونين ومائة ألف تقريباً.
س25. ما حكم من يأخذ الزكاة وهو ليس من أهلها؟
ج25. فاسق.
س26. من أولى الناس بالزكاة؟
ج26. المجاهدون والمرابطون والمقاومون للكفار والغزاة وذويهم، سيما في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وكشمير، والشيشان، وغيرها من البلاد.
ينبغي أن يكون لهؤلاء النصيب الأكبر، والحظ الأوفر من أموال الزكاة خاصة في هذا الظرف وفي هذا الشهر المبارك، فهم أحق بها وأولى من غيرهم.
س27. من وعد سائلاً بالزكاة وتأخر عن المجيء فأعطاها لآخرين هل يلزمه أن يعطيه إذا حضر؟
ج27. لا يلزمه شيء إلا أن يتبرع له من ماله.
س28. هل تعطى الزكاة لأيتام تحت كفالة من لا يصلي؟
ج28. نعم تعطى لهم، ولا يعاقبون بجريرة كافلهم.
س29. ما على من أعطى من ادعى الفقر وهو ليس بفقير؟
ج29. ليس عليه شيء وقد برئت ذمته من زكاته، والآخذ آثم.
س30. من هم أولى الناس بالزكاة بعد الغزاة والمرابطين وذويهم؟
ج30. الدعاة إلى الله طلاب العلم الشرعي.
س31. هل يعتد المزكي بما يأخذه ولاة الأمر باسم الزكاة؟
ج31. نعم يعتد به ويُحسب من الزكاة.
س32. هل يجوز دفع الزكاة لمن يريد الزواج ليعف نفسه من غير إسراف ولا تبذير؟
ج32. نعم، يجوز إن كان فقيراً من أهل الزكاة.
س33. هل يجوز لأصحاب الشركات والأعمال أن يدفعوا قدراً من زكاتهم لمن يعملون معهم إن كانوا من أهلها؟
ج33. نعم، يجوز شريطة أن لا تحسب من مكافآتهم، وأن لا يحابيهم بها.
س34. هل يجوز قضاء دَيْنٍ عن ميت من مال الزكاة؟
ج34. نعم، يجوز إن لم يتيسر قضاؤه من تركته أومن عشيرته أوبيت مال المسلمين إن كان هناك بيت مال.
س35. هل يجوز دفع الزكاة لمعلمين في مدارس ومعاهد إسلامية أوخلاوي قرآنية؟
ج35. نعم يجوز إن كان هؤلاء المدرسون من أهل الزكاة.
س36. هل يجوز لأحد أن يشتري ملابس أوغيرها من زكاة ماله ويوزعها على الفقراء بحجة أنهم لا يرشِّدون ما يُدفع إليهم؟
ج36. لا يجوز، بل الفقراء هم شركاء الأغنياء في أموالهم، فعليهم أن يدفعوا إليهم الزكاة عيناً، ولهم أن يُرْشِدُوهم لما فيه خيرهم وصلاحهم من غير إلزام لهم.
س37. هل يجوز أن تبنى مساكن من مال الزكاة للفقراء؟
ج37. لا يجوز، وإنما يعطى الفقراء المال وينفقونه فيما يحتاجون إليه، فرب المال ليس وصياً على الفقراء وكذلك ديوان الزكاة.
س38. هل يلزم المزكي أن يخبر الفقير أن ما يعطيه إياه زكاة؟
ج38. لا، لا يلزم ذلك وإنما تكفي نية المزكي.
س39. هل تخصم التبرعات للهيئات الخيرية وللمجاهدين ونحوهم من الزكاة؟
ج39. لا، لا تحسب من الزكاة، فالزكاة تفتقر إلى نية وإلى توفر شروط وجوبها.
س40. هل يحق لشخص، أوهيئة، أوولي أمر، استثمار أموال الزكاة؟
ج40. لا، لا يحق ذلك، وأهل الزكاة في أمس الحاجة إليها الآن وهم يتجولون في المساجد ويتسولون الناس في الاسواق والحافلات وغيرها.
س41. هل يجوز للإنسان أن يوكل غيره لإخراج الزكاة لمستحقيها؟
ج41. نعم، يجوز ذلك لفرد أوهيئة إذا كان يثق بصدقها وأمانتها وبقيامها بالواجب.
س42. هل يجوز للوالد دفع قدر من زكاته لأولاده الفقراء وبناته الفقيرات ممن لا تجب عليه نفقتهم؟
ج42. نعم يجوز إن لم يستطع أن يعينهم من غير الزكاة.
س43. إذا نقلت الزكاة من بلد إلى بلد، وكانت حبوباً مثلاً، فهل أجرة النقل تكون من الزكاة؟
ج43. أجرة نقل الزكاة لا تكون منها، وإنما على صاحبها أوغيره إن تكفل بذلك.
س44. هل يحل لأحد أن يخصم الرسوم والضرائب التي تجبيها الدولة من الزكاة؟
ج44. لا، لا يحل ذلك أبداً إلا ما أخذ باسم الزكاة.
س45. هل يجوز تقديم الزكاة السَّنَة والسَّنتين لمن كانت واجبة عليه ودفعها كرواتب شهرية لمن يستحقونها من الأقارب وغيرهم؟
ج45. نعم يجوز، وقد استدان رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة سنتين من عمه العباس رضي الله عنه.
س46. هل تجزئ الزكاة لمن دفعها لمن ظنه أنه من أهلها ثم بان أنه من غير أهلها؟
ج46. نعم تجزئ عنه وتبرأ ذمته بذلك.
س47. من قدم زكاة ماله، فمات المدفوع إليه قبل حولان الحول، هل تجزئ الزكاة عن مخرجها؟
ج47. لا، لا تجزئ عن مخرجها، فعليه أن يردها من ورثته إن لم يكونوا من أهل الزكاة، أويخرج غيرها.
س48. من كان يعيش في بلد لا يوجد فيه أحد من أهل الزكاة؟
ج48. أرسلها إلى البلاد التي تتوفر فيها هذه الأصناف.
س49. مَنْ أُعطى من الزكاة لغرم عليه مثلاً، هل يجوز له أن يصرف ما أخذ في غير الوجه الذي أعطي من أجله؟
ج49. قولان لأهل العلم، الراجح منهما أنه لا يجوز له صرفه في غير الوجه الذي أعطي من أجله، فالقسم الأول من مصارف الزكاة وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم لهم أن يصرفوا ما أعطوا من الزكاة فيما شاءوا، أما القسم الثاني وهم: في الرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل فلا يصرفون ما أخذوا إلا في هذه الأوجه خاصة.(4/26)
س50. هل الدعوة إلى الله تدخل في مصرف "في سبيل الله"؟
ج50. هذا ما أجازه مجلس مجمع الفقه الإسلامي بالمملكة العربية السعودية بالأكثرية، في جلسته فيما بين 27/4/ 1405ه - 8/5/ 1405هـ، وهو الراجح، والله أعلم.
س51. إذا عزل المرء زكاته فتلفت أوسُرقت قبل أن يستلمها أصحابُها أومن ينوب عنهم؟
ج51. عليه غرمها والله يخلف عليه ويعوضه ما تلف أوسرق، سواء فرَّط فيها أم لم يفرِّط.
س52. من وجبت عليه شاة، أوعجل، أوجوال ذرة، أوخمسة جرامات من الذهب مثلاً في الزكاة، هل يجوز له أن يبيع ذلك ويوزع ثمنه على الفقراء؟ أويذبح ذلك ويوزع لحمها على الفقراء؟
ج52. لا، لا يجوز له، فإن فعل لم تجزئ عنه، لأنه ليس وصياً عليهم وإنما هو وكيل في المال.
س53. هل يعتد المزكي بما كان أعطاه للفقراء والمساكين أثناء الحول؟
ج53. لا، لا يعتد بذلك، وما أعطاه من قبل يكون تطوعاً.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
=================000000
بِمَ يدرك المسبوقُ صلاةَ الجمعة؟
ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب، هي:
الأول: تدرك صلاة الجمعة بإدراك الركوع المجزئ للركعة الثانية منها، والركوع المجزئ هو أن يكبر تكبيرة الإحرام قائماً ثم يكبر للركوع ويستوي راكعاً، واضعاً كفيه على ركبتيه، فمن أدرك ركوع الثاية صلى إليها أخرى بعد سلام الإمام وتمت جمعته.
وهذا مذهب جمهور أهل العلم وأكثرهم، فمن الصحابة ابن مسعود، وابن عمر، وأنس بن مالك، ومن التابعين وتابعيهم: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والأسود، وعلقمة، وعروة بن الزبير، والنخعي، والزهري، والأوزاعي، والثوري، ومن الأئمة: مالك، والشافعي، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر؛ وهذا هو القول الراجح، ودليله:
1. ما صح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة".
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه كذلك يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الجمعة فليصلِّ إليها أخرى".
الثاني: لا تدرك الجمعة إلا بإدراك الخطبة، وهذا ما ذهب إليه عطاء، وطاوس، ومجاهد، ومكحول، وحُكي مثله عن عمر بن الخطاب؛ وعلى هذا القول من لم يدرك الخطبة صلى الظهر أربعاً بعد سلام الإمام.
الثالث: تدرك الجمعة بإدراك التشهد مع الإمام، فمن أدرك التشهد قام وصلى ركعتين بعد سلام الإمام، فمن أحرم قبل سلام الإمام فقد أدرك الجمعة؛ وهذا مذهب الحكم، وحماد، وأبي حنيفة.
الرابع: تدرك الجمعة بعد سلام الإمام إذا أدركه في سجود السهو مثلاً، وذهب إلى هذا كذلك أبوحنيفة وصاحباه: زفر ومحمد بن الحسن، والشعبي.
والمذهبان الثاني والثالث مرجوحان، والرابع شاذ، ولا تستند كلها على دليل، والراجح هو المذهب الأول لقيام الدليل عليه.
أقوال العلماء
قال النووي رحمه الله عن مذاهب العلماء فيما يدرك به المسبوق الجمعة: (ذكرنا أن مذهبنا – أنه إن أدرك ركوع الركعة الثانية أدركها وإلا فلا، وبه قال أكثر العلماء، وحكاه ابن المنذر – يعني عمن سبق ذكرهم).
وقال ابن قدامة في الكافي: (قال أحمد: من أدرك التشهد أتمها جمعة)، وهذه تعتبر رواية ثانية لأحمد.
وقال البلباني الحنبلي في مختصره: (ومن أدرك مع الإمام ركعة أتمها جمعة).
قال الجبرين في شرح ما قاله البلباني: (أي وتدرك الجمعة بإدراك ركعة كاملة، فمن أدرك مع الإمام ركعة أتمها جمعة، أما إذا جاء والإمام قد رفع من الركوع في الركعة الثانية فعليه أن يصليها ظهراً لفواتها، هذا هو القول الصحيح، وهناك قول آخر لبعض العلماء بإتمامها جمعة ولو لم يدرك إلا التشهد، ويقولون إنه أدرك ما يسمى جمعة).
ماذا ينوي من لم يدرك ركوع الثانية؟
قولان لأهل العلم، هما:
1. ينوي الجمعة موافقة للإمام.
2. ينوي الظهر.
فمن يرى أن الجمعة تدرك بالدخول مع الإمام قبل السلام قال ينوي الجمعة، ومن يرى أنها لا تدرك بذلك قال ينوي الظهر.
قال النووي: (قال الشافعي والأصحاب: إذا أدرك المسبوق ركوع الإمام في ثانية الجمعة بحيث اطمأن قبل رفع الإمام عن أقل الركوع كان مدركاً للجمعة، فإذا سلم الإمام أتى بثانية وتمت جمعته، وإن أدركه بعد ركوعها لم يدرك الجمعة بلا خلاف عندنا، فيقوم بعد سلام الإمام إلى أربع للظهر، وفي كيفية نية هذا الذي أدركه بعد الركوع وجهان، حكاهما صاحب البيان وغيره:
أحدهما: ينوي الظهر لأنها التي تحصل له.
وأصحهما: وبه قطع الروياني في الحِلية وآخرون، وهو ظاهر كلام المصنف والجمهور ينوي الجمعة موافقة للإمام.
ولو أدرك الركوع وشك هل سجد مع الإمام سجدة أم سجدتين؟ قال الشافعي، والشيخ أبو حامد، والبندنيجي، والروياني في الحِلية وغيرهم: إن كان شك قبل سلام الإمام سجد أخرى وأدرك الجمعة، وإن كان بعده سجد أخرى وأتم الظهر لا تحصل الجمعة قطعاً).(4/27)
وقال الشيخ عبد الله الجبرين: (والجمهور على أنه إذا فاتته الركعتان فإنه يدخل معهم بنية الظهر، إذا كان قد دخل وقت الظهر، فيصلي معهم ويقوم فيأتي بأربع).
تنبيه
اعلم أخي الكريم أنه ليس كل خلاف يُستراح له ويُعمل به، وإنما الخلاف المعتبر ما قام على الدليل من كتاب أوسنة أوإجماع، وأن العالم مهما كانت منزلته يُؤخذ من قوله ويُترك، ولا يقلد في كل ما يقول، وأنه لا يحل لأحد أن يتخير من أقوال أهل العلم ما تشتهيه نفسه، فإن فعل ذلك كان متبعاً لهواه غير متبع لمحمد صلى الله عليه وسلم.
والله الموفق لكل خير والهادي إلى سواء السبيل.
---------
حكم صندوق أوجمعية الموظفين والعمال وغيرهم
درج كثير من الموظفين والعمال في الوزارات، والمصالح الحكومية، والمدارس، والشركات، وغيرها، رجالاً ونساء في الدائرة الواحدة في أول السنة أن يتفق بعضهم على أن يدفع كل واحد منهم مبلغاً معيناً قليلاً كان أم كثيراً من راتبه، على أن يدفع في كل شهر لأحدهم حسب حاجته وظرفه الذي يوضحه لأعضاء الجمعية ويقنعهم به، حتى تدور النوبة على جميع أعضاء الصندوق أوالجمعية.
وما فتئ كثير من الناس هذا دأبهم، وما فتئ الناس يستفتون في هذا الأمر، والمفتون لهم بين محلل ومحرِّم لذلك.
دليل وعمدة من يحرم الجمعية أوالصندوق القاعدة الفقهية المشهورة: "كل قرض جرَّ نفعاً فهو ربا"، ودليل المجيزين للجمعية أن فيها تعاوناً على البر والتقوى، ومساعدة وإعانة لأصحاب الدخل المحدود في تحقيق ما يريدون تحقيقه من أعمال طيبة، كالزواج، أوسداد دين عليه، ونحو ذلك.
لقد سُئلت عن ذلك كثيراً، ولم يخالجني الشك قط في جوازها في يوم من الأيام، وقد ناقشت بعضاً ممن يذهبون إلى عدم حلها وليس لهم دليل فيما ذهبوا إليه إلا تلك القاعدة السالفة.
وفي الحقيقة فإن تلك القاعدة ليس فيها أدنى دليل لتحريم الجمعية، لأن القاعدة تحرم الفائدة على المقرض، وليس على المقترض، نحو أن يقرض شخص شخصاً آخر مبلغاً من المال على أن يشتري من دكانه، أوعلى أن يستأجر حافلته، أوأن يدرس له ولده دروساً خاصة، أوأن يشفع له لقضاء غرض من الأغراض.
أما في الجمعية فإن القارضين هم المحسنون إلى المقترض والمتفضلون عليه بإعطائه الصرفة الأولى أوالثانية أوالأخيرة مثلاً حسب حاجته إليها، فأي فائدة نالها المقرضون؟ أما المقترضون فهم المستفيدون.
وبهذا أفتت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بالأكثرية.
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله عن حكم الجمعية هذه: (منعها بعض المشايخ، منهم صالح بن فوزان وغيره، ثم عُرضت على هيئة كبار العلماء فأصدروا فيها فتوى بالجواز، والجمهور أوالأكثرية من أعضاء الجمعية وافقوا على ذلك، ثم إن بعض الذين خالفوا لم يوقعوا، وكتبوا: أنا مخالف، أوأنا متوقف، ولم يعتبروا خلافهم وعللوا بأن فيها منفعة).
على المشاركين في الجمعية أن ينووا بها التعاون على البر والتقوى وقضاء حوائج المحتاجين، فالأعمال بالنيات، ويحذروا الامتنان والمكر والمماطلة في سداد ما أخذوا من أموال، وعليهم أن ينووا بذلك القرض الحسن لينالوا ما وعد به نبيهم المقرضين: "ما من مسلم يُقرضُ مسلماً مرتين إلا كان كصدقتها مرة"، وما وعد به الميسِّرين: "من يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة".
لهذا قال بعض أهل العلم: إن أجر القرض أعظم من أجر الصدقة.
هذا كله فيمن يقترض وهو محتاج وينوي السداد، أما من يقترض وهو ينوي عدم السداد والمكر، وإتلاف مال العباد، فلن يبارك الله له ولا عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسل
=================0000000000
ما حكم المشي بالنعال في المقابر؟
لأهل العلم في ذلك قولان هما:
1. يُستحب خلع النعلين إلا من ضرورة، نحو شوك أونجاسة، وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، وذلك لحديث بشير بن الخَصَاصية قال: "بينا أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل يمشي في القبور، عليه نعلان، فقال: يا صاحب السِّبْتِيِّتين ألق سِبْتِيَّتيك؛ فنظر الرجل، فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما".
قال ابن قدامة رحمه الله: (قال أحمد: إسناد حديث بشير بن الخصاصية جيد، أذهب إليه إلا من علة)، أي علة تدعو للبسهما كشوك ونحوه.
2. لا يكره المشي بالنعال في المقابر، وهذا مذهب الجمهور ومشهور مذهب الشافعي ومن وافقه، واحتجوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العبد إذا وُضِع في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه" الحديث، وليس بظاهر الدلالة، وتأولوا حديث ابن الخصاصية بتأويلات متعسفة وغير مرضية.(4/28)
قال الإمام النووي رحمه الله: (المشهور في مذهبنا أنه لا يكره المشي في المقابر بالنعلين والخفين ونحوهما، ممن صرح بذلك من أصحابنا الخطابي، والعبدري، وآخرون، ونقله العبدري عن مذهبنا، ومذهب أكثر العلماء، قال أحمد بن حنبل رحمه الله: يكره، وقال صاحب الحاوي: يخلع نعليه لحديث بشير بن الخصاصية.
إلى أن قال: واحتج أصحابنا بحديث أنس.. وأجابوا عن الحديث الأول بجوابين (أحدهما) وبه أجاب الخطابي أنه يشبه أنه كرههما لمعنى فيهما، لأن النعال السبتية – بكسر السين – هي المدبوغة بالقرظ، وهي لباس أهل الترفه والتنعم، فنهى عنهما لما فيهما من الخيلاء، فأحب صلى الله عليه وسلم أن يكون دخوله المقابر على زي التواضع ولباس أهل الخشوع.
و(الثاني) لعله كان فيهما نجاسة، قالوا: وحملنا على تأويله الجمع بين الحديث).
وقال ابن قدامة: (وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأساً، قال جرير بن حازم: رأيت الحسن، وابن سيرين يمشيان بين القبور في نعالهما.
ثم ذكر العلل التي ذكرها النووي لحديث ابن الخصاصية، وقال: ولنا أمر النبي في الخبر الذي تقدم، وأقل أحواله الندب، ولأن خلع النعلين أقرب إلى الخشوع، وزي أهل التواضع، واحترام أموات المسلمين، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الميت يسمع قرع نعالهم لا ينفي الكراهة، فإنه يدل على وقوع هذا منهم، ولا نزاع في وقوعه وفعلهم إياه مع كراهته.
فأما إن كان للماشي عذر يمنعه من خلع نعليه مثل الشوك على قدميه، أونجاسة تمسهما، لم يكره المشي في النعلين.
قال أحمد في الرجل يدخل المقابر وفيها شوك يخلع نعليه؟: هذا يضيق على الناس، حتى يمشي الرجل في الشوك، وإن فعله فحسن، هو أحوط، وإن لم يفعله رجل، يعني لا بأس، وذلك لأن العذر يمنع الوجوب في بعض الأحوال، والاستحباب أولى، ولا يدخل في الاستحباب نزع الخفاف، لأن نزعهما يشق، وقد روي عن أحمد أنه كان إذا أراد أن يخرج إلى الجنازة لبس خفيه، مع أمره بخلع النعال، وذكر القاضي أن الكراهية لا تتعدى النعال إلى "الشمشكات" ولا غيرها، لأن النهي غير معلل، فلا يتعدى محله).
فالراجح من قولي العلماء أنه يستحب خلع النعلين عند دخول المقابر، ما لم يكن هناك مانع، والموانع هي نحو:
1. الشوك.
2. النجاسة.
3. الرمضاء.
4. الظلام.
5. شدة البرد ونزول الثلج.
6. علة في الأقدام، خاصة لمن كان مصاباً بمرض السُّكر، ونحوه.
7. مطر أوطين.
وذلك لحديث بشير بن الخصاصية رضي الله عنه السابق, ولعدم صراحة دليل المجيزين، وتعسف تأويلاتهم لحديث ابن الخصاصية، والله أعلم
=================000000
من تزوج امرأة ووجدها حبلى أوزانية
من تزوج امرأة بكراً ـ والعياذ بالله ـ ووجدها حبلى أوزانية:
1. يفرَّق بينهما.
2. لها الصداق بما استحل من فرجها.
3. إن كانت حبلى فالولد عبد له.
4. تجلد مائة جلدة، وإن كانت حبلى تنتظر حتى تضع.
عن سعيد بن المسيب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له نصرة بن أكثم الخزاعي قال: تزوجت امرأة بكراً في سترها، فدخلت عليها فإذا هي حبلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولد عبد لك، فإذا ولدت فاجلدها".
0000000000000 زاد المعاد - (ج 5 / ص 95)
فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ تَزَوّجَ امْرَأَةً فَوَجَدَهَا فِي الْحَبَلِ(4/29)
فِي " السّنَنِ " وَ " الْمُصَنّفِ " : عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ عَنْ بُصْرَةَ بْنِ أَكْثَمَ قَالَ تَزَوّجْتُ امْرَأَةً بِكْرًا فِي سِتْرِهَا فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَإِذَا هِيَ حُبْلَى فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا الصّدَاقُ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَالْوَلَدُ عَبْدٌ لَك وَإِذَا وَلَدَتْ فَاجْلِدُوهَا وَفَرّقَ بَيْنَهُمَا . [ ص 96 ] أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَوُجُوبُ الْمَهْرِ الْمُسَمّى فِي النّكَاحِ الْفَاسِدِ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ الثّلَاثَةِ . وَالثّانِي : يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ . وَالثّالِثُ يَجِبُ أَقَلّ الْأَمْرَيْنِ . وَتَضَمّنَتْ وُجُوبَ الْحَدّ بِالْحَبَلِ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيّنَةٌ وَلَا اعْتِرَافٌ وَالْحَبَلُ مِنْ أَقْوَى الْبَيّنَاتِ وَهَذَا مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَأَمّا حُكْمُهُ بِكَوْنِ الْوَلَدِ عَبْدًا لِلزّوْجِ فَقَدْ قِيلَ إنّهُ لَمّا كَانَ وَلَدَ زِنًى لَا أَبَ لَهُ وَقَدْ غَرّتْهُ مِنْ نَفْسِهَا وَغَرِمَ صَدَاقَهَا أَخْدَمَهُ وَلَدَهَا وَجَعَلَهُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ لَا أَنّهُ أَرَقّهُ فَإِنّهُ انْعَقَدَ حُرّا تَبَعًا لِحُرّيّةِ أُمّهِ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَقّهُ عُقُوبَةً لِأُمّهِ عَلَى زِنَاهَا وَتَغْرِيرِهَا لِلزّوْجِ وَيَكُونُ هَذَا خَاصّا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِذَلِكَ الْوَلَدِ لَا يَتَعَدّى الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَنْسُوخًا . وَقَدْ قِيلَ إنّهُ [ ص 97 ] كَانَ فِي أَوّلِ الْإِسْلَامِ يُسْتَرَقّ الْحُرّ فِي الدّينِ وَعَلَيْهِ حِمْلُ بَيْعِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُسْتَرَقّ فِي دِينِهِ . وَاَللّهُ أَعْلَم . 0
=================00000
متى يجب الوفاء بالنذر ومتى لا يجب؟
يجب الوفاء بالنذر إذا كان المنذور طاعة لله عز وجل، مثل الصلاة، والصوم، والحج، والعمرة، والصدقة المشروعة، أما إذا كان المنذور ليس بطاعة مشروعة، مثل من نذر أن يحج صامتاً، أوأن يقف في الشمس، ونحو ذلك فلا يجب الوفاء به، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، ولقوله كذلك: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين".
قال شيخ الإٍسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما إذا كان المنذور معصية، مثل أن ينذر لوثن من الأوثان، كالنذر للأصنام التي كانت تعبدها العرب، والبدور التي تعبدها الهند والزُّط، والنذر لكنيسة أوبيعة، أوالنذر لنبي أورجل صالح، أوغير ذلك، فهذا كله لا يجوز الوفاء به بإجماع المسلمين.
وإن كان المنذور طاعة ومعصية، أمِر بفعل الطاعة ونُهي عن فعل المعصية وإن كان الناذر يعتقد أنها طاعة، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فإذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس فلا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتكلم، وليستظل، وليتم صومه").
النذر لغير الله للمشايخ وغيرهم من الشرك الأكبر الذي يخرج المسلم من دائرة الإسلام إلى الكفر، ولا ينبغي الاغترار بقضاء الحاجات إثر هذه النذور الشركية، فإن هذا من باب الاستدراج والفتنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما اعتقاد بعض الجهال أن حاجته قضيت بسبب هذه النذور فهذا جهل وضلال، فإن نذر الطاعة الذي يجب الوفاء به لا يفيد في قضاء الحوائج، ولا يستحب بل يكره، فكيف بنذر المعصية؟ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه نهى عن النذر، وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل"، وقال: "إن النذر يرد ابن آدم إلى القدر، فيعطي على النذر ما لم يعطه على غيره".
فمن نذر نذر طاعة ولم يستطع الوفاء به فعليه كفارة يمين، وهي على الترتيب:
أولاً: (أ) إطعام عشرة مساكين أوكسوتهم
والكفارة تكون بالإطعام والكسوة.
فالإطعام إما أن يعطي كل مسكين مداً من ذرة أوبر، أويصنع طعاماً، أويحضرهم ويغدِّيهم أويعشِّيهم في مطبخ من المطابخ، وله أن يشتري الخبز واللحم وما يتعلق بصنع الإدام ويدفعه لعشرة مساكين.
أو(ب) عتق رقبة مؤمنة، ذكراً كان أم أنثى
ثانياً: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام
ولا يشترط في أيام الصيام أن تكون متوالية، بل يجوز أن تفرَّق.(4/30)
فلا يحل لمن استطاع الإطعام، أوالكسوة، أوالعتق أن ينتقل إلى الصيام، قال تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعامُ عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أوكسوتهم أوتحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون".
=================0000
لا يحلُّ لمسلم ولا مسلمة أن يلبس شيئاً فيه صورة إنسان ولا حيوان
الأصل في العبادات أنها توقيفية لا يقبل منها شيء إلا إذا كان على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ما سوى العبادات من العادات فالأصل فيها الإباحة، فلا يحرم منها شيء إلا ما حرَّمه الله ورسوله.
من ذلك اللباس والزينة، فإنه يحل للمسلم أن يلبس ويتزين بما شاء ما لم يكن محرماً أومكروهاً، أما ما حرم الشارع فلا يحل لمسلم أن يلبسه أويتزين به، ولا يمكِّن أحداً ممن يعول من النساء والأطفال من ذلك.
من تلك الأمور التي حرمها الشارع الحكيم في اللباس أن يلبس المسلم ثوباً أوقميصاً ونحوهما فيه صورة إنسان، أوحيوان، أوطير، صغيرة كانت الصورة أم كبيرة، وذلك لأن صورة ما فيه روح من الإنسان والحيوان تمنع دخول ملائكة الرحمة، وفي ذلك ضرر بليغ على لابس هذا الثوب ومن يدخل عليهم ويسكن معهم من الأهل وغيرهم، فضرر لبس ثوب فيه صورة ضرر متعدٍ على غيره من الناس.
صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة".
تزداد حرمة لبس ما فيه صورة ذي روح على الرجال والنساء والأطفال إذا كانت الصورة لكافر، أوفاسق، أومَنْ يُعتقد فيه النفع والضر.
وتشتد الحرمة كذلك بدخول المسجد بهذه الملابس لما في ذلك من إيذاء الملائكة، وشغل المصلين عن صلاتهم بالنظر إلى هذه الصورة.
فالحذر كل الحذر من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فمخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فتنة، وقد فُسِّرت الفتنة بالشرك: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم" الآية، كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رآه يأكل بشماله: "كل بيمينك"، قال: لا أستطيع؛ فقال له: "لا استطعت"، ما منعه إلا الكِبْر، فلم يرفع يده إلى فيه، فقد شلت في الحال.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا وأهلينا من الراشدين، وصلى الله وسلم على رسول رب العالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
=================
هل المني طاهر أم نجس؟ وما حكم من صلى وفي ثوبه أوبدنه مني لم يغسله؟
الحمد لله.
ذهب أهل العلم في طهارة مني الآدمي ونجاسته مذهبين، هما:
الأول: مني الآدمي طاهر
وهذا مذهب عائشة، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر رضي الله عنهم من الصحابة، وسعيد بن المسيب، وعطاء من التابعين، والشافعي، وأصح الروايتين عن أحمد، وإسحاق، وداود الظاهري، وابن المنذر من الأئمة رحمهم الله.
استدل هذا الفريق بالآتي
1. بما صحَّ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه"، رواه مسلم وأهل السنن.
2. وبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب؟ فقال: "إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أوإذخرة".
3. وبأن الله خلق منه الإنسان الذي كرمه على سائر مخلوقاته.
الثاني: مني الآدمي نجس
وهذا مذهب الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، ورواية عن أحمد رحمهم الله.
استدل هذا الفريق بالآتي
1. بما صحَّ عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني"، رواه مسلم.
2. وفي رواية عنها: "كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم"، متفق عليه.
3. وفي رواية عنها أنها قالت لرجل أصاب ثوبه مني فغسله كله: "إنما كان يجزيك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تره نضحت حوله، لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه".
4. وبحديث ضعيف: "كان يأمر بحت المني".
5. وقياساً على البول والحيض، لأن مخرج كل ذلك واحد.
أما حكم الصلاة في الثوب يصيبه المني
فللعلماء في ذلك مذاهب أيضاً:
1. يغسل المني من الثوب والبدن استحباباً وليس وجوباً، ومن صلى وهو على بدنه أوثوبه ناسياً كان أم ذاكراً فلا إعادة عليه، وهذا مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وداود.
2. يغسل المني إن كان رطباً ويفرك إن كان يابساً، وهذا مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب أحمد.
3. يغسل المني من البدن والثوب سواء كان رطباً أم يابساً، وإلا عليه الإعادة، وهذا مذهب مالك رحمه الله.(4/31)
قال الخرقي: (والمني طاهر، وهي الرواية الصحيحة في مذهب أحمد، اختارها الوالد السعيد، وشيخه، وبها قال الشافعي وداود، وفي رواية عند أحمد إنه كالدم.
وقال أبو بكر في التنبيه: إن كان رطباً غسل، وإن كان يابساً فرك، فمتى لم يفعل ذلك وصلى فيه أعاد الصلاة، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: يغسل بكل حال).
وقال النووي: (المني طاهر عندنا ـ الشافعية ـ وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد، وحكاه العبدري وغيره عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم، وقال الثوري، والأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة، وأصحابه: نجس، لكن عند أبي حنيفة يجزي فركه يابساً، وأوجب الأوزاعي ومالك غسله يابساً ورطباً).
والذي يترجح لدي من الأدلة ومن أقوال أهل العلم السابقة أن مني الآدمي ذكراً كان أم أنثى، سيما المسلم ـ وأما المشركون فهم أنجاس حساً ومعنى ـ طاهر، ويستحب غسله إن كان رطباً تنظفاً وتنزهاً، ويكفي فركه يابساً، وإن صلى وعلى ثوبه أو بدنه شيء من ذلك فلا إعادة عليه، والله أعلم.
تنبيه
أما غير الآدمي من الحيوانات فللعلماء فيه ثلاثة أقوال كما قال النووي في المجموع، هي:
1. مني جميع الحيوانات طاهر عدا الكلب والخنزير، قياساً على البيض ومني الآدمي.
2. مني جميع الحيوانات نجس.
3. ما أكل لحمه من الحيوان فمنيه طاهر، وما لم يؤكل لحمه فمنيه نجس.
=================00000
أضواء البيان - (ج 3 / ص 27)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
المسألة الثانية - استنبط النقاش وغيره من هذه الاية الكريمة : أن المني ليس بنجس ، قالوا : كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغاً خالصاً ، كذلك يجوز أن يخرج المني من مخرج البول طاهراً .
قال ابن العربي : إن هذا لجهل عظيم ، وأخذ شنيع! اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ، ليكون عبرة . فاقتضى ذلك كلع وصف الخلوص واللذة . وليس من هذه الحالة حتّى يكون ملحقاً به ، أو مقيساً عليه .
قال القرطبي بعد أن نقل الكلام المذكور : قلتك قد يعارض هذا بأن يقال : وأي منة أعظم وأرفع من حروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم؟ وقد قال تعالى : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب } [ الطارق : 7 ] وقال : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } [ النحل : 72 ] وهذا غاية في الامتنان .
فإن قيل : إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول .
قلنا : هو ما أردناه . فلانجاسة عارضة وأصله طاهر اه محل الغرض من كلام القرطبي .
قال مقيدخ عفا الله عنه : وأخذ حكم طهارة المني من هذه الآية الكريمة لا يخلوا عندي من يعد . وسنبين إن شاء الله حكم المني : هل هو نجس أو طاهر ، وأقوال العلماء في ذلك ، مع مناقشة الأدلة . اعلم - أن في مني الإنسان ثلاثة أقوال للعلماء : الأول - أنه طاهرن وأن حكمه حكم النخامة والمخاط . وهذاهو مهب الشافعي ، وأصح الروايتين عن أحمد ، وبه عن سعد بن أبي وقاص ، وابن عمر ، وعائشة رضي الله عنهم . كما نقله النووي في « شرح المهذب » وغيره .
القول الثاني - أنه نجس ، ولا بد في طهارته من الماء سواء كان يابساً أو رطباً . وهذا هو مذهب مالك ، والثوري والأوزاعي .
القول الثالث - أنه نجس ، ورطبه لا بد له من الماء ، ويابسه لا يحتاج إلى الماء بل يطهر بفركه من الثوب حتّى يزول منه . وهذا هو مذهب أبي حنيفة . واختار الشوطاني في ( نيل الأوطار ) : أنه نجس ، وأن إزالته لا تتوقف على الماء مطلقاً .
أما حجة من قال إنه طاهر كالمخاط فهي بالنص والقاس معاً ، ومعلوم في الأصول : أن القياس الموافق للنص لا مانع منه ، لأنه دليل آخر عاضد للنص ، ولا مانع من تعاضد الأدلة .
أما النص فهو ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ يذهب فيصلي فيه » . أخرجه مسلم في صحيحه ، وأصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد . قالوا : فركها له يابساً ، وصلاته في الثوب من غير ذكر غسل - دليل على الطهارة . وفي رواية عند أحمد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ، ثم يصلي فيه ، ويحته من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه .
وفي رواية عن عائشة عند الدارقطني : « كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً ، وأغسله إذا كان رطباً » وعن إسحاق بن يوسف قال : حدثنا شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : سئل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب فقال : « إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق ، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة » .(4/32)