فلا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد.
هذه العداوة ليست قاصرة على الزوجة والأولاد، بل ربما تكون عداوة الزوج لزوجته وأولاده وفتنته لهم أشد وأنكى.
لهذا قصر الله الطاعة فيمن تجب طاعته في المعروف فقط: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً".
فتنة الأهل والولد درجات، فقد تصل الفتنة إلى درجة الكفر، وقد تقصر عن ذلك: "فأما الغلام فكان أبواه مؤمِنَيْن فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً".
روى الترمذي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله عز وجل: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما"، ثم أخذ في خطبته، وروي عنه أنه قال: "الأولاد مجبنة مبخلة".
وجاء في حكمة عيسى عليه السلام: "من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً".
ثانياً: أن يضطروه ويجبروه على المكاسب المحرمة والمشبوهة
من صور الفتنة التي قد تحدث لبعض الناس من أهليهم وأولادهم أن يدفعوهم إلى بعض المكاسب الخبيثة المشبوهة، وهذه من أخطر الصور وأضرها على المرء وعلى أهله وأولاده، فالواجب على المرء أن يقي نفسه وأهله أكل الحرام المؤدي إلى دخول النار: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"، ولهذا عندما رأى رسولنا الحسن يرفع تمرة من تمر الصدقة المحرمة على رسول الله وآله إلى فيه، قال له: "كخ كخ" حتى رماها؛ وعندما علم أبوبكر أن غلامه تكهن وأتاه بطعام تقيأه بعد ما أدخله في فيه، وقال: لو لم يخرج إلا مع نفسي لأخرجته.
ثالثاً: أن يحابي بعض أزواجه وأولاده دون بعض
هذه كذلك من صور الفتن الخطيرة التي ابتلي بها البعض، حيث يمنح بعض أزواجه أوولده دون الآخرين، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا المسلك وحذر منه، وقال لبشير بن سعيد عندما أراد أن يمنح ابنه النعمان حديقة: "أكل بنيك منحت هكذا؟ قال: لا؛ فقال: "لا تشهدني على جور، أشهد على ذلك غيري" الحديث.
سواء كانت هذه المنحة عن طريق الهبة أوالوصية أوبأي طريق من طرق الاحتيال.
رابعاً: عدم الصبر والثبات إذا أصيب في شيء من ماله، أوأهله، أوولده
من الفتن العظيمة والمخاطر الجسيمة التي يقع فيها البعض بسبب مصيبة تحل بماله أوولده، فلا يصبر ويحتسب، وإنما يصيح ويجزع، فيخسر الدنيا والآخرة.
عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي أصيبت في ولدها: "اصبري واحتسبي"، قالت له ولم تكن تعرفه: إليكَ عني، فلو أصابك ما أصابني..، فتركها، وعندما علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت إليه نادمة معتذرة، فقال له: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، ولهذا عظم ثواب وأجر المحتسبين، فقد صح عنه أنه قال: "يقول المولى عز وجل للملائكة الموكلين بقبض الأرواح: قبضتم ولد عبدي، قبضتم ثمرة فؤاده؟ يقولون: نعم، يقول لهم: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد".
لقد هذب الإسلام عواطف أتباعه وسما بها حتى غدوا يتنافسون في الصبر والثبات والاحتساب، فعندما مات ولد أبي طلحة فكتمت أمه أم سُليم الخبر حتى تعشى ونال منها، ثم أخبرته أن صاحب الأمانة استردها، قائلة: احتسب ولدك؛ قال: والله لن تغلبيني على الصبر؛ فصبر واحتسب، فعوضهما الله خيراً منه.
وكذلك فعلت الخنساء التي بكت أخاها صخراً ورثته رثاء حزيناً صادقاً في جاهليتها، ولكن عندما شرفها الله بالإسلام حضت أولادها الأربعة على الجهاد، وحذرتهم من الفرار، وخرجت لخدمتهم في واقعة القادسية، فاستشهد أربعتهم، فاحتسبتهم وحمدت الله واسترجعت، ولم ترثهم ببيت واحد.
وكذلك فعلت تلك الصحابية التي استشهد لها عدد من الولد في غزاة من الغزوات، فقالت: كيف رسول الله؟ قالوا لها: بخير؛ فقالت: أرونيه؛ فلما رأته قالت: كل شيء بعدك جلل؛ أي سهل وحقير.
فعلى المسلمين أن يتأسوا بسلفهم الصالح، ويقتدوا بهم، وأن يتذكروا عند المصائب مصابهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لم يصب مسلم مصاباً أشد ولا أكبر منه.
خامساً: غلبة العواطف، فيلبي جميع الكماليات، ويقصِّر في أوجب الواجبات
من الواجب على المرء الإنفاق على الزوجة والأولاد، ولكن نجد بعض الأزواج والآباء يبالغون في تلبية جميع الكماليات، التي في كثير من الأحيان يكون فيها إفساد لهم، بجانب الإرهاق المادي لمن يتكلفون لذلك، بينما نجد تقصيرهم كبير فيما أوجبه الله عليهم من تعليمهم، وإرشادهم، وتوجيههم، ومراقبة تصرفاتهم، والاطمئنان على صلاح من يرافقون ويصادقون.(1/258)
فقد أمر الشارع الأولياء من الآباء وغيرهم أن يأمروا أبنائهم بالصلاة لسبع سنين، ويضربوهم عليها لعشر، وينبغي أن يكون تعويدهم على ذلك قبل السابعة، لكننا نجد بعض الشباب والشابات وقد تجاوزوا سن الاحتلام لا يصلون ولا يصومون، ويعتقد آباؤهم أنهم ما زالوا صغاراً.
كذلك من الواجب على راعي الأسرة والمسؤول عنها أن يراقب ما يلبسون، ويقرأون، ويشاهدون، ولا يحل له أن يكون متعهداً يحضر ما يُطلب منه فقط، فقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول" الحديث خصَّ وعمم فيه، وممن خصهم الرجل والمرأة اللذان هما عماد الأسرة الصالحة، نواة المجتمع الفاضل.
دعك عن أن يحث أولاده الذكور على صلاة الجماعة، وأن يصحبهم معه إلى الجمع والجماعات، ناسياً أن وصية الله عز وجل الآباء بالأبناء سابقة لوصيته سبحانه الأبناء بالآباء: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر"، "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً"، وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي كثيراً ما يقول: "أيقظوا صاحبات الحجر"، أوكما قال.
ينبغي أن يكون حرص الوالدين والأولياء على الأدب والسلوك أكبر من حرصهم على مصالح أبنائهم الدنيوية، متمثلة باهتمامهم بالتعليم المدني مقابل إغفالهم وإهمالهم لتقويم وتوجيه سلوك الأبناء.
ما تنفقه بعض الأسر على التعليم المدني لو أنفقوا معشاره على تربيتهم وتنشئتهم التنشئة الصالحة وذلك عن طريق إحضار مربين أخيار ملازمين لهم كما كان يفعل سلفنا الصالح، هذه من السنن الحميدة واللفتات البارعة والمعينة على تربية الأبناء، سيما لأولئك المشغولين من المسؤولين والتجار، التي غفلنا عنها في العصور المتأخرة، فعلينا أن نحيي هذه السنة الحسنة، فما يبذله كثير من الآباء في الدروس الخصوصية بمستوياتها المختلفة، وفي القبول الخاص، يمكن أن يوفر الكثير منها إذا حرصنا على التنشئة الأولى وأوليناها اهتماماً.
من أجل النعم على العباد بعد الإيمان والاستقامة الأبناء الصالحين والأولاد الخيرين الفالحين، الذين يستمر نفعهم ويستفيد الآباء والأمهات بهم أحياء وأمواتاً: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث، وذكر منهم: "ابن صالح يدعو له".
احذروا أيها الآباء هذه الفتنة التي سببها المبالغة في حب الأبناء والتجاوز فيه، فقد جعل الله لكل شيء قدراً، وليكن لكم القدوة الحسنة في ابن عمر الذي هجر ولده بلالاً لرده لحديث لشدة غيرته، وقال له: "والله لا أحدثك أبداً"، وفي سعد بن أبي وقاص عندما قالت له أمه: لا أستظل حتى ترجع عن دين محمد؛ فقال لها: والله يا أماه لو كانت لك مائة نفس خرجت كل واحدة تلو الأخرى ما تركت دين محمد صلى الله عليه وسلم.
سادساً: أن يكونوا سبباً في جبنه وبخله
من فتنة الأهل والأولاد المشاهدة العِدَة بالجبن والبخل، تصديقاً لقوله عز وجل: "الشيطان يعدكم الفقر"، وعِدَة الشيطان بالفقر قد تحدث نتيجة وسوسته، أوبتحريك من ينوبون عنه، زوجة كانت، أم أبناء، أم أصدقاء، أم أقرباء، ونحوهم من جنوده الكثر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الأبناء مجبنة مبخلة"، وفي ذلك تحذير أيما تحذير من طاعتهم في تثبيطهم عن الغزو والإنفاق في سبل الخير المختلفة، لأن الجبن والبخل من الأدواء المذلة، ولهذا أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منهما"، اللهم إني أعوذ بك من الجبن والبخل".
تذكر أخي المسلم صنيع أبي طلحة الأنصاري وزوجه أم سُليم مع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما نوَّمُوا صغارهم وأطفأوا سراجهم، وخصوا الضيف بجميع طعامهم، مما جعل الله ورسوله يسرَّان لحسن صنيعهما هذا.
ورضي الله عن خالد بن الوليد سيف الله وسيف رسوله القائل: لقد خضتُ عشرين زحفاً، وما من موضع شبر في جسمي إلا فيه ضربة بسيف أوطعنة برمح، وها أنذا أموتُ على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"، إي وربي، فلا نامت أعين الجبناء ولا البخلاء، ولهذا جاء في الحكم: "احرص على الموت توهب لك الحياة"، ولله در القائل:
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
من لم يمت في ساحات القتال والجهاد مات بالحوادث التي يفوق موتاها عدد المجاهدين المقاتلين أضعافاً مضاعفة.
ورضي الله عن عمرو بن الجموح الأعرج الذي عذره ربه وناب عنه بنوه في غزوة أحُد، ولكن همته العالية أبت إلا أن يخرج في أحد ليطأ بعرجته تلك الجنة.
أيها الآباء احذروا أن تفتنوا أبنائكم بمنعهم عن الغزو والجهاد، الذي هو ذروة سنام الإسلام، سبيل رفع الضيم والظلم والعدوان عن هذه الأمة.
سابعاً: أن يكونوا سبباً في عقوق والديك وتشاغلك عنهم
من فتن الأبناء والأهل الخطيرة على الرجل أن يحولوا بينه وبين بره لوالديه أويحملوه على عقوقهم، بدلاً من أن يعينوه على ذلك ويذكروه.(1/259)
كثير من الآباء والأمهات يشكون من أبنائهم ومن تقصيرهم نحوهم بعد الزواج، وتشاغلهم عنهم، وهذا لا يحل، وتذكر أخي أنك كما تدين تدان، وليكن لك في ذلك العبد الصالح أول الثلاثة الذين انسد عليهم الغار، فسألوا الله بأرجى أعمالهم فقال: "اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم فإذا رحتُ عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه نأى بي الشجر، فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء" الحديث، الأسوة والقدوة، وأبواك لا يطمعان منك أن تفعل بهما ما فعل هذا العبد الصالح، بل يقنعان بأقل القليل منك.
واعلموا أيها الأبناء أنكم ستصيرون آباء عجزة ضعفاء تحتاجون إلى بر وإحسان أبنائكم، وأنت أيتها الزوجة تذكري حاجتك إلى بر أبنائك في الكبر وأعيني زوجك على بر أبويه والإحسان إلى أقاربه وأرحامه.
فأولى الناس بحسن الصحبة الأم ثم الأب، ثم الأدنى فالأدنى.
وأنتم أيها الوالدان أعينوا أبناءكم على بركم ولا تضيقوا عليهم، واحذروا الغيرة من الزوجة والأبناء فإنها من الأدواء.
ثامناً: أن يشغلوه عن طاعة ربه وتقصيره فيها
من جملة فتنة المال والأهل أن يشغلوا الإنسان عن طاعة ربه، فيعرضوا له في صلاته وعبادته، فيحولوا بينه وبين مناجاة ربه، إذ الطمأنينة والخشوع في العبادة خاصة الصلاة لبها ومقصودها، فإذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم إمام الخاشعين قطع خطبته لما رأى حسناً وحسيناً وحملهما ثم واصل خطبته، فكيف بغيره؟!
روى الحسن وغيره في تفسير قوله تعالى: "إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد. فقال إني أحببتُ حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب. ردوها عليَّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق": (صلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه – أي الخيل – وكانت ألف فرس، فعرض عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غربت، وفاتت الصلاة، ولم يُعلم بذلك هيبة له، فاغتم، فقال: "ردوها علي"، فردت، فعقرها بالسيف قربة لله، وبقي منها مائة، فما في أيدي الناس من الخيل العتاق اليوم فهي من نسل تلك الخيل).
وما فعله سليمان عليه السلام وقد فاتته صلاة العصر فعله الصحابي الجليل أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه عندما انشغل عن صلاته.
روى مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر: "أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائط له، فطار دبسي، فطفق يتردد يلتمس مخرجاً، فأعجبه ذلك، فجعل يتبعه ببصره ساعة، ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابني في مالي هذا فتنة؛ فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة، وقال: يا رسول الله هو صدقة لله، فضعه حيث شئت" .
كفارة فتنة الرجل بماله، وأهله، وولده، وغيرهم
الفتن التي تعرض للإنسان بسبب ماله، وأهله، وجيرانه، وغير ذلك كثيرة ومتنوعة، منها ما هو:
1. صغائر تكفرها الأعمال الصالحة من صلاة، وصيام، وحج، وصدقة، وأمر بمعروف، ونهي عن المنكر، وما شابهها.
2. كبائر يفعلها الإنسان ويقلع عنها، وهذه تحتاج إلى توبة واستغفار.
3. ومنها ذنوب يصر عليها صاحبها ويعاودها كلما تاب وندم منها يضعف عن ذلك، مع علمه بقبحها، ويتمنى الخلاص منها، فهو في رجاء الله وإن كان يُخشى عليه.
4. ومنها بدع وحوادث، وهي من أخطرها.
5. ومنها الكفر والشرك الأعظم الذي لا يفيد معه عمل صالح.
قال تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين".
وقال: "والذين إذا فعلوا فاحشة أوظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم".
وهذا معنى ما قاله حذيفة وأقره عليه عمر رضي الله عنهما.
قال الإمام ابن عبد البر معلقاً وشارحاً لقول أبي طلحة السابق: "لقد أصابتني فتنة في مالي": (الفتن على وجوه، فأما فتنة الرجل في ماله وأهله، فتكفرها الصلاة والصدقة، وكذلك قال حذيفة لعمر في الحديث الصحيح، وصدقه عمر، وقال: لستُ عن هذه أسألك؛ وقال جماعة من فقهاء الحجاز والعراق: إن المعاصي كلها فتنة، تكفرها الصلاة والصوم ما لم يواقع الكبائر؛ دليل ذلك قول الله عز وجل: "إن الحسنات يذهبن السيئات"، نزلت في رجل أصاب من امرأة ما ليس بكبيرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر التجار، إن هذا البيع يشوبه الحلف والكذب، فشوبوه بالصدقة".(1/260)
وكل من فتن بشيء من المعاصي والشهوات المحظورة، فهو مفتون، إلا أنه إن ترك وأناب، واستغفر وتاب، غفر له مع أدائه لصلاته وزكاته وصومه، وهذه صفات المذنبين، وقد فتِنَ الصالحون وابتلوا بالذنوب، قال الله تعالى: "وإذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون"، وقال: "والذين إذا فعلوا فاحشة أوظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" الآية.
وقد يكون من هذا الباب من الفتنة: ما هو أشد مما وصفنا، وهو الإصرار على الذنب، والإقامة عليه، وأنه لم يأته، فليته على تلك الحال، ويحب أن تسمح نفسه بترك ما هو عليه من قبيح أفعاله، وهو مع ذلك لا يقلع عنها، فهذا وإن كان مصراً لم تأت منه توبة، فهو مقر بالذنوب والتقصير، ويحب أن يختم الله له بخير، فيغفر له هذا برجائه، ولا يقطع عليه، وليست فتنة بذلك تخرجه عن الإسلام، وقال بعضهم: ولا هو ممن تنكت في قلبه نكتة سوداء غلبت عليه، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، كما قال حذيفة في ذلك الحديث، لأنه ينكر ما هو عليه، ويود أنه تاب منه، قالوا: وإنما ذلك في الأهواء المردية، والبدع المحدثة، التي تتخذ ديناً وإيماناً، ويشهد بها على الله تعدياً وافتراء، ولا يحب من فتن بها أن يقصر فيها، ولا ينتقل عنها، ويود أن لا يأتيه الموت إلا عليها، فهذا أيضاً مفتون مغرور مستدرج، قد أصابته فتنة زيِّن له فيها سوء عمله، يود أن يكون الناس كلهم مثله، قالوا: فهذه الفتة أشد من الفتنتين اللتين ذكرنا من فتن الذنوب.
ومن الفتن أيضاً الكفر، وقد سماه الله فتنة بقوله: "والفتنة أشد من القتل").
اللهم اعصمنا من الفتن، وأحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، غير خزايا ولا مفتونين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
=================00000
ما ذُبِح لغير الله عز وجل فلا يؤكل
لقد نهى الله ورسوله عن الذبح لغير الله، وعدّ ذلك من نواقض الإسلام البينة، ومن مبطلاته الواضحة، فقال عز من قائل: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"، وقال: "فصَلِّ لربك وانحر"، وقال: "ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه وإنه لفسق"، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ذبح لغير الله فقد أشرك" الحديث، ولا تفيد التسمية ما ذُبح لغير الله شيئاً.
لقد كثر الذبح لغير الله في هذا العصر وتنوع، فعلى المسلمين أن يحذروا من أكله وتعاطيه، فإنه من المحرمات الخبائث.
الذبح لغير الله له أسباب عديدة، فمن الناس من يذبح نذراً أوتقرباً لبعض المشايخ، أحياء وأمواتاً، ومنهم من يذبح للجن والشياطين من حيث يشعر أولا يشعر، ومنهم من يذبح خوفاً من إصابة العين أوحدوث مكروه، ومنهم من يذبح للملوك والرؤساء إذا مروا عليهم أوجاءوا بناحيتهم، وهكذا، وإليك بعض الصور والنماذج لذلك:
1. الذبح نذراً وتقرباً لبعض المشايخ الأحياء والأموات، فمن النساء من تنذر للشيخ إذا رزقت مولوداً أن تذبح ذبيحة أياً كان نوعها، أوإذا شفى مريضها، أونجح وليدها، وهكذا.
2. الذبح طاعة للشياطين كما يحدث في حلقات "الزار"، حيث يطلب الشيطان على لسان البعض أن تذبح شاة بوصف معين، وقد يأمر بشرب كوب من دمها المسفوح، وسرعان ما تنفذ مثل هذه الطلبات.
3. إذا ارتحل الإنسان في دار جديدة خشية أن يصيبه مكروه أوعين.
4. إذا افتتح مصنعاً أومحلاً تجارياً خشية أن يصيبه مكروه أوعين.
5. إذا اشترى مركبة جديدة خشية أن يصيبه مكروه أوعين.
6. إذا حضر رئيس أوشيخ طريقة في قرية أومحلة من المحلات أوحي من الأحياء.
7. في حفلات تأبين الأموات، بعد الثلاثة، أوالأربعين، أوالسنة.
8. ما يذبح في حوليات المشايخ سنوياً.
9. ما يذبح في الأعياد البدعية.
10. ما يعقره بعض الأعراب من باب التفاخر والسمعة والرياء.
11. ما يذبح في أعياد الكفار.(1/261)
قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله وهو يجيب على تساؤل: كيف يتأتى قصد الشارع الإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها؟: (قيل معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع، لا يقصد بها عمل جاهلي، ولا اختراع شيطاني، ولا تشبه بغير أهل الملة، كشرب الماء والعسل في صورة شرب الخمر، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود والنصارى، وإن صنعه المسلم، أوذبح على مضاهاة الجاهلية، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك، كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي أجرى عيناً، فقال له المهندسون عن ظهور الماء: لو أهرقت عليها دماً كان أحرى أن لا تغيض، ولا تهور فتقتل من يعمل فيها؛ فنحر جزائر، حين أرسل الماء فجرى مختلطاً بالدم، فأمر فصنع له ولأصحابه منها طعاماً، فأكل وأكلوا، وقسم سائرها بين العمال فيها؛ فقال ابن شهاب: بئس والله ما صنع، ما حل له نحرها ولا الأكل منها، أما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يذبح للجن"؛ لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاهاة لما ذبح على النصب، وسائر ما أهل لغير الله به.
وكذلك جاء النهي عن "معاقرة الأعراب"، وهي أن يتبارى الرجلان فيعقر كل واحد منهما، يجاود به صاحبه، فأكثرهما عقراً أجودهما، نهى عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به.
قال الخطابي: وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان، وأوان حوادث تتجدد لهم، وفي نحو ذلك من الأمور.
وخرج أبوداود: "نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتبارين أن يؤكل، وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه؟ وهذا وما كان نحوه إنما شرع على جهة أن يذبح على المشروع يقصد مجرد الأكل، فإذا زيد فيه هذا القصد كان تشريكاً في المشروع، ولحظاً لغير أمر الله تعالى، وعلى هذا وقعت الفتية من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز، وقوله فيها مما أهل لغير الله به، وهو باب واسع).
ويلحق بذلك ما يصنعه البعض من تقديم "بليلة"، أو"زلابيا"، أو شاي وتمر، ويرسولونه إلى المساجد والخلاوي، فيغلب على الظن أن أغلبه يتقرب به لغير الله، فلابد من التحوط والتثبت قبل الأكل.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من سد جميع الذرائع التي قد تؤدي إلى فساد العقائد، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعنا معهم بعفوك وجودك يا كريم.
=================00000000
إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم
كما أن السنن الكونية لا تتغير ولا تتبدل إلا عندما يأذن الله بخراب الدنيا في آخر المطاف، فتختل السنن الكونية، وتتغير الموازين الكلية، وتتبدل النواميس الأرضية، فيكون اليوم من أيام المسيح الدجال الأربعين، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، أي أسبوع، وباقي أيامه كسائر أيامنا، ثم تخرج الشمس من غير مخرجها المعتاد، تخرج من المغرب.
فكذلك الأمر بالنسبة للسنن الشرعية، والثوابت القطعية، والمسائل الكلية، فإنها لا ينبغي لها أن تتغير أوتتبدل عما كانت عليه في عهد الإسلام الأول، وإلا حل الخراب والدمار، وفسد الحال، ولا مجال للإصلاح إلا بالرجوع إلى الأمر الأول: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
حيث لا يمكن أن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أول هذه الأمة بالاعتصام بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف الصالح، وبعدم التنازل عن الثوابت.
لذلك فإن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، الذين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ولا يميزون بين سنة وبدعة، وحلال وحرام.
فمهما قل تمسك الناس بالدين، والتزامهم بسنة سيد المرسلين، إلا وأثر ذلك على حياتهم ومعاشهم: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس"، "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمَرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً"، فكما تدين الأمة تدان، فتخلي الناس عن الدين، وتهاونهم بسنة نبيهم الكريم، نذير شؤم وعلامة خطر عليهم، وكذلك قيام طائفةمن هذه الأمة بالأمر والنهي، والجهاد للدفاع عن الدين، ولصد المعتدين، من أوجب الواجبات، حيث يرفع الإثم عن الأمة، ويحد من غضب رب العالمين.(1/262)
أقول ذلك بمناسبة الفرق الشاسع والبون الواسع بيننا وبين سلفنا في كل شيء، إذ لا مجال للمقارنة، علماً بأن الجميع مكلفون، والكل سواسية في نظر الشرع، ولنضرب لذلك مثلاً واحداً لبعض المستضعفين الغرباء، وهم مهاجرة الحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم، في ثباتهم على دينهم، وعدم تنازلهم عنه، ولو أدى ذلك إلى هلاكهم، وبين استكانة المسلمين اليوم حكاماً، وعلماء، ودعاة، وعامة، وتنازلهم عن أصول دينهم وثوابتهم، بما أدهش الكافرين أنفسهم، وزاد من جرأتهم على غزو ديار الإسلام، وإهانة أبنائه، وشيوخه، ونسائه، وما حدث ويحدث في فلسطين، والعراق، وأفغانستان ليس ببعيد عنا، ولا أنسى أن أذكر بثالثة الأثافي، وهو ما حدث ويحدث في سجن أبي غريب بالعراق، حيث أهينت وخدشت العفة، وانتهكت الأعراض، ومارس فيها الأمريكان والبريطان ما يستحي منه بعض الحيوان.
أخرج أحمد1 وغيره بسند قوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ثمانين رجلاً: أنا، وجعفر، وأبوموسى، وعبد الله بن عُرْفطة، وعثمان بن مظعون؛ وبعثت قريش عمرو بن العاص وعُمارة بن الوليد بهدية، فقدما على النجاشي، فلما دخلا سجدا له وابتدراه، فقعد واحد عن يمينه، والآخر عن شماله، فقالا: إن نفراً من قومنا نزلوا بأرضك، فرغبوا عن ملتنا؛ قال: وأين هم؟ قالوا: بأرضك؛ فأرسل في طلبهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم؛ فاتبعوه، فدخل فسلم، فقالوا: مالك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله؛ قالوا: ولِمَ ذلك؟ قال: إن الله أرسل فينا رسولاً، وأمرنا أن لا نسجد إلا لله، وأمرنا بالصلاة والزكاة؛ فقال عمرو: إنهم يخالفونك في ابن مريم وأمه؛ قال: ما تقولون في ابن مريم وأمه؟ قال جعفر: نقول كما قال الله: روح الله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر؛ فرفع النجاشي عوداً من الأرض، وقال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان! ما تريدون، ما يسوءني هذا! أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته، فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضئه.
وقال: انزلوا حيث شئتم؛ وأمر بهدية الآخر فرُدَّت عليهم".
والله يحتار الإنسان أيعجب من موقف جعفر وأصحابه وثباتهم على الحق وعلى عدم التنازل، أم من صدق النجاشي وشجاعته؟!
وبضدها تتميز الأشياء، وتستبين المواقف والآراء، ويتضح الحق بجلاء، مقابل هذا الثبات، وتلك التضحيات من السلف الكرام، نجد الاستكانة، والتنازلات، والمسارعة بخطب ود من نهانا الله عن موالاتهم والتشبه بهم، واتخاذهم حلفاء وأصدقاء.
يتمثل ذلك في أقبح صوره في الآتي:
1. الدعوة إلى توحيد الأديان أوالتقارب بينها.
2. الدعوة إلى التعايش السلمي مع الكفار من اليهود والنصارى.
3. محاولة البعض نفي الكفر عن اليهود والنصارى.
4. التجسس لصالح الكفار.
5. العمل في المنظمات الدولية التي يهيمن عليها الكفار.
6. الحكم نيابة عنهم في البلاد التي استعمروها، كما هو الحال في العراق وأفغانستان.
7. تطبيع العلاقات مع الكفار المحاربين، لاسيما الدولة الصهيونية.
8. القتال تحت رايتهم.
9. الاستعانة بهم في القتال.
واللهَ أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومن والاهم بإحسان
=================00000
من تهاون في المندوب ترك الواجب، ومن تساهل في المكروه فعل الحرام
أعظم الفرائض
أفضل النوافل
أمة محمد صلى الله عليه وسلم، خير الأمم، يوم القيامة الوارثون للجنان، المكرمون برؤية العزيز الرحمن، أحد ثلاثة نفر إما سابق، وإما مقتصد، وإما ظالم لنفسه:"ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير* جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير* وقالوا الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله لايمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب".
وصنفهم في الواقعة بأنهم هم:
1. أصحاب المشأمة.
2. أصحاب الميمنة.
3. والسابقون المقربون.
فقال:"وكنتم أزواجاً ثلاثة* فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة* وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة* والسابقون السابقون* أولئك المقربون".
فأصحاب اليمين والسابقون ناجون من النار يدخلون الجنة مع أول الداخلين مع تفاوت بينهم، أما أصحاب المشأمة وهم الظالمون لأنفسهم فيدخلونها بعد أن يطهرهم الله بالنار مما اقترفوا في الدنيا، فالجنة طيبة لا يدخلها إلاَّطيب.
هذا أرجح قولي العلماء والمفسرين في تأويل آية فاطر "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا"، والقول الثاني إن الظالم لنفسه هو الكافر.(1/263)
قال القرطبي رحمه الله: (وقيل: الضمير في "يدخلونها" يعود إلى الثلاثة الأصناف، على ألاّ يكون الظالم هاهنا كافراً، أوفاسقاً؛ وممن روي عنه هذا القول: عمر، وعثمان، وأبوالدرداء، وابن مسعود، وعقبة بن عمرو، وعائشة، والتقدير على هذا القول أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر.
و"المقتصد" قال محمد بن يزيد:هو الذي يعطي الدنيا حقها، والآخرة حقها، فيكون "جنات عدن يدخلونها" عائداً على الجميع على هذا الشرح والتبيين، وروي عن أبي سعيد الخدري، وقال كعب الأحبار: استوت مناكبهم ـ ورب الكعبة ـ وتفاضلوا بأعمالهم.
وقال أبواسحاق السبيعي: أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناجٍ؛ وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال:"كلهم في الجنة"؛ وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سابقنا سابق، ومقتصدنا ناجٍ، وظالمنا مغفور له".
ثم رجح هذا القول قائلاً: القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله، لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا اصطفى دينهم، وهذا قول ستة من الصحابة، وحسبك).
على المسلمين جميعاً أن يتسابقوا في الخيرات، ويتنافسوا على المكرمات، ولا يرضوا بالدنيات، ولا ينبغي لأحد منهم أن يرضى أويقنع إلا بإحدى المنزلتين، منزلة السابقين فإن عجز فمنزلة المقتصدين فما منا من أحد يقوى على النار.
فالسابقون إلى الخيرات، الفائزون بجميع المكرمات، والحَالُّون أعلى الدرجات، هم المؤدون للواجبات، المتقربون بالنوافل والمندوبات، الممتنعون عن الشبه والمكروهات، دعك عن الكبائر والمحرمات.
أما المقتصدون فهم المؤديون للواجبات، المنتهون عن المحرمات، فإن كنت راغباً في تلك الدرجات، وعازماً على نيلها فاحذر أشد الحذر التهاون في المندوبات، المفضي
إلى ترك الواجبات، والتساهل في اقتراف المكروهات، والقرب من الشبهات، الباعث على فعل المحرمات.
ما تقرب متقرب إلى الله عز وجل بشيءٍ أحب إليه مما افترضه على عباده وجاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وما من شيءٍ تنال به محبة الله ورضاه أفضل من الإكثار من النوافل، وعدم الاقتصار على بعض الندوبات دون بعض.
صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه".
المراد بقوله عز وجل: كنت سمعه، وبصره، ويده، ورجله، يعني لا يسمع إلاََََّ ما أحل الله، ولا ينظر إلى ما حرَّم الله، ولا تنال يده محرماً ولا يضرب أو يظلم بها أحداً، ولا تمشي رجله وتسعى إلاَّ فيما يرضي الله ورسوله، وليس المراد أنَّه يسمع بسمع الله، وينظر بنظر الله، كما يقول أصحاب عقيدة الحلول والاتحاد، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في بيان أن أولياء الله على درجتين: مقتصدين وكمل:(أحدهما: المتقربون إليه بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وأداء الفرائض أفضل الأعمال كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرَّم الله، وصدق النية فيما عند الله عز وجل؛ وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم، وذلك أن الله عز وجل إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته) .
وأعظم الفرائض هي:
1. الصلوات الخمس، وأدائها للرجال مع جماعة المسلمين بخشوع، وخضوع، واطمئنان.
2. صوم رمضان.
3. إخراج الزكاة الواجبة.
4. تحكيم شرع الله في الرعية.
5. عدل الراعي في رعيته.
6. الجهاد في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن وجب عليهم.
7. بر الوالدين، وصلة الرحم، والإحسان إلى الجيران.
8. تعلم ما يجب على المرء تعلمه مما يجب عليه نحوربه، ورسوله، ومعرفة الحلال والحرام والتمييز بين السنة والبدعة.
أما الدرجة الثانية وهي درجة الأولياء الكمل فقال عنها ابن رجب: (درجة السابقين المقربين، وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض الاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع،وذلك يوجب للعبد محبة الله).
أفضل النوافل
1. السنن الرواتب قبل وبعد الصلوات المكتوبات، فقد صح عنه: "أن أول ما يحاسب به العبد بعد موته صلاته فإن صلحت فقد فازونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، ثم ينادي المولى عزوجل: هل لعبدي من نوافل ليتم به ما انتقض من صلاته؛ وهكذا سائر العبادات"، أوكما قال وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مرض العبد أوسافر كُتب له من الأجر ما كان يعمله وهو صحيح مقيم".(1/264)
2. قيام الليل، والنفل المطلق والمقيد، كصلاة الضحى ونحوها.
3. التطوع بصيام الأيام التي نُدِبَ صيامها كيوم عرفة، وعاشوراء، والخميس، والإثنين، والثلاثة البيض، وستة شوال ونحوها.
4. الإكثار من تلاوة القرآن، وسماعه بتفكر وتدبر، بالنظر ومن الحفظ، فأشراف هذه الأمة حملة القرآن وأصحاب الليل.
قال خباب بن الأرض رضي الله عنه لرجل: "تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه"، وتلاوة القرآن أجرها مضاعف، وثوابها زائد فكل حرف بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا أقول "ألم" حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" الحديث.
5. الإكثار من الذكر باللسان مع حضور القلب والجنان، فلا يزال لسانك أخي الحبيب يكون رطباً بذكر الله فقد أثنى الله عز وجل على الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وعليك بالأذكار الصحيحة الثابتة، واحذرالأوراد والأذكار البدعية التي وضعها بعض المشايخ لأتباعهم، ففي الصحيح غنىً وكفاية، ومن لم يسعه ما وسع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والسلف العظام، فلا وسَّع الله عليه.
6. الإكثار من صدقة التطوع، بالإحسان إلى الأقارب، والجيران، والفقراء، والمحتاجين، والمرضى، والمعوزين وأفضل الصدقة ما دام نفعه وتعدى خيره.
7. تعليم المسلمين، والذب عن السنة، والحذر من البدعة من أجَلِّ القربات، وقد فضلها مالك، والشافعي، وغيرهما على نوافل الصيام، والقيام، وغيرهما.
8. الشفاعة الحسنة، وقضاء حوائج الناس.
9. محبة العلماء، والأولياء، والصالحين، والذب عنهم.
10. التعاون على البر والتقوى في أي مجال من المجالات.
11. النصح لله، ولرسوله، ولكتابه، ولسنته، ولأئمة المسلمين وعامتهم.
الأعمال لا تحصى كثرة وفيما ذكرنا غنى عما أغفلنا، وكل ميسر لما خُلِق له، ومن الناس من يفتح لهم في كل المجالات كحال أبي بكر الصديق، ومنهم من يفتح لهم في بعضها دون بعض، والمحروم من حُرم أي باب من أبواب الخير مع كثرتها وسهولتها ويسر بعضها.
واعلم أخي الكريم أن الممتنع عن أداء الرواتب والسنن بالكلية المصر على ذلك، غير التارك لها في بعض الأحيان، فاسق لا تقبل شهادته كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان يصوم من الشهر حتى يظن أهله أنه لا يفطر فيه، فكيف بنا نحن وكلنا خطايا وذنوب، ولو علم الناس منا ما يعلم كل واحد من نفسه لرجمونا بالحجارة، ولا تغتر بقوله صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي قال: لا أزيد على الفرائض: "أفلح إن صدق"، لأن هذا كان في أول إسلامه، فلا يمكن أن يكلف بالسنن والنوافل ساعة دخوله في الإسلام، وإنما يكون ذلك تبع للفرائض فيما بعد، وقيل أن ذلك كان قبل أن تشرع السنن الرواتب، والله أعلم.
والله أسأل أن ييسرنا لليسرى، وأن ينفعنا بالذكرى، وأن يجعلنا وجميع أهلينا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على محمد صادق الوعد المبين وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين وعنا معهم وجميع المسلمين.
000000000
أهم العوائق والصعاب التي تواجه معلمي العلوم الشرعية للمبتدئين الناطقين بغير العربية
أولاً: التدقيق في اختيار الدارسين قبل مجيئهم
ثانياً: تباين مستويات الطلاب
ثالثاً: عدم وجود تآليف ميسرة تناسب أعمار الدارسين ومستوياتهم
رابعاً: تفاوت همم الطلاب، وتطلعاتهم، واستعجالهم
خامساً: التعريفات والمصطلحات
سادساً: قصر مدة الدراسة
سابعاً: اختلاف الأهداف
ثامناً: التوسع في الترجمة
لا شك أن الهدف الأول، والغرض الأساس لجل متعلمي اللغة العربية الناطقين بغيرها فهم هذا الدين فهماً صحيحاً، ومعرفته قرآناً، وسنة، وفقهاً، وسيرة، وسلوكاً معرفة جيدة، لأن اللغة العربية هي الماعون والوسيلة الوحيدة لمعرفة ذلك، لنزول القرآن الكريم، ونطق الرسول العظيم بها، لأنها لغة القرآن ولغة خير من نطق بالضاد.
يكفي اللغة العربية شرفاً، ويعليها منزلة، ويرفعها درجة، اختيار الله سبحانه وتعالى لها لتكون لغة لآخر كتبه، ولساناً لخاتمة شريعته، ووسيلة لمعرفة أسرار دينه ومكنون آيات كتابه، ولغة لأفضل رسله.(1/265)
هنالك العديد من العوائق والصعاب التي تواجه المعلمين والمدرسين قبل الدارسين في تدريس العلوم الشرعية بفروعها المختلفة مع تفاوت بينها في ذلك للطلاب الناطقين بغير العربية، نود أن نشير إلى أهمها، لأن معرفة الأدواء، وتحليل الأخطاء، والوقوف على الصعاب والعوائق من العوامل الرئيسة لتحسين المستوى ورفع الكفاءة، إذ لا يمكن علاج أي مشكلة من المشاكل إلا إذا تعرفنا أولاً على مسبباتها، مستمدين ذلك بعد الله عز وجل من التجربة الطويلة في مجال تدريس هذه المواد للناطقين بغير العربية، والممارسة المفيدة، ومن الحرص على الوصول إلى أحسن الطرق وأفضلها، وأجدى الوسائل وأنفعها لتوصيل هذه المواد إلى الدارسين، ليتم لهم مقصودهم، وللقائمين المهتمين الحريصين على هذا الشأن مرادهم، إذ لا يزال هذا المجال في بداياته إذا ما قورن بما قام به أصحاب الألسن الأخرى خدمة لرطاناتهم، هذا بجانب ضعف الإمكانات وعدم استشعار البعض لأهمية هذا الأمر وخطورته، فأقول:
أولاً: التدقيق في اختيار الدارسين قبل مجيئهم
من العوامل المهمة، والأسباب المعينة، لتحسين الأداء وتجويده في مجال تعليم العربية والعلوم الشرعية للدارسين لها من الناطقين بغيرها، التدقيق الشديد، والحرص الأكيد في اختيار الطلاب، وعدم المجاملة في ذلك، وأن تراعى قلة الفرص وضعف الإمكانات، والفائدة المتعدية، بأن لا تعطى الفرصة لمن لا يستفيد منها، ولا يتم ذلك إلا بسفر عدد من الأساتذة إلى مراكز يجتمع فيها الراغبون من البلاد المتجاورة، وتجرى لهم مقابلات شخصية للتأكد من الآتي:
1. مقدرة الدارس الذهنية، والنفسية، والجسدية.
2. رغبة الدارس الحقيقية في دراسة اللغة العربية والعلوم الشرعية.
3. عمر الطالب، بأن لا يتجاوز الخامسة عشرة، فقد دلت التجارب على عدم استفادة الكبار والصغار من هذا النوع من الدراسة.
وكان للمركز الإسلامي السبق في سَنَِّ هذه السنة الحسنة، بأن يذهب عدد من المختصين لإجراء تلك المعاينات في بلاد الطلاب قبل الدخول في التزامات أدبية ومالية نحو بعض الطلاب الذين لا مقدرة لديهم، أولا رغبة عندهم إِلاَّ في الخروج من بلادهم، والحصول على منحة من جهة ما، ثم بعد ذلك يحدث التحايل.
فعملية إرسال بعض الأساتذة لإجراء تلك المعاينات، ولاختيار أفضل وأحسن الطلاب قدرة ورغبة، في مراكز يسهل على الجميع الحضور إليها على الرغم من أنها مكلفة مادياً، إلا أنها هي صمام الأمان الوحيد لأداء هذه الرسالة، وفائدتها أكبر مما ينفق عليها، أوينفق على بعض الطلاب غير المقتدرين ولا الجادين أضعافاً مضاعفة.
ثانياً: تباين مستويات الطلاب
يتباين مستوى الطلاب وتتفاوت قدراتهم، وتختلف رغباتهم وأعمارهم في المستوى الواحد، هذا بالرغم من المجهودات التي بذلت وتبذل في وضع امتحان "تحديد المستوى، وتصنيف الطلاب"، إذ لا يزال هناك قصور في ذلك توضحه النتائج والتجارب، هذا بجانب أن بعض الطلاب الدارسين يمكرون ولا يظهرون كل قدراتهم لأسباب مختلفة وأغراض شتى، منها حسب الاستقراء والتجربة ما يأتي:
1. حرص البعض على البقاء أكبر مدة ممكنة في البلد الذي يدرس فيه لأسباب تتعلق به.
2. نظر البعض إلى الخاتمة والنهاية، فمن الدارسين من لا يرغب أن يلتحق بالجامعة في الفصل الأول أوالثاني، ومن ثم يدلِّس ولا يبدي مستواه الحقيقي، حتى لا يُصنَّف في مستوى متقدم.
3. رغبة البعض في أن يبدأ الدراسة من أول مستوى – وهم أفضل الجميع – مع العلم أنه سبق له أن درس في بلده، ليحسن من مهاراته ويرفع من مقدراته.
4. بعض الطلاب لا يرضى بالمستوى الذي وضع فيه، ويلح على الإدارة أن مستواه أرفع من ذلك، وأنه أفضل بكثير ممن وضعوا معه في المستوى، بدافع الغيرة من بعض من حضر معه من بلده وصُنِّف في مستوى أعلى.
هذه الأسباب منها ما يتعلق بإداراة المعاهد والمشتغلين بها، وهو إعادة النظر في اختبارات تحديد المستوى، ومراعاة المهارات المختلفة مع الحرص لمعرفة نفسيات الطلاب، وتعديلها من حين لآخر، علماً بأن عدداً أكبر من المختصين غير راضين عن هذه الاختبارات، ولهم عليها مآخذ عديدة، ولهم آراء مفيدة وسديدة، يمكن أن تضاف ويستفاد منها، وليس من المصلحة التغافل عنها.
أما الأسباب المتعلقة بالطلاب، بظروفهم واهتماماتهم، ونفسياتهم، فيمكن أن تعالج بطريقة فردية بحيث يمكن أن يرد الطالب إلى المستوى الذي يناسبه بعد تجربة قصيرة.
ثالثاً: عدم وجود تآليف ميسرة تناسب أعمار الدارسين ومستوياتهم
من العوائق الرئيسة، والصعاب الواضحة التي تواجه معلمي المواد الشرعية عدم وجود تآليف موحدة ميسرة تناسب أعمار الدارسين ومستوياتهم، وترك الأمر في كثير من المعاهد لاجتهادات الأستاذة الذين يدرسون تلك المواد، ولا شك أن اجتهاداتهم متفاوتة، وتقديراتهم مختلفة ومتباينة.
ففي بعض الأحيان يستعان ببعض الكتب والمذكرات التي وضعت للطلاب العرب في مراحلهم الأولية والمتوسطة.(1/266)
وفي أحيان أخر يقع الاختيار على بعض الكتب نحو "الأربعين النووية"، على الرغم من صغر حجمه، لكن الأحاديث التي حواها شملت جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وتتحدث عن أمور مختلفة وأرفع بكثير عن إمكانات الطلاب لغوياً وثقافياً.
معلوم أن العملية التعليمية ترتكز على ثلاثة أسس وقواعد هي:
1. المعلم.
2. المتعلم.
3. والكتاب.
فالكتاب هو المحور الثالث الأساس في العملية التعليمية، ولابد أن يكون مناسباً للدارس لغوياً وثقافياً ونفسياً، وإلا أعاق العملية التعليمية وبدد مجهودات المعلم والمتعلم.
ومما يحمد له فهناك مجهودات كبيرة بذلت، وكتب ومؤلفات برزت في عدد من المعاهد في جامعات المملكة المختلفة، سيما جامعة أم القرى والملك سعود، والإمام محمد بن سعود، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ولكن لا تزال هذه الكتب والمذكرات تحتاج إلى إعادة نظر، وإلى تنقيح، سواء كان ذلك في مجال تعليم اللغة أوفي مجال العلوم الشرعية، مع الحرص على تجنب أن نكون عالة على الكفار في هذا المجال التربوي المهم الذي يرتبط بعقيدتنا وديننا ولغتنا وثقافتنا، اللهم إلا في مجال الوسائل التعليمية، فهي حق مشاع للجميع، وإن كنا حتى في مجال الوسائل إذا اجتهدنا وبحثنا لوجدنا في تراثنا وفي ابتكاراتنا ما فيه غنى وكفاية وزيادة عما عند الكفار.
ومما يشكر لإدارة معهد اللغة العربية بجامعة أفريقيا العالمية ولمدير الجامعة حرصهم واهتمامهم – وإن جاء متأخراً شيئاً ما – على تأليف كتب أساسية في تعليم اللغة العربية، وقد بدأت تباشير هذا العمل وظهرت العديد من المسودات التي بذل فيها المكلفون بتأليفها جهداً مشكوراً ونزلت الآن إلى دور التطبيق العملي لها في المستويات المختلفة.
وإسهاماً مني في ذلك فقد قمت بإعداد مفردات منهج متكامل للعلوم الشرعية، مصحوباً بأهدافه الخاصة والعامة ووسائل تدريسه، وسلمتها للإدارة قبل حين من الدهر.
لا يمكن لمثل هذا العمل أن يكون مفيداً أوأن يؤتي ثماره المرجوة إلا بالآتي:
1. تفريغ من يقوم بذلك العمل تفريغاً كلياً أوجزئياً، ريثما يتمكن من القيام بذلك على الوجه المطلوب.
2. إخضاع هذه المؤلفات إلى التجربة والمراجعة قبل طبعتها النهائية.
3. تحفيز من يقومون بذلك مادياً وأدبياً.
4. التعجيل بطبع هذه الكتب والمذكرات وتصميمها بصورة جيدة وتمليكها إلى الدراسين ومد المحتاجين إليها في المعاهد والمدارس المختلفة التي تعتني بذلك بنماذج منها.
5. للتغلب على تكلفة ذلك يمكن الاستعانة ببعض الهيئات والمؤسسات الخيرية وبالمحسنين، فإن الخير باقٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة.
رابعاً: تفاوت همم الطلاب، وتطلعاتهم، واستعجالهم
الدارسون متفاوتون أشد التفاوت في هممهم، وتطلعاتهم، ورغبتهم في دراسة المواد الشرعية، فمنهم من يحرص على ذلك ويرغب فيه إلى أبعد الحدود، ومنهم من هو قانع بأقل القليل، ومنهم من هو زاهد حتى في اليسير.
فهذا التفاوت في الهمم والرغبات والاهتمامات يجعل من العسير التوفيق بين هذه المتناقضات والجمع بينها، سيما حين يضاف ذلك إلى تفاوتٍ في المستويات والقدرات والأعمار.
ليس من الممكن تحقيق هذه الرغبات ولا إغفالها جميعاً، ولهذا فإن إعداد الكتاب المناسب، ووجود الأستاذ المقتدر المتفاعل مع مادته، المقدِّر لمسؤوليته، الساعي لإرضاء ربه، ولخدمة شريعته، يساعد كثيراً، ويعين على التغلب على ذلك كله.
ينبغي على المعلمين مراعاة مصلحة الطالب وفق مقدرته الثقافية، وحصيلته اللغوية، فلا عبرة لتذمر المتذمرين، ولا اعتراض المعترضين.
فالمربي الناجح والأستاذ الصالح هو الذي لا يستجيب لردود الأفعال ولا يشتغل بها، وإنما يلتزم بالخطة الدراسية، وبالكتب المقررة المنهجية، وله معالجة هذه الفروق الفردية بمحاولات استثنائية.
خامساً: التعريفات والمصطلحات
من الصعاب التي يعاني منها معلمو المواد الشرعية للدارسين الناطقين بغير العربية أن العلوم الشرعية تحوي على العديد من التعريفات والمصطلحات التي يصعب على المعلم التصرف فيها، ويصعب على المتعلم فهمها وإدراكها بحصيلته اللغوية المحدودة.
ولهذا روعي أن يقتصر في المستويات الدنيا على تدريس القرآن والحديث الشريف معتمدين في ذلك بعد الله على التلقين، وفي الحديث مقتصرين على الأدعية والأذكار اليومية التي يمكن توضيحها من الناحية العملية وبالممارسة.
وإرجاء المواد الأخرى إلى المستويات العليا، حيث يكون الطالب قد حصل على قدر من اللغة تمكنه وتعينه على فهم هذه التعريفات والمصطلحات مع تيسيرها وشرحها بالمترادفات الأخرى، وبالتمثيل والشرح العملي واستعمال بعض الوسائل المعينة على فهم ذلك.
سادساً: قصر مدة الدراسة(1/267)
تتراوح مدة الدراسة في معاهد اللغة العربية في العالم العربي بين السنتين والسنة والنصف، وهذه المدة غير كافية خاصة للطالب المبتدئ ليجيد مهارات اللغة المختلفة، من تحدث، ونطق صحيح، وقراءة، وكتابة، وتعبير، ودراسة العلوم الشرعية ولو بأقل قدر من تلاوة، وحديث، وسيرة، وفقه، وعقيدة.
هذا بجانب ما يعانيه بعض الطلاب من مشاكل خاصة وعامة، وعدم ملاءمة الأجواء لهم مناخياً، واجتماعياً، ومعيشياً.
ويخطئ كثير من الباحثين حين يقارنون اللغة العربية - أعزها الله - بغيرها من اللهجات التي هي شبيهة باللهجات العامية للعربية، فالدارس للغة الإنجليزية أوالفرنسية مثلاً يحتاج إلى لغة التخاطب التي يحصل عليها ممن يعاشرهم، وربما احتاج إلى كتابتها دعك عن غيرها من اللهجات، حيث تدرس تلك اللهجات والرطانات في سَنَة أوأقل من سَنَة، فقياس العربية بغيرها من جملة الظلم البين الواقع عليها من أبنائها.
هذا بجانب ضعف الإمكانات وقلة التجارب بالنسبة للغة العربية مقارنة بما يبذله أصحاب تلك اللغات لنشرها.
سابعاً: اختلاف الأهداف
تختلف أهداف الخطط الدراسية والدارسين؛ بعض المعاهد هدفها تخريج أساتذة يقومون بتدريس اللغة العربية لبني جنسهم، ولهذا بعد أن يخلِّص الدارس المرحلة الأولى ينتقل إلى دراسة برنامج لمدة تتراوح بين سنتين إلى أربع تكون الغلبة فيها للمواد التربوية.
وبعض المعاهد تعنى بدراسة ما يعرف "باللغة المتخصصة" التي تهيئ الدارس وتعينه على مواصلة دراسته في الكلية التي يريدها.
بينما نجد أن هدف الدراسات الإسلامية هدف جانبي تابع وليس أصيلاً في كثير من المعاهد التي تعنى بتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها.
وهذا يعتبر سبباً سالباً، ومعوقاً لإعطاء الدارس الذي لم يتمكن من مواصلة دراسته الجامعية أوتخصص تربوياً ليكون معلماً للغة العربية في بلده أوغيره ما يحتاجه في حياته، دعك عما يقدمه لإخوانه المسلمين.
لهذا من المهم جداً التأكيد والتأمين على أهمية الدراسات الإسلامية لمتعلمي اللغة العربية، وزيادة مقرراتها وساعاتها، مع الحرص على تأهيل معلميها تأهيلاً يمكنهم من توصيل هذه المادة بوسائل ناجعة وطريقة مفيدة.
ثامناً: التوسع في الترجمة
من العوامل المعيقة لتعليم اللغة العربية والعلوم الشرعية للناطقين بغير العربية التوسع في الترجمة نحو ترجمة معاني القرآن العظيم – وأنى للغة غير العربية من الأساليب والألفاظ والمعاني أن تسع معاني القرآن - وصحاح السنة، وكتب السيرة، وكثير من الرسائل، على الرغم من الأخطاء الفادحة، والمعاني المبكية المحزنة التي تحويها تلك التراجم، والتشويهات المنفرة منها.
لم يكتف بترجمة ذلك إلى اللغة الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والروسية، واليابانية، بل تعدى ذلك إلى لهجات الأمم الإسلامية، إلى لهجات الهوسا، والفلاتى، والأردو وغيرها.
لا شك أن لهذه التراجم فوائد، ولكن ضررها أكبر من نفعها، بجانب الأخطاء والتشويهات المصاحبة لها، ولو لم يكن لها ضرر سوى اكتفاء البعض بها واقتصارهم عليها، والحيلولة دونهم ودون تعلم لغة القرآن ورسول الإسلام لكفى.
لو لجأ السلف الصالح إلى الترجمة إلى لهجات الداخلين في الإسلام من الفرس والقبط وغيرهم لما عمت اللغة العربية تلك الديار، وأصبحت هي لغة التخاطب والتدريس، بجانب أنها اللغة الرسمية، ولما نبع منهم أمثال سيبويه، وابن فارس، والجوهري، وغيرهم كثير رحمهم الله.
إذا كانت ترجمة كتب وثقافات الأعاجم إلى اللغة العربية على الرغم من إثرائها للغة العربية التي ازدهرت في عهد الخليفة المأمون العباسي سامحه الله أفسدت العقول وخربت العقائد، وكانت سبباً لتعذيب والتضييق على الأكابر من أئمة أهل السنة، بل وقتل بعضهم في تلك الفتنة المشؤومة التي تولى كبرها أئمة الضلال، صدقت فيها نبوءة ذلك القسيس الصادق الكذوب، عندما استشاره ملك قبرص في ذلك الحين، حين طلب منه المأمون إرسال كتبهم لترجمتها إلى العربية، قال له: أرسلها له، والله ما دخلت بلداً إلا أفسدته.
فالتوسع في الترجمة من العربية إلى اللغات واللهجات الأخرى عائق كبير للغة العربية، وصاد مانع لكثير من المسلمين وغيرهم لتعلم اللغة العربية، ودراسة العلوم الإسلامية باللسان العربي المبين.
ولو بذلت تلك الأموال التي تبذل الآن في الترجمة لإنشاء معاهد جديدة، ولتطوير القائم، ولطبع الكتب الأساسية لتعليم اللغة العربية والعلوم الشرعية للناطقين بغيرها، وتقويم المناهج، لكان المردود أكبر، والفائدة أعظم، والنتائج أسلم.
ولله در مالك بن أنس القائل: ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً، فلن يكون اليوم ديناً، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، هذه القواعد الجليلة والكلمات المفيدة التي خرجت من في عالم المدينة، داخلة في سائر أمور الدين، من العقائد، والعبادات، والسلوك، والتربية، والتعليم، وغيرها من المجالات.(1/268)
وأخيراً تذكروا أحبتي الكرام أن الله أعزنا بالإسلام، وشرفنا بالانتساب إلى ملة خير الأنام، محمد بن عبد الله عليه أفضل وأزكى الصلاة والسلام، وجعل لساننا لسان ولد عدنان، فمن طلب العزة والرفعة والمنعة في غير ذلك أذله الله.
والله أسأل أن يعين ويوفق المسؤولين، والقائمين، والمهتمين بشأن تعليم اللغة العربية وعلوم الدين لأبناء المسلمين، وأن يتقبل منهم، ويبارك في مجهوداتهم، وييسر للاحقين التأسي بالسالفين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
=================000
النصائح الغالية في التحذير من أسباب الخلاف الواهية
نوعا الاختلاف
أسباب التنافر والانقسام في صفوف العاملين في مجال الدعوة من أهل السنة
أولاً: التقصير في الجانب العقدي والاشتغال بالجانب السياسي
ثانياً: وصم البعض بأنهم تكفيريون، أوسَرُورِيُّون (!!)
ثالثاً: الاختلاف في وسائل العمل
رابعاً: الانفصال والخروج عن جماعة من الجماعات
خامساً: سوء الظن وانعدام الثقة
سادساً: عدم التثبت في المنقول
سابعاً: الدخول في العمل العام
ثامناً: الاختلاف في الحكم على بعض النوازل
تاسعاً: الإعلان بالنصيحة
عاشراً: ضعف التزكية وقلة الورع
خاتمة
تمهيد
"الخلاف شر"، هذه الكلمة المضيئة، والحكمة البليغة، والمقولة الطيبة، التي ينبغي أن تكتب بماء الذهب، وأن تحفظ وتلقن ويعيها العلماء قبل العامة، والقادة قبل الأتباع، والدعاة قبل المدعوين، لحاجتهم إليها، عليهم أن يعضوا عليها بالنواجذ، وينقشوها في البواطن، ويحرصوا على تعليمها للأكابر والأصاغر، والأقارب والأباعد، والأصدقاء والأعداء.
هذه الكلمة الطيبة صدرت من عالم فقيه، وإمام نبيه، من عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد معلمي ومفقهي الكوفة في زمانه، وذلك عندما أتم الصلاة الرباعية بمنى مع الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، وقيل له في ذلك: كيف تتم وقد صليتَها ركعتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ علل إتمامه بأن "الخلاف شر"، إي وربي الخلاف شر مستطير، وداء خطير، وعيب كبير.
أتم عثمان رضي الله عنه الصلاة الرباعية بمنى متأولاً لذلك، واعتُذِرَ عنه بأن الموسم يحضره عدد من حديثي العهد بالإسلام من الأعراب، فخشي أن ينطبع في أذهانهم أن الصلاة مثنى مثنى، لعدم معرفتهم بالرخص الشرعية، وقيل فعل ذلك لأنه تزوج بمكة.
وأياً كان سبب إتمام عثمان رضي الله عنه للصلاة الرباعية بمنى، فهو إمام مجتهد مأجور، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول المعصوم.
وشاهدنا إتمام ابن مسعود معه وهو إمام من أئمة الصحابة المقتدى بهم، وشيخ من شيوخهم، مع يقينه التام أن الحاج يقصر الرباعية، ويجمع بعرفة ومزدلفة ولو كان من أهل مكة أومنى، دفعاً لشر الشرين بخير الشرين.
هذه الكلمة ما من إمام ولا داعية إلا وهو يحفظها، ويرددها، ويستشهد بها، ويستعملها للإصلاح بين المتخاصمين، ولكن البعض هدانا الله وإياهم سبل السلام عندما يتعلق الأمر بهم يحيدون عنها، ومن قبل عن العديد من الآيات، والأحاديث، والآثار، والحِكَم التي تحذر من الاختلاف، وتنهى عن التدابر والتباغض، وتأمر بالائتلاف والاجتماع والتسامح، ونسي هؤلاء أوتناسوا أنهم يرتكبون بذلك إثماً عظيماً، ويقترفون ذنباً كبيراً، ويعيبون عيباً مشيناً، لأنهم يأمرون الناس بما لا يأتونه، وينهونهم عما هم يقترفونه، وقد توعد الله هذا الصنف، ونهى عن هذا السلوك: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون"، "يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"، وقال عز وجل على لسان شعيب عليه السلام: "وما أريدُ أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه".
أصرح وأشد ما ورد في الوعيد عن ذلك ما صحَّ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تك تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنتُ آمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".
ولله در القائل:
لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
واحذر أن يكون مثلك مثل:
كدودة الغزل ما تبنيه يهدمُها وغيرها بالذي تبنيه ينتفعُ
مخالفة الآمر الناهي من العلماء والدعاة لما يفعل ويذر قبيحة من القبائح، وسوءة من السوءات في أي أمر من الأمور، ولكن قبحها يشتد، وخطرها يزيد ويتعدى إذا كانت متعلقة بإخوانه من العلماء والدعاة.(1/269)
فهجر المسلم وقطيعته لأخيه المسلم حرام وكبيرة من الكبائر الجسام، وكذلك سوء الظن والنيل والانتقاص للمسلم حرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله"، الحديث، وقوله: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا".
وأسوأ من ذلك كله الحسد، والتباغض، والتدابر، ولذلك نهى عنه وحذر منه الرسول الكريم: "لاتباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".
ويكفي الحسد والبغضاء سوءاً وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لهما بالحالقة التي تحلق الدين وليس الشَّعر: "دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم، أفشوا السلام بينكم".
فكيف إذا اتصف بعض العلماء والدعاة بتلك الصفات الذميمة، ومارسوا تلك الأخلاق الرذيلة؟ ومع من؟ مع طائفة من إخوانهم العلماء، وطلاب العلم والدعاة.
لاشك فإن المصيبة تكون أعظم، والبلية تكون أكبر، والرزية تكون أفدح، والخسارة تكون متعدية، لتعدي ذلك للأتباع والتلاميذ.
ما من شيء يحز في النفس، ويقض المضاجع، ويؤرق المخلصين، مثل الاختلاف، والتشرذم، والتحزب، والتحاسد، والتباغض في صفوف أهل السنة والجماعة خاصة، وفي صفوف المسلمين عامة، على الرغم من أن دواعي الائتلاف والاجتماع متوفرة، وأسباب الفرقة والتحزب والتنافر والتباغض واهية، ونتيجة هذا التدابر ظاهرة، وخسارته فادحة.
لو لم يرد في الأمر بالائتلاف والنهي عن الاختلاف إلا قوله عز وجل: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون"، لكفى، كيف وكتاب الله وسنة رسوله يأمران بالائتلاف، وينهيان عن الاختلاف.
لا شك أن الائتلاف والاختلاف آيتان من آيات الله، وسنتان من السنن الكونية، ولهذا ختمت الآية السابقة بقول الله عز وجل: "كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون"، أي لعلكم ترشدون.
يؤسف المسلم الحق، ويحزنه غاية الحزن، أن يرى ويسمع ما يحدث بين العلماء وحملة الشريعة من الهجر، والنفرة، والقطيعة، والوقيعة، وسوء الظن، مع علمهم بحرمة ذلك العمل، والآثام المترتبة عليه، وما يجره على الأتباع من الويل والشرور، وما يحجبه عنهم من النعم والسرور، مما جعل التلاميذ والأتباع شيعاً وأحزاباً، وفرقاً كل حزب بما لديهم فرحون، وبما يسمعون من قادتهم ناعقون، ولبعضهم بعضاً لاعنون، ومضللون، بل ومكفرون، وبما يترتب على ذلك ساهون، لاهون، جاهلون، وصدق ابن عباس رضي الله عنهما حين قال: "كل من عصى الله فهو جاهل".
بل تعدى الأمر مداه، وبلغ السيل زباه، حيث تطاول الصغار الأغرار على الكبار، وحكم العامة على الخاصة، وضلل الجاهل العالم، وبدَّع السفيه الحليم، وسلك بعضهم مع بعض مسلك الخوارج الأشرار، الذين أمَّنوا وسالموا عبدة الأوثان والشيطان، وعادوا وقتلوا وكفَّروا أولياء الرحمن، وبقايا السلف الكرام، ويصدق على هؤلاء قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت".
وله در ابن عمر عندما سئل عنهم فقال: "ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفِّر بعضهم بعضاً"، إذ التكفير والتضليل والتبديع بغير حق لإخوان العقيدة ورفقاء الدرب من الذنوب العظيمة، والآثام الجسيمة، والصفات الرذيلة، وينبئ عن دناءة الأخلاق، وسوء الآداب أوانعدامها.
أخوف ما يخشاه المرء أن يكون الدافع لهذا الصنف في هذا المسلك المشين، وهو سوء ظنهم بإخوانهم، والحط من أقدارهم، ورميهم بما هم بريئون منه، مع علمهم بجلالة قدرهم، وسلامة معتقداتهم، وطهارة بواطنهم، الحسد الذي يأكل قلوبهم، والغيرة المذمومة التي سيطرت على نفوسهم، وطغيان الماديات على تصرفاتهم، وأن يشملهم قول الله عز وجل: "وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".(1/270)
رحم الله الشيخ البيجاني حين قال: (وأشد ما تكون المنافسة، وأكثر ما يكون الحسد، بين أهل الصنعة الواحدة، والشرف المتماثل، والبيوت المتجاورة، ولكنه لا يعيش إلا في قلوب خبيثة، ولا ينبت إلا في نفوس ضعيفة، وهو في العلماء أكثر منه في غيرهم، كما يقول مالك بن دينار رحمه الله: شهادة القراء مقبولة في كل شيء، إلا شهادة بعضهم على بعض، فإنهم أشد تحاسداً من التيوس؛ وتقدم أن العلماء بالحسد يدخلون النار قبل الحساب بسنة كاملة... وإنما يتحاسد العلماء إذا كان علمهم لغير الله، وأرادوا به صرف وجوه الناس إليهم، وبعضهم يتعلم ويترك العمل والاكتساب ويصبح عالة على الناس، ويعتقد أنهم متى رأوا غيره خيراً منه تركوه وأعرضوا عنه، ولذلك فهو يحسد أهل الفضل قاطبة، ويكره العلماء أجمعين، ولا يثني إلا على ميت أمن شره، أوغائب لا يخاف مكره، ولو أنهم طلبوا العلم لله، وأرادوا به الآخرة، وعملوا لدنياهم كسائر الناس، لصاروا هم السادة والقادة بكل فضيلة).
نوعا الاختلاف
الاختلاف نوعان كبيران، وقسمان خطيران:
أحدهما: خلاف سائغ جائز شرعاً.
وثانيهما: خلاف ممنوع محرم شرعاً.
ولكل من النوعين شعب شتى، وفروع مختلفة.
ومن أمثلة الخلاف السائغ الجائز ما يلي:
1. اختلاف التنوع، نحو صيغ الأذان، وأوجه الإحرام، وصيغ التشهد، وما شاكل ذلك.
2. اختلاف في بعض الأمور التي تكافأت فيها الأدلة، نحو تكفير تارك الصلاة كسلاً وعدم تكفيره، وقراءة المأموم للفاتحة في الصلاة الجهرية، وقراءة البسملة في الفاتحة في الصلاة، ونحوها.
3. اختلاف في الأمور التي لم يرد فيها نص.
4. اختلاف في وسائل العمل.
لا شك أن الاختلاف السائغ منه ما هو راجح، ومنه ما هو مرجوح، فمن أصاب الحق فيه إن كان من أهل الاجتهاد فله أجران، ومن أخطأ الحق فله أجر.
أما الاختلاف الممنوع المحرم شرعاً فمن أنواعه ما يأتي:
1. اختلاف التضاد.
2. اختلاف سببه اقتراف البدع الكفرية.
الذي يعنينا في بحثنا هذا النوع الأول، وهو الاختلاف السائغ الجائز الذي لا يوجب عداء ولا هجراً، دعك من أن يوجب تضليلاً أوتكفيراً، وكل ما نتج من ذلك من نفرة وهجر، وعداء، وتضليل، ونحوه سببه البغي والحسد، أوحمل بعض الأمور على غير محملها الشرعي.
أسباب التنافر والانقسام في صفوف العاملين في مجال الدعوة من أهل السنة
إذا أردنا علاج أي أمر من الأمور لابد من تشخيص الداء تشخيصاً صحيحاً دقيقاً، ثم بعد ذلك نقدم الحلول التي تناسب هذه الأدواء.
لا أشك قط أن جل الأسباب التي أدت إلى التفرق والتشرذم في أوساط العاملين في مجال الدعوة في صفوف أهل السنة والجماعة في هذا العصر غير موضوعية، وهي لا تدعو بحال من الأحوال إلى التنافر والتباغض، فكيف بالتضليل والتكفير؟ لأن جلها ناتج عن خلاف جائز مستساغ، وقد اختلف في ذلك وفي أكبر منه سلفنا الصالح، بل وتقاتلوا، ولكن مع كل ذلك لم تحدث بينهم النفرة، والفرقة، والتباغض، والتحاسد، والكيد، كما هو حادث الآن في خلفهم، وكان ينبغي على الخلف الصالح أن يسلك مسلك سلفه الفالح، وأن يسعهم ما وسع أولئك، حتى لا يشملهم قول من قال: "من لم يسعه ما وسع السلف الصالح فلا وسَّع الله عليه".
ويمكننا بالاستقراء والمعايشة والتجربة أن نورد الأسباب الرئيسة التي أدت ولا تزال تؤدي إلى الفرقة، ونخرت ولا تزال تنخر في صف الأخيار، كي تستبين سبيل المؤمنين، وتتضح طريق المتقين، التي يرفعها البعض ويبرر بها سبب نفرته واختلافه مع الآخرين، لنعلم أنها ليست من الأسباب التي توجب العداء، وتسبب الفرقة، وتحدث التشرذم والتحزب الممقوت الذي حذرنا منه ديننا وخوفنا منه ربنا ورسولنا، ونهانا عنه سلفنا: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء"، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة.
أسباب التفرق، والتحزب، والهجر كثيرة جداً، منها ما هو منطوق منظور، ومنها ما هو مضمر مجهول، منها ما يرجع إلى قصور في الفهم، أوخطأ في التأويل، أو عجز في التعبير، ومنها ما يرجع إلى أمراض قلبية، وعقد نفسية، وأغراض شخصية، وأهواء مطوية، وهذا النوع الثاني لا قبل لأحد بعلاجه، ولا سبيل للخلاص منه إلا التضرع والدعاء وسؤال رب الأرض والسماء، مالك القلوب ومصرفها أنى شاء، فنسأله سبحانه أن يطهر قلوبنا وقلوب جميع إخواننا العاملين وغيرهم من الحسد والبغضاء، وعن الأغراض والأهواء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، فنقول مستمدين منه العون والسداد:
أولاً: التقصير في الجانب العقدي والاشتغال بالجانب السياسي
من أسباب التفرق والهجر والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة في هذا العصر تركيز بعض الجماعات على العمل العام، وتقصيرهم في جانب إصلاح العقائد، مما جعل طوائف من العاملين يحملون على هؤلاء ويصفونهم بالتقصير والتهاون في أمر ينبغي أن يكون هو الأصل والأساس.(1/271)
لا شك فإن أمر العقيدة هو أصل الأصول، ولا يحل لجماعة أن تعنى بغيره قبل إحكامه وإصلاحه، فقد جلس الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يعالج هذا الأمر ويكابده، والقرآن المكي كله كان هذا موضوعه، وكل ذنب سوى الشرك مغفور، وكل عمل قبل التوحيد محبط مهدور.
لكن هذا السلوك لا يوجب العداء، وإنما يستحق الرحمة والعطف، وينفع معه الرفق والحكمة، وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما يُطلب منه أن يدعو على أعدائه من المشركين يقول: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، لقد أمر الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام أن يرفقا بالطاغية الباغية فرعون، قائلاً: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أويخشى"، فكيف بالمسلم؟ والرفق ما دخل في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه.
لله در عمر ورضي الله عنه، فقد كان رفيقاً رحيماً، روى الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمراً فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه؛ وقرأ قول الله عز وجل: "وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة".
ولهذا كان من دعاء الإمام أحمد رحمه الله: "اللهم من كان من هذه الأمة يظن أنه على الحق، وهو ليس من أهله، اللهم فرده إلى الحق ليكون من أهله"، أوكما قال.
فالواجب على العلماء والدعاة بيان الحق وتوضيح السنة من البدعة، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن اتبع الحق فبها، ومن لم يتبع روجع حتى يشرح الله صدره للإسلام.
الهجر وسيلة من وسائل التأديب، وطريقة شرعية من طرق التعزير، شريطة أن لا يتجاوز به الحد، وأن نتيقن من فائدته وجدواه، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، فإذا كان الضرر المترتب على الهجر والقطيعة أكبر من النفع يحرم الهجر في هذه الحال، فإن لكل مقام مقال، ولكل شأن حال، فما يناسب هذا يضر بالآخر، وهكذا.
ظهر من ذلك أن التقصير في الجانب العقدي مع الإقرار النظري بأهمية العقيدة وصدارتها لا يوجب العداء، وإنما يوجب التناصح، والدعاء، والرفق، والصبر، وتنوع الوسائل.
وثمة شيء آخر، وهو أن أفراد هذه الجماعة ليسوا سواء، فهم متفاوتون أكبر تفاوت، مع احتفاظهم بقدر مشترك من التوافق، فمن الظلم الحكم عليهم بحكم واحد، وإنزالهم منزلة واحدة.
فالمنسوبون والمنتسبون إلى هذه الجماعة في الجزيرة، والخليج مثلاً متميزون عن غيرهم من أهل البلاد الأخرى، فهم معنيون ومهتمون بأمر العقيدة ومشتغلون بإصلاحها، ويرجع الفضل في ذلك بعد الله عز وجل للأثر العميق الطيب لدعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب طيب الله ثراه وبارك في مجهوداته وأتباعه ومن والاهم، وفي الجميع خير وبركة كما أخبر الصادق المصدوق: "المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ".
ثانياً: وصم البعض بأنهم تكفيريون، أوسَرُورِيُّون (!!)
من أسباب التفرق والهجر والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة في هذا العصر، وصم البعض لإخوانهم بأنهم تكفيريون، أوسروريون، أوخوارج كما زعموا، ومن ثم لم يكن لهؤلاء النفر شغل ولا هم ولا عمل إلا النيل والانتقاص من هؤلاء، والتحذير من موالاتهم، والاستماع إليهم، وغشيان مساجدهم ودروسهم ومحاضراتهم، أومطالعة كتبهم ورسائلهم، والكتابة والكلام عنهم، بمناسبة وغير مناسبة.
هذه التهمة ليس لها شبيه ولا مثيل، ولا ند ولا نظير، إلا وصم بعض الأخيار بأنهم وهابية أوخامسية، فكما أنه لا وجود لعقيدة وهابية ولا فرقة خماسية، كذلك لا توجد عقيدة سرورية، وأخشى ما أخشاه أن يكون الدافع لإطلاق هذه الألقاب الهوى.
إني معاشر ومخابر للواصفين والموصوفين بالسرورية، ولا ينبئك مثل خبير، فلم أعلم فرقاً في الاعتقاد، فالجميع على عقيدة أهل السنة والجماعة، والجميع سلفيون، إلا بعض الفروق الطفيفة التي لا يخلو أفراد فرقة من الفرق منها.
ومن الغريب العجيب أن الفتن والمصائب كانت تجمع بين المسلمين، وتوحد كلمتهم، وتلم شملهم، وتنسيهم خلافاتهم، إلا في هذا العصر، فإن ما ابتلي به المسلمون من النكبات، وما حل بهم من المصائب، وما نزل بهم من النوازل، كان سبباً وعاملاً للفرقة والتشتت والتحزب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فهذه البدعة السيئة ظهرت عقب حرب الخليج الأولى واستفحلت بعدها.(1/272)
عندما ظهرت بدعة الخروج، وهي أول البدع ظهوراً وخطراً على الإسلام، ناظرهم أئمة الدين علي، وابن عباس، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وردوا شبههم، وبينوا قلة فقههم وضحالة تفكيرهم، فرجع من رجع منهم، وبقي من كتب الله عليه الشقاء، وسنمثل لذلك بمحاورة ومناظرة عمر بن عبد العزيز للخوارج كما رواها ابن عبد البر: (فلما قدموا على عمر أمر بنزولهم، ثم أدخلهم عليه، فجادلهم حتى إذا لم يجد لهم حجة رجعت طائفة منهم، ونزعوا عن رأيهم، وأجابوا عمر، وقالت طائفة منهم: لسنا نجيبك حتى تكفر أهل بيتك، وتلعنهم، وتبرأ منهم؛ فقال عمر: إنه لا يسعكم فيما خرجتم له إلا الصدق، أعلموني هل تبرأتم من فرعون، أولعنتموه، أوذكرتموه في شيء من أمركم؟ قالوا: لا؛ قال: فكيف وسعكم تركه ولم يصف الله عز وجل عبداً أخبث من صفته إياه، ولا يسعني ترك أهل بيتي، ومنهم المحسن والمسيء، والمخطئ والمصيب؟!).
الذين قاموا بمناظرة هؤلاء المبتدعة من أولي أمر المسلمين، وما قاموا به من أوجب واجباتهم نحو هذا الدين.
جرت بعض المناظرات بين المتهمين والملقبين بذلك وبين من يتهمهم، ودلل لهم المتهمون بأنهم لا يدينون بشيء مما رموا به، ومع ذلك نجد البعض يصر أن هذا من باب التقية، ويجدد ويكرر تهمه، وهذا من الظلم البين والكِبر الظاهر: "الكِبْر بطر الحق وغمط الناس"، ومعنى "بَطَرُ الحق" أي دفعه، والمسلم مطالب أن يحكم على أخيه المسلم بما ظهر منه، وبما قاله لسانه وخطاه بنانه، لا أن يشكك في ذلك، ويتهم النوايا والسرائر التي لا يعلمها إلا الله.
فهذه تهمة مختلقة باطلة، وكل ما بني عليها فهو باطل.
ثالثاً: الاختلاف في وسائل العمل
لا ينبغي أن يؤدي اختلاف الناس في وسائل العمل وفي تقديرهم لفعالياته إلى الهجر والتدابر والتنافر، فكل ميسر لما خلق له، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
ولكن ما نراه اليوم من التنافر والتباغض يرجع كثير منه إلى اختلافهم في وسائل العمل، وإلى اهتمام بعض الفرق والطوائف ببعض المناشط دون بعض.
ومما لا شك فيه أن مثل هذا الاختلاف لا يترتب عليه عداء ولا يمثل خطراً على الإسلام، وينبغي أن يكون هناك تنسيق وتعاون بين سائر العاملين في مجالات الدعوة المختلفة، حتى تثمر هذه الأعمال وتتضافر الجهود لتحقيق ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، من غير عيب ولا شين لطائفة من الطوائف.
هذا كله إذا صلحت النية وسلمت الضمائر.
رابعاً: الانفصال والخروج عن جماعة من الجماعات
من أسباب الهجر الممقوتة، وعوامل الفرقة المشاهدة المحسوسة، وتهويشات الشيطان المألوفة، الانفصال والخروج والانشقاق عن جماعة من الجماعات، سواء كان خروجاً فردياً أوجماعياً، حيث يحل الهجر محل الوصل، والبراء محل الولاء، والفرقة محل الألفة، فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويكفي هذا المسلك سوءاً، وهذا الخلق قبحاً أنه من سمات أهل الأهواء، وليس من صفات أهل الدين والتقوى، وقد سبق وصف ابن عمر للخوارج بدناءة الأخلاق، لتكفيرهم وتضليلهم بعضهم البعض، ولله در أمير المؤمنين علي عندما سئل عن الخوارج الذين شقوا عليه عصا الطاعة، وفرقوا الجماعة، وعادوا أهل الإسلام، ووالوا وساعدوا أهل الشرك والأوثان، لم يزد إلا أن قال: "إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم"، وأمر أن لا يبادروا بالقتال حتى يبادروا هم.
هذا الداء العضال والمرض المهلك البطال عامل أساس في إشاعة التحاسد والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة، ومما يؤسف له أن البعض لا يتعظ ولا يستفيد من أخطاء السابقين، ولا يحذر من جهل الجاهلين، فيقع فيما كان منه يخوِّف وينذر.
ومما تجدر الإشارة إليه، ويجب التنبيه عليه، أن الانتماء إلى الجماعات والأحزاب الإسلامية جائز إن كانت هذه الجماعات والأحزاب قائمة على مذهب أهل السنة والجماعة، وعلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وأنه من باب التعاون على البر والتقوى، ولا حرج على المنتسب لأي جماعة من هذه الجماعات أن يخرج منها إلى خير منها، خاصة إذا شعر أن جماعته الأولى أخلت بأمر من الأوامر الشرعية، أوإن غيرها أكثر فعالية منها، أولم يجد فيها بغيته، وليس هناك ما يلزم المرء أن يبقى في جماعة من الجماعات حتى الموت.
ولا ينبغي لجماعته الأولى التي تخلى عنها لأي سبب من الأسباب من غير أن ينال منها أن تجد عليه، أو تحمل عليه، ولا أن تغير معاملتها له، طالما أنه ملتزم بمنهج أهل السنة والجماعة.
فقد انتقل كثير من أهل العلم من مذهب إلى مذهب، ورجع بعضهم عن بعض الأقوال التي كانوا يعتقدونها ويرجحونها، فلم يثرِّب عليهم أحد، ولم ينكر بعضهم على بعض.
ومن غرائب الاستدلال استدلال البعض على جواز هجر وقطع من خرج من جماعة من الجماعات بقصة هجر الرسول صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين لكعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم.(1/273)
وهذا استدلال مع الفارق والفارق الكبير، فالرسول صلى الله عليه وسلم المؤيَّد بالوحي هجر هؤلاء ليتثبت من صدقهم وعدم نفاقهم، وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيفتيه في أمرهم، وقد حدث أن نزل قرآن بتبرئتهم من النفاق.
هذا بجانب أن هؤلاء الثلاثة خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وأن جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الجماعة الوحيدة التي تعبد الله في الأرض من بني آدم، فهل هناك وجه للمقارنة بين الجماعة المسلمة الأولى وبين الجماعات التنظيمية اليوم؟!
ليس لهذا النوع من الهجر والتباغض سبب إلا الجهل والهوى، فينبغي لقادة هذه الجماعات ولقواعدها أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي إخوانهم، وأن لا ينجروا وراء أهوائهم وعواطفهم، وأن يكون ولاؤهم أولاً وأخيراً لله عز وجل، وأن لا يجعلوا ولاءهم لجماعتهم وأتباعهم أكبر من ولائهم لله، فيقعوا في المحظور، وعليهم أن لا ينسوا حقوق المسلم نحو إخوانه المسلمين التي بينها لنا رسول رب العالمين: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه".
خامساً: سوء الظن وانعدام الثقة
كثير من الجفاء والتباغض والشحناء بين العاملين في مجال الدعوة مرده إلى سوء الظن وانعدام الثقة، وإلى التأويلات الخاطئة والتفسيرات الجائرة، لما يصدر من بعضهم نحو بعض.
لهذا نهانا ربنا عن الظن السوء: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم".
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسَّسُوا ولا تجسَّسُوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
لو صفت القلوب، وسلمت الضمائر، وطهرت السرائر، وحمل المسلم ما يصدر من أخيه على أحسن المحامل لزالت كثير من هذه الشكوك، ولتبددت هذه الحزازات.
الظن المنهي عنه مرادٌ به التهمة، ولان النفوس جبلت على الظن دلنا رسولنا على كيفية التخلص من ذلك، وهو عدم التحقيق، والبحث والتفتيش، فقال: "إذا ظننتَ فلا تحقق، وإذا حسدتَ فلا تبغ، وإذا تطيَّرتَ فامض" الحديث.
قال القرطبي في تفسير آية الحجرات: (قال علماؤنا: فالظن هنا هو التهمة، ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها).
سادساً: عدم التثبت في المنقول
نقل الكلام وعدم التثبت فيه يوغر الصدور، ويزرع الوحشة في النفوس، فالسعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فكيف إن كانت زوراً وبهتاناً، وزيد فيها ونقص منها؟، وصدق من قال: "وما آفة الأخبار إلا رواتها"، وصلى الله وسلم على القائل: "لا يدخل الجنة نمام"، وفي رواية: "قتات"، ويكفي النميمة قبحاً أن قرنت مع البول، وهو أطهر منها، وجعل غالب عذاب القبر بسببهما، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة".
فالنمام فاسق بحكم الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"، يجب على العلماء والقادة أن يتنزهوا عن هذا المسلك المشين، وأن يحذروا أتباعهم أن يلغوا في هذا المرتع الآسن.
ينبغي للقائد والعالم والأمير أن ينصح أصحابه، وأن يوجه تلاميذه إلى ما فيه خيره وخيرهم، لأنه مسؤول عنهم، ورحم الله عمر بن عبد العزيز حين قال موجهاً جلساءه وموضحاً لهم شروط صحبته ومعاشرته، حتى يكونوا على بينة.
روى الإمام الأوزاعي رحمه الله أن عمر بن عبد العزيز قال لجلسائه: "من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي له، ويكون لي على الخير عوناً، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحداً، ويؤدي الأمانة التي حملها بيني وبين الناس، فإذا كان ذلك فحيهلا، وإلا فقد خرج عن صحبتي والدخول عليَّ).
لم يكتف بعض القادة بالتجسس ويسمح بنقل الأخبار عن الآخرين حتى جعل له عيوناً على أتباعه أنفسهم، معللاً ذلك بأن مصلحة الدعوة والتنظيم تحتم ذلك، ولم يعلم أنه بذلك أصبح من المفسدين في الأرض وليس من المصلحين، ومن الغاشين للأتباع وليس من الناصحين لهم.(1/274)
روى أبو داود بسنده في سننه عن معاوية رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعتَ عورات الناس أفسدتهم أوكدتَ أن تفسدهم"، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها.
لا ينبغي للتابع والتلميذ أن يكون بهذه الدرجة من الجهالة والوقاحة، وعليه أن يعلم أن الطاعة لا تكون لمن تجب عليه طاعتهم كالوالدين وولاة الأمر إلا في المعروف، وأنه إنما انتمى إلى تلك الجماعة ليزكي نفسه ويصلحها، لا ليفسدها ويخربها.
اعلم أخي المسلم أن الثقة لا يبلغ، وأن الكريم لا يسعى بالنميمة على مسلم، قال بعض الحكماء: لا يكون النمام إلا زنيماً؛ وهو المتهم في نسبه.
سعى رجل إلى بلال بن أبي بردة الأشعري برجل من أهل البصرة فقال: انصرف حتى أكشف عنك، وبعد البحث عنه وجده ابن زنا.
دخل رجل على سليمان بن عبد الملك رحمه الله فاستأذنه في الكلام، وقال: "إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته"، فقال: "قل"، فقال: "يا أمير المؤمنين، إنه قد اكتنفك رجال باعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، ولا تصغ إليهم فيما استحفظك الله إياه، فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً، ولا في الأمانة تضييعاً، والأعراض قطعاً وانتهاكاً، أعلى قربهم البغي والنميمة، وأجل وسائلهم الغيبة والوقيعة، وأنت مسؤول عما أجرموا، وليسوا بمسؤولين عما أجرمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره".
فويل للعلماء والدعاة من التلاميذ والأتباع، وويل كذلك للتلاميذ والأتباع من العلماء، إن لم يتق الله الجميع ويخشاه ويراقبه في السر والعلن، فالنميمة من أقوى عوامل التحاسد والتباغض والتفرق والتهاجر بين العلماء والدعاة: (فالعلماء لا يتباغضون ويختلفون لشيء بعد الحسد إلا النميمة، يسعى بها الجهال بينهم، وينقل بعض التلاميذ كلام أستاذه مبدلاً ومحرفاً، فيسبب لخبثه وبلادته الفتنة الشهواء، ويثير عواطف الجهال على شيخه، ويفتح لعلماء السوء باب الطعن على أستاذه، فيدخلون عليه بكل مصيبة، وينسبون إليه كل خطيئة، وقد يدخل النمام بيوت الله للعبادة فيخرج مأزوراً غير مأجور، يبدل ما سمع من الخطابة والتدريس بما شاءت له نفسه الخبيثة، وأوحى به إليه إبليس، وما كان أيسر أن يجتمع العلماء وينصف كل من نفسه، ولا يصدق من نمَّ له على إخوانه، وإذا بلغه شيء يسوءه سأل عنه صحته، وأحضر معه النمام يفضحه إن كان كاذباً، ويحذر الناس من شره إن كان صادقاً).
سابعاً: الدخول في العمل العام
من أسباب الخلاف وعوامل الفرقة والتباغض بين بعض العاملين في مجال الدعوة الدخول في العمل العام أوالمشاركة فيه، سواء كان في نطاقه العام أوالمحدود داخل الجامعات والمعاهد العليا، سيما فيما يتعلق بالتعاون والتنسيق مع بعض الجماعات والأحزاب، ويمثل ذلك ما حدث في انتخابات اتحاد جامعة الخرطوم قبل شهور، والتصدع الذي أحدثه دخول واشتراك نفر من أنصار السنة في الحكومة السودانية.
على الرغم من أن وجهات النظر في ذلك تختلف وتتباين بين مؤيد ومعارض، ومجيز ومانع، ولكن في نهاية المطاف فإن ذلك يعتبر من المسائل الاجتهادية القابلة للأخذ والرد، وليست من المسائل الفاصلة التي توجب العداء والنفرة، والتخاصم والتدابر.
فقد حدث هذا ويحدث من عدد من الجماعات الإسلامية في عدد من البلاد، وله إيجابيات وسلبيات، وينبغي أن تقدر كل حال بقدرها، وأن يحكم ذلك كله القاعدة الشرعية درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، وقبول خير الشرين دفعاً لشر الشرين، وما لا يدرك كله لا يترك جله، ونحو ذلك.
ثامناً: الاختلاف في الحكم على بعض النوازل
من أوجب الواجبات على أهل العلم الحكم على النوازل، وبيان حكم الشرع فيها قبل فوات الأوان، حتى لا يدعوا العامة في حيرة من أمرهم، فقد منَّ الله على هذه الأمة أن شريعتها حوت من الأصول الكلية والقواعد الأساسية ما هو كفيل بالحكم على أي نازلة من النوازل، إذ القياس والاجتهاد لمن يملكون أدواتهما مصدران من مصادر هذه الشريعة السمحة.
لقد ضمن الشارع الحكيم لهذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلالة أبداً، إذ لا تزال طائفة منها ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة.
أهل الاجتهاد مأجورون في كل الأحوال، إن أصابوا الحق فلهم أجران، وإن أخطأوه فلهم أجر، لأن الحق عند الله عز وجل واحد لا يتعدد.
قد يختلف أهل الحل والعقد من العلماء في حكمهم على نازلة من النوازل، وهذا ما لا حرج ولا تثريب فيه، وللحاكم أن يختار من هذه الأقوال ما تطمئن إليه نفسه، ويراه مخلصاً له عند ربه، بعد أن يجتهد فيها ولو كان عامياً، إذ العامي يجب عليه أن يجتهد في أقوال المفتين كما قرر ذلك الإمام الأصولي الشاطبي رحمه الله.(1/275)
ولكن الممنوع المحذور أن يثرب أويضيق بعضهم على بعض، بسبب اختلافهم في نازلة من النوازل، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الأسوة الحسنة حين استشار كبار أصحابه في أسرى بدر، فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يأخذ منهم الفداء، وأشار عليه عمر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما بقتلهم، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر فلم يقتلهم، ولم يثرِّب أحدهم على الآخر، ولم يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفاً من عمر وعبد الله بن رواحة، ثم نزل القرآن موافقاً لما رآه عمر وعبد الله، وبعد ذلك لم يثرِّب على أبي بكر رضي الله عنه.
فالحرج والتثريب على أحد من أهل العلم رأى رأياً مخالفاً لما رآه غيره من أهل العلم ولما يهواه الحاكم، كما حدث إبان حرب الخليج الأولى، من الظلم البين ومن التعدي الواضح.
وليت الأمر وقف عند الحرج والتثريب، ولكن تعداه من نفر من أهل العلم وتلاميذهم إلى الطعن والتشكيك والانتقاص والتحذير من أصحاب القول المخالف، وقد أثبتت الأيام صحة ما ذهبوا إليه، ووقع كل ما تنبؤوا به وحذروا منه وزيادة، عندما واصلت أمريكا حربها الصليبية على الإسلام وغزو دياره واحداً تلو الآخر.
الفرقة والتنافر والاختلاف والانقسام الذي أحدثه هذا السلوك المشين والتصرف الظالم لإخوة الدين، وما نتج عن ذلك من الوقيعة وسوء الظن وانعدام الثقة بين صفوف العلماء والدعاة وتلاميذهم، لا يعلم مداه إلا الله، حيث أوغر الصدور، وأزال الجسور، وهيأ للفجور في الخصومة، ولا تزال آثاره يتجرعها المخلصون، وعلقمه غصة في حلوق العاملين في الدعوة.
لا يدري والله المرء ويكاد يدري ما الذي دفع إلى ذلك، وخطأه واضح لكل ذي عينين، بيِّن لا يحتاج إلى بصيرة نافذة ولا إلى حلم وافر.
مما يحمد له أن مشايخنا الكبار وعلماءنا الأبرار أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد صالح العثيمين قدَّس الله أرواحهما وغيرهم كثير من الأحياء أطال الله أعمارهم ومتع بهم الأمة، لم يخوضوا في تلك الفتنة، فقد طهر الله ألسنتهم وأقلامهم من أن ينسب إليهم شيء من ذلك، وهذا هو المظنون بهم، والمؤمل فيهم، لسلامة صدورهم، وطهارة نفوسهم، ونفاذ بصائرهم، وعمق فقههم، نسأل الله أن يوفقنا وجميع إخواننا من العلماء والدعاة للاقتداء بهم وبسلفنا الصالح.
والله أسأل أن ينزع الغل والحسد والبغضاء والشحناء من قلوب العلماء والدعاة وأن يكون لهم في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه القدوة عندما قال عقيب موقعة الجمل ومقتل طلحة والزبير رضي الله عنهما: أرجو أن نكون ممن قال الله فيهم: "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً".
فينبغي للجميع أن يراجعوا مواقفهم، وأن يحاسبوا أنفسهم، فالرجوع إلى الحق فضيلة أيما فضيلة، والتمادي في الخطأ والإصرار عليه رذيلة ما بعدها رذيلة، وليحذروا الكِبْر والاستنكاف خاصة وهم لهم تلاميذ وأتباع مسؤولون عن تصرفاتهم، ومؤاخذون بجرائرهم، حتى تضمد الجراح وتعود الألفة والسماح مع إخوة الإيمان، ومحبة الإسلام.
وأرجو من الذين ظُلِموا وهُجِروا وانتقِصوا ونيل من عقيدتهم أن لا يغلبهم الشاعر العربي الفحل المقنع الكندي على العفو والصفح، وأن يسعهم ما وسعه، فحقوق الأخوة الإيمانية ليست بأقل من حقوق العصبة والأرحام، حيث قابل الهجر بالوصل، والجفاء بالمحبة، والظلم بالمسامحة، والسيئة بالحسنة، فخلدت آثاره، ومدحت أخلاقه، وشكرت فعاله، وتمثل بأبياته، وتغني واستشهد بأشعاره.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً".
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً
إذا أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجداً
وإن ضيعوا غيبي حفظتُ عيوبهم وإن هُمْ هَوَوا غيي هويتُ لهم مجداً
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هم دعوني إلى نصر أتيتهم شداً
وإن زجروا طيراً بنحس يمر بي زجرتُ لهم طيراً يمر بهم سعداً
ولا أحملُ الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحملُ الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى وإن قلَّ مالي لم أكلفهم رفداً
واللهِ لو سلك العلماء والدعاة مع بعضهم بعضاً مسلك هذا الشاعر اللبيب، والعربي الأصيل، والرئيس النبيل مع إخوته وبني عمه على الرغم من التباين الواسع والبون الشاسع بينه وبينهم، لتوحدت كلمتهم، والتأم شملهم، وعلا شأنهم، وتغيرت أحوالهم، وسلموا من سائر عوامل الفرقة والتحزب.
أما إذا سلكوا مع بعضهم البعض حال ما وصفه الآخر مع ابن عمه فقال:
سريع إلى ابن العم بلطم خده وليس إلى داعي الندى بمجيب
فقد خسروا، وأشمتوا عليهم الأعداء وأفرحوهم، وأحزنوا الأصدقاء وأساءوا إليهم.
تاسعاً: الإعلان بالنصيحة(1/276)
من أسباب الخلاف بين العاملين في مجال الدعوة في صفوف أهل السنة في هذه الأيام، التي يرفعها البعض ضد آخرين، ويعتبرونها حاجزاً منيعاً للتآلف والاجتماع، ويعادون ويوالون بسببها، المجاهرة بالنصيحة لبعض ما يصدر من مخالفات لولاة الأمر من حكام المسلمين.
وبادئ ذي بدء لابد أن نقرر أن الأصل في النصيحة مع كل مسلم مستور الحال غير مجاهر ولا داع لبدعة ولا فسق أن تكون سراً، خاصة لولاة الأمر بشقيهم من العلماء والحكام، الذين يأتمرون بأمر الله، الذين أمرنا الله بطاعتهم في المعروف: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، ولهذا قيل: من نصحك سراً فقد نصحك، ومن جاهر لك بالنصيحة فقد فضحك.
المسارات التي يُنَاصح فيها ولاة الأمر من العلماء والحكام ثلاثة هي:
1. ما يتعلق بالسلوك – سواء كان سلوكه أوسلوك أهله.
2. ما يتعلق بمصالح الدين والعباد والبلاد.
3. ما يتعلق بالمخالفات الشرعية المتفق عليها.
كل ذلك مع تحري الصدق، والتزام الرفق، ومراعاة الحكمة والمصلحة.
فالمساران الأول والثاني لا يجوز الجهر بالنصيحة فيهما لما يترتب على ذلك من ضرر متعدٍ، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
فعلى الناصح أن يكرر نصحه سراً، وأن يتحرى الأوقات المناسبة، والفرص السانحة، فلكل مقام مقال، ولكل شأن حال، وعليه أن لا ييأس ولا يقنط.
أما المسار الثالث وهو ما يتعلق بالمخالفات الشرعية المتفق عليها وليس المختلف فيها، نحو الممارسات الشركية، وإقامة الحدود، وتحريم الربا، وصور البدع، والموالاة الكفرية، والمسكرات والمخدرات، ونحو ذلك، ينبغي أن ينصح فيها ولاة الأمر سراً ومراراً وتكراراً، ولكن إن لم تُجْدِ هذه المناصحة ولم تفد هذه المسارّة مع تفشي هذه المخالفة وانتشارها وظهورها، فلا مانع من الجهر بمناصحته ونصره على نفسه، وعونه على أداء واجبه، والقيام بمسؤولياته، حتى لا يعم الخراب ويظهر الفساد، وندعو ولا يستجاب.
إن لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وفي حالات كثيرة جداً يكره المرء إكراهاً ويحمل حملاً حيث لم تكن مندوحة عن الأمر، ولهذا قيل: "مكره أخاك لا بطل".
ومن فضل الله علينا أن مراتب الإنكار ثلاثة: باليد، واللسان، والقلب؛ فمن جاهد بأي جارحة من هذه الجوارح الثلاث فهو مؤمن.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
وعن ابن مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أوليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم".
الذي جعل هؤلاء النفر يشددون النكير على إخوانهم الذين يرون أنه من الواجب عليهم المناصحة والأمر والنهي، ربطهم بين الأمر والنهي للحكام والخروج عليهم، وليس هناك من علاقة بين الأمرين.
فالأمر والنهي مطلوب من العلماء لإخوانهم الحكام مرغوب فيه محذر أشد التحذير من التقصير والتهاون فيه، والخروج على الحكام منهي عنه.
وهذا من قواعد مذهب أهل السنة، ومن الثوابت التي لا يجادل فيها أحد عنده أدنى معرفة بمذهب السلف، إلا في حال الكفر البواح الذي ظهر فيه الدليل ولاح، وحتى في هذه الحال لا يجوز الخروج المسلح ولا يحل إلا إذا أمنت الفتنة، وإلا إذا ترجح الإصلاح على الإفساد، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع، وإمام غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم، كما هو معلوم من أبجديات الدين.
فمنع الأمر والنهي سواء كان سراً أوجهراً إذا التزمت الحكمة، وروعيت المصلحة، وخلصت النية، لا مبرر له أبداً، وهو خوف في غير محله، والسكوت عن الأمر والنهي مع تفشي المخالفات وظهورها من المهلكات.
والحكام ليسوا كلهم سواء في هذا العصر، فمنهم من يُحَكِّم شرع الله وليس لهم دستور ولا قانون سواه، ومنهم من يعلن أنه يحكم بشرع الله ويقيم حدوده، ومنهم من يعاديه ويتحاكم إلى دستور وضعي وقانون مستمد من القوانين الفرنسية والهندية وغيرها، فهل يستوون؟(1/277)
هذا بجانب أنهم غير معصومين، بل لحوم ولاة الأمر من العلماء أكثر سماً من لحوم الحكام، وعادة هتك الله لستور منتقصيهم معلومة، فلماذا هذه المحاماة عن الحكام جميعاً وفيهم وفيهم؟ بينما نعطي أنفسنا الحق في انتقاص طائفة من العلماء والنيل منهم وأكل لحومهم وهتك ستورهم، فكما أن الحكام العلماء والمؤتمرين بأمر العلماء طاعتهم واجبة، واحترامهم مطلوب، فكذلك الأمر للعلماء، فالذي أمر بإكرام وإجلال الحكام هو الآمر بإكرام العلماء.
ألا يخشى هؤلاء أن يصيبهم شيء من الوعيد الوارد في قوله تعالى: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا".
الأدلة على جواز الجهر بالنصيحة للحكام كثيرة جداً، وفيما قاله أبوسعيد، وعائذ، وأبوذر رضي الله عنهم، ومن قبل قاله علي رضي الله عنه أمام عثمان رضي الله عنه: لبيك عمرة؛ وعندما قيل له في ذلك قال: ليعلم الناس أنها سنة كفاية؛ لأن عثمان ما كان يرى التمتع بالعمرة في الحج.
رضي الله عن أبي بكر الصديق حين قال: "لا خير فيكم إن لم تقولوها – أي النصيحة – ولا خير فينا إن لم نقلها".
ودعا عمر لمن أسدى إليه النصيحة، فقال: "رَحِم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي"، وجعل النصيحة من الهدايا القيمة والجوائز النبيلة التي تستحق الشكر والمكافأة، ولهذا كان الأخيار من حكام وأمراء هذه الأمة يجزلون العطايا والثناء على من ينصحهم أكثر من غيرهم من غير المصرِّحين بالنصيحة لهم.
فالاستكبار والاستنكاف عن قبول النصيحة بأي أسلوب كانت وبأي طريقة حدثت من صفات الطغاة ومن أخلاق المستبدين، ولهم في النمرود وفرعون وأمثالهما مثل السوء.
عاشراً: ضعف التزكية وقلة الورع
كثير من الأسباب السابقة وغيرها مردها واستفحالها وخطورتها ناتجة من ضعف تزكية النفوس وقلة أوانعدام ورعها، فالنفس إذا لم تزكَّ وتطهر من الرذائل والأحقاد، وإذا لم يشتغل الإنسان بعيوب نفسه تشاغل بعيوب غيره وضخمها وبالغ في إظارها ونشرها وبثها بين الناس، فقد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
فينبغي للقادة أن يعملوا على تزكية نفوسهم وتطهيرها والسمو بها عن سفاسف الأمور، والاشتغال بمعاليها، وأن يحثوا أتباعهم وتلاميذهم على ذلك، فهم أمانة في أعناقهم، ويقعون تحت إطار مسؤولياتهم، فتعليم الأتباع الأدب والسلوك من أوجب الواجبات، ومن أكبر التبعات، وأفضل طريق لذلك هو القدوة الحسنة والأسوة الطيبة، فالتأديب والتعليم بالأفعال خير وأنفع من التأديب والتعليم بالأقوال.
خاتمة
لا شك أن أسباب الخلاف كثيرة، وليس هدفنا الإحاطة بها، ولكن التنبيه والتذكير بأخطرها لنقيس عليها.
يحق للقارئ بعد هذا أن يسأل بعض هؤلاء العلماء والدعاة، أمن أجل هذه الأسباب الواهية تفرَّق كلمة الأمة، ويهجر ويُعادى الإخوة والأصفياء، ويكيد بعضنا لبعض أشد من كيدنا للأعداء؟!
أمن أجل هذه الأسباب ندفن الحسنات، ونفشو السيئات، ونعظم الأخطاء، ونجسد السلبيات، ويصدق فينا قول الأعشى:
ومن يغترب عن قومه لا يزال يرى مصارع مظلوم مجراً ومسحباً
وتدفن منه الصالحات وإن يسئ يكن ما أساء النار في رأس كبكبا؟
احذر أخي الكريم أن يكون همك تتبع عورات إخوانك، والكشف عن سيئاتهم، والفجور في خصوماتهم، فإذا خان الأخ أخاه، وتنكر له، وعاداه، هل يتوقع العون ممن سواه؟!
إذا خانك الأدنى الذي أنت حزبه فواعجباً إن ساعدتك الأباعد
كن أخي الكريم بناءً، واحذر الهدم والإفساد، قليل من الناس من يحسن البناء والإصلاح، وكثير جداً يجيد الهدم والخراب، فكن من القليل البناء، فإن الكرام قليل، واترك الهدم لأعداء الدين، ولا تعِن الشيطان على نفسك وعلى إخوانك، وتذكر قول الله عز وجل: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير".
إن من أهم أسباب تخلف الأمة الإسلامية كثرة الاختلافات والنزاعات بين أفرادها، وجماعاتها، وعلمائها، ودعاتها، وطعنهم وتشكيكهم في بعضهم البعض.
متى تتخلص الأمة من هذا الداء، وتتوحد لصد الأعداء، وتتضافر جهودها وتتعاون لإتمام البناء؟!
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنتَ تبنيه وغيرك يهدمُ
ولو ألف بانٍ خلفهم هادم كفى فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم؟
خاصة لو كان الألف هادم من بني جلدتنا، ويتكلمون بلغتنا، ويرفعون شعاراتنا، وينتسبون إلى جماعاتنا، وينفذون مخططات أعدائنا، شعروا بذلك أم لم يشعروا؟!
واحذر أن يصدق عليك قول القائل:
وهل كنتُ إلا مثل قاطع كفه بكف له أخرى فأصبح أجذم
وأخيراً أسأل الله أن يجمع الشمل ويؤلف بين القلوب، ويهدي الجميع سبل السلام، ويجنبهم الفتن والآثام، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام، محمد وآله وصحبه الك
=================00000
مطل الغني ظلم(1/278)
المماطلة والتسويف من أخلاق المرء الخسيس، لقد أمر الله عباده بحسن القضاء والتقاضي، ونهى وحذر عن مطل الغني، وأمر وحض على إنظار المعسر، فالدِّين المعاملة.
فقال عز من قائل: "فإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة".
وقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى".
وقال: "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مَلِئٍ فليتبع".
لم تستشر هذه الصفة في مجتمع من مجتمعات المسلمين في الماضي مثل استشرائها وظهورها في هذا العصر، حيث أصبح مطل الأغنياء وتسويف المقتدرين من المسؤولين وغيرهم هو السمة الغالبة والظاهرة الطاغية، وتفنن الناس في أكل أموال الناس بالباطل، وأتوا بحيل وطرق لم تدر بخلد من كان قبلهم.
الدَّين هم بالليل ومذلة بالنهار، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً يستعيذ منه في صلاته، ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، وسئل عن سبب إكثاره من هذا، فقال: "إن المرء إذا استدان حَدَّث فكذب، ووعد فأخلف".
فمن أخر حقاً عليه مع القدرة على تسليمه فهو البغيض المذموم، والممقوت الملوم، وقد جاء في الأثر: "إن الله يبغض الغني الظلوم، والشيخ الجهول، والعائل المحتال".
وعن خولة بنت قيس رضي الله عنها قالت: "كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسق من تمر لرجل من بني ساعدة، فأتى يقتضيه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار أن يقضيه، فقضاه تمراً دون تمره، فأبى أن يقبله، فقال: أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ومن أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: صدق، ومن أحق بالعدل مني؟ لا قدَّس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها، ولا يتعتعه؛ ثم قال: يا خولة، عِديه واقضيه، فإنه ليس من غريم لا يخرج من عند غريمه راضياً إلا سلط عليه دواب الأرض ونون البحار، وليس من عبد يلوي غريمه وهو يجد إلا كتب الله عليه في كل يوم وليلة إثماً" .
الغني المماطل كلابس ثوبي زور، ومتشبع بمال غيره، فهو شحيح خسيس، وبخيل مسِّيك، كذاب، خداع، مراوغ، محتال.
أصحاب الحقوق إما أن يكونوا:
1. زوجة وأولاد وأقرباء.
2. أوعمال وأجراء.
3. أودائنين محسنين فضلاء.
وكل هؤلاء وغيرهم يحرم مطلهم، ويجب الإسراع بإعطائهم حقهم.
عليك أيها المسلم أن تؤدي هذه الحقوق المالية أو تتحلل منها قبل فوات الأوان، واستمع لما قاله رسولك صلى الله عليه وسلم: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أومن شيء، فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".
واعلم أن الظلم ظلمات، وأن الله وعد بإجابة دعوة المظلوم ولو بعد حين، فاحذر دعاء المظاليم، وغضب رب العالمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
=================000
احذر أخي المسلم أن يكون الحلال عندك ما حلَّ في يدك، والحرام ما حُرِمته
لقد قلت الأمانة، وكثرت الخيانة في مجتمعات المسلمين في هذا العصر بصورة مخيفة، لا سيما في مجال البيع والشراء، والتعامل بالدرهم والدينار، تنذر بخطر كبير، وشر مستطير، إن لم يتداركنا الله برحمته فنغير ما بأنفسنا، عسى الله أن يغير ما بنا.
فقد أصبح هم كثير منا جمع المال بأي طريقة، والحصول عليه بأي وسيلة، غير منظور لحلها أوحرمتها، وأضحى لسان حال كثير منا: الحلال ما حل في أيدينا، والحرام ما حرمنا الوصول إليه، وصدق فينا قول الله عز وجل: "وتأكلون التراث أكلاً لماً. وتحبون المال حباً جماً"، واقتدى جلنا بما قاله قارون: "إنما أوتيته على علم عندي".
ومن العجيب الغريب تشدد البعض في مسائل الطهارة إلى درجة الوسواس، وتهاونهم وتساهلهم فيما يدخل بطونهم، على العكس والنقيض مما كان عليه السلف الصالح، خوفاً وحذراً من قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: "أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع أن لا يدخل فيه إلا الحلال الطيب فليفعل".
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن وهو طفل أخذ تمرة من تمر الصدقة فأدخلها في فيه، فقال له: كخ، كخ؛ حتى أخرجها من فيه.
وتناول أبوبكر الصديق رضي الله عنه شيئاً من خراج غلامه، وأدخله في فمه، وعندما أعلمه هذا الغلام أنه حصل عليها عن طريق الكهانة في الجاهلية تقيأها في الحال، وقيل له في ذلك، فقال: إن لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها؛ أوكما قال.
لهذا فقد حلت المحقة محل البركة، والقسوة محل الرحمة والشفقة، وكثرت الخصومات والنزاعات، وتقطعت الأرحام، وحرم المجتمع الأمن والأمان، وكاد أن يكون البيع الذي هو من المكاسب الطيبة والوسائل المشروعة من الخبائث لما دخله وصاحبه من الغش، والكذب، والحلف الكاذب، والحيل المحرمة، ونحوها.
لم يكتف سلفنا الصالح بالامتناع عن الحرام، بل تعدى الأمر عندهم أن امتنعوا عن أخذ وأكل كل ما فيه أدنى شبهة.(1/279)
خرَّج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشترى رجل من رجل عقاراً، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّة فيها ذهب، فقال الذي اشترى العقار: خذ ذهبك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم أشتر الذهب؛ وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها؛ فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: نعم؛ وقال الآخر: لي جارية؛ قال: أنكحا الغلام الجارية، وأنفقا على أنفسهما منه؛ فانصرفا".
هذه القصة لا يكاد المرء يصدقها لولا أنها خرجت من في من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وقد أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته للتخلق بما جاء فيها، ولتقتدي بهذه الفعال الفاضلة والأخلاق النادرة، وتنال من هذا الورع الأصيل.
لا يدري المرء أيكون عجبه أشد بهذين البائعين الورعين الصادقين، أم بهذا القاضي الذي حكم بينهما هذه الحكومة الموفقة، التي تحرى فيها العدل والحق، وحكم فيها بالصدق؟!
على التجار أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي أهليهم، وأن لا يكونوا فتنة للذين آمنوا ولا للذين كفروا.
وليعلموا أن أسلافهم فتحوا وغزوا قلوب العباد بأخلاقهم الحسنة ومعاملتهم الكريمة، قبل أن يفتحوا تلك البلاد.
وليحذروا من تقديس الدنيا وحرمان التقوى، وأن يكون تعامل الكفار أحسن من تعاملهم، وليعلموا أن الدين المعاملة، ولينفروا من أن يكونوا مثل أكلة الربا والسحت من إخوان القردة والخنازير الملعونين على ألسنة رب العالمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد القائل: "لن تموت نفس حتى تكتمل رزقها"، أوكما قال.
=================0000
من علامات النفاق المتهاون فيها خلف الوعد
من الصفات الذميمة، والأخلاق اللئيمة، التي تفشت في مجتمعات المسلمين عامة في هذا العصر، وفي مجتمعنا السوداني بصفة خاصة، خلف الوعد، والذي عده رسولنا صلى الله عليه وسلم علامة من علامات النفاق، وآية من آياته، وسمة من سمات سوء الأخلاق، فقال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
ورسولنا الكريم عليه الصلاة وأتم التسليم لم يأمر بشيء إلا كان أول العاملين له، ولم ينه عن شيء إلا كان أول المنتهين عنه، وكان يعلِّم أصحابه بأفعاله وتصرفاته قبل أقواله، ولهذا كان هو وأبوه إسماعيل عليهما السلام آية في صدق الوعد، حتى عرفا بذلك واشتهرا به: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً".
قال القرطبي رحمه الله في تفسيرها: (وخصَّه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له وإكراماً، كالتلقيب بنحو الحليم، والأواه، والصدَِّيق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.
إلى أن قال:
واختلف في ذلك، فقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدي، وقيل: وعد رجلاً أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجلَ يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء، فقال له: ما زلت هاهنا في انتظارك منذ أمس، وقيل: انتظره ثلاثة أيام، وقد فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ذكره النقاش، وخرجه الترمذي وغيره عن عبد الله بن أبي الحَمْساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة، فجئتُ، فإذا هو في مكانه، فقال: "يا فتى، لقد شققت عليَّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك").
كانت العرب في جاهليتها قبل الإسلام تمدح بصدق الوعد، وتذم وتهجو بخلف الوعد، وكان عرقوب بن سعيد التميمي مضرب أمثال العرب في خلفه المواعيد، حتى قال كعب بن زهير رضي الله عنه:
أضحت مواعيد عرقوب لها مثلاً وما مواعيدها إلا الأباطيل
وكان السموأل بن عاديا مضرب المثل عندهم في الوفاء بالوعود، وحفظ الأمانة، ومما جاء في ذلك من أشعارهم:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مَذِق اللسان يقول ما لا يفعل
و:
متى ما يقل حر لصاحب حاجة نعم يقضها والحر للوأى ضامن
فخلف الوعد حرام، ومن الكبائر، وهو من باب الكذب البين.
وخلف الوعد قبيح من كل مسلم، ولكن قبحه أشد إذا صدر من أهل العلم والفضل، والإكثار من المواعيد مظنة لخلف الوعد.
ومما يؤسف له أن خلف الوعد عن حضور الاجتماعات في الوزارات، والمجالس، والهيئات، والشركات، والاجتماعات العامة، والتأخير الكثير في حضور من حضرها، أصبح من المظاهر السيئة المألوفة، ومن العادات القبيحة المعهودة.
وبدلاً من أن يُعاقب هؤلاء ويحاسبوا ويثرب عليهم يقع العقاب على من التزم بالمواعيد ووفى بها، حيث ينتظر الساعات الطوال، وفي بعض الأحيان يُفض الاجتماع وتحدد له مواعيد أخرى، وفي الغالب فإن سلوك المجتمعين في المواعيد الجديدة لا يختلف كثيراً عن سلوكهم الأول، ويندر أن يكون هناك اعتذار مسبق، ومما يؤسف له كذلك أن من وفى بوعده شُبِّه بالكفار، بدلاً من أن يمدح باقتدائه بالأنبياء والسلف الصالح.(1/280)
خطورة خلف الوعد تكمن في ضياع ساعات العمر، وعدم الاستفادة منه بالقدر المطلوب شرعاً، وفي ذلك خسارة لا تعدلها خسارة.
ومما يتعلق بخلف الوعد من الأحكام الشرعية الوفاء بالعِدَة، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: "العِدَة دين"، وفي الأثر: "وَأيُ المؤمن واجب".
واختلف العلماء فيمن وعد أحداً بهبة، أووصية، أوقرض، أومنيحة، أوعمرة، أورقبى، أوقضاء دَين، هل يجب الوفاء عليه أم لا؟ على قولين.
قال القرطبي: (قال مالك: إذا سأل الرجلُ الرجلَ أن يهب له الهبة، فيقول له: نعم؛ ثم يبدو له أن لا يفعل، فما أرى يلزمه؛ قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دَين فسأله أن يقضيه عنه فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي، وسائر الفقهاء: إن العِدَة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية، لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها؛ وفي البخاري: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد"، وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب، قال البخاري: ورأيتُ إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع).
والله أسأل إن يطهر قلوبنا من الرياء، والنفاق، وسوء الأخلاق، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
=================0000000000
أيها المسؤولون تداركوا مشروع الجزيرة
هذا المشروع ذو الفضل الكبير بعد الله، والنفع الجزيل، والخير المتعدي العميم، الذي كل السودان له مدين، أصابه من الدمار والخراب والتسيب ما الله به عليم، لقد خربت ترعه وخزاناته، وطمست جداوله وقنواته، وتآكلت وتكسرت أنابيبه، وقلت إنتاجيته، وشاخ شيخوخة مبكرة.
لهذا التدني والتدهور أسباب كثيرة وعوامل عديدة، بعضها إداري، وبعضها اقتصادي، والآخر سياسي، وسنشير في هذه العجالة إلى أهم الأسباب التي أدت إلى هذا التدهور، ونتج منها هذا الخراب، فنقول:
أولاً: عدم تحديث القنوات وتجديدها
من الأسباب الرئيسة في تدهور مشروع الجزيرة عدم تحديث القنوات وتجديدها وتطهيرها كما كانت تطهر دورياً من قبل.
كانت بعض المعدات قد أحضرت لهذا الغرض في الثمانينات، وجلست حيناً من الوقت، ثم حولت إلى مشرع آخر، إلى ترعتي كنانة والرهد كما علمت.
كان لعدم تحديث القنوات وتجديدها آثار سلبية ظهرت في مشاكل الري العصية، مما أدى إلى تدني الإنتاج وانخفاضه، لم تعد الخزانات والترع الرئيسة والفرعية، دعك عما يتفرع منها إلى داخل الحقول صالحة لاستيعاب ما كانت تستوعبه من قبل وتحافظ عليه من المياه، وقد كذبت عيني عندما رأيت ثاني ترعة رئيسة في الجزيرة وهي التي تعرف بـ"فم طابت" قد انكسرت عند قنطرة 46 قرب قرية تنوب، وتدفقت منها المياه مع حاجة المزارعين الماسة إليها، وكان عجبي واستغرابي أكبر عندما شاهدت الطريقة التي أصلحت بها، فالمواسير في القنوات الرئيسة والفرعية وكذلك الأبواب والأقفال تآكلت وتكسرت، وبعضها تعدي عليه لعدم وجود الرقيب.
وعمليات التطهير من الطمي ونحوه للقنوات الرئيسة والفرعية التي تحظى بذلك لم تعد ذات جدوى لاختلاف الجرارات والحفارات وصغر حجمها عما كانت عليه في الماضي، هذا بجانب عدم الرقابة والبطء، وقلة إحسان العمل وتجويده.
ثانياً: حراثة الأرض نقصت كماً وكيفاً
كانت مصلحة الهندسة الزراعية من الإدارات الناجحة في مشروع الجزيرة، التي تتولى حرث الأرض وفق خطة معينة، وبمستويات مختلفة، وعلى درجة عالية من الدقة، أما الآن فقد أصاب هذه الإدارة ما أصاب غيرها من الإدارات، نحو سكة حديد الجزيرة التي كانت تتولى نقل القطن والبذرة والتقاوي والأسمدة من داخل الغيط إلى المحالج المختلفة والمخازن، إن كانت لا تزال موجودة، وأصبحت عمليات الحرث يتولاها المزارعون بأنفسهم مع ضعف إمكانياتهم وعدم تقديرهم لأهمية الحرث، هذا بجانب التلاعب وعدم الدقة التي تصحب ذلك.
ثالثاً: التداخل وعدم التوافق بين إدارة المشروع وبين إدارة الري
الشركاء المتشاكسون في أي مشروع أومصلحة أوشركة عامل من عوامل عدم نجاح ذلك المشروع، وأداة من أدوات الهدم، فالتداخل وعدم تحديد الاختصاصات بين الزارعين وإدارة الري له أثر كبير وضرر عظيم على المشروع، ويؤثر تأثيراً سلبياً على عمليات الري، التي تنعكس بصورة جلية على تدني الإنتاج، فلابد من تحديد المسؤوليات وتفعيل الاختصاصات، حتى لا يحدث تضارب ومشاكسة.
رابعاً: تسييس الإدارة وعدم استقلالها(1/281)
من عوامل الخلل الرئيسة في مشروع الجزيرة وأسباب التدني المباشر في الأداء تسييس الإدارة وعدم استقلالها في اتخاذ القرار للصالح العام، متمثلاً ذلك في مدير المشروع أوالمحافظ، حيث أصبح الولاء شرط أساسي في الاختيار، وكان أول ضحايا هذه البدعة السيئة والظاهرة الخطيرة إعفاء المحافظ القدير والمهندس الزراعي الكبير عبد الله الزبير قبل الإنقاذ، فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً، وكذلك الأمر بالنسبة لاتحاد المزارعين الذي يمثل جزءاً لا يستهان به في إدارة المشروع.
خامساً: ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج
نسبة لانخفاض قيمة الجنيه السوداني في السنوات الماضية، مع سياسة التحرير التي انتهجتها الحكومة ورفع الدعم، وتعدد الرسوم والضرائب، حيث أصبح المزارع يتحمل كل الأعباء ويبوء بوزر كل الأخطاء، وليس له من راحم إلا الله.
سادساً: تدني مستوى الخدمات للعاملين في المشروع من مفتشين وغيرهم
حيث سحبت السيارات من بعضهم، وخفضت كمية الوقود التي تعطى إليهم، مما كان له آثار سلبية سيئة على الإشراف على العمل، وكاد هم كثير منهم ينحصر في أعماله الخاصة من زراعة وتربية مواشٍ ونحو ذلك، وأصبح الغيط لا رقيب فيه ولا حسيب إلا الله.
سابعاً: عدم وضوح العلاقة بين المزارع والإدارة
بدءاً بالظلم الواقع على المزارع، وهو غالباً المالك للأرض، وتأجيرها منه بثمن بخس، ملاليم معدودة وهو فيها من الزاهدين، والدعوة إلى خصخصة المشروع وتمليكه للقطاع الخاص انسياقاً مع رياح العولمة النتنة، كأن المشروع بلا مالك ولا وارث، وغير ذلك من القسم الضيزى والأمور الغامضة التي يُغيَّب فيها المزارع غياباً كاملاً.
لهذه الأسباب مجتمعة ولغيرها تدهورالمشروع، وتدنت إنتاجيته، وساءت خدماته، وتقلصت إمكاناته، وتقهقرت مكانته، وقلت عائداته، ونفدت أرصدته واحتياطاته، بعد أن كان دائناً للحكومة، فأسباب تدنيه معروفة، وسبل إصلاحه وتقويمه متيسرة، وإمكانية إعادته إلى سيرته الأولى ممكنة، إذا اقتنع المسؤولون بذلك، وجدوا وأخلصوا النية، واستشعروا أهمية الزراعة التي بها قوام حياة الإنسان والحيوان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة يوم القيامة".
والله أسأل أن تعود للمشروع حالته الأولى، وأن يهيئ له من الأسباب ما يجعله ينهض حتى يزداد عطاؤه، ويكثر نماؤه، ويحتل مكانته السابقة في الاقتصاد السوداني، حيث كان عماده، فإنه ليس على الله بعزيز، وأن يوفق المسؤولين لما فيه خير دينهم ورعاياهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
ابن مزارع ذاق حلو المشروع والآن يتجرع مره وعلقمه
=================0
لِمَ أخي المسلم تعطى الدنية في دينك؟!
بعد أن شرعت أمريكا في حربها الصليبية على الإسلام وفي كل المجالات، وأحكمت هيمنتها وقبضتها على العالم بأسره، أضحى سلوك بعض المسلمين من حكام، وعلماء، ودعاة، وعامة، يصب في معين واحد، ويسير في اتجاه إعطاء الدنية في الدين، إن خوفاً، أوطمعاً، أوجهلاً، واتخذ ذلك المسلك وسائل عدة، ومسارات شتى، منها:
1. تنفيذ ما يمليه الأمريكان على جل حكام المسلمين.
2. خذلان لبعض إخوة العقيدة وتسليمهم للكفار.
3. فتح المياه الإقليمية، والأجواء، والمطارات، والطرق البرية للمقاتلات والمرتزقة لغزو بعض البلاد الإسلامية.
4. الاستكانة والخضوع الكامل لما يهواه الكفار.
5. التبريرات الجائرة للظلم والعدوان الذي تمارسه أمريكا وإسرائيل وحلفائهما تحت مظلة محاربة الإرهاب.
6. الفتاوى المغرضة لما يهواه الكفار ويخدم أغراضهم.
7. ما يقوم به بعض الإعلاميين ومَنْ يعرفون بالمثقفين من تهيئة الجو للتعايش السلمي مع الكفار ونبذ عقيدة الولاء والبراء.
8. البحث والتفتيش عن بعض الزلات والهفوات والسقطات والأقوال الشاذة لتبرير ما يقوم به بعض الحكام من تنازلات خطيرة ومخالفات عظيمة للكفار، وما علموا أن من تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد وتجمع فيه الشر كله.
9. التغير المفاجئ في المواقف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
10. وصف من يعترض على ذلك بأنه متشدد وغالٍ، وليس عنده مرونة ولا فقه.
يبررون لكل ذلك بتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تؤثر عن عَلم من الأعلام، وإنما هي آيات وأحاديث صدق، وكلمات حق أريد بها باطلاً، من ذلك:
1. استدلالهم بقوله عز وجل: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين".(1/282)
فهذا كلام حق أريد به باطلاً، للفرق الشاسع بين الموالاة والخضوع والاستكانة والتطبيع، وبين البر والإحسان إلى من يخالفك في الدين، ويباينك في العقيدة، فربما كان برك وإحسانك إليه سبباً في هدايته واغتباطه بدينك.
ثم لماذا ينظر هؤلاء إلى النصوص بعين عوراء؟ ولماذا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؟
أين هؤلاء من قوله عز وجل: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم أوإخوانهم أوعشيرتهم".
وثمة شيء آخر، وهو أن الكفار الذين يواليهم من يواليهم اليوم محاربون للإسلام، ساعون للقضاء عليه وبكل الطرق، مجاهرون بذلك، مصممون على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، عازمون على القضاء على جميع المظاهر الإسلامية من الحجاب إلى إعفاء اللحى.
2. وبأن الصلح مع الكفار جائز، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صالح المشركين في الحديبية، وهذا قياس مع الفارق والفارق الكبير جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم صالح ثقة بوعد ربه، وصلح الحديبية على الرغم من أن ظاهره فيه ظلم وهضم للمسلمين لكن كان باطنه رحمة عليهم.
ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصالح عن ضعف واستكانة طلبه المبايعة على قتال المشركين عندما أشيع أن عثمان رضي الله عنه قد قتل.
فهل هناك من مقارنة بين استكانة اليوم وبين صلح الحديبية؟!
3. مما يصك به البعض الآذان ويشوشون به على العوام ما يعرف بـ"صحيفة المدينة"، هذه الصحيفة ضعيفة السند، منسوخ العمل بها بآيات الجهاد وإجلاء اليهود من المدينة، بل من جميع أنحاء جزيرة الإسلام، مع ذلك فما زال البعض يستدل بما جاء فيها تبريراً للاستكانة والخضوع والاستسلام للكفار من اليهود والنصارى ومن شايعهم.
4. من الشبه القذرة والحجج الواهية التي يتشبث بها البعض تبريراً لما يبتغيه الكفار من بعض حكام المسلمين في بعض الجزئيات التي هي في الحقيقة من الكليات والثوابت، وهي تنفيذ الأحكام الشرعية على أساس شخصي، بأن هذه مسألة خلافية! فقد قال بجواز ذلك أحد الأئمة المقتدى بهم، فلماذا لا نأخذ بقوله؟ وما علم هذا القائل أن ماجاء به منكر من القول وزور، وأنه ليس كل خلاف يُستراح له ويعمل به، إذ أن الحق عند الله واحد لا يتعدد كما هو الراجح من أقوال المحققين من أهل السنة أمثال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومن لا يحصى عددهم من أهل العلم المقتدى بهم، وأن الله سبحانه وتعالى لم يتعبدنا باختلاف العلماء، وإنما تعبدنا باتباع الدليل، وأن ندور معه حيث دار، ولله در القائل:
*** إلا خلافاً له حظ من النظر
ولله در علماء السلف، مالك وغيره، عندما حذروا من الأقوال الشاذة والآراء الساقطة.
ورحم الله أبا حنيفة القائل: هذا رأيي، فمن جاءني برأي خير منه قبلته.
هذا بجانب العديد من المفاسد والمضار والنواقض التي يجرها الأخذ بهذا القول الشاذ، التي لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم، ومعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
5. من التبريرات العجيبة التي يبرر بها لهذه التنازلات "مكره أخاك لا بطل"، ونحن نشهد الله حسب علمنا أنه لم يكره أحد من الحكام ولا غيره إكراهاً يبيح له مثل هذه التصرفات، وإن كان الراجح الثبات على المبادئ حتى عند الإكراه خوف القتل، كما فعل بلال، وعبد الله بن حذافة السهمي، وغيرهما كثير من المسلمين، ولكن: (من الناس من يعطي الدنية في دينه، وتفتنه المظاهر، أويخاف من شيء يصيبه، أويعجز أن تحمل ما نزل به، فيظهر غير الذي يبطن، ويوافق بلسانه على أشياء ينكرها قلبه، ولا يقرها إيمانه، وهذا من حب العاجلة، وضعف العزيمة، وقلة الصبر، والمداهنة التي يراد بها السلامة من الفتنة، أواستمالة قلب المجاهر بالمعصية، المتظاهر بالكفر والفسوق والعصيان، وقد يقول أحد: أنا لا أحب الشر، ولا أرضى لأحد بالكفر، ولكني أعجز عن إزالة المنكر، ولا أستطيع أن أجهر بما أعتقد من الحق، فأنا أنافق لأوافق، ولو تكلمت بالصدق ونطقت بالحق لعوديت وأذيت، ويالها من حجة ما أبردها، ويا له من دفاع ما أسخفه، وهبه كان معذوراً بالسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما عذره عند الله والناس في موافقته على الكفر وأعمال المشركين، وما حجته عند الله يوم يسأله عن الجهاد في سبيله والدفاع عن دينه، وربما يقول المفتون المداهن إن الله لم يتوعد بالعذاب الشديد من أكره بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن متى كان مكرهاً؟ وكيف حملوه على مجاملتهم والرضا بصنيعهم وهو حر في دينه؟ وليس بمحتاج إلى التقية التي أذن الله فيها بقوله: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير").(1/283)
قلت: لقد شكا عمر رضي الله عنه جلد الكافر وضعف التقي، ونحن نشكو إلى الله جلد الكافر وثبات المنافق، وإصرارهم على باطلهم، وضعف المسلم وخذلانه لإسلامه وإخوانه، وتنازله عن ثوابته، وإعطاء الدنية في دينه، والرضا بالفانية، وبيع الآخرة بدنيا الغير.
لقد أعزنا الله بالإسلام، فمن طلب العزة في غيره أذله الله، لم تهون وتضعف وتستكين أخي المسلم وأنت الأعلى إن كنتَ مؤمناً؟
"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".
هذه الآية نزلت بعد هزيمة المؤمنين في أحد، ووصفهم ربهم بما وصف به نبيه وكليمه موسى عليه السلام.
والله أسأل أن يردنا إليه وجميع إخواننا المسلمين حكاماً ومحكومين وعلماء وعامة رداً جميلاً، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله القائل: "كلكم يدخل الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"، أوكما قال صلى الله عليه وسلم.
=================00000
إسرائيل وأمريكا رائدتا الإرهاب والقرصنة اليوم في العالم
"رمتنى بدائها وانسلت"
هذا العصر هو عصر التناقضات، عصر المغالطات، عصر الأكاذيب والأراجيف، عصر الظلم، والعدوان، والكذب، والبهتان، والكيل بعدة مكاييل، حسب ما تمليه المصلحة ويبتغيه الهوى، حيث سادت فيه شريعة الغاب، وغابت فيه الفضيلة، وانتشرت فيه الرذيلة، وأسند الأمر إلى غير أهله.
ما يفعله اليهود وربيبتهم أمريكا في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من البلاد الإسلامية ليس له شبيه ولا مثيل إلا ما تمارسه الأسود في الغابات على ضعاف الحيوانات، حيث هم الخصم والحكم، وكذلك الحال فإن اللوبي الصليبي المحرك لقوى الشر والطغيان أمريكا وعملاءها يمارسون من أنواع الظلم والقرصنة والإرهاب على الأبرياء والضعفاء والعزل، مع رميهم إياهم بالإرهاب "رمتني بدائها وانسلت"، حيث لم يعرف التاريخ إرهاباً، ولا قرصنة، ولا صلفاً، وكِبْراً، وظلماً، وطغياناً، مثل ما يشاهد اليوم على أرض الإسلام بعد أن دنستها أقدام إخوان القردة والخنازير ومرتزقة الأمركان وعملاؤهم الذين دفعوا بهم إلى أفغانستان والعراق، في حربهم الصليبية ضد الإسلام.
كل هذا الظلم والإرهاب صُحب بتعتيم إعلامي، فضح دعاة الديمقراطية والحرية، حيث منعوا القنوات أن تنشر بعض جرائمهم وممارساتهم، فأضحوا يقصفون مكاتب تلك القنوات، ويقتلون ويأسرون بعض مراسليها، مع ما في ذلك من المنافاة للأعراف الدولية.
فحديثهم وافتراءاتهم وتبجحهم بحقوق الإنسان كشفته اغتيالاتهم للمقعدين والخارجين والذاهبين إلى المساجد، بعدد من الصواريخ التي مثلت بأجسادهم الطاهرة أبشع تمثيل.
وشاءت إرادة الله أن تفضح أمريكا في عقر دارها، حيث نشرت القنوات فيها أبشع صور للتمثيل مارسها الأمركان والبريطان في سجن أبي غريب بالعراق، وما خفي أعظم وأبشع مما ظهر.
ومهما يكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فهؤلاء هم الكفار من اليهود والنصارى، وهذه هي فعالهم، وتلك هي تصرفاتهم تكذب ادعاءاتهم وافتراءاتهم، مضافة إلى "كذبة إبريل" التي برروا بها غزوهم للعراق، لامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، أما إسرائيل فهم يملِّكونها لذلك ويمدونها بأحدث الأسلحة فتكاً بالإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد.
حرام على بلابل الدوح *** حلال على الطير من كل جنس
وصدق الله العظيم: "ومن يُهن الله فما له من مكرم"، وصدق رسوله الكريم حيث قال: "إن من الشعر لحكمة".
ومن يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرح بميت إيلام
ما كان للتحالف الصهيوني الكنسي أن يباشر تلك الحرب الصليبية الشرسة وفي كل المحاور لولا اختلاف المسلمين وضعفهم، واستكانة حكامهم للكفار، وركون عامتهم إلى الدنيا، وبغضهم للتضحية والجهاد، وعزاؤنا أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلهاحتى تقوم الساعة، كما أخبر الصادق المصدوق، فقط على إخوانهم المسلمين أن يمدوهم بالمال، وأن يعينوهم بالدعاء، فهو سلاح المستضعفين، وعدة المقاتلين المقهورين.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسل
=================0000000
أيها المسلمون لا تبخلوا على إخوانكم المجاهدين بأموالكم ودعائكم
جهاد الكفار والمنافقين الذي أوجبه رب العالمين على كل مسلم ومسلمة حسب الطاقة ليس قاصراً على الجهاد بالنفس، وإن كان الجهاد بالنفس أعلى أنواعه وأزكاها، فمن لم يتمكن من جهاد الكفار والمنافقين بالنفس فعليه أن يجاهدهم: بالمال، باللسان، والبنان، بالدعاء والابتهال، والسؤال والإعلام، والاختراق والتخذيل بالامتناع عن شراء منتجاتهم.(1/284)
فاليهود والنصارى بقيادة أمريكا وربيبتها إسرائيل في حربهم الصليبية هذه يحاربون الإسلام بكل الوسائل، بغزو ديارنا، وإرهاب حكامنا، واغتيال قادتنا، والتعتيم على انتصاراتنا، والتضييق على محسنينا وموسرينا من أن يخرجوا زكوات أموالهم لمستحقيها، بإشعال الفتن بين شرائح مجتمعنا، بين حكامنا ومحكومينا.
هذه الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، والخير والشر، بين الإسلام وملل الكفر، التي فرضها الكفار وحددوا توقيتها وأمسكوا بزمامها تحتاج إلى تضافر الجهود، والبذل والتضحية بأعز الموجود، واستشعار المخاطر المترتبة عليها على الإسلام وأهله في مستقبل الأيام والدهور.
فإن فاتك أخي المسلم جهاد الكفار بالنفس فلا يفوتنك جهادهم بالمال، والاستغاثة، والابتهال، فلا تحقرنَّ عطاءك في ذلك مهما قل أوكثر، فالقليل يكثر بالقليل، والله يبارك في القليل حتى يكون أكثر من الكثير وأبرك، وربما صادفت استغاثة ساعة إجابة فتنكشف بها الكرب، وتنحل بها العقد، وتتغير بسببها موازين الأمور.
فعليك أخي المسلم بالتجارة الرابحة والبيعة الناجحة لتنال السلعة الغالية، وهي الجنة.
أيها المسلمون استجيبوا لله والرسول ولنداء إخوانكم المستضعفين في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وكشمير، والشيشان، والفلبين، وفي غيرها من الديار.
"يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين".
"إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يغز، أويجهز غازياً، أويخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة".
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم".
وعن أبي يحيى خُريم بن فتيك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق نفقة في سبيل الله كُتب له سبعمائة ضعف".
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله؛ فقال رسول الله: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة".
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثنتان لا تردان، أوقلما تردان، الدعاء عند النداء، وعند الباس حين يُلحَم بعضهم بعضاً".
فالبدار البدار أخي المسلم بالإنفاق، وثق بسرعة الخلف، وإياك أن تتباطأ فتخذل إخوانك المجاهدين وتسلمهم وحريمهم للكفار، فيخذلك الله يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم
=================000000
أيها العلماء والدعاة احذروا أسباب التفرق: التشرذم، والانغلاق، وسوء الظن
من أشد الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغضاً للاختلاف، وكرهاً للتفرق والتشرذم، وتحذيراً من كل الأسباب والوسائل التي قد تؤدي إلى ذلك، الخليفة الملهم المحدَّث الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لإدراكه لخطورته ومغبة نتائجه، وفساد منقلبه، ولحدة فراسته لأنه كان ينظر بنور الله.
أخرج الإمام الطبري في تاريخه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن عمر رضي الله عنه قال لناس من قريش: بلغني أنكم تتخذون مجالس، لا يجلس اثنان معاً، حتى لا يقال: مَنْ صَحَابة فلان؟ مَنْ جلساء فلان؟ حتى تحوميت المجالس، وأيم الله إن هذا لسريع في دينكم، سريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم، ولكأني لمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسموا الإسلام أقساماً، أفيضوا مجالسكم، وتجالسوا معاً، فإنه أدوم لإلفتكم، وأهيب لكم في الناس).
ها نحن نرى أن عمر فطن لسبب رئيس من أسباب تفرق الأمة، فحذر منه في الحال، ومنع من تعاطيه لما يخشى من نتائجه في المآل، ألا وهو التشرذم والانغلاق والتحزب المؤدي إلى تعدد الولاءات، وتفرق الأمة إلى طوائف وجماعات، وإعجاب كل فرقة بما تهواه من العقائد والمقالات، وسوء الظن بالمخالف، ولو في الوسائل والاجتهادات.
ينتج عن ذلك كله ما حذر منه رسول هذه الأمة، وهو الشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل رأي برأيه، الذي هو من الطوام العظام، والفتن الجسام، حيث لا يجدي معه أمر ولا نهي، ولا نصح ولا رشد.
لقد خشي عمر رضي الله عنه أن تكون تلك المجالس والمنتديات نواة لتجمعات وتكتلات صغيرة، وبذرة للتفرق والتشتت المذموم، فمعظم النار من مستصغر الشرر، لذلك نهى عنها وحذر منها، من باب سد الذرائع، لأن التفرق في المجالس، والانغلاق عن المجتمع، ينتج عنه تفرق في الرؤى، فينتسب أهل كل مجلس إلى البارزين منهم، ويتعصبون لهم، ويعجبون بآرائهم، وأقوالهم، وتأخذهم حمية الإلفة والاجتماع.(1/285)
لذات السبب عندما أراد الأنصار أن يتحزبوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: منا أمير ومنكم أمير؛ رد عليه أبو بكر وعمر في الحال، فقالا: منا الأمراء ومنكم الوزراء؛ حسماً لمادة التحزب والتشرذم، لأن هذه الأمة سر قوتها في اجتماع كلمتها، وتوحد صفها، فالإسلام لا يقوم إلا بالجماعة، ونبذ الفرقة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار"، أوكما قال.
المتقون سادة والفقهاء قادة، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، والقادة ينبغي عليهم أن يترفعوا عن الصغائر، ويدركوا المخاطر، ويسعوا لرأب الصدع، ولَمِّ الشمل، وتوحيد الكلمة، قبل فوات الأوان، وحلول الندامة والخسران، فما لا يدرك كله لا يترك جله، ويكون ذلك بالآتي:
1. تحسين الظن بالآخرين، ونعني بذلك كل المسلمين، سيما أهل السنة، فكثير من أسباب الفرقة مردها إلى سوء الظن، وانعدام الثقة، فإذا حَسَّنَ أحدنا ظنه بأخيه المسلم، وحكم عليه بما ظهر منه، وسار فيهم بسيرة ابن عمر رضي الله عنه: "من خدعنا في الله انخدعنا له"، زالت كثير من تلك الأسباب، وصفت القلوب، واطمأنت النفوس.
2. إجابة الدعوات والإكثار من الزيارات في جميع المناسبات تذيب كثيراً من تلك الأوهام.
3. اللقاءات الدورية والندوات المشتركة والاجتماعات تقرب من وجهات النظر.
4. منع الأتباع من نقل الأخبار عن الغير، اللهم إلا من أهل البدع الكفرية، الداعين لبدعتهم، فكثير من الجفاء وتوغير الصدور مرده إلى تلك النقول، ولا تقل أخي الكريم أخبرني الثقة!! فالثقة لا يبلغ، كما قال ابن عمر رضي الله عنه، وإن كان لابد من ذلك فالتثبت واجب.
5. ما صح من المنقول إلينا علينا أن نحمله على أحسن وجه، عملاً بنصيحة عمر رضي الله عنه: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير مدخلاً، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك".
6. عدم الخوض في الجدل والمنازعات والخصومات، فعلينا بيان الحق وتجلية السنة، فمن قبل ذلك يُشكر ومن لم يقبله يترك.
7. لا نقصر حقوق المسلم على أفراد جماعتنا، فهي حقوق عامة لكل المسلمين، عصاة كانوا أم طائعين.
8. أن يشتغل كل منا بعيوبه وسلبيات جماعته، فما أكثر عيوبنا وما أخطر سلبياتنا.
9. الصبر والمداراة لإخوة العقيدة ورفقاء الدرب.
10. اعمل بالحكمة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
11. أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما، وأبغض عدوك هوناً ما عسى أن يكون صديقك يوماً ما"، كما أثر عن علي رضي الله عنه.
12. توالي أخاك المسلم بقدر ما فيه من خير وإيمان.
13. تبرأ من الأعمال والأقوال السيئة ولا تتبرأ من فاعلها، فقد قال صلى الله عليه وسلم عندما قتل خالد رضي الله عنه متأولاً بني جذيمة: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، ولم يتبرأ من خالد.
14. لا نحاسب على ما مضى، فالإسلام والتوبة تجبان ما قبلهما.
15. احذر مسلك أهل الأهواء الذين يبغضون ويقتلون أهل الإسلام، ويتركون ويوالون أئمة الكفر وعباد الأوثان.
أو أن يكون بغضك وعداوتك لمن فارقك وانفصل عنك أشد من بغضك وعداوتك لمن هو أسوأ معتقداً وعملاً منه، ولله در ابن عمر عندما قال عن الخوارج بسبب تكفيرهم لبعض: "ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفر بعضهم بعضاً".
فالدخول في جماعة تكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب التعاون على البر والتقوى، والخروج منها لغيرها لا يقدح بمفرده في عدالة المرء.
16. نعمل على أن لا تفترق صفوفنا وإن لم تتوحد آراؤنا.
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يجنبهم الفتن والآثام، وأن ينصرهم على أنفسهم وأعدائهم والشيطان، وصلى الله وسلم وبارك على محمد خير الأنام
=================000
أيها المجاهدون إنكم تقاتلون عن دينٍ وعد الله بنصره
أيها المجاهدون في فلسطين، والعراق، والشيشان، وأفغانستان، وفي كشمير، وفي جنوب الفلبين، وفي كل مكان، اصبروا وصابروا ورابطوا فإنكم على الحق المبين والصراط المستقيم، فحسنوا نياتكم، وجددوا توباتكم، ووحدوا هدفكم لإعلاء كلمة الله وإقامة شرع الله: "فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى فهو في سبيل الله".
أيها المجاهدون عن الإسلام، اعلموا وثقوا أنكم تقاتلون عن دين وعد الله بنصره، وتكفل بحفظه، وكتب بغلبته: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز"، وأمر بالذب والدفاع عنه، فانتم تتقلبون بين حسنتين، وتقاتلون لإحدى الحسنيين: الشهادة أوالنصر.
كثير من المسلمين يلهث لتأمين رغباته ولتحقيق نزواته، أولتأمين سلطانه، وأنتم مشغولون بالدفاع عن دينكم، وأعراضكم، وحريمكم، وإخوانكم، وأخلاقكم، عن قرآنكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.(1/286)
ايها المجاهدون يكفيكم شرفاً وفخراً أنكم رفعتم الإثم عن إخوانكم الذين ركنوا إلى الدنيا، وأثاروا العاجلة على الباقية، برفعكم لراية الجهاد الواجب، وبدعمكم لإخوانكم المستضعفين الذين تخلى عنهم القريب قبل البعيد، والصديق قبل العدو.
اعلموا أيها المجاهدون أن الله معكم، ولن يدعكم لعدوكم ولا لأنفسكم، فمن كان الله معه فلا يخاف ولا يحزن، فأنتم الأعلون بإيمانكم وباعتمادكم على ربكم، وتوكلكم عليه، فالنصر آتٍ، والفرج قريب، لأنكم لا تقاتلون عدوكم بعددكم وعتادكم فحسب.
لتكن لكم الأسوة الحسنة في إخوانكم في بدر، وأحد، والخندق، وغيرها من الغزوات والمواقع، الذين نصروا الله فنصرهم الله، وصدقوه فصدقهم، واستغاثوه فأغاثهم: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون. إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين"، "الذين قال لهم الناسُ إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
واحذروا أسباب الفشل والخذلان، وهي الذنوب والآثام، والتفرق، والتنازع، والانقسام، والعزوف عن الدعاء والاستغاثة وطلب النصر من الكريم المنان: "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسُّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل عظيم".
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على اليهود والنصارى والشيوعيين، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم واجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم إنك تعلم أن الأمريكان طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم يا ربنا صوت عذاب، اللهم أنزل عليهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، وأرنا فيهم وفي عملائهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، وصلى الله وسلم على رسوله الصادق الأمين
=================00000
لتسألنَّ يومئذ عن النعيم
الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لعبادته وحده، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، لتوجيههم وإرشادهم لما فيه خير دينهم ودنياهم.
نِعَمُ الإله على العباد كثيرة وعظيمة، أجلها على الإطلاق نعمة الإيمان والهداية: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"، وتليها وهي تبع لها نعمة الاستضاءة بنور الكتاب والسنة، والاهتداء والاقتداء بالسلف الصالح.
ثم تتوالى النعم وتترى على العباد، نحو نعمة العافية والفراغ، والمال، والبنين، ونحوها، فالصحة والعافية تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، والمال والبنون من النعم العظيمة والآلاء الجسيمة، فنسأل الله الرؤوف الرحيم أن لا يحرم بيتاً من الأطفال، ونجابة الأبناء ونباهتهم وعقلهم نعمة لا تدانيها نعمة بعد الإيمان والاهتداء بالسنة.
نعم الإله على العباد كثيرة وأجلهن نجابة الأولاد
واجب على العباد مقابلة هذه النعم دقها وجلها بالتوحيد والامتنان، والشكر والعرفان، وليحذروا من الجحود والنكران والكفران، وليعلموا أنهم مسؤولون عن هذه النعم إن لم يؤدوا حقها، ويوفوا شكرها، قليلة كانت أم كثيرة، فبالشكر تدوم النعم، وبالجحود والكفران تتوالى النقم.
وشكر النعم يكون بلسان الحال، بالتزام الأوامر واجتناب النواهي، وبلسان المقال بالشكر باللسان والتحدث بالنعم ونشرها وبثها، خاصة بين الأحبة والأصدقاء.
قال تعالى مخاطباً له وللأمة في شخص رسولها: "وأما بنعمة ربك فحدث"، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن أن يرى أثر نعمته على عبده"، روى النسائي عن مالك بن نضلة الجُشمي رضي الله عنه قال: "كنتُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فرآني رثَّ الثياب، فقال: ألك مال؟ قلتُ: نعم، من كل المال؛ قال: إذا آتاك الله مالاً فليُرَ أثره عليك".
وروى الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بالنعم شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب".
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: "إذا أصبتَ خيراً، أوعملتَ خيراً، فحدِّث به الثقة من إخوانك".
النعم المسؤول عنها
اختلف أهل العلم في تأويل النعم المسؤول عنها في قوله تعالى: "لتسألنَّ يومئذ عن النعيم"، على أقوال هي:
1. قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "إن ما سدَّ الجوع، وستر العورة ،من خشن الطعام، واللباس، لا يُسأل عنه المرء يوم القيامة، وإنما يسأل عن النعيم، قال: والدليل عليه أن الله أسكن آدم الجنة، فقال له: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى".
2. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الأمن والصحة.
3. وقال سعيد بن جبير رحمه الله: الصحة والفراغ.
4. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حاستي السمع والبصر.(1/287)
5. وقال جابر: ملاذ المأكولات والمشروبات.
6. وقال الحسن: الغداء والعشاء.
7. وقال مكحول: شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخَلْق، ولذة النوم.
8. عن كل نعيم قليلاً كان أم كثيراً.
خرَّج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أوليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله؛ قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوما؛ فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: يستعذب لنا من الماء؛ إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله! ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني، قال: فانطلق فجاءهم بعِذْق فيه بُسْر وتمر رطب، فقال: كلوا من هذه؛ وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب؛ فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العِذْق، فشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة! أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم".
وخرجه الترمذي وزاد فيه كما قال القرطبي: "هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة: ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد"، وكنى الرجل الذي من الأنصار، فقال: أبو الهيثم بن التيهان، واسمه مالك.
قال عبد الله بن رواحة يمدح صنيع أبي الهيثم هذا:
فلم أر كالإسلام عزاً لأمة ولا مثل أضياف الإراشي معشراً
نبيٌّ وصدِّيقٌ وفاروقُ أمةٍ وخير بني حواء فرعاً وعنصراً
فوافوا لميقاتٍ وقَدْرٍ قضية وكان قضاء الله قدراً مقدراً
إلى رجل نَجْدٍ يُباري بجوده شُموسَ الضحى جوداً ومجداً ومفخراً
وفارس خلق الله في كل غارة إذا لبس القومُ الحديدَ المُسَمَّرا
ففَدَّى وحَيَّا ثم أدنى قراهم فلم يقرهم إلا سميناً متمراً
وفي رواية أبي نُعيم: قال عمر: يا رسول الله، إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟ قال: "نعم، إلا من ثلاث: كسرة يسد بها جوعته، أوثوب يستر به عورته، أوجُحْر يأوي فيه من الحر والقر"، أي البرد.
وفي رواية للترمذي عن أبي هريرة لما نزلت هذه الآية: "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم"، قال الناس: يا رسول الله، عن أي نعيم نسأل؟! إنما هما الأسودان التمر والماء، وسيوفنا على أكتافنا والعدو أمامنا؟ قال: "إن ذلك سيكون"، وفي رواية: "لتسألن عن الأسْوَدَيْن".
وقال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار.
وجمع البعض بين هذه الأخبار أن الكل يسأل، عن كل نعيم قليلاً أم كثيراً، ولكن سؤال الكافر سؤال توبيخ، لأنه لم يؤد الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف، لأنه شكر، والله أعلم.
اللهم إنا نسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، برحمتك يا عزيز يا غفار، وصلى الله وسلم وبارك وعظم على العبد الشكور، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
=================0000000
أبوبصير وأبوجندل رضي الله عنهما أول من سنَّا حرب المقاومة والعصابات في الإسلام
حرب الاستنزاف، أوالمقاومة، أوالعصابات من الوسائل المشروعة في الإسلام، لاسترداد الحق المغصوب، ولزعزعة الغزاة واضطرارهم للتخلي عن ديار الإسلام، ومقدراته، وثرواته.
يحل في حرب المقاومة، العصابات هذه ما لا يحل في غيرها، ويجوز فيها من المباغتة، والمكر، والخديعة، ما لا يجوز في غيرها، ويمكن فيها من الممارسات ما لا يمكن في غيرها.
تمارس حرب العصابات في الإسلام عندما لا يكون هناك تكافؤ بين الفئة المؤمنة والفئة الكافرة الغازية المتعدية في العدة والعتاد، سيما وأن الكفار والمنافقين في كل زمان ومكان لا يقاتلون المسلمين ولا يواجهونهم مواجهة الرجال الابطال في ساحات القتال وميادين التضحية، ولكن من وراء جدر وموانع، وهذا هو شأنهم في الماضي والحاضر: "لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أومن وراء جُدُر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون".
هذه الآية الكريمة من المعجزات الخبرية الخالدة لهذا الكتاب، إذ لا يزال اليهود وأذنابهم النصارى ومن تابعهم هذا هو ديدنهم، في الماضي كانوا يتحصَّنون بالجُدُر، وفي الحاضر بالمقاتلات من الطائرات وغيرها، وبالجدار العازل الذي شرعت دولة الشر والبغي إسرائيل وربيبتها أمريكا في تشييده، وذلك لأن اللوبي الصهيوني هو محرك القوى الصليبية الكنسية، والموجه لسياستها، والمسيطر على مالها وإعلامها وكنائسها.(1/288)
لقد أثبتت حرب المقاومة فعاليتها ونجاحها، وآتت ثمارها عندما مارسها الهندوس والبوذيون والشيوعيون الذين لا يرجون لله وقاراً، وأذلوا عن طريقها غطرسة وكبرياء الجبابرة والمتكبرين من الغزاة الغاشمين في فيتنام وغيرها من البلدان، ألا تؤتي ثمارها لدى المؤمنين الموحدين الذين يستمدون النصر من رب العالمين؟!
لم يتفوق المسلمون على الكافرين والمنافقين في جُلِّ المعارك التي خاضوها مع قوى الشر والطغيان في القوى المادية، عتاداً كانت أم رجالاً: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، بل عندما اغتر المؤمنون بكثرتهم هُزمُوا: "ويوم حُنَيْن إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً".
لعلمهم أن النصر من عند الله عز وجل: "وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى"، وأن الله ينصر من ينصره ويؤيد من يؤيد دينه، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يوصي جنده بقوله: "أنا من ذنوبكم أخوف عليكم من عدوكم".
صُلحُ الحديبية كانت حقيقته وباطنه رحمة للمؤمنين الموحدين، وظاهره ظلم وتعد على المستضعفين الذين حيل بينهم وبين الهجرة إلى المدينة، دار الإسلام، ولذلك ضاق بهذا الصلح طائفة من المتضررين منه ذرعاً، وشرعوا في مقاومة المشركين والنيل منهم، وشنِّ غارات على قوافلهم التجارية، والاستيلاء عليها، وقد تم لهم ذلك بقيادة بطلين من أبطال الإسلام وفارسين من فرسانه هما أبو بصير وأبو جندل رضي الله عنهما، ومن انضم إليهما من المسلمين، فكان ما قام به هؤلاء أول حرب مقاومة، واستنزاف، وعصابات ضد المشركين المتكبرين الظالمين الأشرار في الإسلام، فلأبي بصير وأبي جندل رضي الله عنهما أجر وثواب كل مقاومة قام ويقوم بها من بعدهم إلى أن تقوم الساعة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، لأنهما أول من سنا هذه السنة الحسنة، وسارا بهذه السيرة المرضية، وزرعا الرعب في نفوس الجبناء من الكفار، وأرهبا عدو الله وعدوهم، ودلا على سبيل المقاومة عندما يتراجع عن الغزو والجهاد المتراجعون، ويتقاعس عن ذلك المتقاعسون، ويُخذِّل عنه المخذِّلون.
عندما قال مفاوض المشركين في الحديبية ساعتئذ سهيل بن عمرو وكان مشركاً: "على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا"، قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟!
فبينما هم كذلك إذ جاء أبوجندل بن سهيل بن عمرو يَرْسَفُ في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهل – أبوه -: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليَّ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد"، قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي"، قال: ما أنا بمجيزه لك؛ قال: "بلى فافعل"، قال: ما أنا بفاعل؛ قال مكرَز: بلى قد أجزناه لك؛ قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرَدُّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله.
وفي رواية لابن كثير كذلك: فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، وقال: يا محمد، قد لجَّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا؛ قال: "صدقت"، فجعل – سهيل – ينتره بتلبيبه ويجره، يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرَدُّ إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد ذلك الناس على ما بهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.
قال: فوثب عمر بن الخطاب إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب؛ قال: ويدني قائم السيف منه، قال: يقول عمر: رجوتُ أن يأخذ السيف فيضرب أباه! قال: فضنَّ الرجل بأبيه، ونفذت القضية).
وعن أبي بصير رضي الله عنه قال ابن كثير: (ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبوبصير، رجل من قريش، وهو مسلم، أرسلوا في طلبه رَجُلين، فقالوا: العهد الذي جعلتَ لنا؛ فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيد؛ فاستله الآخر، فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت؛ فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه؛ فأمكنه منه، فضربه به حتى برد، وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: "لقد رأى هذا ذعراً"، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتِل واللهِ صاحبي وإني لمقتول؛ فجاء أبوبصير، فقال: يا نبي الله، أوفى الله ذمتك، قد رددتني ثم أنجاني الله منهم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مِسْعَرَ حرب لو كان له أحد!"، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.(1/289)
قال: وينفلت منهم – أي من قريش – أبوجندل بن سهيل بن عمرو فيلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عَِصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم.
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم).
قال ابن عبد البر: (وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظ وأكمل سياقه. قال: وكان أبوبصير يصلي لأصحابه، وكان يكثر من قول: اللهُ العلي الأكبر، من ينصر الله فهو ينصره؛ فلما قدم عليهم أبوجندل، كان هو يؤمهم، واجتع إلى أبي جندل حين سمع بقدومه ناس من بني غفار، وأسلم، وجُهينة، وطوائف من العرب، حتى بلغوا ثلاثمائة، وهم مسلمون، فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها؛ قال: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه، ومن معهما من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم، فقدم كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جندل وأبوبصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرأه وهو فرح به، فدفنه أبوجندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجداً).
قلت: في عدم كتابة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك إقرار لهم على صنيعهم هذا، ولكن بعد أن فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً لم تكن هناك حاجة لمقاومتهم تلك، لأن راية الجهاد كانت مرفوعة في المدينة، وكانت غزواته وسراياه تجوب الجزيرة العربية.
ليس في بناء أبي جندل مسجداً على قبر أبي بصير دليل على مشروعية البناء على القبور، لأن هذا كان قبل النهي عن ذلك، فلم يكن أبو جندل يعلم نهياً عن ذلك وإلا لما أقدم على هذا العمل.
قال ابن عبد البر: قال أبوجندل وهو مع أبي بصير:
أبلغ قريشاً من أبي جندل أني بذي المروة بالساحل
في معشر تخفق أيمانُهم بالبيض فيها والقنى الذابل
يأبون أن تبقى لهم رفقة من بعد إسلامهم الواصل
أويجعل الله لهم مخرجاً والحق لا يُغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه أويُقتل المرء ولم يأتلِ
قلت: جزى الله أبا بصير وأبا جندل وإخوانهما عن الإسلام خير الجزاء، وجزى الله الإسلام عنا وعنهم خير الجزاء، فقد سنوا هذه السنة الحميدة وهي مقاومة الكفار بالوسائل المتاحة، وكانوا سبباً في مشروعية حرب العصابات وحرب الاستنزاف والمقاومة هذه التي يخوضها الأبطال هذه الأيام في عدد من بقاع الإسلام، بعد أن خذلهم إخوانهم، وتخلت الجيوش الإسلامية عن واجبها، وركن جُلُّ الحكام إلى الكفار، واستكانوا لهم، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فقد صلح أول هذه الأمة برفع راية الجهاد، وبالتضحيات، وبالعمليات الجهادية التي سنها كذلك البراء بن مالك وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما، وغيرهما كثير، ومن قبل غلامُ أصحاب الأخدود، فلا نامت أعين الجبناء، ولا تهنا بالعيش المخذلون التعساء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلوات ربي وسلامه على نبينا الضَّحوك القتَّال القائل: "وجعل رزقي تحت ظل سيفي، وجعل الصَّغار على من خالف أمري".
=================000000
احذروا الركون إلى الكفار "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكم النار"
لم يواجه الإسلام عقيدة وشريعة منذ عهد أبينا آدم عليه السلام وإلى اليوم خطراً أشد ولا أكبر مما يواجهه اليوم، حيث لم يُستهدف الإسلام كما استهدف اليوم، فالحرب الصليبية اليهودية التي تقودها أمريكا في هذا العصر ليست حرباً عسكرية ولا اقتصادية فحسب، بل هي حرب عقدية، وثقافية، وحضارية، وسلوكية، واجتماعية، ويخطئ من يتوهم أن هدف الكفار من تلك الحرب الصليبية الشرسة هو القضاء على الإرهاب ممثلاً في تنظيم القاعدة وحكومة الطالبان لإيوائها لقادة القاعدة، أو لتخليص العالم من أسلحة الدمار الشامل، ومن أجل ذلك غزوا أفغانستان والعراق واستعمروهما، وليس كذلك هو تأمين إسرائيل والهيمنة على مصادر النفط العربي فحسب، بل هدفها القضاء على الإسلام، إسلام الوجه واليد واللسان، هدفها كل مسلم معتد بدينه، معتصم بربه.
هدفها محاربة العقيدة الصحيحة، والدفاع عن الشرك، وحماية الوثنيات القديمة، والمحافظة عليها وبثها من جديد، ومحاولة إرجاع الناس إليها، فإخراج الناس سيما المسلمين من النور إلى الظلمات مطلب أساسي من إشعال هذه الحرب وتوسيع دائرتها.(1/290)
هدفها كذلك تغيير الهوية الإسلامية، ولذلك عمدوا إلى تغيير المناهج وقفل الجامعات والمدارس والمعاهد الدينية، والتضييق على المنظمات والجمعيات الطوعية والخيرية، والعمل على منع العلماء والدعاة المؤثرين من التدريس والخطابة، وقد صدرت تعليماتهم الصارمة إلى الحكام بذلك، وشرع كثير من الحكام في تنفيذ هذا المخطط وإعانة الكفار على تحقيق مآربهم، وإنجاح حملتهم الصليبية.
هدفهم كذلك أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا كما شاعت في ديارهم، وذلك بإخراج ما تبقى من النساء المسلمات من بيوتهن، ونزع الحجاب والعفاف عنهن، وتوسيع دائرة الاختلاط، وتنويع محاوره وأشكاله.
هدفهم أيضاً أن تسيطر حضارتهم المادية اللادينية على جميع الحضارات، سيما الإسلام، إذ ليس هناك حضارة أوفكر يخشون منه سوى الإسلام.
هدفهم القضاء على المظاهر الإسلامية، نحو إعفاء اللحى وغيرها.
هدفهم كذلك القضاء على عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، التي هي سر بقاء هذا الدين، وسبب مقاومته للكفر والكافرين.
هدفهم كذلك زيادة عملائهم والتمكين لهم، والسعي على تسليم السلطة إليهم بعد أن يئسوا من عملائهم التقليديين، فلكل مرحلة صنف من العملاء وفريق من الخونة والبلهاء.
لقد سعى الكفار لتحقيق هذه الأهداف وغيرها منذ أمد بعيد، وسلكوا من أجلها كل سبيل، وجربوا كل طريق، وبذلوا ولا يزالون يبذلون كل غال وثمين.
لذلك فقد حققوا قدراً كبيراً مما يريدون، ونالوا نصيباً وافراً مما يصبون إليه.
ما كان لهؤلاء الكفار أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه أوأن ينالوا ما رموا إليه لولا شيئين، هما:
الأول: العمالة والموالاة لهم من بعض المنتسبين إلى الإسلام، فقد زاد عدد عملائهم بعد سقوط الاتحا السوفييتي، فقد انحاز كل عملاء الشيوعية إلى الإمبريالية العالمية بقدرة قادر، فاتسعت دائرة حزب الشيطان لتشمل الشيوعيين والعلمانيين وكافة أعداء الدين، فالكفر ملة واحدة، والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
الثاني: الركون إلى الكفار والتنازل لهم، وسرعة الاستجابة إلى مطالبهم بصورة لم يكن الكفار يحلمون بها من قبل، فاقت تصوراتهم وزادت من طموحاتهم، من العامة قبل الخاصة، ومن بعض الدعاة والمنتسبين إلى العلم والمحسوبين على الإسلام قبل غيرهم، ولخطورة الركون جعلت عقوبته النار: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار"، ولا أدل على ذلك من مطالبة "الكنقرس" حكام المسلمين بعدم تصدير كلامهم وخطبهم وأحاديثهم الرسمية بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"، وألا يفتتحوا المجالس والبرلمانات بقول عز وجل: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم" الآية.
والسبب الثاني أخطر من الأول، لأنه سبب وغاية لما يهواه الكفار.
حفظ الدين له شقان: نظري وعملي.
فالحفظ النظري قد تكفل به ربنا سبحانه، فقال: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ولم يدعه لغيره، والذكر يشمل القرآن والسنة.
أما الحفظ العملي فهو مسؤولية المسلمين عامة، بجميع طوائفهم وشرائحهم، حكاماً ومحكومين، علماء وعامة، وإن كان دور الحكام والعلماء أكبر من غيرهم، والمراد بذلك الثبات على المبادئ، والمحافظة على المسلمات، وعدم التنازل والركون مهما كانت النتائج.
فالركون هو طاعة الكفار والمنافقين والمبتدعة والفاسقين، ومداهنتهم، ومصانعتهم، والميل والتودد إليهم، والرضا عنهم.
أخطر صور الركون
لا شك أن مسؤولية الحفاظ على هذا الدين من الناحية العملية هي مسؤولية تضامنية، لكل مسلم منها حظ ونصيب، ذكراً كان أم أنثى، عالماً كان أم جاهلاً، حاكماً كان أم محكوماً، عاصياً كان أم طائعاً، شاباً كان أم شيخاً.
فما من مسلم إلا وهو على ثغرة من ثغور الإسلام، ومسؤول عن جانب من جوانبه: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" الحديث، حيث لم يستثن الرسول صلى الله عليه وسلم عن المسؤولية أحداً، فقد عمم فيه وخص ثم عمم.
ينبغي على كل مسلم أن يستشعر هذه المسؤولية، وينبغي لولاة الأمر من العلماء أن يذكِّروا إخوانهم المسؤولين بذلك، وأن ينبهوهم إلى الأخطار التي تحيط بهم من كل جانب، فالذكرى تنفع المؤمنين، وتنبه الغافلين، وفيها معذرة لرب العالمين.
صور الركون وأمثلته في هذا العصر، وفي هذه الأيام خاصة التي انفرد فيها الأمركان بقيادة العالم لا تحصى كثرة، ولكن سنشير إلى طرف منها تنبيهاً إلى غيرها، من تلك الأمثلة الواضحة الفاضحة على الركون والاستكانة والخضوع للكفار ومن والاهم في هذا العصر ما يأتي:
1. الدعوة إلى تقارب الأديان وتوحيدها، والمناداة بالتعايش السلمي بين أتباعها، وعقد المؤتمرات والندوات، والكتابة في الصحف والمجلات، ممن ينتسبون إلى ديننا ويتكلمون بلغتنا ويرفعون شعاراتنا، وينتمون إلى جماعتنا.
وهذا من أخبث أنواع الركون والاستكانة، وهو ناقض من نواقض الإسلام، علم دعاة ذلك بهذا أم لم يعلموا.(1/291)
2. الدعوة إلى إباحة الردة عن الدين الحق، الإسلام، وإنكار حدها، وهذا مما لا ينتطح فيه عنزان، ولا يختلف فيه عاميان، من أنه ناقل عن حظيرة الإسلام، ونشر ذلك في وسائل الإعلام المختلفة من غير نكير من المسؤولين.
3. الدعوة إلى السفور والتبرج والعمل على تحرير المرأة من القيود الشرعية، والمناداة بمساواتها بالرجل.
4. التشكيك في المسلمات والثوابت، والدعوة إلى إعادة النظر فيها، نحو سن قانون يحرم تعدد الزوجات، أويساوي بين الذكر والأنثى في الميراث، ولا شك أنه ناقض من نواقض الإسلام كذلك.
5. سن القوانين الوضعية والرضا بها والتحاكم إليها، ونبذ شرع رب العالمين، مع صريح قوله عز وجل: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".
6. بعض الفتاوى الفاجرة، نحو تجويز شيخ الأزهر للحكومة الفرنسية أن تسن قانوناً يحرم الحجاب على المسلمات هناك، وقد فرضه الله عليهن، ونحو إباحة البعض للفوائد الربوية من المصارف وغيرها.
7. منافقة كثير من المنتسبين إلى الإسلام في وسائل الإعلام لمن يمجد الزنادقة والملاحدة والمرتدين، الذين قتلوا بسيف الشرع، ووصفهم بأنهم مفكرون، وأنهم قتلوا ظلماً وعدواناً، وقد علم من دين الله ضرورة أن من لم يكفر الكافرين أوشك في كفرهم فقد كفر.
8. نبذ الجهاد ودعوى أن الإسلام لم ينتصر بحد السيف، ورد القاعدة: "الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة"، والاستخفاف بها.
9. التوسع في إباحة الأغاني والملاهي التي حرمها الله ورسوله.
10.البحث والتنقيب عن زلات وهفوات بعض أهل العلم ونشرها والاستدلال بها لما تهواه أنفسهم، منافقة للكفار والمنافقين.
11.الذبُّ والجدل عن البدع والمحدثات الشرعية وإشاعتها بين العامة.
12.محاولة البعض إجازة بعض الممارسات الشركية التي هي سبب لكل بلية.
13.التوسع في التشبه بالكفار في المخبر والمظهر، وقال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "من تشبَّه بقوم فهو منهم".
14.الاستجابة لطلبات الكفار في تعديل المناهج، وحذف الآيات والأحديث التي تتكلم عن الجهاد والولاء والبراء، ولعن اليهود والنصارى، وفي قفل بعض المدارس والمعاهد، وفي منع بعض الأئمة والخطباء والدارسين، وفي قفل كثير من المنظمات الطوعية، وفي التحكم في مصارف الزكاة.
وكما قلت فإن الأمثلة على الركون كثيرة، وفيما ذكرنا غنى عما أغفلنا لمن كان له قلب أوألقى السمع وهو شهيد.
فاحذر أخي المسلم الركون والاستكانة إلى الكفار والمنافقين، الموجب لغضب الجبار، قليلاً كان هذا الركون أم كثيراً، فقد قال الله عز وجل محذراً لنا في شخص نبيه صلى الله عليه وسلم: "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً"، وتذكر أنك لن تقوى على النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد الداعي إلى صراطه المستقيم.
=================00000000
أيها الطالب كيف تقضي عطلتك الصيفية؟
الفراغ نعمة إن استغل استغلالاً حسناً، ولكن سرعان ما ينقلب إلى نقمة وبلاء إن لم يُعرف قدره، فما أكثر الجاهلين بقيمة هذه النعمة المغبونين فيها، "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ"، ولهذا جاء في المثل: "الوقت من ذهب"، و"الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، سيما مع اجتماع المال والشباب: "إن الفراغ، والشباب، والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة".
واجب أولياء الأمور في البيوت، والمدارس، والمراكز الصيفية، ووزارة الشباب، وغيرها من المؤسسات، أن تعد البرامج النافعة، وتضع الخطط الهادفة لاستغلال طاقات الشباب والاستفادة من مواهبهم وقدراتهم وملكاتهم الذهنية والجسدية، خاصة في العطل الصيفية، بما فيه نفع لهم ولأهليهم ولمجتمعهم، وبما يحول بينهم وبين الانحرافات والممارسات الخاطئة السالبة، فهم أمانة في أعناقهم.
وسائل الاستفادة من الشباب في العطل الصيفية لها مساران:
1. فردي.
2. جماعي.
المساران ينبغي أن يشملا الأغراض التالية:
1. الأعمال الجادة المفيدة له ولأهله ولمجتمعه.
2. تنمية مقدراته وملكاته ومواهبه.
3. الترويح البريء.
4. صرفه عما يضره.
الجانب الفردي
• ... مساعدة والديه وأهله في عملهم، زراعياً كان أم حرفياً، أم تجارة، ونحوها.
• ... الاطلاع العام.
• ... زيارة الأقارب وصلة الأرحام والأصدقاء.
• ... ممارسة أي عمل يكتسب منه إن كان محتاجاً، والاجتهاد في توفير قدر من احتياجاته الدراسية.
• ... تنمية مواهبه وملكاته بالتدريب على ما يهواه.
• ... حضور الدروس في المساجد والمحاضرات.
• ... ارتياد المكتبات العامة.
الجانب الجماعي
يحتاج إلى إنشاء مراكز صيفية، مكتبات عامة، حوافز مالية وتشجيعية قيمة، وسائل ترحيل، عمل استبيان يوضح ميول واتجاهات ورغبات الطلاب، وعلى ضوئه يقسمون إلى هذه المجالات:
• ... قوافل جماعية، دعوية، تعليمية، تثقيفية، لمناطق السودان المختلفة.
• ... دورات لتحفيظ القرآن.
• ... العُمَر الجماعية.
• ... الرحلات الجماعية لبعض المناطق السياحية، والصناعية، والزراعية.(1/292)
• ... معسكرات مقفولة.
• ... دورات علمية هادفة مكثفة.
• ... الاشتراك في مواسم الحصاد.
• ... دورات تقوية.
• ... عمل حلقات لمحو الأمية وتعليم الكبار.
• ... المساهمة في الأعمال الطوعية والإنسانية.
• ... حملات نظافة للأماكن العامة.
• ... حملات تشجير للشوارع الرئيسية.
• ... عمل دورات توعية، مرورية وغيرها.
• ... معسكرات رياضية.
• ... معسكرات عسكرية.
• ... إعداد صحف ومجلات حائطية في المساجد والمدارس والأندية وغيرها.
• ... معسكرات لتعليم السباحة والرماية.
الحرص والتشجيع على الآتي في طول العام وفي العطلة خاصة
• ... الصلوات المكتوبة في المساجد.
• ... حضور الدروس التي تقام في المساجد.
• ... الارتباط بالمسجد، عن طريق التأذين، وكنسه، ونظافته، وتشجيره، وعمل صحف.
• ... حضور المحاضرات والاشتراك في الدورات التعليمية.
• ... الاعتماد على النفس في غسل وكي الملابس ونحوها.
• ... قراءة والاستماع إلى المفيد النافع في الدين والدنيا.
• ... التعلق بمعالي الأمور، وأن يكون للمرء هدف يسعى لتحقيقه في عمره القصير.
الحذر من الآتي
• ... كثرة النوم.
• ... كثرة الولوج والخروج في المواقع الساقطة.
• ... الاهتمام بسفاسف الأمور، نحو تشجيع الفرق الرياضية، وقراءة ما يتعلق بها وبالفن في الصحف ونحوها.
• ... الجلوس في الطرقات والدكات والميادين العامة.
• ... مصاحبة الأشرار والخروج والدخول معهم.
• ... الدخول على النساء الأجانب.
• ... الذهاب إلى الأسواق والجلوس في المقاهي والمطاعم.
• ... متابعة المسلسلات والاستماع للأغاني.
• ... الجلوس من غير عمل.
هل تعلم أيها الشاب أن الإمام الشافعي جلس للفتيا والتدريس وهو في سن الخامسة عشرة؟ وأن أسامة بن زيد رضي الله عنه قاد الجيش في غزوة مؤتة ولم يبلغ العشرين؟ وأن أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل رضي الله عنه مات وعمره أربع وثلاثون سنة؟ وهل تعلم أنه لن تزول قدماك عن الصراط حتى تُسأل فيما تُسأل "عن شبابك فيما أبليت"؟ وأن الشباب هم عدة هذه الأمة ونصرتها في جميع العصور؟
وفقك الله لما يحب ويرضى، وبصرك لما فيه خيرك في الدنيا والدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
=================000000000000
لن يُفلح قومٌ ولَّوْا أمرهم امرأة
قوله عز وجل: "الرجال قوَّامون على النساء"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولَّوْا أمرَهم امرأة" قضيا وحكما بأن الولاية تكون للرجال، وليس للنساء حظ من ذلك، سواء كانت ولاية عامة أم خاصة، لا في الحكم ولا في الصلاة ولا في غيرهما من الأمور.
وإنما تصحُّ ولاية المرأة على بيت زوجها وعلى بني جنسها: "والمرأة راعية في بيت زوجها" الحديث.
لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تلي أمراً على الرجال، فلا يحل لها أن تكون والية، ولا وزيرة، ولا عاملة، ولا قاضية، ولا رئيسة في دائرة من الدوائر الحكومية ولا غيرها، ولا عميدة كلية، ولا مديرة مدرسة، ولا رئيسة قسم ولا لجنة في جامعة ولا مدرسة فيها رجل واحد، اللهم إلا على النساء.
ولا يحل لولاة الأمر من المسؤولين أن يولوا النساء على الرجال، فإن فعلوا فهم مؤاخذون على ذلك، وسيحاسبون عليه يوم القيامة حساباً عسيراً، لمخالفتهم لأمر الله ولأمر رسوله.
وليس في ذلك غض لمكانة المرأة، ولا انتقاص لها كما يدعي دعاة تفلت المرأة وتحررها من القيود الشرعية، بل في ذلك إعزاز وإكرام وصيانة لها.
رضي الله عن أبي بكرة نفيع بن الحارث، عندما خرجت عائشة رضي الله عنها إلى الكوفة، وكان غرضها من هذا الخروج أن يراها الناس ويصطلحوا ولا يقتتلوا ولكن دعاة الفتنة أخزاهم الله هم الذين أجَّجوا القتال، وطُلب منه أن يخرج مع من خرج، وكان ممن اعتزل الفتنة، قال: "لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل، لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن فارساً ملَّكوا ابنة كسرى قال: لن يفلح قومٌ ولوا أمرَهم امرأة"، حيث لم يقبل أن يخرج مع عائشة وهي أمه وأم المؤمنين جميعاً، ولم تخرج طالبة لزعامة وإنما خرجت للصلح.
الحمد لله الذي عافى الأمة عن مخالفة أمر ربها ورسوله، حيث لم تول امرأة قط على رجال في عصورها المختلفة إلا في هذا العصر الذي كثرت فيه البلايا، وعظمت فيه الرزايا، وابتلي فريق منهم بتقليد الكفار والتشبه بهم، هذا مع اعتراض الراسخين في العلم على ذلك الصنيع المنكر، وعدم رضى عامة المسلمين بذلك، تحقيقاً لما صح في الأثر أن هذه الأمة لن تجتمع على ضلالة قط.
في عصور الانحطاط في عهد المماليك عندما تولت "شجرة الدر" وكانت زوجاً لنجم الدين السلطة بعد ولده توران شاه الذي تولى بعد أبيه، حيث قتلته "شجرة الدر" واستولت على الحكم 648هـ، لم يكن توليها مقبولاً من العلماء ولا من ولاة الخليفة العباسي.(1/293)
فقد اعترض على توليها وأعلن ذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله، وكتب الخليفة العباسي في وقته كتاباً إلى أهل مصر يعاتبهم على هذا الصنيع، إذ لم يكن سلطانه عليهم كاملاً، لانفراد المماليك بمصر والشام في ذلك الوقت، قائلاً: (إن كان ما بقي عندكم رجل تولونه فقولوا لنا نرسل إليكم رجلاً)، وقد وصل خطاب الخليفة هذا إلى المماليك بعد أن مضى على تولية "شجرة الدر" ثمانون يوماً، اقتنع أمراء المماليك بخطئهم وقالوا: لا يمكن حفظ البلاد والملك لامرأة؛ فأشاروا على "شجرة الدر" أن تتزوج كبير المماليك، وهو "الأتابك أيبك" التركماني، وتتنازل له عن العرش، فقبلت ذلك وخلعت نفسها عن السلطة.
وكذلك الأمر عندما أقام المماليك دولة لهم في دلهي بالهند سنة 602ه، وكان أول ملوكهم "إيلتش" الذي اعترف به الخليفة في بغداد، وبعد وفاته 634هـ تولت ابنته السلطة، فاعتُرض عليها وقُتِلت.
دعاة تحرير المرأة من القيود الشرعية والمنادين بخروج المرأة من بيتها، وبمساواتها بالرجل في كل شيء، أغراضهم مختلفة، وأهدافهم متباينة، وليس لهم جامع إلا الهوى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً".
فمنهم من هدفه التفسخ والتحلل، ويريد أن تكون المرأة لقمة سائغة كما هو الحال عند الكفار، ومنهم من يريد منافقة النساء والكسب السياسي الرخيص في الانتخابات، ومنهم من أشُرِب حب الكفار وتقليدهم فهواه تبع لهواهم، ومنهم الجاهل الذي يرى أن هذا من باب التطور والتقدم، فالكفار طالما أنهم متقدمون مادياً فكل ما فعلوه فهو حسن.
وأخس هذه الأصناف من يفتش ويبحث بل ويختلق الزلات والعثرات على بعض أهل العلم ويثير الشبه على السذج والمغفلين.
من ذلك الصنيع الخبيث والقول الخسيس زعم أحدهم أن الله فقط نفى الفلاح عمن يولون المرأة، ولم ينه عن تولية المرأة.
ومنهم من يشكك في الصحابي راوي الحديث أبي بكرة، والصحابة كلهم عدول رغم أنف أهل الأهواء، بحجة أنه أقيم عليه حد القذف، وهناك فرق كبير بين قبول الشهادة والرواية، ويقول آخر إنه حديث آحاد.
وغير ذلك من الأباطيل والأكاذيب التي جاد بها الشيطان على أوليائه من العلمانيين ذوي النكهة الإسلامية.
ولهذا فإن هؤلاء أخطر الأصناف جميعاً.
هذا ما كان عليه أهل الإسلام قديماً وحديثاً، وهذه هي سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً، وهذا هو الدين الذي بُعث به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وليتبع المتفلتون عن شرع رب العالمين المقلدون لأحفاد القردة والخنازير ما شاءوا، فلن يضروا الله شيئاً، ولن تزال طائفة من هذه الأمة – وهي المنصورة – قائمة على أمر الله متمسكة به، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة وهم ظاهرون على ذلك.
اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.
=================00000
أيها المسؤولون، أيها الموظفون احذروا استغلال سلطتكم وجاهكم
من القواعد الفقهية والضوابط الرئيسية التي شرعها لنا الإسلام التي تحد من استغلال المسؤولين والموظفين لمناصبهم، ومن فسادهم وإفسادهم، ما يأتي:
(1) قاعدة سد الذرائع، فما من سبب يؤدي إلى أكل الحرام إلا وقد منعته الشريعة، وما من باب يمكن أن يولج منه إلى حرام أويحدث شبهة أوفساداً إلا وقد أوصد.
(2) قاعدة من أين لك هذا؟
(3) الشواهد الصامتة الناطقة، الماء والطين، أو"الإسمنت والخرسانة" في هذا العصر، أوالحسابات المودعة في المصارف، امتلاك الشركات والمؤسسات.
(4) اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب، وهو الكفء الأمين، كما قال يوسف عليه السلام لعزيز مصر: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم"، وكما عللت بنت شعيب استئجار موسى: "إن خير من استأجرت القوي الأمين".
(5) المتابعة الدقيقة والمراقبة المستمرة مهما كان صلاح المسؤول.
(6) إنزال العقوبة الصارمة على من ثبتت خيانته ردعاً له ولأمثاله.
(7) الإسراع بعزل من يثبت عجزه في عمله بفسق أوفساد.
إذا التزم المسؤولون بهذه القواعد والضوابط في تعيين الكفء الأمين من المسلمين من غير محاباة ولا مجاملة، مستشعرين ومستصحبين تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف من المحاباة في ذلك: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولاعدلاً حتى يدخله النار".
وفي رواية: "من استعمل رجلاً من عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين".
وقال عمر لأحد عماله: "عليك بأهل القرآن فإن لم يكن فيهم خير فمن سواهم أولى"؛ وقال: "إني لأتحرج أن أستعمل الرجل وأنا أجد أقوى منه"، وقال: "من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله"، وقال: "إنه لم يقم أمر الله في الناس إلا حصيف العقيدة، بعيد الغرة، لا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخشى الحق على جرأة، ولا يخاف في الله لومة لائم".(1/294)
ويروى عن الحسن أنه قال: قال عمر: أعياني أهل الكوفة، فإن استعملت عليهم ليناً استضعفوه، وإن استعملتُ عليهم شديداً شكوه، ولوددت أني أجد رجلاً قوياً أميناً مسلماً أستعمله عليهم، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنا والله أدلك على الرجل القوي الأمين المسلم؛ فأثنى عليه، قال: من هو؟ قال: عبد الله بن عمر؛ قال عمر: قاتلك الله ما أردتَ بها وجه الله".
ولله در الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز فقد روي أنه كان جالساً في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً؟ فقال رجل منهم: لِمَ تعرض علينا ما لا تفعله؟ قال: ترون بساطي هذا؟ إني لأعلم أنه يصير إلى بلى وفناء، وإني أكره أن تدنسوه بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني، أوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم، هيهات؛ فقالوا له: لِمَ؟ أما لنا قرابة؟ أما لنا حق؟ قال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء، إلا رجل من المسلمين حبسني عنه طول شقته.
لهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل).
وفي إعطائه ما يكفيه ويغنيه هو وعياله حماية له من الفساد، لهذا عندما ولي أبوبكر الخلافة ذهب إلى السوق، فقيل له في ذلك، فقال: من أين أنفق على عيالي؟ فجعلوا له ألفي درهم في العام، فقال: مايغنيني وعيالي؛ فجعلوها ألفين وخمسمائة درهم.
فالموظف إن لم يُعط ما يكفيه تاقت نفسه إلى الحرام، إلى الرشوة واستغلال الجاه، إلا أن يكون ذا نفس أبية وأخلاق مرضية، فمطالبة المسؤول أوالموظف بالعفة والأمانة مع علم الجميع أن ما يُعطى من معاش لا يفي بمعشار ما يحتاجه هو وعياله من باب المطالبة بما لا يُطاق، وليس لهذا مثل إلا قول القائل:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
مع حسن الاختيار والتحري في ذلك، وإعطاء المسؤول ما يغنيه لابد من المراقبة والمتابعة المستمرة والمحاسبة الدقيقة، هذه المراقبة والمحاسبة والمتابعة من أوجب واجبات المسؤولين نحو الرعية.
لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن اللتبية – وقد اصطفاه اصطفاءً – عندما بعثه مصدقاً على بني سُلَيم، كما خرَّج البخاري بسنده في صحيحه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً على صدقات بني سُليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا ما لكم، وهذا هدية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا جلستَ في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً؟"، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أوبقرة لها خُوار، أوشاة تَيْعَر"، ثم رفع يديه حتى رؤي بيا ض إبطه يقول: "اللهم هل بلغت؟ بصر عيني وسمع أذني".
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها، وكذلك كان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما، ثم امتنع عمر عن قبول الهدية، وكتب إلى عماله أن لا يقبلوا هدية، ذلك أن جزاراً كان يهدي إلى عمر فخذ جزور إذا ذبح، وفي مرة كانت له قضية، فقال لعمر: أرجو أن تفصل في هذه القضية كما يفصل الفخذ من الجزور؛ فانتبه عمر، وامتنع عن قبول الهدية ومنع عماله.
وإذا كان عمر يحاسب ويراقب أمثال سعد بن أبي وقاص وعمير بن سعد الذي كان يعرف بنسيج وحده رضي الله عنهما، وغيرهما كثير من الصحابة الأخيار، فكيف بمن لا يدانونهم ولا يشابهونهم في شيء إلا في الهيئة والشكل، ويصدق على كثير منهم قول متمم بن نويرة:
وبعض الرجال نخلة لا جني لها ولا ظل إلا أن تعد من النخل
روى الذهبي في ترجمة عمير بن سعد هذا قال: بعثه عمر على حمص، فمكث حولاً لا يأتيه خبره، فكتب إليه: أقبل بما جبيت من الفيء؛ فأخذ جرابه وقصعته، وعلق إداوته، وأخذ عنزته وأقبل راجلاً، ودخل المدينة وقد شحَب، واغبر، وطال شعره، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين؛ فقال: ما شأنك؟ قال: ألستُ صحيح البدن، معي الدنيا! فظن عمر أنه جاء بمال، فقال: جئتَ تمشي؟ قال: نعم؛ قال: أما كان أحد يتبرع لك بدابة؟ قال: ما فعلوا، وما سألتهم؛ قال: بئس المسلمون! قال: يا عمر، إن الله قد نهاك الغيبة؛ فقال: ما صنعت؟ قال: الذي جبيته وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به؛ قال: جددوا لعمير عهداً؛ قال: لا عملتُ لك ولا لأحد، قلتُ لنصراني: أخزاك الله.(1/295)
وذهب إلى منزله على أميال من المدينة، فقال عمر: أراه خائناً؛ فبعث رجلاً بمائة دينار، وقال: انزل بعمير كأنك ضيف، فإن رأيت أثر شيء فأقبل، وإن رأيت حالاً شديدة فادفع إليه هذه المائة؛ فانطلق، فرآه يفلي قميصه، فسلم، فقال له عمير: انزل؛ فنزل، فساءله، وقال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: ضرب ابناً له على فاحشة فمات.
فنزل به ثلاثاً، ليس إلا قرص شعير يخصونه به، ويطوون؛ ثم قال: إنك قد أجعتنا؛ فأخرج الدنانير، فدفعها إليه، فصاح، وقال: لا حاجة لي بها، وردها عليه؛ قالت المرأة: إن احتجت إليها وإلا ضعها مواضعها؛ فقال: ما لي شيء أجعلها فيه؛ فشقت المرأة من درعها، فأعطته خرقة فجعلها فيها، ثم خرج يقسمها بين أبناء الشهداء.
وأتى الرجلُ عمرَ، فقال: ما فعل بالذهب؟ قال: لا أدري؛ فكتب إليه عمر يطلبه، فجاء، فقال: ما صنعت بالدنانير؟ قال: وما سؤلك؟ قدمتها لنفسي؛ فأمر له بطعام وثوبين، فقال: لا حاجة لي في الطعام، وأما الثوبان فإن أم فلان عارية؛ فأخذهما ورجع، فلم يلبث أن مات).
لقد ازدادت سطوة المسؤولين والموظفين واستشرى فسادهم وعم وطم في هذه الأيام، وأصبحوا أخطبوطاً يتسلطون على مصالح الناس، ويعطلون أعمالهم، ويعرقلون أشغالهم، فلا يمكن لمؤسسة، أوتاجر، أوفرد عادي أن يُنجز له عمل في جل دواوين الحكومة إلا إذا دخل في مساومة معهم وأجابهم لمطالبهم.
لم تكن الروشة والمحسوبية واستغلال الجاه بهذه الدرجة من الخطورة ولا بهذا الحجم من الانتشار من قبل، حيث كانت محصورة في بعض الطبقات الدنيا من الموظفين، أما الكبار فما كانوا يتعاطون شيئاً من ذلك.
أما الآن فقد تضاعفت هذه المفاسد أضعافاً كثيرة وتوسعت دائرة المستفيدين من الرشوة، بحيث أصبح الرائش وهو وسيط السوء يطالب بثلاثين وأربعين مليوناً أوأكثر مقابل تسجيل قطعة أرض استثمارية أومسحها، أولتكملة إجراءات تسليمها لصاحبها.
وأضحى العديد من كبار الموظفين في عدد من الوزارات والمصالح والمؤسسات والمصارف أغنى بكثير من بعض التجار، فمنهم من يمتلك العديد من المنازل والعمائر والعقار، ومنهم من يمتلك مصانع ومؤسسات ويدخل في مناقصات كبيرة، وهكذا، وكل هذا عن طريق استغلال الجاه والسلطة، سواء كان ذلك بطريق مباشر أوغير مباشر، بينما نجد أمثالهم من الموظفين بل من هو أقدم منهم وأجدر وأكفى من الأطهار الأخيار يسكنون في بيوت الإيجار ويعيشون عيشة الكفاف.
وسبب كل هذا الفساد والتردي يرجع إلى عدم الالتزام بالقواعد والضوابط السالفة الذكر، سيما عدم المراقبة والمحاسبة والعزل، وعدم إنزال العقوبات الصارمة على من تثبت إدانتهم ويتضح فسادهم وإفسادهم، فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
أين نحن من مسلك حكامنا الأخيار في النزاهة ومناصحة ومحاسبة من يولون؟ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، إليك هذه الآثار في النزاهة عن استغلال الجاه:
• روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: "مكث عمر رضوان الله عليه زماناً لا يأكل من المال شيئاً حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، فأرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشارهم، فقال: قد شغلتُ نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي منه؟ فقال عثمان رضي الله عنه: كل وأطعم؛ وقال ذلك سعيد بن زيد، فقال عمر لعلي: ما تقول أنت؟ قال: غداء وعشاء؛ فأخذ عمر بذلك".
• وعن قتادة قال: "كان معيقيب على بيت المال – في عهد عمر - فكسح بيت المال يوماً فوجد فيه درهماً فدفعه إلى ابن عمر، قال معيقيب: ثم انصرفت إلى بيتي فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني، فجئت فإذا الدرهم في يده، فقال: وحيك يا معيقيب أوجدت عليَّ في نفسك سبباً؟ أومالي ولك؟ فقلت: وما ذاك؟ قال: أردت أن تخاصمني أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الدرهم يوم القيامة؟".
• "أهدى عامل لعمر نمرقتين لامرأة عمر، فعندما دخل عمر ورآهما قال: من أين لك هاتان؟ اشتريتيهما؟ خبريني ولا تكذبيني؛ قالت: بعث بهما إليَّ فلان؛ فقال: قاتل الله فلاناً لما أراد حاجة فلم يستطعها من قبلي أتاني من قبل أهلي؛ فاجتذبهما اجتذاباً شديداًمن تحت من كان عليهما جالساً، فخرج يحملهما، فتبعته جاريتها فقالت: أصوافهما لنا؛ ففتقهما وطرح إليها الصوف وذهب بهما فأعطى إحداهما امرأة من المهاجرين والأخرى امرأة من الأنصار".
• روى سعيد بن المسيِّب: "أن عمر رضي الله عنه بعث معاذاً ساعياً على بني كلاب وعلى بني سعد بن ذيبان، فقسم فيهم حتى لم يدع شيئاً، وعاد إلى المدينة بثوبه الذي خرج به منها، فقالت امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة لأهليهم؟ فقال:كان معي ضاغط؛ فقالت: كنت أميناً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر فبعث عمر معك ضاغطاً؟ فقامت بذلك في نسائها، واشتكت عمر، فبلغ ذلك عمر، فدعا معاذاً فقال: أنا بعثت معك ضاغطاً؟ قال: لم أجد شيئاً أعتذر به إليها إلا ذلك؛ فضحك عمر، وأعطاه شيئاً، وقال: أرضها".(1/296)
• وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر فقال له أهلها: نحن أعلم بعملها منكم؛ فأعطاهم إياه بالنصف، ثم بعث عبد الله بن رواحة يقسم بينه وبينهم، فأهدوا له، فرد هديتهم، وقال: لم يبعثني النبي صلى الله عليه وسلم لآكل أموالكم، إنما بعثني لأقسم بينه وبينكم؛ ثم قال: إن شئتم عملتُ وعالجتُ وكلتُ لكم النصف، وإن شئتم عملتم وعالجتم ووكلتم لنا النصف؛ فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض".
أرجو من المسؤولين أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي عمالهم، ووزرائهم، وفي رعاياهم، وأن يعملوا على نصر الظالم والمظلوم، وعلى محاسبة من يولون، ومعاقبتهم وعزلهم إن دعا الحال، وعليهم الاقتداء بما كان يفعله عمر مع عماله.
روي أن عمر رضي الله عنه كان يقاسم عماله أموالهم بناء على قرائن الأحوال، والشواهد الناطقة والصامتة، والمبدأ الذي قرره: "لي على كل خائن أمينان، الماء والطين".
وكان سبب مقاسمته لبعض عماله أن أبا المختار يزيد بن قيس بن الصَّعق قال شعراً كتب به إليه يشكو عماله على الأهواز وغيرها، جاء فيه:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة فأنت أمين الله في النهي والأمر
وأنت أمين الله فينا ومن يكن أميناً لرب العرش يسلم له صدري
فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى يسيغون مال الله في الأدم الوفر
فأرسل إلى الحجاج فاعرف حسابه وأرسل إلى جزء وأرسل إلى بشر
ولا تنسين النافعين كليهما ولا ابن غلاب من سراة بني نصر
وما عاصم منها بصغر عناية وذاك الذي في السوق مولى بني بدر
وأرسل إلى النعمان فاعرف حسابه وصهر بني غزوان إني لذو خبر
وشبلاً فسله المال وابن مجرش فقد كان في أهل الرساتيق ذا ذكر
ولا تدعوني للشهادة إنني أغيب ولكني أرى عجب الدهر
من الخيل كالغزلان و البيض كالدمى وما ليس ينسى من قرام و من ستر
ومن ريطة مطوية في صوانها ومن طي أستار معصفرة جمر
إذا التاجر الهندي جاء بفارة من المسك راحت في مفارقهم تجري
نبيع إذا باعوا ونغزو إذا غزوا فأنى لهم وفر ولسنا بذي وفر
فقاسمهم نفسي فيداؤك إنهم سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر
وقد قاسم عمر مالهم فعلاً، وكان يحصي أموالهم قبل توليتهم ويصادر كل زيادة غير معقولة.
والله أسأل أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يرزقنا الحلال الطيب، ويغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه، ويقنعنا بما رزقنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا القائل: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"، والقائل: "أول ما ينتن من المرء بطنه، فإن استطعت أن لا تدخل فيه إلا الحلال الطيب فافعل"، أوكما قال.
=================0000
العاقل الذي يعرف خير الشرين
إذا تزاحمت الشرور وليس هناك طاقة ولا قوة لدفعها جميعاً فلابد من التخيير والتمييز بينها، فكما أن الخير والإيمان درجات فكذلك الكفر والشر دركات، وبعض الشر أهون من بعض.
على المسلمين أفراداً وجماعات أن ينحازوا ويعملوا لدفع شر الشرين، بخير الشرين، فمكره أخاك لا بطل.
إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبُها
ولهذا حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لغلبة الفرس المجوس على الروم المسيحيين، وعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يعجبه موافقة أهل الكتاب اليهود، إلى أن ثبت له أن اليهود أشر من المشركين، فأمر بمخالفتهم، وبادرهم العداء حتى أجلاهم من جزيرة العرب، وقرر أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان.
فالعاقل الحق الذي يخاير بين الأمور، ويوازن بين الشرور، آخذاً بقاعدة أخف الضررين، ودفعاً لأخطر الأمرين.
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين".
لقد تكالبت قوى الشر في الداخل والخارج وتنادت للقضاء على الإسلام، وانفردت قوى الشر والطغيان بقيادة العالم كله بعد القضاء على المعسكر الشرقي والشيوعية، ولم يبق للكفر عدو سوى الإسلام الخالص.
لهذا وجب على المسلمين قاطبة توحيد جهودهم، وتجميع صفوفهم، وتناسي خلافاتهم، والانتباه للخطر المحدق بهم، إن لم يتيسر جمع سائر أهل القبلة فأضعف الإيمان التأليف بين أهل السنة، وإن كان الخطر أكبر منهم بكثير.
لهذا كان لابد أن يكون شعار هذه المرحلة موالاة أي مسلم بقدر ما فيه من إيمان، والتنسيق معه سيما في العمل العام، والتنازل عن حظوظ النفس مقابل المحافظة على الهوية الإسلامية والانتماء للشريعة المحمدية.
ولا يليق بالمسلمين بحال من الأحوال أن يكون الجاهليون أكثر وعياً وعقلاً منهم، حيث كان شعارهم في الحروب والنزاعات: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، لو عمل المسلمون جميعاً بهذه القاعدة لما استطاع الغزاة دخول كابل ولا بغداد.(1/297)
انطلاقاً من هذا المبدأ فإني أهيبب بجميع إخوة العقيدة ورفقاء الدرب في الجامعات والمعاهد العليا خاصة أن يتجمعوا في صعيد واحد ضد قوى الشر والعدوان من الشيوعيين والمنافقين، وأن لا يشقوا عصا الطاعة على إخوانهم المسلمين، فخير لك أخي المسلم أن يرأسك أخوك المسلم وإن ظلمك من أن يسيطر عليك شيوعي أو منافق لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، واحذر خداعهم، وغشهم، وتدليسهم، وتظاهرهم بالخير: "وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم".
اللهم ألف بين قلوب المسلمين واهدهم سبل السلام ، وجنبهم الفتن والمحن والآثام، واجمع كلمتهم على الحق والدين، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على محمد القائل: "فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار"، والسلام
=================00000
ردٌّ على كافرة ازدادت كفراً وردة بنيلها من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته
الحمد لله القائل: "لعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون".
وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا القائل: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وبعد..
فقد جاء في الأثر أن موسى عليه السلام سأل الله أن يقطع عنه ألسنة الناس، فقال: "يا موسى لم أقطعهم عني، فكيف أقطعهم عنك"؟
لا غرابة أن يسب اليهود والنصارى أوأحدهم رسولاً من رسل الله عز وجل، فقد سبوا الله سباً - كما قال عمر رضي الله عنه - لم يسبه إياه أحد من قبل ولا من بعد، حيث نسبوا له الولد والصاحبة والشريك، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
هذا بجانب زعمهم أن الله فقير وهم الأغنياء، وأن يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، وبجانب قتلهم الأنبياء الذي هو أشد جرماً من السب والانتقاص.
لم أتعجب من الكفريات التي وردت فيما كتبته تلك المرأة النصرانية التي تدعى "سلاس" وأشاعته بين بعض المسلمين تحت عنوان: "مقارنة بين مؤسسي أكبر دينين في العالم"، وتعني بذلك عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهي تدعو للعجب، كتعجبي من جهلها الفاضح وجرأتها، ومن الفوضى الفكرية التي غشتنا في هذه الأيام، وعدم المراقبة لما يكتب من كفر صراح، وعدم المحاسبة والمؤاخذة لمنتقصي الإسلام ورسوله.
ومما يدل على جهلها الفاضح بالمسيحية التي تدعي اعتناقها قبل الإسلام أمران هما:
أولاً: زعمها أن الإسلام والمسيحية عبارة عن حزبين أسسهما محمد وعيسى عليهما السلام، وهما دينان سماويان وشريعتان ربانيتان، هذا قبل التحريف الذي أصاب المسيحية، وقبل أن تنسخ بشرع محمد الخاتم لجميع الشرائع، وبكتابه المهيمن على جميع الكتب السماوية.
رحم الله الإمام ابن القيم عندما قال: "ما بأيدي النصارى من الدين باطله أضعاف أضعاف حقه، وحقه منسوخ".
ثانياً: هذه المقارنة الجائرة بين شريعة عيسى المعدلة المنسوخة، وبين شرع محمد الذي بشر به عيسى عليه السلام: "ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد"، وذلك لأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم تطوير وتكميل لما جاء به أخواه موسى وعيسى عليهما السلام.
قال شيخ الإسلام مفتي الأنام أحمد بن عبد الحليم الإمام في كتابه القيم "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" في رده على تساؤل بعض أفراد هذه الملة المبدّلة المحرّفة للكلم عن مواضعه، ولما جاءهم به عيسى، حيث قالوا عن المسلمين: "إنا نعجب من هؤلاء القوم الذين مع أدبهم وما يأخذون به أنفسهم من الفضل، كيف لم يعلموا أن الشرائع شريعتان: شريعة عدل وشريعة فضل، فأرسل موسى إلى بني إسرائيل، فوضع شريعة العدل، وأمرهم بفعلها إلى أن استقرت في نفوسهم.
ولما كان الكمال الذي هو الفضل لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال، وجب أن يكون هو – تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه – الذي يضعه، لأنه ليس شيء أكمل منه، وليس في الموجودات أكمل من كلمته، ولذلك وجب أن يجود بكلمته، فلهذا وجب أن يتحد بذات محسوسة، يظهر منها قدرته وجوده.
ولم يكن في المخلوقات أجل من الإنسان، اتحد بالطبيعة البشرية من السيدة الطاهرة، من مريم البتول المصطفاة على نساء العالمين، وبعد هذا الكمال ما بقي شيء يوضع".
هل بعد ذلك سبٌّ وانتقاص لله عز وجل؟!
(الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها أن يقال: بل الشرائع ثلاثة: شريعة عدل فقط، وشريعة فضل فقط، وشريعة تجمع العدل والفضل ، فتوجب العدل، وتندب إلى الفضل، وهذه أكمل الشرائع الثلاث، وهي شريعة القرآن الذي يجمع فيها بين العدل والفضل، مع أننا لا ننكر أن يكون موسى عليه السلام أوجب العدل وندب إلى الفضل، وكذلك المسيح أيضاً أوجب العدل وندب إلى الفضل).
فدل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذه الشرائع الثلاث متممة ومكملة لبعضها البعض، وأن الخير الذي ورد في جميع الشرائع جمع في شرع محمد وزيد عليه.(1/298)
قال شيخ الإسلام: (فليس في التوراة والإنجيل والنبوات ما هو من العلوم النافعة والأعمال الصالحة إلا وهو في القرآن، أو ما هو أفضل منه.
لكن النصارى لم يتبعوا لا التوراة والإنجيل، بل أحدثوا شريعة لم يبعث بها نبي من الأنبياء).
إلى أن قال مدللاً على تكميل هذه الشرائع لبعضها البعض، وعدم تناقضها: (إن شريعة التوراة يغلب عليها الشدة، وشريعة الإنجيل يغلب عليها اللين، وشريعة القرآن معتدلة جامعة بين هذا وهذا.
ولهذا جاء في وصف محمد صلى الله عليه وسلم: "إنه نبي الملحمة، وأنه الضحوك القتال".
إلى أن قال: ولهذا قال بعضهم: بعث موسى بالجلال، وبعث عيسى بالكمال، وبعث محمد بالكمال.
ثبت بذلك أنه لا مجال للمقارنة بين شرع محمد صلى الله عليه وسلم وبين جميع الشرائع السابقة له، لاشتمال شريعته لكل خير فيها وصلاحه لكل زمان ومكان، ولهذا تولى الله حفظها وجعلها المهيمنة إلى أن يقوم الناس لرب العالمين).
أما ما جاء في هذه المقارنة من الإثم والبهتان ما يأتي:
1. اعتراضها على لعن الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى، يردُّه لعن رسولين كريمين من بني إسرائيل لليهود والنصارى، وهما داود وعيسى عليهما السلام: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون".
فاليهود والنصارى ملعونون على ألسنة جميع الأنبياء، إما بلسان الحال أولسان المقال، فلا غرابة أن يلعنهم خاتمهم، فلعنهم قربى وعبادة.
أما حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم وحلمه ومسامحته فشهد بهما القرآن الكريم، ورب العالمين، حيث قال في وصفه: "وإنك لعلى خلق عظيم"، "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
ويدل عليه دعاؤه بالهداية للمشركين الذين أذوه وأخرجوه من بلده، حيث كان يقول: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".
وعندما كان يُطلب منه أن يدعو عليهم كان يقول: "لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله".
وعندما قال له الطفيل بن عمرو الدوسي: ادعُ على دوس، لقد غلبني عليهم الزنا؛ دعا لهم، وقال: اللهم اهدِ دوساً وائت بهم.
أما حلمه فيشهد عليه مواقفه مع الأعراب الغلاظ الجفاة، مما دعا أحدهم أن قال: اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد سوانا.
لكن نعوذ بالله من الحقد والجهل ومن عمى البصائر.
2. الافتراء الثاني زعمها: "استعباده الناس بالقوة وتجارة العبيد".
وتقصد بذلك إنكار فريضة الجهاد التي شرعها رب العباد لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، فمن أبى الإسلام والجزية كان الواجب أن يُقتل، ولكن تفضل عليهم الإسلام واستبدل ذلك بالاسترقاق عسى الله أن يمن عليهم بالهداية، فهذا التشريع ليس من وضع محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن وضعه رب الأرباب، وعندما آثر الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الفداء من أسرى بددر بدلاً من القتل عوتب في ذلك: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض".
ثم حث أتباعه على العتق، ورتب عليه الأجر الجزيل، وشرع الكفارات بعتق الرقاب، فأي مأخذ في التزام الرسول صلى الله عليه وسلم بما أمره به ربه؟
أما تجارة الرقيق فقد كانت معروفة منذ القدم، قبل المسيحية والإسلام، وفي العصر الحديث أول من مارسها الأروبيون والأمريكان، حيث استرقوا الأحرار واستعبدوا البشر لمصالحهم الذاتية، وأخذوهم مقيدين من إفريقيا وآسيا للعمل في المناجم والمصانع، فما هذا الخلط والتدليس؟
أما حسن معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للخدم قبل البعثة وبعدها فيشهد لها إيثار زيد بن حارثة له على والده وعمه عندما جاءا لفدائه، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمنزلة الأب والعم؛ فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية؟ قال: نعم، لقد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً.
وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً له قط، ولا امرأة له قط، ولا دابة ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء، حتى ينتقم لله، وما عرض عليه أمران أحدهما أيسر من الآخر إلا أخذ بأيسرهما، إلا أن يكون مأثماً، فإن كان مأثماً كان أبعد الناس عنه".
وفي الصحيحين كذلك قال أنس رضي الله عنه: "خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أفٍّ قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته؟ ولا لما صنعتُ لما لا صنعتَ، وكان بعض أهله إذا عتبوني على شيء يقول: دعوه، فلو قدر شيء لكان هذا".(1/299)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ففي شريعته صلى الله عليه وسلم من اللين، والعفو، والصفح، ومكارم الأخلاق، أعظم مما في الإنجيل، وفيها من الشدة، والجهاد، وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين أعظم مما في التوراة، وهذا هو غاية الكمال.
3. اعتراضها على حد القذف على من قذف الصديقة بنت الصديق.
نقول لمن يصر على رمي عائشة بالإفك بعد أن برَّأها الله منه ما قاله ابن الباقلاني رحمه الله عندما أرسله عضد الدولة ليناظر بعض القسس على رده على أحدهم بقوله: ما صنعت زوجة نبيكم؟ يريد قبَّحه الله عائشة وحادثة الإفك.
فقال ابن الباقلاني: هما امرأتان عفيفتان نزلت براءتهما من السماء، فإن وقع في الذهن الفاسد اتهام إحداهما بريبة فرميه للأخرى أولى، لأن إحداهما لم يكن لها زوج وأتت بولد، والأخرى لها زوج ولم تأت بولد؛ يعني مريم وعائشة، فبهت الذي كفر وأسكت وأخرس.
فإقامة الحد على من أشاع الفاحشة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العدل والإنصاف الذي قامت عليه السموات والأرض، والذي يتهم عائشة بعد أن برأها الله إن كان مسلماً فقد كفر، وإن كان كافراً فقد ازداد كفراً، وحكم الإسلام عليهما القتل.
4. اعتراضها على أن يأتي الرجل ما ملكت يمينه، وهذا الاعتراض لا يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأن هذا حكم ربنا: "والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أوما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين".
5. تشكيكها في عصمته صلى الله عليه وسلم، وقد أوتيت من قِبَل جهلها الفاضح باللغة العربية، وبالقرآن، وبالسيرة المرضية، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمي بصرها كما أعمى بصيرتها، وأن ينتقم لرسوله منها في الحياة قبل الممات، ولضحالة هذا المأخذ فإنه لا يستحق رداً ولا تعليقاً.
6. أما اعتراضها على رب العالمين بأنه فرق بين الذكر والأنثى، وفضل بعضهما على بعض، فنحيلها إلى ما قالته المرأة الصالحة أم مريم عندما وضعتها، حيث قالت: "وليس الذكر كالأنثى".
والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على من نسخ الله به شرائع السابقين، ورضي الله عن أمنا عائشة، ولعائن الله المتتاليات مصحوبة بغضبه على اليهود الحاقدين، وعلى النصارى الجاهلين.
=================000000
أيها الموسرون الأسخياء ارعوا العلم والعلماء
كما أن للآخرة سادة وهم الأتقياء، فكذلك فإن للدنيا سادة هم الأسخياء، فالسخاء مطلوب محبوب في كل المجالات، سيما في بث العلم ونشره، وعلى الغزاة والمجاهدين، والعلماء والدعاة العاملين، وعلى الأيتام، والأرامل، والفقراء، والمساكين، وفي سبل الخير المختلفة، وطرقه المتعدية النفع المتنوعة.
لقد أمر الله ورسوله بالإنفاق، ونهيا وحذرا من البخل والشح والإقتار، فقال عز من قائل: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه".
وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً؛ ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً".
قال صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة"، وفي رواية: "ما نقصت صدقة من مال".
وجعل الشارع الحكيم الإنفاق في سبل الخير قليلاً كان أم كثيراً من الكسب الطيب سبباً من أسباب دخول الجنة، فقال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، وقال: "من تصدق بعدلتمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلوَّه حتى تكون مثل الجبل".
لم يأمر الشارع أحداً أن يغبط أحداً إلا في خصلتين، فقال: "لا حسد – أي لا غبطة – إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها".
فالإنفاق الذي أمر الله ورسوله به، ووعدا بخلفه، هو الإنفاق في أوجه الخير والحق، وعلى العكس والنقيض من ذلك الإنفاق في أوجه الشر والباطل، كالإنفاق على أهل البدع والفسوق، والسفهاء من الفنانين، والأدباء، والشعراء، والرياضيين، والإعلاميين الخبثاء، فالإنفاق على هؤلاء وبال ليس بعده وبال، وخسران وكساد، واعلم أخي الموسر أنه لن تزول قدماك عن الصراط حتى تسأل عن أربع، منها: "عن مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته".
واحذر كذلك أن تكون من الكانزين الغافلين، ومن المكثرين المقلين الخاسرين: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون".
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: "هم الأخسرون ورب الكعبة"، قلت: فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: "الأكثرون أموالاً، إلا من قال: هكذا وهكذا، من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم".
بعض الآثار في ذم البخل والإقتار(1/300)
لقد ذم السلف الصالح البخل وعابوه، وأكثروا من ذلك، نذكر طرفاً منها:
1. عن علي رضي الله عنه قال: "البخل جلباب المسكنة، وربما دخل السخي بسخائه الجنة"، أي مع قلة أعماله الصالحة إذا مات على التوحيد.
2. خطب الزبير بن العوام رضي الله عنه بالبصرة فقال: "أيها الناس، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا زبير، إن الله تعالى يقول: "أنفق أنفق عليك، ولا توكئ فيوكأ عليك، وأوسع يوسع الله عليك، ولا تضيق فيضيق الله عليك، واعلم يا زبير أن الله يحب الإنفاق، ولا يحب الإقتار، ويحب السماحة ولو على فلق تمرة، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية أوعقرب".
3. وقال جعفر بن محمد: "قال الله عز وجل: أنا جواد كريم، لا يجاورني في جنتي لئيم".
4. وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: أفٍ للبخل، والله لو كان طريقاً ما سلكته، ولو كان ثوباً ما لبسته".
5. وقال يونس بن عبد الأعلى: قال الشافعي: "السخاء والكرم يغطي عيوب الدنيا والآخرة، بعد أن لا يلحقه بدعة".
قلت: لأن المبتدع في دين الله لا يقبل منه صرف ولا عدل، أي لا فرض ولا سنة.
6. وقال حبيش بن مبشر الثقفي الفقيه: "قعدتُ مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والناس متوافرون، فأجمعوا أنهم لا يعرفون رجلاً صالحاً بخيلاً".
7. وقال بشر بن الحارث – الحافي: "لا تزوج البخيل ولا تعامله، ما أقبح القارئ أن يكون بخيلاً"، رواه الخلاف في "الأخلاق".
8. وقال بشر الحافي كذلك: "شاطر سخي أحب إلى الله من صوفي بخيل".
البخل قبيح من جميع الخلق
لا شك أن البخل قبيح من جميع الناس، ولكن يزداد قبحه ويسوء فعله من:
1. العلماء.
2. الأغنياء.
3. العباد.
والبخل من العلماء قبيح، سواء كان بخلهم بالمال، أوبالعلم، وبخلهم بالعلم أسوأ من بخلهم بالمال.
قال ابن المبارك رحمه الله: "من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما موت يُذهب علمه، وإما ينسي، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه".
أفضل ما ينفق فيه المال العلمُ الشرعي
سبل الخير كثيرة ومتتنوعة، وكل ميسر لما خلق له، ولكن أفضل وأحسن ما ينفق فيه المحسنون ويبذل فيه الموسرون أموالهم هو بث العلم ونشره، وتعهد العلماء، وطلاب العلم الشرعي، والدعاة، هذا كله بعد صدق النية وتجنب الأذية بالمن والأذى.
قال العالم التاجر المجاهد عبد الله بن المبارك رحمه الله وقد عُزل في إنفاقه على العلماء وطلاب العلم، وعوتب في ذلك، وكان ذلك هو الدافع له للاشتغال بالتجارة، دون أن يقتصر على بلده: "إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه، لحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم".
طلب العلم ونشره يحتاج فيما يحتاج إليه إلى تفرغ، ولا يمكن لأحد أن يقوم ببث العلم ونشره ولا حتى بطلبه على الوجه المرضي إلا إذا كفي مؤونة المعايش، خاصة في هذا العصر الذي ارتفعت فيه أسباب المعايش وتعسرت، وتعددت فيه متطلبات الحياة واختلفت، خاصة للمتزوجين وأصحاب العيال، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
إذا كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم سأل من يأويه ويمنعه ويحميه حتى يبلغ رسالة ربه، وعرض نفسه على القبائل العربية عندما أعرض عنه قومه في مكة، إلى أن فازت بهذا الخير وحظيت بهذا الأمر الأنصار، لما ادخره سبحانه وتعالى لهم من الكرامة العظيمة، والآلاء الجسيمة في الدنيا والآخرة.
روى ابن إسحاق رحمه الله بسنده إلى العباس رضي الله عنه – وكان وقتها مشركاً – يقول: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى على القبائل العربية يقول: "يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي، وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به".
والعلماء هم ورثة الأنبياء وأتباع الرسل، ومهمتهم تبليغ هذا الدين وإرشاد العالمين، وحاجتهم إلى العناية والرعاية من إخوانهم المسلمين أكثر من حاجة الأنبياء والرسل، لأن الله عاصمهم، ولما زودهم الله به من القناعة والرضا بالقليل، لهذا فقد كان كثير من السلف حريصين على رعاية العلماء وطلاب العلم، مشتغلين بذلك، متكفلين لهم بما يهمهم من أمور معاشهم، وما يعينهم على تفرغهم لطلب العلم ونشره بين العباد.
نماذج لمن كان متكفلاً بطلبة العلم وراعياً لهم(1/301)
المجتمع المسلم مجتمع متكافل مترابط، متمم لبعضه البعض، فما من شريحة من شرائحه إلا وهي تقوم بدور فاعل، وتسد ثغرة من الثغور المهمة، فما كان للغزاة أن يغزو العدو، وأن يرابطوا بالثغور لولا أن الله هيأ بعض طوائف المسلمين للقيام بالزراعة، والتجارة، ونحوها من المكاسب، ليخلفوا هؤلاء الغزاة في أهليهم وأولادهم، ولولا أن الله سبحانه وتعالى هيأ بعض الموسرين والمحسنين، ويسرهم لمساعدة إخوانهم من العلماء والدعاة وطلاب العلم، لما استطاع هؤلاء أن يقوموا بواجبهم في نشر العلم وبثه، ودعوة الناس إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدين والدنيا، فالمؤمن للمؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، كما أخبر الصادق المصدوق، ولهذا فإن أي تقصير أوخلل يحدث في شريحة من شرائح المجتمع المختلفة يكون له تأثيره السلبي على الإسلام والمسلمين.
لذا فلابد من التذكير والمناصحة والأخذ بيد المقصر حتى لا تغرق السفينة، وحتى لا يتواطأ الجميع على الباطل ثم يدعون فلا يُستجاب لهم.
أولاً من العلماء
أشهر الأمثلة وأصدق النماذج لاهتمام بعض العلماء المحسنين الموسرين بطلاب العلم والعلماء، وأكثر المهتمين بنشر العلم وإفشائه بين الناس، على سبيل المثال لا الحصر:
1. سعد بن عبادة رضي الله عنه
سيد الخزرج الجواد الكريم، كان من سلالة كرماء.
قال الذهبي: (وكان سعد وعدة آباء له قبله ينادي على أطمهم: من أحب الشحم واللحم فليأت أطم دُليم بن حارثة).
ويتمثل سخاء سعد وجوده واهتمامه بالعلم والعلماء وطلابه في الآتي:
أ. كانت له قصعة تدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه حيث دار.
قال الذهبي: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان يبعث إليه كل يوم جفنة من ثريد اللحم، أوثريد بلبن وغيره، فكانت جفنة سعد تدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه).
ب. كان سعد يصحب معه كل ليلة ثمانين من أهل الصفة يعشيهم.
2. جعفر بن أبي طالب الملقب بالطيار رضي الله عنه
من الأسخياء الأجواد الرحماء على طلاب العلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، دعنا نستمع إلى حافظ السنة أبي هريرة – الذي كان متفرغاً لحفظ الحديث في أول الأمر – يصف لنا جود هذا الصحابي وإحسانه واهتمامه بطلاب العلم الفقراء من أهل الصفة.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، أفضل من جعفر بن أبي طالب"، قال الذهبي: يعني في الجود والكرم.
وقال أبو هريرة كذلك: "كنا نسمي جعفراً أبا المساكين، كان يذهب بنا إلى بيته، فإذا لم يجد لنا شيئاً أخرج إلينا عُكَّة أثرها عسل فنشقها ونلعقها".
وفي رواية عنه قال: "إن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، حتى لا آكل إلا الخمير، ولا ألبس إلا الحبير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني"، ثم ذكر صنيع جعفر بهم.
قلت: ينبغي لطلاب العلم اليوم الاقتداء والتأسي بهذا الصحابي الجليل في الصبر على المشاق، وفي المثابرة على التحصيل، وفي التفرغ لطلب العلم، فلم ينل أبوهريرة ما ناله وكذلك جل الأئمة إلا بالجد والمثابرة، وبالصبرواليقين، فهما الطريق لحيازة الإمامة في الدين.
3. الليث بن سعد (94-175ه)
من العلماء الموسرين الأسخياء المشتغلين بكفالة العلماء وطلاب العلم والمساكين، فقيه مصر ومحدثها الليث بن سعد رحمه الله.
قال الشافعي: الليث أعلم من مالك، إلا أن تلاميذه أضاعوه.
قال ابن قتيبة: كان الليث يتصدق كل يوم على ثلاثمائة مسكين.
أما إنفاقه على العلماء والمحدثين فيدل عليه ما يأتي:
أ. قال سليم بن منصور بن عمار: حدثنا أبي قال: دخلتُ على الليث خلوة فأخرج من تحت وسادة كيس فيه ألف دينار، وقال: يا أبى السَّرى، لا تُعلِم بها ابني، فتهُونَ عليه.
ب. حج الليث، فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب، فجعل الليث على الطبق ألف دينار ذهب فرده.
ج. وكتب مالك إلى الليث إني أريد أن أدخل بنتي على زوجها، فأحب أن تبعث لي شيئاً من عُصْفر، فبعث إليه بثلاثين حِملاً عُصْفراً، فباع منه بخمسمائة دينار، وبقي عنده فضلة.
عن أبي صالح كاتب الليث قال: كنا على باب مالك، فامتنع من الحديث، فقلت: ما يشبه هذا صاحبنا؟ قال: فسمعها مالك، فأدخلنا، وقال: من صاحبكم؟ قلت: الليث؛ قال: تشبهوننا برجل كتبتُ إليه في قليل عُصْفر، نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ منه ما بعنا فضله بألف دينار.
وقال حرملة: كان الليث بن سعد يصل مالكاً بمائة دينار في كل سنة، فكتب إليه مالك: عليَّ دين، فبعث إليه بخمسمائة دينار.
د. احترقت كتب ابن لهيعة فوصله بألف دينار.
ولهذا كان دخله في كل سنة ثمانين ألف دينار، فما وجبت عليه زكاة درهم قط.(1/302)
قال: ما وجبت عليَّ زكاة منذ بلغت.
ه. جاءت امرأة إلى الليث وقالت: يا أبا الحارث، إن ابناً لي عليل واشتهى عسلاً؛ فقال: يا غلام، أعطها مِرطاً من عسل؛ والمرط عشرون ومائة رطل، وقال: سألت على قدرها، وأعطيناها على قدر السعة علينا.
و. وأعطى منصور بن عمار الواعظ مرة ألف دينار وجارية تسوى ثلاثمائة دينار.
وقال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، وكان لا يأكل إلا بلحم، إلا أن يمرض.
4. العالم المجاهد عبد الله بن المبارك (118-181ه)
كانت همة ابن المبارك متعلقة بأمور، هي:
1. حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2. الغزو والجهاد في سبيل الله.
3. الحج والعمرة.
4. كفالة العلماء وطلاب العلم والإخوان.
5. الإنفاق على الفقراء والمساكين.
كان ابن المبارك رحمه الله من الأسخياء الأجواد، وكان سخاؤه لجميع الناس سيما العلماء وطلاب العلم والإخوان.
قال الذهبي رحمه الله: بلغنا أنه قال للفضيل بن عياض: لولاك وأصحابك ما اتجرتُ.
وقال مرة: لولا السفيانان ما اتجرت؛ يعني العالمين الكبيرين والمحدِّثين العظيمين: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، رحمهما الله، وكان ينفق على الفقراء كل سنة مائة ألف درهم.
وقال الذهبي: كان ابن المبارك غنياً شاكراً، رأس ماله نحو الأربعمائة ألف.
قال علي بن خَشْرم: قلت لعيسى بن يونس: كيف فضلكم ابن المبارك ولم يكن بأسن منكم؟ قال: كان يقدم ومعه الغِلْمة الخرسانية، والبزَّة الحسنة، فيَصِل العلماء، ويعطيهم، وكنا لا نقدر على هذا.
نماذج من إنفاق ابن المبارك على العلماء وغيرهم
أ. قال نعيم بن حماد: قدم ابن المبارك أيلية – بيت المقدس – على يونس بن يزيد، ومعه غلام مفرغ لعمل الفالوذج، يتخذه للمحدِّثين.
ب. دخل أبو أسامة – وهو من العلماء – على ابن المبارك، فوجد في وجهه أثر الضر، فلما خرج بعث إليه أربعة آلاف درهم، وكتب إليه:
وفتى خلا من ماله ومن المروءة غير خالِ
أعطاك قبل سؤاله وكفاك مكروه السؤالِ
ج. وقال المسيب بن واضح: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم، فقال: سد بها فتنة القوم عنك.
د. وممن كان يتكفل بهم ويصلهم إسماعيل بن علية، فلما ولي القضاء أوالصدقات لهارون الرشيد قطع صلته عنه، وكتب إليه بهذه الأبيات:
يا جاعل العِلْم له بازياً يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدِّين
فصرتَ مجنوناً بها بعدما كنتَ دواءً للمسَاكين
أين رواياتك في سردها عن ابن عَوْن وابن سيرين
أين رواياتك فيما مضى في ترك أبواب السَّلاطين
إن قلتَ أكرهتُ فماذا كذا زل حِمارُ العِلم في الطين
فلما قرأها إسماعيل اعتزل منصبه، وعاوده ابن المبارك بصلاته، فعلم الرشيد بذلك، فقال: لعل هذا المجنون كتب إليه أوقابله؛ أوكما قال.
قلت: رحم الله ابن المبارك، ما كان يريد من العلماء والمحدِّثين أن يتولوا الوظائف الحكومية التي تحد من نشاطهم وتفرغهم للعلم والدعوة، بل كان مراقباً لحركات العلماء وتصرفاتهم، فإذا رأى أحدَهم أراد التفرغ للعبادة أونوى اعتزال الغزو والجهاد، سواء كان بالمرابطة أوبنشر العلم باللسان والبنان أنبه على ذلك ونصحه، كما فعل بالفضَيْل بن عياض رحمه الله عندما آثر العبادة على المرابطة، والغزو، وتعليم العباد، لتعدي آثار هذه الأعمال على العبادة، كتب إليه هذه الأبيات.
قال ابن سُكينة: أملى عليَّ ابنُ المبارك سنةَ سبع وسبعين ومائة، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض من طَرْطوس:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمتَ أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضب جيده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أوكان يُتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم و نحن عبيرنا وهج السَّنابك والغبار الأطيب
و لقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يُكْذبُ
لا يستوي غبارُ خيل الله في أنف امرئ، ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلم يكابر الفضيل، ولم يستنكف من قبول نصيحته، وإقراره على ما قال، يقول ابن أبي سُكينة: فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه وبكى، ثم قال: صدق أبوعبد الرحمن ونصح.
إي وربي، صدق أبو عبد الرحمن ونصح، ولم يجامل ويداهن.
كيف كان تصرفه مع إخوانه من الغزاة والعلماء والعباد في الحج والغزو؟
د. روى الذهبي رحمه الله أن ابن المبارك خرج من بغداد يريد المصيصة، فصحبه الصوفية، فقال لهم: أنتم لكم أنفس تحتشمون أن ينفق عليكم، يا غلام هات الطَّسْت؛ فألقى عليه منديلاً، ثم قال: يلقي كل رجل منكم تحت المنديل ما معه؛ فجعل الرجل يلقي عشرة دراهم، والرجل يلقي عشرين، فأنفق عليهم إلى المصيصة، ثم قال: هذه بلاد نفير، فنقسم ما بقي؛ فجعل يعطي الرجل عشرين ديناراً، فيقول: يا أبا عبد الرحمن إنما أعطيتُ عشرين درهماً؛ فيقول: وما تنكر أن يبارك الله للغازي في نفقته؟(1/303)
ه. وقال: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل "مَرْو"، فيقولون: نصحبك؛ فيقول: هاتوا نفقاتكم؛ فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري لهم، ويخرجهم من "مَرْو" إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها؟ فيقول: كذا وكذا؛ فيشتري لهم، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متابع مكة؟ فيقول: كذا وكذا؛ فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصلوا إلى "مَرْو"، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسرُّوا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل منهم صرته، عليها اسمه.
5. المحدث الفقيه الإمام الحجة دعلج بن أحمد بن دعلج (259-353ه)
ممن كانت لهم صدقات جارية على العلماء والمحدثين دعلج هذا.
قال الذهبي: قال الحاكم: دعلج الفقيه شيخ أهل الحديث في عصره، له صدقات جارية على أهل الحديث بمكة وببغداد وسجستان.
وقال الخطيب البغداد: كان دعلج من ذوي اليسار، له وقوف على أهل الحديث.
وحكى الخطيب كذلك: أن رجلاً صلى الجمعة، فرأى رجلاً متنسكاً لم يُصَلِّ، فكلمه، فقال: استر عليَّ لدعلج عليَّ خمسة آلاف، فلما رأيته أحدثتُ؛ فبلغ ذلك دعلجاً، فطلبه إلى منزله وحلله من المال، ووصله بمثلها لكونه روَّعه.
ثانياً: من الخلفاء والوزراء
من الخلفاء والحكام والأمراء والوزراء الذين كانوا يعنون بالعلم والعلماء ويقومون بكفالتهم ورعايتهم وتفقد أحوالهم، على سبيل المثال لا الحصر:
1. الخليفة العباسي هارون الرشيد
قال عنه عبد الله بن المبارك: (ما رأيتُ عالماً، ولا قارئاً للقرآن، ولا سابقاً للخيرات، ولا حافظاً للحرمات، في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء الراشدين والصحابة، أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعِلم ويروي الحديث ويجمع الدواوين ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة؛ وما ذلك إلا بكثرة إنفاقه واهتمامه بالعلم والعلماء وطلابه.
2. الأمير المعز بن باديس
أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي، كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره عنده وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه، وعوَّل على آرائه، ومنحه أسمى الرتب.
3. الخليفة الموحدي الثالث المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن
الذي أنشأ "بيت الطلبة"، وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه حسد بعض حاشيته على موضع الطلبة النابغين عنده فزع منهم وخاطبهم قائلاً: يا معشر الموحدين أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجأهم، وإليَّ فزعهم، وإلي ينسبون؛ وقد بالغ في عنايته بالطبيب أبي بكر بن زهر.
4. صلاح الدين الأيوبي
كان من الحكام الراعين للعلم والعلماء من أهل السنة، المقربين لهم، لقد أزال هذا الحاكم الصالح والبطل الفالح كل آثار دولة الظلم والعدوان الدولة العبيدية في مصر، هذا بجانب تخليصه لبيت المقدس من الصليبيين.
5. الوزير ابن هبيرة
كان من العلماء، ولهذا كان مقرباً ومكرماً لأهل العلم.
6. الوزير نظام الملك السلجوقي
مؤسس المدرسة النظامية ببغداد وغيرها، المحتضن لكثير من أهل العلم في عصره، كالإمام الغزالي، وإمام الحرمين ابن الجويني، وغيرهما كثير، والذي عمل كذلك على القضاء على الدولة الرافضية - الدولة البويهية - كما فعل صلاح الدين رحمهما الله.
قلت: لا غرابة أن يهتم بعض الحكام برعاية العلم الشرعي وبكفالة العلماء وطلاب العلم، فهذا من أوجب واجباتهم، ومن أولى مسؤولياتهم، ومع ذلك يشكرون على قيامهم بواجبهم، ويثابون على ذلك ويحمدون، وتخلد مآثرهم وتذاع.
أما أن يقوم بعض الموسرين المحسنين بهذا الواجب الذي غفل عنه كثير من الحكام وأهملوه، فهذا ما يفرح النفس ويثلج الصدر، لأنهم بذلك يرفعون الحرج عن جميع الأمة، لأن الفروض الكفائية نحو نشر العلم وبثه، والأمر والنهي، وجهاد الطلب، إذا تركتها جميع الأمة أثمت، واستحقت غضب الله وسخطه.
فهنيئاً لكم أيها الموسرون المحسنون العاملون على نشر العلم وبثه، وعلى رعاية العلماء وطلاب العلم، وعلى طبع الكتب والرسائل، وبارك الله لكم في أموالكم وأولادكم وأهليكم، وتقبل منكم، وثقل بذلك موازينكم يوم تطيش الموازين، وأمنكم يوم الفزع الأكبر.(1/304)
واعلموا أن عملكم هذا بفضل من الله ورحمة وتلطف، ولولا ذلك لما تمكنتم من هذا العمل الصالح، فاشكروا الله شكراً جزيلاً أن وفقكم للإنفاق في سبيل الخير، وأن جعلكم شركاء وقسماء للمجاهدين، والغزاة، والعلماء، والدعاة، وكان يمكن أن تكونوا شركاء وقسماء في الوزر للفنانين واللاعبين: "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون"
واحذروا تخويف وتهديد الكافرين والمنافقين والمخذلين، واعلموا والله أنهم لن يغنوا عنكم من الله شيئاً، واعلموا أنكم أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد: "هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".
أيها الأغنياء الفضلاء الأسخياء، أين أنتم ممن كان يفرح ويسر ويطرب ويتعجب باستقراض الرب لعباده وهو غني عنهم؟ وذلك عندما نزل قوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون".
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً"، قال أبو الدَّحْداح: يا رسول الله، أوإن الله تعالى يريد منا القرض؟ قال: نعم، يا أبا الدحداح؛ قال: إني أريد يدك؛ فناوله، قال: فإني أقرضتُ الله حائطاً فيه ستمائة نخلة؛ ثم جاء يمشي حتى أتى على الحائط، وأم الدحداح فيه وعياله، فناداها: يا أم الدحداح؛ قالت: لبيك؛ قال: اخرجي، قد أقرضتُ ربي عز وجل حائطاً فيه ستمائة نخلة.
وفي رواية عن زيد بن أسلم لما نزل: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً"، قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله! إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال: نعم، يريد أن يدخلكم الجنة به؛ قال: فإني إن أقرضتُ ربي قرضاً يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟ قال: نعم؛ قال: فناولني يدك؛ فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة، والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضاً لله تعالى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل إحداهما لله، والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك؛ قال: فاشهد يا رسول الله أني قد جعلتُ خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة؛ قال: إذن يجزيك الله به الجنة؛ فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل، فأنشأ يقول:
هداك ربي سبيل الرشاد إلى سبيل الخير و السداد
بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التناد
أقرضته الله على اعتمادي بالطوع لا مَنَّى ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في المعاد فارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لا شك فخير زاد قدمه المرء إلى المعاد
قالت أم الدحداح: ربح بيعُك! بارك الله لك فيما اشتريت؛ ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:
بشرك الله بخير و فَرَح مثلك أدى ما لديه ونَصَحْ
قد متع الله عيالي ومنحْ بالعجوة السوداء والزَّهو البلحْ
والعبد يسعى وله ما كدح طول الليالي وعليه ما اجترح
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تُخرِج ما في أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم، حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كم من عَذِق رداح ودار فياح لأبي الدحداح".
والله لا يدري المرء أيكون عجبه أشد بسخاء أبي الدحداح أم بأريحية أم الدحداح؟ لله درهما ما أصدقهما وأنبلهما، أجزل الله مثوبتهما.
فسبحان من خلق الخلق فجعل منهم النبلاء الأسخياء، وجعل منهم الفسلاء، البخلاء، الرذلاء.
قال ابن العربي المالكي معلقاً على صنيع أبي وأم الدحداح الفريد، وعملهما المجيد، وسلوكهما الحميد، مقارنة بما قاله السفلة الرَّذلاء المغضوب عليهم في العالمين من اليهود والمنافقين، الملعونين على ألسنة الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، المتواصين بالبخل والشح: "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُّوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يعلمون"، والقائلين: "إن الله فقير ونحن أغنياء"، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً:
(انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته، وقدرته ومشيئته، وقضائه وقدره، حين سمعوا هذه الآية أقساماً، وتفرقوا فرقاً ثلاثة: الفرقة الأولى الرَّذلى قالوا: إن رب محمد محتاج فقير ونحن أغنياء؛ فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب، فرد الله عليهم بقوله: "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء"، الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل، وقدمت الرغبة في المال، فما أنفقت في سبيل الله، ولا فكت أسيراً، ولا أعانت أحداً، تكاسلاً عن طاعة الله، وركوناً إلى هذه الدار، الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله، وآثر المجيب منهم بسرعة بماله، كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره).(1/305)
اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً، اللهم يسرنا لليسرى، وانفعنا بالهدى، اللهم إنانسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك، وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأسخياء، وخاتم الأنبياء، وعلى آله وصحبه الأصفياء، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم اللقاء
=================0000
يا رجال المرور انتبهوا واعملوا على تدارك حوادث المرور
مما يحمد لإدارة المرور أن وجودهم وانتشارهم على الشوارع وعند الإشارات الضوئية أصبح ظاهراً وملحوظاً، ومما يشكر لوزارة الداخلية كذلك أنها زودت إدارة المرور بالعديد من السيارات والأجهزة الحديثة التي تعينهم وتساعدهم في أداء واجباهم المهم الخطر، وهو المحافظة على الأرواح والممتلكات.
ولكن يلاحظ أن جهود رجال المرور في الميدان قاصر إلى حد كبير على مراقبة رخص السيارات والسائقين، وفرض العقوبات على غير المرخِّصين والمجدِّدين، وهذا أمر مهم ومطلوب ولابد منه، ويعتبر من قواعد السلامة التي تجب مراعاتها.
هنالك أسباب تمنع كثيراً من أصحاب السيارات، أوتعوق وتأخر تجديدهم لرخصهم المتعلقة بالسيارات خاصة، أهمها:
أولاً: ارتفاع رسوم التجديد، مما يجعل كثيراً من الناس يتهرب، ويفضل الغرامة وإن تكررت على دفع مئات الآلاف في ساعة واحدة، وقد لا تكون الرسوم متيسرة لقطاع كبير منهم، وهذا الارتفاع شامل لجميع السيارات الخاصة والتجارية، على الرغم من تفاوت رسوم التجديد بين السيارات الخاصة والتجارية.
ثانياً: الترخيص في السودان لمدة عام واحد، وفي جل البلاد فإن الترخيص يكون لمدة ثلاث سنوات، والعام الواحد ينقضي كلمح البصر، خاصة وقد غشانا من تقارب الزمان ونزع البركة من الأوقات وغيرها ما لم يغش غيرنا، فكثير من أصحاب السيارات لا يشعرون بانقضاء العام إلا بعد حين، وبعد أن يوقفوا ويغرموا.
فهذان السببان وغيرهما عائق كبير في تهرب وتباطؤ قطاع من الناس في المسارعة بتجديد الترخيص.
هذا بجانب الزحام الذي يحدثه التجديد السنوي للرخص في مكاتب قسم تجديد الرخص، فقد سمعت أن أكثر من خمسين ألف ترخيص تتم يومياً في ولاية الخرطوم فقط، وهذا جهد كبير ضائع يمكن أن يوفر ويستفاد من رجال المرور في مهام أخر أكثر أهمية فيها قصور كبير وإهمال واضح.
مع تزايد عدد سكان العاصمة بسبب الهجرة العشوائية غير المدروسة من الأقاليم إلى العاصمة، حيث يقدر سكان المدن الثلاثة والضواحي بثمانية إلى عشرة ملايين نسمة، وتزايد عدد السيارات بأنواعها المختلفة التي تضخها الشحنات يومياً إلى العاصمة، ونسبة لضيق الطرق وعدم التزام كثير من سائقي السيارات ومن المواطنين بقواعد وإرشادات رجال المرور، ونسبة لعدم إضاءة جل الشوارع، وإن كان هناك بوادر وشروع في إضاءة الشوارع الرئيسية، لكل هذه الأسباب وغيرها فقد زادت الحوادث المرورية كماً وفداحة، مما يستوجب البحث والتفتيش عن أسباب هذه الحوادث، والاجتهاد في تدارك هذه الأسباب قبل وقوع الحوادث، لأن الوقاية خير من العلاج، علماً بأن الحذر لا يغني من القدر، ولكن أخذ أسباب الحيطة والعمل على تدارك والتقليل من الخسائر في الأنفس والأموال مطلب شرعي، فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله.
من المخاطر العظيمة والأخطاء الجسيمة التي يمكن تداركها بمجهود قليل من رجال المرور، وبفرض عقوبة صارمة وحازمة على كل من يتجاوزها من غير استثناء أومحاباة، التي أعتقد أنها سبب في جل هذه الحوادث المرورية المفجعة، التي راح ضحيتها كثير من الأنفس الزكية، بعد تقدير الله عز وجل، ولم يشعر المواطن بمجهود مبذول لتداركها من رجال المرور، داخل العاصمة أوفي طرق المرور السريع، سيما طريق مدني الخرطوم، الذي يمثل عنق الزجاجة للطرق التي تلتقي به، وحديثي عن طريق مدني حديث من يسير فيه في الأسبوع الواحد مرة أومرتين تقريباً.
والمخاطر هي:
1. وقوف الشاحنات و"اللواري" المتعطلة في الشوارع الرئيسية، بل في طرق المرور السريع ولعدة أيام في بعض الحالات.
وهذا خطر داهم وسبب واضح لأسوأ الحوادث المرورية، وأنا لا أدري تبرير رجال المرور لهذا الوقوف مع ما فيه من المخاطر وزحم الطريق، وقد سمعت من البعض أن الشاحنة إذا حاولت النزول من الشارع ربما طاحت وانقلبت، وهذا عذر أقبح من الذنب.
فينبغي على إدارة المرور أن تسن قانوناً صارماً يمنع هذا الوقوف في قلب شارع من الشوارع الرئيسية، خاصة طرق المرور السريع، وإنزال العقوبة الصارمة مالية كانت أم تعزيرية بسحب الرخصة إلى حين، أوما يناسب هذا الجرم الكبير، ويطلب من رجال المرور السيار مراقبة هذا الأمر بحزم، وينبغي على الضباط أن يراقبوا تنفيذ رجالهم لذلك.
2. سير بعض الشاحنات الطويلة وبعض "اللواري" ليلاً من غير أنوار خلفية، ولا لوحات عاكسة ضوئية، سيما في طرق المرور السريع، وعلى الأخص في طريق مدني الخرطوم، وهذا من الأسباب الرئيسية لوقوع بعض الحوادث وحدوث مضايقات لمن خلفهم.(1/306)
فعلى رجال المرور تنفيذ العقوبات ورفعها على من يسير ليلاً من غير أنوار خلفية، وإيقافه في الحال، وعدم السماح له بالتحرك ليلاً حتى ولو دفع الغرامة.
3. إلزام الشاحنات الطويلة وغيرها بالسير في المسار اليمين، والتي تليها في الحجم والسرعة في المسار الوسط، ويكون المسار اليسار للسيارات الصغيرة والسريعة.
وهذه من القواعد المرورية الملتزم بها في كثير من البلاد، وقد لاحظت في عدة مرات سير الشاحنات، و"الرقشات"، والسيارات البطيئة، بل و"الكارو" في أحيان في أقصى اليسار.
فلابد من إرشاد السائقين لذلك، وإنزال العقوبات المالية على المخالفين، حتى يمكن تجنب المشاكل الناتجة عن التخطي.
4. وقوف الحافلات المفاجئ في الشوارع الرئيسية، وتجمعها عند التقاء الطرق بكميات كبيرة للتحميل والإنزال، وفي ذلك إعاقة للسير وتأخير لمن خلفهم، ولم أر رجال المرور يمنعون من ذلك إلا نادراً، بل يجب أن يعاقب السائق الذي يتصرف هذا التصرف.
5. لابد من عمل إشارات ضوئية خاصة في الطرق ذات الاتجاهين، كطريق عبيد ختم، وطريق الستين، وإن كانا يعتبران من طرق المرور السريع، ولكن لعدم وجود جسور للسيارات التي تريد العبور يحتم عمل إشارات ضوئية، وإلا ينتج عن ذلك كثرة الحوادث المرورية كما هو مشاهد الآن.
6. سوء استعمال الأنوار العالية من أقوى أسباب وقوع الحوادث المرورية سيما في طريق مدني – الخرطوم، وبعض السائقين يخيل إليك كأنه يتعمد ذلك، وما يدري ما يحدث الضوء العالي من أضرار، خاصة من السيارات الكورية ذات اللمبات المشعة.
على إدارة المرور أن تلزم أصحاب هذه السيارات باستبدال هذه "اللمض" وهذا حق مشروع، فلا ضرر ولا ضرار، وإنزال عقوبة صارمة على من يسيء استعمال الضوء العالي، ولا يمكن معالجة هذا الأمر إلا بمراقبة الطرق ليلاً، وهو أمر وإن كان موجوداً فإن السائر ليلاً لا يشعر بوجوده.
7. السرعة الجنونية، لا شك أن السرعة الزائدة عن الحد سبب رئيس في وقوع الحوادث، وفي عدم تجنبها أوالتقليل من أضرارها، فلو استطاعت إدارة المرور مراقبة الطرق السريعة خاصة بأجهزة "الرادار"، وإنزال العقوبات الصارمة على من يتعدى السرعة المحددة له، يمكن أن يحد من ذلك.
8. التشدد في الفحص الدوري، والتأكد من صلاحية السيارة أوالشاحنة للسير، والتأكد من وجود وسائل السلامة فيها، ومراقبة ذلك، لأن البعض قد يستلف هذه الوسائل عند الفحص، فالمراقبة المستمرة والتفتيش المفاجئ لهذه الوسائل يجعل السائقين أكثر حرصاً على امتلاكها.
9. مراقبة ومتابعة والمنع من الشُّحَن العالية "التكويشات"، سيما الفحم، والقصب، والعلف، لأن ذلك يتسبب في تعطيل الشاحنات ويؤدي إلى الوقوف الخاطئ، وقد يعرض السيارات الأخرى لحوادث.
10. مراقبة طرق المرور السريع ليلاً خاصة في آخر الأسبوع، وفي المناسبات والأعياد، كما حدث في عيد الأضحى الماضي نهاراً فقط في طريق مدني – الخرطوم، وهي سنة حسنة يشكر عليها رجال المرور، وكان ذلك سبباً بعد لطف الله في عدم وقوع حوادث مرورية في العيد.
وقبل الختام أقول: ما دفعني لكتابة ذلك إلا النصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، فالدين النصيحة، وكذلك من باب الذكرى، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
كما أرجو من إخواننا المسؤولين في إدارة المرور وغيرهم أن لا يستنكفوا من قبول النصيحة، وأن يولوها اهتمامهم لأهميتها، وحاجة جميع الخلق إليها، ولهذا فقد دعا عمر لمن أسدى إليه نصحاً فقال: "رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي"، فاعتبر النصيحة هدية، وهي فعلاً هدية قيمة.
وأخيراً لا يفوتني أن أتقدم بوافر الشكر لرجال المرور ولغيرهم لما يقومون به نحو إخوانهم المسلمين، ونطلب منهم المزيد، ونقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم، وفي دينكم، وفي أهليكم، وفي إخوانكم المسلمين، فلا تظلموا أحداً، ولا تأخذوا مال أحد بغير حق، واحذروا الرشوة والمحسوبية، والتهرب من أداء الواجب، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي، والمرتشي، والرائش، واعلموا أن كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، والله الموفق للخيرات، الغافر للزلات
--------
ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟
أيها المجاهدون كم خلودكم في الدنيا؟
أيها المجاهدون في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، ولإعزاز دين الله، في كل زمان ومكان، وفي كل صقع من ديار الإسلام، اصبروا، وصابروا، واثبتوا، واحتسبوا، ولا يهيلنكم كيد الأعداء، ولا مكر الأقرباء، ولا خذلان الجبناء، ولا عمالة العملاء، ولا تسلط المرتزقة الأذلاء، ولا تحليلات الوراقين والإعلاميين المنافقين السفهاء، فأنتم موصولون بالله، تستمدون النصر منه، فأنتم الأعلون دوماً وأبداً، فلا تهنوا ولا تحزنوا.
وليكن لكم في سلفكم الصالح، وخلفكم الفالح الأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة، فأنتم لستم بدعاً منهم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل".(1/307)
أيها المجاهدون إن كنتم تألمون فإن أعداءكم يألمون كما تألمون، وأكثر مما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون، وما هي والله إلا إحدى الحسنيين، وما بينكم وبين الجنة إن شاء الله إلا القتل.
تذكروا رد إخوانكم السحرة لما آمنوا على الطاغية فرعون، ونصيحتهم لإخوانهم المبتلين في كل وقت وحين: "قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضٍ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى. إنه من يأت ربه مجرماً فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيى. ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى. جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى".
فهذه نصيحة واعية، وهدية غالية، وهمة عالية، وكلمات سامية، خرجت من قلوب ملؤها الإيمان، وغايتها أعلى الجنات ورضى ربها الرحمن.
من النصائح العظيمة، والوصايا الكريمة كذلك، ما وصت به الصحابية الجليلة أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين ابنها عبد الله لما استنصحها: (الله الله يا بني، إن كنتَ تعلم أنك على الحق تدعو إليه فامضٍ عليه، ولا تمكِّن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك، وإن كنت أردتَ الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكتَ نفسك ومن معك، وإن قلتَ: "إني كنتُ على حق فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي"؛ فليس هذا من فعل الأحرار، ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير، والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل؛ فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني؛ قالت: يا بني، إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله).
كذلك من أقيم الهدايا وأجلها التي يمكن أن تقدم للمجاهدين الأبطال الأحرار، ما قاله ذلكم الأعرابي جابر بن عامر، مثبتاً لإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله، في محنته التي وقف فيها مواقف الأنبياء، وأرضى فيها رب الأرض والسماء.
قال أحمد يصف محنته: (صرنا إلى الرَّحْبة، ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا؛ فقال للجمَّال: على رسلك؛ ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة؟! ثم قال: أستودعك الله؛ فسألت عنه، فقيل لي: هذا رجل من العرب، من ربيعة، يعمل الصوف في البادية، يقال له جابر بن عامر، يُذكر بخير.
وفي رواية قال أحمد: ما سمعتُ كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مُتَّ شهيداً، وإن عشتَ عشتَ حميداً؛ فقوى قلبي.
وفي رواية لابن كثير: يا هذا، إنك وافد الناس، فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل).
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن لا تجعل للكافرين والمنافقين على المجاهدين والمؤمنين سبيلاً.
اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس.
اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والفسق والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم هيئ للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان أمر رشد يُعز فيه أهل الطاعة، ويُذل فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
اللهم لِمَن تترك عبادك المجاهدين المستذلين المطاردين؟ إلى عدو خبيث ملكته أمرهم، أم إلى قريب عميل خائن غادر خسيس يتجشمهم، اللهم إن لم يكن بك غضب عليهم فلا يبالوا، ولكن رحمتك يرجون، وعافيتك يطلبون، فلك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه.
=================0000
التحقيق في موضع رأس الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما
اختلف الناس في الموضع الذي دفن به رأس الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما اختلافاً كثيراً، فبين قائل إنه لا يُعرف، وبين متخبط غير متثبت، وبين متثبت متحقق، وملخص هذه الأقوال على ما يأتي:
1. أن موضع الرأس لم يُعرف، وهذا كذب كما قال العلماء المحققون.
2. أنه بمشهد بعسقلان، وهذا كذب أيضاً.
3. أنه نقل إلى القاهرة، وهذا كذب أيضاً.
4. أنه دفن بالبقيع بالمدينة، عند قبر أمه فاطمة الزهراء رضي الله عنهما، وهذا هو الحق، أما جسده الطاهر فمدفون بكربلاء.(1/308)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يعدِّد المشاهد المكذوبة: (وكذلك مشهد الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في مقتل الحسين اتفقوا على أن الرأس لم يُعرف، وأهل المعرفة بالنقل يعلمون أن هذا أيضاً كذب، وأصله أنه نقل من مشهد بعسقلان، وذلك المشهد بني قبل هذا بنحو من ستين سنة، في أواخر المائة الخامسة، وهذا بني في أثناء المائة السادسة، بعد مقتل الحسين بنحو من خمسمائة عام، والقاهرة بنيت بعد مقتل الحسين بنحو من ثلاثمائة عام، وهذا المشهد بني بعد بناء القاهرة بنحو مائتي عام.
وقال كذلك: وأما المكذوب قطعاً فكثير، مثل قبر علي بن الحسين الذي بمصر، فإن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناس، ودفن بالبقيع، ويقال إن قبة العباس بها قبره، وقبر الحسن، وعلي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد، وفيها أيضاً رأس الحسين، وأما بدنه فهو بكربلاء باتفاق الناس، والذي صح ما ذكره البخاري في صحيحه من أن رأسه حُمِل إلى عبيد الله بن زياد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وقد شهد على ذلك أنس بن مالك، وفي رواية أخرى أبو برزة الأسلمي، وكلاهما كانا بالعراق، وقد روي بإسناد منقطع أومجهول أنه حُمل إلى يزيد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضراً، وأنكر ذلك، وهذا كذب، فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد وإنما كان بالعراق).
خرَّج البخاري في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: "أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي فجُعل في طَسْتٍ، فجعل ينكت، وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوباً بالوسمة".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (كان مولد الحسين في شعبان سنة أربع في قول الأكثر، ومات يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق، وكان أهل الكوفة لما مات معاوية واستخلف يزيد كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته، فخرج الحسين إليهم، فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فخذَّل غالب الناس عنه، فتأخروا رغبة ورهبة، وقتِل ابن عمه مسلم بن عقيل، وكان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له على الناس، ثم جهز إليه عسكراً فقاتلوه إلى أن قتل هو وجماعة من أهل بيته).
وقال المناوي في فيض القدير: (لما مات معاوية أتته – أي الحسين – كتب أهل العراق إلى المدينة أنهم بايعوه بعد موته – أي معاوية – فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل، فبايعوه، وأرسل إليهم فتوجه إليهم فخذلوه وقتلوه بها يوم الجمعة عاشر محرم سنة إحدى وستين.
إلى أن قال:
وطيف برأسه في البلدان إلى أن انتهت إلى عسقلان فدفنها أميره بها، فلما غلب الفرنج على عسقلان استفداها منهم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمال جزيل، وبنى عليها المشهد بالقاهرة كما أشار إليه القاضي الفاضل في قصيدة مدح بها الصالح، ونقله عنه الحافظ ابن حجر، وأقره ولكن نازع فيه بعضهم بأن الحافظ أباالعلاء الهمداني ذكر أن يزيد بن معاوية أرسلها إلى المدينة، فكفنها عامله بها عمرو بن سعيد بن العاص ودفنها بالبقيع عند قبر أمه، وهذا أصح ما قيل.
وقال الزبير بن بكار: حُمل الرأس إلى المدينة فدفن بها، وقال القرطبي: والزبير أعلم بالنسب وأفضل العلماء بهذا السبب، والإمامية يقولون: الرأس أعيد إلى الحبشة ودفن بكربلاء بعد أربعين يوماً من القتل.
قال القرطبي: وما ذكر من أنه في عسقلان في مشهد هناك أوبالقاهرة فباطل لم يصح ولا يثبت.
إلى أن قال: وتفصيل قصة قتله تمزق الأكباد وتذيب الأجساد).
قلت: لقد أراد الله لهذا الإمام الشهادة ورفع الدرجة، وإلا فقد نهاه عن الخروج إلى العراق وحذره من خذلان الرافضة ابن عباس، وابن عمر، ومحمد بن الحنفية، وذكروه بخذلان الرافضة لأبيه وأخيه، ولكن كان أمر الله قدراً مقدوراً، فإن الذين شهروا السلاح في وجهه وقتلوه ومن معه من آل بيته هم نفس الرافضة الذين كتبوا إليه مبايعين وواعدين بنصره.
فيا أسفاً على المصائب مرة - كما قال العلامة ابن العربي المالكي – ويا أسفاً على مصيبة الحسين ألف مرة، وإن بوله يجري على صدر النبي صلى الله عليه وسلم، ودمه يُراق على البوغاء ولا يحقن، يا لله ويا للمسلمين.
لقد ابتلي الرافضة ومن قلدهم بعبادة القبور المكذوبة، والمشاهد المدسوسة، على الرغم من الوعيد الوارد في ذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقوله: "اشتد غضب على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وغيرهما، فبجانب مشهد رأس الحسن المكذوب، فهم يعبدون قبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، ظناً منهم أنه قبر أمير المؤمنين علي، ولو علموا أنه قبر المغيرة لرجموه بالحجارة.(1/309)
قال شيخ الإسلام معدداً القبور والمشاهد المكذوبة: (وكذلك قبر علي رضي الله عنه الذي بباطن النجف بالكوفة، فإن المعروف عند أهل العلم أنه دفن بقصر الإمارة بالكوفة، كما دفن معاوية بقصر الإمارة بالشام، ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر، خوفاً عليهم من الخوارج أن ينبشوا قبورهم).
مما دفع الإمام الشعبي رحمه الله أن يصفهم: "بانهم لو كانوا حيوانات لكانوا حميراً، ولو كانوا طيوراً لكانوا بوماً"، أو كما قال.
=================00000
أيها المنافقون احذروا
من يطالع وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة في هذه الأيام يرى، ويسمع، ويشاهد فيها من الجرأة على الدين، والتطاول على أئمته القدماء والمحدثين، والدفاع عن الزنادقة والملحدين، الهالكين منهم والعائشين، العجب العجاب، والقول المعاب، والكفر الصراح، من غير ارتياب، صادر من سفهاء الأدباء والوراقين، وأئمة الكفر والمنافقين.
فمن منادٍ بإباحة الردة وإنكار حدها، ومن منادٍ بمساواة المنسوخ المنحرف من الأديان بشريعة ما بُعث به ولد عدنان، ومنهم من يدافع عمن قتِل مرتداً عن الإسلام، كالحلاج، ومحمود محمد طه، وغيرهما من زنادقة الباطنية، ومنهم من يتنقص شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام، بل لقد تطاول بعضهم حتى نال من ابن حنبل وأضرابه الكرام، ومدح أئمة الضلال من المعتزلة وغيرهم أولئك الأقزام، ومنهم من يمجد القرامطة، والإسماعيلية، والعبيديين، لما سفكوه من دماء المسلمين، وبسبب حقدهم الدفين، فالكفر ملة واحدة، والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
ليس لهؤلاء الزعانف، والخافيش، والعملاء المداسيس، الذين جيء بهم من كل صوب وحدب، وأرسلوا من كل قطر وبلد، ليقوموا بالواجب، وليؤدوا ثمن ما قدِّم لهم، لعلم الكفار أن ما يقوم به العملاء والمنافقون في هدم الدين وتغيير المفاهيم لا يستطيع القيام به لا المغضوب عليهم ولا الضالون، مثلاً إلا ما قاله طرفة بن العبد:
يا لك من قبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي واصفري
قد رُفِعَ الفخُّ فماذا تحذري ؟ ونقري ما شئتِ أن تنقري
قد ذهب الصياد عنك فابشري لابد من أخذك يوماً فاحذري
وسبب ذلك أن طرفة وكان صبياً لم يتعدَّ السابعة خرج مع عمه في سفرة، فنزلوا ماءً، فنصب طرفة فخاً له للقنابر، وجلس عامة يومه منتظراً، فلم يصد شيئاً، فلما أخذ فخه وذهب جاءت القنابر يلقطن الحب، فقال ذلك.
وذلك لخلو الجو للمنافقين الأشرار، والتضييق، والحبس، والمنع، والحجر على طائفة من العلماء الأخيار الأطهار، بسبب خوف الحكام من الكفار، وحرصهم على ملكهم المستعار، بعد أن أعلن الاتحاد اليهودي الكنسي حربه الصليبية على الإسلام والمسلمين.
ولكنا نقول لهؤلاء ولأسيادهم من قبل احذروا، وأبشروا بحرب الله ورسوله، فإن الله يمهل ولا يهمل، فقد وعد الله بنصر أوليائه، وبخذلان أعدائه، وبأن العاقبة للمتقين، وأن الأيام دول، والحرب سجال، ونقول لحكامنا ما قاله عبد المطلب عندما عدم المعين لمقاومة أبرهة وجنده من الصليبيين: إن للدين رباً يحميه.
=================00000000
المستشار مُؤْتمن
من حقوق المسلم الكفائية على أخيه المسلم إذا نصحه أن يجتهد في النصح له، وإذا استشاره في أمر أن لا يألو جهداً في ذلك، وأن يشير عليه بما يعتقد صحته وصوابه، ولا يكتمه شيئاً.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حق المسلم على المسلم ست، إذا لقيته فسلم، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه".
وقال صلى الله عليه وسلم حاثاً وحاضاً على الاستشارة: "لا خاب من استخار ولا ندم من استشار"، أي استخار ربه واستشار أهل الدين والخُلُق من خلقه.
وعلى المرء المسلم أن لا يغتر برأيه، ولا يعتد بعقله، ولا يستبد بتفكيره، فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "الرأي الواحد كالخيط الواحد، يكاد ينقطع، والرأيان كالخيطين، والثلاثة كالثلاثة"، فقد شاور سيد الخلق المؤيد بالوحي، وشاور الشيخان أبو بكر وعمر في غير ما أمر واحد.
وعليه كذلك أن يتخير ويصطفي من يستشيرهم، فالاستشارة هي المناصحة، والمناصحة لا يصلح لها إلا من توفرت فيه هذه الشروط:
1. الدين.
2. الرأي السديد.
3. العقل الكبير.
4. المحبة والرفق.
5. الأمانة.
6. والتجرد.
فلا ينبغي للمرء أن يستشير كل أحد، ولا يبوح بسره لكل من لاقاه.
ولهذا جاء في الحديث: "المستشار مؤتمن"، عن أبي هريرة، وسمرة بن جندب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم بطرق مختلفة، رمز السيوطي في الجامع الصغير إلى أحدها بالصحة، وإلى الثاني بالحسن، وإلى الثالث بالضعف، وفي رواية: "المستاشر مؤتمن، فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه".(1/310)
قال المناوي معلقاً على هذا الحديث: (أي أمين على ما استشير فيه، فمن أفضى إلى أخيه بسره، وأمنه على نفسه، فقد جعله بمحلها، فيجب عليه أن لا يشير عليه إلا بما يراه صواباً، فإنه كالأمانة للرجل الذي لا يأمن على إيداع ماله إلا ثقة، والسر قد يكون في إذاعته تلف النفس، أولى بان لا يجعل إلا عند موثوق به، وفيه حث على ما يحصل به معظم الدين، وهو النصح لله ورسوله وعامة المسلمين، وبه يحصل التحابب والائتلاف، وبضده يكون التباغض والاختلاف).
ثم نقل عن أحد المشايخ في صفة المستشار ما يأتي:
فلذلك قالوا: يحتاج المشير والناصح إلى علم، وعقل، وفكر صحيح، ورؤية حسنة، واعتدال مزاج، وتؤدة، وتأن، فإن لم تجتمع هذه الخصال فخطأه أسرع من إصابته، فلا يشير ولا ينصح، قالوا: وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة.
قلت: على المستشار إن لم يأنس في نفسه الكفاءة، أوخشي أن يخدع المستشير، أوكان جاهلاً بما استشير فيه، أن يعتذر عن ذلك، ويوجه الشخص إلى غيره، فهو ليس ملزماً أن يشير في كل الأحوال، فقد جاء في إحدى روايات الحديث السابق: "المستشار مؤتمن إن شاء أشار، وإن شاء لم يشر".
وكما أن المستشار لابد أن يكون أميناً حفيظاً، كذلك لابد أن يكون عالماً متخصصاً، أودارياً مجرباً.
(يحتاج الناصح والمشير إلى علم كبير كثير، فإنه يحتاج أولاً إلى علم الشريعة، وهو العلم العام المتضمن لأحوال الناس، وعلم الزمان، وعلم المكان، وعلم الترجيح، إذا تقابلت هذه الأمور، فيكون ما يصلح الزمان يفسد الحال، فيشير بأهمها، وإذا عرف من حال إنسان بالمخالفة، وإنه إذا أرشده إلى شيء فعل ضده، يشير عليه بما لا ينبغي ليفعل ما ينبغي، وهذا يسمى علم السياسة، فإنه يسوس بذلك النفوس الجموحة الشاردة عن طريق مصالحها).
آثار في فضل المشورة ومن يشاور
ذكر ابن عبد البر رحمه الله عدداً من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في فضل المشورة، ومن يشاور، وهي:
• ...
"ما تشاور قوم إلا هداهم الله لأرشد أمورهم".
• ...
"لن يهلك قوم عن مشورة".
• ...
"من نزل به أمر فشاور فيه من هو دونه تواضعاً منه عُزِم له على الرشد".
• ...
"الحزم في مشاورة ذوي الرأي وطاعتهم".
• ...
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "شاور في أمرك من يخاف الله عز وجل".
• ...
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "رأى الشيخ خير من مشهد الغلام".
• ...
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ما نزلت بي قط عظيمة فأبرمتها حتى أشاور عشرة من قريش مرتين، فإن أصبت كان الحظ لي دونهم، وإن أخطأت لم أرجع على نفسي بلائمة".
• ...
وقال الحسن البصري: "إن الله لم يأمر نبيه بمشاورة أصحابه حاجة منه إلى رأيهم، ولكنه أراد أن يعرفهم ما في المشورة من البركة".
• ...
وسئل الحسن البصري عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين"، فقال: "أراد لا تستشيروا المشركين في أموركم ولا تأخذوا برأيهم".
• ...
وقيل: المشاورة حصن من الندامة، وأمن وسلامة.
الاستشارة من المواطن التي أبيحت فيها الغيبة، فإذا استشارتك امرأة مثلاً أورجل في خطبة فعليك أن تخبره بما تعلمه عن الخطاب، فعندما استشارت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي الجهم ومعاوية وقد خطباها، بيَّن لها الصادق الأمين ما في كل منهما من العيوب، فقال لها: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن كاهله، ولكن انكحي أسامة بن زيد"، تقول: فتزوجته واغتبطت به.
فعلى المستشير أن لا يسفه ما أشير به عليه.
فعليك أخي الكريم أن لا تتحرج في ذلك، ولا تتردد أن تقول كل ما تعرفه عمن سئلت عنهم، واستشرت فيهم، وعليك كذلك أن لا تداهن المستشير وتجامله، وعليك تبيين الحق له، وأن ترده إلى صوابه ورشده.
قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله لبعض ولده: "ولا تشر على مستبد، ولا على عدو، ولا على متلون، ولا على لجوج، ولا تكونن أول مستشار، ولا أول مشير، وإياك والرأي الفطير، وخف الله في المستشير، فإن التماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منك خيانة".
ما يتعين على المستشار
يتعين على المستشار الآتي:
1. الاجتهاد في النصح.
2. أن لا يكتمه شيئاً.
3. أن لا يبوح بسره للآخرين.
ويتعين ذلك على كل مسلم استشير في أمر من الأمور الخاصة أوالعامة، سيما على:
1. وزراء ومستشاري ولاة الأمر.
2. بيوت الخبرة، ومكاتب دراسات الجدوى والاستشارات.
3. مجالس الإدارات.
تجرد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه(1/311)
من النماذج النادرة، والصور الفريدة في المشاورة والتجرد فيها ما فعله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وذلك عندما تقدم الحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم إلى المسيِّب بن نجية، كل يريد خطبة ابنته، فقال لهم: مكانكم حتى أعود؛ فأتى علياً، فقال: أتيتُ أمير المؤمنين لأشاوره، فقال علي: أما الحسين فمطلاق، ولا تخطئ النساء عنده، وأما الحسن فمعلق، زوِّج ابن جعفر؛ فزوجه فلامه الحسنان، فقال: أشار عليَّ أمير المؤمنين؛ فأتياه، فقالا: وضعت منا! قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المستشار مؤتمن".
=================000000
أخي الشاب احذر الاشتغال بتصنيف الخلق
المسلمون صنفان لا ثالث لهما: أهل السنة، وأهل القبلة
من العادات السيئة، والصفات الرذيلة المذمومة التي درج عليها بعض الشباب في الآونة الأخيرة وابتلوا بها الاشتغال بتصنيف العلماء، والدعاة، وطلاب العلم، والبحث والتنقيب عن تصوراتهم، واتجاهاتهم، وانتماءاتهم، ثم بعد ذلك تحديد المواقف منهم، وتتبع عثراتهم وزلاتهم، وتجريحهم، بل وتشريحهم، ثم نشر ذلك على الملأ بغرض التشهير، وإشانة السمعة، والتحذير منهم.
ومما يحزُّ في النفس أن القائمين بذلك مجموعة من الشباب المنتسبين إلى السنة والسلفية، وعلى من؟ على مجموعة من إخوانهم المنتسبين كذلك إلى السنة والسلفية، على من هم أكبر منهم سناً، وأكثر منهم علماً وورعاً، من العلماء، والمشايخ، والدعاة الفضلاء، غير مكتفين بما يلاقي هؤلاء من أعداء الملة والدين، مما يجعل ظلم هؤلاء على إخوانهم أشد مرارة من وقع الحسام المهند.
وبادئ ذي بدء يجب أن أؤكد على أمور، منها:
1. ليس هناك أحد معصوم سوى الرسل والأنبياء، والنصيحة مطلوبة ومرغوب فيها إذا التزم الناصح بالآداب الشرعية، وتخلق بالأخلاق الإسلامية، واتبع الطرق السوية.
2. أن المسلمين عند أهل السنة مصنفون إلى قسمين كبيرين لا ثالث لهما:
أ. أهل السنة: ويشمل هذا الصنف كل من اعتصم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعت عليه الأمة، وكان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد، والتصور، والعبادة، والسلوك، وقد سئل مالك عن أهل السنة، فقال: كل من سوى الخوارج، والقدرية، والرافضة؛ أوكما قال.
قال الشاطبي: (وقال رجل لأبي بكر بن عيَّاش: يا أبا بكر، من السُّني؟ قال: الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها).
ب. وأهل القبلة: وهم من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، وهو اسم شامل لمن عدى أهل السنة من أهل الأهواء، كالخوارج، والرافضة، والمعتزلة، والمرجئة، والقدرية، وغيرهم، ومن ثم فينبغي للسني أن تكون موالاته لأهل السنة أكبر من موالاته لغيرهم، لأنهم نقاوة المسلمين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
3. أن الإسلام نهى عن الخصومات والنزاعات في الدين.
4. من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وعدم اشتغاله بما لا مصلحة له فيه.
5. لا يعني الانتساب إلى أهل السنة انتفاء الفوارق بينهم أوتحريم الانضواء إلى جماعة معينة أو حلف من باب التعاون على البر والتقوى، طالما أنهم ملتزمون بما كان عليه السلف الصالح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعي إليه في الإسلام لأجبتُ".
وبعد..
ليت هذا التصنيف قائم على أسس بينة، وقواعد واضحة، بل في كثير من الأحيان يحكمه الهوى، وتمليه النظرة الحزبية الضيقة: "من ليس معنا فهو ضدنا"، ولا أدل على ذلك من تلك التصنيفات التي ابتدعوها وصدقوها، نحو تكفيري، سَرُوري، قطبي، وغيرها، التي لا تقل خطراً وضرراً من تصنيف الناس إلى وهابي، أوخامسي، وغيرهما، إذ الهدف من إطلاق هذه المصطلحات التحذير من أهلها، وازدراء من ينتسبون إليها، وإشانة سمعتهم، بحجة أن جميع هذه المسميات حادثة ومخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، بينما إذا دققت النظر تجد أن جلَّ من يُنسبون إلى هذه الأسماء ويلقبون بهذه الألقاب على منهج أهل السنة والجماعة في الجملة، مع تفاوت بينهم يمكن أن يتدارك، ونقص يمكن أن يتمم، هذا كله إذا افترضنا سلامة العقيدة والتصور، التي هي الأساس والمعيار، وما سواها تبع لها، نحو الوسائل والمناهج وطرق العمل، حيث يمكن للناس أن يأخذوا ويردوا فيها، ويقبلوا ويرفضوا منها، فمصطلح أهل السنة شمل جميع أتباع المذاهب السنية الأربعة وغيرهم مع اختلافات طفيفة بينهم، فهناك مدرسة فقهاء الحديث، والمدرسة التي غلب عليها القياس، وهناك أهل الظاهر الذين خالفوا أهل السنة في مصدر من مصادر التشريع وهو القياس حيث لم يعتدوا به، فما كان من أهل العلم إلا أن خطؤوهم في ذلك وبكتوا عليهم، ولكنهم لم يخرجوهم من جملة أهل السنة، إذ لا يمكن أن يخرج من أهل السنة أمثال داود بن علي الظاهري، ومحمد بن حزم، وهما هما.(1/312)
كذلك من أئمة أهل السنة المقتدى بهم والمستفاد من علمهم ومصنفاتهم طائفة من جلة أهل العلم، منهم على سبيل المثال لا الحصر الإمام النووي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وابن العربي المالكي، وابن الباقلاني، على الرغم من أشعريتهم واقترافهم للتأويل غير المحمود، فهم محسوبون على السنة، ومنسوبون إليها، مع اجتناب ما خالفوا فيه أهل السنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معدداً جهود الأشاعرة في كسر شوكة المعتزلة والجهمية، وذاكراً لبعض أعلامهم، كابن مجاهد، والباقلاني، والقلانسي، والأشعري: (وصار هؤلاء يردُّون على المعتزلة ما رده عليهم ابن كلاب، والقلانسي، والأشعري، وغيرهم من مثبتة الصفات، فيبينون فساد قولهم بأن القرآن مخلوق وغير ذلك، وكان في هذا من كسر سورة المعتزلة الجهمية ما فيه ظهور شعار السنة، وهو القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، وإثبات الصفات والقدر، وغير ذلك من أصول أهل السنة).
وإذا كان الشيخ محمد رشيد رضا سامحه الله على الرغم من تتلمذه على محمد عبده وتأثره به، وعلى الرغم من تضييقه لدائرة الغيبيات، وعقلانيته المفرطة، وتأثره ببعض الأفكار المغايرة لمذهب أهل السنة، كعقائد بعض المرجئة والمعتزلة التي سرت منه إلى بعض أهل السنة المعاصرين، يُعتبر من أهل السنة ومن السلفيين، الذين كانت لهم مجاهدات، وانتصارات لمذهب أهل السنة والجماعة لا ينكرها إلا جاحد.
مما لا شك فيه أن كثيراً من الذين يصنفهم بعض الشباب تصنيفات جائرة، ويرمونهم بشيء من البدع، وهم بريئون من ذلك براءة الذئب من دم ابن يعقوب، لم يذهبوا إلى ما ذهب إليه أمثال الأئمة الذين سلف ذكرهم، وإنما اجتهدوا في أمور خالفوا فيها بعض أهل العلم، وربما كان الحق معهم أومع غيرهم، فكل مجتهد إن كان من أهل الاجتهاد فهو مأجور، إما أجراً واحداً وإما أجرين، خاصة واجتهادهم ليس في المسائل العقدية وإنما في مسائل الفروع، وقد اختلف من هم خير منهم وتناظروا، وأدلى كل منهم بحجته، واحتفظ برأيه ووده لصاحبه، كما هو حال الإمام أحمد مع الشافعي في تكفير تارك الصلاة كسلاً وعدم تكفيره، ومع ذلك كان أحمد يقول: الشافعي حبيب قلبي؛ وكان الشافعي من جملة من يدعو لهم أحمد في السحر مع والديه، ويقابل الشافعي هذا الفضل بالعرفان بالجميل، فيثني على أحمد ويقول: خرجتُ من بغداد ولم أخلف بها أورع ولا أعلم ولا أزهد من أحمد بن حنبل؛ رحمهما الله، والأمثلة على ذلك من سير علماء السلف وتراجمهم لا تحصى كثرة، وفي تحملهم لخلاف بعضهم لبعض، ولرجوعهم إلى الحق، ولاعتذارهم عن إخوانهم من أهل العلم والفضل.
فلا ينبغي لأحد أن يُحَجِّر واسعاً، ولا يحل لأحد أن يحتكر مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يضيِّقه ليدخل فيه من شاء ويخرج منه من شاء، فتضليل مستوري الحال من عامة المسلمين دعك من أهل العلم العاملين من سمات أهل البدع والأهواء، وكذلك الهجر والتشهير بهم.
فعلى هؤلاء الشباب أن يشتغلوا بتزكية نفوسم، وترقية عباداتهم، وتهذيب أخلاقهم، وتحصيل ما فيه فائدة من العلوم الشرعية وغيرها، ومحاسبة أنفسهم، بدلاً من هذا التطاول على الآخرين، وتجسيد أخطائهم، ونشر زلاتهم، وبثها بين العالمين، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وشغلته عيوبه عن عيوب الآخرين، وأن يتسلحوا بالعلم، ويتدثروا بالورع، فهذا خير لهم من الجسارة والجرأة على عباد الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وصلى الله وسلم وبارك على الناصح الأمين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه الغر الميامين.
=================0
مفاهيم ينبغي أن تصحَّح هذا متشدد؟
هذا متشدد؟
بين التشدد - الغلو، والالتزام، والتفلت
الغلو والتشدد
النهي عن الغلو والتشدد في الدين
نماذج للغلو في الاعتقادات
نماذج للغلو في الأعمال
تشديدات ابن عمر رضي الله عنهما
التوسط والاعتدال
المتفلت
أسباب إطلاق لقب متشدد على البعض في هذا العصر
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وفضلك يا أرحم الراحمين.
هناك مفاهيم مغلوطة، وأحكام معكوسة، وتصنيفات ممقوتة، يطلقها بعض الناس على بعض العلماء، وطلاب العلم، والدعاة، لا يدركون خطورتها، ولا يعرفون ضررها، ولا يشعرون بمغبة حكايتها وترديدها وإشاعتها بين العامة، ولا ببشاعة نتائجها.(1/313)
منهم من يفعل ذلك بقصد ولإحن، ومنهم من يطلق تلك الأحكام لقلة علمه وضحالة فقهه، ومنهم من يعتقد أن كل من خالف ما تعارف عليه الناس، ودرجوا عليه، واعتادوه، وقلدوا فيه، ومشوا عليه، استحق أن يُصنف ويُحذر منه، سواء كان المخالف موافقاً لسلف الأمة، وملتزماً بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام أم لا؟ وسواء كان ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه مغايراً للمحجة البيضاء والحنيفية السمحة أم لا؟
من تلك التصنيفات الجائرة، والأحكام الباطلة، والنعوت الفارغة، إطلاق نعت ولقب "متشدد" على نفر من طلاب العلم الملتزمين المجتهدين، العاملين على رد الأمة إلى شرعها المصفى، وعقيدتها النقية، وطريقتها المرضية، وسبلها السوية.
ومن العجيب الغريب تباين الناس واختلافهم وتناقضهم في تصنيف الملتزمين بالسنة، العاملين لإحيائها وإشاعتها بين الناس، تصنيفاً متفاوتاً ومتغايراً جداً، فنفس الشخص الذي يطلق عليه البعض لقب "متشدد" يصفه آخرون بأنه متساهل، متهاون، مجامل، بل ومداهن، وذلك لاختلاف الموازين، واختلال المفاهيم، وقلة العلم والفقه والورع في الدين، فإرضاء الناس غاية لا تنال.
ومما يسلي النفس ويعزيها أن هذا المسلك قديم، وقد ابتلي به بعض العلماء الأخيار، والأئمة الأطهار، نظمنا الله في سلكهم، وحشرنا في زمرتهم، وجمعنا في مستقر رحمته بهم، منهم على سبيل المثال لا الحصر شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الشاطبي، والإمام ابن بطة، والإمام ابن منده رحمهم الله.
ولله در الإمام الشاطبي حين قال: (فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالف بالموافقة جارٍ مع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان، فمن وافق فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان، ومن خالف فهو المخطئ المصاب، ومن وافق فهو المحمود السعيد، ومن خالف فهو المذموم المطرود، ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية، ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية.
إلى أن قال:
فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس - فلابد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، إلا أن في ذلك العبء الثقيل، مع ما فيه من الأجر الجزيل – وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذاً بالله من ذلك، إلا أني أوافق المعتاد، وأعد من المؤالفين، لا من المخالفين، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليَّ القيامة، وتواترت عليَّ الملامة، وفوَّق إليَّ العتاب سهامه، ونسبتُ إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة، وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجاً لوجدتُ، غير أن ضيق العطن، والبعد عن أهل الفطن، رقى بي مرتقى صعباً، وضيق عليَّ مجالاً رحباً، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات، وإن خالفتُ السلف الأول.
وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب، أوخرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة، فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزي إليَّ بعض الناس، بسبب أنني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.
وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك شأن من السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب، وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال: هو بدعة، ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة؛ قيل له: فدعاءه للغزاة والمرابطين؟ قال: ما ارى به بأساً عند الحاجة إليه، وأما أن يكون شيئاً يصمد له في خطبته دائماً فإني أكره ذلك؛ ونص أيضاً العز بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.
وتارة أضاف إليَّ القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم.
وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم أوفي غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسط في كتاب الموافقات.
وتارة نسبتُ إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المتنصبين – بزعمهم – لهداية الخلق، وتكلمتُ للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.(1/314)
وتارة نسبتُ إلى مخالفة السنة والجماعة، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها – وهي الناجية – ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا عليَّ في جميع ذلك، أووهموا، والحمد لله على كل حال.
فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال: "عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخرسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقاً أومخالفاً، دعاني إلى متابعته علىما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك – كما يفعله أهل هذا الزمان – سماني موافقاً، وإن وقفت في حرف من قوله، أوفي شيء من فعله، سماني مخالفاً، وإن ذكرتُ في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجياً، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني سالمياً، وإن كان في الإيمان سماني مرجئياً، وإن كان في الأعمال سماني قدرياً، وإن كان في المعرفة سماني كرَّامياً، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبياً، وإن سكت عن تفسير آية أوحديث سماني ظاهرياً، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنياً، وإن أجبت بتأويل سماني أشعرياً، وإن جحدتهما سماني معتزلياً، وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شافعياً، وإن كان في القنوت سماني حنفياً، وإن كان في القرآن سماني حنبلياً، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار – إذ ليس في الحكم والحديث محاباة – قالوا: طعن في تزكيتهم، ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرأون عليَّ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنتُ جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئاً، وإني متمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الغفور الرحيم".
هذا تمام الحكاية، فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع، فقلما تجد عالماً مشهوراً أوفاضلاً مذكوراً إلا وقد نبذ بهذه الأمور أوبعضها، لأن الهوى قد يداخل المخالف، بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة، إنه غير صاحبها، ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله حتى ينسب هذه المناسب).
وما قاله هذان الإمامان قاله أبو القاسم عبد الرحمن بن منده الأصبهاني كما حكى عنه الذهبي في ترجمته: (قد عجبتُ من حالي، فإني وجدت أكثر من لقيته إن صدقتُه فيما يقول مداراة له سماني موافقاً، وإن وقفت في حرف من قوله، أوفي شيء من فعله، سماني مخالفاً، وإن ذكرتُ في واحد منهما أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك سماني خارجياً، وإن قرئ علي حديث في التوحيد سماني مشبهاً، وإن كان في الرؤيا سماني سالمياً.
إلى أن قال: وأنا متمسك بالكتاب والسنة، متبرئ إلى الله من الشَّبْه والمِثْل، والند والضد، والأعضاء والجسم والآلات، ومن كل ما ينسبه النسابون إليَّ، ويدعيه المدعون عليَّ من أن أقول في الله تعالى شيئاً من ذلك، أوقلته، أوأراه، أوأتوهمه، أوأصفه به).
من الظلم البين والتجني الواضح أن يصف المسلمُ أخاه بصفة هو بريء منها، وأن يرميه ويبهته بما ينفر الناس ويصدهم عنه بالظن والتخريص، من غير تثبت، ويحسبه هيناً وهو عند الله عظيم، لعدم استشعاره لخطورة ما يقول، ويذيع، وينشر، ولجريرة ما يقترف.
لذلك فإنه من الضرورة بمكان التعرف على حقيقة هذه المصطلحات، وتحديد مدلولاتها، حتى نكون على بينة من أمرها، وحتى لا نظلم إخواننا المسلمين ونبوء بغضب رب العالمين، لنميز ونفرق بين المتشدد، والمعتدل، والمتفلت.
فما المراد بالتشدد، والتوسط، والتفلت؟
الغلو والتشدد
أ . التشدد
قل ابن منظور: التشديد خلاف التخفيف، وشاده مشادة وشِداداً غالبه، وفي الحديث: "من يشاد هذا الدين يغلبه الدين"، أي من يقويه ويقاومه، ويكلف نفسه من العبادة فوق طاقته، والمشادة المغالبة، وهو مثل الحديث الآخر: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"، والمتشدد البخيل، كالشديد، قال طرفة:
أرى الموت يعتامُ الكرامَ ويصطفي عقيلة مالِ الفاحش المتشدد
ب . الغلو
مجاوزة الحد، قال ابن منظور : وغلا في الدين، والأمر يغلو غلواً، جاوز حده، وفي التهذيب: وقال بعضهم: غلوتَ في الأمر غلواً وغلانية، وغلانياً إذا جاوزت فيه الحد وأفرطتَ فيه.
وفي الحديث: "إياكم والغلو في الدين"، أي التشدد فيه ومجاوزة الحد.
ومنه الحديث: "وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه"، إنما قال ذلك لأن من آدابه وأخلاقه التي أمر بها القصد في الأمور، وخير الأمور أوسطها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
النهي عن الغلو والتشدد في الدين
لقد نهى الله ورسوله وحذرا الأمة من الغلو في الدين، في الاعتقادات، والأعمال، وجميع التصرفات.(1/315)
قال تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته".
وقال: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".
وقال: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلَّ الله لكم ولا تعتدوا".
وروى أحمد عن أنس يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق"، وصحَّ عنه أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وقولوا عبد الله ورسوله".
أقوال أهل العلم في المراد بالغلو والتشدد
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم" الآية: (يعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه رباً، فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر، ولذلك قال مطرف بن عبد الله: الحسنة بين سيئتين؛ وقال الشاعر:
وأوفِ ولا تستوفِ حقَّك كلَّه وصافح فلم يستوفِ قطُّ كريمُ
ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
وقال آخر:
عليك بأوساط الأمور فإنها نجاةٌ ولا تركب ذلولاً ولا صعباً).
وقال المناوي رحمه الله في شرح الحديث: "إياكم والغلو في الدين": (أي التشدد فيه ومجاوزة الحد، والبحث عن غوامض الأشياء، والكشف عن عللها، وغوامض متعبداتها، "فإنما أهلك من كان قبلكم" من الأمم "الغلو في الدين"، والسعيد من اتعظ بغيره، وهذا قاله غداة العقبة وأمرهم بمثل حصى الخذف، قال ابن تيمية: قوله "إياكم والغلو في الدين" عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقادات والأعمال، والغلو مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء أوذمه على ما يستحق، ونحو ذلك، والنصارى أكثر غلواً في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن بقوله: "لا تغلوا في دينكم"، وسبب هذا الأمر العام رمي الجمار، وهو داخل فيه مثل الرَّمي بالحجارة الكبار على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بقوله بما يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقاً أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه الهلاك).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: (بدء الشرائع كان على التخفيف، ولا يعرف في شرع نوح وصالح وإبراهيم عليهم السلام تثقيل، ثم جاء موسى عليه السلام بالتشديد والإثقال، وجاء عيسى عليه السلام بنحوه، وجاءت شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بنسخ تشديد أهل الكتاب، ولا تنطق بتسهيل من كان قبلهم فهي على غاية الاعتدال).
وقال ابن القيم رحمه الله عن غلو النصارى: (ومعلوم أن هذه الأمة – القضبية – ارتكبت محذورين عظيمين، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة.
أحدهما: الغلو في المخلوق حتى جعلوه شريك الخالق وجزءاً منه وإلهاً آخر معه، وأنفوا أن يكون عبداً له.
والثاني: تنقص الخالق وسبه، ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه – سبحانه وتعالى عن قولهم علواً كبيراً – نزل من العرش عن كرسي عظمته، ودخل فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو، وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل رضيعاً صغيراً يمص الثدي، ولف في القُمُط، وأودع السرير، يبكي ويجوع ويعطش، ويبول ويتغوط، ويحمل على الأيدي والعواتق، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصفوا قفاه، وصلبوه جهراً بين لصين، وألبسوه إكليلاً من الشوك، وسمَّروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام، هذا وهو إله الحق الذي بيده أتقنت العوالم، وهو المعبود.
ولعمر الله هذه مسبة لله سبحانه وتعالى ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم، كما قال تعالى فيما يحكي عنه رسوله الذين نزهه ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذي: "تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً"، فقال: "شتمني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته".
وقال عمر رضي الله تعالى عنه في هذه الأمة: "أهينوهم ولا تظلموهم، فقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر").
نماذج للغلو في الاعتقادات
صور الغلو في الاعتقادات التي نهى الشارع عنها وحذر منها سداً للذريعة كثيرة جداً، ولكن سنشير إلى بعضها ليُقاس عليها:
1. اعتقاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، وأنه خلق من نور، وأنه حي في قبره كحياته قبل موته، وأنه يُرى يقظة بعد موته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله".
2. التوسل والاستغاثة بذات الأنبياء والمرسلين أوبجاههم أحياء وأمواتاً.(1/316)
3. التعلق بقبور الأنبياء ومن يعتقد فيهم الصلاح، والدعاء عندها، والصلاة إليها، والطواف بها.
4. البناء على القبور وإيقاد السرج عليها.
نماذج للغلو في الأعمال
1. تحريم ما أحل الله لعباده، كالذي يحرم على نفسه أكل اللحم، أوالزواج، ونحو ذلك.
2. الغلو في العبادة، كمن يعزم على صيام النهار وقيام الليل كله.
جاء في سبب نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنه لا يحب المعتدين" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني إذا أصبت اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي، فحرمت اللحم؛ وقيل إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر، وعلي، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبوذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرِّن، رضي الله عنهم، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقيموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، ولا يقربوا النساء والطيب، ويسيحوا في الأرض ويترهبوا.
وخرج مسلم في صحيحه عن أنس أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء؛ وقال بعضهم: لا آكل اللحم؛ وقال بعضهم: لا أنام على الفراش؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
قال القرطبي: (قال علماؤنا رحمة الله عليهم: في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين، إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه، قال الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، إذا خاف على نفسه بإخلال ذلك لها بعض العنت والمشقة، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم).
تشديدات ابن عمر رضي الله عنهما
كان ابن عمر رضي الله عنهما يأخذ من التشديدات بأشياء لم يوافقه عليها كبار الصحابة، كالخلفاء الراشدين وغيرهم.
ولهذا عندما طلب المنصور من مالك رحمهما الله أن يضع كتاباً ليحمل عليه جميع الأمة ويمنع ما سواه، وكان ذلك حوالي عام 148هـ، أوصاه أن يتجنب فيما يدونه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود رضي الله عنهم.
روى ابن عبد البر بسنده إلى محمد بن سعد قال: (سمعتُ مالك بن أنس يقول: لما حج أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلت عليه فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: إني عزمتُ أن آمر بكتبك هذه التي قد وضعت، يعني الموطأ، فتنسخ نسخاً ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث، فإني رأيتُ أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم، قال فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم؛ فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرتُ به).
قلت: هذه القصة تدل على إنصاف مالك رحمه الله لإخوانه العلماء، وعلى تواضعه وورعه، وعلى عمق فقهه، لأن حمل الناس على قول واحد فيه من المشقة والعناء ما فيه.
من تشددات ابن عمر رضي الله عنهما ما ذكره ابن القيم وغيره، والتي لم تؤثر عن أبي بكر وعمر ولا غيرهما من كبار الصحابة، ما يأتي:
1. كان ابن عمر رضي الله عنهما يقضي حاجته في نفس المكان الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته في غزواته وأسفاره إذا مر بها.
2. وكان يربط دابته في نفس الشجرة التي ربط فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته.
3. وكان يصوم يوم الغيم ليلة تسع وعشرين من شعبان احتياطاً، وكان ابن عباس لا يصومه.
4. وكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي.
5. وكان يأخذ لمسح أذنيه ماءً جديداً، والراجح أن الأذنين يمسحان بما أخذ لمسح الرأس.
6. كان يمنع من دخول الحمام، وكان إذا دخله اغتسل منه، وكان ابن عباس يدخل الحمام.
7. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يتيمم بضربتين، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وهو مذهب مالك، ولا يقتصر على ضربة واحدة وهو الأرجح، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يخالفه في ذلك.(1/317)
8. وكان ابن عمر يتوضأ من قبلة امرأته ويفتي بذلك، وكان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى، وكان ابن عباس يقول: ما أبالي قبلتهما أوشممتُ ريحاناً.
9. وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في صلاة أخرى أن يتمها، ثم يصلي الصلاة الفائتة، ثم يعيدها، وهذا مذهب مالك.
10. وكان إذا فاتته ركعة مع الإمام سجد سجدتي السهو بعد قضاء صلاته.
11. وكان يأمر الحائض أن تنقض شعرها للغسل عندما تطهر، فقالت عائشة: هلا أمرها أن تحلق شعرها!
قال ابن القيم رحمه الله: (وكذلك كان هذان الصحابيان الإمامان أحدهما يميل إلى التشدد والآخر إلى الترخيص، وذلك في غير مسألة).
قلت: هؤلاء الصحابة الثلاثة من كبار علماء الصحابة، وقد أخذ عنهم المسلمون دينهم، بل كل فقه الكوفة أخذ من علي وابن مسعود، وكذلك فقه الحجاز جله أخذ من شيخي الصحابة في وقتهما ابن عمر وابن عباس، وهذه المآخذ لا تغض من مكانتهم العلمية، فقط علينا أن لا نقتدي بهم في ذلك.
التوسط والاعتدال
المعتدل المتوسط هو الذي يكون ملتزماً بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف الصالح لا يحيد عن ذلك أبداً، بين التشديد والتخفيف، إذ الحسنة بين سيئتين، فلا إفراط ولا تفريط، وهذا ما عليه أهل السنة قاطبة، متجنباً ما يأتي:
1. الأقوال الشاذة.
2. رخص وزلات أهل العلم.
3. اتباع الهوى.
4. تقليد أحد الناس في كل ما يقول سوى الرسول صلى الله عليه وسلم.
5. الابتداع في الدين.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً": (أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" قال: "عدلاً"، قال: هذا حديث حسن صحيح؛ وفي التنزيل: "قال أوسطهم"، أي أعدلهم وخيرهم.
إلى أن قال: ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً، أي هذه الأمة لم تغلُ غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبياءئهم، وفي الحديث: "خير الأمور أوسطها"، وفيه عن علي رضي الله عنه: "عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل").
وقال الشاطبي في تعريف الوسطية: (المفتي البالغ الذروة الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم، الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.
وأيضاً فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأكرمين، وقد رد عليهم عليه الصلاة والسلام التبتيل، وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: "أفتان أنت يا معاذ"، وقال: "إن منكم منفرين"، وقال: "سدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدُّلجة، والقصد القصد تبلغوا"، وقال: "عليكم بالعمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا"، وقال: أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا.
وأيضاً فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً).
روى جابر رضي الله عنهما قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط، فقال: هذا سبيل الله – ثم تلا هذه الآية: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله"؛ وهذه السبل تشمل اليهودية والنصرانية، والمجوسية، وسائر أهل الملل، وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد كما قال ابن عطية.
المتفلت
هو المتبع لهواه، الذي لا يدور مع الدليل حيث دار، ولا يكلف نفسه باتباع الأرجح الأقرب إلى السنة بالاجتهاد في أقوال المفتين ولو كان أمياً، فاتباع الهوى يحدث بالآتي:
1. التقليد لما تهواه نفسه، والتذرع باتباع أحد الأئمة المقتدى بهم قديماً أوحديثاً.
2. أوبالتشهي في اختيار الأقوال.
3. أوبتتبع الرخص والزلات.
4. أوباتباع ما لا يسبب له حرجاً مع مجتمعه ولا يخالف ما ألفه الناس واعتادوه.
5. أوعن طريق التزيين والتقبيح العقلي.
6. أوبالجدل والمراء.
7. أوعن طريق تقليد الآباء والأجداد.
أسباب اتباع الهوى كثيرة ولا يمكن الإحاطة بها، ولكن أخطرها ما يأتي:
1. الجهل بمصدر وكيفية التلقي في الشرع.
2. عدم تلقي العلم من المشايخ الملتزمين بمنهج السلف الصالح.
3. اتخاذ الرؤوس الجهال.
4. التعامل مع الكتب مباشرة.
5. غياب الأدب والسلوك، أي تزكية النفوس.(1/318)
6. التمذهب والتحزب و"التشرذم" جعل كل حزب بما لديهم فرحون.
7. ندرة المشايخ المقتدرين القدوة الأكفاء.
8. الغرور والاستكبار.
9. الاستهانة بالابتداع في الدين.
أسباب إطلاق لقب متشدد على البعض في هذا العصر
بالاستقراء يمكننا أن نشير إلى أهم الأسباب التي دعت البعض إلى تصنيف بعض العلماء وطلاب العلم وغيرهم إلى متشددين، أومتحجرين، أومتزمتين، أوغالين، إلى آخر هذه القائمة من الألفاظ والألقاب غير المنضبطة من جهة، بينما يوصف غيرهم بالمستنيرين، ولقائل أن يقول بالمتفلتين، أوالمتساهلين، أوالمداهنين المسايرين لما تهواه العامة، ولما يتمشى مع مجريات العصر، ولا يوقع في حرج من جهة أخرى، التزامُ الأولين وتمسُّكهم واقتداؤُهم بما كان عليه سلف هذه الأمة في أمور عقدية، أومسائل انعقد عليها إجماع الأمة واتفاقها بعد خلاف دام قليلاً، وذلك لأن الحق عند الله سبحانه وتعالى واحد لا يتعدد، وكل مجتهد مأجور إذا كان من أهل الاجتهاد، وحاز أدواته، وكان على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد والتعبد والسلوك، أما أهل الأهواء قديماً وحديثاً فهم غير داخلين ولا معدودين في سلك المجتهدين، ومن أطلق لفظ كل مجتهد مصيب فمراده أنه مأجور غير آثم، أما أن يكون الحق عند الله عز وجل متعدداً فهذا لا يقول به عاقل، دعك عن مجتهد مقتدى به.
والأسباب التي توصل إليها بالاستقراء ونتج عنها هذا التصنيف الجائر والحكم الخاسر من غير ذكر أدلتها لأن المقام لا يتسع لذلك هي:
أولاً: وصف الله سبحانه وتعالى بكل صفات الجلال والكمال، وبكل ما وصف به نفسه أووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، وهذا ما كان عليه السلف قاطبة في القرون الثلاثة الفاضلة، وعليه الخلف الصالح ظاهرين إلى أن تقوم الساعة.
ثانياً: منعهم للتوسل غير المشروع، وهو التوسل بذات وجاه الأنبياء والمرسلين والصالحين، الأحياء منهم والميتين.
ثالثاً: عدم الحرج من إطلاق لفظ الشرك أوالكفر على من أكفرهم الله ورسوله، لتعاطيهم أسباب ذلك مع توفر الشروط وانتفاء الموانع، لأن الإكفار ملك للشارع الحكيم.
رابعاً: حرصهم على الهدي الصالح والسمت الصالح الذي هو جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، كما أخبر الصادق المصدوق، والمتمثل في إعفاء اللحى، وقص الشوارب، وتقصير الثياب، ولبس القمص والسراويل والعمائم، التي أضحت غيظاً للكافرين والمنافقين، وشعاراً لعباد الله الصالحين.
مما يدل على أهمية السمت الصالح في الدين ما قاله حامي الكفر والوثنية في هذا العصر بوش أمام الكونغرس عن حال "الاتحاد اليهودي المسيحي" بتاريخ 29/1/2002، حيث أعلن الحرب الصليبية على الإسلام والمسلمين: (ولن يخضع الرجال بعد الآن لشرط إطلاق اللحى، ولن تخضع النساء لشرط تغطية وجوههن وأجسادهن)، خاب فأله وخسرت آماله.
خامساً: حرصهم على تصحيح العقيدة من الممارسات الشركية، والاهتمام بنشرها وتعليمها للناس.
سادساً: محاربتهم للبدع والمحدثات في العبادات.
سابعاً: إفتاؤهم بتحريم الغناء، والموسيقى، والسماع الصوفي المصحوب بالتلحين والآلات الموسيقية.
ثامناً: حرصهم وإفتاؤهم بوجوب الحجاب على النساء، ونهيهم وتحذيرهم عن التبرج والسفور والاختلاط بالأجانب.
تاسعاً: تحذيرهم من زلات، وهفوات، وسقطات أهل العلم.
عاشراً: الالتزام بظواهر النصوص وعدم تفريغها من معانيها والتوسع في التأويل من غير دليل.
أحد عشر: إفتاؤهم بتحريم الإسبال على الرجال سواء كان مصحوباً بخيلاء وتكبر أم لا.
الثاني عشر: نهيهم وتحذيرهم عن تصوير ما فيه روح والاشتغال والتكسب بذلك لأنه من الكبائر.
الثالث عشر: نهيهم وتحذيرهم عن تقليد الرجال في كل ما يقولون وأنه ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
الرابع عشر: هجرهم لأهل البدع والفسوق المجاهرين ببدعهم وفسقهم.
الخامس عشر: ذمهم للرأي والقياس في معارضة النصوص الصحيحة الصريحة.
السادس عشر: اعتقادهم أن ليس كل خلاف يستراح له ويعمل به.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تحت عنوان: "خطأ من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف": (وقولهم: "إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى، أوالعمل، أما الأول في إذا كان القول يخالف سنة أوإجماعاً وجب إنكاره اتفاقاً، إن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان خلاف سنة أوإجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أوسنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أومقلداً.(1/319)
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.
والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها – إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به – الاجتهاد لتعارض الأدلة أولخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم: إن هذه المسألة قطعية أويقينة ولا يسوغ فيها الاجتهاد طعن على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب، والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثيرة، مثل – فذكرها:
1. الحامل تعتد بوضع الحمل، ولو كان المتوفى لم يدفن بعد، خلافاً لما كان يفتي به علي وابن عباس رضي الله عنهم.
2. إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، هذا بالنسبة للمطلقة ثلاثاً، لا تحل لزوجها الأول إلا بعد معاشرة الثاني لها.
3. أن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، نسخاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الماء من الماء".
4. وأن ربا الفضل حرام، وقد توقف في حرمته ابن عباس أولاً ثم رجع إلى قول العامة.
5. وأن المتعة حرام، يريد رحمه الله متعة النساء التي أجازها الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، ثم عاد فحرمها في غزوة خيبر، هي والحمر الأهلية، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول بحلها حيناً، ولكن سرعان ما عاد إلى قول العامة عندما روجع في ذلك، وهذا هو اللائق بحبر الأمة وترجمان القرآن، وبهذا أجمع أهل السنة قاطبة، بحرمة متعة النساء، وبأنها أخت الزنا، ولم يبحها إلا أهل الأهواء الرافضة، وقد بلغت وقاحتهم وانحطاطهم أن أباحوها مع الرضيعة شريطة عدم الإيلاج!! فنعوذ بالله من الخذلان.
6. أن النبيذ المسكر حرام، خلافاً لمن قال بإباحته من أهل الكوفة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخمر ما خامر العقل، وكل مسكر خمر"، أوكما قال، فالحمد لله الذي لم يتعبدنا بأقوال الرجال، ولا بتقليدهم في كل ما يقولون.
7. أن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً، لم ينكر ذلك إلا أهل الأهواء من الرافضة والخوارج الذين لم يحفل باتفاقهم، ولا يحزن لاختلافهم، بل إن المسح على الجوارب، والعمامة، والخمار، رخصة أخذ بها طائفة من أهل العلم، وعمل بها كبار الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.
8. أن المسلم لا يقتل بكافر، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، لأن نفس الكافر ليست مكافئة لنفس المؤمن.
9. أن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق الذي نسخ، وهو وضع الكفين بين الركبتين، الذي كان يقول به ابن مسعود رضي الله عنه، لأن حديث النسخ لم يبلغه، وإلا لما تعداه.
1. أن رفع اليدين – الترويح – عند الركوع والرفع منه سنة، وقد صح ذلك عن عدد كبير من الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون، وفي مذهب مالك روايتان في الترويح والقبض، أصحهما القول بالترويح والقبض، وهذا مذهب المدنيين والشاميين من المالكية، ورواه ابن وهب عن مالك، ولكن أشهر المالكية رواية ابن القاسم عن مالك في عدم القبض والترويح، وفي ذلك إجحاف وظلم على أتباع المذهب المالكي، فعلى علماء المالكية أن يذكروا الروايتين عن مالك، سيما وأن رواية القبض والترويح هي الأصح، وآخر ما أثر عن مالك كما قال العلماء المحققون، بجانب موافقتها للسنة الصحيحة ولعامة أهل العلم، وقد رواهما عنه ابن وهب.
11. أن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، أي أن الجار أولى بشراء أرض وعقار جاره بسعر المثل إلا إذا لم يرغب في ذلك أوعَجَز عن سعر المثل.
12. الوقف – وهو الحبس – صحيح لازم، خلافاً لما قاله أبو حنيفة رحمه الله، وأن الوقف على شرط صاحبه، ولا يصح نقله عن غير ما حدده صاحبه أوالتلاعب فيه كما هو حادث الآن، فهناك أوقاف كثيرة بيعت واستبدلت عن طريق جهات رسمية وغير رسمية، وهذا حرام ولا يحل أبداً، فعلى المسؤولين ونظار الوقف أن يتقوا الله في أنفسهم وفي الواقفين والموقوف عليهم.
13. أن دية الأصابع سواء، وهي عشرة من الإبل، لا فرق بين إبهام، وسبابة، ووسطى، وخنصر، وبنصر، ولا بين أصابع اليدين والرجلين.
14. أن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، خلافاً للاحناف الذين قالوا لا تقطع إلا في عشرة دراهم لصحة الخبر في القول الأول.
15. أن الخاتم من الحديد يجوز أن يكون صداقاً، لم يحدد الشارع قدراً للصداق، أي المهر، فيجوز أن يكون قليلاً أوكثيراً، ولكن السنة دلت على عدم المغالاة، ونهت وحذرت من ذلك، وما اشتهر على ألسنة بعض الخطباء وأئمة المساجد من أن عمر نهى عن المغالاة في المهور فقامت امرأة وقالت رادة عليه: يعطينا الله وتحرمنا؛ فقال: أخطأ عمر وأصابت امرأة؛ ليس له أساس من الصحة، ولم يرد في ديوان من دواوين السنة، وإنما وجد في بعض التفاسير، وما قاله عمر هو السنة، وهو الحق، فلا ينبغي للخطباء والوعاظ أن يحلوا وعظهم وخطبهم بما لم تثبت صحته.(1/320)
16. أن التيمم إلى الكوعين مع الوجه ضربة واحدة جائز، بل هو الراجح، وقد ذهب ابن عمر إلى أنه ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وتبعه مالك في ذلك.
17. أن صيام الولي عن الميت يجزئ عنه، سيما في النذر، والله أعلم.
18. أن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وكان بعض أهل العلم يقول: التلبية تقطع قبل ذلك.
19. أن المُحْرِمَ له استدامة الطيب دون ابتدائه، بمعنى لو تطيب قبل إحرامه وبقي أثر الطيب عليه بعد الإحرام فلا شيء عليه.
20. أن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره "السلام عليكم ورحمة الله"، لا أن يكتفي بقول "السلام عليكم" فقط وإلى جهة اليمين دون اليسار، وهذا القول مرجوح.
21. أن خيار المجلس ثابت، وذلك لتفسير ابن عمر راوي الحديث أن التفرق بالأبدان، وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إلى أن التفرق بالكلام، ولهذا لم يأخذوا بخيار المجلس، والصواب الأخذ بخيار المجلس.
22. أن المصراة يرد معها عوض من اللبن صاعاً من تمر.
23. أن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وهي ركعتان كل ركعة ركوعان وسجودان.
24. أن القضاء – أي الحكم – جائز بشاهد واحد ويمين.
بهذا اتضح لنا أن إطلاق لفظ متشدد أوتصنيف البشر إلى متشددين وغير متشددين نتيجة الالتزام بما صح عن الله ورسوله وما أجمعت عليه الأمة من الظلم الواضج، والجهل الفاضح، والتعدي البين، وأن الملتزمين بما كان عليه سلف هذه الأمة هم المعتدلون المتوسطون المحمودون، وأن من سواهم من الغالين المتشددين، أوالمتساهلين المتهاونين المقصرين المفرطين هم المذمومون المؤاخذون، وأن بيان هذا التوضيح ونشره بين الناس من باب النصيحة الواجبة.
وعلى المسلم أن يتقي الله في نفسه، وفي إخوانه المسلمين، وأن لا يكون همه تصنيف الخلق والحكم عليهم بغير وجه حق، وليعلم أن عليه رقيب عتيد، وأنه لن تزول قدماه عن الصراط حتى يسأل عن ذلك، وحتى يقتص منه لمن وسمهم بهذه السمة، وانتقصهم بالتشدد والتنطع والغلو مع براءتهم وسلامتهم من هذا السلوك المشين والخلق غير المستقيم، واحذر شهادة الزور وقول الزور الذي سيكتب عليك وتسأل عنه.
وتذكر قول الله في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"، والأولياء هم العلماء كما قال أبو حنيفة والشافعي: "إن لم يكن العلماء هم الأولياء فليس لله ولي"، فلحوم العلماء مسمومة، ورحم الله الحافظ ابن عساكر عندما قال ناصحاً لإخوانه المسلمين ومبيناً خطورة الطعن والتشكيك في العلماء وانتقاصهم: اعلم أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم".
واحذر أن ينطبق عليك قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت"، فالبعض يغلو ويعظم من يجب أن يُهجروا ولا يُوالوا، وينتقص ويعيب من تجب عليه موالاتهم ومحبتهم، فقط اتباعاً للهوى والاستلطاف، ولحمية، سيما وأن الفاصل بين الحق والباطل قد يكون شعرة.
والله أسأل أن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجنبنا الهوى والفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه
=================0000000
سعادة الدَّارين في برِّ الوالدين
تعريف البر
حكم بر الوالدين
فضل بر الوالدين
الأم مقدمة في البر على الأب
ما يُطاع فيه الوالدان وما لا يُطاعان فيه
ما لا يعمل إلا بعد إذن الوالدين
أولاً: السفر لطلب علم مندوب أومباح
ثانياً: السفر للحج والعمرة
ثالثاً: الخروج إلى الجهاد
الأدلة على أن الجهاد إن كان فرض كفاية فلا يخرج إليه إلا بعد إذن والديه
رابعاً: الهجرة
خامساً: السفر للعمل والتجارة
ما يستحب فيه رضا الوالدين ولا يجب
أولاً: الزواج
ثانياً: الطلاق
ما يختص به الوالد في ولده دون غيره
هذا الرفق وتلك المداراة واجبة مع الوالدين حتى في حال الأمر والنهي
بمَ يكون برُّ الوالدين؟
أولاً: المسلمين
ثانياً: الكافرين أوالمشركين
فضل وثواب بر الوالدين في الدنيا والآخرة
جزاء الوالدين
تعريف العقوق
عقوبة العاق لوالديه
من صور العقوق
نماذج للأبناء البررة
نماذج للأبناء العاقين
المراجع
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.(1/321)
ليس هناك حق بعد حقوق الله ورسوله أوجب على العبد ولا آكد من حقوق والديه عليه، ولهذا فقد أمره الإسلام ببرهما والإحسان إليهما، وقرن ذلك بعبادته وطاعته، فقال عز من قائل: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"ً، ونهى وحذر من عقوقهما، وعصيانهما، والإساءة إليهما، وعدَّ ذلك من أكبر الكبائر وأعظم العظائم، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبُّ الرجل أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبُّ أمه فيسبّ أمه"
بل قرَنَ شكرهما بشكره، فقال: "أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير"، فمن لا يشكر لوالديه فإن الله غني عن شكره، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثلاثة مقرونة بثلاثة، قال تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة الواجبة لا تقبل له صلاة، وقال: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لا يقبل الله طاعته، وقال: "أن اشكر لي ولوالديك"، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لا يقبل الله شكره"، أوكما قال.
بل جعل رضاه في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما.
فالسعيد السعيد من وفق بعد تقوى الله عز وجل لبر والديه – أحياءً وأمواتاً – والإحسان إليهما، والشقي التعيس من عقَّ والديه وعصاهما وأساء إليهما ولم يرع حقوقهما، فبر الوالدين سبب من أسباب دخول الجنة، وعقوقهما من أقوى أسباب دخول النار: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه".
عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أصبح مطيعاً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة، وإن واحداً فواحد، ومن أصبح عاصياً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار، وإن كان واحداً فواحد؛ قال رجل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه".
فيا سعادة البارين بوالديهم، ويا تعاسة العاقين لهما، إن كنت أخي المسلم باراً فازدد في برك لهما أحياءً وأمواتاً، وإن كنتَ عاقاً فعليك أن تتوب من هذا الذنب العظيم، وتحاول إدراك ما يمكن إدراكه، واعلم أنك كما تدين تدان، ولله در القائل: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم.
واحذروا أيها الأبناء والبنات عقوق الأمهات، فإن برهن وحقهن آكد من بر الآباء وحقهم، واعلموا أنه ما من جرم يعجِّل لصاحبه العذاب في الدنيا مع ما يُدَّخر له في الآخرة أخطر من عقوق الوالدين وقطيعة الرحم.
من فضل الله علينا ورحمته بنا فإن بر الوالدين لا ينقطع بموتهما، وإنما يستمر بالدعاء والاستغفار والتصدق لهما، وبصلة أقاربهما وأرحامهما، وبصدق التوبة والندم على ما مضى من تقصير، فإن فاتك برهما أوأحدهما أحياء فلا يفتك استدراك ما يمكن استدراكه وتحصيل ما يمكن تحصيله، قبل أن يُحال بينك وبين ما تشتهي، حين تأتيك المنون، وتبلغ الروح الحلقوم، وتحرم عما كنت تروم.
تعريف البر
البر كلمة جامعة لخيري الدنيا والآخرة، وبر الوالدين يعني الإحسان إليهما وتوفية حقوقهما، وطاعتهما في أغراضهما في الأمور المندوبة والمباحة، لا في الواجبات والمعاصي، والبر ضد العقوق، وهو الإساءة إليهما وتضييع حقوقهما.
ويكون البر بحسن المعاملة والمعاشرة، وبالصلة والإنفاق، بغير عوض مطلوب.
تعريف الوالدين
الوالدان هما الأب والأم، سواء كانا من نسب أورضاع، مسلمين كانا أم كافرين، وإن عليا، فالأجداد والجدات، آباء وأمهات، سواء كانوا من قبل الأب أوالأم، والخالة بمنزلة الأم كما صح بذلك الخبر.
حكم بر الوالدين
بر الوالدين فرض واجب، وعقوقهما حرام ومن الكبائر.
دليل الحكم
الكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب قوله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً".
وقوله: "ووصينا الإنسان بوالديه
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل قائلاً: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك"، وفي رواية: "ثم أدناك أدناك".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أوكليهما، فلم يدخل الجنة".
وقد أجمعت الأمة على وجوب بر الوالدين وأن عقوقهما من أكبر الكبائر.
فضل بر الوالدين
بر الوالدين والإحسان إليهما من أقوى الأسباب لدخول الجنة، ولنيل رضا الله عز وجل، وقد ورد في ذلك العديد من الآيات والأحاديث والآثار، نشير إلى طرف منها:
1. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها؛ قلت: ثم أيُّ؟ قال: بر الوالدين؛ قلت: ثم أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله".
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزئ ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه".(1/322)
3. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه".
الأم مقدمة في البر على الأب
ذهب أهل العلم في هذه المسألة مذهبين، هما:
1. الأب والأم يستويان في البر، وهذا مذهب مالك.
2. للأم ثلاثة أضعاف البر، وللأب ضعف، وهذا مذهب الليث بن سعد.
استدل من قدَّم الأم على الأب في البر بحديث: "من أحق الناس بحسن صحابتي"، حيث قال له: "أمُّك" ثلاثاً، وفي الرابعة قال: "أبوك"، وبغيره.
ورد عليهم القائلون بتسوية الوالدين في البر أن المراد بذلك التأكيد على بر الأم، لتهاون الأبناء في بر أمهاتهم أكثر من تهاونهم في بر آبائهم.
أقوال العلماء
قال القرطبي رحمه الله معلقاً على الحديث: "من أحق الناس بحسن صحابتي": (فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأم ثلاث مرات، وذكر الأب في الرابعة فقط، وإذا توصل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب، ورُوي عن مالك أن رجلاً قال له: إن أبي في ا، وقد كتب إليَّ أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له: أطع أباك ولا تعصٍ أمك؛ فدل قول مالك هذا على أن برهما متساوٍ عنده، وقد سئل عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها ثلثي البر، وحديث أبي هريرة – السابق – يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر، وهو الحجة على من خالف، وقد زعم المحاسبي في كتاب "الرعاية" له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع، على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله أعلم).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة السابق في الفتح: (قال ابن بَطَّال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم، وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين"، فسوى بينهما في الوصية، وخص الأم بالأمور الثلاثة، قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة؛ وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك، والصواب الأول، قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحاً في ذلك، فقد ذكره ابن بطال، فقال: سئل مالك: طلبني أبي، فمنعتني أمي؛ قال: أطع أباك ولا تعصٍ أمك؛ قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء، كذا قال، وليست الدلالة على ذلك واضحة، قال: وسئل الليث يعني عن هذه المسألة بعينها، فقال: أطع أمك فإن لها ثلثي البر؛ وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذكر الأم فيه إلا مرتين، وقد وقع كذلك في رواية محمد بن فضيل بن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الباب، ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب فيما أخرجه المصنف في "الأدب المفرد"، وابن ماجة، وصححه الحاكم، ولفظه: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب"، كذا وقع في حديث بَهْز بن حكيم).
وقال فضل الله الجيلاني في توضيح الأدب المفرد: (الأم مقدمة في الإجماع في البر على الأب، وأن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، وذلك لتحمل المشاق في الحمل والوضع حتى تكاد تموت، ولا أقل من أن تذوقه في كل وضع إذا ضربها الطلق، ثم المحنة زمن الرضاع إلى أن يكبر الولد ويستغني عن خدمتها، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في الإنفاق والتربية وأنواع من المؤنة والخدمة – كذا ذكره السيوطي – أخذ ذلك من تكرار حق الأم، والأظهر أن يكون تأكيداً ومبالغة في رعاية حق الأم، وذلك لتهاون أكثر الناس في حق الأم بالنسبة إلى الأب، لأن أمر الأم كله في البيت تحت الستور ولا يطلع عليه الناس، فيجترئ الناس على عقوقها أكثر من عقوق الوالد حياء من الناس، وكذا قوته تزجر عن الجرأة عليه، وضعفها يحمل الدنيء على الإساءة إليها، ولا يبعد أن الشريعة بالغت في البر بها أكثر من البر بالأب مواساة لها ومراعاة لضعف قلوب النساء وشفقة على الولد، مع أن الأب ليس أنقص حقاً من حقوقها، لأن الأم للين طبعها وضعف بنيتها لا تستطيع أحياناً أن تتحمل إباء وسوء خلقه فتعجل أن تغضب، فتسرع بالدعاء عليه، والمذكور في كتب الفقه أن حق الوالد أعظم من حق الوالدة وبرها أوجب).(1/323)
قال ابن قتيبة رحمه الله: (خاصمت أم عوف – امرأة أبي الأسود الدؤلي – أبا الأسود إلى زياد في ولد منه، قال أبو الأسود: أنا أحق بالولد منها، حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه؛ فقالت أم عوف: وضعته شهوة، ووضعتُه كرهاً، وحملتَه خفاً، وحملتُ ثقلاً؛ فقال زياد: صدقت، أنت أحق به؛ فدفعه
قلت: هذا في الحضانة، فالولد للأم دون السابعة، والبنت إلى الزواج، ما لم تتزوج الأم، أويكون هناك مانع.
تقديم الأم في البر يكون في الإنفاق، والرعاية، والعطف، فإذا قصُرَت يَدُ الأبناء عن الإنفاق على الوالدين جميعاً تقدم الأم على الأب، وكذلك في زكاة الفطر إن لم يتمكن الابن من إخراج الزكاة عن أبويه الفقيرين أخرج عن أمه، وهكذا، وكذلك الأمر في الرعاية والعطف، أما في التعظيم والاحترام فيقدم الأب على الأم، والله أعلم.
قال فضل الله الجيلاني: (قيل إذا تعذر مراعاة حق الوالدين جميعاً بأن يتأذى أحدهما بمراعاة الآخر يترجح حق الأم فيما يرجع إلى الخدمة والإنعام، حتى لو دخلا عليه يقوم للأب، ولو سألا منه شيئاً يبدأ في الإعطاء بالأم، كما في "منبع الآداب"، قال الفقهاء: تقدم الأم على الأب في النفقة إذا لم يكن عند الولد إلا كفاية أحدهما، لكثرة تعبها عليه، وشفقتها، وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته، وخدمته، ومعالجة أوساخه، وتأنيسه في مرضه، وغير ذلك – روح المعاني بتصرف)
ما يُطاع فيه الوالدان وما لا يُطاعان فيه
بعد أن أجمع أهل العلم علىأن الوالدين يطاعان في فعل:
1. المباح.
2. والمندوب.
ولا يطاعان في:
1. فعل الحرام.
2. وترك الواجب.
اختلفوا في طاعتهما فيما فيه شبهة على قولين.
قال ابن مفلح رحمه الله: (وقد قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: هل للوالدين طاعة في الشبهة؟ قال: في مثل الأكل؟ قلت: نعم؛ قال: ما أحب أن يقيم معهما عليها، وما أحب أن يعصيهما، يداريهما، ولا ينبغي للرجل أن يقيم على الشبهة مع والديه.
وذكر المروذي له قول الفضيل: كل ما لم تعلم أنه حرام بعينه؛ فقال أبو عبد الله – أحمد بن حنبل -: وما يدريه أيها الحرام؟ وذكر له المروذي قول بشر بن الحارث وسئل هل للوالدين طاعة في الشبهة؟ فقال: لا؛ قال أبو عبد الله: هذا شديد؛ قلت لأبي عبد الله: فللوالدين طاعة في الشبهة؟ فقال: إن للوالدين حقاً؛ قلت: فلهما طاعة فيها؟ قال: أحب أن تعفيني، أخاف أن يكون الذي يدخل عليه أشد مما يأتي؛ قلتُ لأبي عبد الله: إني سألت محمد بن مقاتل العبَّاداني عنها، فقال لي: بر والديك؛ فقال: هذا محمد بن مقاتل قد رأيت ما قال، وهذا بشر الحارث قد قال ما قال؛ ثم قال أبو عبد الله: ما أحسن أن يداريهم.
وروى المروذي عن علي بن عاصم أنه سئل عن الشبهة، فقال: أطع والديك، وسئل عنها بشر بن الحارث، فقال: لا تدخلني بينك وبين والديك.
وذكر الشيخ تقي رواية المروذي ثم قال: وقال في رواية ابن إبراهيم فيما هو شبهة فتعرض عليه أمه أن يأكل فقال: إذا علم أنه حرام بعينه فلا يأكل.
قال الشيخ تقي الدين: مفهوم هذه الرواية أنهما قد يطاعان إذا لم يعلم أنه حرام، ورواية المروذي فيها أنهما لا يطاعان في الشبهة، وكلامه يدل على أنه لولا الشبهة لوجب الأكل، لأنه لا ضرر عليه فيه، وهو يُطيِّب أنفسهما).
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله: (أكثر العلماء على أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات، وإن لم تجب في الحرام المحض، حتى إذا كانا يتنغصان بانفرادك عنهما بالطعام فعليك أن تأكل معهما لأن ترك الشبهة ورع، ورضا الوالدين حتم).
أمثلة للمباح الذي تجب فيه طاعة الوالدين
الأحكام الشرعية خمسة، حلال، وحرام، ومندوب، ومكروه، ومباح، فالمباح هو ما يجوز فعله وتركه، فمن أمثلة المباح الذي تجب فيه طاعة الوالدين ما لم يكن مانع شرعي آخر أن يطلبا منك أوأحدهما:
1. أن تسكن معهما في المنزل.
2. أن تتزوج امرأة معينة.
ومن أمثلة المندوب الذي تجب فيه طاعة الوالدين أوأحدهما، مثل:
1. النهي عن صيام يوم تطوعاً لشدة الحر مثلاً.
2. الذهاب لخلوة لحفظ القرآن الكريم كله.
ومن أمثلة الحرام الذي لا يجب فعله، والواجب الذي لا يجوز تركه ولا تجوز طاعتهما فيه ما يأتي:
1. الأمر بحلق اللحية.
2. الأمر بمصافحة الأجنبيات والدخول عليهن من الأقارب.
3. الأمر بإسبال الملابس.
4. طلب الانتماء إلى طريقة من الطرق الصوفية أوحزب من الأحزاب العلمانية، سواء كان ينتمي إليها الوالدان أم لا.
5. النهي عن الذهاب إلى صلاة الجماعة إلا بسبب خوف من لصوص ليلاً، قال الحسن البصري: إذا نهته أمه عن شهود العشاء شفقة عليه فلا يطعها؛ ومن أهل العلم من قال يطيعها.
6. النهي عن الحجاب الشرعي للبنات.
7. إذا طُلب منه ممارسات شركية نحو الذهاب لزيارة رجل مبتدع أودخول قبة شيخ والخشوع والدعاء عندها مثلاً.
8. الإجبار على الدراسة في الجامعات المختلطة.
9. إذا طلب منه العمل في البنوك أوالشركات الربوية أوفي خمارة.(1/324)
10. إذا طلب منه الهجرة إلى دار الكفر ولا ضرورة لذلك.
ما لا يعمل إلا بعد إذن الوالدين
أولاً: السفر لطلب علم مندوب أومباح
طلب العلم منه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية أومندوب أومباح، فالسفر لطلب العلم الواجب تعلمه لا يحتاج إلى إذن الوالدين، أما ما سوى فرض العين فلا يجوز أن يسافر له ويبتعد عن والديه إلا بإذنهما ورضاهما معاً، وكذلك الأمر لفرض العين إذا كان هو الكافل أوالملازم الوحيد، وهما أوأحدهما في حاجة إليه.
قال أبو حامد الغزالي: (وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أونافلة إلا بإذنهما.. والخروج لطلب العلم نفل إلا إذا كنت تطلب علم الفرض من الصلاة والصوم ولم يكن في بلدك من يعلمك، وذلك كمن يُسْلِم ابتداء في بلد ليس فيها من يعلمه شرع الإسلام فعليه الهجرة ولا يتقيد بحق الوالدين).
ثانياً: السفر للحج والعمرة
من كان حياً والداه أوأحدهما فلا يجوز له الذهاب والسفر إلى الحج أوالعمرة إلا بعد إذنهما.
وليس لهما أو لأحدهما أن ينهياه عن حج الفريضة إذا وجب عليه خاصة أن الراجح من قولي العلماء أن الحج يجب على الفور، ما لم يكونا في حاجة لرعايته لهما، ولم يكن لهما راعٍ غيره، هذا في حال الكبر والمرض، أما في الأحوال العادية فلا يجوز لهما أن يمنعاه عن حج الفريضة.
أما بالنسبة لحج وعمرة التطوع فلهما منع الابن عن ذلك، وله أن يرضيهما إن لم تكن بهما حاجة إليه أوكان هناك من يقوم بواجبهما.
قال أبو حامد الغزالي: (والمبادرة إلى الحج الذي هو فرض الإسلام نفل لأنه على التأخير)
ثالثاً: الخروج إلى الجهاد
جهاد الكفار والمنافقين بالنفس لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى من أجل القربات، وهو نوعان:
1. فرض عين واجب، وهذا لا يستأذن فيه الوالدان، وهو نوعان كذلك:
أ. إذا استنفر الإمامُ المسلمين لقتال الكفار.
ب. إذا هجم الكفار وغزوا داراً من ديار المسلمين، كما هو الحال الآن في فلسطين، وأفغانستان، والعراق، وكشمير، والشيشان، وجنوب الفلبين، وغيرها من البلاد المغصوبة، وجهاد الدفاع يكون تحت راية الإمام وغير الإمام، إذا دعا إليه ولاة الأمر من العلماء.
2. فرض كفاية، وهو جهاد الطلب، بأن يخرج المسلمون رافعين راية الجهاد تحت إمام من أئمتهم يدعون الكفار والمشركين للدخول في الإسلام، وهو الذي خاضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والمسلمون من بعدهم، حتى حل علينا هذا العصر الحديث الكبيس، حيث ركن المسلمون إلى الدنيا واستسلموا للكفار.
وجهاد الطلب لا يخرج إليه إلا بعد إذن الوالدين.
وجهاد الدفاع يتعين على أهل البلد الذي غلب عليه أوغزاه الكفار، فإن لم يغنوا فعلى من يليهم من المسلمين، وهكذا حتى يشمل الحكم سائر المسلمين، أما إذا استغنى أهل البلد المغزو وقاموا بالواجب فلا يجب على غيرهم.
الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وإجماع الأمة
فمن الكتاب:
1. قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم".
2. وقوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".
3. وقوله: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم".
ومن السنة:
1. "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من
2. "أبواب الجنة تحت ظلال السيوف".
3. "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم، القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله، وتوكل الله للمجاهد في سبيل الله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أويرجعه سالماً مع أجر وغنيمة".
وقد أجمعت الأمة على وجوب جهاد الدفاع وعند النفرة، وعلى ندب جهاد الطلب.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً.." الآية: (وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أوبحلوله بالعُقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الديار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أومكثر، فإن عَجَزَ أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل بها العدو عليها، واحتل بها سقط الفرض على الآخرين.
ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله، وتحمى البيضة، وتحفظ الحوزة، ويخزى العدو، ولا خلاف في هذا.(1/325)
وقسم ثانٍ من واجب الجهاد، فرض أيضاً على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة، يخرج معهم بنفسه، أويخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام، ويرعبهم، ويكف أذاهم، ويظهر دين الله عليهم، حتى يدخلوا في الإسلام ويعطوا الجزية عن يدٍ.
ومن الجهاد أيضاً ما هو نافلة، وهو إخراج الإمام طائفة بعد طائفة، وبعث السرايا في أوقات العِزَّة وعند إمكان الفرصة، والإرصاد لهم بالرباط في موضع الخوف، وإظهار القوة).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع.
وأما الجهاد بالنفس ففرض، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه
الأدلة على أن الجهاد إن كان فرض كفاية فلا يخرج إليه إلا بعد إذن والديه
من الأدلة على ذلك ما يلي:
1. عن عبد الله بن عمرو قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أجاهد؟ قال: ألك أبوان؟ قال: نعم؛ قال: ففيهما فجاهد".
2. وخرَّج أحمد عن أبي سعيد قال: "هاجر رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل باليمن أبواك؟ قال: نعم؛ قال: أذنا لك؟ قال: لا؛ قال: ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك وإلا فبرهما".
3. وعن عبد الله بن عمرو قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال: ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما
4. وعن معاوية بن جاهمة عن أبيه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألك والدان؟ قلت: نعم؛ قال: الزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما"
قلت: بعض الآباء والأبناء في هذه المسألة على طرفي نقيض، بينما نجد بعض الشباب متحمساً للجهاد والغزو، ودائماً يحدث ويمني النفس به وهو صادق في ذلك، نجد بعض الآباء والأمهات على العكس والنقيض من ذلك، فمنهم من لا يسمح ولا يأذن لابنه بذلك حتى لو تعين الجهاد على ابنه، وتختلف دوافع المنع، فمنها:
1. الحرص الشديد على الأبناء والخوف عليهم.
2. الجهل بقيمة الجهاد وفضله، وما أعده الله للمجاهدين في سبيله.
3. حب الدنيا والتعلق بها، وكراهية الموت، سواء كان شهادة أوبسبب حادث حركة.
4. إطلاق الكفار وعملاؤهم وإعلامهم مصطلح الإرهاب الذي يمارسونه ضد المسلمين على الجهاد الذي شرعه رب العالمين، وهو رهبانية الإسلام.
5. غلبة الفكر العلماني، مما دفع بعض العلمانيين المتزيين بالإسلام أن يزعموا "أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة" هذه كلمة مضى عليها التاريخ، وتخطاها الزمن، وأن الإسلام لم ينتصر بحد السيف، وإنما انتشر عن طريق التجاور والطرق الصوفية، عن طريق دق الطبول، والرقص، والتواجد، وهم يعلمون كذب هذا قبل غيرهم.
فعلى الآباء أن يتقوا الله في إسلامهم، وفي أنفسهم، وأن يتخلصوا من هذه العواطف الحيوانية، والهواجس الشيطانية، والأفكار العلمانية، وأن يتحرروا من هذه القيود الأرضية.
وليقتدوا في ذلك بسلف الأمة، بعمرو بن الجموح، ذلكم الشيخ الأعرج الذي عذره الله ورسوله، وخرج أبناؤه في أحُد، ولكنه اشتهى أن يطأ الجنة بعرجته تلك، فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم له، ونال ما تمناه واشتهاه.
وبأبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما، فقد أمرا ابنيهما أن يطلقا زوجيهما خشية أن يمنعهما ذلك من الغزو والجهاد.
وعليكن أيتها الأمهات الاقتداء بتلك الصحابية التي استشهد لها أربعة أبناء، فلم يهلها ذلك، ولم تجزع، بل حمدت الله واسترجعت، وأرادت فقط أن تطمئن على سلامة الرسول الكريم، والقائد العظيم، فلما قيل لها هو بخير كما تشتهين، طلبت أن تراه، فلما رأته قالت: كل شيء بعدك جلل – أي كل مصيبة بعدك يسيرة وحقيرة.
عليك أيتها الأم أن تقتدي بالخنساء تماضر بنت عمرو بن الشريد السُّلمية، تلك الشاعرة العربية، المسلمة، المخضرمة، أرق شعراء العرب، وأحزن من بكى وندب، التي بكت أخاها صخراً بكاءً حاراً وقالت فيه شعراً صادقاً في قصيدتها التي مطلعها:
أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى؟
والتي جاء فيها:
يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل غروب شمس
فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
و ما يبكين مثلَ أخي ولكن أسلي النفسَ عنه بالتأسي(1/326)
عندما أسلمت تغيرت نفسيتها، وتهذبت عاطفتها، وعلت وسمت همتهما، فقد كان لها أربعة بنين خرجت معهم لخدمتهم في حرب القادسية، فقالت مشجعة وحاثة لهم على الإقدام في القتال: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين؛ وذكرت من صونها لبنيها وعدم خيانتها لأبيهم ما ذكرت، ثم قالت لهم: وقد تعلمون ما أعد الله لكم من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرب لظاها على سياقها، وجللت ناراً على أروقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالمغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة.
فخرج بنوها قابلين لنصحها، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أولهم يقول:
يا إخوتي إن العجوز الناصحة قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
مقالة ذات بيان واضحة فباكروا الحرب الضروس الكالحة
وإنما تلقون عند الصائحة من آل ساسان كلاباً نابحة
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة وأنتم بين حياة صالحة
أوميتة تورث غُنْماً صالحة
وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى، ثم تقدم الثاني وهو يقول:
إن العجوز ذات حزم و جلد والنظر الأوفق والرأي الأسد
لقد أمرتنا بالسداد و الرَّشَد نصيحة منها وبراً بالولد
فباكروا الحرب حُماةً في العدد إما لفوز بارد على الكبد
أوميتة تورثكم غنم الأبد في جنة الفردوس والعيش الرغد
فقاتل حتى استشهد رحمه الله تعالى، ثم تقدم الثالث وهو يقول:
و الله لا نعصي العجوز حرفاً قد أمرتنا حدباً وعطفاً
نصحاً وبراً صادقاً ولطفاً فبادروا الحرب الضروس زحفاً
حتى تلقَّوا آل كسرى لفاً وتكشفون عن حماكم كشفاً
فقاتل حتى استشهد رحمه الله تعالى، وحمل الرابع وهو يقول:
لستُ لخنسا ولا للأخرم ولا لعمرو ذي السنا الأقدم
إنْ لم أرُدْ في الجيش جيش العجم ماضٍ على هول خِضَم خِضْرَم
إما لفوز عاجل ومغنم أو لوفاة في السبيل الأكرم
فقاتل حتى قتل رحمه الله، فبلغ خبرُهم الخنساء أمهم، فقالت: الحمد الله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته؛ فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطي الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة، لكل واحد منهم مائتي درهم.
وأنتم أيها الشباب عليكم بمداراة آبائكم وأمهاتكم، وإقناعهم باللطف وبالحسنى، واحذروا المواجهة والمكاشرة، فبالرفق واللين ينال الابن ما يريده من والديه مهما كانوا متعنتين متمنعين.
أما إذا كان الأب علمانياً منافقاً، فهذا لا يستأذن في الخروج إلى الجهاد والغزو، فالمنافق نفاق الاعتقاد فهو كافر وإن تظاهر بالإسلام.
واعلم ايها الشاب أن الأجداد، والجدات، والأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات، والإخوة والأخوات الكبار هم بمنزلة الآباء عند فقدهم، ولهذا فلابد من الاستئذان منهم وطلب رضاهم للخروج للغزو والجهاد والرباط، إن كان من فروض الكفايات.
رابعاً: الهجرة
هجر المعاصي والهجرة من ديار الكفر ومن البلاد التي لا يتمكن فيها المسلم من القيام بشعائره الدينية أويخشى أن يفتن فيها عن دينه ولو كانت بلاداً إسلامية جائزة، وقد تكون واجبة في بعض الأحيان.
فمن أراد أن يهاجر وله أبوان أوأحدهما فعليه أن يستأذنهما ويسترضيهما، أما إن كانت الهجرة وجبت عليه خوفاً على دينه هاجر، أذنا له أم يأذنا له، أما إن لم تجب الهجرة في حقه فلا يهاجر إلا بعد إذنهما، أما الهجرة إلى ديار الكفر من غير ضرورة فلا تجوز أذن له والداه أم لا.
خامساً: السفر للعمل والتجارة
كذلك لا يجوز لابن أن يسفر إلى بلد من البلاد الإسلامية، أوإلى محلة بعيدة من سكنى والديه، للعمل أوللتجارة، أولديار الكفر إن اضطر إلى ذلك إلا بعد أن يأذن له والداه.
ما يستحب فيه رضا الوالدين ولا يجب
من الأمور المباحة التي يستحب فيها استئذان الوالدين والاجتهاد في إرضائهما ومداراتهما مسألتان هما:
أولاً: الزواج.
ثانياً: الطلاق.
أولاً: الزواج
أ. البنت
لا يحل للبنت أن تتزوج من غير إذن ورضا أبيها أووليها في حال موت الأب أوفقدانه، بكراً كانت البنت أم ثيباً، بالغة أم غير بالغة، وذلك لما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"، ولا ينبغي للأب أوالولي أن يعضل وليته ويمنعها من الزواج أوالرجوع من كفء تقدم لها إلا لسبب شرعي، فإن فعل فهو آثم، والسلطان ولي من لا ولي لها.
ويستحب للأب أوالولي أن لا يزوج وليته إلا بعد الاطمئنان لرضاها بمن تقدم لها، وأجاز الجمهور للأب خاصة أن يزوج بنته البكر غير البالغ لمن يأنس فيه الكفاءة، أسوة بما فعله أبوبكر رضي الله عنه حيث زوج عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إذنها ورضاها.
هذا وقد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الزانية هي التي تزوج نفسها يعني من غير ولي.(1/327)
صحَّ في سبب نزول قوله تعالى: "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون": "أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي البدَّاح، فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم جاء فخطبها، فرضيت، وأبى أخوها أن يزوجها، وقال: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه؛ فنزلت الآية، فقال مقاتل: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلاً فقال: إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك من أبي البداح؛ فقال: آمنت بالله؛ وزوَّجها منه"
قال القرطبي: (إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي، لأن أخت معقل كانت ثيباً، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذاً في قوله تعالى: "فلا تعضلوهن" للأولياء).
ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله بأنه يجوز للمرأة أن توكل من يزوجها من كفء من غير رضا وليها مردود بالقرآن، والسنة، وقول عامة أهل العلم، والحمد لله الذي لم يتعبدنا بأقوال الرجال مهما كانت منزلتهم ودرجتهم في العلم، ولهذا قال أبو حنيفة: إذا خالف قولي الحديث فاضربوا به عُرْض الحائط؛ فاعلم أنه ليس كل خلاف يُستراح له ويُعمل به.
ب. الابن
يستحب للابن أن يتزوج بإذن ورضا والديه، وينبغي للوالدين أن لا يجبروا أبناءهم وبناتهم على زواج من يكرهون ولا يحبون، فالزواج عشرة طويلة، فإذا كان لا يجب على ابن أن يأكل ما يجبره عليه أبواه فمن باب أولى لا يجب عليه أن يتزوج من لا يرغب في زواجها، وإن رغب في زواجها له والداه أوأحدهما.
ولكن عليه أن يداري في ذلك حتى يقنعهما أويقنعانه.
بل لا تجب طاعة الأبوين إذا كان المرغوب في زواجه من الأبوين أوأحدهما:
1. منافقاً نفاق اعتقاد مثل الشيوعيين، والجمهوريين، والعلمانيين.
2. لا يصلي.
3. مبتدعاً أورافضياً.
4. منحرفاً في عقيدته بممارسة بعض الشركيات.
5. متحرراً من القيود الشرعية.
6. بالنسبة للمرأة إذا كانت متبرجة سافرة.
7. فاسقاً، شارب خمر، مرابٍ، ممثلاً، فناناً، ونحوه.
أما إذا توفر الدين والخلق، وراقت للابن فالأفضل له طاعة والديه.
ثانياً: الطلاق
لا يجب على الابن طاعة والديه أوأحدهما في طلاق زوجته من غير سبب شرعي، سيما إذا كانت الزوجة مستورة الحال، مقيمة للصلاة، راعية لحق زوجها، غير متبرجة، فليس عليه أن يطيع والديه في ذلك لعدم استلطافهما لها، أولمشكلة حدثت بين أم هذه المرأة أوأختها مع أحد الوالدين أوإحدى بناتهن.
أما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر أن يطلق زوجه التي كان يحبها وكان عمر يأمره بطلاقها لأنه خشي أن تشغله عن الغزو والجهاد وليس لحظوظ نفس ولا أمر دنيوي، لهذا قال أحمد رحمه الله لرجل طلب منه أبوه أن يطلق زوجه لغير عذر شرعي: لا تطلق؛ فقال له: ألم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر أن يطلق زوجه لأن أباه أمره بذلك؟ فقال له أحمد: إن كان أبوك مثل عمر أوبشر بن الحارث الحافي فطلق.
بهذا تفهم الأحاديث والآثار التي أمرت بطاعة الأبوين في الأمر بالطلاق، وهي:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كانت تحتي امرأة، وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها؛ فأبيتُ، فأتى عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها"
2. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها؟ فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه"
قال الونشريسي المالكي: (سئل أبو إسحاق التونسي عن رجل له زوجة موافقة له، وبينها وبين أمه سرورة، هل يلزمه طلاقها، إذا طالبته أمه بفراقها للسرورة التي بينهما؟ وهل يكون عاقاً لأمه في ترك طلاق زوجته وهو يعلم أن زوجته غير ظالمة لأمه؟ وهل له أن يرجع على زوجته ويعين عليها مع أمه فيما يجري بينهما من السرورة، ويصول عليها ويقصر من حقوقها ولا يحسن إليها لترضى بذلك أمه إذا لم ترض عنه الأم إلا بفعل ما ذكرنا؟ وهل يلزمه أن تكون معه أمه في بيت واحد على قصعة واحدة؟
فأجاب: لا يلزم الابن ذلك، وإنما عليه القيام بواجبات أمه، ولا يلزمه أن تكون مع زوجته، وإذا كانت زوجته موافقة عنده، ولم يثبت عنده ظلم زوجته لأمه، ولم يكن في ترك طلاق زوجته رضى لوالدته وإثم، وليترَضَّ أمه بما قدر من غير أن يوافقها على ما لا يجوز له من الإضرار بها، ولا يساعدها عليه)
قال ابن مفلح: (قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إنه ليس لأحد الوالدين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك، وأولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه، ولا يمكنه فراقه.(1/328)
وقال أحمد في رواية أبي داود: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثاً إن فعل لم آمره بفراقها، وإن كان له والدان يأمرانه بالتزويج أمرته أن يتزوج، وإن كان شاباً يخاف العنت أمرته أن يتزوج، وإذا قال له والداه: تزوج فلانة، فإنه يمكنه أن يتزوج غيرها، وهذا معنى ما نقله الفضل بن زياد.
إلى أن قال: فإن أمره أبوه بطلاق امرأته لم يجب، ذكره أكثر الأصحاب، قال سَنَدي: سأل رجل أبا عبد الله فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي؟ فقال: لا تطلقها؛ قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر رضي الله عنه.
واختار أبو بكر من أصحابنا أنه يجب، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر، ونص أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه إذا أمرته أمه بالطلاق لا يعجبني أن يطلق، لأن حديث ابن عمر في الأب.
ونص أحمد أيضاً في رواية محمد بن موسى أنه لا يطلق لأمر أمه، فإن أمره الأب بالطلاق طلق إذا كان عدلاً، وقول أحمد رضي الله عنه: لا يعجبني كذا، هل هو يقتضي التحريم أوالكراهة؟ فيه خلاف بين أصحابه، وقد قال الشيخ تقي الدين فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته، قال: لا يحل له أن يطلقها، بل عليه أن يبرها، وليس تطليق امرأته من برها، قال أحمد في رواية أبي داود: إذا خاف العنت أمرته أن يتزوج، وإذا أمره والده أمرته أن يتزوج.
وقال في رواية جعفر: والذي يحلف بالطلاق انه لا يتزوج أبداً؟ قال: إن أمره أبوه تزوج، قال الشيخ تقي الدين: كأنه أراد الطلاق المضاف إلى النكاح، كذا قال، أوكأنه مزوَّجاً فحلف أن لا يتزوج أبداً سوى امرأته، وقال في رواية المروذي: إذا كان الرجل يخاف على نفسه، ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهم ذلك، وقال له رجل: لي جارية وأمي تسألني أن أبيعها، قال: تتخوف أن تتبعها نفسك؟ قال: نعم؛ قال: لا تبعها، قال: إنها تقول: لا أرضى عنك أوتبيعها، قال: إن خفت على نفسك فليس لها ذلك.
قال الشيخ تقي الدين – ابن تيمية -: لأنه إذا خاف على نفسه يبقى إمساكها واجباً، أو لأن عليه في ذلك ضرراً، ومفهوم كلامه أنه إذا لم يخف على نفسه يطيعها في ترك التزويج وفي بيع الأمَة، لأن الفعل حينئذ لا ضرر عليه فيه، لا ديناً ولا دنيا.
وقال أيضاً: قيد أمره ببيع السرية إذا خاف على نفسه، لأن بيع السرية ليس بمكروه، ولا ضرر عليه فيه، فإنه يأخذ الثمن، بخلاف الطلاق، فإنه مضر في الدين والدنيا، وأيضاً فإنها متهمة في الطلاق ما لا تتهم في بيع السرية)
ما يختص به الوالد في ولده دون غيره
هنالك أمور خص بها الشارع الوالد في ولده دون غيره من الأولياء، من تلك الأمور ما يأتي:
1. يجوز للوالد تزويج بنته البكر من غير إذنها ورضاها
ولا يجوز ذلك لأحد من الأولياء سوى الأب، لأنه غير متهم في تحقيق ما فيه مصلحتها.
2. لا يقتاد من أحد الوالدين وإن علا بابنه وإن سفل
لا يقتص من أحد الوالدين بابنه، لأنه ربما نتج القتل بسبب ضربه وتأديبه، قال مالك رحمه الله: إلا إذا تكاه وذبحه ذبح الشاة؛ في هذه الحال يقتاد به لأنه لا مجال للتأويل لظهور التعمد في القتل.
وفرق بعض أهل العلم بين الأب والأم، فقالوا: تقتل الأم بولدها ولا يقتل الأب لأن له الولاية دونها؛ والراجح التسوية بينهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقتل والد بولده"، ولأن شفقة الأم ورحمتها على ولدها أشد من شفقة الأب.
قال ابن قدامة رحمه الله في شرح ما قاله الخرقي في مختصره: "ولا يقتل والد بولده وإن سفل": (وجملته أن الأب لا يقتل بولده، والجد لا يقتل بولد ولده، وإن نزلت درجته، وسواء في ذلك ولد البنين أوالبنات، وممن نقل عنه أن الولد لا يقتل بولده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبه قال ربيعة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي – الأحناف، وقال ابن نافع، وابن عبد الحكم، وابن المنذر: يقتل به لظاهر آي الكتاب والأخبار الموجبة للقصاص، ولأنهما حران مسلمان من أهل القصاص، فوجب أن يقتل كل واحد منهما بصاحبه، كالأجنبيين؛ وقال ابن المنذر: قد رووا في هذا الباب أخباراً؛ وقال مالك: إن قتله حذفاً بالسيف ونحوه لم يقتل به، وإن ذبحه أوقتله قتلاً لا يشك في أنه عَمَدَ إلى قتله دون تأديبه، أقيد به؛ ولنا ما روى عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُقتل والد بولده".
إلى أن قال: والجد وإن علا كالأب في هذا، سواء كان من قبل الأب أومن قبل الأم في قول أكثر مسقطي القصاص عن الأب، وقال الحسن بن حيّ: يقتل به؛ ولنا أنه والد، فيدخل في عموم النص.. والجد من قبل الأم كالجد من قبل الأب)
3. تصرفه في مال ابنه
مما خص به الوالدان دون غيرهما أنه يجوز لهما أن يتصرفا في أموال أبنائهما من غير إسراف ولا إضرار به وبزوجه وأولاده، فلا ضرر ولا ضرار.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: إن أبي أخذ مالي- وفي رواية: اجتاح مالي-: "أنت ومالك لأبيك".
وفي ذلك قصة.(1/329)
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله: "وبالوالدين إحساناً الآية: (وقد روينا بالإسناد المتصل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: فائتني بأبيك؛ فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه؛ فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عماته، أوخالاته، أوعلى نفسي! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك؟ فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقيناً، لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي؛ قال: قل وأنا أسمع؛ قال: قلت:
غَذَوتُك مولوداً ومُنْتُك يافعاً تُقلّ بما أجني عليك وتُنْهِلُ
إذا ليلة ضافتك بالسُّقم لم أبِتْ لسقمك إلا ساهراً أتململُ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طُرِقتَ به دوني فعيني تَهْمَلُ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغتَ السن والغاية التي إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمل
جعلتَ جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلتَ كما الجار المصاقب يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن عليَّ بمال دون مالك تبخل
قال فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه، وقال: "أنت ومالك لأبيك").
4. لا يحل له أن يشتكيهما لحاكم أوقاضٍ أويتظلم منهما لأحد من الناس
مما خص به الأبوان دون غيرهما أنه لا يحق للابن أن يشكو أحد أبويه ويوقفه في المحاكم ولا أن يتظلم منه عند أحد من الناس وإن ظلماه وتعديا على ماله، أونفسه، أوعياله، أوزوجه، لمنافاة ذلك لبرهما، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أمسى وأصبح مرضياً لوالديه، أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة، وإن واحداً فواحداً، ومن أمسى وأصبح مسخطاً لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار، وإن واحداً فواحد؛ فقال رجل: يا رسول الله، وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه".
5. أن يبالغ في مداراتهما ويحذر من مغايظتهما
مما يخص به الأبوان دون غيرهما من الأبناء المبالغة في مداراتهما والحذر من مخاشنتهما والإغلاظ عليهما.
قال ابن أبي زيد رحمه الله: (وسأله – أي مالكاً – رجل له والدة وأخت وزوجة، قال: فكلما رأت لي شيئاً قالت: أعطِ هذا لأختك؛ فأكثرت عليَّ من هذا، فإن منعتها سبتني ودعت عليًّ؟ قال له مالك: ما أرى أن تغايظها، وتخلص منها بما قدرتَ عليه، وغيِّب عنها ما كان لك؛ قال: أين أخبئه؟ ذلك معي في البيت، قال: أما أنا فما أرى أن تغايظها، وأن تتخلص من سخطها بما قدرتَ عليه.
وذكر عن مالك أن رجلاً قال له: إن أبي في بلد السودان، فكتب إليَّ أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك؟ قال له مالك: أطع أباك ولا تعصِ أمك؛ وكره أن يأمره بعصيان أمه.
وذكر أن الليث أمره – أي هذا السائل – بطاعة الأم لأن لها ثلثي البر)
قلت: مالك رحمه الله أمر هذا السائل بمداراة والديه كلاهما، وأبى له أن يغضب أحدهما على حساب الآخر، وطريقة مالك هذه أسلم مما ذهب إليه الليث.
هذا الرفق وتلك المداراة واجبة مع الوالدين حتى في حال الأمر والنهي
قال ابن مفلح رحمه الله: (قال أحمد في رواية يوسف بن موسى: يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر؛ وقال في رواية حنبل: إذا رأى أباه على أمر يكرهه يكلمه بغير عنف ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام، وإلا تركه، ليس الأب كالأجنبي؛ وقال في رواية يعقوب بن يوسف: إذا كان أبواه يبيعان الخمر لم يأكل من طعامهما وخرج عنهما.
وقال في رواية ابن هاني: إذا كان له أبوان، ولهما كَرْمٌ يعصران عنبه ويجعلانه خمراً يسقونه، يأمرهما وينهاهما، فإن لم يقبلا خرج من عندهما، ولا يأوي معهما؛ ذكره أبو بكر في "زاد المسافر" وذكر المروزي أن رجلاً من أهل حمص سأل أبا عبد الله: أن أباه له كروم يريد أن يعاونه على بيعها؛ قال: إن علمتَ أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه.
قال المروذي لأبي عبد الله: فإن كان يرى المنكر ولا يقدر أن يغيره؟ قال: يستأذنها، فإن أذنت له خرج، قال المروذي: سألتُ أبا عبد الله عن قريب لي أكره ناحيته، يسألني أن أشتري له ثوباً أوأسلم له غزلاً؛ فقال: لا تعنه ولا تشتر له إلا بأمر والدتك، فإن أمرتك فهو أسله، لعلها أن تغضب)
بمَ يكون برُّ الوالدين؟
أولاً: المسلمين
أ. في حياتهما
يكون بر الوالدين المسلمين في حياتمها بالآتي:
1. طاعتهما في المعروف.
2. موافقتهما فيما يريدان في غير معصية الله.
3. الإنفاق عليهما إن كانا محتاجين.
4. الإحسان والإهداء إليهما إن كانا مكتفين.
5. عدم التعرض لسبهما.(1/330)
6. لا يحدّ النظر إليهما.
7. لا يمشي أمام أبيه إلا في الظلمة.
8. ولا يقعد قبله.
9. لا يدعو أباه باسمه.
10. التكلم معهما بلين وتلطف.
11. عدم رفع الصوت عليهما.
قال البغوي رحمه الله: (سئل الحسن: ما بر الوالدين؟ قال: أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية.
ثم قال: ألم تعلم أن نظرك في وجوه والديك عبادة، فكيف بالبر بهما؟
وقال عروة بن الزبير: ما برَّ والده من سدَّ الطريق إليه، وقال أبو هريرة لرجل وهو يعظه في بر أبيه: لا تمش أمام أبيك، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه.
وقال ابن محيريز: من مشى بين يدي أبيه فقد عقه إلا أن يميط له الأذى عن الطريق، وإن كناه أوسماه باسمه فقد عقه إلا أن يقول يا أبه)
قال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أف ولا تهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً"، قال ابن عباس: لو كان هناك أدنى من الأف لنهى عنه.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، وعن أبي رجاء العطاردي قال: الأف الكلام الفَزَع الرديء الخفي، وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف، والآية أعم من هذا، والأف والتف وسخ الأظفار.
ثم قال: خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره، لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلاً عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، ولهذا خص هذه الحالة بالذكر، وأيضاً فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على والديه، وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المركوه ما يظهره بنَفَسِه المتردد من الضجر، وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب)
ب. بعد وفاتهما
أما بر الأبوين المسلمين بعد وفاتهما فيكون بالآتي:
1. الدعاء والاستغفار لهما.
2. قضاء ما عليهما من دين لله أوللآدميين مثل أن يحج ويعتمر عنهما إن لم يحجا ويعتمرا، وإخراج الزكاة عنهما إن وجبت عليهما وحال عليها الحول.
3. تنفيذ وصاياهما.
4. التصدق عنهما.
5. صلة أرحامهما.
6. صلة أهل ودهما.
ثانياً: الكافرين أوالمشركين
أ. في حياتهما
1. الإحسان إليهما.
2. الرفق بهما.
3. وصلهما إن كانا محتاجين.
4. الدعاء لهما بالهداية.
5. الاجتهاد في دعوتهما إلى الإسلام وترغيبهما فيه.
6. يستأذنهما في الخروج إلى السفر ونحوه، وفي استئذانهما للخروج للجهاد قولان.
ب. بعد وفاتهما
1. لا يدعو ولا يستغفر لهما لنهي الإسلام عن ذلك.
2. صلة أرحامهما المسلمين خاصة.
فضل وثواب بر الوالدين في الدنيا والآخرة
لقد وعد الله البارين بأبائهم وأمهاتهم بالخير الكثير والفضل العميم في الدنيا، والثواب الجزيل والأجر الكبير في الآخرة.
أولاً: ما يناله البار بوالديه في الدنيا
1. يُنسأ له في أجله - هذا بالنسبة لعلم المَلَكِ الموكل بكتابة الأجل.
2. يُوسَّع له في رزقه - هذا بالنسبة لعلم المَلَكِ الموكل بكتابة الرزق.
3. تُجاب دعوته.
4. يبره أبناؤه وأحفادُه ويكافئونه.
5. يحبه أهله وجيرانه.
6. تدفع عنه ميتة السوء.
7. يحمده الناس ويشكرونه.
8. يرضى عنه ربه لرضا والديه عنه.
الأدلة على ذلك
• عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر"
• حديث الثلاثة الذين دخلوا غاراً في جبل فانحطت على فم الغار صخرة فسدته، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها؛ فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رجعت عليهم فحلبت بدأت بوالديّ أسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي طلب الشجر، فما أتيت حتى أمسيتُ، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء؛ ففرج الله لهم حتى يرون السماء.." الحديث
وفي الحديث فوائد، منها:
1. أن بر الوالدين سبب قوي لإجابة الدعاء.
2. أن التوسل المشروع يكون بالأعمال الصالحة كما يكون بسؤال الله باسم من أسمائه أوصفة من صفاته، أوبطلب الدعاء من الحي الحاضر من غير اعتقاد أنه ينفع ويضر، وما سوى ذلك من التوسل بجاه وذات الأنبياء والصالحين أحياءً وأمواتاً، حاضرين وغائبين، فهو ممنوع محرم.(1/331)
3. أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان مخلصاً لله وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم: "رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد"
• وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بر والديه فطوبى له زاد الله في عمره"
ثانياً: فضل وثواب البارّين بوالديهم في الآخرة
1. البر من أقوى أسباب دخول الجنة.
2. يدخل الجنة مع أول الداخلين.
3. مكفر للذنوب.
الأدلة على ذلك
• عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الوالد أوسط باب الجنة، فإن شئتَ فاحفظ الباب أوضيِّع"
• وروى أبوبكر بن حفص أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أصبت ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا؛ قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم؛ قال: فبرها"، وروي نحوه عن ابن عمر
• وقال مكحول: "بر الوالدين كفارة للكبائر، ولا يزال الرجل قادراً على البر ما دام في فصيلته من هو أكبر منه"
جزاء الوالدين
لا يستطيع أحد أن يجزي والديه أوأحدهما إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه، ولكن الأبناء مطالبون بالإحسان والبر، وليس بالإجزاء، والله يبارك في القليل، ويجزي باليسير كثيراً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه"
وعن سعيد بن أبي بردة قال: "سمعت أبي يحدث أنه شهد ابن عمر رجلاً يمانياً يطوف بالبيت، حمل أمَّه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
حملتها أكثر مما حملت فهل ترى جازيتها يا ابن عمر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جازيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة، ولكنك أحسنتَ، والله يجزيك بالقليل كثيراً"
وقد صدق من قال:
لأمك حق لوعلمتَ كبير كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليك مشقة ومن ثديها شُرْب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حُنواً وإشفاقاً وأنت صغير
فضيعتها لما أسنت جهالة وطال عليك الأمر وهو قصير
فآهاً لذي عقلٍ ويتبع الهوى وواهاً لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
ولما ماتت أم إياس الذكي القاضي المشهور بكى عليها، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما.
وكان رجل يقبِّل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يوماً على أصحابه فسألوه، فقال: كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات
تعريف العقوق
العقوق لغة: من العق، وهو القطع.
العقوق شرعاً: كل فعل أوقول يتأذى به الوالد من ولده ما لم يكن شركاً أومعصية.
قال الحسن البصري وقد سئل: إلى ما ينتهي العقوق؟ قال: أن يحرمهما، يهجرهما، ويحد النظر إليهما؛ وقال عطاء: لا ينبغي لك أن ترفع يديك على والديك؛ وقال عروة بن الزبير: لا تمتنع من شيء أحباه.
حكم العقوق
العقوق حرام ومن أكبر الكبائر.
دليل ذلك
من القرآن قوله تعالى: "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أفٍ"
ومن السنة: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور"
وقد أجمعت الأمة على حرمة العقوق وأنه من الكبائر المتفق عليها.
عقوبة العاق لوالديه
أ. في الدنيا
1. يضيَّق عليه في رزقه وإن وسِّع عليه فمن باب الاستدراج.
2. لا يُنسأ له في أجله كما ينسأ للبار لوالديه والواصل لرحمه.
3. لا يُرفع له عمل يوم الخميس ليلة الجمعة.
4. لا تفتح أبواب السماء لعمله.
5. يبغضه الله.
6. يبغضه أهله وجيرانه.
7. يخشى عليه من ميتة السوء.
8. يلعنه الله وملائكته والمؤمنون.
9. لا يستجاب دعاؤه.
10. تعجل له العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له يوم القيامة.
11. يعقه أبناؤه وأحفاده.
ب. في الآخرة
1. لا يدخل الجنة إن كان من الموحدين مع أول الداخلين.
2. لا ينظر الله إليه وإن دخل الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث"، وفي رواية: "لا يدخل الجنة منان، ولا عاق، ولا مدمن خمر".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رَغِمَ أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه"، قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أوأحدهما ثم لم يدخل الجنة"
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة قاطع"، وفي رواية: "قاطع رحم".
من صور العقوق
العقوق صوره كثيرة، ونماذجه وفيرة، وسنشير إلى بعض تلك الصور، وهي:
1. السب واللعن.
2. التبرؤ من والديه.
3. تقديم الصديق على الأب والزوجة على الأم.
4. الكذب عليهما.
5. غيبتهما.
6. التكبر والترفع عليهما.
7. التسبب في بكائهما.
8. عدم طاعتهما في ترك المباحات والمستحبات.
الأدلة على ذلك(1/332)
• عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه؛ قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبُّ الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسبُّ أمه فيسب أمه"
• قال ابن عمر رضي الله عنهما: "بكاء الوالدين من العقوق والكبائر".
• وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث دعوات مستجابات لهن، لا شك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولديهما"
أسباب العقوق
لا يقدم على عقوق والديه، ويتجرأ في الإساءة إليهما إلا شقي جاهل، وأسباب العقوق كثيرة، ولكن سنشير إلى بعضها، وهي:
1. الجهل بقدر الوالدين، وبالعقوبة المترتبة على عقوقهما في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل من عصى الله فهو جاهل؛ ولذلك قيل: من جهل شيئاً عاداه.
2. تفضيل بعض الأبناء وإيثارهم على بعض، ولهذا نهى الشارع الحكيم عن ذلك نهياً شديداً، وحذر من مغبته، وعندما جاء بشير بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليهب لابنه النعمان، قال له: "أكل بنيك منحت هكذا؟" قال: لا؛ قال: "لا تشهدني على جور، أشهد على هذا غيري، ألا تحب أن يكونوا لك في البر سواء؟".
3. التقصير في الإنفاق على الأبناء في الصغر وإهمالهم.
4. التقصير في حق الأم والميل لإحدى الزوجات على حساب غيرها.
5. رفقاء السوء.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعينوا أولادكم على البر، من شاء استخرج العقوق من ولده"
مما يدل على أهمية العلم في معرفة الحقوق والواجبات على العبد، ومتى يقدم هذا ويؤخر هذا، قصة جريج العابد ودعاء أمه عليه، لأنه قدم التطوع بالصلاة وهي سنة على طاعة والدته، وعدم إجابته لها – وهي واجبة - وقد دعته ثلاث مرات، إذ لو كان عالماً لقطع صلاته وأجاب أمه، ثم دخل في صلاته مرة ثانية.
خرج مسلم في مسنده بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "كان جريج يتعبد في صومعة، فجعلت أمه – قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه – فقالت: أنا أمك كلمني؛ فصادفته يصلي، فقال: اللهم أمي وصلاتي؛ فاختار صلاته، فرجعت ثم عادت في الثانية، فقالت: يا جريج أنا أمك فكلمني؛ فقال: اللهم أمي وصلاتي؛ فاختار صلاته، فقالت: اللهم إن هذا جريج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلمني، اللهم فلا تمته حتى يرى المومسات؛ قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن، قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، قال: فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها الراعي، فحملت فولدت غلاماً، فقيل لها: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير؛ قال: فجاءوا بفؤوسهم ومساحيهم، فنادوه فصادفوه يصلي، فلم يكلمهم، قال: فأخذوا يهدمون دَيْره، فلما رأى ذلك نزل إليهم، فقالوا له: سل هذه؛ قال: فتبسم، ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضأن؛ فلما سمعوا ذلك منه قالوا: نبني لك ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة؛ قال: لا، ولكن أعيدوه تراباً كما كان؛ ثم علاه".
في هذه القصة من الفوائد والعبر ما يأتي:
1. تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم الدقيق لأم جريج وهي تنادي ابنها بوضع كفها على حاجبها ورفع رأسها إليه كما تفعل العجائز.
2. دقة وجودة حفظ أبي هريرة رضي الله عنه.
3. إذا تزاحم على الشخص أمران قدم الأهم ثم المهم، وقدم الواجب على الندب.
4. تحذير الوالدين من استعجال الدعاء على الأبناء.
5. أن العلم مقدم على العمل.
6. أن عقوبة العقوق تعجل، مع ما يُدخر للعاق في الآخرة.
7. ما دعت به أم جريج على جريج بأن لا يموت حتى يرى المومسات - وهن الزواني – مصيب لكل المشاهدين للفنانات، والممثلات، والنساء الكاسيات العاريات، فهن في حكم الزواني لتبرجهن، وسفورهن، وفتنتهن لعباد الله.
قال الإمام النووي معلقاً على قصة جريج هذه: (فيه – أي في الباب – قصة جريج رضي الله عنه، وأنه آثر الصلاة على إجابتها فدعت عليه فاستجاب الله لها، وقال العلماء هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها، لأنه كان في صلاة نفل، والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود لصلاته، فلعله خشي أنها تدعوه لمفارقة صومعته والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها وحظوظها، وتضعف عزمه فيما نواه وعاهد عليه)
قلت: كانت هذه هي العقوبة بسبب عدم إجابته لأمه وهو في حال عبادة وتقرب إلى الله عز وجل، فكيف تكون عقوبة من يدعوه أحد والديه وهو مرتكب لحرام أومكروه ولا يجيب؟ فكثير من الأبناء قد يدعوهم أحد الأبوين ويكون وهو يشاهد مسلسلاً، أويلعب "بالكتشينة" "الورق"، أويلعب كرة، أووهو يقرأ، أويكون جالساً مع صديقه، ونحو ذلك، ولا يتردد مجرد تردد كما تردد جريج في إجابة أمه أم الاستمرار في صلاته.(1/333)
على الأبناء أن يتقوا الله في أنفسهم وفي والديهم، وليعلموا أنهم ليسوا أعز على الله من جريج، ذلكم العابد الناسك، حيث عجَّل الله له العقوبة لصالحه، ولكن كثيراً من الأبناء والبنات قد تؤخر عنهم العقوبة استدراجاً لهم لشدة غفلتهم وعظيم جريمتهم، لأن بعض الأخيار قد يطهره الله من الذنوب والآثام في الدنيا، ويمحصهم بشيء من الابتلاءات، ولهذا جاء في الخبر: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل والأمثل"، وهذا مصداق قوله عز وجل: "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً".
لقد ورد في حديث قال الترمذي غريب، عن أبي هريرة يرفعه: "إذا اتخِذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير العلم، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، وزلزلة، وخسفاً، ومسخاً، وقذفاً، وآيات تتابع كنظام بالٍ قطع سلكه فتتابع"، الشاهد فيه التحذير من طاعة الزوجة على حساب بر الأم، وإدناء الصديق وإقصاء الأب، وعد ذلك من علامات الساعة المنذرة بنهاية الدنيا وظهور الشرور.
قال ابن قتيبة رحمه الله: (كان صخر بن الشريد أخو الخنساء خرج في غزوة فقاتل فيها قتالاً شديداً، فأصابه جرح رغيب، فمرض، فطال به مرضه وعاده قومه، فقال عائد من عواده يوماً لامرأته سلمى: كيف أصبح صخر اليوم؟ قالت: لا حياً فيُرجى، ولا ميتاً فينسى؛ فسمع صخر كلامها فشق عليه، وقال لها: أنت القائلة كذا وكذا؟ قالت: نعم، غير معتذرة إليك؛ ثم قال آخر لأمه: كيف أصبح صخر اليوم؟ فقالت: أصبح بحمد الله صالحاً، ولا يزال بحمد الله بخير ما رأينا سواده بيننا؛ فقال صخر:
أرى أمَّ صخر ما تمل عيادتي وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنتُ أخشى أن أكون جنازة عليك ومن يغتر بالحدثان؟
فأي امرئ ساوى بأمٍ حليلة فلا عاش إلا في أذى و هوان
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه وقد حيلَ بين العَيْر والنزوان
لعمري قد أنبهت من كان نائماً وأسمعت من كانت له أذنان
فلما أفاق عَمَدَ إلى سلمى فعلقها بعمود الفسطاط حتى فاضت نفسها، ثم نكس من طعنته فمات)
نماذج للأبناء البررة
سنورد في هذه الصفحات بعض النماذج الحية والصور النادرة لبر الوالدين والإحسان إليهما، عسى أن تكون شاحذاً ودافعاً للأخيار، ومذكراً ومنبهاً للمقصرين والعاقين لآبائهم، فالاقتداء بالسلف الصالح هو سبيل المهتدين، وطريق العقلاء الكيسين من المؤمنين، فنقول وبالله التوفيق:
1. سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم
يتجلى بر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوالديه، وعمه، وزوجه خديجة بعد وفاتها، وبقومه في أحسن صوره في حرصه على هداية الأحياء منهم الذين أدركوا الإسلام، وفي سؤاله لربه أن يستغفر لأمه، فلم يجبه ربه لذلك، ولكن عندما سأله أن يزور قبرها أذن له في ذلك، فزار قبرها.
قال تعالى: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم"
خرج مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله"؛ فقال أبوجهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب؛ وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"؛ فأنزل الله عز وجل: "ما كان للنبي..." الآية، وأنزل الله في أبي طالب لرسوله صلى الله عليه وسلم: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين".
قال القرطبي: (هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم، فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين)
2. سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنت باراً بأمي، فأسلمتُ، فقالت: لتدعنَّ دينك، أولا آكلُ ولا أشربُ حتى أموت فتعيَّر بي، ويقال: يا قاتل أمه؛ وبقيت يوماً ويوماً، فقلت: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي؛ فلما رأت ذلك أكلت، ونزلت: "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون")(1/334)
وكذلك نزلت فيه آية لقمان: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمُّه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليَّ ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون".
قال القرطبي: (وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر الجهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلكة عليها، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب، وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها)
3. حارثة بن النعمان رضي الله عنه
ممن اشتهروا ببر الأبوين الصحابي البدري الجليل، فقد نال ببره لأمه الدرجات العلا، وشهد له بذلك رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعتُ فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر"، قالت عائشة: وكان باراً بأمه
4. عبد الله بن عبد الله بن أبيّ الصحابي الجليل رضي الله عنه
كان عبد الله بن عبد الله بن أبي باراً بأبيه عبد الله رأس النفاق قبل الإسلام، وعندما تظاهر أبوه بالإسلام كان عبد الله حريصاً على هداية أبيه، ولكن أبى الله ذلك.
من بره بأبيه بجانب ما سبق ذكره كما قال ابن عمر: جاء عبد الله بن عبد الله بن أبيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين مات أبوه، فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له؛ فأعطاه قميصه، وقال: "إذا فرغتم فآذنوني"، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر، وقال: أليس قد نهى الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا بين خيرتين، استغفر لهم أولا تستغفر لهم"، فصلى عليه، فأنزل الله عز وجل: "ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً"، فترك الصلاة عليهم.
قال أبو عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني على عبد الله بن عبد الله بن أبيّ هذا، واستشهد عبدالله بن عبدالله بن أبيّ يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق سنة12ه، وروت عنه عائشة)
5. أبو هريرة رضي الله عنه
كان من البارين بأمهاتهم المحسنين إليهن.
عن أبي مُرَّوة مولى عقيل: "أن أبا هريرة كان يستخلفه - مروان على المدينة - وكان يكون بذي الحليفة، وكانت أمه في بيت وهو في آخر، قال: فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها، فقال: السلام عليك يا أمتها ورحمة الله وبركاته؛ فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته؛ فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً؛ فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً؛ ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثله"
6. عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
كان عبد الله بن عمر من عباد الله المتقين، ومن الصحابة المتميزين، ومن الأبناء البارين بآبائهم في الحياة وبعد الممات، ومن ذلك بره وإحسانه لبدوي كان أبوه من أصحاب عمر رضي الله عنه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبر البر أن يصل الرجلُ وُدَّ أبيه".
وعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُداً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبر البر صلة الرجل أهل ودّ أبيه".
وفي رواية عن ابن دينار عن ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروَّح عليه إذا مل ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يوماً على ذلك الحمار، فقال: اركب هذا، وأعطاه العمامة، وقال اشدد بها رأسك؛ فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابي حماراً كنت تروَّح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولى"، وإن أباه كان صديقاً لعمر رضي الله عنه
7. أويس القرني رحمه الله
أويس القرني سيد التابعين منعه من الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بره بأمه، فعوضه الله عما فقده من الهجرة أن كان مجاب الدعاء والاستغفار.(1/335)
عن أسير بن جابر قال: "كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم؛ قال: من مراد ثم من قَرَن؟ قال: نعم؛ قال: فكان بك برص، فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم؛ قال: ألك والدة؟ قال: نعم؛ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن، من مراد ثم من قَرَن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بار، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل"، فاستغفر لي؛ قال: فاستغفر له؛ فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة؛ قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؛ قال: أكون في غُبُرَّات الناس أحب إلي؛ قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس، قال: تركته رث الهيئة، قليل المتاع.
فأخبره عمر بحاله، فعندما رجع إلى الكوفة قال لأويس: استغفر لي؛ قال: لقيتَ عمر؟ قال: نعم؛ فاستغفر له، قال: ففطن له الناس، فانطلق على وجهه، قال أسير: وكسوته بردة، وكان كل من رآه قال: من أين لأويس هذه البردة"
8. محمد بن سيرين رحمه الله
من الأبناء البررة كذلك الإمام محمد بن سيرين التابعي الجليل، والمعبِّر القدير.
روى الذهبي في ترجمته عن هشام بن حسان قال: (حدثتني حفصة بنت سيرين قالت: كانت والدة محمد حجازية، وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد، صبغ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها)
9. عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رحمه الله
كان من أبر أهل زمانه ومن أتقاهم رحمه الله.
قال ابن قتيبة رحمه الله: (كان لعمر بن عبد العزيز أربعة عشر ابناً، منهم عبد الملك الولد الصالح ابن الصالح، كان من أعبد الناس، توفي في خلافة أبيه وهو ابن سبعة عشرة سنة وستة أشهر، وكان أحد المشيرين على عمر بمصالح رعيته، والمعينين له على الاهتمام بمصالح الناس، وكان وزيراً صالحاً وبطانة خير رحمه الله، وكان أبر أهل عصره بوالده، أومن أبرهم، وله مناقب مشهورة)
10. محمد بن المنكدر رحمه الله
قال: "بتُّ أغمز رجلي أمي، وبات عمي يصلي ليلته، فما سرني ليلته بليلتي".
11. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنما ردَّ الله عقوبة سليمان عن الهدهد لبره لأمه".
نماذج للأبناء العاقين
سنعرض في مقابل الأبناء البررة نماذج من الأبناء العاقين حتى تكتمل الصورة، ويتضح الفرق بين الصنفين، وكما قيل: وبضدها تتميز الأشياء، فلولا وجود الكفر والشرك لما عُرفت قيمة الإيمان، ولولا وجود الأشرار لما عُرف فضل الأخيار.
1. الذي قال لوالديه أفٍّ لكما
يمثل العقوق أصدق تمثيل ما حكاه لنا القرآن على لسان ذلك الابن الكافر العاق لوالديه: "والذي قال لوالديه أفٍّ لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين. أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين"
قال الحسن وقتادة: (هي نعت عبد كافر عاق لوالديه)
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، وقد كان أبوه يدعوه إلى الإسلام فلا يجيبه، وقيل نزلت في أخيه عبد الرحمن، ولا يصح ذلك، وقد كذبت ذلك عائشة رضي الله عنها ونفته نفياً قاطعاً.
خرَّج ابن كثير بسنده إلى ابن أبي حاتم قال: (أخبرني عبد الله بن المديني قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان، فقال: إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وإن يستخلف فقد استخلف أبوبكر عمر رضي الله عنهما؛ فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده؛ فقال مروان: ألستَ الذي قال لوالديه أفٍّ لكما؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ألستَ ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك؟ قال: وسمعتهما عائشة رضي الله عنها، فقالت: يا مروان، أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا؟ كذبتَ ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان؛ ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها، فجعل يكلمها حتى انصرف.
وفي رواية للنسائي عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية رضي الله عنه لابنه، قال مروان: سنة أبي بكروعمر رضي الله عنهما؛ فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: سنة هرقل وقيصر؛ فقال مروان: هذا الذي أنزل الله تعالى فيه: "والذي قال لوالديه أفٍّ لكما" الآية؛ فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان فضفض من لعنة الله)(1/336)
2. يحكى أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب، لا يفيق عنه، وكان والده صالحاً ذا دين وخلق، كثيراً ما يعظه ويقول له: يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألحَّ عليه زاد في العقوق وجار على أبيه، وفي يوم ألحَّ على ابنه بالنصح كعادته، فمدَّ الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو على ولده، فخرج إلى البيت الحرام وتعلق بأستار الكعبة، وأنشأ يقول:
يا من إليه الحجاج قد قطعوا عَرْضَ المهامة من قرب ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيِّب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا مُنُازلُ لا يرتد من عققي فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
وشلَّ منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد و لم يلد
فاستجاب الله دعاءه فشلَّ شق ولده الأيمن في الحال.
3. وحُكي أن رجلاً كان من المياسير بالبصرة، وكان يتمنى أن يرزق ولداً وينذر عليه النذور، فولد له وسرَّ به، وأحسن تربيته حتى ارتفع عن مبلغ الأطفال إلى حد الرجال، ولم يهمه شيء من أمر الدنيا سوى هذا الولد، وقد أحسن إليه غاية الإحسان، فلم يشعر الأب ذات يوم إلا بخنجر خالط جوفه من وراء ظهره، فاستغاث بابنه مرتين فلم يجبه، فالتفت فإذا هو صاحب الضربة، فقال الشيخ وهو يضطرب من الألم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أستغفر الله، صدق الله؛ أراد بالتهليل أن يلقى الله بالإيمان، وأراد بالاستغفار أن الله حذره فلم يحذر من ابنه بقوله: "إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ، فجمع في هذه الكلمات كل ما يحتاج إليه في هذه الحال.
4. ورد في سبب نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم" عن ابن عباس رضي الله عنه أنها نزلت بالمدينة – وبقيتها مكية – في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده.
وعن عطاء بن يسار: كان – أي عوف – ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، فقالوا: إلى من تدعنا؛ فيرق فيقيم.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته وإنما كان عدواً بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة.
قال القرطبي: (كما أن الرجل يكون ولده وزوجه عدواً، كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدواً بهذا المعنى بعينه، وعموم قوله: "من أزواجكم" يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية.
ثم قال: قال الحسن في قوله "إن من أزواجكم": أدخل من للتبعيض لأن كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر "من" في قوله تعالى: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما)
5. من العقوق البيِّن الواضح تصرف بعض الأبناء الغلاة الجفاة مع آبائهم وأمهاتهم، ومخاشنتهم لهم، والغلظة عليهم، ثم هجرهم وتكفيرهم في نهاية المطاف.
الواجب على هؤلاء أن يتلطفوا ويرفقوا بآبائهم وأمهاتهم، وذوي أرحامهم، وأن يتأسوا بالأنبياء والرسل في صنيعهم مع آبائهم وذويهم من الكفار، فقد سلكوا معهم شتى السبل، وسألوا الله نجاتهم، فنوح عليه السلام: "ونادى نوح ربه فقال ربِّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِِ ما ليس لك به علمإني أعظك أن تكون من الجاهلين، ولم ييأس من ابنه ولم يتوقف عن دعوته حتى بعدما ركب السفينة، قال له: "يا بنيَّ اركب معنا".
وهاهو إبراهيم أبو الأنبياء وإمام الأتقياء لم يتبرَّأ من أبيه وقومه إلا بعد أن بذل معهم كل مجهود، وداراهم وناظرهم، بل إن أباه كان يلزمه في أول نشأته أن يبيع له مع إخوته الأصنام التي كان يصنعها، فكان إبراهيم عليه السلام يأخذها ويخرج، وينادي عليها: من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ فيرجع إخوته وقد باعوا أصنامهم، ويرجع إبراهيم بأصنامه كما هي.
وها هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لم ييأس من عمه إلى ساعة الاحتضار، وسأل ربه أن يستغفر لأمه، فأبى، ثم سأله أن يزورها فأذن له في ذلك.
ما يفعله هؤلاء منافٍ للدين، والعقل، والعرف، إذ أن أمر الوالدين حتى في الأمر والنهي يختلف عن أمر الآخرين، وإن كان الرفق مطلوباً مع جميع الخلق، فما دخل في شيء إلا زانه، فهو مع الوالدين من باب أولى وبالأحرى، حتى إذا يئس منهم اعتزلهم بالحسنى، ورحم الله أبا داود صاحب السنن عندما سئل هل يروي عن أبيه، فقال للسائل: سل عن هذا غيري؛ فأصرَّ عليه، فقال: إنه الدين، لا تروِ عنه.
ولله در ابن عمر عندما سئل عن الخوارج، وقيل له: ما تقول في فتية شببة، ظراف، نظاف، وذكِر له من اجتهادهم في العبادة، ثم قيل له: ولكن يكفِّر بعضهم بعضاً؛ قال: ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفِّر بعضهم بعضاً.(1/337)
فالتكفير بالذنوب والمعاصي من غير استحلال من علامات أهل الأهواء، وعلامة على قلة العلم والفقه في الدين، وعلى دناءة الأخلاق وفساد الاعتقاد.
المراجع
• ... الآداب الشرعية لابن مفلح.
• ... إحياء علوم الدين للإمام الغزالي.
• ... الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر.
• ... بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس لأبي عمر يوسف بن عبد البر (368-463ه) تحقيق محمد مرسى الخولي.
• ... تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي.
• ... الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي.
• ... رياض الصالحين للإمام النووي.
• ... حسن الأسوة فيما ثبت عن الله ورسوله في النسوة، لصديق حسن خان.
• ... فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني.
• ... فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للبخاري تأليف فضل الله الجيلاني – طبع دار الفكر.
• ... كتاب الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المتوفى 386هـ، حققه وعلق عليه محمد أبو الأجفان – عثمان بطيخ – طبع مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1403ه.
• ... شرح السنة للإمام أبي الحسن محمد بن مسعود البغوي (436-516ه) تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى.
• ... موارد الظمآن لدروس الزمان لعبد العزيز المحمد السليمان، الطبعة الحادية عشرة 1402ه.
=================00000000
التحية بالقُبَل من المنكرات المحرمات
تحية الإسلام السَّلام، والمصافحة، والمعانقة، في بعض الأحيان
أولاً: تحية الإسلام السلام
يسلم الرجالُ على الرجال والنساءُ على النساء
متى يجوز سلام الرجل على المرأة أوالعكس بالتلفظ ومتى لا يجوز؟
ثانياً: المصافحة
أدلة مشروعية المصافحة لغير الأجانب
أدلة تحريم مصافحة الأجانب
ثالثاً: المعانقة
رابعاً: التقبيل
1. التقبيل الممنوع
2. التقبيل الجائز وأدلته
أ. تقبيل الأطفال الصغار
ب. تقبيل الرجل ولده وبنته الكبيرين
ج. تقبيل الأبناء لآبائهم وأمهاتهم
د. تقبيل يد ورأس العلماء، والكبراء، وأهل الفضل والصلاح من الرجال
ه . تقبيل ومعانقة المودَّع والقادم من سفر
و. تقبيل الميت الصالح في رأسه وجبهته
خامساً: القيام للسلام
سادساً: الانحناء
الحمد لله الذي لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا سدىً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا القائل: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك"، ورضي الله عن سلمان بن الإسلام الذي قال: "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة وآداب قضاء الحاجة".
على الرغم من ذلك فإننا نجد طوائف من المسلمين لم يسعهم ما وسع سلفهم الصالحين، فهم لا يزالون مولعين بالابتداع في الدين، وبالتشبه بالمغضوب عليهم والضالين.
فما من يوم يمر بل ولا ساعة إلا ونرى فيها ما كنا ننكر، بغياب سنة وظهور بدعة.
من تلك المصائب ما ابتدعته بعض البنات واخترعنه في الجامعات وخارجها، مقلدات فيه وناقلات لما يشاهدنه في المسلسات الهابطات، والمواقع الساقطات، والعادات الوافدات، وهي التحية بالقبلات، حيث تحيي إحداهن صاحبتها أوزميلتها بوضع فمها في فمها، وليت الأمر اقتصر على البنات، على الرغم من حرمته ونكارته وشناعته، بل قاسمهن في ذلك بعض الشباب والرجال، حيث أصبح البنات يحيين الرجال والنساء بتلك التحية المحرمة.
أولاً: تحية الإسلام السلام
معلوم أن تحية الإسلام السلام، في الدنيا والآخرة، كما أخبر ربنا: "وتحيتهم فيها سلام"، وصيغته: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، والرد كذلك، سواء كان المسلِّم أوالمسلَّم عليه فرداً أوجماعة فيأتي بصيغة الجمع.
وقد صحَّ أن الله لما خلق آدم عليه السلام قال له: "اذهب فسلم على أولئك، نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك؛ فقال: السلام عليكم؛ فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله".
يسلم الرجالُ على الرجال والنساءُ على النساء
يسلم الرجال على الرجل أوالرجال مستوري الحال ممن لم يشتهروا ببدعة أوفسق، أما المجاهر ببدعة وفسق فلا يسلَّم عليه، وإن سلَّم لا يرد عليه، وكذلك النساء مع النساء، تسلم المرأة الواحدة على المرأة وعلى جماعة النساء بالتلفظ والإشارة، ويجب على المسلَّم عليه الرد.
متى يجوز سلام الرجل على المرأة أوالعكس بالتلفظ ومتى لا يجوز؟
• ... يجوز لكل من الرجال والنساء السلام على محارمهم.
• ... يسلم الرجل على المرأة العجوز التي لا يفتتن بها، وتسلم هي كذلك على الشيخ إذا أمنت الفتنة.
• ... يجوز للرجل الواحد أن يسلم على جماعة النساء، وكذلك للمرأة الواحدة أن تسلم على جماعة الرجال إذا أمنت الفتنة.
• ... لا يجوز للرجل الواحد أن يسلم على المرأة الواحدة في الطريق خاصة، ولا أن تبدأ المرأة الرجل الواحد بالسلام في الطريق.
قال ابن أبي زيد: (قيل لمالك: أيُسَلَّمُ على النساء؟ قال: أما المتجالة فلا أكرهه، وأما الشابة فلا أحبه).(1/338)
قال الإمام النووي: (اعلم أن الرجل المسلم الذي ليس مشهوراً بفسق ولا بدعة يسلِّم ويسلَّم عليه، فيسن له السلام ويجب الرد عليه، قال أصحابنا: والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، وأما المرأة مع الرجل فقال الإمام أبو سعد المتولي: إن كانت زوجته، أوجاريته، أومحرماً من محارمه فهي معه كالرجل، فيستحب لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر رد السلام عليه، وإن كانت أجنبية، فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يسلم الرجل عليها، ولو سلم لم يجز لها رد الجواب، ولم تسلم هي عليه ابتداء، فإن سلمت لم تستحق جواباً، فإن أجابها كُره له، إن كانت عجوزاً لا يفتتن بها جاز أن تسلم على الرجل، وعلى الرجل السلام عليها، وإذا كانت النساء جميعاً فيسلم عليهن الرجل، أوكان الرجال كثيراً فسلموا على المرأة الواحدة جاز، إذا لم يخف عليه أوعليهن الفتنة).
وقال القرطبي: (وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أوخائنة، وأما المتجالات والعُجْز فحسن للأمن فيما ذكرناه، هذا قول عطاء وقتادة، وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء، ومنع منه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم، وقالوا لما سقط عن النساء الأذان، والإقامة، والجهر بالقراءة في الصلاة، سقط عنهن رد السلام، فلا يسلم عليهن والصحيح الأول).
دليل جواز سلام الرجال على المتجالات ما خرجه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كانت لنا عجوز.. فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلم عليها".
وكذلك ما رواه الترمذي وحسنه عن أسماء بنت يزيد: "مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا".
قال ابن حجر: (قال ابن بطال عن المهلب: سلام الرجال على النساء والنساء على الرجال جائز إذا أمنت الفتنة، وفرق المالكية بين الشابة والعجوز سداً للذريعة، ومنع منه ربيعة مطلقاً، وقال الكوفيون: لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال، فلو اجتمع في المجلس رجال ونساء جاز السلام من الجانبين عند أمن الفتنة).
وقال معمر عن يحيى بن أبي كثير قال: (بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء، فقال: ما كان الرجال يسلمون على النساء، إنما النساء يسلمن على الرجال، وقال منصور عن إبراهيم: كانوا يسلمون على النساء).
ثانياً: المصافحة
حكمها
مستحبة لمن تجوز لك مصافحتهم، هذا ما عليه عامة أهل العلم، وقد كرهها مالك في رواية عنه.
من تجوز مصافحتهم
1. الرجل للرجل.
2. المرأة للمرأة.
3. لمحارم كل من الرجل والمرأة.
من لا تجوز مصافحتهم
1. النساء الأجنيات، فلا يجوز لأجنبي أن يصافح أجنبية، سواء كانت أمينة سر - ويحرم على الرجل أن يتخذ أمينة سر من النساء - أوزميلة دراسة، أوعمل، أوجارة.
2. الشاب الأمرد.
أدلة مشروعية المصافحة لغير الأجانب
1. عن قتادة قال: قلت لأنس: "أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم".
2. وعن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب".
3. وعن أنس رضي الله عنه قال: "قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أوصديقه أينحني له؟ قال: لا؛ قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا؛ قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم".
4. وصح من حديث كعب بن مالك في توبته قال: "فقام إليّ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول، حتى صافحني وهنأني".
5. وعن أنس رضي الله عنه قال: "لما جاء أهل اليمن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة".
6. وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا".
7. وأخرج مالك في موطئه من مراسيل عطاء الخرساني قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء".
أدلة تحريم مصافحة الأجانب
أدلة تحريم مصافحة الأجانب رجالاً ونساءً صحيحة، وصريحة، ومفزعة، منها:
1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لا والله ما مست يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة قط، غير أنه بايعنه بالكلام".
2. وفي رواية عنها: "والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كفُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّ امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن كلاماً".
3. وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً؛ ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة".(1/339)
4. وعن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن "أن لا يشركن بالله شيئاً" الآية، وقال: فيما استطعتن وأطقتن؛ قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا؛ قلنا: يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة".
5. وعن معقل بن يسار رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يُطعن في رأس أحدكم بمِخْيَط من حديد خير له من أن يمس امرأة أجنبية".
امتناعه صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء الأجانب في البيعة وهي مظنة المصاحفة دل على تأكيد حرمتها فيما سوى البيعة، وهذا الحكم ليس من خصائصه كما يزعم البعض، لأن خصائصه صلى الله عليه وسلم معلومة ومعروفة، وقد وضحها العلماء.
أقوال العلماء في المصافحة المستحبة والمحرمة
قال ابن أبي زيد القيرواني: (وسئل مالك عن المصافحة؟ قال: إن الناس ليفعلون ذلك، وأما أنا فما أفعله.
ثم قال: وروي عنه في المصافحة غير هذا، أنه صافح سفيان بن عيينة).
وقال الإمام النووي: (واعلم أن هذه المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له.
إلى أن قال:
وينبغي أن يحترز من مصافحة الأمرد الحسن الوجه، فإن النظر إليه حرام كما قدمنا في الفصل الذي قبل هذا، وقد قال أصحابنا: كل من حرم النظر إليه حرم مسه، بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها، وفي حال البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ونحو ذلك، ولا يجوز مسها؛ ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه، والدعاء بالمغفرة، وغيرها).
قال ابن حجر: (قال ابن بطال: المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك بعد كراهته.
إلى أن قال: ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية، والأمرد الحسن.
وقال: قال ابن عبد البر: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة وذهب إلى هذا سحنون وجماعة، وقد جاء عن مالك جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه صنيعه في الموطأ، وعلى جوازها جماعة العلماء سلفاً وخلفاً).
وقال البغوي في شرح السنة: (وقال عبد الله بن مسعود: من تمام التحية المصافحة؛ وصافح حماد بن زيد ابن المبارك بيديه).
ثالثاً: المعانقة
1. المعانقة من غير شهوة
المعانقة لمن قدم من سفر
ذهب أهل العلم في مشروعية المعانقة واستحبابها أوكراهيتها مذهبين، هما:
أ. المعانقة للقادم من السفر مشروعة ومستحبة، ودليلها:
• ... معانقة الرسول صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب عندما رجع من الحبشة.
• ... وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فابتعتُ بعيراً، فشددت إليه رحلي شهراً، حتى قدمتُ الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أن جابراً بالباب، فرجع الرسول، فقال: جابر بن عبدالله؟ فقلت: نعم؛ فخرج فاعتنقني".
• ... وعن أنس رضي الله عنه: "كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا".
• ... وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "ما لقيته – أي رسول الله صلى الله عليه وسلم – إلا صافحني، وبعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ولم أكن في أهلي، فلما جئت فأخبرت أنه أرسل إليَّ فأتيته، وهو على سرير فالتزمني، فكانت تلك أجود أجود".
• ... وقد عانق الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة حين رجع من قتال بني فزارة.
وهذا مذهب سفيان بن عيينة ومن وافقه، وهو الراجح للأدلة السابق.
ب. المعانقة للقادم من السفر غير مشروعة، وهذا مذهب مالك بن أنس ومن وافقه، وعد معانقة جعفر بن أبي طالب وغيره من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولا دليل على ذلك.
2. المعانقة بشهوة
وهي حرام، سواء كان المعانق من ذوي المحارم أومن غيرهم.
3. المعانقة للمرأة الأجنبية وللأمرد الحسن الوجه
محرمة.
أقوال أهل العلم في المعانقة
روى ابن أبي زيد عن مالك بعدما صافح سفيان بن عيينة: (قال له: لولا أنها بدعة لعانقتك؛ فاحتج عليه سفيان بمعانقة النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر حين قدم من أرض الحبشة، فقال مالك: كان ذلك خاصاً لجعفر؛ ورآه سفيان عاماً، وأجاز مالك في رسالته لهارون الرشيد أن يعانق قريبه يقدم من سفر، وقيل: إن هذه الرسالة لم تثبت لمالك).
وقال ابن حجر: (قال ابن بطال: اختلف الناس في المعانقة، فكرهها مالك، وأجازها ابن عيينة، ثم ساق قصتها، قال: استأذن ابن عيينة على مالك فأذن له، فقال: السلام عليكم؛ فردوا عليه، ثم قال: السلام خاص وعام، السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته؛ فقال: وعليك السلام يا أبا محمد ورحمة الله وبركاته؛ ثم قال: لولا أنها بدعة لعانقتك؛ قال: قد عانق من هو خير منك؛ قال: جعفر؟ قال: نعم؛ قال: ذاك خاص؛ قال: ما عمه يعمنا؛ الحديث.(1/340)
قال الذهبي في "الميزان": هذه الحكاية باطلة، وإسنادها مظلم، قلت: والمحفوظ عن ابن عيينة بغير هذا الإسناد).
وقال النووي في الأذكار: (وأما المعانقة وتقبيل الوجه لغير الطفل ولغير القادم من سفر ونحوه فمكروهان، نص على كراهيتهما أبو محمد البغوي، إلى أن قال: وهذا الذي ذكرناه في التقبيل والمعانقة، وأنه لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، هو في غير الأمرد الحسن الوجه، فأما الأمرد الحسن فيحرم بكل حال تقبيله، سواء قدم من سفر أم لا؛ والظاهر أن معانقته كتقبيله، أوقريبة من تقبيله؛ وقال ابن أبي زيد: (وكره مالك معانقة الرجل الرجلَ وقال: قال الله: "تحيتهم فيها سلام).
وقال العلامة فضل الله الجيلاني: (والمكروه من المعانقة ما كان على وجه الشهوة، فأما على وجه البر والكرامة إذا كان عليه قميص واحد فلا بأس به، وعليه يحمل حديث أنس أخرجه الترمذي في المصافحة وحديث أبي ريحانة شمسون: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المكاعمة والمكامعة، فالمكاعمة المعانقة، والمكامعة التقبيل بشهوة).
وقال البغوي: (وكره قوم المعانقة، ورخص فيها قوم، قال أبو هريرة: جاء الحسن بن علي فالتزمه رسول الله).
رابعاً: التقبيل
من يجوز لهم التقبيل، ولمن، وفي أي موضع من الجسم
هذه المسألة هي الدافعة لكتابة هذا البحث، وفيها تفصيل، منه ما هو جائز مشروع، ومنه ما هو ممنوع.
1. التقبيل الممنوع
• ... التقبيل بشهوة في أي موضع من الجسم لذوي المحارم وغيرهم على النساء والرجال.
• ... تقبيل المرأة الأجنبية.
• ... تقبيل الصبي الأمرد حسناً كان أم قبيحاً.
• ... تقبيل حالق اللحية.
• ... التقبيل لغرض دنيوي لمال أوجاه أوشوكة، وهو ما كان على وجه الملق.
• ... في الحضر.
• ... التقبيل في الفم، سواء كان بين النساء بعضهم لبعض، أوبين الرجال، أوبين النساء والرجال.
2. التقبيل الجائز وأدلته
ويكون في الرأس، والخد، واليد، والجبهة.
أ. تقبيل الأطفال الصغار
ذكوراً كانوا أم إناثاً، كانوا له أولغيره، للرجال والنساء، وشمهم مالم يكن بشهوة، أومن عائن.
وإليك الأدلة:
• ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد، ما قبلتُ منهم أحداً؛ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم".
• ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم؛ قالوا: لكنا والله ما نقبل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوأملك إن كان الله تعالى نزع منكم الرحمة؟".
• ... وعن أنس رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم فقبله وشمه".
• ... وعن إياس بن دغفل قال: "رأيت أبا نضرة قبَّل خد الحسن بن علي رضي الله عنهما".
قال النووي: (أما تقبيل الرجل خد ولده الصغير، وأخيه، وقبلة غير خده وأطرافه ونحوها على وجه الشفقة والرحمة والتلطف ومحبة القرابة فسنة، والأحاديث فيه كثيرة صحيحة مشهورة، وسواء الولد الذكر والأنثى، وكذلك قبلته ولد صديقه وغيره من صغار الأطفال، على هذا الوجه، وأما التقبيل بالشهوة فحرام بالاتفاق، وسواء في ذلك الوالد وغيره، بل النظر إليه بالشهوة حرام بالاتفاق على القريب والأجنبي).
ب. تقبيل الرجل ولده وبنته الكبيرين
كذلك يجوز للرجل تقبيل ولده وبنته الكبيرين في الرأس والجبهة والخد، وإليك الأدلة:
• تقبيل الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيتُ أحداً أشبه حديثاً ولا كلاماً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فرحب بها، وقبلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فرحبت وقبلته وأجلسته، فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فرحب بها وقبلها".
• تقبيل أبي بكر لعائشة رضي الله عنهما
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "دخلتُ مع أبي بكر رضي الله عنه أول ما قدم المدينة، فإذا عائشة ابنته رضي الله عنها مضطجعة قد أصابتها حمى، فأتاها أبو بكر، فقال: كيف أنت يا بنية؟ وقبل خدها".
• تقبيل ابن عمر رضي الله عنهما لولده سالماً
كان ابن عمر يقبل ولده سالماً ويقول: شيخ يقبل شيخاً؛ وفي رواية: اعجبوا من شيخ يقبل شيخاً.
ج. تقبيل الأبناء لآبائهم وأمهاتهم
من التقبيل المشروع تقبيل الأبناء والبنات الكبار والصغار لآبائهم وأمهاتهم، فقد مر أن فاطمة رضي الله عنها كانت تبادر وتقبل أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
د. تقبيل يد ورأس العلماء، والكبراء، وأهل الفضل والصلاح من الرجال
كذلك يجوز تقبيل يد ورأس العالم، والصالح، والحاكم العادل، والأعمام، والأخوال، والقرابات، وذي الشيبة المسلم، من غير اعتقاد أنه ينفع أو يضر.(1/341)
أنكر التقبيل مالك، وأجازه طائفة من أهل العلم.
وإليك الأدلة:
• ... عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: "اذهب بنا إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات، فذكر الحديث إلى قوله: قبلا يده ورجله، وقالا: نشهد إنك نبي".
• ... عن ابن عمر رضي الله عنهما أنهم لما رجعوا من الغزو حين فروا قالوا: نحن الفرارون؛ فقال: بل أنتم العكارون، أنا فئة المؤمنين؛ قال: فقبلنا يده".
• ... قبل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد النبي صلى الله عليه وسلم حين تاب الله عليهم.
• ... وقبل أبو عبيدة يد عمر حين قدم الشام.
• ... وقبل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين أخذ ابن عباس بركابه.
قال الحافظ ابن حجر: وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقري جزءاً في تقبيل اليد سمعناه، أورد فيه أحاديث كثيرة وآثاراً، فمن جيدها:
• ... حديث الزارع العبدي، وكان في وفد عبد القيس، قال: "فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله" أخرجه أبو داود.
• ... ومن حديث مزيدة العصري مثله.
• ... ومن حديث أسامة بن شريك قال: "قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده"، وسنده قوي.
• ... ومن حديث جابر: "أن عمر قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل يده".
• ... ومن حديث بريدة في قصة الأعرابي والشجرة، فقال: "يا رسول الله ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك؛ فأذن له".
• ... وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من رواية عبد الرحمن بن رزين قال: "أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفاً له ضخمة كأنها كف بعير فقمنا إليها فقبلناها".
• ... وعن ثابت أنه قبل يد أنس.
• ... وأخرج أيضاً أن علياً قبل يد العباس ورجله.
• ... وقال أبو مالك الأشجعي: قلت لابن أبي أوفى ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فناولنيها فقبلتها.
• ... وقال النووي: إن سهل بن عبد الله التُّسْتَري كان يأتي أبا داود السجستاني، ويقول: "أخرج لي لسانك الذي تحدث به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقبله فيقبله".
• ... وقال الإمام مسلم لشيخه البخاري رحمهما الله: "دعني أقبل رجليك - بعد أن قبل يده ورأسه – يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله".
أقوال العلماء في تقبيل اليد والرأس لأهل العلم والفضل والصلاح
لا شك أن تقبيل يد ورأس أهل العلم والفضل والصلاح من العلماء، والحكام الأخيار، والأكابر جائز، أما الممنوع المنهي عنه فهو التقبيل لأحد سببين:
1. الاعتقادات الشركية الفاسدة.
2. الملق والأغراض الدنيوية.
قال الإمام النووي رحمه الله بعد أن أورد عدداً من الآثار لجواز تقبيل يد العلماء والفضلاء: (وأفعال السلف في هذا الباب أكثر من أن تحصر، والله أعلم).
وقال الحافظ ابن حجر: (قال ابن بطال: الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة، وذلك مستحب عند العلماء، وإنما اختلفوا في تقبيل اليد، فأنكره مالك وأنكر ما روي فيه، وأجازه آخرون).
ثم دلل على ذلك، إلى أن قال:
قال الأبهري: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه الكبر والتعظيم، وأما إذا كانت على وجه القربة إلى الله لدينه، أولعلمه، أولشرفه، فإن ذلك جائز).
وقال النووي: (إذا أراد تقبيل يد غيره، إن كان ذلك لزهده، وصلاحه، أوعلمه، وشرفه، وصيانته، أونحو ذلك من الأمور الدينية لم يكره بل يستحب، وإن كان لغناه، ودنياه، وثروته، وشوكته، ووجاهته عند أهل الدنيا ونحو ذلك فهو مكروه شديد الكراهة، وقال المتولي من أصحابنا: لا يجوز، فأشار إلى أنه حرام).
وقال ابن أبي زيد القيرواني: (وسئل مالك عن الرجل يقبل يد الوالي أورأسه، والمولى يفعل ذلك بسيده؟ قال: ليس ذلك من عمل الناس، وهو من عمل الأعاجم.
قيل: فيقبل رأس أبيه؟ قال: أرجو أن يكون خفيفاً.
وسئل في رواية أخرى : هل يقبل يد أبيه أوعمه؟ قال: لا أرى أن يفعل، وإن من العبرة أن من مضى لم يكن يفعل).
مما يدل على إنكار مالك للآثار المجيزة للتقبيل ما رواه ابن أبي زيد كذلك: (قيل – أي لمالك -: كان ابن عمر إذا قدم من سفر قبل سالماً، وقال: شيخ يقبل شيخاً؛ فأنكر الحديث، وقال: لا نتحدث بمثل هذه الأحاديث، لا تهلكوا فيها).(1/342)
وقال البغوي: (قال حميد بن زنجويه: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المعانقة والتقبيل، وجاء أنه عانق جعفر بن أبي طالب وقبله عند قدومه من أرض الحبشة، وأمكن من يده حتى قبلت، وفعل ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك بمختلف، ولكل وجه عندنا، فأما المكروه من المعانقة والتقبيل فما كان على وجه الملق والتعظيم، وفي الحضر، فأما المأذون فيه فعند التوديع، وعند القدوم من السفر، وطول العهد بالصاحب، وشدة الحب في الله، ومن قبل فلا يقبل الفم، ولكن اليد والرأس والجبهة، وإنما كُره ذلك في الحضر فيما يُرى لأنه يكثر ولا يستوجبه كل أحد، فإن فعله الرجل ببعض الناس دون بعض وجد عليه الذين تركهم، وظنوا أنه قد قصر في حقهم، وآثر عليهم، وتمام التحية المصافحة).
وقال فضل الله الجيلاني: (لا بأس بتقبيل يد العالم، والمتورع، والحاكم المتدين، والسلطان العادل، وتقبيل رأسه أجود، أي أكثر ثواباً، ولا رخصة فيه لغير عالم وعادل.
وفي "المحيط" إن كان التعظيم لإسلامه وإكرامه جاز، وإن كان لنيل الدنيا كره أوحرم بحسبه، والتقبيل على سبيل البر بلا شهوة جائز بالإجماع، وتقبيل يد نفسه إذا لقي غيره فهو مكروه ولا رخصة فيه.
أما تقبيل يد إنسان ليس عالماً ولا صالحاً ولا عادلاً ولا ممن يرجى صلاحه فمكروه بالإجماع).
ه . تقبيل ومعانقة المودَّع والقادم من سفر
من الحالات التي يجوز فيها التقبيل وبالأحرى المعانقة والالتزام عند وداع المسافر وعند استقباله.
فيجوز للرجال أن يفعلوا ذلك بالرجال، وبمحارمهم من النسب، وكذلك يجوز للنساء أن يفعلن ذلك مع النساء وبمحارمهن من النسب.
وإليك الأدلة:
• ... عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما قدم جعفر استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل ما بين عينيه".
• ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم عُرياناً يجر ثوبه فاعتنقه وقبله".
• ... وعن أبي الهيثم بن التيهان أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه فاعتنقه وقبله.
أقوال العلماء
قال ابن أبي زيد: (قيل لمالك: أرأيت من قدم من سفر فتلقاه ابنته أوأخته فتقبله؟ قال: لا بأس بذلك؛ وقال أيضاً: لا بأس أن يقبل خد ابنته؛ قيل: أفترى أن تقبله ختنته، أوتعانقه وهي متجالة؟ فكره ذلك.. وكره معانقة الرجل للرجل.
وقال مالك: لا بأس أن يقبل الرجلُ خد ابنته إذا قدم من سفره.
وقال: ويقال من تعظيم الله تعالى تعظيم ذي الشيبة المسلم).
وقال النووي: (وهذا الذي ذكرناه في التقبيل والمعانقة أنه لا بأس به عند القدوم من السفر ونحوه ومكروه كراهة تنزيه في غيره، هو في غير الأمرد الحسن الوجه، وأما الأمرد الحسن الوجه فيحرم بكل حال تقبيله، سواء قدم من سفر أم لا، والظاهر أن معانقته كتقبيله، أوقريبة من تقبيله، ولا فرق في هذا أن يكون المقبِّل والمقبَّل رجلين صالحين أوفاسقين، أوأحدهما صالحاً، فالجميع سواء، والمذهب الصحيح عندنا تحريم النظر إلى الأمرد الحسن، ولو كان بغير شهوة، وقد أمن الفتنة، فهو حرام كالمرأة لكونه في معناها).
وقال البغوي: (وعن تميم بن سلمة قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام، استقبله أبو عبيدة بن الجراح، فأخذ بيده فقبلها، قال تميم: كانوا يرون أنها سنة؛ وقال الشعبي: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصافح بعضهم بعضاً، وإذا جاء أحدهم من سفر عانق صاحبه، وقدم سلمان فدخل المسجد فقام إليه أبوالدرداء فالتزمه، وقال عمر بن ذرٍّ: كنتُ إذا ودعت عطاء بن أبي رباح التزمني بيده وضمني إلى جلده).
و. تقبيل الميت الصالح في رأسه وجبهته
كذلك من الحالات التي يجوز فيها التقبيل تقبيل الميت الصالح، يقبله أهله وغيرهم، الرجال يقبلون الرجال الصالحين، وكذلك النساء يقبلن إن شئن الصالحات منهن ومحارمهن.
فقد صح عن عائشة رضي الله عنها في الحديث الطويل في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "دخل أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أكب عليه فقبله، ثم بكى".
قال النووي: (ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرك، ولا بتقبيل الرجل وجه صاحبه إذا قدم من سفر ونحوه).
خامساً: القيام للسلام
ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار
• ... عن أنس رضي الله عنه قال: "لم يكن شخص أحب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك".
• ... وعن أبي مِجْلز أن معاوية خرج وعبد الله بن عامر وعبد الله بن الزبير جالسان، فقام ابن عامر، وقعد ابن الزبير، فقال معاوية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده في النار".
• ... وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة حين أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه: "قوموا لسيدكم".
حكم القيام للسلام(1/343)
يختلف حكم القيام باختلاف المقام إليه، وله حالات:
الحالات التي يجوز فيها القيام
1. يجوز القيام لأهل العلم، والفضل، ولولاة الأمر المقسطين.
2. للآباء والأجداد ونحوهم من الكبراء من الأقارب وذوي الأرحام.
3. لذي الشيبة المسلم.
4. إذا تعارف أهل بلد واعتادوا أن يقوموا للمسلم المصافح.
الحالات التي يحرم فيها القيام
1. لمن أحب أن يُقام إليه.
2. لأهل البدع والفجور المجاهرين بذلك.
3. للطغاة المتجبرين.
فهؤلاء لا يُقام لأحد منهم إلا لمن خاف من شرهم، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
أقوال العلماء
قال ابن أبي زيد: (قيل – لمالك -: فالرجل يقوم للرجل له الفقه والفضل فيجلسه؟ قال: يكره ذلك، ولا بأس أن يوسع له.
قيل له: فالمرأة تبالغ في بر زوجها، فتلقاه فتنزع ثيابه، ونعليه، وتقف حتى يجلس؟ قال: أما تلقيها ونزعها فلا بأس، وأما قيامها حتى يجلس فلا، وهذا فعل الجبابرة، وربما يكون الناس ينتظرونه، فإذا طلع قاموا إليه، ليس هذا من فعل الإسلام.
ويقال: إن عمر بن عبد العزيز فُعِلَ ذلك به أول ما ولي حين خرج إلى الناس فأنكره، وقال: إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، وإنما يقوم الناس لرب العالمين).
وقال النووي: (وأما إكرام الداخل بالقيام، فالذي نختاره أنه مستحب لمن كان فيه فضيلة ظاهرة من علم، أوصلاح، أوشرف، أوولاية مصحوبة بصيانة، أوله ولادة، أورحم مع سن، ونحو ذلك، ويكون هذا القيام للبر والإكرام والاحترام، لا للرياء والإعظام، وعلى هذا الذي اخترناه استمر عمل السلف والخلف).
وقال البغوي: (وهذا فيمن سلك فيه طريق التكبر – أي النهي عن القيام – فأما القيام على وجه الاحترام فغير مكروه).
زار أبو جعفر المنصور المدينة بعد حجة حجها، وحضر الناس لزيارته والسلام عليه، فعندما خرج على الناس قام الكل إلا ابن أبي ذئب، فقيل له: لِمَ لمْ تقم؟ فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين؛ وقال أبو جعفر لحاجبه: دعه، فقد قامت كل شعرة من شعر رأسي – أي هيبة منه.
وقال فضل الله الجيلاني: (قال النووي في التبيان في آداب حملة القرآن: يجوز بل يندب القيام تعظيماً للقادم، أي إذا كان ممن يستحق التعظيم، وقيام الجالس في المسجد لمن دخل عليه تعظيماً، وقيام القارئ القرآن لمن يجيء تعظيماً لا يكره إذا كان ممن يستحق التعظيم.
وفي "مشكل الآثار": القيام لغيره ليس بمكروه لعينه، إنما المكروه محبة القيام لمن يقام له، فإن قام لمن لا يقام له لا يكره، وقال ابن وهبان: وفي عصرنا ينبغي أن يستحب ذلك لما يورث تركه من الحقد والبغضاء والعداوة لا سيما إذا كان في مكان اعتيد فيه القيام، وما ورد من التوعد عليه في حق من يحب القيام بين يديه، كما يفعله الترك والأعاجم، وعن الشيخ الحكيم أبي القاسم: كان إذا دخل عليه غني يقوم له ويعظمه ولا يقوم للفقراء وطلبة العلم، فقيل له في ذلك، فقال: الغني يتوقع مني التعظيم فلو تركته لتضرر، والطلبة إنما يطمعون في جواب السلام، والكلام منهم في العلم).
سادساً: الانحناء
الانحناء عند اللقاء وفي التحية لا يجوز سواء فُعِلَ تديناً أوعادة، وما يفعله بعض المريدين لمشايخهم تقديراً أواحتراماً، وبعض المسلمين من الأفارقة والآسيويين وغيرهم تمشياً ومجاراة للعادات والتقاليد عندهم لا أصل له في الدين، ولا يحل فعله وتقليدهم فيه.
وما حكاه لنا القرآن في سورة يوسف: "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً"، فقد نُسِخَ بشرعنا.
قال النووي: (ويكره حني الظهر في كل حال، لكل أحد، ويدل عليه ما قدمناه في الفصلين المتقدمين من حديث أنس وقوله: "أينحني له؟ قال: لا"، وهو حديث حسن كما ذكرنا، ولم يأت له معارض فلا مصير إلى مخالفته، ولا يغتر بكثرة من يفعله ممن ينتسب إلى علم أوصلاح وغيرهما من خصال الفضل، فإن الاقتداء إنما يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، وقال: "وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم".
وقال الفضيل بن عياض: اتبع طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطريق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين").
المراجع
• ... الأذكار للنووي.
• ... التبيان في آداب حملة القرآن للنووي.
• ... الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
• ... شرح السنة للبغوي.
• ... فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر.
• ... فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للبخاري – تأليف العلامة فضل الله الجيلاني.
• ... الكتاب الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المتوفى 386ه .
=================000
صلة الرّحم وقطعها
تعريف صلة الرحم
نوعا الرحم
حكم صلة الرحم وقطعها
فضل وثواب واصل الرحم في الدنيا والآخرة
عقوبة ووزر قاطع الرحم في الدنيا والآخرة
بم توصل الرحم؟
ذوو الأرحام ليسوا سواء
بم يوصل ذوو الأرحام من الكفار والفجَّار غير المحاربين؟
ليس الواصل بالمكافئ(1/344)
تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم
أهمية عقيدة الولاء والبراء في صلة الأرحام وقطيعتها
نماذج للتبري والتخلي عن القرابات الكافرة والفاجرة
ليحذر الواصل المخالفات الشرعية
صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك
لقد أمر الله بصلة الأرحام، والبر والإحسان إليهم، ونهى وحذر عن قطيعتهم والإساءة إليهم، وعدَّ صلى الله عليه وسلم قطيعة الأرحام مانعاً من دخول الجنة مع أول الداخلين، ومُصْلٍ للمسيئين لأرحامهم بنار الجحيم.
على الرغم من وصية الله ورسوله بالأقارب، وعدِّ الإسلام صلة الرحم من الحقوق العشرة التي أمر الله بها أن توصل في قوله تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.. وبذي القربى" إلا أن جلّ المسلمين أضاعوا هذا الحق مثل إضاعتهم لغيره من الحقوق، أوأشد، مما جعل الحقد، والبغضاء، والشحناء، تحل محل الإلفة، والمحبة، والرحمة، بين أقرب الأقربين وبين الإخوة في الدين على حد سواء.
فعلى المسلمين أن يحاسبوا أنفسهم، ويرعوا وصية ربهم ورسولهم، ويقوموا بواجباتهم، لينالوا حقوقهم، فكما تدين تدان، فالإسلام دين الحق والعدل، ولهذا فإنه يقوم على مبدأ الحقوق والواجبات مع أمره بالعفو عن الزلات والهفوات، ومقابلة السيئات بالحسنات.
وبعد..
فهذا بحث مختصر عن صلة الأرحام، وعن حقوق الأقارب والأهل، عن تعريف الرحم بنوعيها الخاصة والعامة، وعن فضل وثواب الصلة، ووزر وعقوبة القطيعة، وعن الفروق الرئيسية بين صلة الرحم المؤمنة المستقيمة، والرحم الكافرة والفاجرة، وما يتعلق بذلك، فأقول:
تعريف صلة الرحم
الصلة: الوصل، وهو ضد القطع، ويكون الوصل بالمعاملة نحو السلام، وطلاقة الوجه، والبشاشة، والزيارة، وبالمال، ونحوها.
الرحم: اسم شامل لكافة الأقارب من غير تفريق بين المحارم وغيرهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى قصر الرحم على المحارم، بل ومنهم من قصرها على الوارثين منهم، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد رحمهما الله، والراجح الأول.
نوعا الرحم
الرحم التي أمر الله بها أن توصل نوعان:
الأول: رحم الدين، وهي رحم عامة تشمل جميع المسلمين، وتتفاوت صلتهم حسب قربهم وبعدهم من الدين، وكذلك حسب قربهم وبعدهم الجغرافي.
ويدل على ذلك قوله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم"، فأثبت الله الأخوة الإيمانية لجميع المسلمين، وقوله: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطِّعوا أرحامكم"، قال القرطبي: (وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار).
الثاني: رحم القرابة، القريبة والبعيدة، من جهتي الأبوين.
ولكل من هذين النوعين حقوق ونوع صلة.
قال القرطبي رحمه الله: (وبالجملة فالرحم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين، ويجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم والنصيحة لهم، وترك مضارتهم، والعدل بينهم، والنَّصفة في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى، وحقوق الموتى من غسلهم، والصلاة عليهم، ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم، وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقة، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب، وقال بعض أهل العلم: إن الرحم التي تجب صلتها هي كل رحم مَحْرَم، وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال، وقيل: بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث مِحْرماً كان أم غير مَحْرم، فيخرج من هذا أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم، وهذا ليس بصحيح، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم يجب صلته في كل حال قربة ودينية).
وقال ابن مفلح رحمه الله: (وذكر أبو الخطاب وغيره في مسألة العتق: قد توعد الله سبحانه وتعالى بقطع الأرحام باللعن وإحباط العمل، ومعلوم أن الشرع لم يرد صلة كل ذي رحم وقرابة، إذ لو كان ذلك لوجب صلة جميع بني آدم، فلم يكن بد من ضبط ذلك بقرابة تجب صلتها وإكرامها ويحرم قطعها، وتلك قرابة الرحم المَحْرَم.
إلى أن قال معلقاً على قول أبي الخطاب: وهذا الذي ذكره من أنه لا يجب إلا صلة الرحم المَحْرَم، اختاره بعض العلماء، ونص أحمد الأول، أنه تجب صلة الرحم محرماً كان أولا).
وقال الحافظ في الفتح: (يطلق على الأقارب وهم مَنْ بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا، سواء كان ذا مَحْرَم أم لا، وقيل هم المحارم فقط، والأول هو المرجح، لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام، وليس كذلك).
حكم صلة الرحم وقطعها
صلة الرحم واجبة وقطيعتها محرمة، ومن الكبائر.
قال القرطبي رحمه الله: (اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة).(1/345)
وقال ابن عابدين الحنفي: (صلة الرحم واجبة ولو كانت بسلام، وتحية، وهدية، ومعاونة، ومجالسة، ومكالمة، وتلطف، وإحسان، وإن كان غائباً يصلهم بالمكتوب إليهم، فإن قدر على السير كان أفضل).
الأدلة على ذلك
الأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1. قوله تعالى: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام".
2. وقوله تعالى: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم".
3. وجاء في حديث أبي سفيان لهرقل عندما قال له: فما يأمر؟ قال: "يأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والصلة".
4. وعن عائشة رضي الله عنها ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرحم شُجْنة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته".
فضل وثواب واصل الرحم في الدنيا والآخرة
لقد وعد الله ورسوله واصل الرحم بالفضل العظيم، والأجر الكبير، والثواب الجزيل، من ذلك:
أولاً: في الدنيا
1. فهو موصول بالله عز وجل في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق، حتى إذا فَرَغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؛ قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب؛ قال: فهو لك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأوا إن شئتم: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم".
2. يُبسط له في رزقه.
3. يُنسأ له في أجله – أن يزاد في عمره بسبب صلته لرحمه.
4. تعمر داره.
5. صلة الرحم تدفع عن صاحبها ميتة السوء.
6. يحبه الله.
7. يحبه أهله.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سرَّه أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه".
وعن عائشة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "صلة الرحم، وحسن الجوار، وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار" ، ولأبي يَعْلى من حديث يرفعه: "إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء".
لا تعارض أخي الكريم بين هذه الأحاديث وبين قوله عز وجل: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولايستقدمون"، لأن هذه الزيادة وهي على حقيقتها بالنسبة إلى علم المَلك الموكل بكتابة الأجل، وشقي أم سعيد، أما الآية فهذا بالنسبة إلى علم الله عز وجل، فعلم الله لا زيادة فيه ولا نقصان، ولكن يوحى للملك بأن عمر فلان ستون سنة، وبسبب صلته لرحمه يبلغ عمره ثمانين سنة مثلاً، وهو الذي أشار إليه ربنا بقوله: "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب"، ولهذا لا داعي لصرف اللفظ عن معناه الظاهر بأن المراد أن يبارك الله في عمره، والله أعلم.
ثانياً: في الآخرة
صلة الرحم سبب من أسباب دخول الجنة مع أول الداخلين، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم".
عقوبة ووزر قاطع الرحم في الدنيا والآخرة
أولاً: في الدنيا
1. لا يرفع له عمل ولا يقبله الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أعمال بني آدم تعرض على الله تبارك وتعالى عشية كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم".
وفي رواية: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر فيهما لمن لا يشرك بالله إلا المهاجرين".
2. لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع
الشر يعم والخير يخص، فلا تنزل رحمة على قوم فيهم قاطع رحم، ولهذا يجب التواصي ببر الآباء وصلة الأرحام، والتحذير من العقوق، فإذا فعلوا ذلك سلموا من هذه العقوبة.
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم".
قال الطِّيبي في توجيه ذلك: (يحتمل أن يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم، ولا ينكرون عليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة المطر، وأنه يحبس عن الناس بشؤم التقاطع، ولا يدخل في القوم عبد قطع من أمر الله بقطعه، لكن لو وصلوا بما يباح من أمر الدنيا لكان فضلاً، كما رق صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لما سألوه برحمهم بعدما دعا عليهم بالقحط، وكما أذن لعمر ولأسماء رضي الله عنهما) ببر أرحامهما من المشركين.
3. تعجيل العقوبة للعاق في الدنيا قبل الآخرة
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أحرى أن يعجل اللهُ لصاحبه العقوبة في الدنيا – مع ما يدِّخره له في الآخرة – من قطيعة الرحم والبغي".
4. أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم
ثانياً: في الآخرة
1. لا يدخل الجنة مع أول الداخلين
قاطع الرحم لا يدخل الجنة مع أول الداخلين إن كان من الموحدين، ولكن بعد أن يطهره الله بالنار من تلك المخالفة، لأنه لا يبقى في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.(1/346)
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قاطع".
وعن أبي موسى رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مصدِّق بسحر، ولا قاطع رحم".
2. لا تفتح له أبواب الجنة أولاً.
3. يدخر له من العذاب يوم القيامة مع تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يتب أويتغمده الله برحمته.
4. يُسف المَلّ، وهو الرماد الحار
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسنُ إليهم ويسيئون إليّ، ويجهلون عليّ، وأحلم عنهم؛ قال: "لئن كان كما تقول كأنما تسفُّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمتَ على ذلك".
قال النووي: (كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم).
بم توصل الرحم؟
الصلة تكون بالفعلن وهو الإحسان، أوبالترك وهو كف الأذى، وهي درجات دنيا وعليا.
أولاً: صلة الرحم العامة
وهي رحم الدين، ووشيجة التقوى، فإنها تحصل بالآتي:
1. التناصح والتشاور.
2. التوادد.
3. العدل والإنصاف.
4. القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة على قدر الطاقة.
5. التعليم، والإرشاد، والتوجيه.
6. الأمر والنهي.
7. الشفاعة الحسنة.
8. تحمل الأذى.
9. كفُّ الأذى عنهم، وهذا أضعف الإيمان أن يكفَّ الإنسان أذاه عن إخوانه المسلمين.
والأدلة على ذلك كثيرة جداً، فمن القرآن:
1. "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم".
2. "واخفض جناحك للمؤمنين".
ومن السنة:
1. "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً"، وشبَّك بين أصابعه.
2. "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
3. "المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه، وماله، ودمه، التقوى ههنا، بحسب امرئ من الشر أن يحْقِر أخاه المسلم".
4. "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة".
5. "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إن كان مظلوماً، أرأيتَ إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: "تحجُزُه – أوتمنعه – عن ظلمه فإن ذلك نصره".
6. "حق المسلم على المسلم خمس: ردُّ السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس".
7. "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح"، أي المضمر العداوة.
هذه الحقوق من الواجبات الكفائية، وقد تتعين في بعض الأحيان لبعض المسلمين على بعض.
والحقوق الكفائية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وإذا تركها الجميعُ أثم الجميعُ، ولهذا فإن بعض الحقوق الكفائية المضاعة قد تكون أهم من الحقوق العينية، لأهميتها، وخطورتها، وحاجة المسلمين العامة إليها، نحو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتعليم والإرشاد.
ثانياً: صلة الرحم الخاصة
وهم جميع القرابات من جهة النسب، من قبل الأم والأب، وهؤلاء صلتهم عامة كذلك وخاصة:
(أ ) الصلة العامة
وهي شاملة لجميع حقوق الصلة لعامة المسلمين التي ذكرناها آنفاً.
(ب ) صلة خاصة
وهي زيادة حقوق على حقوق المسلم العامة.
على المرء أن يسع جميع أرحامه بالحقوق العامة والخاصة، فإن تزاحمت أرحامُه فعليه أن يصل الأقرب فالأقرب، كما ورد في الحديث: "من أحقُّ الناس بحسن صحابتي"، الذي جاء فيه: "ثم أدناك أدناك".
وفي الجملة فإن الصلة الخاصة تكون بالآتي:
الحد الأدنى
وهذا يحصل بـ:
1. السلام.
2. طلاقة الوجه، التبسم.
3. كف الأذى.
الحد الأعلى
وهذا يحصل بـ:
1. الزيارة.
2. عيادة المريض.
3. الإهداء.
4. الإنفاق على المعسرين.
5. المشاركة في الأفراح والأتراح.
6. التهنئة بالأعياد، وليس للمسلمين سوى عيدي الفطر والأضحى.
7. تمييزهم على غيرهم في الصدقات الواجبة والصدقات التطوعية.
8. تمييزهم في الشفاعات الحسنة.
9. تمييزهم في التوجيه والتعليم.
10. تمييزهم على غيرهم في الجيرة.
11. تمييزهم على غيرهم في تحمل الأذى.
الأدلة على ذلك كثيرة جداً، فمن القرآن:
1. "وأنذر عشيرتك الأقربين"، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بأن يبدأ بدعوة أهله وعشيرته أولاً.
2. "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها".
3. "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً".
فالأهل والأقارب أولى بالتوجيه والمناصحة والتعليم من غيرهم.
ومن الأحاديث:(1/347)
1. عندما نزل قوله تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" قال أبو طلحة رضي الله عنه: إن أحبَّ مالي إليّ بَيْرَحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَخٍ! ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين؛ فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه".
2. وعن ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة، ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرتَ يا رسول الله إني أعتقتُ وليدتي؟ قال: أوفعلتِ؟ قالت: نعم؛ قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك".
3. "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة".
4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: "وأنذر عشيرتك الأقربين" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، فاجتمعوا، فعمَّ وخصَّ، وقال: "يا بني عبد شمس، يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مُرَّة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رَحِماً سأبلها ببلالها".
5. "بلوا أرحامكم ولو بالسلام".
ذوو الأرحام ليسوا سواء
لقد أمر الله بالعدل والإنصاف، ونهى وحذر من الظلم، وقد حرمه الله على نفسه وجعله بيننا محرماً، لهذا فليس من العدل والإنصاف التسوية في الصلة بين الأرحام، مسلمهم وكافرهم، برَّهم وفاجرهم، مستقيمهم وفاسقهم، سنيهم ومبتدعهم، لهذا فلابد للمسلم أن يراعي هذه الفروق في صلته ومعاملته لذوي الأرحام الخاصين والعامين، فعليه أن يصل من أمر الله بوصلهم، وأن يقطع - ولا يتحرَّج في ذلك – من أمر الله بقطعهم: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم والآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم أوإخوانهم أوعشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون".
بل الكفار والمبتدعة والفجار ليسوا سواء، فالكفار منهم المحارب المقاتل للمسلمين، ومنهم المسالم، والمبتدعة والفجار منهم المجاهر ببدعته وفسقه الداعي لذلك، ومنهم المستتر ببدعته وفجوره، ولكل من هؤلاء حكم، ولهذا فرَّق الله سبحانه وتعالى بين الكافرين، حيث جعل النار دركات كما أن الجنة درجات، فأبو لهب في الدركات السفلى من النار وذلك لشدة بغضه وعداوته وفجوره في الخصومة لابن أخيه، وأبو طالب في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، وذلك لحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفاعه عنه حميَّة.
فذو الأرحام في الصلة درجات كذلك:
الأولى: أهل الاستقامة والدين والتقوى
وهؤلاء يوصلون بالأسباب السابقة الذكر، سواء كانت رحمهم عامة أم خاصة.
الثانية: أهل البدع والفسق والفجور
وهؤلاء نوعان:
أ. مجاهر ببدعته، وفسقه، وفجوره، داعٍ لذلك.
فهؤلاء يهجرون هجراً تاماً، وهجر هؤلاء من أجلِّ القرب عند الله عز وجل، ولا ينبغي أن يجامل في ذلك. وإن كان في مداراتهم واتقائهم درء مفسدة أوجلب منفعة استحب مداراتهم واتقاؤهم حسب الحاجة إلى ذلك، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، وقد قال الله عز وجل: "إلا أن تتقوا منهم تقاة"، وقد هشَّ وبشَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في وجه عيينة بن حصن، وقد قال عندما استأذن عليه: "بئس أخو العشيرة"، وعندما قيل له في ذلك، قال: "إنا نهشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم"، أوكما قال.
ب. متسترين ببدعهم وفسقهم.
هؤلاء يعاملون معاملة المسلم مستور الحال، إلا لمن علم حقيقتهم، وحتى في هذه الحال إن كان في معاملتهم والإحسان إليهم درء مفسدة أوجلب منفعة لهم أولغيرهم عوملوا ووصلوا، سيما من أقربائهم.
الثالثة: الكفار والمنافقون
وهؤلاء نوعان كذلك:
أ. محاربون، وهؤلاء يقاطعون ولا يوصلون إلا من باب المداراة واتقاءً لشرهم.
ب. غير محاربين، وهؤلاء يوصلون بالإحسان وبحسن المعاملة ونحو ذلك.
بم يوصل ذوو الأرحام من الكفار والفجَّار غير المحاربين؟
إجمالاً، فإن هؤلاء يوصلون بالطرق التالية:
1. بذل الجهد في وعظهم ومناصحتهم، ودعوتهم إلى الإسلام وإلى الاستقامة بشتى الطرق، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية عمه أبي طالب حتى ساعة الاحتضار، ولم ييأس منه إلىأن نزل قوله تعالى: "إنك لا تهدي من أحببتَ ولكن الله يهدي من يشاء".
2. الدعاء لهم بالهداية بظهر الغيب، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو لقومه: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، "اللهم اهدِ دوساً وائتِ بهم".(1/348)
3. برُّهم وصلتهم ووصلهم إن لم يكونوا محاربين معاندين.
وإليك الأدلة:
1. "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون".
2. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "رأى عمر حُلَّة سِيَراء تُباع، فقال: يا رسول الله ابتع هذه والبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفود؛ قال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم منها بحلل، فأرسل إلى عمر بحلة، فقال: كيف ألبسها وقد قلتَ ما قلتَ؟ قال: إني لم أعطكها لتبلبسها، ولكن لتبيعها أوتكسوها؛ فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم".
3. وعن أسماء قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم – مع أبيها، فاستفتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة؛ قالت: نعم، صلي أمك".
ليس الواصل بالمكافئ
الناس في صلة الرحم وقطيعتها أصناف ودرجات:
الأول: الواصل للمسيء إليه
وهي حال المصطفَيْن الأخيار من الرسل وأتباعهم، كحال رسولنا مع قومه، ومقابلة إساءتهم له بالإحسان إليهم، فقد دعا الله أن ينزل عليهم الغيث وقد أخرجوه من بلده ومسقط رأسه، وكان دائماً يسأل لهم الهداية، وعندما دخل مكة فاتحاً منتصراً وقال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخي كريم؛ فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء" وقال: "من دخل الكعبة فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، أوكما قال صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فعل أبوبكر الصديق رضي الله عنه مع مِسْطح ابن خالته الذي كان ينفق عليه، بعد أن سعى في إشاعة الفاحشة على الصديقة بنت الصديق عائشة، فأقسم أبوبكر أن لا ينفق عليه، ولكن ما إن نزل قوله تعالى: "ولا يأتلِ أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم"، حتى عاد أبوبكر إلى الإنفاق والإحسان إلى مسطح، وقال: نحبّ؛ أوكما قال.
الثاني: الواصل
وهو الذي يصل من قطعه، وهذه درجة رفيعة كذلك، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها".
ولا يقدر على ذلك إلا الصابرين المحتسبين الأجر عند الله عز وجل.
الثالث: المكافئ
وهو الذي يصل من وصله ويقطع من قطعه، أي يعامل الناس بمثل ما يعاملونه به، والمكافأة فيها نوع من الصلة، ودرجة من الوصل.
الرابع: المقاطع
الذي يقطع من وصله، وهو الذي يُتفضَّل عليه، ولا يَتفضَّل.
الخامس: المسيء
وهو أسوأ الأصناف، وهو الذي يسيء إلى من أحسن إليه، ولم يكتف بقطعه بل تعدى ذلك لإيذائه، ولهذا شاع بين الناس: "اتق شرَّ من أحسنتَ إليه" وهو من الأحاديث الموضوعة الشائعة على الألسن.
تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم
مما يدل على مكانة صلة الأرحام في الإسلام وعلو منزلتها أن الشارع الحكيم أمر بتعلم الأنساب ومعرفة القرابات التي تعين على صلة الأرحام والإحسان إليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم".
فيجب على الآباء والأجداد تبصير الأبناء والأحفاد بحقوق القرابات، وبصلتهم بها، فإن كثيراً من شباب اليوم لا يعرف شيئاً عن كثير من أرحامهم، ويرجع ذلك إلى تقصير الكبار في هذا الشأن، فقد جاء في الأثر: "لا يزال الناس بخير ما تعلم الصغير قبل موت الكبير"، فإذا مات الكبار ذهبوا بما عندهم من علوم وتجارب ومعارف قد لا توجد عند غيرهم من الناس.
فعلم النسب من أهم العلوم ما لم يدع إلى التفاخر والعصبية، وكان أبوبكر الصديق وابنته عائشة من أعلم المسلمين بالأنساب، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت بملازمة أبي بكر ليمده بمخازي القوم المشركين ليتمكن من الرد عليهم والذبِّ عن الإسلام ورسول الإسلام.
أهمية عقيدة الولاء والبراء في صلة الأرحام وقطيعتها
من المجالات المهمة التي تتجلى فيها عقيدة الولاء والبراء عند المسلم أصدق تجلٍ، وتتضح فيها في أجمل صورها، صلة من يستحقون الصلة من الأقارب والمسلمين، وقطع من يستحقون القطع من غير خوف ولا وجل ولا حرج، لأنه ينبغي للمسلم أن يكون حبه وبغضه في الله، ووصله وقطعه لله، وحركاته وسكناته في ابتغاء مرضات الله.
لقد جسد هذه العقيدة الأنبياءُ والرسلُ وأتباعُهم في أقربائهم وذويهم أصدق تجسيد، وحققوا هذه العقيدة أفضل تحقيق، وإليك بعض النماذج، حيث لم تأخذهم في ذلك لومة لائم.
نماذج للتبري والتخلي عن القرابات الكافرة والفاجرة(1/349)
1. نوح عليه السلام، حيث قال الله على لسانه: "ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً"، وفي هؤلاء الكافرين الذين دعا عليهم ابنه وزوجه وكثير من أقاربه.
2. إبراهيم عليه السلام وقومه: "إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة البغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده".
3. آسيا امرأة فرعون عليها السلام، حيث تبرَّأت من زوجها الكافر: "وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين".
4. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليِّي الله ورسوله وصالح المؤمنين" الحديث.
5. وقال صلى الله عليه وسلم عندما جاء أسامة بن زيد يشفع في المخزومية التي كانت تسرق المتاع وتجحده: "والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها".
6. الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه بعد إسلامه ورجوعه إلى أهله، جاءته زوجه وأبوه، فقال مخاطباً لكل منهما: إليكَ عني، فلستُ منك ولستَ مني؛ فقالا: لِمَ؟ فقال: لقد فرَّق الإسلامُ بيني وبينك؛ حتى قال له كلٌّ منهما: ديني دينك؛ فأمرهما بالاغتسال ثم تشهدا، فسلم عليهما.
أورد القرطبي في تفسير قوله تعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادََّ الله ورسوله" عدداً من النماذج الفريدة في هذا الباب، وهي:
7. قال السدي: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن سلول رضي الله عنه، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماءً، فقال له: يا رسول الله، ما أبقيتَ من شرابك فضلة أسقيها أبي، لعل الله يطهر بها قلبه؟ فأفضل له، فأتاه بها، فقال له عبد الله: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم، جئتُك بها تشربُ بها لعل الله يطهر قلبك بها؛ فقال له أبوه – لعنه الله -: فهلا جئتني ببول أمك، فإنه أطهر منها؛ فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، ما أذنتَ لي في قتل أبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل ترفق به وتحسنُ إليه".
8. وهذا موقف آخر لعبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول مع أبيه، رأس الكفر والنفاق، عندما قال وهم راجعون من غزوة: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ"، ويعني الأذل الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقف له ابنه الصالح هذا عند مدخل المدينة، وقال: والله لا تدخلها حتى يأذن لك الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فأذن له الرسول، وقيل إنه استأذن الرسول في قتله كذلك فلم يأذن له.
9. وقال ابن جريج: حُدثتُ أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم، فصكه أبوبكر ابنه صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: أوفعلته؟ لا تعد إليه؛ فقال: والذي بعثك بالحق نبياً، لو كان السيف مني قريباً لقتلته؛ وقيل كان هذا سبب نزول هذه الآية.
10. وقال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وقيل يوم بدر، وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة، وأبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله حينئذ: "لا تجد قوماً.."، قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجلاً من بني الحرث بن فهر فقالوا: توفي أبوه قبل الإسلام.
11. لقد دعا أبو بكر ابنه عبد الله إلى البراز يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر".
ويروي أنه بعدما أسلم عبد الله قال لأبي بكر: كنت أحيدُ عنك – يعني يوم بدر؛ فقال له أبوبكر: لو رأيتُك لقتلتك.
12. وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد الله بن عمير يوم بدر.
13. وقتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر.
14. ما قاله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لأمه وكان باراً بها عندما أسلم وخرجت في الشمس وامتنعت عن الأكل والشرب، فراجعها فلم ترجع، ثم قال لها: والله يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت الواحدة تلو الأخرى ما تركت دين محمد صلى الله عليه وسلم.
15. هجر عبد الله بن المغفل رضي الله عنه لأحد أقاربه لأنه نهاه عن الخسف بالحجارة فلم ينته.
16. هجر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لابن بلال عندما قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله؛ فقال بلال: أنا أمنع – من باب الغيرة -، فسبه عبد الله سباً لم يسبه أحداً من قبل وهجره حتى الممات.
17. أم حبيبة رضي الله عنها عندما جاءها أبوها أبو سفيان وكان مشركاً، وأراد الجلوس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطوته عنه ومنعته من الجلوس عليه لشركه.
ليحذر الواصل المخالفات الشرعية(1/350)
تمسك البعض بالعادات والتقاليد والأعراف المخالفة للشرع، وإصرارهم وحرصهم عليها، يوقع الملتزمين في حرج اجتماعي لا يقوى عليه كثير منهم.
من تلك الأعراف والتقاليد التي تمحق أجر وثواب صلة الرحم لمن يقترفها ما يأتي:
1. مصافحة المرأة الأجنبية، وهي كل من يجوز لك زواجها من غير المحارم، نحو بنت العم والعمة والخال والخالة، وأخت الزوجة، وما أشبه ذلك.
2. دخول الرجال على النساء الأجنبيات والانبساط معهن.
3. اختلاط النساء بالرجال.
4. الخلوة بالأجنبية.
5. شهود حفلات الزواج وغيرها.
6. المجاملة بالجلوس للعزاء.
7. التكلف بما لا يستطاع في مناسبات الأفراح والأتراح.
وغيرها كثير.
وعليك أخي الكريم أن تعلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، فإذا كانت صلتك لرحمك توقعك في أحد هذه المحاذير الشرعية فلا تجب عليك الصلة والحال هكذا.
والتخلص من هذه العادات الرذيلة والمخالفات الجاهلية القبيحة تحتاج إلى تضافر وتعاون من الجميع، وذلك لسيطرة هذه العادات والتقاليد على بعض المجتمعات، والتعاون على ذلك مرغوب فيه لأنه تعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على ذلك بالضرورة تعاون على الإثم والعدوان.
لا ينبغي لأحد أن يجامل في دينه، ولا أن يبيع آخرته بهذا الثمن البخس، وليعلم أن من أرضى الناس بسخط الله عز وجل أسخط اللهُ عليه الناسَ، ومن أسخطهم برضا الله أرضى الله عليه كلَّ الناس.
صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك
وأخيراً أخي الحبيب عليك بفواضل الأعمال، ودع عنك قبيحها وسيئها، واعمل بوصية ربك ورسولك، وتخلق بخلق الأنبياء الأخيار، واحذر سلوك الحمقى الأغمار.
عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: لقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؛ فقال: "يا عقبة، صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك".
واحرص أخي المسلم أن تكون سيرتك مع أهلك وأقاربك المحسنين منهم والمسيئين كسيرة المقنع الكندي مع أهله وعشيرته، لتسعد في آخرتك، وتُحمد وتُشكر في دنياك، حيث قال مبيناً منهجه ومعاملته لهم:
يعاتبني في الدين قومي وإنما ديوني في أشياء تكسبهم حَمْداً
أسُدُّ به ما قد أخلوا وضيعوا حقوق ثغور ما أطاقوا لها سداً
و لي جفنة لا يغلق الباب دونها مكللة لحماً مدفقة ثرداً
ولي فرس نهد عتيق جعلته حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبداً
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً
إذا أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجداً
وإن ضيعوا غيبي حفظتُ غيوبهم وإن هُمْ هَووا غيِّي هويتُ لهم رشداً
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هُمُ دَعَوْني إلى نصر أتيتُهم شداً
وإن زجروا طيراً بنحس يمر بي زجرت لهم طيراً يمر بهم سَعْداً
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيسُ القوم من يحملُ الحقدا
لهم جلُّ مالي إنْ تتابع لي غنى وإن قلَّ مالي لم أكلفهم رفداً
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
وأخيراً اعلم أيها الأخ الكريم أن العبرة بسلامة الصدر، وتقارب القلوب، ونقاء الطوية والسريرة، ولله در ابن عباس حين قال: "قد تقطع الرحم، وقد تكفر النعمة، ولا شيء كتقارب القلوب"؛ وفي رواية عنه: "تكفر النعمة، والرحم تقطع، والله يؤلف بين القلوب لم يُزحزحها شيء أبداً"؛ ثم تلا: "لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما ألفتَ بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم".
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والإحن والآثام.
ونسألك اللهم قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك من خير ما نعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلى الله وسلم وبارك على محمد صاحب القلب السليم، والقدر العظيم، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
=================0000000000
أيها المسلمون اتقوا الله في الخدم وارعوا فيهم وصية نبيِّكم
حق الخادم على مستخدمه
نماذج حسنة لمعاملة بعض الأخيار لخدمهم
العفو عن الخدم من أجلِّ القربات
الحمد لله الذي جعل الكرم الحقيقي والشرف الأصلي بالتقوى، فقال: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ولهذا نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الانخداع بالمظاهر، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "مرَّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع؛ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يُشفع، وإن قال أن لا يُسمع لقوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".(1/351)
وبيَّن أن الله عز وجل لا ينظر إلى الصور والأجسام، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، فقال: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، وقال: "رُبَّ أشعث – أغبر – مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره".
اللهم إنا نعوذ بك أن نكون عظماء في أنفسنا وعند الناس، حقراء أذلاء مدفوعين عندك.
وبعد..
أخي المسلم، عليك أن تتقي الله عز وجل فيمن اضطرته الظروف، ودفعته الحاجة، وسخره الله لخدمتك وخدمة آل بيتك، من إخوانك المسلمين وغيرهم، وأن ترعى فيهم وصية نبيك صلى الله عليه وسلم، حيث قال موصياً بالإحسان إليهم، ومحذراً من تكليفهم ما لا يطيقون، ومن الإساءة إليهم: "إخوانكم خولكم، جعلهم الله قِنْيَة تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه".
واعلم أخي المسلم وأختي المسلمة أن خادمك هذا أوخادمتك تلك قد تكون عند الله عز وجل أكرم وأفضل منكما، وربما كان الخادم أعف نفساً، وأحسن خلقاً، وأعز معتداً، وأفضل نسباً من مخدمه.
كثير من المسلمين اليوم يعاملون الخدم الأجراء معاملة الخدم الأرقاء في الخلوة والانبساط معهم، وبين الخدم الأرقاء والخدم الأجراء من الفروق الشيء الكبير، حيث نجد الرجل يخلو بخادمته الأجيرة، والمرأة تخلو بخادمها وتبرز محاسنها أمامه، وكذلك الأمر بالنسبة للأولاد والبنات البالغين، ونجد المخدمين يرسلون الخادمات إلى المحال التجارية، وإلى الأسواق، مما يعرضهن للفتن، ولا يحرص على حجابها الشرعي حرصه على محارمه، وفي ذلك وغيره كثير من المخالفات الشرعية وانتهاك لحدود الله ومخالفة لأوامره.
وفي بعض الأحيان قد يتعدى الأمر أكثر من ذلك إلى الشروع في الزنا ومقدماته، هذا إلى جانب الضرب، والسباب، والشتم، والإهانة، مما يضطر بعض الخدم لارتكاب بعض الحماقات، كالانتحار، والانتقام، والهروب، ونحو ذلك، وما نسمعه من سوء معاملة بعض المستخدمين وذويهم لخدمهم من أمور يندي لها الجبين، ويشمئز منها الضمير، ولا تناسب بحال من الأحوال ولا تشبه أخلاق أتباع محمد البشير النذير.
فعليك أخي المسلم إذا دعتك قدرتك إلى ظلم من جعله الله تحت ولا يتك وسلطانك من خادم، أوعامل، أورعية، أن تتذكر قدرة الله وبطشه وجبروته عليك.
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: "كنت أضرب غلاماً لي، فسمعت خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود – مرتين - أن الله أقدر عليك منك عليه؛ فالتفتُ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
حق الخادم على مستخدمه
لم يُحْوجنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إلى تشريعات منظمات العمل المحلية والدولية، وإنما بين لنا كل ما نحتاجه في أمر ديننا ودنيانا، من ذلك فقد وضَّح صلى الله عليه وسلم أهم حقوق الخدم على مستخدميهم، كما مر في الحديث السابق وغيره، سواء كانوا أرقاء أم أجراء، وهي:
أولاً: أن يطعم خادمه مما يطعم.
ثانياً: أن يلبسه مما يلبس.
ثالثاً: لا يكلفه ما يغلبه وإلا أعانه عليه، إما بنفسه، أوبأجراء آخرين.
رابعاً: أن يسكنه فيما يسكن، أوفي سكن يقيه الحر، والبرد، والمطر.
خامساً: أن يعطيه من الأجر ما يناسب عمله ومجهوده، ولا ينبغي أن يستغل حاجته وفقره، وانخفاض مستوى دخل الفرد في بلده، كما يحدث الآن في كثير من البلاد.
وينبغي على ولاة الأمر أن ينتبهوا لاستغلال الشركات والمؤسسات والأفراد الذين يقومون بالتعاقد مع هؤلاء الخدم واستجلابهم من بلادهم، ففي بعض الأحيان تكون هناك عقود صورية مخالفة لما يتعاطاه الخادم عندما يباشر عمله.
واعلم أخي المسلم أن مثل هذه الإجراءات التعسفية واستغلال حاجة الخدم الماسة للعمل لا تحلل الحرام ولا تجيز استغلال حاجة المضطرين.
سادساً: أن لا يسبه، ولا يشتمه، ولا يضربه.
سابعاً: أن يحسن معاملته ويكرمه.
ثامناً: أن يعامله ذكراً أوأنثى المعاملة الشرعية التي بينها الشارع.
تاسعاً: أن يتجاوز عن خطئه وتقصيره.
عاشراً: يجتهد أن يعوضه ما فقده من أهل وعشيرة وتباين بيئة.
أحد عشر: أن يمسكه بإحسان أويتخلى عنه بإحسان، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء.
الثاني عشر: أن يخصَّ الخدم المسلمين بعناية ورفق أكثر من غيرهم، وأن لا يظلم غير المسلمين، بل ينبغي أن يدعوهم إلى الإسلام بسلوكه الحسن، ومعاملته الطيبة، ولا ينفرهم ويبغضهم في الإسلام بسلوكه، فالدين المعاملة.
قال المناوي في فيض القدير في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "فليطعمه": (أي وجوباً، والأفضل كونه "من طعامه" الذي يأكله، ويلبسه مما يليق من لباسه، قال الرافعي: لا مناقضة بينه وبين الخبر الآتي: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف"، لأن ما هنا في حق العرب الذين طعامهم وطعام عبيدهم وكسوتهم متقاربة، وذلك في حق المترفهين في الطعام واللباس، فليس عليهم لمماليكهم إلا المتعارف لهم بالبلد، سواء كان من جنس نفقة السيد أوفوقه أودونه).(1/352)
نماذج حسنة لمعاملة بعض الأخيار لخدمهم
سنعرض في هذه العجالة لبعض النماذج الطيبة، والصور الحسنة، لمعاملة نفر من الأخيار لخدمهم، لعل الله ينفع بها، فنقول:
1. سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم
كانت معاملة رسولنا صلى الله عليه وسلم لمن يخدمه معاملة الوالد الشفوق لولده، والأخ الرحيم لأخيه، لا يميز بين رقيق وأجير ومتطوع، مما جعل زيد بن حارثة رضي الله عنه يفضله على والديه وعشيرته.
زيد بن حارثة عربي من بني كلب أسِرَ وهو طفل في الجاهلية، وبيع بمكة، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زواجه بها، ثم تبناه بعدُ، وكان يُدْعى زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى: "ادعوهم لآبائهم" الذي أبطل التبني.
قال ابن عبد البر رحمه الله: (قال أبوه حارثة بن شراحيل حين فقده:
بكيتُ على زيد ولم أدر ما فعلْ أحَيٌّ يُرْجَّى أم دونه أتى الأجلْ
فوالله لا أدري وإن كنتُ سائلاً أغالك سَهْلُ الأرض أم غالك الجبلْ
فياليت شعري هل لك الدَّهْرُ رجعة فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجَلْ
تذكرنيه الشمسُ عند طلوعها وتعرضُ ذكراه إذا قارب الطَّفَلْ
وإن هبت الأرواحُ هيجن ذكره فيا طول حزني عليه ويا وَجَلْ
سأعمِلُ نَصَّ العيس في الأرض جاهداً ولا أسأمُ التطواف أوتسأم الإبلْ
حياتي أو تأتي عليَّ منيتي وكل امرئ فانٍ وإن غرَّه الأجلْ
سأوصي به عمراً وقيساً كليهما وأوصي يزيدَ ثم من بعده جَبَلْ
إلى أن قال:
فحج ناس من كلب، فرأوا زيداً فعرفهم وعرفوه، فقال لهم: أبلغوا عني أهلي هذه الأبيات، فإني أعلم أنهم قد جزعوا عليَّ؛ فقال:
أحن إلى قومي وإن كنتُ نائياً فإني قعيد البيت عند المشاعر
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم ولا تعملوا في الأرض نَصَّ الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة كرام معدٍّ كابراً بعد كابر
فانطلق الكلبيون فأعلموا أباه، فقال: ابني وَرَبَّ الكعبة؛ ووصفوا له موضعه، وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل لفدائه، وقدما مكة، فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو في المسجد؛ فدخلا عليه، فقال: يا ابن عبد المطلب، يا ابن هاشم، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك، فامنن علينا، وأحسن إلينا في فيدائه؛ قال: ومن هو؟ قالوا: زيد بن حارثة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا غير ذلك! قالوا: وما هو؟ قال: أدعوه فأخيِّره، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً؛ قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت؛ فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم؛ قال: من هذا؟ قال: هذا أبي وهذا عمي؛ قال: فأنا من قد علمتَ ورأيتَ صحبتي لك، فاخترني أواخترهما؛ قال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني مكان الأب والعم؛ فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وعلى أهل بيتك! قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً، ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً؛ فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحِجْر، فقال: يا من حضر، اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه؛ فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفا).
وإليك نموذجاً آخر لحسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لخدمه، عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً، قالت أم سليم رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا غلامي أنس يخدمك؛ فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمره آنذاك عشر سنين، فخدم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فقال: "خدمتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ما قال لي لشيء فعلتُه لم فعلتَه، ولا لشيء تركتُه لم تركته".
2. عمر بن الخطاب رضي الله عنه
من النماذج الطيبة، والصور الحسنة، والمواقف النادرة، معاملة الخليفة الراشد والإمام العادل عمر بن الخطاب لخدمه ومماليكه، هذا على الرغم من شدة عمر في الحق وهيبة الناس له، يوضح ذلك ما حكاه عنه مولاه أسلم رحمه الله.
قال الحافظ الذهبي في ترجمة أسلم: (وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال ابن عمر: يا أبا خالد، إني أرى أمير المؤمنين يلزمك لزوماً لا يلزمه أحداً من أصحابك، لا يخرج سفراً إلا وأنت معه، فأخبرني عنه؛ قال: لم يكن أولى القوم بالظل، وكان يرحِّل رواحلنا، ويرحل رحله وحده، ولقد فزعنا ذات ليلة وقد رحَّل رحالنا وهو يرحل رحله ويرتجز:
لا يأخذ الليلُ عليك بالهم وألبسن له القميص واعتم
وكن شريك نافع وأسلم واخدم الأقوام حتى تُخدم
3. أبو ذر الغفاري رضي الله عنه
لقد ضرب أبو ذر الغفاري رضي الله عنه في حسن معاملة الخدم المثل الأعلى الذي لا يدانى، فكان يُلبس خادمه ويُطعمه ويُسكنه من نفس ما يلبس ويطعم ويسكن، وذلك لأن مناسبة الحديث السابق: "إخوانكم خولكم" كانت خاصة به.(1/353)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث السابق: (وفيه قصة أي وذلك لأن المعرور بن سويد رأى أبا ذر وعليه حُلَّة وعلى غلامه مثلها، فسأله عن ذلك، فذكر أنه سابَّ رجلاً فعيره بأمه، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك امرؤ فيك جاهلية – أي خلق من أخلاقهم، فذكره).
العفو عن الخدم من أجلِّ القربات
لم يقتصر كثير من السلف على حسن معاملة ومعاشرة الخدم، وإنما تعدوا ذلك إلى العفو والصفح عنهم عند حدوث الزلات، والعتق للأرقاء.
جاء في تفسير قوله تعالى: "والعافين عن الناس" كما قال القرطبي رحمه الله: (العفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير، حيث يجوز للإنسان أن يعفو، وحيث يتجه حقه، وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه، واختلف في معنى "عن الناس"، فقال أبو العالية والكلبي والزجاج: "والعافين عن الناس" يريد عن المماليك، قال ابن عطية: وهذا حسن علىجهة المثال، إذ هم الخَدَمَة، فهم يذنبون كثيراً، والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثل هذا المفسِّر به.
وروي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارَّة، وعنده أضياف، فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قول الله تعالى: "والكاظمين الغيظ"؛ قال لها: قد فعلت؛ فقالت: اعمل ما بعده "والعافين عن الناس"؛ فقال: قد عفوتُ عنك؛ فقالت الجارية: "والله يحب المحسنين"؛ قال ميمون: قد أحسنتُ إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى؛ وروي عن الأحنف بن قيس مثله، وقال زيد بن أسلم: "والعافين عن الناس" عن ظلمهم وإساءتهم، وهذا عام، وهو ظاهر الآية).
اللهم كما حسَّنتَ خلْقنا فحسِّن أخلاقنا، وأخلاق أبنائنا وبناتنا، وأصلح أحوالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، وبالطيبات آجالنا، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
=================000000000
ما خاب من استخار ولا ندم من استشار
ما يُستخار فيه وما لا يُستخار
هل يفرد دعاء الاستخارة بصلاة ركعتين غير الفريضة أم يستخير عقب أي نافلة؟
ما يقرأ في ركعتي الاستخارة بعد الفاتحة
دعاء الاستخارة يكون بعد التشهد أم بعد السلام؟
السُّنة أن يسمي حاجته
ما يفعله المستخير بعد الاستخارة
المستشار مؤتمن
الرضا بما اختاره الله
الحذر الحذر من الخيرة وما يعرف بفتح الكتاب
من نعم الله العظيمة، وآلائه الجسيمة على العبد المسلم، استخارته لربه، ورضاه وقناعته بما قسمه وقدَّره له خالقه ومولاه، ففي ذلك السعادة الأبدية، وفي التبرم والتسخط بالمقدور الشقاوة السَّرمدية، وذلك لأن الغيب لا يعلمه إلا الله، ولا يطلع عليه أحد سواه.
لهذا روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سعادة ابن آدم استخارته الله".
لقد أرشد الناصح الأمين والرؤوف الرحيم محمد بن عبد الله أمته وعلمها ودلها على جميع ما ينفعها في دينها ودنياها، من ذلك إرشاده الأمة لدعاء الاستخارة.
فما معنى الاستخارة؟ وما حكمها؟ ودليلها؟ وكيفيتها؟ وماذا يفعل بعدها؟ وهل هناك وسيلة شرعية غيرها؟
كل ذلك وغيره سنعرض له بتوفيق الله في هذا البحث المختصر، فنقول:
تعريف الاستخارة لغة وشرعاً
لغة: الاستخارة هي استفعال من الخير، أومن الخِيَرَة، بكسر أوله وفتح ثانيه، اسم من قولك خار الله له، واستخار الله، طلب منه الخيرة، وخار الله له أعطاه ما هو خير له.
اصطلاحاً: طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما.
حكمها
مندوب إليها ومستحبة، والأمر بها أمر إرشاد.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (قوله "من غير الفريضة": أن الأمر بصلاة ركعتي الاستخارة ليس على الوجوب، قال شيخنا: ولم أر من قال بوجوب الاستخارة لورود الأمر بها).
دليلها
ما خرجه البخاري في صحيحه بسنده عن جابر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن: إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري – أوقال: في عاجل أمري وعاجله – فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري – أوقال: في عاجل أمري وآجله – فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به؛ ويسمي حاجته"، وإن لم يحفظ هذا الدعاء فله أن يقرأه من كتاب أوأن يُلقنه.
ما يُستخار فيه وما لا يُستخار
بعد أن أجمع أهل العلم في أنه يُستخار في فعل:
1. المباح.
2. والمستحب الموسع في وقته.
وأنه لا يُستخار في:
1. الحرام.
2. والمكروه.
اختلفوا في الاستخارة في فعل الواجب على قولين:
1. منهم من قال يُستخار في فعل الواجب.(1/354)
2. ومنهم من قال لا يُستخار في فعل الواجب، لأنه لا يُستخار فيما ترجحت مصلحته أومفسدته.
أقوال أهل العلم في ذلك
قال ابن مفلح رحمه الله تحت "فصل في الاستخارة وهل هي فيما يخفى أوفي كل شيء": (قال جعفر بن الصائغ: سمعتُ أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: كل شيء من الخير يبادر به.
وقال محمد بن نصر العابد: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: كل شيء من الخير يبادر فيه؛ قال: وشاورته في الخروج إلى الثغر، فقال لي: بادر بادر؛ وهذا يحتمل أنه لا استخارة فيه كما قال بعض الفقهاء لظهور المصلحة، ويحتمل أن مراده بعد فعل ما ينبغي فعله من صلاة الاستخارة وغيره.
وقول جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها.
وقد استخارت زينب بنت جحش لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، قال في "شرح صحيح مسلم": فيه استحباب صلاة الاستخارة لمن همَّ بأمر، سواء كان الأمر ظاهر الخير أم لا؛ قال: ولعلها استخارت لخوفها من تقصيرها في حقه صلى الله عليه وسلم).
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله: (الاستخارة سنة إذا هم بشيء، ولم يتبين له رجحان فعله أوتركه، أما ما تبين له رجحان فعله أوتركه، فلا تشرع فيه الاستخارة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل الأمور الكثيرة، ولا يفعلها إلا بعد الهم بها قطعاً، ولم ينقل عنه أنه كان يصلي صلاة الاستخارة، فلو همَّ الرجل بالصلاة، أوأداء الزكاة، أوترك المحرمات، أونحو ذلك، أوهمَّ أن يأكل، أويشرب، أوينام، لم يُشرع صلاة الاستخارة).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قوله "في الأمور كلها"، قال ابن أبي جمرة: هو عام أريد به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه، قلت: وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمانه موسعاً، ويتناول العموم العظيم من الأمور والحقير، فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم).
الراجح والله أعلم أن ما ترجحت مفسدته لا يُستخار فيه، وما ترجحت مصلحته لا يُستخار فيه كذلك إلا إذا كان أمراً أجاز الشرع فيه التراخي، ومن استخار في كل أوبعض ما ترجحت مصلحته فله ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا همَّ بأمر"، ولم يخصص.
هل يفرد دعاء الاستخارة بصلاة ركعتين غير الفريضة أم يستخير عقب أي نافلة راتبة أم مطلقة؟
أقوال لأهل العلم:
1. دعاء الاستخارة يفعل عقب صلاة أي ركعتين من النافلة، راتبة أم مطلقة.
2. دعاء الاستخارة لا يفعل إلا عقب ركعتين مستقلتين لدعاء الاستخارة.
3. يجوز عقب نافلة إذا نوى الاستخارة قبل الشروع فيها.
قال الإمام النووي في الأذكار: (قال العلماء: يستحب الاستخارة بالصلاة والدعاء المذكور، وتكون الصلاة ركعتين من النافلة، والظاهر أنها تحصل بركعتين من السنن الرواتب، وبتحية المسجد، وغيرها من النوافل).
قال الحافظ ابن حجر: (قوله "من غير الفريضة" فيه احتراز عن صلاة الصبح مثلاً، ويحتمل أن يُراد بالفريضة عينها، وما يتعلق بها، فيحترز عن الراتبة كركعتي الفجر مثلاً.
وعلق على ما قاله النووي: كذا أطلق وفيه نظر، ويظهر أن يقال: إن نوى تلك الصلاة بعينها، وصلاة الاستخارة معاً أجزأ، بخلاف ما إذا لم ينو.
إلى أن قال: ويبعد الإجزاء لمن عرض له طلب بعد فراغ الصلاة، لأن ظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة الأمر).
وقال الشيخ العثيمين: (ولا يقال دعاء الاستخارة إذا صلى تحية المسجد أوالراتبة ولم ينوه من قبل، لأن الحديث صريح بطلب صلاة الركعتين من أجل الاستخارة، فإذا صلاهما بغير هذه النية لم يحصل الامتثال.
وأما إذا نوى الاستخارة قبل التحية والراتبة، ثم دعا بدعاء الاستخارة، فظاهر الحديث أن ذلك يجزئه لقوله: "فليركع ركعتين من غير الفريضة"، فإنه لم يستثن سوى الفريضة، ويحتمل أن لا يجزئه، لأن قوله: "إذا همَّ فليركع" يدل على أنه لا سبب لهاتين الركعتين سوى الاستخارة، والأولى عندي أن يركع ركعتين مستقلتين، لأن هذا الاحتمال قائم، وتخصيص الفريضة بالاستثناء قد يكون المراد به أن يتطوع بركعتين، فكأنه قال: فليتطوع بركعتين، والله أعلم).
الراجح والله أعلم أن يستخير المرء عقب ركعتين مستقلتين لذلك، وإن نوى الاستخارة قبل الشروع في نافلة راتبة أومقيدة فله ذلك.
ما يقرأ في ركعتي الاستخارة بعد الفاتحة
استحب بعض أهل العلم أن يقرأ في ركعتي الاستخارة بعد الفاتحة في الأولى بالكافرون، وفي الثانية بالإخلاص، وإن قرأ بما تيسر له جاز ذلك.
قال النووي في الأذكار: (ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: قل هو الله أحد).(1/355)
وقال الحافظ في الفتح: (وأفاد النووي أن يقرأ في الركعتين الكافرون والإخلاص، قال شيخنا في "شرح الترمذي": لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر والركعتين بعد المغرب، قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد، والمستخير محتاج لذلك، قال شيخنا: ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: "وربك يخلق ما يشاء ويختار"، وقوله: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللهُ ورسولُه أمراً أن يكون لهم الخيرة"، قلت: والأكمل أن يقرأ في كل منهما السورة والآية الأوليين في الأولى والأخريين في الثانية).
دعاء الاستخارة يكون بعد التشهد أم بعد السلام؟
قولان لأهل العلم:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء، ويحتمل الترتيب على تقديم الشروع في الصلاة قبل الدعاء، أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة، لما فيها من تعظيم الله، والثناء عليه، والافتقار إليه مآلاً وحالاً).
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية: (دعاء الاستخارة يكون بعد التسليم من صلاة الاستخارة).
الذي يترجح لدي والله أعلم أن الأفضل أن يكون دعاء الاستخارة بعد السلام، ولو دعا به بعد التشهد لا يبعد، ويستحب أن يفتتحه بحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يختمه.
قال النووي رحمه الله: (ويستحب افتتاح الدعاء المذكور وختمه بالحمد لله والصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم).
السُّنة أن يسمي حاجته
المتسخير يسمي حاجته في نهاية الدعاء لقوله صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث: "ويسمي حاجته"، وفي رواية: "ثم يسميه بعينه"، وإن نواها ولم ينطق بها هل يجزئه ذلك؟ محتمل.
قال الحافظ ابن حجر: (وظاهر سياقه أن ينطق به، ويحتمل أن يكتفي باستحضاره بقلبه عند الدعاء، وعلى الأول تكون التسمية بعد الدعاء، وعلى الثاني تكون الجملة حالية، والتقدير فليدع مسمياً حاجته).
ما يفعله المستخير بعد الاستخارة
بعد الاستخارة لا تخرج حال المستخير عن ثلاث حالات، هي:
الأولى: قد يطمئن المستخير لأحد الأمرين، ويحدث هذا بأحد طريقين:
1. إما أن ينشرح صدره لذلك ويطمئن.
2. وإما أن يرى رؤيا حسنة.
الثانية: قد يظل في حيرة من أمره، ففي هذه الحال عليه أن يكرر الاستخارة مرات ومرات، فقد استخار أبوبكر رضي الله عنه عندما أراد جمع القرآن كله في مصحف واحد شهراً كاملاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وليس في عدد مرات الاستخارة حد، وقد ورد في ذلك حديث لا تقوم به الحجة أنه يستخير سبع مرات.
الثالثة: قد يستخير عدة مرات ولا يستبين له ترجيح أحد الأمرين على الآخر، فعليه في هذه الحالة أن يستشير أهل الفضل والصلاح من ذوي الاختصاص، ثم يتوكل على الله، ويشرع فيما أشير به عليه، ولا يتردد، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار" الحديث، وكما أن الاستشارة مشروعة قبل الاستخارة فكذلك تشرع بعدها.
قال الإمام النووي رحمه الله: (واعلم انه يستحب لمن همَّ بأمر أن يشاور فيه من يثق بدينه، وخبرته، وحذقه، ونصيحته، وورعه، وشفقته، ويستحب أن يشاور جماعة بالصفة المذكورة ويستكثر منهم، ويعرِّفهم مقصوده من ذلك الأمر، ويبين لهم ما فيه من مصلحة ومفسدة إن علم شيئاً من ذلك، ويتأكد الأمر بالمشاورة في حق ولاة الأمور العامة، كالسلطان، والقاضي، ونحوهما).
المستشار مؤتمن
المستشار مؤتمن، فعليه أن يتقي الله ويجتهد ويجد في نصح من استشاره، وليحذر خداع وغش من استشاره، فإن هذا من حق المسلم لأخيه المسلم: "فإذا استنصحك فانصح له" الحديث.
الرضا بما اختاره الله
على العبد بعد الاستشارة والاستخارة أن يقدم على ما ترجح لديه نفعه، وعليه أن لا يتردد، فقد روي عن وهب بن منبه قال: قال داود عليه السلام: "يارب، أيُّ عبادك أبغض إليك؟ قال: عبد استخارني في أمر فخرت له فلم يرض".
فإذا استخار الله عز وجل فعليه أن لا يفعل ما ينشرح إليه صدره مما كان له فيه هوى ورغبة قبل الاستخارة، لأنه في هذه الحالة لم يصنع شيئاً بالاستخارة، وإنما فعل ما كان يهواه.
قال الحافظ ابن حجر: (والمعتمد أنه لا يفعل ما ينشرح به صدره مما كان له فيه هوى قوي قبل الاستخارة، وفي ذلك الإشارة بقوله في آخر حديث أبي سعيد: "ولا حول ولا قوة إلا بالله").
الحذر الحذر من "الخيرة" وما يعرف "بفتح الكتاب"(1/356)
الاستخارة هي الطريقة الوحيدة لمن تردد في مصلحة أومضرة أمر من الأمور، ولم يستبن له رجحان أحدهما على الآخر، أما ما يفعله بعض الناس مما يعرف "بالخيرة"، بأن يرقد له بعض المشايخ بالخيرة، أويطلب من بعضهم أن "يفتح له الكتاب"، فهذا العمل ليس له أصل في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُؤثر عن علم من أعلام المسلمين المقتدى بهم، وإنما هو من جرب بعض المشعوذين، فينبغي للمسلم أن لا يفعله، ولا يعتقد فيه، وهو من باب الكهانة، وقد نهينا عن إتيان الكهان: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد"، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
واعلم أخي الكريم أن الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع في الدين ما لم ينزل به سلطاناً، ورحم الله مالكاً حيث كان كثيراً ما ينشد:
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
اللهم خر لنا واختر لنا، ورضِّنا بما قسمت لنا.
=================000000
لقد أخطأت إسْتُكَ الحفرةَ يا شيخ الأزهر!!
"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم
واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون"
وقال صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة" – أهل السنن
استنكر واستهجن المؤمنون الأخيار الأغيار كلام شيخ الأزهر بحضرة المسؤول الفرنسي الكافر قبل أيام، استنكاراً واستهجاناً شديدين، القاضي بعدم وجوب الحجاب على المسلمات المقيمات في فرنسا وغيرها من ديار الكفر بحجة أن قوانين تلك البلاد لا تسمح بذلك، وهي قوانين هوائية تعدَّل حسب الأهواء والمصالح.
وبادئ ذي بدء نقول: إن مثل هذه الفتاوى المشبوهة المشؤومة لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، إلا أنها تعطي الكفار مستنداً غير شرعي يرفعونه في وجوه الملتزمين هناك، وتباعد بين قائلها وبين الأخيار، ومن فضل الله على هذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلال، فقد اعترض على كلام شيخ الأزهر جل المشايخ الحاضرين، واستنكروا وصرحوا بذلك جزاهم الله خيراً، وذلك لأن الحجاب واجب على المسلمة سواء كانت في دار الإسلام أودار الكفر، بل وجوبه عليها في دار الكفر أكبر، للتفسق، والتحلل، والإباحية، والبهيمية التي يتمتع بها أهل تلك البلاد، فهم كالأنعام بل هم أضل.
ومما يجب التنبيه إليه والتحذير منه أن العيش في بلاد الكفر لا يحل إلا لمضطر لم يجد بلداً من بلاد المسلمين يأويه، وأن الهجرة لا تحل إليها، بل يجب على المسلمين فيها أن يهاجروا إلى بلاد الإسلام إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومما يؤسف له أن البلاد الإسلامية لا تسمح بهجرة كثير من هؤلاء إليها، بينما يسمح لهم الكفار ويرحبون بهم، ولا فرق في ذلك لمن هدفه الدعوة أوالدنيا.
هذه الفتوى الخاطئة الخاسرة إما أن تكون صدرت من شيخ الأزهر نتيجة جهل، وفي هذه الحال نقول له كما قال عمر لمن هو خير من ملء الأرض منه، الصحابي البدري قدَامَة بن مظعون رضي الله عنه، عندما أخطأ في تأويل قوله تعالى: "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا.." الآية، فظن أن الخمر حلال له: "أخطأت إستُك الحفرة"، ثم أمر الحاضرين من الصحابة أن يردوا عليه خطأه، فلا تستغرب وتستنكر أخي الكريم هذه المقولة، فقد قالها من هو خير مني لمن هو خير من شيخ الأزهر كما قلت.
أوصدرت نتيجة هوى ومجاملة للزائر الكافر، فنقول له ونبشره بما قاله وبشر به الرسول صلى الله عليه وسلم من يسلكون هذا المسلك: "من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة" الحديث، أوكما قال، ونبشره كذلك بما بشر به ربنا أحبار السوء الكاتمين للحق: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون".
ولله در عبد الله بن المبارك العالم المجاهد حين قال:
وهل افسد الدينَ إلا الملوكُ وأحبارُ سوء ورهبانُها؟!
ففساد الدين بسبب هذه الأصناف الثلاثة: الحكام الظلمة، وعلماء السوء، والعُبَّاد الضالين المبتدعين.
ونذكِّر كذلك شيخ الأزهر أن هذه الفتوى لن تضر إلا قائلها، ونقول له على لسان الفتيات والنساء المتحجبات في تلك الديار لمن يعتقد أن مثل هذه الفتاوى تحول دون الحجاب الذي أمرنا به ربنا ورسولنا، والتزمت به أمهات المؤمنين، والصحابيات، وجميع المسلمات الصالحات: "امصص بظر اللات"، ولا تستنكر هذه المقولة كذلك أخي القارئ، فقد قالها أبو بكر الصديق، وهو خير مني، لعروة بن مسعود وهو خير من شيخ الأزهر، عندما اتهم عروةُ الصحابة بأنهم سيفرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركونه في الحديبية.(1/357)
ومن عجيب أمر هذا الشيخ، وأمره كله عجب، تأكيده لزلته هذه بقوله: "من حقهم – ثلاثاً – أن يمنعوا الحجاب!!"، ألا يعلم أنه ليس لمخلوق حق مؤمناً كان أم كافراً إلا أن يتبع شرع محمد صلى الله عليه وسلم، وما يصنعه الكفار والمتفلتون من المسلمين ظلم بيِّن لأنفسهم.
وأخيراً نقول لشيخ الأزهر، سيد طنطاوي، سامحه الله: لقد نافقتَ في فتواك، وأغضبتَ ربك ومولاك، وخنتَ من ائتمنك وولاك من المسلمين، ولو كانوا راضين بمقولتك هذه، لأن كل من عصى الله فهو جاهل، وخذلتَ المؤمنين، ونصرتَ الكافرين، والمنافقين، والإباحيين، وبُؤتَ بوزرك ووزر من يقلدك في ذلك، حيث لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً.
عليك أن تتقي الله في نفسك أولاً، وفي هذه المشيخة والمسلمين ثانياً، وعليك أن تبادر بتخطئة نفسك، فالرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة وأي رذيلة؟ فإنك إن كنت أرضيت مسؤوليك فقد أغضبتَ ربك، ورسولك، والمؤمنين.
فقد روى الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها وقد بعثت به إلى معاوية رضي الله عنه، ترفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أرضى اللهَ بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس"، وفي لفظ: "رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً"، وفي لفظ: "عاد حامدُه من الناس ذاماً".
وثمة أمر لا أحسب أن شيخ الأزهر يجهله، وإلا تكون تلك مصيبة أخطر وأكبر من هذه الطامة التي جاء بها، وهي أن الضرورة التي تبيح المحظور هي القتل أوالتعذيب الشديد، وحتى في مثل هذه الحال فالثبات على المبادئ أولى من الأخذ بالرخصة، ونحن نعلم أن من يخالف هذا القانون الجائر إما أن يُمنع من الدراسة، وهذه قد تكون نعمة وليست نقمة، وغاية ما هناك أن يرحل، وفي ذلك والله خير كثير.
وقبل هذا وذاك نقول كما قال ربنا: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً".
وكلنا يعلم أن معاملة الحكام الكفار للمسلمين أفضل من معاملة حكام المسلمين لكثير من إخوانهم المسلمين، وأن القوانين والمحاكم عند الكفار أرحم بالمسلمين في بعض الأمور منها في البلاد الإسلامية، ولهذا فمن يرد الكفار الانتقام منه والمكر به يحاكمونه خارج بلادهم في البلاد الإسلامية وغيرها، وبغير قوانينهم، نحو مكرهم وعزمهم على محاكمة صدام بالعراق.
وأخيراً أحب أن أذكر نفسي وشيخ الأزهر وغيره من العلماء وطلاب العلم الشرعي أن العلماء والحكام مثلهما كمثل الملح، فإذا فسد الملح فما الذي يصلحه؟!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والسلام
=================00000
المحافظة على رمم وجيف الكفار الهالكين، وعلى الأصنام، وعلى آثارهم مخلفاتهم عمل جاهلي وثني
"لقد أعزنا الله بالإسلام فمن أراد العزة في غيره أذله الله"
لا غرابة أن يهتم الكفار ويحافظوا على جيف ورمم الهالكين من أسلافهم، وعلى الأصنام، حماية للوثنية ودفاعاً عن الشرك، والجاهلية.
ولا غرابة كذلك أن تغضب أمريكا راعية الكفر وحلفاؤها من الكفار على حكومة الطالبان عندما شرعت في هدم وتحطيم صنم بوذا.
ولكن العجيب الغريب أن يذهب وفد من العلماء لإثناء تلك الحكومة الراشدة عن ذلك، لأن ما قامت به كان من أوجب واجبات الحاكم، وهو حماية جناب التوحيد، وهو من أجل أعمالهم التي قاموا بها في عهدهم الراشد.
ما فعله الطالبان بـ"بوذا" فعله أسلافهم الفاتحون الأول.
روى الطبري وابن كثير رحمهما الله أن قتيبة بن مسلم رحمه الله عندما فتح مدينة سمرقند ودخلها بُني له فيها مسجد، فصلى فيه، وأتي بالأصنام فسلبت، ثم وضعت بين يديه، فكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها، فقالت الأعاجم: إن فيها أصناماً من حرقها هلك؛ فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي؛ فجاء "غورك" فجثا بين يديه، وقال: أيها الأمير إن شكرك عليَّ واجب، لا تعرض لهذه الأصنام؛ فدعا قتيبة بالنار، وأخذ شعلة بيده، فخرج وكبر ثم أشعلها وأشعل الناس، فاضطرمته، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال.
لقد قلد كثير من المسلمين الكفار، وتشبهوا بهم في كل شيء، في حماية الوثنيات القديمة، والمحافظة على رمم وجيف الهالكين والأصنام والتماثيل، وفي إنشاء وزارات للسياحة تعنى بما يعتني به الكفار، ومتاحف، ومعاهد لدراسة حضارات الكفار، وإنفاق الأموال الطائلة في ذلك.
كما قلت لا يعجب الإنسان كثيراً من اهتمام أمريكا، وأذنابها، والمنظمات التي تدور في فلكها أن يكونوا هم المسؤولون الأول عن جميع الأصنام، وجيف الكفار في سائر العالم، إلى درجة أن مصر لا تستطيع أن تتصرف في شيء من أصنامها إلا تحت رعاية تلك المنظمات.
ولكن العجب كل العجب من المسلمين في سلوكهم لهذا المسلك المشين، وتقليدهم وتشبههم بالكافرين، ويتمثل ذلك في الآتي:
1. أن تنقل مصر صنماً من أصنامها بطائرة خاصة إلى إيطاليا لترميمه هناك.(1/358)
2. وأن تكون مدائن صالح في شمال المملكة العربية السعودية منطقة سياحية يؤمها الأساتذة والطلاب وغيرهم في العطل، وتهيأ لاستقبالهم، وتعنى بها الدولة، وهي من مناطق العذاب التي لا ينبغي لأحد أن يدخلها إلا وهو باكٍ، وفي غزوة تبوك – جيش العسرة – عندما أخذ بعض المسلمين ماءً من آبارها من غير علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا في غاية الضيق والعطش، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريقوا ما أخذوه من ماء، وأن يتخلصوا من الأطعمة التي صنعوها بهذا الماء.
3. أن ينازع ويجادل البعض في هل أصل ومنبع الحضارة النوبية السودان أم مصر؟
4. أن يُنْشأ معهد لرعاية وحماية جيف الفراعنة وأصنامهم وآثارهم في البجراوية، ومروي، ودنقلا، وغيرها في السودان، وأن تبنى الاستراحات وتحمى تلك الرمم، وتفتخر مصلحة الآثار بأنها تمكنت من القبض على من يريدون سرقة جيفة من تلك الجيف!
5. أن تطمئن الحكومة المصرية – متمثلة في وزارة السياحة – حكومة إيران بأنها ستقوم بترميم وصيانة ما أصاب الأصنام في مدينة "بم" التي ضربها الزلزال فوراً.
هذه مجرد أمثلة، وما غاب عني وما لم أذكره أضعاف ما ذكرته.
ونحن نسأل أليس من الأولى أن تنفق هذه الأموال الطائلة على الأحياء المحتاجين من المسلمين؟ هل ترميم أصنام "بم" أولى من بناء مساكن لآلاف الأسر التي تسكن في المقابر في القاهرة، والتي تسكن في درج بعض العمائر؟
وهل حماية جيف الفراعنة وأصنامهم في البجراوية ومروي ودنقلا وغيرها في السودان أولى من حفر آبار للأعراب الذين لا يجدون ما يشربون ويغتسلون به ويغسلون به أمواتهم في بعض مناطق السودان؟
ألم يعلم المسؤلون أن الأحياء أولى من الأموات ولو كانوا مسلمين؟ ألم يأمر أبو بكر أن يكفَّن في ثوبيه اللذين مات فيهما وأن يشترى له ثوب واحد، وقال: "الحي أولى بالجديد من الميت، إنما هو للدود"؟ قل لي بربك كم غرفة تبنيها تكلفة بناء قبة على جيفة من الجيف عندنا في السودان وغيره؟ أواستراحة أقيمت عند هذه الأصنام والأوثان؟
أرجو أن تقارن أخي الكريم بين اهتمام حكام المسلمين اليوم وحرصهم على المحافظة على جيف ورمم الكفار، والأصنام، وآثار الحضارات الوثنية، وما أمر به عمر أن يفعل بجثة دانيال عليه السلام، لتعلم الفرق الشاسع والبون الواسع بيننا وبين أسلافنا.
لما فتح المسلمون "تُسْتَر" التي يسميها العجم "شُشْتَر" وجدوا عندها قبراً عظيماً، قالوا: إنه قبر دانيال؛ ووجدوا عنده مصحفاً، قال أبو العالية: أنا قرأت ذلك المصحف، فإذا فيه أخباركم، وسيرُكم، ولحون كلامكم؛ وشموا من القبر رائحة طيبة، ووجدوا الميت بحاله لم يُبْل، فكتب في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فأمره أن يحفر بالنهار عشر قبراً، فإذا كان الليل دفنه في قبر من تلك القبور، ليخفى أثره، لئلا يفتتن به الناس، فينزلون به، ويصلون عنده، ويتخذونه مسجداً.
وثمة شيء آخر، ما للمسلم وللحضارات الوثنية؟! ألم يغضب الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر عندما جاءه بصحيفة من التوراة غضباً شديداً؟ ألم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء يقربنا من الجنة ويباعد بيننا وبين النار؟
رضي الله عن لبيد، ذلكم الشاعر المسلم المخضرم، الذي عاش مائة وعشرين سنة، ستين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام، عندما طلب منه عمر أن يكتب له شيئاً من شعره، كتب له سورة البقرة وآل عمران، وفي رواية قال له: إن الله أبدلني خيراً منه؛ وكذلك لم تقل الخنساء شعراً بعد إسلامها، وهما من فحول الشعراء.
جل المسلمين اليوم يجهلون أوجب الواجبات عليهم نحو ربهم، ورسولهم، ودينهم، ولا يعرفون شيئاً عن الغزوات، ولا الفتوح الإسلامية، ولا الأبطال المسلمين، أليس من الأولى أن ندرسهم ذلك ونعلمهم إياه؟ رحم الله أخانا العبد الصالح الشيخ عبد الرحيم عمر، عندما هلك "جيفارا" وأقام الشيوعيون الدنيا ولم يقعدوها في جامعة الخرطوم، فسأله أحد الإخوة مداعباً له: هل تعرف "جيفارا"؟ فقال: لا أعرفه ولا أريد أن أعرفه، هل أنا أ عرف جميع الصحابة؟!
اللهم إنا نسألك أن تردنا إليك رداً جميلاً، وأن تستعملنا في طاعتك، وأن تشغلنا بمعرفتك ومعرفة رسولك ودينك، والسلام
=================00000
تغيير المناهج الذنب الذي لا يُغتفر، والخطر المحدق
ليس للمسؤولين عن التعليم في معظم البلاد الإسلامية هذه الأيام شغل وهم سوى تغيير المناهج الدينية، وتعديل الكتب الدراسية، لتتمشى مع الخطة الأمريكية، ولتخدم أهداف الحرب الصليبية العسكرية، والثقافية، والتعليمية، والإعلامية، والاجتماعية، وقد صدرت التعليمات إلى حكام المسلمين، وكررت التحذيرات لهم، ولهذا فهم يتسابقون في ذلك ويتنافسون ولا يستحيون.
ما كنا نظن والله أن يصل الذل والهوان بالمسلمين، ويستكين حكامهم للكافرين، حتى يتدخلوا في أخص خصائصهم، وفي قراراتهم السيادية.(1/359)
ما كنا نظن أن تبلغ الجرأة بالكفار أن يأمروا حكام المسلمين أن يحذفوا من المقررات الدينية كل آية أوحديث أو أثر يتكلم عن الجهاد، أوعن الولاء والبراء، أوفيه لعن لليهود والنصارى الملعونين على ألسنة الأنبياء والمرسلين إلى يوم الدين، في كتاب الله المبين: "لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون".
أوأن يتحكم الكفار ويأمروا بإغلاق العديد من المدارس والمعاهد الدينية داخل البلاد الإسلامية في باكستان والسعودية وغيرهما.
أوأن يتدخلوا في مصارف الزكوات والصدقات، فيحرموا منها من شاءوا من أصحابها الذين بينهم ربنا في كتابه الكريم، بحجة تجفيف منابع الإرهاب، وما علم هؤلاء أن أمثال هذه التصرفات تولد أصنافاً من الإرهاب، لا يعلم مداه إلا الله والراسخون في العلم.
ما كنا نظن أن الأمر يصل إلى أن يتدخل الكفار عن طريق إخوانهم المنافقين في عزل ومنع بعض الخطباء والمدرسين من الخطب والتدريس، وتعيين آخرين لا يكون لهم أدنى تأثير إلا التأثير السلبي.
بل ما كنا نصدق أن بعض أئمة المساجد منعوا عن القنوت والدعاء على الكفار.
ما كنا نتخيل أن يكون لأحفاد القردة والخنازير من اليهود والصليبين الكلمة الأولى والأخيرة في مصير العالم الإسلامي قبل غيره.
كل هذا وغيره حدث بسبب الغفلة وتخلي المسلمين عن دينهم، وبسبب اشتغالهم بخلافاتهم الداخلية، وتعلقهم بمصالحهم الدنيوية، وبركونهم إلى الدنيا، وبإسناد الأمر إلى غير أهله، وبترك التناصح والأمر والنهي، وبتمكين الفكر الإرجائي والصوفي، وبالتهاون في أمر العقيدة والسلوك، وصدق الله العظيم: "من يُهن الله فما له من مكرم"، "إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
وصدق القائل:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
لقد نسي حكام المسلمين قبل الكفار أن أمر هذا الكون بيد الله عز وجل، وأن الله يُمهل ولا يُهمل، وأن الحكم لله يؤتيه من يشاء ويصرفه عمن يشاء، وأن الله غالب على أمره، وأن العاقبة للتقوى، وأنه لن تزول قدما عبد عن الصراط حتى يُسأل عن كل ما جنته يداه، وخطاه بنانه، ونطقه بلسانه.
اللهم اصرف عنا كيد الأشرار، واحفظنا من فتن الليل والنهار، ولا تجعل للكافرين والمنافقين علينا وعلى المؤمنين سبيلاً، ولا تؤاخذنا بما كسبت أيدين
=================00000000
الأدلة الشرعية والحجج القوية في تحريم مصافحة المرأة الأجنبية:
"لأن يُطعن أحدكم بمِخْيَط من حديد في رأسه خيرٌ له من أن يمس امرأة لا تحل له"
حديث رواته ثقات
الأدلة على حرمة مصافحة الأجنبية
قَسَمُ عائشة رضي الله عنها وتأكيدها على عدم مصافحته صلى الله عليه وسلم في البيعة يدل على ردها لآثار وشبه واهية في جواز المصافحة
عدم المصافحة ليست من خصائصه صلى الله عليه وسلم
كيف ومتى يسلم على النساء؟
الخلاصة
لقد شاع في كثير من مجتمعات المسلمين في العصورالمتأخرة بسبب الجهل، والاستعمار، والتعليم المدني، والإعلام الموجه، كثير من المخالفات الشرعية، من تلك المخالفات ما يتعلق بالمرأة، نحو الدعوة إلى تحريرها، وخروجها من بيتها، والمطالبة بحقها السياسي، واختلاطها بالرجال، والتهاون في مصافحة الرجال الأجانب لها، ودخول الرجال على النساء، والاختلاط بهن، والانبساط معهن، على الرغم من نهي الإسلام الصحيح الصريح عن كل ذلك وغيره.
من الأمور التي عمت بها البلوى في مجتمعنا السوداني خاصة، وغيره من المجتمعات الأخرى، مصافحة المرأة الأجنبية، سيما لو كانت زميلة للرجال في العمل أوالدراسة، أوجارة في السكن، أوقريبة، لغير محارمها.
وأسوأ من المصافحة التهاون والتساهل فيها، ومقابلة ومواجهة من لا يصافح من الرجال والنساء بالإزدراء والاستهجان، والنيل منهم، والشين لهم، واعتبار بعض النساء، أن الذي لا يصافحهن فقد أهانهن وجرح كرامتهن، وخدش وطعن في أنوثتهن، بل زين الشيطان لهؤلاء أن المانع لمن لا يصافح سوء النية وسواد الطوية، وإلا لو كانت نيته سليمة وقلبه أبيض لما امتنع عن ذلك، وأن العفه في القلب، فالعفيف عفيف ولو عانق دعك أن يصافح.
وقد تعجبت كثيراً ممن تجاوز المصافحة باليد إلى السلام بالحضن والمعانقة بين من لا يجتمعان إلا في آدم وحواء عليهما السلام، من الموظفين، والطلاب، والعاملين في مصلحة واحدة، ونسي هؤلاء أن الإسلام يحكم بالظاهر ولا يلتفت إلى السرائر التي لا يملك علمها إلا صاحبها وخالقها، فلا مكان لسلامة القلب وخبثه، ولا داعي لاتهام النيات، والتطاول على الأبرياء والبريئات، وانتهاك الحرمات بمثل هذه الحجج الواهيات.
فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما حذر من الدخول على النساء الأجنبيات، بقوله: "إياكم والدخول على النساء"، لم يستثن من ذلك سليمي النيات من غيرهم، وهل هناك أبرُّ قلوباً وأطهر نفوساً من الصحابة الذين خوطبوا بذلك؟!(1/360)
الدافع لهذه الاتهامات، والمبرر لارتكاب تلك المحظورات هو الجهل والغرور، ومن العجائب الغرائب أن يخوَّن الأمين ويؤتمن الخائن، ويجرح الملتزم ويمدح المتهاون، ويشكر المتفلت ويذم المتعفف عن ذلك.
وبعد..
فإليك أخي المسلم وأختي المسلمة الأدلة الشرعية والحجج القوية على حرمة مصافحة المرأة الأجنبية، لتكونا على بينة من هذا الأمر، نصيحة لله، ولرسوله، ولدينه، ولعامة المسلمين والمسلمات، لعلها تجد أذناً صاغية، وآذاناً واعية، وقلوباً سالمة من الشبه، ولنعلم أي القولين أرجح، وأي الطريقين أفلح، طريقة المحرِّمين للمصافحة، أم المجيزين لها الحاملين على من خالفهم في ذلك؟
الأدلة على حرمة مصافحة الأجنبية
الأول: عدم مصافحته صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم، وهو ولي لكل نساء العالمين للمبايعات له على الإسلام، ولو جازت المصافحة للأجنبية لجازت في هذه الحال، ولما لم يجزها صلى الله عليه وسلم في البيعة فعدم جوازها فيما سواها أولى وأحرى.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمتحن بقول الله عز وجل: "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولايزنين.." إلى آخر الآية.
قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقن فقد بايعتن؛ ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه بايعنه بالكلام.
قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن كلاماً".
قال الندوي في شرح الحديث السابق: (فيه أن بيعة النساء بالكلام، من غير أخذ كف، وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف).
وفي رواية لعروة عن عائشة عند البخاري: "فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً؛ ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة".
وعن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: "أن لا يشركن بالله شيئاً.." الآية، وقال: فيما استطعتن وأطقتن؛ قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا؛ قلنا: يا رسول الله: ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة".
الثاني: التحذير من ملامسة المرأة ومصافحتها: عن معقل بن يسار رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمِخْيَط من حديد خير له من أن يمس امرأة أجنبية".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرْج ويكذبه".
قَسَمُ عائشة رضي الله عنها وتأكيدها على عدم مصافحته صلى الله عليه وسلم في البيعة يدل على ردها لآثار وشبه واهية في جواز المصافحة
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على قسم عائشة وتأكيدها ونفيها لعدم مصافحته صلى الله عليه وسلم لامرأة أجنبية ولا في البيعة، مشيراً لقولها: "ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة: (كأن عائشة رضي الله عنها أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية رضي الله عنها).
ثم أورد عدداً من الآثار بعضها واهٍ، وبعضها مرسل، وبعضها مبهم، وليس فيها شيء يقاوم ما صح عن عائشة، وأميمة، ومعقل بن يسار رضي الله عنهم، وليس فيها كذلك ما يدل على أنه لامس أوصافح.
والآثار هي
1. ما عند ابن خزيمة، وابن حبان، والبزار، والطبري، وابن مردويه، عن طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة، قالت: "فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد".
2. وفي رواية عنها قالت: "قبضت منا امرأة يدها".
الشبهة التي يثيرها البعض من قبض هذه المرأة ليدها "أي ولم يقبض سائر النساء"، وينفي هذا هذا الفهم الخاطئ قَسَمُ عائشة وقولُ أميمة، وسبب قبض هذه المرأة ليدها عندما نهاهن صلى الله عليه وسلم عن النياحة، فاستدركت واستفسرت هذه المرأة الصادقة قائلة: "فلانة أسعدتني -أي أنها بكت معي ميتاً لي- وأنا أريد أن أكافئها بالبكاء على ميتها"، والبكاء بالدمع من غير نياحة جائز.
قال ابن حجر معلقاً على هذين الخبرين: (فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن، ويمكن الجواب عن الأول بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة، وإن لم تقع المصافحة، وعن الثاني: أن المراد بالقبض التأخر عن القبول، أوكانت المبايعة تقع بحائل).(1/361)
3. روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببُرْد قطري فوضعه على يده وقال: إني لا أصافح النساء".
4. وعند عبد الرزاق من طريق إبراهيم النخعي مرسلاً نحوه.
5. وعند سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي حازم كذلك.
قلت: ما في الصحيح الصريح المرفوع غنى عن هذه المراسيل المقطوعة المبهمة، هذا بجانب ما فيها من التكلف الذي ينافي هديه صلى الله عليه وسلم.
6. وأخرج ابن إسحاق في المغازي من رواية يونس بن بُكَيْر عنه عن إبان بن صالح أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يغمس يده في إناء وتغمس يدها فيه".
قلت هذا الخبر على ما فيه من التعسف والكلفة ومخالفة السنة، لا يمكن أن يورد معارضاً للأخبار الصحيحة الصريحة.
روى كذلك الحافظ نور الدين الهيثمي رحمه الله عدداً من الآثار الضعيفة والواهية في هذا الشأن، وواحداً مقبولاً ولكنه ليس في موضع النزاع، نذكر طرفاً منها حتى لا يغتر بهاأحد.
7. عن أم عطية قالت: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم عليهن فرددن السلام، فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن، فقلن: مرحباً برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تبايعن على ألا تشركن بالله شيئاً، ولاتسرقن، ولاتزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف؛ قلن: نعم؛ فمد عمر يده من خارج الباب، ومددن أيديهن من داخل، ثم قال: اللهم اشهد؛ وأمر أن يخرج في العيدين الحيض والعتق، ونهينا عن اتباع الجنائز، ولا جمعة علينا، فسألته عن البهتان، وعن قوله: ولا يعصينك في معروف؛ قال: هي النياحة".
قلت: ليس هذا الأثر في موضع النزاع، وليس فيه أن عمر رضي الله عنه صافحهن، ولكن مد يده وهو خارج الباب، ومددن أيديهن وهن داخل الدار، وتلى عليهن مفردات البيعة، وأشهد الله على ذلك.
8. وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يصافح النساء من تحت الثوب".
9. وعن عروة بن مسعود الثقفي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده الماء، فإذا بايع النساء غمسن أيديهن في الماء".
عدم المصافحة ليست من خصائصه صلى الله عليه وسلم
يرفع البعض شبهة أخرى، وهي أن تحريم مصافحة المرأة الأجنبية من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب التدليس، إذ أن خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم معلومة ومعروفة، وقد أفردت بمصنفات، وكتب عنها، فلم يشر واحد من أهل العلم إلى إدخال المصافحة في ذلك، مما يدل على أن هذه مجرد شبهة الغرض منها التدليس والتلبيس على العوام، فالخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح صريح.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله وهو يتكلم عن المصافحة، وعن أنها حسنة وسنة: (.. ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن).
كيف ومتى يسلم على النساء؟
المرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، والنساء إما محارم وإما أجنبيات بالنسبة للرجل.
فالمحارم يسلم عليهن ويصافحهن كما يصافح الرجال، أما الأجنبيات: فيجوز السلام عليهن مجتمعات، أما الواحدة فإن كانت مُتَجَالَّة، أوأمِن الفتنة، أوكانت من أهله وأقاربه ومعارفه سلم عليها.
وكيفية سلام الرجال أوالرجال على المرأة والنساء الأجنبيات أن يلوي أحدهم يده بالتسليم ويتلفظ به من غير مباشرة ولا مصافحة.
الأدلة على ذلك
عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: "مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فسَلَّم علينا".
وفي رواية للترمذي عن أسماء كذلك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوماً وعصبة من النساء قعود، فألوى يده بالتسليم".
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كانت فينا امرأة"، وفي رواية: "كانت لنا عجوز، تأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكرر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا نسلم عليها فتقدمه لنا".
وعن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو يغتسل، وفاطمة تستره، فسلمت".
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على نسوة فسلم عليهن".
أقوال العلماء في ذلك
قال الإمام النووي رحمه الله: (قال أصحابنا ـ الشافعيةـ : والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، وأما المرأة مع الرجل فقال الإمام أبو سعيد المتولي: إن كانت زوجته، أوجاريته، أومحرماً من محارمه فهي معه كالرجل، فيستحب لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر رد السلام عليه، وإن كانت أجنبية فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يسلم الرجل عليها، ولو سلم لم يجز لها رد الجواب، ولم تسلم هي عليه ابتداء، فإن سلمت لم تستحق جواباً، فإن أجابها كُره له، وإن كانت عجوزاً لا يفتن بها جاز أن تسلم على الرجال، وعلى الرجل أن يسلم عليها.(1/362)
وإذا كانت النساء جمعاً فيسلم عليهن الرجل، أوكان الرجال جمعاً كثيراً فسلموا على المرأة الواحدة جاز، إذا لم يخف عليه ولا عليهن الفتنة، ولا عليها وعليهن فتنة).
وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله وهو يتكلم عن الفروق بين الرجل والمرأة: (ومنها أنها لا تبتدئ شابة بسلام وتعزية، ومنها أنها لا تجاب ولاتشمت، قال الحموي: يعني أنها لو بدأت بالسلام قيل عليه في باب "البزازية" ما يدل على أنه يجيبها بصوت غير مسموع، وعبارته: امرأة عطست أوسلمت شمتها ورد عليها لو عجوزاً بصوت يسمع، وإن شابة بصوت لا يسمع، انتهى. وفي "خزانة المفتين": وإذا عطست امرأة فلا بأس بتشميتها إلا أن تكون شابة يرد عليها سراً في نفسه انتهى.
إلى أن قال موجهاً للكلام السابق: سلام الشابة غير مسنون بل منهي عنه، لما في ذلك من الفتنة، فلا يجب رده فضلاً عن أن يشترط فيه الإسماع، وإن أبيح له أن يرد عليها بصوت لا يسمع لأن السلام تحية أهل الإسلام فيباح له الرد عليها بصوت لا يسمع رعاية لحق الإسلام والله أعلم).
وقال المقدم في كتابه "عودة الحجاب" القسم الثالث وهو من الكتب النافعة المفيدة في هذا الجانب: (ومن تساهل في مصافحة النساء، واحتج بطهارة قلبه، وسلامة نيته، وأنه لا يتأثر بذلك فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وهذا أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وأخوفهم لله، وأرعاهم لحدوده، يقول وهو المعصوم: "لا أمس أيدي النساء"، ويقول: "إني لا أصافح النساء"، ويمتنع عن ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم؟! كيف وقد قال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً").
الخلاصة
ذهب الناس في مصافحة الأجنبية ثلاثة مذاهب: وسط وطرفي نقيض، يمثل طرفي النقيض المتمسكون بالعادات والأعراف والتقاليد، وهم صنفان:
أحدهما: لا يصافح محرمة عليه أوأجنبية، لا أختاً، ولا عمة، ولا غيرهما من المحارم، ومن باب أولى الأجنبيات، بسبب الجهل، وتقليداً وتمسكاً ببعض العادات والتقاليد القبلية، وهم كم هائل من المسلمون في إفريقيا وآسيا.
الثاني: يصافح كل النساء، لا يميز بين محارمه والأجنبيات، بل انبساطه مع الأجنبيات أكثر، بسبب الجهل كذلك، وتمشياً مع العادات والتقاليد السائدة في المجتمع، وبسبب التعليم المدني، وتقليداً للكفار، وتمشياً مع الدعوات التحررية، وهؤلاء صنفان كذلك: مقلد للآباء والأجداد، وسافر متحرر من القيود الشرعية.
أما الوسط فهم الملتزمون بهدي نبيهم وسنته صلى الله عليه وسلم، فيصافحون من كان يصافح، ويسلمون بالكلام لمن كان لا يصافحهن، فالحسنة بين سوأتين، وهم الوسط بين أهل الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير، كثر الله سوادهم، وثبتهم على الحق والسنة، وما ذهبوا إليه هو الحق الذي تؤيده النصوص الصريحة الصحيحة، وهو الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والسلف العظام، والخلف العقلاء، الممتثلين لسنة خير الأنام.
فعجلا أخي وأختي المتهاونين في المصافحة بالتوبة والاستغفار، قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وتجتمع عليكما سكرة الموت وحسرة الفوت، واحذرا أن تكونا عبيداً للعادات، ومقلدين للكفار، واعلما أنكما لن تقويا على أن تُطعنا بكل مصافحة واحدة في رأسيكما بمخيط من حديد، هذا إذا كنتما موقنين أن رسولكما لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وإن كنتما موقنين بالجنة والنار، وأنه لن تزول قدماكما حتى تسألا عن كل مخالفاتكما الشرعية، وتأكدا أنه لا فرق في حرمة المصافحة بين غريبة وقريبة، وجارة وبعيدة، وزميلة وغير زميلة، فالكل سواء.
واعلم أخي المسلم كذلك أن الحرج الذي ليس بعده حرج مخالفة الأوامر الشرعية، وانتهاك الحدود والآداب المرعية، وأن ما تعانيه من حرج وصدود بسبب الامتناع عن المصافحة في أول الأمر لا يساوي شيئاً بالنسبة لما ينتظرك من الحرج، والتثريب، والتعذيب، والطعن، فانظر أي الأمرين أيسر؟ وأي الحرجين أخف؟ واختر لنفسك ما فيه صلاحها، وتيقن أن رضا الناس غاية لا تنال، وأن رضا العامة لا ينال إلا بغضب الجبار.
واعلمي اختي المسلمة أن الذي لا يصافحك مكرم معز لك، وأن الذي يصافحك مذل مهين لك، علم بذلك أم لم يعلم، وتذكري قول ربك: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"، فاحذري أصدقاء الدنيا أعداء الآخرة.
وفقني الله وإياك أخي المسلم وأختي المسلمة لما يحب ويرضى، وقَسَم لنا من الخشية ما يحول بيننا وبين معاصيه، وختم لنا بخير، وجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الناصح الأمين، وعلى آله وأصحابه أئمة الدين، وعلى من تبعهم بإحسان وتأسى بهم إلى أن تكتمل العدتان.
=================(1/363)
المنافقون اليوم أكثر عدداً، وأعظم خطراً وشراً من المنافقين الماضين، أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإخوانهم اليوم يعلنون نفاقهم
كثرة المنافقين ووفرتهم في الماضي والحاضر
كذب دعوى بعض المرجئة أنه ليس في هذه الأمة نفاق بعد العهد النبوي
أسباب كثرة المنافقين وظهورهم في هذا العصر
أخطر أدوار المنافقين في حرب الإسلام والمسلمين في هذا العصر ووسائلهم في ذلك
لا ولن تبتلى الأمة الإسلامية قط، في ماضيها ولا حاضرها ولا في مستقبلها، بأخطر من النفاق والمنافقين، فالمنافقون أعظم ضرراً وأكثر خطراً وأدوم مصيبة على الإسلام والمسلمين من إخوانهم الكافرين، لأنهم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويرفعون شعاراتنا، ويتظاهرون بإسلامنا، وينتمون إلى جماعاتنا وفرقنا، ومع ذلك لا يفتُرون ولا ييأسون من الكيد لنا، ويتعاونون مع أعدائنا، ويوالونهم أكثر من موالاة المسلمين، لهذا فقد حذر الله ورسوله والمؤمنون من خطرهم، ونبهوا على ضررهم، وأمروا بأخذ الحيطة والحذر منهم، ويدل على ذلك ما يأتي:
1. أن الحديث عن النفاق والمنافقين ورد في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من جملة ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم).
2. خوف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته من أئمتهم، فعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي منافق عليم اللسان".
قال المناوي رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: (كل منافق عليم اللسان، أي عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مغرٍ للناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلام).
3. خوف السلف الصالح على أنفسهم من النفاق.
o فقد قال عمر لحذيفة ـ أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين رضي الله عنهما: ناشدتك بالله هل سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؟ فقال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً.
o وكان أبو الدرداء يكثر التعوذ في صلاته بعد تشهده من النفاق، فقيل له: ومالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ فقال: دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيخرج منه.
o وقال ابن أبي مليكة ووهو من كبار التابعين: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه.
o وقال الحسن البصري رحمه الله: ما خافه ـ أي النفاق ـ إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق.
o وقيل لأحمد: ما تقول فيمن لا يخاف النفاق على نفسه؟ فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟
وسبب ذلك كما قال ابن القيم رحمه الله: (إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جداً، لأنهم منسوبون إليه وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والفساد، فلله كم من معقل للإسلام هدموه؟ وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟ وكم من علم له قد طمسوه؟ فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
كثرة المنافقين ووفرتهم في الماضي والحاضر
كان المنافقون بقسميهم ـ نفاق الاعتقاد والعمل ـ ولا يزالون في الماضي والحاضر أكثر من المؤمنين، ويزداد عددهم ويعظم خطرهم كلما مضى الزمان، وضعف الإيمان، وقويت شوكة الكفار، مما يدل على كثرة المنافقين ووفرة عددهم حتى في القرون الفاضلة أن حذيفة رضي الله عنه سمع رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين؛ فقال: "يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك".
وقال الحسن البصري أيضاً رحمه الله: "لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات".
وقال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات وتتعطل بهم أسباب المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات".
إذا لم ينج من هذا الداء العضال والمرض البطال بعض العلماء والمتنسكة في الماضي فكيف بغيرهم وبمن بعدهم؟ قال الحافظ الذهبي رحمه الله في شأن الحلاج: (فهو صوفي الزي والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم منتسبون إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن مردة المنافقين، قد لا يعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعلم بهم، قال تعالى: "ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم"، فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم بعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته).
كذب دعوى بعض المرجئة أنه ليس في هذه الأمة نفاق بعد العهد النبوي(1/364)
الآثار التي ذكرناها عن حذيفة، والحسن، وأحمد رحمهم الله فيها تكذيب للدعوى الباطلة والشبهة الخاسرة التي يرفعها بعض المرجئة، وهي نفيهم لوجود النفاق في هذه الأمة، وإنما كان النفاق في العهد الأول فقط، أما اليوم فلا نفاق، وإنما كفر وإيمان فقط.
وقصروا قوله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها" الحديث في المنافقين الأولين، وبرأوا من هم شر منهم، انتصاراً لمذهبهم واغتراراً ببدعتهم، حيث يشهدون على كل من نطق بالشهادتين أنه مؤمن كامل الإيمان، وأن إيمانه مثل إيمان جبريل وميكائيل!!
وقد رد السلف الصالح على هؤلاء المرجئة قولهم هذا، وأنكروا عليهم أشد الإنكار، وشنعوا بهم، واعتبروا بدعة الإرجاء صنواً لبدعة الخروج.
قيل للحسن البصري: "إن قوماً يزعمون أن لا نفاق، ولا يخافون النفاق؛ فقال: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من طلاع الأرض ذهباً".
وقال سفيان الثوري رحمه الله: "خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث؛ وذكر منها: نحن نقول النفاق، وهم يقولون لا نفاق".
وجاء رجل من المرجئة إلى أيوب السختياني رحمه الله فقال: "إنما هو الكفر والإيمان؛ فقال أيوب: أرأيت قوله: "وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم"، أمؤمنون هم أم كفار؟ فسكت الرجل، فقال أيوب: اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية في القرآن فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي".
بل إن حذيفة رضي الله عنه اعتبر المنافقين التالين أشر من السابقين، فقال: "المنافقون الذين فيكم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن هؤلاء يعلنون".
لهذا عد بعض أهل العلم بدعة الإرجاء أخطر من بدعة الخروج، وكلاهما خطر.
قال الزهري رحمه الله: "ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه"، يعني أهل الإرجاء.
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: "المرجئة أخوف عندي على الإسلام من عدتهم من الأزارقة"، والأزارقة شر فرق الخوارج.
وقال سعيد بن جبير رحمه الله: "مثل المرجئة مثل الصابئين".
وقال الأوزاعي رحمه الله: قد كان يحيى وقتادة يقولان: "ليس في الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء".
وذلك لأنهم لا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، بل يقولون: لا يضر مع الإيمان -أي مجرد النطق بالشهادتين- معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
قد يقول قائل: ما تقولون فيما خرَّج البخاري عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: "إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان"؟ نقول لهم ما بينه الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: (والذي يظهر أن حذيفة لم يرد نفي الوقوع -أي وقوع النفاق- وإنما أراد نفي اتفاق الحكم، لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام، ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئاً فإنه يؤاخذ به ولا يترك لمصلحة التألف، لعدم الاحتياج إلى ذلك).
ويؤيد ما قاله الحافظ الآثار العديدة عن حذيفة رضي الله عنه التي بين فيها كثرة المنافقين في عهده، وحذر من خطورتهم.
أسباب كثرة المنافقين وظهورهم في هذا العصر
الأسباب التي أدت إلى وفرة المنافقين وظهورهم وعظيم خطرهم في هذا العصر أكثر من ذي قبل، كثيرة جداً، نشير إلى طرف منها، فنقول من ذلك:
1. تفشي الفكر الصوفي في معظم بلاد الإسلام.
2. تفشي الفكر الإرجائي من غير انتساب إليه.
3. تفشي الفكر الاعتزالي كذلك من غير انتساب إليه.
وذلك لتسرب هذه الأفكار الخطيرة إلى المسلمين عن طريق المدرسة التي نسبت إلى الإصلاح، التي أنشأها محمد عبده، حيث أفرزت الكثير من الأفكار الاعتزالية، متمثلة في تجسيم وتعظيم دور العقل، وجعله الحَكَم على كثير من النصوص التي توقع المنهزمين في حرج مع الكفار، وكذلك أفرزت بعض عقائد المرجئة.
4. فساد العقيدة، وانتشار كثير من الممارسات الشركية والبدع، حتى اعتبرت من أصل الدين.
5. تفشي الجهل في الأمة بسبب هيمنة التعليم اللاديني، وإنشاء الكثير من المعاهد والجامعات على غرار المعاهد والجامعات عند الكفار.
6. إقصاء الإسلام عن معظم مناحي الحياة، وحكم المسلمين بالقوانين الوضعية المستمدة من القانون الفرنسي وغيره.
7. ضعف عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، الذي نتج من الأسباب السابقة الذكر، وعقيدة الولاء والبراء هي صمام الأمان لهذه الأمة.
8. تقدم الكفار العسكري والاقتصادي والمدني حبَّب للمسلمين الجهلة المغلوبين على أمرهم تقليد الكفار والتشبه بهم.
9. السياسة التي انتهجها الكفار بعد أن قضوا على الدولة العثمانية، وتقاسموها مستعمرات فيما بينهم -فرِّق تسد- وسعت دائرة الخلاف بين المسلمين.(1/365)
10. هيمنة الكفار على أنظمة الحكم في جل البلاد الإسلامية.
11. حرص كثير من حكام المسلمين على كراسي الحكم، ولو أدى ذلك إلى إقصاء الإسلام بالكلية.
12. غياب فريضتي الجهاد -جهاد الطلب والدفاع- والأمر بالمعروف عن الأمة.
13. تضخيم دور الإعلام الكافر جعل الإعلام في بلاد الإسلام عبارة عن بوق لما تنشره وسائل الإعلام الكافرة.
14. حرب المصطلحات التي أفلح فيها الكفار أدت إلى تغيير كثير من المفاهيم، وزعزت كثيراً من المسلمات عند المسلمين.
15. سيطرة المنافقين على وسائل الإعلام في البلاد الإسلامية قاطبة، وحجب الأخيار عن ذلك، حيث لا يفتح لغيرهم إلا لمن اطمأنوا أنه لا للإسلام الخالص ناصر، ولا للكافرين والمنافقين والزنادقة كاسر.
16. الحرب الصليبية التي شنتها أمريكا وأذيالها وعملاؤها على الإسلام وفي كل المجالات في آخر القرن الماضي وأول الحالي، وهيمنتها على المؤسسات الدولية، وعلى الحكومات الإسلامية وغيرها، زاد من جرأتهم ورفع عقيرتهم ومجاهرتهم بمحاربة الإسلام.
أخطر أدوار المنافقين في حرب الإسلام والمسلمين في هذا العصر ووسائلهم في ذلك
ما من مجال يكون فيه ضرب للإسلام وإضعاف لأهله إلا ونجد للمنافقين المتظاهرين بالإسلام في هذا العصر أوفر الحظ والنصيب، كانت المجالات التي يسلكها المنافقون لضرب الإسلام ومحاولة القضاء عليه كلما وجدوا سانحة ولا تزال هي:
1. التخذيل للمسلمين والتهوين من شر أعداء الدين.
2. الإشاعات المغرضة.
3. التجسس على المسلمين ومد الأعداء بما يعينهم على ذلك.
4. الإعلام لتغيير المفاهيم، والتشكيك في المسلمات، وزرع الخوف في نفوس الضعفاء.
5. موالاة الكفار ومعاداة أهل الإسلام.
كل هذه المجالات سلكها المنافقون في الماضي، ولكن زاد عليها منافقو هذا العصر مجالات أخر لم تخطر ببال إخوانهم وسلفهم الطالح، ألا وهي:
6. القتال والتخطيط والتعاون على ذلك جنباً إلى جنب مع الكفار، من غير خوف ولا وجل ولا حياء، مبررين لذلك بتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تخطر على بال الشيطان.
7. إعلان حربهم ومجاهرتهم بعدائهم للإسلام والمسلمين، بينما كان شيوخهم عبدا السوء ابن سلول، وابن سبأ، ومن والاهما يستترون من الناس، ويستحيون بعض الشيء، ولكن منافقي اليوم نُزِع الحياء من قلوبهم بسبب اطمئنانهم وتقويهم بالكفار.
الأدلة على ما ذكر لا تحصى كثرة، ولكن سنكتفي بالتمثيل لدور المنافقين في حربهم ضد الإسلام والمسلمين في جانب واحد ولقطاع واحد من قطاعاتهم العديدة، وجوانبهم الكثيرة، الا وهو الجانب الإعلامي، حيث يقوم المنافقون بحملات مسعورة لطمس الحقائق، ولتزوير الوقائع، وللتشكيك في المسلمات، والطعن في الثوابت، والتلبيس والتدليس على العامة، ويتمثل هذا الدور أصدق تمثيل في الآتي:
1. تقسيم الإسلام إلى إسلام سياسي وإسلام غير سياسي، والتركيز على أن الإسلام السياسي هذا من صنع الحركات الإسلامية، ولا وجود له في الدين، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض نفاقاً، وإلا فجلهم لا يؤمن بجميع الكتاب، ويصورون للعامة أن الإسلام السياسي محدث، وشن حملة شرسة ضد الحركات الإسلامية، مع التركيز على بعض الرموز.
2. تحرير المرأة من القيود الشرعية حتى تنطلق كما انطلقت أختها في الغرب، وتخرج من بيتها سافرة متبرجة لتكون لقمة سائغة للذئاب البشرية، زاعمين حرصهم على المرأة، لتتمكن من الحصول على حقها السياسي، ولتساوي الرجل، ولتنزع الحجاب، ولتختلط بالرجال، فالنساء شقائق الرجال، فلِمَ يخص الرجل بوظائف والمرأة بوظائف أخرى؟ هذا من نسج خيال الأصوليين المتطرفين.
3. الدعوة إلى مساواة الأديان والاعتراف بالأديان المحرفة المنسوخة، ووضعها على قدم المساواة مع الإسلام، والتوحيد بين أتباعها تحت مظلة الحزب الإبراهيمي، إذ الجميع مؤمنون، ومن ثم الدعوة إلى التعايش السلمي بين أتباع هذه الأديان، وذلك على أساس "النسبية الثقافية"، وعدم هيمنة ثقافة واحدة على الثقافات الأخرى، ويعنون بالثقافة الواحدة الإسلام، أما أن تهيمن الثقافة المادية الكافرة علىجميع الثقافات فهذا لا غبار عليه ولا خطر فيه.
4. السعي إلى إباحة الردة وإنكار حدها، حتى يتسنى لهم ما يهوون مصداقاً لقول الله عز وجل: "بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة".
5. القضاء على عقيدة الولاء والبراء، لأنها تفرق ولا تجمع بين البشر.
6. محاولة شطب مفهوم الجهاد من قاموس المسلمين، والتدليل على أن الإسلام لم ينشر بحد السيف، ورداً لقوله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة".
7. القضاء على ما تبقى من أثارة من شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8. التدخل السافر والدعوة الماكرة لإصلاح المناهج والمقررات، حتى تؤتي ثمارها، وتقضي على ما تبقى عند المسلمين من نخوة ورجولة واعتداد بهذا الدين.(1/366)
9. التبرير لما تقوم به أمريكا في حربها الصليبية المتعددة الجوانب والأهداف لإذلال المسلمين وإضعافهم، عن طريق غزو البلاد الإسلامية واستعمارها وإشاعة الرعب والفوضى في ربوعها.
10. إظهار أن أمريكا قوة لا تقهر، وأن المسلمين لا قبل لهم بها، ولهذا عليهم أن يستسلموا لها ويخضعوا لسيطرتها.
هذه مجرد أمثلة لما يقوم به المنافقون بألوانهم المختلفة، ونكهاتهم المتعددة في الجانب الإعلامي، بغرض القضاء على الإسلام، واستسلاماً للقطب الأوحد والطاغوت الأكبر، دعك عن الجوانب الأخرى.
فعلى المسلمين أن يحذروا مكر هؤلاء، وتدليسهم، وتخطيطهم، وعليهم أن يواجهوا هذا التخريب والإفساد بحزم وعزم وشدة، وبرجوع صادق إلى شرع الله المصطفى، وبتوحيد الجهود وتنسيق العمل، وبنبذ الخلافات، وتغيير ما بهم من ضعف واستكانة وخذلان، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وليعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الضيق بعده الفرج، وأن الأمر بيد الله، وأن الله غالب على أمره، وناصر لمن نصره، ومتولٍ لمن تولاه، وخاذل لمن عاداه وخالف أمره.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والفواحش والآثام، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصل اللهم على محمد خير الأنام، وآله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
=================0000000
لا حوار مع الكفار في سوى التخيير بين الإسلام، والجزية، والقتال
محاورة معاذ بن جبل رضي الله عنه مع زعماء الروم في فتح بلاد الشام
محاورة أبي عبيدة رضي الله عنه مع رسول الروم
محاورة عبادة بن الصامت رضي الله عنه للمقوقس
مخاطر الحوار مع الكفار في غير الخصال الثلاث
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
عندما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم جزيرة العرب، ودخل كافة أهلها في دين الإسلام، وتشرفوا وعزوا وأكرموا بالانتساب إلى ملة خير الأنام، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه إلى كافة ملوك الدنيا ورؤسائها المحيطين بالجزيرة في ذلك الوقت يدعوهم إلى الإسلام، فمنهم من أجاب، ومنهم من أذعن وهادن، ومنهم من استكبر واستنكف ومزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشقاهم كسرى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمزق ملكه، وأن تدك دولته، وأن يخسر آخرته، فكان ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد دُكت هذه الدولة المجوسية، ودخل أهل فارس في دين الإسلام كما دخل غيرهم عندما رُفعت راية الجهاد ـ جهاد الطلب ـ وخرج المسلمون فاتحين، ومبشرين، وناصحين للبشرية، في تبوك وما تلتها من الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين، ولم تزل هذه السنة الحميدة ماضية في المسلمين في عهد الدولتين الأموية والعباسية وما تلاهما، استجابة لأمر ربهم: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله"، وطلباً للتجارة الرابحة، وحرصاً على السلعة الغالية: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين".
وهروباً من النفاق ومن الميتة الجاهلية، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق"، وفي رواية عن أبي أمامة: "من لم يغز، أويجهز غازياً، أويخلف غازياً في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة".
هكذا كان حال المسلمين إلى أن أسقطت الدول العثمانية، بعد تكالب اليهود، والنصارى، والمنافقين عليها، وقسِّمت إلى دويلات فيما بينهم، وجثم الكفار على صدر الأمة، وعملوا على تغيير هويتها، وإذابة شخصيتها، والإخلال بعقيدتها، والتشكيك في مسلماتها، ولهذا استبدل البعض الذي هو أدنى بالذي هو خير، ورضوا بالدنية في دينهم، وطلبوا العز في غيره فأذلهم الله.
فقد استبدلوا الحوار مع الكفار، والتعايش السلمي معهم، والتشبه بهم، وموالاتهم، برفع راية الجهاد، والاعتداد بهذا الدين، والتبرؤ من الكفار، وعمل فيهم الإعلام الكافر والموجه عمله، فتغيرت الموازين، وتبدلت المفاهيم، فأضحى جهاد المدافعين عن أوطانهم ودينهم إرهاباً، واغتصاب الكفار لديار الإسلام وقتل الأبرياء والآمنين منهم عملاً مشروعاً، وسخروا عملاءهم في الداخل والخارج لتحقيق أهدافهم، ومنهم كثير من بني جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، ويرفعون شعاراتنا، بعد أن فرقوا بين المسلمين، وزرعوا الشك وسوء الظن بينهم، وصدقت فيهم نبوءة رسولهم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها"، قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكن غثاء كغثاء السيل".(1/367)
ونسوا أوتناسوا أوجهلوا أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً، وأن رضا الكفار لا ينال إلا بالانسلاخ من دين الإسلام، وأن موالاة الله ورسوله والمؤمنين لا تجتمع في قلب واحد مع موالاة وممالأة الكافرين.
الأدلة على أن الحوار مع الكفار لا يكون إلا في الاختيار بين أحد ثلاث خيارات، هي: الإسلام، أوالجزية، أوالقتال، من الكتاب، والسنة، وسيرة السلف الصالح كثيرة، نورد منها ما تيسر:
قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".
وقوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما في صحيح مسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ـ إلى قوله: فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".
وبهذه الخصال خيَّر قواد المسلمين في الفتوحات الإسلامية الأولى أبو عبيدة، وعبادة بن الصامت، ومعاذ بن جبل، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم وغيرهم الكفار، ولم يتعد حوارهم ذلك أبداً، وكان لهم ما أرادوا، وإليك نماذج من ذلك:
محاورة معاذ بن جبل رضي الله عنه مع زعماء الروم في فتح بلاد الشام
طلب زعماء الروم من أبي عبيدة أن يرسل إليهم رجلاً ليعرفوا حاجة المسلمين، فأرسل إليهم أبو عبيدة معاذ بن جبل وكان ذلك في سنة 13 هـ، قبل معركة اليرموك.
قال معاذ لترجمانهم: افهم عني أن أول ما أنا ذاكر حمد الله الذي لا إله إلا هو، والصلاة على محمد نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن أول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بالله وحده وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن تصلوا صلاتنا، وتستقبلوا قبلتنا، وأن تستنوا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وتكسروا الصليب، وتجتنبوا شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ثم أنتم منا ونحن منكم، وأنتم إخواننا في ديننا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدوا الجزية إلينا في كل عام وأنتم صاغرون، ونكف عنكم، وإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شيء مما خلق الله عز وجل نحن قابلوه منكم، فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فهذا ما نأمركم به وندعوكم إليه.
فلما فرغ معاذ من خطابه قالوا: ما نرى بيننا وبينك إلا متباعداً، وهذه خصلة نحن نعرضها عليكم، فإن قبلتموها منا فهو خير لكم، وإن أبيتم فهو شر لكم، نعطيكم البلقاء وما إلى أرضكم من سواد الأرض، وتنحَّوا عن بقية أرضنا وعن مدائننا، ونكتب لكم كتاباً نسمي فيه خياركم وصلحاءكم.
فقال معاذ: هذا الذي عرضتم علينا وتعطونه كله في أيدينا، ولو أعطيتمونا جميع ما في أيديكم مما لم نظهر عليه ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاث التي وصفت لكم ما فعلنا.
فغضبوا عند ذلك، وقالوا: نتقرب إليك وتتباعد عنا؟ اذهب إلى أصحابك، إنا لنرجوا أن نفرقكم في الجبال غداً.
فقال معاذ: أما الجبال فلا، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا، أولنخرجنكم من أرضكم أذلة وأنتم صاغرون، فانصرف معاذ إلى أبي عبيدة فأخبره بما قالوا، وبما رد عليهم.
محاورة أبي عبيدة رضي الله عنه مع رسول الروم
ثم بعثوا إلى أبي عبيدة رجلاً يخبر به عنهم قالوا: إنك بعثت إلينا رجلاً لا يقبل النَّصَف، ولا يريد الصلح، ولا ندري أعن رأيك ذلك أم لا، وإنا نريد أن نبعث إليك رجلاً منا يعرض عليك النَّصَف. فقال لهم أبو عبيدة: ابعثوا من شئتم.
عندما وصل رسولهم قام أبو عبيدة فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الله بعث فينا رسولاً نبياً، وأنزل علينا كتاباً حكيماً، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادة ربهم، رحمة منه للعالمين.
إلى أن قال: وأمرنا رسولنا فقال: إذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله، وبالإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل، فمن آمن وصدَّق فهو أخوكم في دينكم، له ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية حتى يؤدوها عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا أن يؤمنوا أويؤدوا الجزية فاقتلوهم وقاتلوهم، فإن قتيلكم المحتسب بنفسه شهيد عند الله، وهو في جنات النعيم، وقتيل عدوكم في النار.
فإن قبلتم ما سمعتم مني فهو لكم، وإن أبيتم ذلك فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
محاورة عبادة بن الصامت رضي الله عنه للمقوقس(1/368)
طلب المقوقس من عمرو بن العاص رضي الله عنه رسولاً يفاوضه، فأرسل إليه عبادة بن الصامت رضي الله عنه وآخرين، وكان عبادة أسود قصيراً، وأمره أن لا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الثلاث، وقال: إن أمير المؤمنين قد تقدم إليَّ في ذلك، وأمرني أن لا أقبل شيئاً إلا خصلة من هذه الثلاث خصال، وهي: الإسلام، أودفع الجزية، وإلا فالقتال؛ فالتزم عبادة بوصية أميره أبي عبيدة.
هذه هي الخصال التي ينبغي أن يحاور فيها المسلمون الكفار، ليختاروا ما يرونه، أما ما سوى ذلك فلا مجال للحوار.
هذا إن كان للمسلمين قوة ومنعة وعدة على ذلك، وإلا فعليهم أن يعدّوا لذلك العدة، وأن يغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم، كما فعل أسلافهم في حرب التتار، وحرب الصليبيين، شيخُ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه، وصلاحُ الدين الأيوبي وأسلافه.
فهل يا ترى سيلتزم المحاورون الآن للكفار بهذه الخصال، وليس لهم قدرة عليها ولا شأن بها؟ أم أن الحوار يتركز على محاولة إيقاف جهاد الدفاع المشروع الذي يمارسه المستضعفون من المسلمين في كثير من بلاد الدنيا، وعلى كيفية التعايش السلمي بين المسلمين والكفار، وعلى تطبيع العلاقات وتحسينها بين الدول الإسلامية والكافرة؟! أم لدفع تهمة الإرهاب عن الإسلام، التي أشاعها الكفار عن المسلمين زوراً وبهتاناً؟ وكما قيل: رمتني بدائها وانسلت!!
مخاطر الحوار مع الكفار في غير الخصال الثلاث
1. إزالة ما تبقى من عقيدة الولاء والبراء التي هي أساس هذا الدين.
2. خذلان إخواننا المجاهدين عن دينهم وأرضهم وعرضهم في كل من فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، والفلبين، وغيرها من البلاد.
3. تنكيس راية الجهاد بنوعيه: جهاد الطلب الذي هو أساس الجهاد، وجهاد الدفاع الذي هو الوسيلة الوحيدة لرد الحقوق إلى أهلها.
4 . تشجيع ظاهرة الغلو والتطرف لدى الشباب.
5. زعزعة الثقة أوانعدامها لدى طائفة كبيرة من الشباب في هؤلاء المحاورين، وفي ذلك خسارة كبيرة.
6. توسيع دائرة الخلاف في الأمة الإسلامية.
7. الاعتراف بالأديان المنسوخة والمبدلة كاليهودية والنصرانية، والتسوية بينها وبين الدين الناسخ للأديان، الإسلام.
8 . المستفيد الأول من هذه الدعوات التقريبية بين الأديان هم الكفار، والخاسرون هم المسلمون.
9. الدعوة إلى المساواة بين الأديان المبدلة والإسلام بأي صورة من الصور من الدعوات الإنسانية التي تسعى لتجميع الخلق على غير الدين، وهي دعوة كفرية.
10 . التشكيك في كفر اليهود والنصارى ناقض من نواقض الإسلام.
11. الغرض من هذه الحوارات أن يكف الكفار أذاهم عن المسلمين ويرضوا عنهم، وهذه غاية لا تنال بنص القرآن إلا بالانسلاخ عن الإسلام: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".
وأخيراً أحب أن أذكر أننا لا نشك قط في نوايا الداعين والمشاركين في هذه المؤتمرات والحوارات، بأن هدفهم من ذلك رفع العناء والضغط عن المسلمين، ودفع الشبه التي يرفعها أعداء الإسلام ضد الإسلام والمسلمين، لكن كم من طالب أمر لم يصبه؟ وراج رجاء فأخطأه، وصدق النية وحده لا يكفي، فلابد من موافقة ذلك لما جاء به الشارع الحكيم، ولهذا ننصح جميع إخواننا المسلمين بعدم الدعوة والمشاركة في هذه المؤتمرات والحوارات، لما فيها من الأضرار والمخالفات الشرعية.
والله أسأل أن يردنا وجميع إخواننا المسلمين إلى الحق رداً جميلاً، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، ويجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان أمر رشد يعز به أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكرن، اللهم ارفع علم الجهاد، وأهلِك أهل الكفر، والفسق، والعناد، وانشر رحمتك وأمنك على العباد.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى أتباعهم ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
بمناسبة مؤتمر "الإسلام والغرب في عالم متغير"
الذي عقد في الخرطوم السبت 19 شوال 1424ه
=================0000000000
عدم نظر الكريم المنان لمسبل الأزر، والثياب، والسراويل، والقمصان
جر الإزار خُيلاء كبيرة من الكبائر، ويمنع من نظر المولى للعبد، ويحتاج إلى توبة
الإسبال يكون في كل الملابس
حكم الإسبال
الإسبال حرام، سواء كان فعله بطراً أم عادة وجهلاً
الحالات التي يجوز فيها الإسبال
الحالات التي يجوز فيها الإسبال
حكم وضوء وصلاة المسبل
الخلاصة(1/369)
الحمد لله الذي أمرنا بالاقتداء والتأسي بالأنبياء وأتباعهم، وحذرنا من التشبه بالكفرة، والفجرة، والفاسقين، فقال: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر"، وقال: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله... لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد"، ورضي الله عن ابن مسعود حين قال ناصحاً لإخوانه المسلمين من التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا فضلهم، واتبعوهم في أقوالهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على صراط مستقيم".
اعلم أخي الكريم أن أحب الكلام كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، واعلم كذلك أن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة كما أخبر الصادق المصدوق.
وما من هدي ولا سمت أفضل ولا أحسن ولا أكرم ولا أصلح من هدي وسمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، ومن تبعهم بإحسان من الأنام.
من هذا السمت الصالح والهدي الفالح تعاهد الأزر، والقمصان، والسراويل، والعمائم، والأكمام، ألا تزيد وتتجاوز على ما كان عليه هدي سيد ولد عدنان، (وكان هديه في لبسه لما يلبسه، أنفع شيء للبدن، فإنه لم يكن يطيل أكمامه ويوسعها، بل كان كم قميصه إلى الرُّسْغ، لا تجاوز اليد، فتشق على لابسها، وتمنعه خفة الحركة والبطش، ولا تقصُرُ عن هذه فتبرز للحر والبرد.
وكان ذيل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين، لم يتجاوز الكعبين، فيؤذي الماشي ويؤوده، ويجعله كالمقيد، ولم يقصر عن عضلة ساقه فتنكشف فيتأذى بالحر والبرد.
ولم تكن عمامته بالكبيرة التي يؤذي الرأس حملها ويضعفه، ويجعله عُرضة للضعف والآفات كما يشاهد من حال أصحابها، ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد، بل وسط بين ذلك).
ومن عجيب أمر غالبية الذكران من المسلمين تهاونهم في أمر تواترت فيه الأحاديث والسنن تواتراً معنوياً، وزاد عدد رواتها عن ست وعشرين صحابياً، وورد فيه من التحذير والتغليظ الشيء الكثير، نحو: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً"، و"ما أسفل من الكعبين فهو في النار"، و"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم"، وذكر منهم: "المسبل".
وأعجب من إسبال الرجال، تشمير بعض النساء عن سوقهن بعد الإسفار عن شعورهن ووجوهن، وقد أمرن بإسبال ذيولهن ذراعاً، مخالفات بذلك أمر رسولهن، ومخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح تورد المهالك، قال تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم"، قال الإمام أحمد: (الفتنة الشرك، لعله إن ترك بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك)، ومخالفات لما سنته لهن هاجر أم إسماعيل عليها السلام، كما ذكر ذلك الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في "الاستذكار": (أول امرأة جَرَّت ذيلها هاجر أم إسماعيل عليه السلام)، فقد عكسن الآية كما يقولون.
ولله در أمنا أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، ما أطهرها وأعفها، عندما خشيت أن يكون التشمير عاماً للرجال والنساء استفسرت عن ذلك في الحال، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جرَّ ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبراً، فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن، فقال: يرخينه ذراعاً لا يزدن عليه".
وبعد..
فهذا بحث عن الإسبال في اللباس، عن حكمه للرجال والنساء، وعن الحالات التي يباح فيها الإسبال، وعن أدلته، وهل هناك فرق بين من يصنعه تكبراً وخيلاء وبين من يفعله عادة وتقليداً؟ وعن مذاهب أهل العلم في حكم وضوء وصلاة المسبل، وما يتعلق بذلك.
والله أسأل أن يرزقنا الصدق والإخلاص، وأن يوفقنا للاتباع، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكره إلينا وإلى جميع المسلمين الكفر والفسوق والعصيان، وصلى الله وسلم وبارك على أفضل الرسل والنبيان، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديهم واتبع رضاهم.
الإسبال يكون في كل الملابس
الإسبال يكون في جميع ما يلبسه الرجال، سيما في الآتي:
1. الإزار.
2. القميص، الثوب، الجلباب.
3. الكم.
4. السراويل.
5. لعمامة.
6. العباءة، المشلح.
قال صلى الله عليه وسلم: "الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة" .
القدر المستحب والجائز الذي يصل إليه حد الثوب في الإزار، والقميص، والسراويل يختلف من نوع إلى آخر فيما فوق الكعبين، وإليك التفصيل:
1. الإزار
له ثلاثة حدود، وهي:
أ. عضلة الساق، وهي أعلاها.(1/370)
ب. نصف الساقين، وهو أوسطها.
ج. فوق الكعبين، وهو أدناها، وما غطى الكعبين أوزاد فهو حرام.
2. القميص، الثوب، والجلباب، والعباء
هذه لها حدان:
أ. أعلاهما وأحبهما إلى نصف الساقين.
ب. وأدناهما إلى ما فوق الكعبين، وهو الجائز.
هذا في الطول، أما في العرض فينبغي أن لا يكون واسعاً فضفاضاً وأن لا يكون ضيقاً واصفاً للعورة.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج ـ أولا جناح ـ فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار".
3. الكُمّ
الإسبال يكون في طوله وعرضه، أما الطول فينبغي أن لا يتجاوز الرّسغ، وأما العرض فلا يكون واسعاً.
4. العمامة
الإسبال يكون في طولها وعرضها على أن لا يزيد الطول على المعتاد 3-4 أمتار، وفي ذؤابتها أن لا تتدلى أكثر من شبر.
5. السراويل
من نصف الساقين إلى ما فوق الرجلين.
6. العباءة والمشلح
من لبس عباءة عليه أن يدخل يديه في كميها فيضمها إلى جانبيه.
قال الشيخ بكر أبو زيد: (وبه يُعلم أن من يلبس العباءة أي "المشلح" فيرسله على جانبيه دون أن يدخل يديه في كميه، فيضمه، أويضم جانبيه، أن هذا من السدل المنهي عنه، وهو مُشاهَد من عمل الروافض، ولدى بعض المترفين من المسلمين).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وقال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي، قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك، وفي تصوير جر العمامة نظر، إلا أن يكون المراد ما جَرَتْ به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال، وقد أخرج النسائي من حديث جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: "كأني أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة قد أرخى طرفيها بين كتفيه"، وهل يدخل في الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؟ محل نظر، والذي يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين دخل في ذلك.
قال شيخنا في شرح الترمذي: ما مس الأرض منها خيلاء لا شك في تحريمه. قال: ولو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يكن بعيداً، ولكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك في تحريمه، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع. ونقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة).
حكم الإسبال
(أ) حكم الإسبال للرجال
كل ما زاد على الكعبين أوالرسغين فهو حرام وكبيرة، وإن كان مصحوباً ببطر وخيلاء فهذا مع كونه كبيرة فإنه لا ينظر الله إليه يوم القيامة.
(ب) حكم الإسبال للنساء
ما زاد على الذراع فهو حرام.
الأدلة على ذلك
الأدلة على تحريم الإسبال على الرجال كثيرة جداً بلغت حد التواتر المعنوي، وقد رواها ما يقارب الثلاثين من الصحابة، منها ما هو في الصحاح، ومنها ما هو في السنن والمسانيد، ومنها ما هو في دواوين السنة الأخرى، وإليك طرفاً منها:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لستَ ممن يصنعه خيلاء".
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسفل عن الكعبين ففي النار".
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً".
4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يجلجل إلى يوم القيامة".
5. وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها قالت: "كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرُّسغ".
6. وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم؛ قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبوذر: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".
7. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" .
8. وعن أبي جُرَي جابر بن سُليم رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة".(1/371)
9. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك؛ فرفعته، ثم قال: زد؛ فزدتُ، فما زلت أتحراها بعد؛ فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: إلى أنصاف الساقين".
الإسبال حرام، سواء كان فعله بطراً أم عادة وجهلاً
الإسبال حرام، فإن كان مصحوباً بخيلاء وبطر فهو كبيرة من الكبائر، ولا ينظر إلى صاحبه يوم القيامة، والوصف بالخيلاء خرج مخرج الغالب، والقيد إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له عند عامة الأصوليين كما قال الشيخ بكر أبو زيد، كما في قوله: "وربائبكم اللاتي في حجوركم"، فبنت المرأة محرمة على زوجها، ربيبة كانت عنده أم لا، ونحو قوله: "ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة"، فالربا قليلُه وكثيرُه حرام.
والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1. عن ابن عمر يرفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جرَّ الإزار من المخيلة".
2. وعن أبي جري رضي الله عنه مرفوعاً: "وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة".
3. وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على جابر بن سليم رضي الله عنه، وأنكر على عمرو الأنصاري رضي الله عنه رفع إزاره.
4. وأنكر على رجل من ثقيف، ورفع كذلك.
قال الشيخ بكر أبو زيد: (ورد النهي عن الإسبال مطلقاً في حق الرجال، وهذا بإجماع المسلمين، وهو كبيرة إن كان للخيلاء، فإن كان لغير الخيلاء فهو محرم مذموم في أصح قولي العلماء، والخلاف للإمام الشافعي والشافعية إنه إذا لم يكن للخيلاء فهو مكروه كراهة تنزيه، على أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقضي بأن مجرد الإسبال خيلاء).
قلت: ليس كل خلاف يستراح له، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أقوى الأدلة على تحريم الإسبال من غير خيلاء استفسار أم سلمة رضي الله عنها، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها بأن تسدل المرأة ذيلها مقدار شبرين معتدلين، أي حوالي ذراع.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على استفسار أم سلمة: (ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء، ووجه التعقيب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة، لأن جميع قدمها عورة، فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم على فهمها.
إلى أن قال: والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب، وهو أن يقصر الإزار على نصف الساق، وحال جواز وهو إلى الكعبين، وكذلك النساء على استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع، ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق معتمد عن حميد عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة شبراً"، ويستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه).
الحالات التي يجوز فيها الإسبال
الإسبال إما كبيرة من الكبائر إذا قرن بالبطر والخيلاء، بجانب عدم نظر المولى إليه، وإما حرام إذا خلا من ذلك، ولا يحل إلا في بعض الحالات التي استثناها الشرع، وهي:
1. للنساء لستر أقدامهن.
2. عند الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات، ولهذا فإن للضرورات أحكام خاصة.
3. عند الاستعجال، حيث يغفل الإنسان ويسها عن بعض الأمور من غير قصد، فإذا ذكر وجب عليه في الحال أن يرفع.
4. لمن يتعاهد ذلك دائماً، ولكن يسبل إزاره لنحافته، كحال أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وإليك الأدلة على ذلك
1. الحديث السابق عن ابن عمر: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ قال أبوبكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لستَ ممن يصنعه خيلاء".
وأبوبكر في الحقيقة لا يفعله خيلاء ولا من غير خيلاء، ولكن لنحافته فإن إزاره مهما شمره ينزل ما لم يتعاهده دائماً.
2. عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى المسجد، وثاب الناس، فصلى ركعتين، فجلي عنها، ثم أقبل علينا وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا الله حتى يكشفها"، والشاهد فيه: "فقام يجر ثوبه مستعجلاً"، وذلك لفزعه صلى الله عليه وسلم من هذه التغييرات الكونية.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح معلقاً على هذا الحديث: (فإن فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي).(1/372)
وقال كذلك: (ويستثنى من إسبال الإزار مطلقاً ما أسبله لضرورة، كمن يكون بكعبيه جرح مثلاً يؤذيه الذباب مثلاً إن لم يستره بإزاره، حيث لا يجد غيره، نبه على ذلك شيخنا في "شرح الترمذي"، واستدل على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف في لبس القميص الحرير من أجل الحكة، والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهي عنه من أجل الضرورة، كما يجوز كشف العورة للتداوي).
3. والدليل على إباحة ذلك للنساء استفسار أم سلمة السابق وإقراره صلى الله عليه وسلم على ذلك.
أما لدقة الساقين أولعيب فيهما فلا يحل الإسبال، ويدل على ذلك ما أخرجه الطبراني من حيث أبي أمامة رضي الله عنه: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حُلة إزار ورداء قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله، ويقول: عبدك وابن عبدك وأمتك؛ حتى سمعها عمرو فقال: يا رسول الله إني حمش الساقين؛ فقال: يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل" الحديث.
قال ابن حجر في الفتح: (وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه، لكن قال في روايته عن "عمرو بن فلان"، وأخرجه الطبراني أيضاً عن "عمرو بن زرارة"، وفيه: "وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع تحت ركبة عمرو، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار؛ ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار" الحديث، ورجاله ثقات، وظاهره أن عمرو المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء، وقد منعه من ذلك لكونه مظنة.
وأخرج الطبراني من حديث الشريد الثقفي قال: "أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارك؛ فقال: إني أحنف تصطك ركبتاي؛ قال: ارفع إزارك، فكل خلق الله حسن"، وأخرجه مسدّد وأبوبكر بن أبي شيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم، وفي آخره: "ذاك أقبح مما بساقك" أي الإسبال، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بسند جيد: "أنه كان يسبل إزاره، فقيل له في ذلك، فقال: إني أحمش الساقين"، فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب، وهو أن يكون إلى نصف الساقين، ولا يظن أنه جاوز به الكعبين، والتعليل يرشد إليه، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة، والله أعلم، وأخرج النسائي وابن ماجةو صححه ابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ برداء سفيان بن سهل وهو يقول: "يا سفيان لا تسبل فإن الله لا يحب المسبلين").
حكم وضوء وصلاة المسبل
ذهب أهل العلم في وضوء وصلاة المسبل مذهبين:
الأول: صحح وضوء وصلاة المسبل مع الكراهة، وهم العامة من أهل العلم.
الثاني: أبطل وضوء وصلاة المسبل، وهذا مذهب ابن حزم وأحمد بن حنبل.
استدل المبطلون لوضوء وصلاة المسبل بما يأتي:
1. بما أخرجه أبوداود بإسناد صحيح على شرط مسلم كما قال النووي في رياض الصالحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما رجل يصلي مسبل إزاره، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ؛ فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال: اذهب فتوضأ؛ فقال له رجل: يا رسول الله، مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟ قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل".
2. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام".
قال الشيخ بكر أبو زيد: (لشدة تأثير الإسبال على نفس المسبل، وما لكسب القلب من حالة وهيئة منافية للعبودية، منافاة ظاهرة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسبل بإعادة الوضوء، وأن الله لا يقبل صلاة مسبل، وحمل الفقهاء ذلك الحديث على الإثم مع صحة الصلاة، كحال فيمن صلى في كل ثوب يحرم لبسه، وفي الدار المغصوبة، وكما في تحريم آنية الذهب والفضة اتخاذاً واستعمالاً، وتحريم الوضوء منهما، خلافاً لابن حزم، ومذهب أحمد القائل ببطلان وضوء المسبل صلاته، وأن عليه الإعادة لهما غير مسبل، نعم، لا يصلي المسلم خلف مسبل اختياراً).
الخلاصة
1. أن ما زاد على الكعبين للرجال، ويقاس عليه ما زاد على الرُّسغين من اليدين، من الأزر، والقمصان، والسراويل، والأكمام، ونحوها فهو في النار، أما بالنسبة للمرأة فتجر مقدار شبر أوذراع.
2. لا فرق في الإسبال بين القميص، والإزار، والرداء، والعمامة، والكم، والعباءة.
3. لا فرق في حرمة الإسبال بين من فعله خُيلاء وبطراً أم لا، إلا أن من فعله بطراً إثمه أشد ووزره أكبر لأنه كبيرة، ويحتاج إلى توبة منه قبل اجتماع سكرات الموت وحسرات الفوت عليه.
أدل دليل على عدم التفريق ما قاله الخليفة الراشد، والإمام العادل، والعبقري الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو محتضر لذلك الشاب الأنصاري العاقل، الذي أثنى على عمر خيراً، وعندما خرج قال عمر: ردوه عليّ؛ فعندما رد إلى عمر قال له: "ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك".(1/373)
قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله: (لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجرُّه خيلاء! لأن النهي قد تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً أن يقول: لا أمتثله لأن تلك العلة ليست فيّ، فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره).
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على ما قاله الإمام ابن العربي المالكي: (وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة").
4. الإسبال حرام، ولا يليق بأي مسلم ذكر، صغيراً كان أم كبيراً، وتشتد حرمته ويقبح فعله من المنتسبين إلى العلم والدين، سيما الأئمة منهم في الصلاة، لما يعرض وضوءهم وصلاتهم إلى النقصان إن لم نقل إلى البطلان، فالحذر الحذر أخي الحبيب من الإسبال المؤدي إلى البطر والخيلاء والخسران، وعليك أن تبادر باتباع أمر رسولك وحبيبك محمد، وعليك أن تقتدي بأصحاب رسولك في سرعة الاستجابة لأوامره ونواهيه، وعليك أن يكون لك في خُريم الأسدي الأسوة الحسنة، عندما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم الرجل خُريم، لولا طول جمته وإسبال إزاره"، فأخذ خريم شفرة وقطع بها جمته، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه.
فعليك أخي الحميم أن تأخذ جلاليبك وسراويلك وقمصانك، وإن كنت مبتلياً بلبس "البناطلين" فخذها كذلك واذهب بها إلى أقرب ترزي، وقص ما زاد على الكعبين والرسغين، والله يسامحك على سعتها، واحذر أن تخيط ثياباً جديدة تزيد على كعبيك ورسغيك، وإلا فاعلم أن النار ستسع ذلك كله، أعاذنا الله وإياكم من النار ومن غضب الجبار.
5. لا ترغب أخي المسلم عن نظر الله إليك يوم القيامة، فهو من أعظم النعم، وقد توعد الله أنه لا ينظر إلى من جر إزاره خيلاء وبطراً، واعلم أن مجرد الجر هو خيلاء.
6. احذر اخي الكريم لباس الشهرة، ولا تشمر سراويلك، وقمصانك، وجلاليبك أعلى من نصف ساقيك، فإسبال الثياب وسعتها شهرة وكذلك تشميرها الزائد عن الحد الشرعي شهرة، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وخير الأمور الوسط، فلتكن ثيابك ما بين نصف ساقيك إلى ما فوق كعبيك.
والشهرة في اللباس تكون في الإسبال، وفي التشمير المخل، وفي السعة، واللون، والهيئة، والصفة، والتشبه بالكفار، وهو كل ما خرج عن العادة والعرف الشرعي، خرَّج أبو داود بسنده عن ابن عمر يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله"، زاد عن أبي عوانة: "ثم تلهب فيه النار"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه كذلك: "من تشبه بقوم فهو منهم".
قال الشيخ بكر أبوزيد: (وتحصل الشهرة بتميز عن المعتاد: بلون، أوصفة تفصيل للثوب، وشكل له، أوهيئة في اللبس، أومرتفع أومنخفض عن العادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يحرم لبس الشهرة، وهو ما قصد به الارتفاع، وإظهار الترفع، أوإظهار التواضع والزهد، لكراهة السلف لذلك.
وقال غير واحد من السلف: لباس الشهرة مما يزري بصاحبه ويسقط مروءته.
وقال معمر: عاتبت أيوب على طول قميص، فقال: إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله، وهي اليوم في تشميره.
وقد روى إسحاق بن إبراهيم بن هاني قال: دخلت يوماً على أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وعليَّ قميص أسفل من الركبة وفوق الساقين، فقال: أي شيء هذا؛ وأنكره، وقال: هذا بالمرة لا ينبغي.
وإذا حملتك الغيرة في الإنكار على المسلمين، فتخلص قبلُ من لباس الشهرة، كما يتعين على المسبل أن لا ينكر على المرتدي لباس الشهرة وهو متلبس بالإسبال، ابدأ بنفسك فانهها عن غيها..).
7. أما حجاب المرأة فلا يدخل في هذا، فلها أن تلبس العباءة أوأي لباس يغطي جميع جسدها، سواء كان معتاداً في بلدها أم غير معتاد، فالمعروف ما عرفه الشرع، والمنبوذ ما نبذه الشرع.
8. كانت العرب في جاهليتها وبعد إسلامها تمدح تشمير الإزار كما قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في "الاستذكار"، قال متمم بن نويرة في مدح ورثاء مالك أخيه:
تراه كنصل السيف يهتز للندى وليس على الكعبين من ثوبه فضل
وقال العجير السلولي:
و كنتُ إذا داعٍ دعا لمضوفة أشمر حتى يَنْصُفَ السَّاقَ مئزري
وفي رواية:
وكنتُ إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى يبلغ السَّاقَ مئزري
بله قال عمر بن أبي ربيعة معرضاً برجل يجر ثوبه:
كتب القتلُ والقتالُ علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول
وأحب أن أختم هذا بما قال الحافظ الذهبي معلقاً على قول ابن عمر رضي الله عنهما: "أخاف أن أكون مختالاً فخوراً، والله لا يحب كل مختال فخور"، لما فيه من الرد على القائلين أن الإسبال ليس حراماً إلا إذا صُحِبَ بكِبْر وبطر:(1/374)
(قلت: كل لباس أوجد في المرء خيلاء وفخراً فتركه متعين ولو كان من غير ذهب ولا حرير، فإنا نرى الشاب يلبس الفرجية الصوف بفرو من أثمان أربع مئة درهم ونحوها، والكبر والخيلاء على مشيته ظاهر، فإن نصحته ولمته برفق كابر، وقال: ما فيّ خيلاء ولا فخر؛ وهذا السيد ابن عمر يخاف ذلك على نفسه، وكذلك ترى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فرجية تحت كعبيه، وقيل له: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار"، يقول: إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء، وأنا لا أفعل خيلاء؛ فتراه يكابر، ويبرئ نفسه الحمقاء، ويعمد إلى نص مستقل عام، فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء، ويترخص بقول الصديق: إنه يا رسول الله يسترخي إزاري؛ فقال: "لستَ يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء"، فقلنا: أبوبكر رضي الله عنه لم يكن يشد إزاره مسدولاً على كعبيه أولاً، بل كان يشده فوق الكعب، ثم فيما بعد يسترخي، وقد قال عليه السلام: "أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، ولا جناح عليه فيما بين ذلك والكعبين"، ومثل هذا في النهي لمن فصل سراويل مغطياً لكعابه، ومنه طول الأكمام زائداً، وتطويل العذبة، وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس، وقد يُعذر الواحد منهم بالجهل، والعالم لا عذر له في تركه الإنكار على الجهلة، فإن خُلع على رئيس خلعة سِيَراء من ذهب وحرير وقندس، يحرمه ما ورد في النهي عن جلود السباع ولبسها، الشخص يسحبها ويختال فيها، ويخطر بيده ويغضب ممن لا يهنيه بهذه المحرمات، ولا سيما إن كانت خلعة وزارة وظلم ونظر مَكَس، أوولاية شرطة، فليتهيأ للمقت وللعزل والإهانة والضرب، وفي الآخرة أشد عذاباً وتنكيلاً، فرضي الله عن ابن عمر وأبيه، وأين مثلُ ابن عمر في دينه، وورعه، وعلمه، وتألهه، وخوفه، من رجل تُعرض عليه الخلافة فيأباها، والقضاءُ من مثل عثمان فيرده، ونيابة الشام لعليّ فيهرب منه؟ فالله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب).
واللهَ أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام، وأن يوفقنا وإياهم إلى التمسك بسنة خير الأنام صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه الكرام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
=================0000
أحكام تارك الصلاة في الحياة وبعد الممات
من القرآن
من السنة
إجماع الصحابة
الآثار عن الصحابة
الآثار عن التابعين وتابعيهم
أولاً: في الدنيا
ثانياً: بعد الممات
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد..
فالصلاة عماد الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين، وهي آخر عُرى الإسلام نقضاً، وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلاته فقد فاز ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، كما أخبر الصادق المصدوق.
بعد أن أجمع أهل العلم على كفر جاحد وجوب الصلاة، وأجمعت العامة منهم على قتل تاركها المقرِّ بوجوبها، اختلفوا هل يُقتل كفراً أم حداً على قولين، أرجحهما أنه يقتل كفراً، وذلك للأدلة الآتية:
من القرآن
قوله تعالى على لسان الكافرين، وقد قيل لهم: "ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين"
وقوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً"، والغي وادٍ في جهنم.
وقوله: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين"، فقد نفى الله عن تاركي الصلاة الأخوة الإيمانية.
وقوله: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون"، فيسجد المصلون لله في الدنيا، ويُجعل ظهر تارك الصلاة والمنافق المرائي بصلاته طبقة واحدة، فلا يتمكن من السجود.
من السنة
ما صح عن جابر عند مسلم يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة".
وعن بريدة رضي الله عنه عند أهل السنن: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
إجماع الصحابة
قال عبد الله بن شقيق وهو من كبار التابعين: "لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنهم ـ يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة".
الآثار عن الصحابة
قال عليّ رضي الله عنه: "من ترك صلاة واحدة متعمداً فقد برئ من الله وبرئ الله منه".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من ترك الصلاة فلا دين له".
وقيل لابن مسعود: "إن الله تعالى يكثر من ذكر الصلاة في القرآن: "الذين هم على صلاتهم دائمون"، و"الذين هم على صلاتهم يحافظون"، و"ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون"؛ قال: ذلك على مواقيتها؛ قالوا: ما كنا نرى يا أبا عبد الرحمن إلا على تركها؟ قال: تركها كفر".
وقال عمر وهو مطعون: "لا حظ في الإسلام لمن أضاع الصلاة".(1/375)
وعن زيد بن وهب قال: "كنا مع حذيفة جلوساً في المسجد إذ دخل رجل من أبواب كندة، فقام يصلي، فلم يتم الركوع والسجود، فلما صلى قال له حذيفة: منذ كم هذه صلاتك؟ قال: منذ أربعين سنة؛ قال: ما صليت منذ أربعين سنة، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم".
وقال أبو الدرداء: "لا إيمان لمن لا صلاة له".
وقال ابن عباس: "من ترك الصلاة فقد كفر".
هذا مذهب عمر، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس من الصحابة، ولم يوجد لهم مخالف.
الآثار عن التابعين وتابعيهم
هذا مذهب نافع مولى ابن عمر، قال معبد بن عبيد الله الجزري: (قلت لنافع: رجل أقر بما أنزل الله تعالى وبما بين نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أترك الصلاة وأنا أعرف أنها حق من الله تعالى؟ قال: ذاك كافر؛ ثم انتزع يده من يدي غضباناً مولياً).
وأيوب السختياني رحمه الله قال: (ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه).
وعبد الله بن المبارك رحمه الله، قال يحيى بن معين: (قيل لعبد الله بن المبارك: إن هؤلاء يقولون من لم يصم ولم يصل بعد أن يقر به فهو مؤمن مستكمل الإيمان؟ قال: لا نقول نحن كما يقول هؤلاء ـ يعني المرجئة ـ من ترك الصلاة متعمداً من غير علة، حتى أدخل وقتاً في وقت فهو كافر).
وسئل أحمد بن حنبل رحمه الله عمن ترك الصلاة متعمداً؟ فقال: (لا يكفر أحد بذنب إلا تارك الصلاة عمداً، فإن ترك صلاة إلى أن يدخل وقت صلاة أخرى يستتاب ثلاثاً).
وسئل صدقة بن فضل عن تارك الصلاة، فقال: (كافر).
وقال محمد بن نصر المروذي في كتابه القيم "تعظيم قدر الصلاة": (سمعت إسحاق بن راهويه يقول: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر).
فهذا مذهب من علمتَ من الصحابة والتابعين وتابعيهم، هذا بجانب أنه مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومن الأئمة المعاصرين فهو مذهب الشيخين الفاضلين الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد صالح العثيمين، رحم الله الجميع.
وعليه فتارك الصلاة كسلاً كافر كفراً أكبر يُخرج من الملة، وتُجْري عليه أحكام المرتدين في الدنيا والآخرة.
أولاً: في الدنيا
1. لا يُسلم عليه ولا يُردُّ عليه إذا سلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إنه لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي ولا يجيب دعوته).
2. لا تُجاب دعوته.
3. لا يُزوج بمسلمة، فإن عُقد له فالنكاح باطل، قال تعالى: "فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن".
وإذا ترك الصلاة بعد العقد والدخلة يفسخ نكاحه ولا تحل له زوجة.
إذا كان شارب الخمر يحال بينه وبين زوجه فكيف بتارك الصلاة؟!
قال مهنا: (سألت أحمد، قلت: ختن لي، زوج أختي، يشرب هذا المسكر، أفرق بينهما؟ قال: الله المستعان.
وقال علي بن الخواص: نقل المروزي عن أحمد أنه قال لرجل سأله عن مثل هذه، فقال: حولها إليك).
4. لا يُزار في بيته.
5. لا يُعاد إذا مرض.
6. لا يُساكن في منزل معه.
7. يُمنع من دخول مكة المكرمة، قال تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا".
8. لا يُعطى شيئاً من الزكاة الواجبة.
9. لا تُؤكل ذبيحته.
10. يُمنع من التصرف في ماله.
11. لا يرث أحداً من أقاربه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث الكافرُ المسلم".
12. لا يُزوج كريمته ولا وليته.
13. يقتل كفراً بعد أن يؤتى به إلى الإمام أوالقاضي فيأمره بالصلاة ويبين له كفر تاركها، فإن أبى أن يصلي حتى خرج وقت الصلاة الحاضرة قتِل، ولا يُستتاب، ومن أهل السنة من قال يُستتاب ثلاثاً، والراجح الأول.
ثانياً: بعد الممات
1. لا يُغسل.
2. ولا يُكفن، ويُدفن في ملابسه.
3. لا يُصلى عليه، قال تعالى: "ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً".
4. لا يُدفن في مقابر المسلمين، وإنما تحفر له حفرة في الصحراء فيُوارى فيها كي يؤذي المسلمين.
5. لا يشيعه أحد من المسلمين.
6. يُعزي أهله ولا يترحم عليه، فيقال لوليه: أعظم الله أجرك، وأحسن الله عزاءك؛ وإذا كان وليه كافراً يقال له: أخلف الله عليك.
7. لا تعتد عليه زوجه إن لم يفرَّق بينهما من قبل.
8. لا يرثه أهله لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلمُ الكافر"، ويكون ماله لبيت مال المسلمين، وقيل يصرف منه على ورثته.
9. لا يُدعى له بالرحمة، ولا يُستغفر له، ولا يُزار قبره.
10. تحرم عليه الجنة، ويخلد في النار مع قارون، وهامان، وأبيِّ بن خلف، وغيرهم من أئمة الكفر.
11. يُحرم من شفاعة سيد الأبرار، ومن شفاعة غيره.
والله أسأل أن يجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، وأن يتقبل دعاءنا، ويتجاوز عن أخطائنا، ويرحم أمواتنا، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
=================0000000(1/376)
أيها المسلمون لا يكن أهل الجاهلية والكلاب أحسن جواراً منكم
الجيران ثلاثة
وصية الله ورسوله بالجار
حد الجيرة
الجار الحسن يُشترى
الجار السوء يباع بأبخس الأثمان
حفظ ورعاية حق الجار ولو كان مسيئاً
أذى الجيران وحسدهم والبغي عليهم من الكبائر
الإسلام دين الحق والعدل، ولهذا فإنه يقوم على مبدأ الحقوق والواجبات، بدءاً بالعلاقة بين الخالق والمخلوقين، وانتهاءً بالعلاقة بين المسلم وأخيه، فمن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا معه غيره، ومن حقهم عليه إن فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة، وكذلك العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين الزوج والزوجة، وبين الجار والجار، وبين المسلم والمسلم.
وهذه الحقوق منها ما هو واجب، ومنها ما هو من فروض الكفايات.
لقد أضاع جل المسلمين كثيراً من هذه الحقوق وقصروا فيها، وأكثر الحقوق ضياعاً حقوق الجوار، خاصة في المدن وفي هذه الأعصار.
وإذا كان أبو حازم رحمه الله، وهو من التابعين، ينعي على المسلمين في وقته ضياع حقوق الجار، حيث قال كما روى عنه مالك: كان أهل الجاهلية أحسن جواراً منكم، وإلا فبيننا وبينكم قول الشاعر:
ناري ونار الجار واحدة وإليه قَبْلي تنزل القدر
ما ضر جار لي أني أجاوره أن لا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر
ونحن لا نطالب الجار بما قرره هذا الشاعر الجاهلي، فهذا مطلب بعيد المنال، عزيز التحقق، ولكن نطالب الجار بالالتزام بما أمر به الشارع، نحو:
1. أن يتعرف عليه إذا حل في جواره.
2. أن يبدأه بالسلام إذا خرج أودخل.
3. أن يشاركه أفراحه وأتراحه.
4. أن يعوده إذا مرض أوأحد من أهله.
5. أن يشيع جنازته.
6. أن يتفقده إذا غاب أومرض.
7. أن لا يؤذيه.
8. أن لا يتجسس ولا يتحسس عليه.
9. أن يجيب دعوته.
10. أن يصون حرمته.
11. أن يعينه عند الشدائد.
12. أن يواسيه ويكثر بره ويحسن إليه.
13. أن يستر عيبه.
14. أن ينصح له.
15. أن يحسن عشرته.
لقد ورد في ذلك حديث عن معاذ بن جبل، قال القرطبي: سنده حسن، وبيّن أهم حقوق الجار: "قلنا: يا رسول الله، ما حق الجار؟ قال: إن استقرضك أقرضته، وإن أعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير سرك وهنيته، وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته، ولا تؤذه بقُتَار قدرك إلا أن تغرف له منها، ولا تستطيل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها، وإلا فأدخلها سراً لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده، وهل تفقهون ما أقول لكم، لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم".
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من حق الجار أن تبسط له معروفك، وتكف عنه أذاك.
وقال علي للعباس رضي الله عنهما: ما بقي من كرم أخلافك؟ قال: الإفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران.
وكان يقال: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكن الصبر على الأذى.
والجوار ليس قاصراً على السكن، وإنما يشمل الجار في السوق، وفي الزراعة، والطلب، ونحوها.
?
الجيران ثلاثة
1. جار قريب مسلم، وهذا له ثلاثة حقوق: حق الجوار، والقرابة، والإسلام.
2. وجار مسلم، وهذا له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام.
3. جار كافر، وهذا له حق واحد هو حق الجوار.
وحقوق الجار تتفاوت كذلك بين الجار الأقرب، والأدنى، والأبعد.
?
وصية الله ورسوله بالجار
لقد وصى الله ورسوله بالجار حقاً، فقال تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب".
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "والجار ذي القربى والجار الجنب": (أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه، ألا ترى سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين: "والجار ذي القربى" أي القريب، "والجار الجنب" أي الغريب.
إلى أن قال: وعلى هذا فالوصاة بالجار مندوب إليها مسلماً كان أوكافراً، وهو الصحيح، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه).
أما الأحاديث التي توصي بالجار وتأمر بالإحسان إليه وتنهى عن أذاه فكثيرة، منها:
1. ما صح عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
2. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "إن خليلي أوصاني: إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف"، وفي رواية: "فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك".
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسِن شاة".
4. وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن؛ قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقه".(1/377)
5. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم".
6. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك باباً".
?
حد الجيرة
ذهب أهل العلم في حد الجوار مذاهب هي:
1. أربعون داراً من كل ناحية، وهذا مذهب الأوزاعي والزهري.
2. من سمع النداء فهو جار.
3. من سمع إقامة الصلاة فهو جار المسجد.
4. من ساكن رجلاً في محلة أومدينة.
والجيرة مراتب بعضها ألصق من بعض وأولى.
?
الجار الحسن يُشترى
حسن الجوار من النعم العظيمة والآلاء الكريمة، ولهذا قال علي: الجار قبل الدار؛ فالدار الطيبة الواسعة القريبة تضيق بساكنيها إذا ابتلوا بجار سوء، والدار الضيقة البعيدة تطيب لساكنيها إذا حظوا بحسن الجوار.
باع أبو الجهم العدوي داره بمائة ألف دينار، ثم قال للمشترين: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ فقالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا عليَّ داري، وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل: إن فقدتُ سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألتُه أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني جائحة فرّج عني.
فبلغ ذلك سعيداً فبعثه إليه بمائة ألف درهم.
?
الجار السوء يباع بأبخس الأثمان
كان أبو الأسود الدؤلي ـ ظالم بن عمرو ـ صاحب علي من سادات التابعين وأعيانهم، واضع علم النحو بتوجيه من علي رضي الله عنه، (من أكمل الرجال رأياً، وأسدهم عقلاً، ويعد من الشعراء، والمحدثين، والبخلاء، والفرسان، والبُخْر، والعُرْج، والمفاليج، والنحويين)، وصاحب ملح ونوادر، من ذلك:
كان له جيران بالبصرة، كانوا يخالفونه في الاعتقاد، ويؤذونه في الجوار، ويرمونه في الليل بالحجارة، ويقولون له: إنما يرجمك الله تعالى؛ فيقول لهم: كذبتم، لو رجمني الله لأصابني، وأنتم ترجمونني ولا تصيبونني؛ ثم باع الدار، فقيل له: بعتَ دارك؟! فقال: بل بعت جاري؛ فأرسلها مثلاً.
ولله در القائل:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ولم يعرفوا جاراً هناك ينغصُ
فقلت لهم كفوا الملام فإنها بجيرانها تغلو الديار وترخص
?
حفظ ورعاية حق الجار ولو كان مسيئاً
ورد في وفيات الأعيان أن الإمام أبا حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله كان له جار إسكافي يعمل نهاره، فإذا رجع إلى منزله ليلاً تعشى ثم شرب، فإذا دب الشراب فيه أنشد يغني، ويقول متمثلاً بقول العرجي:
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
ولا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وأبو حنيفة يسمع جلبته في كل يوم ويصبر.
وفي يوم كان أبو حنيفة يصلي بالليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسعس منذ ليالٍ، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته وأتى دار الأمير، فاستأذن عليه، فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكباً، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط؛ ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه، وقال له: ما حاجتك؟ فشفع في جاره، فقال الأمير: أطلقوه وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومناً هذا؛ فأطلقوهم أيضاً، فذهبوا وركب أبو حنيفة بغلته، وخرج الإسكافي معه يمشي وراءه، فقال له أبو حنيفة: يا فتى هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت، فجزاك الله خيراً عن حرمة الجوار.
ثم تاب، ولم يعد إلى ما كان يفعل، بسبب هذه المعاملة الكريمة ومقابلة الإساءة بالإحسان.
قال الأصمعي رحمه الله: ومن أحسن ما قيل في حسن الجوار:
جاورت شيبان فاحلوى جوارهم غريباً عن الأوطان في زمن المحل
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم وبرهم حتى حسبتهم أهلي
لقد استعاض بعض الناس من الكفار وغيرهم الكلاب بالجيران، فأصبحوا يربونها، ويعتنون بها، ويوصون لها بالأموال بعد هلاكهم، لما لمسوا من وفائها وتنكر الأهل والجيران لهم.
ذكر صاحب كتاب "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" ابن بسام محمد بن خلف المرزبان المؤرخ، المترجم، الأديب، البغدادي المتوفى 309هـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قتيلاً، فقال: ما شأنه؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زُهْرة فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله؛ فقال: قتل نفسه، وأضاع دينه، وعصى ربه، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً منه".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "كلب أمين خير من صاحب خؤون".
وقال كذلك: كان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه، فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين فعرف الأمر، فأنشد يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني ويحفظ عرسي و الخليل يخون
فيا عجباً للخل يهتك حرمتي ويا عجباً للكلب كيف يصون(1/378)
فاحذر أخي المسلم أن يكون الجاهليون أحسن جواراً منك، بل والكلاب، واحذر أن تكون جار سوء، واحرص أن ترعى وصية ربك ورسولك في جيرانك، واجتهد أن يكون لك في رسولك، والصحب الكرام، والسلف العظام، والجاهليين الراعين لحق الجوار الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، والمثال الذي يحتذى.
ما نسمعه من قصص وحكايات عن سوء الجوار، وغلظتهم وغفلتهم عن حقوق إخوانهم المسلمين يندي لها الجبين، ويشيب لها الوليد، فكم سمعنا أن شخصاً مات في شقته ولم يعلم جيرانه بوفاته حتى تجيّف ويشموا رائحة ذلك فيبلغوا الشرطة فتأتي لتكسر الباب.
وأن شخصاً مات أبوه أوماتت أمه ولم يجد من جيرانه من يعزيه، دعك من أن يعينه على تجهيز الميت وحمله وتشييعه ودفنه إلا عن طريق الأجرة، وهذه كلها من الحقوق الكفائية للمسلم على إخوانه المسلمين، وبالنسبة للجيران اللصيقين من الواجبات العينية.
وكم سمعنا أن جاراً يمرض ويذهب إلى الاستشفاء خارج البلد ولا يسمع به جيرانه الأقربون.
هذا بجانب الكيد، والتجسس، والإيذاء الحسي والمعنوي، والحسد، وغير ذلك.
فهؤلاء وأولئك لا بوصية ربهم ونبيهم عملوا، ولا بأخلاق أجدادهم تمسكوا، ولا من مسبات الأحاديث خافوا، قال حاتم الطائي مخاطباً أزواجه:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ويا ابنة ذي البُرْدين والفرس الورد
إذا ما عملت الزاد فاتخذي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي
بعيداً قصياً أوقريباً فإنني أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وكيف يُسيغُ المرءُ زاداً وجاره خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد
?
أذى الجيران وحسدهم والبغي عليهم من الكبائر
الواجب على الجار أن يحسن إلى جاره، وأن يصبر على أذاه، ويسر لنفعه، ويحزن لضره، فإن لم تستطع على ذلك فأضعف الإيمان أن تكف عن جارك أذاك، وحسدك، وعداوتك.
وأنت أخي الكريم إذا ابتلاك الله بجار سوء، حسود، ظلوم، فعليك أن تصبر على أذاه، وأن تحسن إليه، فالإحسان يزيل العداوات ويصيرها صداقات، واعلم أن المؤمن مبتلى، بل "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"، كما أخبر الصادق المصدوق، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه.
فقد يبتلى الصالحون بالطغاة الظالمين، أوبالسفهاء الجاهلين، أوبالجيران المؤذين الحاسدين الحاقدين، أوبالأقارب المعادين المخاصمين، أوبالأبناء العاقين، أوبالنساء الخميم الرميم، أوبالمنافقين الفاجرين، وكل ذلك لحكمة يعلمها هو، لدرجة يرفعها، أولخطيئة يكفرها، إذا صبر العبد واحتسب.
قال الحسن البصري رحمه الله: إلى جنب كل مؤمن منافق يؤذيه.
ولهذا قيل: أزهد الناس في عالم جيرانه.
وقيل: الحسد في الجيران والعداوة في الأقارب؛ لغلبة ذلك عليهم.
قال رجل لسعيد بن العاص: والله إني لأحبك؛ فقال له: ولمَ لا تحبني ولست بجار لي ولا ابن عم.
وقيل: إن أحسد الناس لعالم وأنعاه عليه قرابته وجيرانه.
وأخيراً نقول كما روي عن داود عليه السلام أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من جار سوء، عينه ترعاني، وقلبه لا ينساني، ونسأله سبحانه أن يوفقنا للقيام بجميع الحقوق، وأن يغفر لنا تقصيرنا في ذلك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أفضل جار في العالمين، محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
=================0000000
أيها المبتدعة احذروا أن يحل بكم ما حل بعمرو بن لحي الخزاعي لتغييره دين إسماعيل عليه السلام
"ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً"
الابتداع في دين الله خطره جسيم، وضرره عظيم، وعاقبته يوم القيامة وخيمة، خاصة لمن مات وخلف بدعته بعده، فالويل له ثم الويل له، إذ البدعة وزر جارٍ وذنب دائم على صاحبها، بحيث لا ينقص ذلك من أوزار متبعيها شيئاً إلى يوم القيامة، كما أخبر الصادق المصدوق.
ولخطورة الابتداع في الدين فإن المبتدع لا يُقْبل منه صرف ولاعدل، أي لا فرض ولا سنة: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، "ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
والمبتدع تندر توبته، وتصعب رجعته منها، كما هو مشاهد، وترد عليه عبادته، ويخسر آخرته.
فالمبتدعة في الدين في الحقيقة مغيِّرون لشرع الله، مبدلون لما جاء به محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه، محيون لملة عمرو بن لحي الخزاعي، مغير دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام وغيره، ومجددون لها، شاءوا أم أبوا، علموا بذلك أم لم يعلموا.
خرَّج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رأيتُ عمرو بن لُحي بن قَمعَة بن خِنْدِف يجر قُصَبه في النار، وكان أول من سيَّب السوائب"، وفي رواية في الصحيح كذلك: "عمرو بن لحي بن قَمَعة بن خِنْدِف أخا بني كعب هؤلاء، يجر قُصْبه في النار".(1/379)
وعن أبي هريرة كذلك قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجُون: "رأيتُ عمرو بن لحي بن قمعَة بن خِنْدِف يجر قُصَبه في النار، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به، ولا به منك"، فقال أكثم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؛ قال: "لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غيَّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيَّب السائبة، وحمى الحامي"، وفي رواية: "رأيته رجلاً قصيراً أشعر له وفرة يجر قُصَبه في النار"، وفي رواية لمالك: "إنه يؤذي أهل النار بريحه".
قال القرطبي رحمه الله: (روى ابن إسحاق أن سبب نصب الأوثان وتغيير دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي، خرج من مكة إلى الشام، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نستمطر بها المطر فنمطر، ونستنصر فننصر؛ فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنماً أسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنماً يقال له هُبَل، فقدم به مكة فنصبه، وأخذ الناس بعبادته وتعظيمه).
اعلم أخي الكريم أن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب إلا التقوى، واتباع هذا النبي الكريم، فإذا كان الله عز وجل صنع بعمرو بن لحي هذا ما حكى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتغييره لملة إبراهيم ولشرعة إسماعيل عليهما السلام، وهو امرؤ جاهلي من أهل الفترة، فما عساه فاعلاً بمن ينتسبون إلى الإسلام، ويسيرون بسيرة عباد الأوثان، المغيرين لشرعة ولد عدنان؟!
لا تظنن أخي المسلم أن ماجاء به عمرو بن لحي مغاير ومخالف لما يمارسه كثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم، بل ما تفعله طائفة كبيرة من المسلمين اليوم يفوق ما جاء به عمرو بن لحي وما كان عليه الجاهليون الأوائل، فقد بين الله لنا أنهم كانوا عند الشدائد يدعون الله ويذرون هذه الأصنام، لعلمهم أنه هو الخالق القادر المتصرف في هذا الوجود: "فإذا ركبوا في الفلك دَعَوُا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون".
خرج البيهقي في سنه بسند حسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للحصين الخزاعي قبل إسلامه: "يا أبا عمران، كم إلهاً تعبد؟ قال: أعبد سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء؛ قال: فإذا هلك المال من تدعو؟! قال: أدعو الذي في السماء؛ قال: فإذا انقطع القطر من تدعو؟ قال: أدعو الذي في السماء؛ قال: فإذا جاع العيال من تدعو؟ قال: أدعو الذي في السماء؛ قال: فيستجيب لك وحده أم يستجيبون لك كلهم؟ قال: بل يستجبيب وحده؛ فقال: يستجيب لك وحده، وينعم عليك وحده، وتشركهم في الشكر، أم أنك تخاف أن يغلبوه عليك؟ قال حصين: لا، ما يقدرون عليه؛ فقال: يا حصين، أسلم أعلمك كلمات ينفعك الله بهن" الحديث، ثم أسلم.
لكن قومي في الرخاء وضده يدعون غير الله بالإحسان، كما صور ذلك أبو السمح أحد أئمة الحرمين الشريفين السابقين، حيث قال مقارناً بين حال المشركين الأوائل وحال بعض المنتسبين إلى الإسلام، الذين يستغيثون بالأموات في الشدة والرخاء:
ولقد أتى في الذكر أن دعاءهم في الكرب كان لربنا الرحمن
وإذا دنا فرج و شاموا برقه عادوا إلى الكفران و الطغيان
لكن قومي في الرخاء و ضده يدعون غير الله بالإحسان
يدعون أمواتاً غدوا تحت الثرى ما إن لهم في ذي الورى من شأن
و الله كاشف كل كرب قادر وسواء ذو عجز فقير فان
بل منهم من يستغيث بالأموات وهو في الصلاة إذا شعر بألم، قال أحدهم وهو في صلاة: "يا أب شام"، ومنهم من يعتقد أن بعض المشايخ له "كوتة" في الخلق، نحو الذي يقول: "تخلق خلائقك يا أب كساوي"، ومنهم من يحلف ويقول: "وحيات الشيخ تاي الله الخلقني شحمة ولحمة"، ومنهم من يزعم أنه يعرف المولود الذي منحه الشيخ يوسف "أبو شرا" بأنه مختوم في عنقه يوسف، وأن الشيخ دفع الله كان يجر الشمس مع الملائكة ولا يزال، وهو ميت، ويمدح بذلك:
(الشمس مع الملاك جرها ما غلبو والتمساح حجر في شان جلوك قلبه)
وجاء في قصيدة "جل جلاله" للشيخ المكاشفي:
بهاري بهر بنور الكون
من الله بمحروس بالصون
أوتي الحرف الكاف و النون
أي إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
ويقول الشعراني في طبقاته الكبرى وقد نقل عنه ذلك "ود ضيف" في الطبقات: "هذه أقل المراتب"، بل هناك من الأولياء من هم أعلى مرتبة من مرتبة الألوهية.
ألا توافقني أخي الكريم أن ما جاء به بعض قومنا لا يدانيه ولا يقاربه ما جاء به عمرو بن لحي، وأن التغيير الذي أحدثه هؤلاء في شرع محمد صلى الله عليه وسلم لا يساويه التغيير الذي أحدثه عمرو بن لحي في شرعة إسماعيل؟!
o فقومنا كثير منهم يدعون ويستغيثون بالأموات والأحياء في حال الرخاء والشدة.
o وقومنا منهم من يعتقد أن "صلاة الفاتح لما أغلق" تعدل القرآن ستة آلاف مرة.(1/380)
o وقومنا منهم من يعتقد أن مقام الولي أعلى من مقام الرسل، ويلبسون على الجهلة بأن ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر من نبوته، يقول كبير مجددي ملة عمر بن لحي فاتح باب الزندقة "ماحي الدين" ابن عربي:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون النبي
o وقومنا منهم من يستغيث بالحلاج وابن عربي، فيقول: "بالشبل بالحلاج بابن عربي"، وقد حكم العلماء بكفر الحلاج وابن عربي، يقول القاضي عياض المالكي رحمه الله: (أجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية وغيرهم على قتل الحلاج وصلبه، لدعواه الألوهية، والقول بالحلول، وقوله أنا الحق، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته).
وقال عنه الذهبي رحمه الله: (فهو صوفي الزي والظاهر.. وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل).
o وقومنا منهم من يبني القباب، ويطوف بالأضرحة، ويسأل الأموات الحاجات التي لا يستطيعها إلا الله، نحوالعافية، والولد، والسعادة في الآخرة، وهذه القباب والأضرحة ما هي إلا أصنام تعبد من دون الله عز وجل.
هل تعلم أن بمصر وحدها حوالي ستة آلاف ضريح -كبرى وصغرى-، نحو ضريح الحسين، والسيدة زينب، والشافعي، منها ما هوكذب كضريح الحسين رضي الله عنه، يطاف حولها ويستغاث بأصحابها، ولهذا زعم الشيخ عبد الرحيم البرعي السوداني أنها مؤمنة بأهل الله، ولهذا فهي من أكثر البلاد اختراقاً منذ عهد محمد علي، ولو اعتمد أهلها على الله وتوكلوا عليه حق التوكل لأمنهم.
وفي دمشق وحدها حوالي 194 ضريحاً، منها ما هو كذذب كضريح يحيى وزكريا عليهما السلام، ولذلك عندما خاف أهل دمشق من التتار طمأنهم أحد القبوريين بقوله:
يا خائفين من التتار لوذوا بقبر أبي عمر
لوذوا بقبر أبي عمر ينجيكم من التتار
فقال له شيخ الإسلام مفتي الأنام في حياته وبعد وفاته ابن تيمية رحمه الله: لو كان أبو عمر حياً لما استطاع أن يفعل شيئاً، ونحن في هذه الحال من الانغماس في الشركيات والمعاصي وعدم الإعداد لهم؛ فعندما حرض شيخ الإسلام حكام الشام على القتال، وحث العامة عليه هو وتلاميذه، واستعدوا لذلك، نصرهم الله على عدوهم.
o وقومنا منهم من يعتقد أن الأولياء يحضرون موت المريد وهم أموات، ويلقنونه كلمة التوحيد، فقال أحدهم:
هم حاضرين يا ليلى مع المَلَكين يا ليلى
وملقنين يا ليلى للكلمتين يا ليلى
o وقومنا منهم من يدين الله بعقيدة الحلول والاتحاد والفناء، وهي عقائد كفرية، فقد قال شيخ شامي لأتباعه وقد مرت عليهم بقرة، فقال لهم: وحدوه؛ فما كان منهم إلا أن قالوا جميعاً: لا إله إلا الله؛ من اعتقد هذه العقيدة كان كفره أشد من كفر اليهود والنصارى، لأن النصارى يعتقد بعضهم بحلول اللاهوت في الناسوت، وهؤلاء يعتقدون بحلول الله في كل مخلوق حتى الكلب والخنزير.
يقول ابن عربي في كتابه "فصوص الحكم":
الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف؟
إن قلتَ عبد فذاك ميت وإن قلتَ رب أنى يكلف؟
يقول شيخ الإسلام عمن يعتقد ذلك: (ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى).
o ومن قومنا من يعتقد أن بعض المشايخ يمكنهم الاستغناء عن شرع محمد صلى الله عليه وسلم، وأن التكاليف رفعت عنهم، فبعضهم لا يصلي ولا يصوم ولا يحج، ومع ذلك يوجد من يعتقد أنهم من الأقطاب الكبار.
o ومن قومنا من ابتدع العديد من الاحتفالات، كالاحتفال بالمولد النبوي الشريف، أسبوعي وسنوي، والاحتفال بالإسراء والمعراج "الرجبية"، والاحتفال بأول السنة الهجرية، والاحتفال ببعض الغزوات ونحوها، وكلها أمور محدثة، ابتدعت في العصور المتأخرة في القرن السابع الهجري وقبله وبعده، واستغواهم الشيطان فأحدثوا حوليات المشايخ، بل ومن الناس من أحدث حولية لأفراد الناس وعزموا أن يستمروا عليها.
o ومنهم من تمسك بالذي أدنى وترك الذي هو خير، فاستعاض عن الأوراد والأذكار التي علمنا لها صاحب الشريعة بأوراد وأذكار بدعية وشركية.
o ومن قومنا من أباح الردة عن الإسلام وأنكر حدها، وأنكر كثيراً مما هو معلوم من الدين ضرورة.
o ومن قومنا من يدعو إلى وحدة الأديان ويعتقد أن الكل سواء، لا فرق بين مسلم، ونصراني، ويهودي، وشيوعي، وجمهوري، وعلماني، ومنافق.
o وجل قومنا اليوم لا يريدون التحاكم لشرع الله عز وجل، بل نبذوه ونابذوه وراءهم ظهرياً.
o ومن قومنا من يحب الكفار ويواليهم أكثر من محبته للمسلمين وموالاتهم، ويتشبه بهم ويقتدي بهم، ويقاتل معهم.
o ومن قومنا من يعتقد أن الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله إرهاب، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في الحرية الشخصية.
o ومن قومنا من يقتل أهل الإسلام ويعز ويكرم ويَسْتَحْيي أهل الكفر والفسوق والعصيان.(1/381)
كل هذا وغيره مما لم أذكر شرع جديد، وملل محدثة، قامت وتقوم على أنقاض شرع محمد صلى الله عليه وسلم، ويعتبر أصحاب كل واحدة من هذه البدع من مجددي ملة عمرو بن لحي، ومن المغيرين لشرع الله الخارجين عليه، وعليهم أن يحرصوا على تجديد إسلامهم، وإلا فإنه سيصيبهم ما أصاب قدوتهم وسلفهم الطالح عمرو بن لحي، ولن يضروا الله شيئاً: "يا عبادي، لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً"، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والله غالب على أمره، ومميت لجميع هذه البدع والملل، ومحيي للملة الخالدة والشريعة الباقية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على المغيِّرين المبدلين لشرائع الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلينا وعلى جميع عباد الله الصالحين، لا ينال سلامه ورضاه المبدلو
=================0000000000
من وقَّر صاحب بدعة أوفسق فقد أعان على هدم الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولاعدوان إلا على الظالمين الجاهلين، ونعوذ بالله من اختلال المفاهيم، واختلاف الموازين، وقلة العقل والدين، وتعظيم الفسقة والفجرة المجاهرين، وصلى الله وسلم على محمد الناهي عن تسويد المنافقين، إذ تسويدهم مغضبٌ لرب العالمين، ولهذا جاء في الأثر: "من بجَّل صاحب بدعة فقد أعان على هدم الدين".
وبعد..
لقد ساءني جداً وساء كل مسلم تكريم جامعة الخرطوم متمثلة في إدارتها واتحادها لمحمد وردي، بمنحه الدكتوراة الفخرية، وذلك لسببين، هما:
الأول أن وردي شيوعي مجاهر بشيوعيته، واعتناق الشيوعية كفر ومحادّة للدين، سواء كان منكراً لوجود الخالق أومؤمناً بنظريتها الاقتصادية التي تنكر لها أسياد الشيوعية في روسيا، ولا ينفعه مع هذا الاعتقاد النطق بالشهادتين ونحو ذلك.
الثاني أن وردي مشتغلٌ بالغناء، والاشتغال بالغناء فسق وسفه تردُّ به الشهادة، ولهذا قال مالك الإمام: "إنما يفعله عندنا الفساق"، هذا إن لم يكن مستحلاً له، فإن كان مستحلاً له فمصيبته أكبر، وقال الأحناف: التلذذ بالغناء كفر؛ وقد نقل الإجماع على تحريم الغناء والموسيقى عدد من أهل العلم، ولم يقل بتحليل ذلك إلا من زلَّ وأخطأ كابن حزم رحمه الله.
وهذا يدلُّ على قلة علم إدارة الجامعة بما هو معلوم من الدين ضرورة، إذ لو كان عندهم أقل القليل من العلم الشرعي لاستبان لهم فداحة وشناعة ما أقدموا عليه من تكريم الفسقة الداعين إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
روى ابن ماجة في سننه عن صفوان بن أمية يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمرو بن قرة عندما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له في الغناء في غير فاحشة قائلاً: "فما أراني أرْزَق إلا من دفي بكفي"، فقال له: "لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة عين، كذبتَ يا عدو الله، لقد رزقك الله حلالاً طيباً فاخترت ما حرَّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلَّ الله لك من حلاله"؛ فقام عمرو وبه من الشر والخزي ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هؤلاء العصاة من مات منهم بغير توبة حشره الله عز وجل عريان لا يستتر بهدبه كلما قام صرع".
هذا بجانب ما صحب ذلك من الحفلات والرقص المختلط الذي حدث في كلية الطب وفي الميدان الشرقي للجامعة، والذي تولت كبره وحمته إدارة الجامعة بالحرس الجامعي، وكان الواجب عليها المحافظة على هذه الأعراض التي سيُسألون عنها يوم القيامة، حيث لن تزول أقدامهم عن الصراط إلا بعد أن يسألوا عنها، فليعدوا للسؤال جواباً فإنه كائن ولابد، وكل آت قريب، ولن يفيدهم يومئذ منافقتهم للشيوعيين وغيرهم.
أرجو أن تقارن أخي الكريم بين ما فعلته إدارة جامعة الخرطوم وبين ما همَّ به سليمان بن عبد الملك رحمه الله عندما أراد أن يخصي المغنيين الذين سمعهم بناحية عسكره، لولا أن نهاه عمر بن عبد العزيز رحمه الله بأن ذلك مثلة؛ وبما فعله عمر بن عبد العزيز عندما ولي الخلافة وأراد الدخول عليه جرير، والفرزدق، والأخطل، فمنعهم من الدخول ولم يأذن إلا لجرير، وهم قطعا أفضل وأحسن حالاً من محمد وردي، بما فيهم الأخطل النصراني، فالنصراني خيرٌ من الشيوعي، بل ليس هناك وجه للمقارنة بين وردي وهؤلاء، فقد كانوا من فحول الشعراء.
ماذا قدَّم وردي حتى يستحق التكريم؟ وردي هو الذي أهدر طاقات الأمة وضيَّع شبابها، بدلاً من أن يملأوا ساحات الجهاد والدعوة ملأوا ساحات الغناء، والرقص، والطرب، قال تعالى: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله"، وهو الذي يدعو إلى عبادة غير الله، كقوله "بعبد حبِّك".(1/382)
أرجو من المسؤولين أن يتقوا الله في أنفسهم وفي هذا الدين، وفي هذه الأمة التي ولاهم الله أمرها، ولا يسلطوا عليها العلمانيين أعداء الملة والدين، والله أسأل أنْ يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعل ولايتنا فيمن خافه، واتقاه، واتبع رضاه.
=================00000
الحكمُ بغير ما أنزل الله كفرٌ ناقلٌ عن الملة إلا في صورتين
الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر ناقلاً عن الملة
الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر
تنبيهات
الأدلة على ذلك
أقوال أهل العلم في ذلك، قديماً وحديثاً
الإسلام دين كامل لا يتجزَّأ ولا يتبعَّض، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فلا يضرَّن إلا نفسه: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً" الحديث.
لقد حكم الله بكفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض من اليهود وغيرهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقال: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردُّون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون".
لم ينتقل رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أكمل الله على يديه الدين، وأتم علينا النعمة، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وحذرنا من الالتفات إلى غيرها ولو كان موافقاً لشرعنا، مهما كانت منزلة الملتفت إلى غيره.
روى خالد بن عرفطة قال: (كنتُ جالساً عند عمر، إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس، فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم؛ فضربه بعصا معه، فقال الرجل: مالي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: اجلس؛ فجلس، فقرأ عليه: "بسم الله الرحمن الرحيم. ألر. تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون. نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين"، فقرأها عليه ثلاثاً وضربه ثلاثاً، فقال الرجل: مالي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنت الذي نسخت كتب دانيال؟ قال: مرني بأمرك أتبعه؛ قال: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه أنت، ولا تقرئه أحداً من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أوأقرأته أحداً من الناس لأنهتك عقوبة؛ ثم قال: اجلس، فجلس بين يديه، قال: انطلقتُ أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي في يدك يا عمر؟ فقلتُ: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد علماً إلى علمنا؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرَّت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم، السلاح السلاح؛ فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس، إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهوَّكوا ولا يغرَّنكم المتهوِّكون"؛ فقال عمر: فقمتُ فقلتُ: رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبك رسولاً؛ ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وعن أبي الدرداء قال: جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق؛ فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن زيد الذي أري الأذان: أمسخ الله عقلك، ألا ترى الذي بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً؛ فسرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "والذي نفس محمد بيده، لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً، أنتم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين".
قلتُ: إذا كان جزاء عمر رضي الله عنه الزجر، وجزاء العبدي الضرب والزجر، لمجرد أنهما نسخا ونظرا لشي من التوراة وإلى ما نسب إلى دانيال، فكيف يكون جزاء أولئك الجراء، الأشقياء، المتفيقهون، المتطفلون، الذين سطروا الدساتير العلمانية، وكتبوا القوانين الوضعية الجاهلية على غرار دساتير وقوانين الكفار، سيما الدستور الفرنسي، الضالون المضلون، المفضِّلون لزبالة أذهان الكفار ونحالة أفكارهم الساقطة، كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية الأسبق رحمه الله، على حكم الله ورسوله، حيث لم يكتفوا بتسوية القوانين الوضعية مع الشريعة الربانية ـ وذلك كفر صريح ـ بل فضَّلوها عليها، وفتنوا الراعي والرعية؟!(1/383)
جزاؤهم في الدنيا أن يقتلوا أويصلبوا لمحاربتهم لله ورسوله، التي هي أشدُّ من محاربة قطاع الطريق، وفي الآخرة فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، حينما يعترفون بضلالهم، وتُكشف عنهم أستارُهم، وتُقطَّع الحسرة أكبادهم: "تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسوِّيكم برب العالمين".
وبعد..
فإن الحكم بغير ما أنزل الله والرضا به ينقسم إلى قسمين كبيرين، هما:
1. كفر اعتقاد أكبر ناقل عن الملة، وله عدة صور.
2. كفر عمل أصغر، وله صورتان لا ثالث لهما.
الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر ناقلاً عن الملة
الأولى: أن يضع الحاكم دستوراً علمانياً على غرار دساتير الكفار، نحو الدستور الفرنسي، مستبدلاً الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومستعيضاً به عن حكم الله ورسوله، سواء كانت هذه الاستعاضة كلية أوجزئية.
وهذا اعتقاد ضمني من واضعي الدستور، ومنفذيه من الحكام والقضاة، والراضين به من الرعية، على تفضيله على حكم الله ورسوله أو مساواته له.
الثانية: أن يعتقد أن حكم الله ليس بواجب عليه، وإنما هو بالخيار، إن شاء حكم به وإن شاء حكم بغيره.
الثالثة: أن يعتقد أن حكم الله واجب، ولكن القوانين الوضعية أفضل منه، وأصلح لمشاكل العصر.
الرابعة: أن يعتقد أن القوانين الوضعية المستمدة من الكفار ليست أصلح من حكم الله ولكنها مساوية له.
الخامسة: أن يعتقد أنه يجوز له أن يتحاكم للقوانين الوضعية.
السادسة: أن يتحاكم إلى ما وضعه زعماء العشائر والقبائل، من العادات، والتقاليد، والأعراف، وسوالف الجاهلية، نحو "الياسق" الذي وضعه جنكيز خان لقومه.
السابعة: أن يدع التحاكم لشرع الله خوفاً من الكفار وحرصاً على الكرسي.
الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر
حالتان فقط، هما:
الأولى: أن يجتهد في الوصول إلى حكم الله ولكنه لا يوفق لذلك.
الثانية: أن تحمله شهوته وهواه في قضية معينة، فيحيد عن حكم الله، مع تيقنه أن ما حاد عنه هو حكم الله.
تنبيهات
1. هذا فيما يتعلق بالحكام، والقضاة، وواضعي الدساتير والقوانين المحادة لكتاب الله وسنة رسوله، أما العامة والجمهور فمن رضي بهذا الحكم وانشرح له صدره فحكمه حكمهم، إذ الرضا بالكفر كفر، قال تعالى: "إنكم إذاً مثلهم"، فمن لم يرض وأنكر ولو بقلبه فلا حرج عليه.
2. على هاتين الحالتين: وهما أن يجتهد في الوصول إلى حكم الله فلا يوفق لذلك وأن تحمله شهوته على مخالفة حكم الله مع إقراره بأنه حكم الله ويجب عليه التحاكم به يُحمَلُ كلامُ ابن عباس رضي الله عنهما، وطاوس، وعطاء، وأبي مِجْلَز رحمهم الله.
قال ابن عباس: "ليس بالكفر الذي يذهبون إليه".
وقال عطاء: "كفرٌ دون كفر، وظلمٌ دون ظلم، وفسقٌ دون فسق".
وقال أبو مِجْلز: "إنهم يعملون بما يعملون، ويعلمون أنه ذنب".
أما أن يحمل كلام هؤلاء الأئمة على الصور السبعة الأوَل ففي ذلك تعدٍّ وتجنٍّ.
3. إنزال مثل هذه النصوص على حال حكام المسلمين اليوم فيه اعتداء كبير وعدم إنصاف، لأن جل البلاد الإسلامية اليوم تحكم بدساتير وقوانين علمانية من وضع البشر قامت على أنقاض الإسلام، بينما كان المسلمون إلى سقوط الدولة العثمانية لا يعرفون لحكم الله ورسوله بديلاً، ولم يكن لهم دستور ولا قانون مخالف لشرع الله، والذي كان يحدث من مخالفات يرجع إما إلى خطأ المجتهدين أوميل عن الحق لشهوة وهوى، فأين هذا مما نحن عليه الآن؟
4. دعوى أن الحاكم بغير ما أنزل الله لا يكفر كفراً أكبر إلا إذا اعتقد ذلك بقلبه، هذه عقيدة المرجئة الكرامية الذين يقولون: الإيمان مجرد تلفظ باللسان، أوالمرجئة الجهمية الذين حصروا الإيمان في معرفة القلب؛ فعلى شرعهم هذا فإن إبليس وفرعون من أهل الإيمان، تعالى الله أن يكون إبليس وفرعون من أوليائه، أما أهل الحق والعدل، أهل السنة، فيحكمون على الناس بما ظهر منهم ويدعون سرائرهم إلى الله، إذ الكفر الأكبر ليس قاصراً على الاعتقاد فقط.
5. لا يغني عمن ردَّ حكم الله ورضي بحكم الطاغوت صلاة ولا صيام ولا غيرهما.
الأدلة على ذلك
الأدلة على كفر من رفض حكم الله ورضي بحكم الطواغيت من الكتاب كثيرة جداً، نشير إلى طرف منها.
• ... قوله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيتَ ويسلموا تسليماً".
• ...
وقوله عن المنافقين: "ويقولن آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين".
• ...
وقال مادحاً المؤمنين: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون".
• ...
وقوله في سورة المائدة: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.." إلى آخر الآيات.
• ...
وقوله: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى".
• ...(1/384)
وقوله: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً".
أقوال أهل العلم في ذلك، قديماً وحديثاً
لقد أطبق أهل العلم من أهل السنة قاطبة، قديماً وحديثاً، على كفر من ردَّ حكم الله ورضي بحكم الطواغيت، وإليك بعضاً من أقوالهم.
1. ابن حزم رحمه الله
قال عند قوله تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ.." الآية: (لما كان اليهود والنصارى يحرِّمون ما حرَّم أحبارُهم ورهبانُهم، ويحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة، وعبادة صحيحة، وقد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله عبادة، وهذا هو الشرك بلا خلاف).
وما ذهب إليه ابن حزم قرّره الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى الصليب على عدي بن حاتم، وتلا عليه هذه الآية، فقال: ما عبدناهم؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال؟" قال: نعم؛ قال: "تلك عبادتكم إياهم" الحديث.
فدل ذلك على أن الرضا بما يشرعه البشر ليس ناقضاً لتوحيد الألوهية فقط، بل ناقض لتوحيد الربوبية.
2. ابن تيمية رحمه الله
قال: (ذمَّ اللهُ عز وجل المدعين الإيمان بالكتب كلها، وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله، كما يعيب ذلك كثير ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أوغيرهم، أوإلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام.
إلى أن قال: ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء ألا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكم ويسلموا تسليماً".
3. ابن القيم رحمه الله
قال: (أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفس قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج، وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضا والتسليم، وعدم المنازعة، وانتفاء المعارضة والاعتراض).
4. العز بن عبد السلام
قال: (وتفرَّد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه، وكذلك لا حكم إلا له).
5. ابن كثير رحمه الله
قال: (فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله، وشهد له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: ".. إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر"، أي ردُّوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر).
6. ابن أبي العز الحنفي رحمه الله
قال: (إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أواستهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر).
7. أبو السعود محمد بن محمد العمادي الحنفي المفسَّر المتوفى 982ه رحمه الله
قال عند تفسير قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون": (ومن لم يحكم بما أنزل الله كائناً من كان دون المخاطبين خاصة، فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أولياً، أي من لم يحكم بذلك مستهيناً منكراً.. فأولئك هم الكافرون لاستهانتهم).
8. القرطبي المفسِّر رحمه الله
قال: (إن حكم بما عنده ـ أي بما وضعه من قوانين ـ على أنه من عند الله تعالى فهو تبديل يوجب الكفر).
9. الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
قال: (من اعتقد أن غير هدى الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أوأن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه، فهو كافر).
10. الشوكاني رحمه الله
قال في تفسير قوله تعالى: "فلا وربك لايؤمنون.." الآية: (فلا يثبت الإيمانُ لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم، ولا يجد الحرج في صدره مما قضى عليه، ويسلم لحكم الله وشرعه تسليماً لا يخالطه رد ولا تشوبه مخالفة).
11. محمود شكري الألوسي رحمه الله
قال: (لاشك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع ويقول هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة، ويتميز غيظاً ويتقصف غضباً إذا قيل له في أمر أمر الشارع، كما شهدنا ذلك في بعض من خذلهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم..
فلا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بيِّن المخالفة للشرع منها ـ أي القوانين ـ ويقدمه على الأحكام الشرعية منتقصاً لها).
12. محمد رشيد رضا رحمه الله(1/385)
قال في تفسير المنار في تفسير قوله تعالى: "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله.." الآية: (والآية ناطقة بأن من صدَّ وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً ،ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يُعتد بما يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام).
13. الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية الأسبق رحمه الله
قال: (إن قوله تعالى: "يزعمون" تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه).
14. الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله
قال: (ومن أصرح الأدلة في هذا أن الله جل وعلا في سورة النساء بيَّن أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يُتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا أن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب، وذلك في قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت").
15. الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله
قال في تفسيره: (الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان.. فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية "ألم تر إلى الذين يزعمون.." الآية، فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت فهو كاذب في ذلك).
16. الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله
قال: (القرآن مملوء بأحكام وقواعد جلية، في المسائل المدنية، والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال، والغنائم، والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص، فمن زعم أنه دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أولهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال ذلك مسلم ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج عن الإسلام جملة ورفضه كله، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم).
17. الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله
قال: (الذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها.
وقال عن تعلق أهل الأهواء بكلام التابعي أبي مِجْلز السدوسي السابق: (اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء، والأعراض، والأموال، بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون الكفر شريعة في بلاد الإسلام، فلما وقف على هذين الخبرين اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها والعامل بها.
إلى أن قال: لم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.
ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مِجْلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سنَّ حاكم حكماً وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة، وأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة وتلحقه المغفرة).
18. الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
قال وقد سئل: هل يعتبر الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفاراً؟ وإذا قلنا إنهم مسلمون، فماذا نقول عن قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" الآية؟(1/386)
قال: (الحكام بغير ما أنزل الله أقسام، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم، فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين، وهكذا من يحكم بالقوانين الوضعية بدلاً من شرع الله ويرى أن ذلك جائز، حتى لو قال: إن تحكيم الشريعة أفضل، فهو كافر، لكونه استحل ما حرَّم الله، أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعاً للهوى، أوللرشوة، أولعداوة بينه وبين المحكوم عليه، أولأسباب أخرى، وهو يعلم أنه عاصٍ لله بذلك، وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله، فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر، ويعتبر قد أتى كفراً أصغر، وظلماً أصغر، وفسقاً أصغر، كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن طاوس، وجماعة من السلف، وهو المعروف عند أهل العلم، والله ولي التوفيق).
19. الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله
قال: (من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به، أواحتقاراً له، أواعتقاداً أن غيره أصلح منه وأنفع للخلق، فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه).
20. هيئة كبار العلماء بالسعودية
قالوا، وقد سئلوا: من لم يحكم بما أنزل الله، هل هومسلم أم كافر كفراً أكبر؟ بعد ذكر آيات المائدة: (لكن إن استحل ذلك واعتقده جائزاً فهو كافر كفراً اكبر، وظلماً أكبر، وفسقاً أكبر، يخرج من الملة، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة، أومقصد آخر، وهو يعتقد تحريم ذلك، فإنه آثم يعتبر كافراً كفراً أصغر).
21. سيد قطب رحمه الله
قال: (فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة الله، مع الرضى بحكم هذه الشريعة، والذين يزعمون لأنفسهم أولغيرهم أنهم مؤمنون، ثم لا يتحاكمون بشريعة الله في حياتهم، أولايرضون حكمها إذا طبق عليهم.. إنما يدَّعون دعوى كاذبة، وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع: "وما أولئك بالمؤمنين").
22. د. صلاح الصاوي
قال: (إن الحالة التي تواجهها مجتمعاتنا المعاصرة هي حالة الإنكار على الإسلام أن تكون له صلة بشؤون الدولة، والحجر عليه ابتداء أن تتدخل شرائعه لتنظيم هذه الجوانب، وتقرير الحق في التشريع المطلق في هذه الأمور للبرلمانات والمجالس التشريعية، وإننا أمام قوم يدينون بالحق في السيادة العليا والتشريع المطلق للمجالس التشريعية، فالحلال ما أحلته، والحرام ما حرَّمته، والواجب ما أوجبته، والنظام ما شرعته..).
وأخيراً أسأل الله أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل مكان أمر رشد يعزُّ فيه أهل الطاعة، ويذلك فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن يجعل ولاية المسلمين فيمن خافه واتقاه واتبع رضاه، وأن يرد حكام المسلمين وعامتهم إلى الدين رداً جميلاً، اللهم من كان من هذه الأمة يظن أنه على الحق وهو ليس من أهله، اللهم فردَّه إلى الحق حتى يكون من أهله، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم رسله وأنبيائه، وعلى آله، وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان، وسلم.
=================000000000
قال عمر رضي الله عنه: "إن الله قد كلفني أن أصرف عنه الدعاء"
قال ذلك عمر رضي الله عنه في أول خطبة خطبها حين ولِي الخلافة.
قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله: (ومعنى صرف الدعاء عن الله أن ينصف المظلومين من الظالمين، ولا يُحوجهم أن يسألوا الله، وكذلك أن يدفع حاجات الناس وضروراتهم بحيث لا يحوجهم أن يطلبوا ذلك من رب العالمين، فما أفصح هذه الكلمة، وما أجمعها لمعظم الحقوق).
نفس هذا المعنى قاله أبو بكر عندما ولي الخلافة في أول خطبة له: "أيها الناس إن قويكم عندنا ضعيف حتى نأخذ الحق منه، وإن ضعيفكم عندنا لقوي حتى نأخذ الحق له"، ولا غرو في ذلك فهما حسنتان من مدرسة النبوة، وأفضل ما خرجته تلك المدرسة، حيث كانا وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كثيراً ما يقول صلى الله عليه وسلم: "خرجتُ أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر" رضي الله عنهما.
لقد جمع عمر رضي الله عنه في مقالته تلك جل دعاء المسألة، فدعاء الناس عامة لا يكون إلا لطلب الحاجات أو لدفع الظلم والمضرات.
أما حكامنا اليوم ـ أصلح الله حالنا وحالهم ـ فكأنما كلفوا بتوجه جل الدعاء إلى الله عز وجل، لكثرة تقصيرهم في حقوق الرعية، وتضييعهم لها، وبسبب توليهم ومن يليهم لتقنين الظلم والتعدي.(1/387)
فكم من حقوق ضائعة للرعية، ومظالم واقعة عليها؟! بدءاً بعدم تحكيم شرع الله فيهم، ومروراً بعدم الحكم بالسوية، والعدل في القضية، والتفريط في حق الرعية، وانتهاء باللهو والانشغال عما فيه صلاح الدين والدنيا، وتضييع فريضتي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما المظالم التي تدفع الناس دفعاً إلى توجيه الدعاء إلى الله، والتي تفتح لها أبواب السماء، فلا تُحصى ولا تُعدّ، منها التعدي على المال العام، وفرض الباهظ من الضرائب والرسوم من غير مراعاة لحال الفقراء والضعفاء، والتقصير وعدم القيام بما يخفف ويرفع المعاناة عن الفقراء والمساكين خاصة في مجال التعليم والعلاج، وفي خلف الوعود، والتسويف في الفصل بين المتخاصمين، وحماية كثير من المتعدين على حقوق الضعفاء، ومن تفشي المحسوبية، والرِّشوة، وأكل المال بالباطل.
أين حكامنا من حرص عمر على العدل وخدمة الرعية: "لو أن بغلة بشاطئ الفرات عثرت لخشيتُ أن أسال عنها: لِمَ لم أعبِّد لها الطريق؟"، ومن قول سيد البرية: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها"، ومن قول أبي بكر في أول الردة: "أينتقص الدينُ وأنا حي؟"
فكم من حد معطَّل، وبدعة ممكِّن لها، وفساد مقنَّن، وغني مترف، وفقير معدم، وحق مضيَّع، ومحبوس مهمَل، وأمين مخوَّن، وخائن مؤتمن، ومستعاذٍ بهم يسلم، وكافر وفاسق مكرَّم معظَّم، وولي لله مهان مُحْرَم.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال عن الولاية: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها"، ونصح حين صرفها عن عمه العباس وصاحبه أبي ذر رضي الله عنهما، وحين قال: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
والله الموعد، وسيعلم الذين ظلموا أي مُنقلب ينقلبون.
=================0000000
رسالة إلى حكام المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله الصادق الوعد المبين.
وبعد..
التفرُّق، والتشتت، والتشرذم الذي أصاب الأمة في القرن الهجري المنصرم وبداية القرن الحالي، والذي أدى إلى ضعفها، وذلِّها، وهوانها، وتكالب الأمم عليها، له عدة أسباب رئيسة، هي:
[1] الفرقة: وقد دلَّ عليها قوله تعالى: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات".
[2] اتباع المتشابه من القرآن والسنة والأحكام: وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولوا الألباب".
[3] اتباع الهوى: ودلَّ عليه قوله تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم"، وقوله: "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله".
[4] حكام المسلمين: وبادئ ذي بدء لا بد من التنبيه على أن جميع شرائح المجتمع مسؤولة عن ذلك ـ من حكام وعلماء، ودعاة وعامة، مع تفاوت مسؤولياتهم واختلاف تقصيرهم ـ مسؤولية تامة، ولها دور في الذي حدث ويحدث الآن، ولكن دور الحكام أكبر، ومسؤوليتهم أخطر وأعظم، ولهذا سأقصر حديثي على حكام المسلمين ومسؤوليتهم فيما أصاب الأمة، وأحب أن أذكر أن حديثي هذا شامل لكل حكام المسلمين ممن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وليس خاصة لطائفة منهم دون غيرهم، لأن الدين النصيحة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"، وسأقصر حديثي كذلك في جانب واحد فقط، وهو جانب اختلاف المواقف وتباين الرؤى في القضية الواحدة المعينة من وجه نظر الدين، لما لهذه القضية من أثر بليغ في توسيع دائرة الخلاف، وزعزعة ثقة العامة في الخاصة، ولله درُّ عمر عندما غضب لاختلاف أُبيٍّ وزيد في مسألة فرعية، وقال: "من أين يصدر الناس؟".
ولهذا أسباب عديدة فيما يتعلق بالحكام، ألخصها في الآتي:
[1] استجابة حكام المسلمين للسياسة التي انتهجها أعداء الإسلام بعد القضاء على الدولة العثمانية وتقسيمها إلى دويلات وأسلاب صغيرة، وهي سياسة (فرِّق تَسُدْ)، فقد عملوا على زعزعة الثقة بين الحكام المسلمين، وقد أججوا نار ذلك بالحدود السياسية الوهمية التي بين الدول.
[2] طلب العزة والوحدة في غير الإسلام: في النزعات الوطنية، والقومية، والعرقية، كالطورانية، والعربية، والهندية، ومن طلب العزة في غير الإسلام أذله الله.
[3] حرص الحكام على كراسيهم وأنظمتهم أكثر من حرصهم على الإسلام، بحيث إذا تعارضت المصلحتان ضربوا بالإسلام عرض الحائط ولم يبالوا.
[4] اعتماد جل الحكام على أحزاب علمانية.
[5] تخويف الكفار للحكام من الجماعات والأحزاب الإسلامية، وتحذيرهم لهم منهم؛ مما جعل حاجزاً وهمياً منيعاً بين الحكام وبين هذه الجماعات.
[6] موالاة كثير من الحكام للكفار، إن رغبة أو رهبة، وثقتهم بهم، وقيام تحالفات بينهم وبين الكفار.(1/388)
[7] عمل كثير من الحكام على نشر الفاحشة واللهو في الذين آمنوا، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، والرياضة، واللهو، ليلهوهم عن الجادة، ويشغلوهم عن معالى الأمور بسفاسفها.
[8] عدم تحكيم جلُّ الحكام لشرع الله واستعاضتهم عن ذلك بالقوانين الوضعية.
[9] إضعاف المنظمات التي كانت تمثل كل الدول الإسلامية والعربية: جامعة الدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، بسبب الخلافات، والاستعاضة عنها بمنظمات إقليمية ضعيفة: مجلس التعاون الخليجي، منظمة الدول الإفريقية، كل ذلك أدى إلى ضعف التضامن الإسلامي.
[10] انتشار الفساد أدى إلى إفراط وتفريط: طائفة استجابت للفساد، وطائفة غلت.
[11] كسر شوكة العلماء وإلزامهم بتبني ما تراه الدولة، مما نتج عنه تضارب في الفتاوى والمواقف، كما حدث ويحدث في سلسلة الحروب الصليبية التي قادتها أمريكا على أفغانستان والعراق.
[12] اعتماد الحكام على الوزراء والمستشارين العلمانيين الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
[13] شراء الدول الغنية لبعض وسائل الإعلام وبعض الأقلام الرخيصة.
نتج عن كل ذلك:
[1] غياب عقيدة الولاء والبراء، حيث أصبح المسلم يوالي الكافر ويعادي أخاه المسلم، بل يقاتل جنباً إلى جنب تحت راية الكفار للقضاء على دولة مسلمة وأرض مسلمة، دونما خجل ولا مواراة.
[2] الجهل بأبسط قواعد الشرع: درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، أي قاعدة أخف الضررين التي هي أساس الدين.
[3] الخضوع والاستكانة للكفار، وتسلطهم على المسلمين، والتدخل في أخص خصائصهم، مثل تعديل مناهج وأساليب التربية.
[4] انقلاب الموازين، بحيث اعتبر دفاع المظلومين عن أعراضهم وأنفسهم إرهاباً وجريمة يعاقب عليها حكام المسلمين قبل رواد الكفر.
[5] ضعف روح العزة والاعتداد بالدين لدى كثير من المسلمين.
[6] استسلام كثير من المسلمين إلى اليأس والقنوط والرضا بالواقع.
[7] هيمنة قوى الشر والطغيان وتحكُّمها في مصير العالم، وأصبح لسان حالها: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، كما قال الطاغية فرعون لعنه الله.
[8] تداعي قوى الشر على الإسلام والمسلمين كما تداعى الأكلة على قصعتها:
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
=================00000
الدين النصيحة
النصيحة في الدين مكانتها عظيمة، ومنزلتها عند الله عالية رفيعة، وحاجة الإنسان، كل إنسان للنصح لا تقل عن حاجته إلى الطعام والشراب و الهواء، لذلك حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الدين فيها فقال: "الدين النصيحة" ثلاثاً، لأنها بها قوامه و صلاحه؛ وعندما قيل له: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم."
ولهذا عُدَّ هذا الحديث من جملة الأحاديث الأربعة التي تجمع أمر الإسلام؛ قال الخطابي: "معنى الحديث قوام الدين وعماده النصيحة، كقوله الحج عرفة".
حكم النصيحة لكل مسلم الوجوب وإن لم يسأله، وقد قال بعضهم وجوب النصح يتوقف على السؤال، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنصحك فانصح له"، وهو يعد من حقوق المسلم على أخيه المسلم.
ووجوبها آكد من ولاة الأمر، علماء و حكام نحو رعاياهم ، لما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجتهد لهم وينصح إلا لم يدخل الجنة معهم."1
والنصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه تكون بالإيمان والتصديق والعمل بما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والإنتهاء عما نهيا عنه، والذب والدفاع عن الله وكتابه ورسوله، وإزالة الشبه، وتعليم الناس ما جهلوا من ذلك؛ والنصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه في حقيقتها نصح لأنفسنا، وتزكية وتطهير لها.
ولهذا فإن هدفنا وغرضنا الأول والأخير في هذا الموقع إسداء النصح للمسلمين، وتبصيرهم و إرشادهم لما فيه صلاحهم في دينهم ودنياهم، متلزمين في ذلك بالآداب الشرعية والسنن المرعية، من غير تعنيف ولا تشهير، راجين الأجر والثواب من العلي القدير؛ قال المروزي: "سمعت أبا عبد الله يقول: قال رجل لمسعر بن كدام: تحب أن تنصح؟ قال: نعم، أما من ناصح فنعم، وأما من شامت فلا"؛ وقال مسعر: "رحم الله من أهدى إليّ عيوبي في سر بيني و بينه، فإن النصيحة في الملأ تقريع".
هذا فيما يتعلق بالأمور الشخصية ولمستورى الحال؛ أما المسائل العامة، وللمجاهرين بالبدع والمعاصي، المعلنين عنها، الداعين إليها ، فلا حرج من نصحهم علناً؛ وذلك عن طريق التعليم، والتذكير، والإفتاء.
والله أسأل التوفيق والسداد والعون والرشاد ؛ وأقول كما قال العبد الصالح عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي.
**********************
الفهرس العام
مقدمة هامة ... 1
الباب الأول- ركن النصيحة ... 3
إمامة المرأة للرجال ... 3
الفضائيات وخطرها على الناشئة والمجتمع ... 7
هل تعلم أيها الصوفي؟! ... 10(1/389)
الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان نداء عاجل إلى الأمة الإسلامية: أغيثوا إخوانكم المحاصرين ... 21
الحكم بغير ما أنزل الله ... 23
أباطيل الترابي المنكرة توجب التكفير والتشهير ... 33
من لم يكفِّر اليهود والنصارى أوشك في كفرهم أوصحَّح مذهبهم فقد كفر ... 62
الحلاج قُتل بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق والله أعدل من أن يسلطه على صدِّيق ... 73
لم يعد يوم الجنائز ذلكم اليوم المشهود ... 79
أيها الشباب المسلم ألِلْعَبث واللعب وُجدتم، أم للعبادة والجد خلقتم؟ ... 81
دخول قوات التحالف الكافرة ما هو إلا غزو مغلف للسودان ... 84
ها أنتم هؤلاء جادلتم عن الترابي في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنه يوم القيامة؟ ... 85
ما هكذا تورد الإبل يا أستاذ أبو النجا ... 87
تلك عبادتكم إياه ... 91
نعم للوسطية، ولكن ما هي الوسطية؟ ... 93
ومنزلة الفقيه من السفيه كمنزلة السفيه من الفقيه ... 96
بين شرعنا العتيق وشرع الترابي المبدل ... 97
أَوَ يَكْفُر أحد من أهل القبلة؟! ... 108
بين حزب الله وحزب الشيطان ... 116
الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان ... 118
"لكنَّ الله أمرنا ببغض الأعداء" ... 121
عام الرمادة، ومواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه والعظات والعبر المستفادة ... 129
حكم مالك وأتباعه في السماع الصوفي، والرقص، والتواجد ... 139
" إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ "نصيحة إلى ولاة الأمر ... 149
أيها السنيون احذروا أحفاد ابن سبأ، وابن العلقمي، وأبي طاهر القرمطي... الشيعة ... 165
أيها السنيون السلفيون انتبهوا واتحدوا فأنتم المعنيون ... 173
من الكفر البيِّن تقسيم الإسلام إلى إسلام سياسي وإسلام تعبدي ... 174
الاعتراف بالآخر كلمة حق يُراد بها باطل ... 184
حرية الفكر صنم هذا العصر ... 192
من شك في كفر وردة محمود "مذموم" محمد طه أوصحَّح ما يعتقده فهو كافر مرتد ... 195
لا خير في أمة لا تثأر لرسولها المجتبى ولحبيبها المصطفى ... 197
تعقيب على ما جاء في ندوة د. الترابي ببورسودان ... 205
وقفات مع أخطر مخالفات دستور السودان 1426ه - 2005م للإسلام ... 221
لا للختان الفرعوني، لا لقرار المجلس الطبي، نعم للختان السني ... 238
الوعيد الشديد لمن هنّأ أوشارك في أعياد عبّاد الصليب ... 243
الأعياد وعلاقتها بالعقائد والشرائع ... 246
مذاهب العلماء في حكم صلاة المنفرد خلف الصف ... 254
حكم الهجرة إلى ديار الكفار، والعيش بين ظهرانيهم، والتجنس بجنسية إحدى الدول الكافرة ... 260
ختان الإناث بين شريعة الإسلام وقانون حقوق الإنسان ... 267
أيها الشاب المسلم إذا قلد البعضُ الفنانين والفسقة، فاقتد أنت بنبيك والسلف البررة ... 270
العدالة ليست شرطاً في الآمر الناهي ... 274
أين أنت يا والي الخرطوم من هذه المهازل؟ ... 280
أيها الحكام أين أنتم من سلفكم الصالح في عدم الأخذ بالظنة وفي عدم التجسس واتباع العورات؟ ... 282
ويل لمن غلبت آحادُه أعشارَه، ولا يهلك على الله إلا هالك ... 301
توبة من بيده مال حرام ... 303
تباً لعبدة الشيطان وتباً لمن عبد سوى الرحمن ... 306
العمليات الجهادية الاستشهادية بين المجيزين والمانعين ... 308
العمليات الجهادية الاستشهادية حكمها، شروطها، فضلها، ثوابها ... 316
ما أطيب الإسلام وأحسنه، وما أخبث الكفر وأقبحه ... 324
الحق لا يُعرف بالكثرة ولا بالرجال، ولكن بالأدلة والآثار ... 328
الفروق الأساسية بين السياسة الشرعية والسياسة الجاهلية ... 330
يا أيها المؤمنون احذروا كيد الكفار والمنافقين ... 336
ما هو من الأقوال، والأعمال، والاعتقادات كفر ... 338
النحس في الكفر، والشرك، والمعاصي، وليس في الأيام والشهور ... 351
بيان من الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة حول قرار مجلس الأمن الجائر ... 353
حكم الانتماء والانتساب إلى الأحزاب الكافرة والعلمانية ... 356
بمناسبة عيد الأم ... 358
أمينة ودود من المبدلات لشرع الله، المستحقات لمقته وغضبه ... 360
أيها العلماء احذروا أن يؤتى الإسلام من قبلكم ... 363
تنبيه الإخوان للبدع والمخالفات المصاحبة لختم القرآن ... 406
تذكير الساجد بعدم جواز تخطي ما يليه من المساجد ... 418
بدع الجنائز ومحدثاتها ... 420
تعقيب على مقال"السلفيون الجدد وفتاوى الفتنة" ... 463
رسالة إلى طالب جامعي مبتدئ ... 473
رسالة إلى أصحاب الحافلات وسيارات الأجرة، وسائقيها، ومعاونيهم ... 476
إذاعة "المانجو" 96 FM وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ... 479
رفعة الدين وعز الإسلام والمسلمين بمجاهدة الكفاروالمنافقين ... 482
مفاهيم ينبغي أن تصحح بين اليسر والتفلت ... 500
مفاهيم ينبغي أن تصحح ما حقيقة الصوفية؟ ... 509
تهنئة وتعزية بالعيد ... 519
بدع رمضانية ومحدثات محلية وعالمية ... 522
أخي الكريم كن ربانياً ولا تكن رمضانياً ... 527(1/390)
أيها الموسرون الأخيار ساهموا في نشر ميراث سيد الأبرار ... 529
أيها المسلمون أشركوا المجاهدين في دعائكم، ولا تنسوا أمواتكم ... 532
رسالة إلى تارك الصلاة ... 534
أشر ما دخل جوف ابن آدم الربا ... 537
رسالة إلى محروم ... 538
إمام ظلوم غشوم ، خير من فتنة تدوم ... 540
التثويب "الصلاة خير من النوم" في أي أذَانَي الصبح يُقال: الأول أم الثاني؟ ... 572
ما ينبغي أن يستقبل به المسلمون شهر رمضان ... 583
غياب المرجعية الشرعية لدى المسلمين في هذا العصر سبب لكل بلية ... 585
خير الناس من طال عُمُرُه وحَسُنَ عَمَلُه ... 592
أيها المفرط في قضاء الصوم والكفارة انتبه فإن رمضان على الأبواب ... 593
الأهلة لا تثبت بالحساب وإنما بالرؤية ... 595
أيها المسلمون دارفور تستغيث بكم فأغيثوها ... 603
بمناسبة مأساة دارفور "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقابَ بعض" ... 608
فتنة الرجل في ماله، وأهله، وولده، وكفارتها ... 613
ما ذُبِح لغير الله عز وجل فلا يؤكل ... 625
إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم ... 627
من تهاون في المندوب ترك الواجب، ومن تساهل في المكروه فعل الحرام ... 630
أهم العوائق والصعاب التي تواجه معلمي العلوم الشرعية للمبتدئين الناطقين بغير العربية ... 635
النصائح الغالية في التحذير من أسباب الخلاف الواهية ... 643
مطل الغني ظلم ... 665
احذر أخي المسلم أن يكون الحلال عندك ما حلَّ في يدك، والحرام ما حُرِمته ... 666
من علامات النفاق المتهاون فيها خلف الوعد ... 668
أيها المسؤولون تداركوا مشروع الجزيرة ... 670
لِمَ أخي المسلم تعطى الدنية في دينك؟! ... 673
إسرائيل وأمريكا رائدتا الإرهاب والقرصنة اليوم في العالم ... 677
أيها المسلمون لا تبخلوا على إخوانكم المجاهدين بأموالكم ودعائكم ... 678
أيها العلماء والدعاة احذروا أسباب التفرق: التشرذم، والانغلاق، وسوء الظن ... 680
أيها المجاهدون إنكم تقاتلون عن دينٍ وعد الله بنصره ... 683
لتسألنَّ يومئذ عن النعيم ... 684
أبوبصير وأبوجندل رضي الله عنهما أول من سنَّا حرب المقاومة والعصابات في الإسلام ... 687
احذروا الركون إلى الكفار "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكم النار" ... 691
أيها الطالب كيف تقضي عطلتك الصيفية؟ ... 696
لن يُفلح قومٌ ولَّوْا أمرهم امرأة ... 699
أيها المسؤولون، أيها الموظفون احذروا استغلال سلطتكم وجاهكم ... 701
العاقل الذي يعرف خير الشرين ... 708
ردٌّ على كافرة ازدادت كفراً وردة بنيلها من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته ... 709
أيها الموسرون الأسخياء ارعوا العلم والعلماء ... 715
يا رجال المرور انتبهوا واعملوا على تدارك حوادث المرور ... 728
ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ ... 735
التحقيق في موضع رأس الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما ... 737
أيها المنافقون احذروا ... 740
المستشار مُؤْتمن ... 741
أخي الشاب احذر الاشتغال بتصنيف الخلق ... 745
مفاهيم ينبغي أن تصحَّح هذا متشدد؟ ... 748
سعادة الدَّارين في برِّ الوالدين ... 767
التحية بالقُبَل من المنكرات المحرمات ... 808
صلة الرّحم وقطعها ... 826
أيها المسلمون اتقوا الله في الخدم وارعوا فيهم وصية نبيِّكم ... 844
ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ... 850
لقد أخطأت إسْتُكَ الحفرةَ يا شيخ الأزهر!! ... 857
المحافظة على رمم وجيف الكفار الهالكين، وعلى الأصنام، وعلى آثارهم مخلفاتهم عمل جاهلي وثني ... 860
تغيير المناهج الذنب الذي لا يُغتفر، والخطر المحدق ... 863
الأدلة الشرعية والحجج القوية في تحريم مصافحة المرأة الأجنبية: ... 864
المنافقون اليوم أكثر عدداً، وأعظم خطراً وشراً من المنافقين الماضين، أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإخوانهم اليوم يعلنون نفاقهم ... 873
لا حوار مع الكفار في سوى التخيير بين الإسلام، والجزية، والقتال ... 881
عدم نظر الكريم المنان لمسبل الأزر، والثياب، والسراويل، والقمصان ... 886
أحكام تارك الصلاة في الحياة وبعد الممات ... 900
أيها المسلمون لا يكن أهل الجاهلية والكلاب أحسن جواراً منكم ... 904
أيها المبتدعة احذروا أن يحل بكم ما حل بعمرو بن لحي الخزاعي لتغييره دين إسماعيل عليه السلام ... 912
من وقَّر صاحب بدعة أوفسق فقد أعان على هدم الإسلام ... 918
الحكمُ بغير ما أنزل الله كفرٌ ناقلٌ عن الملة إلا في صورتين ... 919
قال عمر رضي الله عنه: "إن الله قد كلفني أن أصرف عنه الدعاء" ... 930
رسالة إلى حكام المسلمين ... 932
الدين النصيحة ... 934(1/391)
الدين النصيحة (2)
الباب الثاني - ركن الذكرى
تحذير المصلين من خطر القصَّاص والمذكِّرين
أيها الخطباء والوعاظ والقصاص احذروا الاستدلال بالأحاديث الموضوعة والضعيفة
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يدخل الجنة مع أول الداخلين
يتوهم البعض أن كل الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة، وأنه يجوز الاستدلال بها من غير تحرٍ لها، بل هناك طائفة تنكر جرح وتعديل الرواة جملة واحدة.
نسي هؤلاء أوتناسوا أنه لا يحل لأحد أن يروي حديثاً موضوعاً أوضعيفاً ولا يستدل به إلا ليبين أنه موضوع أوضعيف، وإلا فهوداخل في وعيد قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
قال الإمام الدارقطني رحمه الله في مقدمة كتاب "الضعفاء والمتروكين": (توعد الله بالنار من كذب عليه، بعد أمره بالتبليغ عنه، وفي ذلك دليل على أنه إنما أمر أن يبلغ عنه الصحيح دون السقيم، والحق دون الباطل، لا أن يبلغ عنه جميع ما روي، لأنه قال: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"، أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، فمن حدث بجميع ما سمع من الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يميز صحيحها من سقيمها، وحقها من باطلها، باء بالإثم، وخيف عليه أن يدخل في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه منهم).
وقال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: (ولا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم ما كان في الأحكام وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك، وكله حرام من أكبر الكبائر وأقبح القبائح، بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع).
هذا بالنسبة لذوي الاختصاص.
أما غيرهم من العامة فعليهم الاقتصار بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقته الأمة بالقبول، كأحاديث الصحيحين وغيرهما من دواوين السنة المعروفة، ما لم يبين أهل العلم المختصون بذلك ضعف بعضها فتترك، وقد قام العلماء قديماً وحديثاً بتوضيح الصحيح من السقيم من الأحاديث، بحيث لا يوجد حديث إلا وقد حكم عليه العلماء بالصحة، أوالضعف، أوالوضع، علم ذلك من علمه، ومن جهله فعليه بسؤال أهل العلم، أوالاكتفاء بدواوين السنة المحققة، إذ السلامة لا يعدلها شيء.
من تلكم الأحاديث الواهية والآثار الموضوعة التي يحلي بها بعض الخطباء، والوعاظ، والقصاص خطبهم، وأحاديثهم، وقصصهم، لشد قلوب العوام إليهم، بهدف ذم المال وجمعه لمن جمعه من حلال وأنفقه في سبل الخير المختلفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يدخل الجنة حبواً!!!
نحو:
1. ما رواه أحمد بسنده وغيره إلى عُمارة بن زاذان عن ثابت بن أنس أن عبد الرحمن بن عوف لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين عثمان كذا هذا، فقال: إن لي حائطين، فاختر أيهما شئت؛ قال: بل دلني على السوق؛ إلى أن قال: فكثر ماله، حتى قدمت له سبع مائة راحلة تحمل البُرَّ والدقيق والطعام، فلما دخلت سُمِع لأهل المدينة رَجَّة، فبلغ عائشة، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عبد الرحمن لا يدخل الجنة إلا حبواً"، فلما بلغه قال: يا أمَّهْ! إني أشهدك أنها بأحمالها وأحلاسها في سبيل الله.
قال الذهبي في السير: أخرجه أحمد في مسنده عن عبد الصمد بن حسان عن عمارة، وقال: حديث منكر.
وفي لفظ لأحمد: فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قد رأيت عبد الرحمن يدخل الجنة حبواً"، فقال: إن استطعتُ لأدخلنها قائماً، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله.
2. وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعت خَشَفَة، فقلت: ما هذا؟ قيل: بلال، إلى أن قال: فاستبطأت عبد الرحمن بن عوف، ثم جاء بعد الإياس، فقلت: عبد الرحمن؟ فقال: بأبي وأمي يا رسول الله! ما خلصت إليك حتى ظننت أني لا أنظر إليك أبداً؛ قال: وما ذاك؟ قال: من كثرة مالي أحاسب وأمحص".
3. أما الأثر الموضوع المختلق فقد حكاه الغزالي في الإحياء عن الحارث المحاسبي: "وقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك! فقال كعب: سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن، كسب طيباً، وأنفق طيباً، وترك طيباً! فبلغ ذلك أبا ذر، فخرج مغضباً يريد كعباً، فمر بعظم لحي بعير، فأخذه بيده، ثم انطلق يريد كعباً، فقيل لكعب: إن أبا ذر يطلبك، فخرج هارباً حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر، وأقبل أبوذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذر، فقال له أبو ذر: هيه يا ابن اليهودية! تزعم أنه لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف".(2/1)
قال الحافظ ابن الجوز رحمه الله في "تلبيس إبليس" له بعد أن قال: (فهذا كله كلام الحارث المحاسبي، ذكره أبوحامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة... وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال من وضع الجهال، وخفاء صحته عنه ألحقه بالقوم، وقد روي بعض هذا وإن كانت طريقه لا تثبت، وإسناده عن مالك بن عبد الله الزيادي عن أبي ذر أنه جاء يستأذن عثمان فأذن له وبيده عصا، فقال عثمان: يا كعب، إن عبد الرحمن توفي وترك مالاً فما ترى فيه؟ فقال: إن كان يصل فيه حق الله تعالى فلا بأس به؛ فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعباً، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أحب أن لي هذا الجبل ذهباً أنفقه ويتقبل مني، أذر خلفي ست أواقي؛ أنشدك الله يا عثمان أسمعت هذا؟ ثلاث مرات، قال: نعم.
قال ابن الجوزي: وهذا حديث لا يثبت، وابن لهيعة مطعون فيه، قال يحيى: لا يحتج بحديثه، والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة 25هـ، وعبد الرحمن توفي سنة 32هـ، فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين، ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع، ثم كيف تقول الصحابة رضي الله عنهم: إنا نخاف على عبد الرحمن؟ أوليس الإجماع منعقداً على إباحة جمع المال من حله؟ فما وجه الخوف مع الإباحة؟ أويأذن الشرع في شيء ثم يعاقب عليه؟ هذا قلة فهم وفقه.
ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده دليل على أنه لم يسبر سير الصحابة، فإنه قد خَلَّف طلحة ثلاثمائة بهار، في كل بهار ثلاثة قناطير، والبهار الحمل؛ وكان مال الزبير خمسين ألف ألف ومائتي ألف، وخَلَّف ابن مسعود رضي الله عنه تسعين ألفاً، وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها، ولم ينكر أحد منهم على أحد، وأما قوله: "إن عبد الرحمن يحبو حبواً يوم القيامة، فهذا دليل على أنه لا يعرف الحديث، أوكان هذا مناماً وليس في اليقظة، أعوذ بالله من أن يحبو عبد الرحمن في القيامة، أفترى من يسبق إذا حبا عبد الرحمن بن عوف، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن أهل بدر المغفور لهم، ومن أصحاب الشورى؟).
من أكثر الكتب شيوعاً التي يستمد منها الوعاظ والقصاص والأئمة هذا الصنف من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والآثار المختلقة كتاب إحياء علوم الدين للغزالي سامحه الله، حيث حوى هذا السفر على حوالي ستمائة حديث بين ضعيف وموضوع، وجزى الله الحافظ العراقي خيراً حين تنبه لخطورة ما في هذا الكتاب من الأحاديث المختلفة، فحققه في مؤلف أسماه "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار"، وهو مطبوع وبعض نسخ الإحياء مذيلة به.
ولهذا قال تلميذ الغزالي أبوبكر بن العربي المالكي: لم أر كتاباً تحت أديم السماء مليء بالكذب على رسول الله مثل كتاب الإحياء، أوكما قال؛ والغزالي نفسه رحمه الله يعترف بأن بضاعته في الحديث بضاعة مزجاة، ولهذا وجب التنبيه للتثبت والتحقق فيما ورد في هذا الكتاب من الأخبار، وأنه لا يحل لأحد أن يستدل بما ورد فيه من أحاديث إلا بعد التأكد من صحتها.
لهذا السبب حذر السلف من القصاص والوعاظ ونهوا عن تمكينهم من المساجد والجلوس إليهم، وعدوا ذلك من البدع المنكرات والحوادث المهلكات.
قال ابن الحاج المالكي في المدخل: (مجلس العلم الذي يُذكر فيه الحلال والحرام واتباع السلف رضي الله عنهم، لا مجالس القصاص فإن ذلك بدعة.
وقد سئل مالك رحمه الله عن الجلوس إلى القصاص، فقال: ما أرى أن يجلس إليهم، وإن القصص لبدعة.
وقال ابن رشد: كراهة القصص معلومة من مذهب مالك.
وروى يحيى بن يحيى أنه قال: خرج معنا فتى من طرابلس إلى المدينة، فكنا لا ننزل منزلاً إلا قص علينا حتى بلغنا المدينة، فكنا نعجب من ذلك، فلما أتينا المدينة إذا هو قد أراد أن يفعل بهم ما كان يفعل بهم، فرأيته وهو قائم يحدثهم، وقد لهَوْا عنه، والصبيان يحصبونه، ويقولون له: اسكت يا جاهل.
فوقفت متعجباً لما رأيت، فدخلنا على مالك، فكان أول شيء سألناه عنه بعد أن سلمنا عليه ما رأيناه من الفتى، فقال مالك: أصاب الرجال إذا لهَوْا عنه، وأصاب الصبيان إذ أنكروا عليه باطله.
قال يحيى: وسمعت مالكاً يكره القصص، فقيل له: يا أبا عبد الله! فإن تكره هذا، فعلام كان يجتمع من مضى؟ فقال: على الفقه.
وقال ابن أبي زيد في الكتاب "الجامع": وأنكر مالك القصص في المسجد.
وعن الفضل بن مهران قال: قلت ليحيى بن معين: أخ لي يقعد إلى القصاص؛ قال: انْهَهُ؛ قلت: لا يقبل: قال: عظه؛ قلت: لا يقبل؛ قال: اهجره؛ قلت: نعم.
ينبغي للمسؤولين عن المساجد أن لايمكنوا قاصاً ولا واعظاً من غير المعروفين من الحديث إلى الناس، لظن البعض أن كل من علا المنبر أوقام خطيباً فهو عالم، وإن لم يفعلوا فعلى الحاضرين أن يخرجوا ويتركوهم، وهذا أضعف الإيمان.
=================00
لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت(2/2)
هذه الملاحظة الدقيقة صدرت من في الخليفة الراشد، والإمام العادل، والعبد الصالح، عمر بن عبد العزيز رحمه الله حيث قال: "لم أر يقينا أشبه بالشك كيقين الناس بالموت"، ثم علل ذلك بأنهم:"موقنون أنه حق ولكن لايعملون له" أوكما قال، لأن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد، ولهذا قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكن ماوقر في القلب وصدقه العمل؛ وعندما قال له الحطيئة: أليست "لا إله إلاالله" مفتاح الجنة؟ فهم مراده ومقصوده فقال له: إن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلاَ فلا.
قضية الإيمان واليقين هي القضية الأساس في هذا الدين، ولهذا جلس الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشرة سنة ليس له شغل إلاَ تثبيت وترسيخ أمر العقيدة، واكتفى القرآن المكي بمعالجة هذا الأمر ولم ترد التشريعات إلا بعد الهجرة في القرآن المدني.
إن كان عمر قال هذه الكلمة مخاطبا بها قرنه وهو قرن التابعين ومن القرون الفاضلة، فما عساه قائلاً لو رأى ما عليه المسلمون اليوم؟ حيث أضحى إيمانهم إيمانا نظريا يخالطه الشك، ويشوبه الجدل والمرآء، ويشاركه الهوى.
كل منا يشهد أن الموت حق، وأن النار حق، وأن الجنة حق، وأن البعث بعد الموت حق، ونحو ذلك، ولكن لا أثر لهذه الشهادة لا في عبادتنا، ولا في سلوكنا حيث يكذب عملُنا قولَنا، ويخالفُ باطنُنا ظاهرَنا.
كان بعض السلف إذا شهد جنازة لا ينتفع به لمدة ثلاثة أيام، ورأى ابن مسعود رجلاًًًًًًًًًًًًً يضحك وهو مشيع لجنازة، فقال له: أتضحك في هذا الموقف؟! والله لا أكلمك ابداً.وكان سفيان الثوري يبول الدم من شدة خوفه، وكانت مجالس الإمام أحمد كما حكى عنه تلميذه الإمام أبو داود: مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا قط.
أما مجالسنا نحن اليوم فهي مجالس الدنيا، ونادراً أن يذكر في غالبها شيء من أمر الآخرة، وحالنا عند تشييع الجنائز، وزيارتنا للقبور، التي شرعت للتذكير بالآخرة ضحك، وغيبة، وتشاغل، وفي أحسن أحوال كثير منا الإتيان ببدعة، نحو التهليل والتكبير، أوقراءة شيء من المنكرات، ولله در ابن عمر عندما سمع أحد المشيعين يقول: استغفروا للميت يغفر الله لكم! أنكرعليه قائلاً: "اسكت لاغفر الله لك، ما بهذا أمِرنا ولاهكذا كنا نفعل".
فكثير منا ينقض إسلامه في اليوم الواحد بضع مرات بدعاء واستغاثة غير الله من الأموات والأحياء، أوبنفي أوإثبات ما هو معلوم من الدين ضرورة، أوبموالاة الكافرين، والتبرء ومعاداة المؤمنين، ومنا من يترك الواجبات ويتهاون فيها، وبعضنا يقترف الكبائر وينغمس فيها صباح مساء، ولا يشعر أحد منا إلا من رحم ربك بأنه سلب إسلامه، أوارتكب منكراً من القول وزوراً.
لو حققنا إيماننا، وأسلمنا أمرنا لربنا، وأيقنا بصدق رسولنا، وأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، لما فعل أحدنا شيئاً من ذلك ولا دون ذلك.
فالذي يتخذ مع الله نداً أوشريكاً يصرف إليه شيئاً من العبادة، جليلة كانت أم قليلة، فإيمانه بالله، والرسول، وبالجنة، والنار، والموت، ونحو ذلك، أشبه بالشك أوهو بَيِّن الشك، وكذلك الحاكم الذي يحكم الرعية بغير شرع الله، ويستبدل ذلك بالدساتير والقوانين الوضعية، وكذلك المسلم الذي يوالي الكفار بالعمل في منظماتهم، والتجسس لصالحهم، ويعادي المسلمين.
وقل مثل ذلك في:
• ... المرابين التعساء الأشقياء.
• ... والفنانين، والمسيقيين، والممثلين البؤساء.
• ... والنساء الكاسيات، العاريات، الملعونات، اللائي لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.
• ... والمجادلين والرادِّين لما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• ... والمبتدعين في دين الله من العبادات ما لم ينزل به سلطاناً.
• ... والآكلين لأموال اليتامى بالظلم والعدوان.
• ... والمنتهكين لحقوق إخوانهم المسلمين.
• ... والمقترفين للفواحش والمنكرات.
• ... والغاشين في البيع والشراء وسائر المعاملات.
• ... والعاقين لآبائهم والقاطعين لأرحامهم وذويهم.
• ... والتاركين المتهاونين في الواجبات، المتجاسرين على المحرمات، وغير المبالين بالشبه والمكروهات.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" الحديث، على الرغم من أن إيمانه لم يسلب بالكلية، ولكنه ضعف ضعفاً شديداً بحيث لم يَحُل بينه وبين إرتكاب هذه المحرمات، واقتراف هذه القاذورات، وقد شبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإيمان في هذه الحال بالمظلة التي لها صلة ما بحاملها.
فعلينا جميعاً أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، وأن نزن أعمالنا قبل أن توزن علينا، وأن نتزين ليوم العرض الأكبر كما قال عمر، وأن نستعد للموت فهو آتٍ، وكل آتٍ قريب، ولنحذر أشد الحذر الأدواء المضلة، والأمراض المذلة: طول الأمل، وحب الدنيا، وكراهية الموت، واعلم أن الدنيا مطية الآخرة ومزرعتها، وأنها ليست بدار قرار، ولا تدوم على حال.(2/3)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
=================0000
المساجد هي بيوت الله في الأرض فاعرفوا لها قدرها
زخرفة المساجد وتزيينها
من الأمور التي ينبغي أن يحرص عليها عند بناء المسجد ما يأتي
أمور ينبغي أن تصان منها المساجد
المساجد هي بيوت الله عز وجل، وقد أضافها الله عز وجل إلى نفسه إضافة تعظيم وتشريف، فقال: "وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً" ، وهي أحب البقاع إليه، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحب البلاد إلى الله مساجدها".
ولهذا أوجب علينا تشييدها، وعمارتها، وصيانتها، وإكرامها عن كل ما لا يليق بها ويناسب شرفها، فقال: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب".
كان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وطئت قدماه الشريفتان دار هجرته المدينة هو بناء مسجده الذي أسس على التقوى من أول يوم، فكان المسجد هو الركيزة الأولى واللبنة الأساس في تكوين المجتمع المسلم، حيث لم يكن قاصراً على إقامة الصلوات والدروس العلمية، بل سائر نشاط المسلمين، من جهادي، وسياسي، واجتماعي، ونحوه كان منطلقه من المسجد.
وظل هذا الحال مستمراً في عهد الخلافة الراشدة وما بعدها، حتى غشيت المسلمين عصور الظلام والجهل، فاقتصرت رسالة المسجد على أداء الصلاة، وفي أحسن الأحوال إقامة الدروس، بينما نجد النواة الأولى للجامعات الإسلامية العريقة في عواصم العالم ومدنه الكبرى مثل المدينة، ومكة، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، والقيروان، وغيرها كانت في المسجد.
لقد حث رسول الإسلام وحض على بناء المساجد، ووعد مشيديها بالثواب الجزيل والأجر العظيم، لمكانتها في الإسلام، وحاجة المسلمين إليها في سائر البلاد والأزمان، فقال صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجداً ولو كمَفحَص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة".
هذا الأجر العظيم والثواب الجزيل مشروط بشرطين كسائر الطاعات، هما:
1. أن يبتغي بذلك وجه الله، كما جاء في إحدى روايات الحديث: "يبتغي به وجه الله".
2. أن يبنيه بمال حلال طيب.
لأن الله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.
لهذا قال ابن الجوزي رحمه الله: (من كتب اسمه على المسجد بناه فهو بعيد عن الإخلاص).
قال الزركشي رحمه الله: (خصَّ القطاة بالذكر دون غيرها لأن العرب تضرب به المثل في الصدق، ففيه رمز على المحافظة على الإخلاص في بنائه والصدق في إنشائه).
زخرفة المساجد وتزيينها
لقد أمر الشارع ببناء المساجد وبتشييدها وتعميرها، ولكنه نهى عن المبالغة في زخرفتها.
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد".
وروي عنه أنه قال: "إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدبار عليكم".
وعن ابن عباس رضي الله عنه: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى، ثم لا تعمرونها إلا قليلاً".
وكتب عمر رضي الله عنه لأحد عماله: "ابن لهم ما يكنهم الحر والبرد، وإياك أن تحمِّر وتصفِّر فتفتن الناس".
قال القرطبي رحمه الله: (إذا قلنا إن المراد بنيانها فهل تزين وتنقش؟ اختلف في ذلك، فكرهه قوم وأباحه آخرون.
ثم ذكر بعض الآثار السابقة التي تنهى عن الزخرفة.
وقال: احتج من أباح ذلك بأن فيه تعظيم المساجد، والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله: "في بيوت أذن الله أن ترفع"، يعني تعظم، وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي بالساج وحسنه، وقال أبو حنيفة: لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه، وذلك في زمن ولايته، وذكِرَ أن الوليد بن عبد الملك أنفق في عمارة مسجد دمشق وفي تزيينه مثل خراج الشام ثلاث مرات، وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام بنى مسجد بيت المقدس وبالغ في تزيينه).
قلت: الآثار التي تنهى عن المبالغة عن زخرفة المساجد وتزيينها أحق بالاتباع، والمهم كما قال عمر: أن يكون المسجد واسعاً يقي الناس الحر والبرد والمطر، ولا مانع من الزخرفة والتزين غير المبالغ فيهما من باب تعظيم شعائر الله وإكرام بيوته في الأرض.
من الأمور التي ينبغي أن يحرص عليها عند بناء المسجد ما يأتي
1. أن تكون المحلة، أوالحارة، أوالقرية، أوالحي في حاجة إلى مسجد، حيث نلاحظ كثرة المساجد في بعض الأحياء، وندرتها أوعدمها في أماكن أخرى هي في أمس الحاجة إليها.
2. الحرص أن يكون للمسجد وقف ثابت بقدر المستطاع يستفاد من ريعه في صيانته وتجهيز ما يحتاجه من فرش ونحوه.
3. الاهتمام بدورات المياه والمواضئ والعناية بنظافتها وتهيئتها.(2/4)
4. توفير الماء، سواء كان بحفر بئر أوعمل خزانات ونحو ذلك.
5. اختيار إمام كفء مقتدر، وأن لا تكون الإمامة خاضعة للأهواء أوأن تورث.
6. اختيار مؤذن وعمال لحراسة المسجد ونظافته ممن يقدرون المسجد قدره.
7. تشجير المسجد.
8. تنظيفه وتجميره.
9. الاهتمام بتهوية المسجد وتكييفه إن أمكن ذلك.
أمور ينبغي أن تصان منها المساجد
إنما بنيت المساجد لذكر الله، ولإقامة الصلاة، ولتعليم الناس أمور دينهم، ولهذا لابد أن تصان من بعض الأمور التي لا تليق ولا تناسب الأغراض التي بنيت المساجد من أجلها.
سنشير في هذه العجالة إلى أهم تِلك الأمور، وهي:
1. لا يُقبَر في المسجد أحد، لا أمام القبلة ولا في الجهات الأخرى، مهما كان الموصي بذلك، فلا تنفذ وصيته، ولو كان الذي بناه، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقال: "إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد".
2. إنشاد الضوالِّ في المسجد.
3. أن يتخذ المسجد مكاناً للإعلانات عن الأفراح والأتراح.
4. الصخب ورفع الصوت في المسجد، إلا في العلم، وقد كره مالك أن يرفع الصوت في المسجد ولو كان في حلقة علم.
5. تجنيبه الروائح الكريهة.
6. البيع والشراء ولو في رحاب المسجد، ولو عن طريق الجوالات.
7. دخول الكفار، حيث أصبحت المساجد الأثرية في بعض البلاد أماكن يرتادها السواح الكفار والنساء العاريات.
8. لا يشهر فيه سلاح.
9. لا يقام فيه حد من حدود الله عز وجل.
10. لا يتخذ مسكناً دائماً اللهم إلا لغريب أومحتاج، مع مراعاة الآداب المتعلقة به.
11. يجنب السماع الصوفي، وعمل الموالد والحوليات.
12. يجنب المجانين والأطفال إلا إذا كانوا بصحبة آبائهم وذويهم.
13. إنشاد الأشعار الماجنة أوالتي فيها هجاء ونحوها.
14. لا تمارس فيه أي حرفة من الحرف ممن يقيمون فيه ولا غيرهم.
15. تعليق لوحات ولو كان فيها آيات وأحاديث، إلى جهة القبلة خاصة.
16. إيقاف الأجراس في الساعات الحائطية التي تعلق بالمساجد.
17. الأوساخ، والقاذوات، والمخاط، والبزاق، وما شاكل ذلك، فهي من الخطايا العظيمة في المسجد.
18. الحرص على أخذ الزينة في المساجد، وتجنب الثياب المتسخة ذات الروائح الكريهة.
19. لبس ما فيه صورة من الثياب، ولبس الملابس التي تصف العورة أوتكشفها.
20. التجمر بحيطان المسجد، أوالبول والتغوط حول أسواره، وكذلك النهي عن الحجامة والفَصْد فيه.
21. تعليم الصبيان غير المميزين، والأفضل أن يكون ذلك في ملحقات بالمسجد
والله أسأل أن يعيننا على تعظيم حرمات الله وتقدير شعائره، وأن يرزقنا الأدب في بيوته ومساجده
=================00000
أيها المسلمون "اتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة"
"فإن حرَّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد"
من الأدواء الخبيثة، والأمراض الخسيسة، أعني أمراض القلوب المعنوية التي هي أخطر وأشد من أمراض الأبدان الحسية، الغفلة، وطول الأمل، والتسويف، وحب الدنيا، وكراهية الموت.
حيث أضحى لا تنفع معها ذكرى، ولا تفيد بسببها موعظة ولا فكرة، ولا يؤثر في النفوس زجر ولا تخويف، ولا آية ولا حديث، لأن الغفلة بلغت مداها، والتسويف وطول الأمل غاية مناها.
هذا هو الفرق بيننا وبين سلفنا الأطهار وسادتنا الأخيار، كان أملهم في الدنيا قصير، وخوفهم من الله وأهوال الطامة وأن تحبط أعمالهم كبير، ولم يأمنوا مكر الله كما أمنا نحن، فالمؤمن يجمع بين العمل والخوف، والمنافق يجمع يبن الأمل والتقصير.
قال الحسن: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإن الكافر جمع إساءة وأمناً.
يقول ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه.
وعندما سئل الحسن البصري رحمه الله: أتخاف من النفاق؟! قال: وما يؤمنني وقد خافه عمر رضي الله عنه.
وكان طاوس اليماني إذا مر ببائع الرؤوس وقد رآه يخرج رأساً مشوياً غشي عليه، ولم يتعش تلك الليلة.
وقال سفيان بن عيينة: خلق الله النار رحمة يخوِّف بها عباده لينتهوا.
وكان صهيب بن سنان رضي الله عنه إذا ذكر الجنة طال شوقه لها، وإذا ذكر النار طار نومه خوفاً منها، كما وصفته زوجه رضي الله عنها.
ذكرني شدة الحر في هذه الأيام قوله صلى الله عليه وسلم: "إن النار اشتكت إلى ربها سبحانه وتعالى قائلة: يا رب! أكل بعضي بعضاً؛ فجعل لها نَفَسَين، نَفَساً في الشتاء ونَفَساً في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها".
وقول ابن عمر رضي الله عنهما ناصحاً لإخوانه المسلمين ومحذراً لهم من نار الجحيم: "احذروا النار، فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد"، أوكما قال.
إي وربي، فإن نار الآخرة التي هي سبعون ضعفاً من نار الدنيا حرها شديد، ولو كانت مثل نار الدنيا لكفت، ولزجرت أصحاب القلوب والنهى.(2/5)
وهل تدري أخي المسلم أن قارون الذي خسف به منذ أمد بعيد لا زال يجلجل فيها لم يصل قعرها؟
وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟! قال: قلنا: الله ورسوله أعلم؛ قال: هذا حَجَر رمي في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار حتى انتهى إلى قعرها".
هذه النار التي وصفها لنا ربنا ورسولنا، ولا ينبئك مثل خبير، النار التي لا تفنى ولا تبيد، والتي لأهلها الخالدين فيها زفير وشهيق، النار التي لا تمتلئ بل تطلب المزيد، النار التي طعام أهلها الغسلين، وشرابهم الحميم، كشرب الهيم، الواجب على كل مسلم أن يقي نفسه ويسعى لوقاية أهلها منها، عملاً بوصية ربنا سبحانه وتعالى، اللطيف الرحيم بعباده، والناصح الكريم: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون".
واتقاء النار ليس بالأمر العسير لمن وفقه الله لذلك، فقد نجى الله بغياً من بغايا بني إسرائيل لسقيها كلباً كان يأكل الثرى من العطش، حيث تدلت في بئر وحملت له ماءً في موقها، فشكر الله لها هذا الصنيع، فغفر لها، وأدخلها الجنة، ونجاها من النار.
وقد أرشد رسولنا إلى ما هو أيسر من ذلك، إلى التصدق ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة، حيث قال: "من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل".
وعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة".
وزاد ابن حجر: "ولو بكلمة طيبة".
فالصدقة قليلة كانت أم كثيرة، إن كانت من صادق ومن كسب طيب، والله لا يقبل إلا طيباً، من أجل القربات، وهي تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، فعليك أخي المسلم أن لا تستحي من أن تتصدق بما تملك، شريطة أن تكون طيبة بذلك نفسك.
قال الإمام النووي في شرح الحديث السابق: (وفيه الحث على الصدقة وأنه لا يمتنع منها لقلتها، وأن قليلها سبب للنجاة من النار).
وقال المناوي: ("اتقوا النار" أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية، أي حجاباً من الصدقة، ولو كان الاتقاء بالتصدق بشيء قليل جداً مثل شق تمرة، أي جانبها، أونصفها، فإنه يفيد، فقد يسد الرمق، سيما للطفل، فلا يحتقر المتصدق ذلك، فلو هنا للتقليل كما تقرر، وهو معدود من معانيها كما في المغني عن اللخمي وغيره، وقد ذكر التمرة دون غيرها كلقمة طعام لأن التمر غالب قوت أهل الحجاز، والاتقاء عن النار كناية عن محو الذنوب، "إن الحسنات يذهبن السيئات"، "أتبع السيئة الحسنة تمحها"، وبالجملة ففيه حث على التصدق ولو بما قلَّ.
إلى أن قال: ("بكلمة" أي فاتقوا النار بكلمة طيبة تطيِّب قلب السائل مما يتلطف به في القول والفعل، فإن ذلك سبب للنجاة من النار، وقيل: الكلمة الطيبة ما يدل على هدى، أويرد عن ردى، أويصلح بين اثنين، أويفصل بين متنازعين، أويحل مشكلاً، أويكشف غامضاً، أويدفع تأثيراً، أويسكن غضباً).
قلت: أعمال الخير كثيرة ومتنوعة، وأسباب دخول الجنة والنجاة من النار لا تحصى، وكل ميسر لما خلق له، فمن الناس من يسر لقضاء حوائج الناس، ومنهم من فتح له في الصلاة، أوالصيام، أونشر العلم، وهكذا، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
فالسعيد كل السعادة من زحزح عن النار وأدخل الجنة، والتعيس الشقي من حرم جنة عرضها السموات والأرض كما أخبر الصادق المصدوق: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيتَ خيراً قط؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب؛ ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيتَ بؤساً قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيتُ شدة قط" الحديث.
اللهم إنا أطعناك في أحب الأمور إليك وهو التوحيد، ولم نعصك في أبغض الأمور إليك وهو الشرك، فاغفر لنا ما دون ذلك، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة، وصلى الله وسلم وبارك وعظم على النبي الأمي الكريم، وعلى صحابته والتابعين
=================000
الدِّينُ رأسُ المالِ فاستمسِكْ به ** فضياعُه من أعظمِ الخُسْران
لقد صدق الإمام القحطاني في نونيته الشهيرة كلها وأجاد، سيما في قوله:
الدين رأس المال فاستمسك به فضياعه من أعظم الخسران
إي وربي، فالدين هو رأس المال الحقيقي، وكل ما يناله العبد في هذه الحياة الدنيا من متاع هو تابع وربح لهذا الدين، وإذا فقد رأس المال فقد معه كل خير، وخسر كل شيء.
ماذا تعني الحياة وما فائدتها؟ إذا ذهب دينك، وضاعت عقيدتك، وسفرت وتبرجت حريمك، وفسدت أخلاقك، وخسرت أبناءك؟(2/6)
ما طعم الحياة إذا أضحى الإنسان كالسائمة، همه ملأ بطنه، وتحقيق شهواته، والاستجابة إلى نزواته؟
ماذا ينتظر المؤمن إذا سلب حلاوة الإيمان؟ "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يبغض أن يعود إلى الكفر كما يبغض أن يلقى في النار" الحديث، وأصبح يعيش كما يعيش الحيوان؟ من غير ولاء ولا براء، ولا خوف ولا استحياء؟
كيف يهدأ بالك، وتطمئن نفسك، وتسعد حياتك؟ واليهود والنصارى وعملاؤهم قد ملكوا أمرك، وغزوا ديارك؟ واستولوا على حياضك؟ وجاءوا عند بابك وأذلوا كبرياءك؟ وداسوا كرامتك، وأيموا نساءك، ويتموا أطفالك؟ وقتلوا شبابك وصبيانك؟ وعاثوا فساداً في فتياتك، ونهبوا ثرواتك؟
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
لقد أذل الكفار الأعزاء من أبناء الأمة، وأكرموا الأذلاء، وحرموا العلماء من الخطابة والحديث والتدريس، وأنطقوا الرويبضة، وفسحوا المجال للعملاء والسفهاء فتطاولوا على الكبراء الأجلاء، وأشانوا سمعة الأخيار الفضلاء، لقد غيروا الموازين، وخلطوا بين المفاهيم، وأساءوا إلى المحسنين، وأحسنوا إلى المسيئين.
ليس للخروج من هذه المحن من سبيل إلا بالاستمساك بحبل الله المتين، والاعتصام بسنة سيد المرسلين، والاقتداء بالسلف الصالحين، والعود إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الميامين.
ولا يتم ذلك إلا بتصحيح العقائد، ونبذ اليأس والقنوط والخلاف، وبالعزم والإصرار، وموالاة جميع المسلمين، وبذل النصح والتوجيه لكافة إخوة الدين، وبدعم المجاهدين ومواساة الفقراء والمساكين، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
والله المسؤول أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يلهمهم رشدهم وصوابهم، وأن يلم شعثهم، ويعينهم على أنفسهم وعدوهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، لا رب سواه، ولا إله غيره، وصلى الله على نبي الملحمة الضحوك القتال، وعلى آله وصحبه الأخيار، وعلى أتباعهم بإحسان
=================000000
أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرِّق الجماعات
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا القائل: "أكثروا من ذكر هادم اللذات"، الموت، مفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم الأزواج والزوجات، وقاطع الأعمال الصالحات، المقرب إلى العرصات، المجرع للحسرات، الناقل من البيوت والقصور إلى القبور الموحشات، المفجع للأهل والقرابات، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم في الخيرات.
من العجيب الغريب أن كثيراً من الناس لا يذكرون الموت ولا يحبون أن يذكَّروا به، ومنهم من يتشاءم بمن يذكره بذلك، وينبهه لما هنالك، كأنما كتب الموت على غيرهم، ونسوا أوتناسوا أن الأحياء جميعاً هم أبناء الموتى، وذراري الهلكى، أين الآباء والأجداد؟ بل أين بعض الأبناء، والازواج، والأقارب، والجيران، والأحفاد؟
ما منا من أحد إلا ومعه أصل شهادة وفاته، فقد نعى الله إلينا رسولنا، ونعانا إلى أنفسنا، فقال: "إنك ميت وإنهم ميتون"، وما يستخرج من شهادة بعد الوفاة إنما هي صورة طبق الأصل لما سجله الملائكة للعبد وهو في رحم أمه، ورحم الله ابن الجوزي حين قال في قول الله عز وجل: "كل من عليها فان": (هذا والله توقيع بخراب الدنيا)، إي وربي، إنه توقيع وأي توقيع! ليس فيه تزوير، لا يقبل المراجعة، ولا تجدي فيه الشفاعة.
فالموت لا يميز بين صغير وكبير، ولا صحيح وسقيم، ولا غني وفقير، ولا أمير ووزير وغفير، ولا عالم ولا جاهل،ولا بر ولا فاجر: "إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون".
رحم الله العلامة الشهير، والشاعر المجود القدير، والواعظ الناصح البصير، أبو إسحاق الألبيري حين قال مذكراً ابنه أبا بكر بأن الموت لا يفرق بين صغير وكبير، في قصيدته الشهيرة التي حث فيها ابنه على طلب العلم والاشتغال به، التي مطلعها:
تفتُّ فيؤادك الأيامُ فتاً وتنحتُ جسمكَ الساعاتُ نحتا
وتدعوك المنونُ دعاءَ صدق ألا يا صاح أنت أريدُ أنتا
أراك تحب عِرْساً ذات خدر أبتَّ طلاقها الأكياسُ بتا
تنام الدهر ويحك في غطيط بها حتى إذا مت انتبها
فكم ذا أنت مخدوع وحتى متى لا ترعوي عنها وحتى
أبابكر دعوتك لو أجبتَ إلى ما فيه حظك لوعقلنا
إلى علم تكون به إماماً مطاعاً إن نهيتَ و إن أمرتا
إلى أن قال:
ولا تقل الصبا فيه امتهال وفكر كم صغير قد دفنتا
وقال مذكراً نفسه على لسان ابنه:
تقطعني على التفريط لوماً وبالتفريط دهرك قد قطعتا
وفي صغري تخوفني المنايا وما تدري بحالك حيث شبتا
وكنتَ مع الصبا أهدى سبيلاً فمالك بعد شيبك قد نكثتا
وناداك الكتاب فلم تجبه ونبهك المشيب فما انتبهتا
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتا
ونفسك ذم لا تذمم سواها لعيب فهي أجدر من ذممتا
وأنت أحق بالتنفيذ مني و لو كنت اللبيب لما نطقتا(2/7)
ولو بكت الدُّما عيناك خوفاً لذنبك لم أقل لك قد أمنتا
ومن لك بالأمان وأنت عبد أمرتَ فما ائتمرت ولا أطعتا
الأدواء العصيبة والأمراض المهلكة التي تحول بيننا وبين تذكر الموت والاستعداد له هي أمراض القلوب المعنوية: حب الدنيا، وطول الأمل، والغفلة، وكراهية الموت، وذلك لأن كثيراً منا إيمانه بالموت إيمان نظري شبيه بالشك، كما قال الخليفة الراشد والعبد الصالح عمر بن عبد العزيز: (لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت، موقنون أنه حق ولكن لا يعملون له)، أوكما قال.
إذا أردت الخلاص من هذه الأدواء المضلة المذلة فعليك بوصية رسولك صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أوعابر سبيل".
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
قال النووي رحمه الله: (قالوا في شرح هذا الحديث، معناه: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، وبالله التوفيق).
هذا هو الداء المانع من ذكر الموت والاستعداد له: حب الدنيا، وطول الأمل، ينتج منه كراهية الموت، وهذا هو الدواء: التقلل من الدنيا، والعزوف عنها، المؤدي إلى الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحارث بن مالك الأنصاري عندما سأله: كيف أصبحتَ؟ فقال: أصبحتُ مؤمناً حقاً؛ فقال له: لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأقمتُ ليلي وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها؛ قال له: يا حارث، عرفتَ فالزم، عرفتَ فالزم، عرفتَ فالزم".
إليك أخي الكريم أنموذجاً واحداً من سلف هذه الأمة، ممن عرفوا قدر الدنيا فعزفوا عنها، وقد جاءتهم راغمة، وأدركوا مصيبة الموت، ومآل المقبورين، وحال الهالكين، فاستعدوا لذلك، وشمروا لما هنالك، ذلكم هو عمر بن عبد العزيز رحمه الله، لعل الله ينفع بها، فالذكرى تنفع المؤمنين.(2/8)
روى ابن الجوزي رحمه الله في سيرة عمر بن عبد العزيز له عن أبي فروة قال: (خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني أمية، فلما صلى عليها ودفنت قال للناس: قوموا؛ ثم توارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد أبطأت فما الذي حبسك؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني أبي، فسلمتُ فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأحبة؟ قلت: ما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت العينان؟ قلت: وما لقيت العينان؟ قال: قدعت المقلتان، وأكلت الحدقتان؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأبدان؟ قلت: وما لقيت الأبدان؟ قال: قطعت الكفَّان من الرُّسغين، وقطعت الرسغان من الذراعين، وقطعت الذراعان من المرفقين، وقطعت الكتفان من الجنبين، وقطعت الجنبان من الصلب، وقطع الصلب من الوركين، وقطعت الوركان من الفخذين، والفخذان من الركبتين، وقطعت الركبتان من الساقين، وقطعت الساقان من القدمين؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، عليك بأكفان لا تبلى؛ قلت: وما الأكفان التي لا تبلى؟ قال: اتقاء الله والعمل بطاعته؛ ثم بكى عمر، وقال: ألا وإن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وشابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، فالمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها؟ أقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغروا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم والله كانوا في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعها، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، مر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم، وسل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون، وعن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان؟ امحت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، وقبحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، فأين حجالهم وقبابهم؟ وأين خدمهم، وعبيدهم، وجمعهم، ومكنوزهم؟ والله ما زادوهم فراشاً، ولا وضعوا هنالك متكأ، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات؟ أليس عليهم الليل والنهار سواء؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة، فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم متمزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبّت دواب الأرض في أجسادهم، ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، وصاروا بعد السعة في المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرقات أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناظر فيه، المتنعم بلذته.
يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا؟ هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمرك الحاضر ينعه؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وأين بخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟ أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، ويتقلب في سكرات الموت وغمرته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاءه من الأجل ما لا يمتنع منه، هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ والولد، وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر راجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى؟ يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى؟ يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، يا ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا؟ وما يأتيني به من رسالة ربي.
ثم تمثل بهذه الأبيات:
تسرُّ بما يفني وتشغل بالصبى كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور لهو و غفلة و ليلك نوم والردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم
ثم انصرف، فما بقي بعد ذلك إلا جمعة)، أي أسبوعاً.
اللهم إنا نسألك أن تقيل العثرات، وتغفر الزلات، وتبدلها حسنات، وتستعملنا في الطاعات، وتشغلنا بما يهمنا في الحياة وبعد الممات، وأن تطيبنا للممات، وأن تستر الخطيئات، وأن تغفر للآباء والأمهات، وأن تصلح الأزواج والذريات، إنك ولي ذلك والقادر عليه، لا رب سواك، ولا إله غيرك.
=================0000
احذر أخي المسلم اجتماع سكرة الموت مع حسرة الفوت(2/9)
الحمد لله الذي كتب الموت على كل حي، ولم يستثن منهم أحب خلقه وعباده إليه، بل أذاقه رسله وأنبياءه، بله وأصفى أصفيائه وأحب أحبائه محمداً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، فقال عز من قائل: "إنك ميت وإنهم ميتون"، وقال: "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متَّ فهم الخالدون. كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون"، وقال: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أوقتل انقلبتم على أعقابكم"، وصحَّ فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: "وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد منه".
وبعد..
جاء في تفسير قوله تعالى: "والتفت الساق بالساق"، كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله عن كثير من السلف: "أن المراد بذلك اجتماع سكرة الموت مع حسرة الفوت"؛ فلا يسأل عن عن سوء حاله، ولا رداءة مآله.
فالسعيد من طاب للموت وطاب له الموت، فجعل يشتاق إلى لقاء ربه لاستعداده لذلك، وتوقعه لما هنالك، والشقي من اجتمعت عليه الحسرتان، وتطابقت عليه الشدتان، واستبان له الخسران، وواجه مغبة التسويف، والمماطلة، والنسيان.
اعلم أخي الكريم أن للموت سكرات وأي سكرات؟! قال تعالى: "وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد"؛ وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن للموت سكرات"؛ وروي: "إن الموت أشد من ضرب بالسيوف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض"؛ ولهذا قال عيسى عليه السلام: "يا معشر الحواريين ادعو الله أن يهوِّن عليكم هذه السكرة"، وقال لحوارييه: "ادعو الله أن يخفف عني الموت، فقد خفت الموت خوفاً أوقفني مخافة الموت على الموت"؛ وروي عنه أنه لما قبض إبراهيم عليه السلام قال له عز وجل: "كيف وجدتَ الموت؟ قال: يارب، كأن نفسي تنزع بالسَّلى؛ فقال: هذا وقد هونا عليك الموت"؛ وقال لموسى: "كيف وجدت طعم الموت؟ قال: وجدته كسفود أدخل في صوف فاجتذب؛ قال: هذا وقد هونا عليك الموت".
إذا كانت هذه حال أولي العزم عند الموت، وقد هونه الله عليهم، فكيف تكون حالنا نحن يا ترى؟!
إن كنا نحن أبناء الموتى، وأن الله نعى إلينا نبينا صلى الله عليه وسلم ونعانا إلى أنفسنا، فما منا من أحد إلا وهو يحمل أصل شهادة وفاته، وما يستخرج له من شهادة بعد وفاته إن هي إلا صورة من تلك الشهادة: "إنك ميت وإنهم ميتون"، "كل نفس ذائقة الموت"، التي هي توقيع بخراب الدنيا، كما قال الحافظ ابن الجوزي؛ نعى رجلٌ لرجلٍ أخاه وقد وجده يتغدى، فقال: ادنُ تغدَّ، فقد نُعِيَ إليَّ أخي من قبل؛ فتعجب الرجل، من نعاه إليه وهو أول قادم؟ فتلى عليه: "إنك ميت وإنهم ميتون"؛ وأرواحنا عارية في أجسادنا، ولابد لصاحب العارية من ردها وقبضها.
لهذا علينا أن نكثر من ذكر هادم الذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم الأزواج والزوجات، ومنغص العيشات، وعلينا أن نستعد له بتجديد التوبات، والحرص على الطاعات، والبعد عن المحرمات، والاستعداد للممات، والحذر من اجتماع الحسرات، والانغماس في الشهوات، واغتنام الفرص، والاستفادة من الأوقات.
ألم تعلم أخي الكريم أن إسرافيل ملتقم بوقه للنفخة الأولى قبل حين؟ وأن الساعة كادت أن تسبق بعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ؟ وأن أعمار هذه الأمة تتراوح بين الستين والسبعين، وقليل من يجاوز ذلك؟ فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك"، وقال: "أعذر الله إلى من بلَّغه ستين من عمره"، وروي عنه أنه قال: "معترك المنايا بين الستين إلى السبعين"، وفي حديث آخر: "إن لكل شيء حصاداً، وحصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين"، وفي هذا المعترك قُبض النبي صلى الله عليه وسلم، قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ لنفسه كفناً؛ وقال وهب بن الورد: إن لله ملكاً ينادي في السماء كل يوم وليلة: أبناء الخمسين زرع دنا حصاده، أبناء الستين هلموا إلى الحساب، أبناء السبعين ماذا قدمتم؟ وماذا أخرتم؟ وأبناء الثمانين لا عذر لكم.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة؛ قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ؛ فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ فقال الفضيل: من علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، وأنه مسؤول، فليعد للمسألة جواباً؛ فقال الرجل: ما الحيلة؟ قال: يسيرة؛ قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأتَ فيما بقي أخذتَ بما مضى وبقي.(2/10)
وأنت أخي الشاب، لا تأمن مكر الله، ولاتأمن الموت، ولا تظنن أنك في أمان منه، فقد يموت الصغير، ويعمر الشيخ الكبير، ويهلك الصحيح، ويصحُّ المريض؛ فكم من صغير دفنتَ، وشاب وشابة واريتَ؟ وكم من عروس قبرتَ؟ وشيخ عجوز عاصرتَ؟ فقد مات أبناء وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم قبله إلا فاطمة، ومات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قبله، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
ولله در الإمام أبي إسحاق الألبيري، حيث قال يعظ ابنه أبا بكر، ويحثه ويحضه على طلب العلم، والاستعداد للدار الآخرة، في قصيدته التي مطلعها:
تفتُّ فؤادك الأيامُ فتا وتنحتُ جسمك الساعات نحتاً
وتدعوك المنونُ دعاء صدق ألا يا صاح أنتَ، أريد أنتَ
قال مذكراً ابنه أن الموت ليس قاصراً على الكبار دون الصغار:
ولا تقل الصبا فيه امتهال وفكر كم صغيراً قد دفنتَ
كان آخر خطبة خطبها العبد الصالح، والإمام العادل، والخليفة الراشد، عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أن قال فيها: (إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتودعونه، وتدعونه في صدع من الأرض، غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنياً عما خلف، فقيراً عما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت، وانقضاء مواقيته، وإني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه؛ ثم رفع طرف ردائه، وبكى حتى شهق، ثم نزل، فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه).
فالحذر الحذر أخي الكريم من الغفلة وطول الأمل، وحب الدنيا، وكراهية الموت، فهذه أدواء مضلة، وأمراض مذلة، وأماني مخلة.
فالعاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واعلم أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، واحرص أن لا يكون يقينك بوعد الله وبالمغيبات شبيهاً بالشك، سيما الموت.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت، موقنون أنه حق، ولكن لا يعملون له"؛ فمن كد وجد، ومن زرع حصد، ومن اجتهد نجح، ومن عمل أفلح.
واعلم أن دوام الحال من المحال، فاليوم في الدور وغداً في القبور، واتق ليلة فجرها يوم القيامة، واعمل لدار السلامة، ولا تعجز فتكون في دار الندامة، فيس هناك إلا داران.
قال القحطاني رحمه الله في نونيته:
يوم القيامة لو علمتَ بهوله لفررتَ من أهل ومن أوطان
يومٌ تشققت السماءُ لهوله تشيب فيه مفارقُ الولدان
يوم عبوسٌ قمطريرٌ شرُّه في الخلق منتشرعظيم الشان
والجنة العليا و نار جهنم داران للخصمين دائمتان
يوم يجيء فيه المجرمون إلى لظى يتلمظون تلمظ العطشان
فكن أخي الكريم من الكيسين، عباد الله الفطنين، ولا تكن من المغرورين المخدوعين:
إن لله عباداً فطناً طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطناً
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفناً
أقول كل هذا ولا أعلم أحداً عنده من الذنوب، وعليه من الوزر، ويحمل من التقصير، والتفريط، والتسويف أكثر مني، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
وأخيراً أقول كفى بالقرآن مذكراً، وبالرسول صلى الله عليه وسلم مبشراً ومنذراً، وبالموت واعظاً، وبالدهر مفرقاً.
اللهم يسرنا لليسرى، وانفعنا بالذكرى، واجعلنا ممن يخشاك في السر والنجوى، وممن يتقيك حق التقوى، وممن ختمتَ له بالحسنى، وجعلتَ عاقبته الفردوس الأعلى، وألحقت بهم أزواجهم، وذرياتهم، وذويهم، وأحبابهم، في الجنات العلى، وصلى الله وسلم وبارك على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، محمد، وعلى آله وصحبه السادات النجباء، والأكارم الفضلاء، ما أقلت أرض وأظلت سماء.
=================00000000
ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة
لكل منا همة تسكن قلبه.. وتيسر دربه.. ويخطط على منوالها مستقبله، والهمم تتفاوت بين البشر، فشتان بين همة في الثرى وأخرى في الثريا، وعلو الهمة مبتغى كل إنسان ناجح يتطلع إلى حياة أفضل، بيد أن شروطها هنا يراد بها وجه الله تعالى، وأن تكون عونا على البذل والعطاء لهذا الدين إذن نحن لا نقصد علو الهمة لذاته.. فذلك يتساوى فيه الكافر والمسلم لا فرق بينهما.. بل نحن نبحث عن التميز الذي ميزنا به ديننا لذا أين نصرف همتنا وكيف؟!! وحتى لا نطيل فلندخل إلى الموضوع مباشرة:
لماذا نريد أن تعلو الهمم ؟(2/11)
أول سؤال نسأله في هذا الموضوع هو لماذا نريد أن تعلو الهمم ؟! وهذا هو السؤال الذي بادرتنا به الأخت الداعية الدكتورة رقية المحارب مديرة عام الإدارة العامة لتوجيه وإرشاد الطالبات والوكيلة المساعدة لشؤون الطالبات، حيث أردفت قائلة: هل هو مجرد انسياق وراء رغبة الوالدين أو المجتمع أو المدرسة ؟ أم هو مطلب النفس والشخصية المتميزة؟ إن الإجابة على هذا السؤال هو مفتاح النجاح وطريق الإبداع .
وإذا علمتْ أختي الكريمة أن دنو همتها فيه ضياع لكنوز كثيرة داخلها، وطاقات عظيمة تتمتع بها، فإنها سوف تبدأ في التأمل والمحاسبة لكيفية قضاء وقتها، وإن الذين يفكرون في كيف سيكون مستوى تفكيرهم بعد عشرين سنة، وكيف ستكون ثقافتهم، وكيف علاقاتهم ونجاحاتهم سوف يعملون على التخطيط للنجاح منذ اليوم الأول وإذا كان هذا التفكر ولد حرصاً عند كثيرين وكثيرات وهو لا يتعدى هموم ونجاحات فترة زمنية مؤقتة وهي هذه الحياة الدنيا القصيرة، فكيف بمن يفكر في حياته الخالدة في الآخرة؟!
إن فترة الشباب هي زمن الأحلام ووقت تشكل العقلية المبدعة المعطاءة فتلك التي لا تتعدى اهتماماتها ملابس تتأنق فيها، أو أخبار التافهين تتابعها، أو أمور ترفيه صرفت وقتها الثمين فيه، كيف يمكن أن تضيف لحضارة أمتها؟!
أسباب علو الهمة
وقد ذكرت الأخت الدكتورة الفاضلة الأسباب التي تؤدي إلى دنو الهمة حيث قالت (وأكثر الأشياء التي تؤدي إلى دنو الهمم في نظري هو الجهل الجهل بالنفس وبدورها في هذه الدنيا، وكذلك الجهل بهذا الدين وعظمته، والجهل بالأحكام الشرعية، والبعد عن الأجواء العلمية التي تعطرها آيات الكتاب المبين وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إن التي تجهل أن هذه الدنيا مزرعة للآخرة حيث الخيرات الحسان، والنعيم المقيم، وحيث الراحة والسعادة الأبدية سوف تخسر كثيرا، وهذه الخسارة فادحة؛ لأن مجرد كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ولأن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولأن السيئة بمثلها، ولذلك يا لخيبة من غلبت سيئاته حسناته رغم هذا الفضل والإكرام !!
وثاني الأسباب العجز والكسل ولذلك أكثر النبي صلى الله عليه وسلم التعوذ منهما .. الكسل في أمور الدراسة شيء سيئ، والكسل في الدعوة وعدم ابتكار طرق ووسائل جديدة أمر مزعج، والكسل في تكوين علاقات طيبة تكون بداية لأخوة في الله تكسب حلاوة في هذه الدنيا والكسل في طلب العلم ينتج شخصية معتمدة على الآخرين في كل شيء، والكسل في القيام بحقوق الناس من خوارم المروءة كل هذا يصِمُ صاحبه بدنو الهمة .
وثالث هذه الأسباب سماع الباطل من الغناء وقراءة الروايات الهابطة من مثل روايات نجيب محفوظ أم غيره
وكذلك مشاهدة المسلسلات والبرامج التي تقضي على الحياء وتشجع على الرذيلة وتهون من شأن القيم والمبادئ الإسلامية، وتحرض على التمرد على الآداب.. وهذا كله باسم الحرية الشخصية. فهذا السماع يقضي على الخير في الشخصية السوية، ويجعل منها شخصية تجري وراء ملذاتها من غير اعتبار لأي فضيلة فأي خسارة في الدنيا والآخرة يكتسبها صاحب هذا المسلك؟!
ورابع الأسباب ترك صحبة الأخيار، وصحبة من لا ترعى واجبات ربها.. فالأخلاق تنتقل بالمجالسة والمزاملة!!
وحين نقرأ آيات الله تعالى نرى من النصوص ما يُرغّب في معالي الأمور ويحفّز عليها ومنها أنه تعالى أثنى على أصحاب الهمم العالية وفي طليعتهم الأنبياء والرسل وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى :{فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} [الأحقاف 35] وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات فقال عز وجل {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} [الحديد: 21] وقال تعالى:{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } [آل عمران: 133] وقال تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون}[الصافات61] وقال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتافسون} [المطففين: 26] وختمت الدكتورة الفاضلة حديثها بنصيحة أخوية جاء فيها: "فلتحرص أختي على أن تكون في أسرتها ومدرستها وجامعتها منبراً للخير، مدافعة عن قيمه ولتكن قدوتها أمهات المؤمنين والصالحات. آسية، ومريم، والصالحات من سلفنا.. وأتمنى لكل من تقرأ هذه العبارات أن تتأملها وتفكر فيها وتجعل لنفسها مشروعاً ينفعها الله به وينفع بها أمتها".
سفاسف الأمور ودنو الهمة
ثم شاركتنا الأخت الداعية الأستاذة نادية الكليبي، حيث ذكرت أن هناك أسباباً كثيرة لظاهرة دنو الهمة وفي الوقت ذاته تعد مانعاً لعلو الهمة ولا بد للفتاة المسلمة من معرفة تلك الموانع التي تقف في طريق سيرها إلى الهمة العالية والمطالب السامية وقد حصرت تلك الأسباب بإيجاز وهي كما يلي:(2/12)
أولاً: الانشغال بسفاسف الأمور وغيبة الاهتمامات الجادة وهذا السبب في الواقع يعد نتيجة وأثرا لغياب علو الهمة، وهو في الوقت نفسه يعد مانعاً يمنع المسلمة عن معالي الأمور، فالمرأة المسلمة المعاصرة لديها قائمة طويلة من الاهتمامات غير الجادة، ولنضرب لذلك مثالاً: الاهتمام بالجمال والزينة واللباس، وهذه ظاهرة أصبحت متفشية نوعاً ما بين طبقات مختلفة ولا يستعجل القارئ الكريم فيفهم من حديثنا أننا ضد الجمال المباح والزينة المعتدلة ! فلا يمكن هذا والله تعالى يقول {قل من حرم زينة الله التي أخرج بعباده والطيبات من الرزق.. } [الأعراف: 32] فالمطلوب هو الاعتدال وألا يكون هماً في ذاته.. فليس الخطأ في الممارسة ذاتها ولا يعيب المرأة المسلمة أن تهتم بجمالها وزينتها وأن تختار ما يتناسب مع شكلها وإنما الخطأ أن يكون ذلك الجمال هدفاً أسمى، وهماً كبيراً. يصرف من أجله المال والوقت والجهد وكذلك الفكر!!
ثانياً: ومن الأسباب أيضاً هشاشة البِنية التربوية التي قامت عليها المرأة المسلمة، ولا شك أن التربية منذ الصغر على معالي الأمور من أهم الأشياء التي تعين المرء على اكتساب المطالب العالية مهما صعبت.
ثالثاً: ومن أسباب دنو الهمة الحرب الموجهة للمرأة المسلمة المتمثلة في الغزو الفكري الذي شمل جوانب المرأة، ولا شك أن للمرأة دوراً كبيراً في بناء المجتمعات وصناعة الأجيال ولذا كان للمرأة المسلمة حظ وافر من ذلك الغزو الذي يراد به ذوبان شخصية المرأة المسلمة وفقدان هويتها الإسلامية.. ولا يمكن للهمة العالية أن تنشأ في من انسلخ عن أصالته وتتبع كل ناعق يدعو للمحاكاة والتقليد والسير وراء ما هو غربي بدعوى التحضر والعصرية والتطور!!
والحديث عن موانع تحقيق الهمة العالية يطول ولعل ما ذُكر فيه الكفاية ومما ينبغي على المسلمة أن تكون إيجابية في مواجهة تلك الموانع التي تمنع المرأة المسلمة من علو الهمة.. ونجد ولله الحمد الكثير من بنات الإسلام ممن تجاوزن تلك العقبات بالعزيمة الصادقة والتوكل على الله .
ومن أجمل ما كتب حول هذا الموضوع ما سطرته يراع الأستاذ الفاضل محمد أحمد إسماعيل المقدم في كتابه الموسوم بـ "علو الهمة" يقول في موضع من الكتاب "الهمم العالية لا تعطي الدنية، ولا تقنع بالسفاسف، ولا ترضى إلا بمعالي الأمور:
إذا ما كنت في أمر مرومِ *** فلا تقنع بما دون النجومِ
فطعم الموت في أمر حقيرٍ *** كطعم الموت في أمر عظيمِ
إن عالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئاً في الدنيا فسوف يكون زائداً عليها، ومن ثم فهو لا يرضى بأن يحتل هامش الحياة، بل لا بد أن يكون في صلبها ومتنها عضواً مؤثرا:
وما للمرء خير في حياة *** إذا ما عد من سقط المتاع
إن كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته- بحول الله وقوته- ما يراه غيره مستحيل، وينجز- بتوفيق الله- ما ينوء به العصبة أولو القوة ويقتحم- بتوكله على الله- الصعاب والأهوال، لا يلوي على شيء
له همم لا منتهى لكبارها *** وهمته الصغرى أجل من الدهرِ
فمن ثم قيل: "ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة، لأن الهمم العالية طموحة وثابة، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة والسكون.. ".
النفوس الضعيفة
وقبيل الانتقال من أسباب دنو الهمة أتحفتنا الأستاذة حصة الفواز مديرة مدارس حنين بقولها "لدنو الهمة أسباب عدة، وهي تختلف من إنسان إلى إنسان آخر ولعلها تنحصر في أسباب ثلات وهي
1- دونية الاهتمامات الشخصية لكل فرد، فأي إنسان لا بد أن يكون لديه مبتغى في هذه الحياة وطبيعي أن النفوس الضعيفة اهتماماتها بسيطة جداً لا ترتقي إلى المستوى العالي.
2- مخالطة أصحاب الأهواء والشهوات والذين وصلوا إلى درجة من دونية الأهداف عظيمة فحسبهم لهو يقضون به وقت فراغهم، أو مطلب دنيوي زائل !! فهؤلاء إنما يعيشون عيشة هامشية
3- الخواء الروحي الذي يعيش في داخلهم.. فحينما تركوا لتلك السخافات أن تحتل مساحة كبيرة من اهتماماتهم غابت الأهداف العالية، والآمال السامية".
الإحساس بالفشل
كما تشاركنا الأخت وفاء إحدى طالبات كلية التربية/الأقسام العلمية بقولها "من أسباب دنو الهمة عند بعض الأشخاص. إحساس الفرد بالفشل في محاولة قام بها، ونتيجة لذلك يبتعد عن المحاولة نهائياً، وهذا خطأ لأن النتيجة الإيجابية لا تأتي إلا بالمحاولة والصبر. ومنها ضعف الوازع الديني في البيئة المحيطة به كوجود المغريات والملهيات التي تحيط به وربما يكون لها دور كبير في دنو همته تدريجياً.. كذلك عدم وجود المعين له. كأن يكون بين أبوين لا يهتمان به ولا يوفران له الجو المناسب. فيعيش مقعداً لا همة عالية لديه!!.. وأخيرا من الأسباب عدم الصبر على ظروف الحياة المختلفة فأول ما يخوض غمار ظرف من الظروف نجد أوراقه تتمزق، وينفك شمله.(2/13)
وعودا مرة أخرى إلى الإدارة العامة لتوجيه وإرشاد الطالبات حيث التقينا بالدكتورة الجوهرة المبارك مديرة عام الإدارة العامة لنشاط الطالبات والتي أدلت برأيها حول هذا الموضوع قائلة:((إذا جلست في المجالس العامة استمعت للعديد من الآراء والاهتمامات والمعاناة.. تسمعين العجب.. آراء مختلفة، واهتمامات شتى، وهمم متفاوتة.. منهن من همتها تعلو لإصلاح من حولها وإصلاح بيتها ومجتمعها لا تكل ولا تمل ولا تفتر ولا تيأس.. ومنهن من همتها لا تتجاوز شهواتها وملذاتها. لم تستطع أن تصلح نفسها فكيف بأبنائها ومجتمعها!
ومنهن من تتمنى ولكنها كلها أماني تذهب أدراج الرياح ليس لديها من الهمة وقوة الإرادة ما تسلك به طرق الإصلاح لنفسها ولمن ترعاهم !
إن الهمم متفاوتة كالثرى عن الثريا، وسينال المرء أجره على قدر همته، وقد تحدث في هذا الموضوع الأستاذ محمد المقدم في كتابه، وأنقل لكن بعض ما قال حيث يقول: "إن من الناس من ينشط للسهر في سماع سمر ،ولا يسهل عليه السهر في قراءة القرآن الكريم، ومنهم من يحفظ بعض القرآن ولا يتوق إلى التمام، ومنهم من يطلب معالي الأمور دون أن تكون له إرادة وسعي في تحقيها فهذا مغتر بالأماني الكاذبة:
وما نيل المطالب بالتمني *** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال *** إذا الإقدام كان لهم ركابا
ويقول المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسامُ
وقد قيل للإمام أحمد- رحمه الله- متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال عند أول قدم في الجنة !!
عوامل وظاهر دنو الهمة
"إن في دراسة عوامل ومظاهر دنو الهمة ما يضع أمام الدعاة والمصلحين الضوابط والقواعد التي ترتفع بالأمة من مستنقع الدونية والاستسلامية" كان هذا ما بدأت به حديثها لنا الدكتورة الفاضلة أفراح الحميضي أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر في كلية التربية ولنرع سمعنا لحديثها حيث واصلت قائلة "وفي اعتقادي أن من عوامل دنو الهمة الغفلة عن حقيقة الاستخلاف، والتعلق بالمكتسبات الأرضية، وعدم الثقة بوعود النصرة الإلهية {إن تنصروا الله ينصركم..} [محمد: 7] والاستسلام للهزائم النفسية الفردية والجماعية، وعدم استشعار حقيقة التميز، وقد تتمحور هذه العوامل في نفسية الفرد أو الأفراد فينتج عن ذلك أن تنجذب نفسه نحو الدونية، وتضعف عن السمو والعلو ويظهر دنو همته في المظاهر التالية على سبيل المثال لا الحصر:
الانحراف العقدي والتعصب الأعمى للجماعات والمذاهب، وضعف الإيمان، وتبلد الحس تجاه المعاصي، وقلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألفة المعاصي السمعية والبصرية، التبعية للغرب أو الشرق والانجراف في مظاهر التقليد دون اعتبار لاستقلالية الشخصية الإسلامية، اتباع الأماني والهوى والتسويف والعجز والكسل وحب الراحة، الترفل في النعيم والاستغراق في الترف، الهزيمة النفسية والشعور بالإحباط على المستوى الفردي والجماعي الشعور بغلبة العدو وفوقيته، التعلق بقشور الدنيا مثل المال، والأكل، والملبس، والغفلة عن الطاعات ".
لقد خارت العزائم
أما الأستاذة لطيفة العتل- معلمة- فقد حصرت مظاهر دنو الهمة في أمور، ولكن قبل الحديث عنها قدمت لها بمقدمة جاء فيها "نحن وعلو الهمة على قسمين منهم سابق بالخيرات ومنهم مسرف وظالم لنفسه، وثالث بينهما مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ولما كانت الهمة العالية تتطلب جهدا ، مضاعفاً وتعباً ومشقة كان سالكوها قلة قليلة قال تعالى {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13]
والآن فقد خارت العزيمة وفترت الهمم أنا لا أقول هلك الناس وإلا كنت أهلكهم ولكن أين أصحاب الهمم العالية؟!! إنهم والله ندرة وإن وجدوا فهم على تفاوت في الهمم لا يصل بعضهم أعلى الدرجات .
إن دينا فيه قول الله تعالى {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } [آل عمران: 133] وقوله: {فإذا فرغت فانصب} [الشرح: 7] وقوله {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم: 12] لا يقبل من أتباعه الخمول والكسل وضعف الهمة، بل يريدهم مثل المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين سباقين للخيرات في جميع الأحوال والأوقات وكانت همتهم العظمى هي الدار الآخرة ودخول جنة عرضها السموات والأرض، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة. هي المستحقة للهمة المثالية وما دونها فهو الدون.
ثم ذكرت الأستاذة لطيفة تلك المظاهر على سبيل المثال حين قالت "ولعل من مظاهر دنو الهمة: التكالب على الدنيا والاهتمام بسفاسفها، ويرجع سبب ذلك إلى ضعف الإيمان بالله عز وجل إذ يتبع ضعف الإيمان ضعف الهمة. وهذا هو حال الكثير منا!! تجده في أمور الدنيا يجهد نفسه ويهلكها للوصول إلى ما يريد وأما أمور الآخرة فعندها يتوقف يراجع نفسه : لن أطيق .. قد لا أطيق .. عجباً له والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "إذا سألتم الله فأسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة".(2/14)
ومن مظاهر دنو الهمة أيضا أن يقصر الإنسان الصلاح على نفسه فقط ولا تتعالى همته لإصلاح غيره هو ليس وحده، بل الجميع في سفينة واحدة إذا ثقبها أحدهم غرقوا جميعا نحن لا نثبط العزائم هو فعل خيرا إذا أصلح نفسه وكبح جماحها لكن المطلوب المزيد"
عدم الثقة بالنفس
كما حصرت لنا الأخت فتاة الإسلام من كلية التربية تلك المظاهر بقولها :
أولا إحساس الشخص بالفشل في جميع الحالات فتراه دائما هيابا يخشى اقتحام أي عمل ما خوفا من الفشل فلا يلبث أن يزدري نفسه.
وثانيا: إحساسه بأن كل ما يواجهه صعب ومستحيل، ولا يتسنى لأمثاله اقتحام هذه الأعمال، فتراه دائما يحجم عن العمل قبل الدخول فيه. ويمكن أن نعبر عن هاتين النقطتين بقولنا "عدم الثقة بالنفس ".
ثالثا: عدم المبادرة، فهو دائما ينتظر التكليف والإسناد حتى في الواجبات التي لا ينبغي التأخر فيها فمثلا في واجب الدعوة إلى الله تراه ينتظر من يسند إليه مهمة توزيع نشرة ما أو شريط.. رغم أن التكليف قد أسند إليه أكثر من ألف وأربعمائة سنة حين قال تعالى في محكم التنزيل {يا بنيّ أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان: 17] وقوله:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئكم هم المفلحون } [آل عمران: 104].
رابعا: كثرة الانتقاد وتعليق الأخطاء على الآخرين فهو يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه!! مع أنه في أعماق قلبه يدرك أنه مقصر ولكنه يعمد إلى هذا الأسلوب كنوع من التهرب من المسؤولية الذي أصبح فنا من الفنون.
خامساً: الاهتمام بسفاسف الأمور فلا ترى له إسهاماً جاداً ولا فكراً، وإن كانت فتاة اهتمت بالموضة وآخر صيحاتها والفنانين وآخر أخبارهم، وإن كان فتى اهتم بالمركبات الفارهة والمظاهر الفارغة، والله المستعان.
أين نحن من دروس الماضي؟
وقبيل لملمة أوراقنا هنا سؤال يطرح نفسه وهو : كيف السبيل إلى همة عالية؟
هذا السؤال توجهنا به إلى الدكتورة نائلة الديحان وكيلة كلية التربية/ الأقسام العلمية حيث أجابتنا بقولها "إن دروس الماضي وعبره وذكراه المجيدة خير دافع للنفوس المرتفعة والهمم الأبية في ميادين العلم والدين، كما أن للموجه والمعلم الموهوب دوراً أساسياً في إلهاب المشاعر والعمل كفريق متكامل يقدم أعمالاً قيمة.. وإن للقائد أو المعلم دوراً مهماً في شعور الإنسان أو الطالب بأهميته مما يعلي همته ثم إن تشجيع الطلاب وتدريبهم وسؤالهم رأيهم وإتاحة الفرصة لهم للمشاركة في اتخاذ القرار وتشجيعهم على تحمل المخاطر والإعلان عن الإيمان بقدرات الطلبة والثقة والاحترام كلها من العوامل التي تساعد على رفع الهمم، لذا فإن رفع الهمم في رأيي يكمن في ثلاثة اتجاهات:
1- تشجيع العمل كفريق ولا بد أن يشارك الطلاب في جهود جماعية، ففي هذا لا يمكن السماح لهم بالشعور بالتدني إذا لم يحققوا جميع الإجابات كما أنه في عالم الواقع العمل الناجح هو عمل جماعي.
2- الاعتراف دائما بأهمية الفرد واحترامه.
3- التشجيع على القيام بمهام أعلى والاعتراف بذلك والمكافأة عليه، فكلما عاملت الناس على أنهم أذكياء سوف يتصرفون على هذا الأساس.
إن توسيع المناهج التدريبية لتشمل بعض مهارات العلاقات الإنسانية أمر مهم للحث على الإبداع والإنجاز واكتشاف المواهب داخل كل شخص، ومهما كانت الخصائص فإن المثابرة والإصرار والعقل الراجح والخيال الواسع والمواقف الإيجابية والشعور القوي بالقيمة لا بد أن يزهر ويتحول إلى نجاح.
الهمة المعطلة
كما أدلت الأستاذة شذا المصطفى وكلية المدارس برأيها قائلة "إن تطلع الإنسان إلى معالي الأمور، والتفكير المتواصل في كيفية الحصول عليها كفيل بإيجإد همة عالية تسكن قلب ذلك الشخص.. أما أن يعيش الإنسان حياة هامشية دون أن يحاول تطوير نفسه، أو نفع مجتمعه فها هنا تكون الهمة معطلة - ومكانك سر- وصدق الشاعر حين قال:
ومن يتهيبْ صعودَ الجبال *** يعش أبدَ الدهر بين الحفرْ
أما الطالبة بثينة عبد العزيز فقد حصرت أسباب الارتقاء بالهمة بالآتي: العلم والبصيرة، حيث قالت: "فالعلم يرفع طالبه عن حضيض التقليد ويصفي نيته. إلى جانب الدعاء لأنه سنة الأنبياء، كذلك لا بد من حصر الذهن وتركيز الفكر في معالي الأمور والتحول عن البيئة المثبطة إلى صحبة الأخيار وأولي الهمم العالية ومطالعة أخبارهم.. فكل قرين بالمقارن يقتدي.. فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [يونس :62] قال هم الذين يُذكر الله لرؤيتهم ".
أنت في الناس تقاسُ *** بالذي اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلو *** وتنل ذكراً جميلا
إضافة إلى المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: 200]
نماذج نيرة من أصحاب الهمم العالية(2/15)
ما أجمل الحديث عن سيرة سلفنا الصالح، وما أجمل ذكراهم والنهم في قراءة سيرتهم، وتتبع منهجهم.. ذلك لأنهم منابر عصرنا، ونور دربنا، نهتدي بهم ونحن نمضي في طريقنا.. ولعلنا في ختام استطلاعنا نقف على بعض أخبار أولئك الأفاضل علنا نصل إلى ما وصلوا إليه، وإلا فإن التشبه بالكرام فلاح.. فلنر كيف كان حال السلف مع طلب العلم، وكيف كان الواحد منهم يسهر ليله، ويضني جسده، ويبقى وحده مستأنساً بكتبه، مستعيضاً بها عن الأهل والأصحاب.. فلله درهم.
قيل لبعض السلف "بم أدركت العلم؟ قال بالمصباح والجلوس إلى الصباح " وقيل لآخر فقال ((بالسفر والسهر والبكور في السحر)).. وحكى شيخ الإسلام النووي عن شيخه الإمام الجليل أبي إسحاق المرادي قال "سمعت الشيخ عبد العظيم- رحمه الله- يقول: "كتبت بيدي تسعين مجلدة وكتبت سبعمائة جزءا" قال النووي "قال شيخنا" "ولم أر ولم أسمع أحداً أكثر اجتهاداً منه في الاشتغال، كان دائم الاشتغال في الليل والنهار".
ولم يكن العلم في ذلك الوقت ميسراً وسهلاً، بل لا بد من السفر وشد الرحال.. وهذا بطبيعة الحال يتبعه ترك الأهل والأولاد وتحفل التعب والمشاق روي عن الرازي ما يدهش اللب من علو همته في الرحلة لتحصيل العلم إذ قال:
"أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشياً ثم إلى الرملة ماشياً، ثم إلى طرسوس، ولي عشرون سنة".
سأضرب في طول البلاد وعرضها *** لأطلب علماً أو أموت غريبا
فإن تلفت نفسي فلله درها *** وإن سلمت كان الرجوع قريبا
والحقيقة أن انتشار العلم كان بفضل الله تعالى ثم بجهد وتعب هؤلاء الرجال الأفذاذ ولعل ذكر الجزء يغني عن ذكر الكل ولو ذكرناه لطال بنا المقام.
ويمتد الخير إلى زمننا، ولا نعدم فيه أصحاب الهمم العالية، رجالاً كانوا أو نساء.. ولنأخذ على ذلك مثالاً من زمننا حيث امتدت زيارتنا إلى إحدى دور القرآن "دار الصالحات " وفيها التقينا بأم الوليد (40 سنة) التي تبقى لها على ختم القرآن بأكمله جزءا واحد فقط،.. وكان لنا معها هذا الحوار:
ما هي الأسباب التي أعانتك على حفظ القرآن وفقك الله ونحن نعلم أن لديك عدداً من الأولاد الصغار المتقاربين في السن كما أنك ربة منزل، ولاتوجد لديك خادمة؟
أولاً لا بد من وجود الرغبة الصادقة مع الاستعانة بالله تعالى وطلب توفيقه، ثم إن المواظبة على الحضور عامل مهم ومساعد في الحفظ مع تنظيم الوقت والمدارسة وأسأل المولى أن يعيننا على العمل به إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تتفاوت الهمم يا أم الوليد بين البشر فما هي نصيحتك لمن همته لا تتعدى مصلحة نفسه فقط؟
- النصيحة له هي أن هذه الدنيا زائلة لا محالة ، وأنها لا تساوي شيئاً فلماذا التكالب عليها والغرق في ملذاتها ؟ ولو فكر الإنسان بعقله سوف يعلم أن هناك أمورا يجب عليه أن يفيد منها ويحفل بها ما دام يعيش فسحة العمر والذي يرى في نفسه ذلك لا بد أن يرفع من مستواه وذلك ليس عيباً ، بل العيب أن نبقى كما نحن .
مجلة الدعوة - العدد 1734 - 17 ذو الحجة هـ - 23 مارس 2000 م
أنت .. والتربية .. والمناهج وراء دنو الهمة.............إعداد : أمل الذييب
حتى لا تعيش أبد الدهر بين الحفر !
تحقيق أسماء بنت صالح
=================00
اجتماع الجيوش القرآنية على تجريم الولايات المتحدة الصليبية
رسالة مهداة إلى الشعب العراقي المجاهد
تأليف/د. وسيم فتح الله
الحمد لله منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، والصلاة والسلام على نبينا محمد قائد المجاهدين وإمام الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد؛
فإن سحب التضليل وغمامات الفتن لا تبرح تشوش على المسلم فكره وبصيرته بغية فتنته عن دينه، ولا يزال الحق نوراً ساطعاً يبدد هذه الغمام ويقشع تلك السحب، ولكن لا بد لنور الحق من منابر يرتقيها وقراطيس يُسطر عليها كما لا بد له من صدورٍ تحمل الحق وأجسادٍ تفنى في سبيل الله على بينة.
ولما تولى كِبر فتنة المسلمين عن دينهم اليوم كيانٌ مسخ حقود تلبَّس بمائة لبوس ولبوسٍ ليوهم ويضلل ويفتن المسلمين عن الحق، كان لزاماً علينا معاشر المسلمين أن نفضح هذا الكيان ولو عن طريق تقرير البدهيات، ولكنه تقرير مؤصلٌ بثوابت الشرع ومؤطرٌ بأطر الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من عزيز حميد.(2/16)
لقد لبَّست الولايات المتحدة الأمريكية على العالم مصطلحات الإرهاب والتخلف والجريمة والخروج على القانون، فكان لزاماً علينا أن نحاكمها إلى بعض هذه المصطلحات ولكن بضبطٍ اصطلاحي آخر لا لبس فيه ولا غموض، ولهذا اخترت أن أضع هذه الدولة المارقة في قفص الإتهام أمام محكمة القرآن لأثبت للعالم عامةً وللمسلمين خاصةً حقيقةً ثابتةً يجب أن تستقر في روح وفكر كل واحد منا ألا وهي أن الولايات المتحدة مجرمةٌ مجرمةٌ مجرمة، نعم، لقد استقرأت وأحصيت كل ألفاظ الجريمة الواردة في القرآن الكريم فهالتني الحقيقة التالية وهي أنه ما من جريمة وردت في القرآن الكريم نصاً إلا وقد تلبست بها هذه الدولة المارقة، فوجدت لزاماً عليَّ أن أبلغ إخواني لأن تنزيل هذا الحكم القرآني على هذا الكيان المجرم بعينه هو من جنس تنزيل حكم الكفر على من استكبر عن عبادة الله على إبليس عليه لعائن الله.
وإني أسأل الله تعالى أن يوفقني في هذه الرسالة الموجزة إلى عرض أدلة تجريم الولايات المتحدة الصليبية كما أسميتها لأنه أفصح في بيان هويتها وأصول جريمتها، ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.كما أنني أردفت ببيان وسائل التصدي لجرائم هذا الكيان لدحر عصاباته المجرمة وكف بأسها عن المسلمين وعن العالم أجمعين. والله أسأل القبول لما وفقت فيه من خير والمغفرة لما زل به القلم من خطأ، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول، والله المستعان وعليه التكلان.
فصل : تسليط جيوش القرآن على جرائم الأمريكان
وسأعرض في هذا الفصل إن شاء الله تعالى عشر جرائم أثبتها القرآن الكريم وأثبتنا تلبُّس الولايات المتحدة بها لنخرج بناءً على ذلك بالحكم النهائي الفاصل إن شاء الله.
فصل: سبل التصدي الشرعية لجرائم الولايات المتحدة الصليبية
إننا حين ننظر إلى تجريم الولايات المتحدة بالاعتبار الشرعي نكون قد ألزمنا أنفسنا بالعمل وفق مقتضى الشرع لمجابهة هذه الجرائم والتصدي لأصحابها، ولن نقبع في أقبية التاريخ منتظرين صدور حكم محكمة جرائم الحرب الدولية على عصابة الإجرام هذه – علماً أن الولايات المتحدة قد حصنت نفسها ضد محاكمة أي من جنودها أو قياديها في محكمة جرائم الحرب الدولية وكأنها تعلم أنها ستكون من أوائل من يشغلون أقفاص الإتهام – لا لن ننتظر، فلقد صدر الحكم الذي لا معقب له، نعم صدر حكم القرآن الكريم بأن هذه الدولة مجرمة ولا بد من التصدي لها حماية لدين الله وحماية لأنفسنا من أن تطالنا آثار جرائمها. وهذا الفصل المختصر عبارة عن إشارات موجزة استقرأتها من نفس الآيات التي جرَّمت هؤلاء لتكون لصيقة الصلة بالتصدي لهذه الجرائم، وصدق الله العظيم إذ قال :" وننزل من القرآن ما هو شفاءٌُ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً" ، فهلم بنا نستلهم من آيات الذكر الحكيم سبل التصدي هذه :
أولاً: بيان الحق :
إن أول خطوة في التصدي للباطل وجرائمه هي فضحه والاجتهاد في بيانه وفضح سبله وخدعه في نفس الوقت الذي يبين فيه سبيل الحق فبضدها تتميز الأشياء، والدليل على وسيلة التصدي هذه مأخوذ من قوله تعالى:" وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين" ، وهذا يعني أن يجتهد أهل العلم علماء وطلاب في بيان الحق واستفاضة البلاغ به وتحذير الناس والعامة من مكائد المجرمين وآثار الجريمة وآثار السكوت على هذه الجريمة، ولا بد من أن تُسمى الأشياء بأسمائها بسبب اللبس والغموض والتخبط والحيرة الذي أصاب الناس اليوم، فلا كنايات ولا ألغاز ولا التفاف على المصطلحات، بل كلمة حق مدوية ترضي الله عز وجل رضي من رضي وسخط من سخط بعد ذلك؛ فيا أيها العلماء قولوها بملئ أفواهكم : أمريكا مجرمة صليبية حاقدة ، ولا تحدثوني اليوم عن التتار وعن المغول ولا تكلموني عن الشيوعية والبوذية، فالذي يستبيح حمى الإسلام اليوم صليبية صهيونية جمعتها عداوة الإسلام وصهرتها في بوتقة واحدة اسمها الولايات المتحدة الصليبية، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد..
ثانياً: تطبيب ومعالجة القلوب:(2/17)
إن الحق بعد بيانه يحتاج أن يستقر في قلوب صالحة لغرس الحق حتى يشتد عوده ويستغلظ ويؤتي أُكله كلمةً طيبة كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولما كانت سنّة الله تعالى أن يعاقب بالسيئة السيئة وأن يجازي بالحسنة الحسنة، كان لزاماً علينا أن نقي قلوبنا ونحفظها من غرس الإجرام وميول الإجرام حتى لا نُعاقب بتمكُّن الجريمة من قلوبنا كما فعل سبحانه وتعالى بالمكذبين بالرسل والمستهزئين بهم حيث جازاهم على جريمتهم بأن مكَّن لهذه الجريمة من قلوبهم تأمل معي قوله تعالى:"وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون. كذلك نسلكه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين" ، ومثله قوله تعالى:" كذلك سلكناه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم. فيأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون" ، فلا منجاة من هذا إلا بإشغال القلوب بما يصلحها وقايةً لها مما يفسدها، فقد قيل المشغول لا يُشغل؛ ونحن إذا شغلنا قلوبنا بكلمة التوحيد حفظناها – بإذن الله – من تسرب بذور الإجرام إلى تربتها، فتهيأ لنا من القلوب المؤمنة الصالحة جيوشاً وحجافل تكر على قلوب المجرمين كرةً واحدة وتميل عليها ميلةً واحدة فتفنيها بإذن الله وتذرها أثراً بعد عين؛ بئرٍ معطلةٍ وقصرٍ مشيد...
وإن خصوصية هذه المعركة اليوم تستلزم منا أن نعقد قلوبنا على حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية مجرمةٌ شرعاً، وأن نعقد قلوبنا على الكفر بهذا الكيان المجرم وعلى البراءة كل البراءة منه وممن يواليه، وبغير هذا لا يمكن أن تسلم لنا قلوب، ولا يمكن أن تطهر لنا صحائف أعمال ...
ثالثاً: محاربة الفساد :
إن من أهم وسائل التصدي لجرائم الولايات المتحدة الأمريكية تطهير المجتمع من آثار هذه الجرائم التي تدنس أرض المجتمع وماء المجتمع وهواء المجتمع، تدنس أفراد المجتمع، تدنس المجتمع كله..
علينا أن ندرك أننا كلما نهينا عن منكر نكون قد تصدينا لجريمة من جرائمها، وكلما أزلنا منكراً نكون قد محونا أثر جريمة من جرائمها، وعلينا أن ندرك أن السكوت على المنكر ليس إلا مشاركة للولايات المتحدة في جرائمها، تأمل معي قول الحق عز وجل:"فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتّبع الذين ظلموا ما أُترِفوا فيه وكانوا مجرمين" ، نعم؛ إن الإقرار على الجريمة جريمة، وإن السكوت على الجريمة جريمة، وإن الرضا بالجريمة جريمة..
إن واقع الأمر اليوم يملي علينا ويفرض علينا التنبه إلى أن كل ما له مساس بالولايات المتحدة له وجه من وجوه الإفساد؛ وتوضيح ذلك أن الأمر إن كان جريمةً من جرائمها فهو مفسدة من هذا الوجه، وإن كان أمراً مستقلاً لا شر فيه في نفسه فهو مفسدة من جهة اعتقاد الخيرية في هذا الكيان المجرم ومن ثمَّ افتتان الناس والمسلمين به، ألا فلنعلم أن قبح جرائم الولايات المتحدة تنأى بنا عن الركون إلى أي من خيراتها في هذه المرحلة، ولا تذهب أنفسنا حسرات على فوات خيرات الولايات المتحدة بل حسبنا في هذا قوله تعالى:" وإن خفتم عَيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم" .
رابعاً: هجر الترف :
فأنت إذا تأملت قوله تعالى :" فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتّبع الذين ظلموا ما أُترِفوا فيه وكانوا مجرمين" وجدت أن حياة الترف والدعة والإسراف رديفة الظلم وسبيل الإجرام لا محالة، فالمترف لا يأبه لشيء سوى وسائل ترفه ومتعته ولهوه ومجونه، ترى جراحات البعض تثج بالدماء ثجاً في سبيل هذه العقيدة في حين ينشغل المترفون بالمهرجانات والقيان والأغاني ؛ مجونٌ وفجور ، أفخاذٌ وخمور، اختلاط وسفور، ربا وثبور، يفيق البعض من سكرةٍ غربية ليغط بعدها في سهرةٍ شرقية، ولربما قال في آخر السهرة : اللهم انصر المسلمين...
ألا فلنهجر حياة الترف والدعة، ألا فلنتق الله قبل أن نكون في الجريمة شركاء بعد أن كنا الضحايا الأبرياء، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد..
خامساً: عدم مظاهرة المجرمين:
وهذه خطوة مهمة من خطوات التخلية قبل التحلية، والتصفية قبل التربية، فلا يتصور أن ننشغل بالصد عن جرائم هذه الدويلة المارقة في حين أننا نمثل عناصر مشاركةٍ فعالة في منظومتها الإجرامية. إن التوقف الفوري عن مظاهرة الولايات المتحدة الأمريكية على المسلمين ومظاهرتها في كل أنواع جرائمها هو واجب الساعة، ابتداءً بالكاتب الذي يبرر جريمتها، ومروراً بالشاب الذي يحفظ أغنيتها، والفتاة التي تنزع ثوب عفتها، والحارس الذي يحفظ أمنها، والحاكم الذي يبيح بيضة الإسلام لها، والتاجر الذي يودع أمواله عندها، وكل كلمة أو فكرة أو فعل أو شعور مؤيد لها فهو مظاهرة لا تقل إجراماً عن جرائمها، ولتكن قدوتك في هذا رسولٌ من أولي العزم من الرسل موسى عليه السلام، قال تعالى:" قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين"(2/18)
ألا فليتق الله قومٌ يسارعون في هذه الدولة المجرمة تأييداً وتبريراً وإرجافاً وتغريراً، اللهم إنا نبرؤ إليك من هؤلاء فلا تأخذنا بذنوبهم، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد...
سادساً: التوبة والاستغفار:
بعد أن ذكرنا مجموعة من وسائل التصدي لجرائم الولايات المتحدة يدور معظمها حول التطهر من أنواعٍ من الذنوب والآثام التي يؤدي اقترافها إلى التمكين لهذه الجرائم واستفحال شرورها، فإن من المناسب أن نتبع الإقلاع عن هذه المعاصي بالتوية والاستغفار حتى ننتقل بعد ذلك إلى الدور الفاعل والإيحابي في هذه المجابهة الحتمية، وإن القرآن الكريم لم يترك لنا هذه الوسيلة دون ضبط أو بيان، وإنما جنَّد سلاح التوبة والاستغفار ضد جحافل المجرمين الكفار، تأمل معي قوله تعالى:" ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين" .
ومن المعلوم من دين الإسلام أن التوبة والاستغفار ليست كلمات تجري على الألسنة، وإنما هي إقلاع حقيقي عن المعاصي والجرائم وندم على ما اقتُرف منها، ونية خالصة في التوبة إلى الله ، وعزمٌ قويٌ على ألا يعود، ورد الحقوق إلى أهلها، فإذا ما تمثلنا بتويةٍ كهذه فإننا نطمع في أن يقبل الله منا ونطمع في أن يجعل توبتنا هذه سهماً يصيب مجرمي أمريكا في مقتل، وسيفاً يفل منظومتها الإجرامية، ونوراً يهتك حجب ظلماتها الحالكة إنه ولي ذلك والقادر عليه، فهلم إخواني توبةً نصوحاً، جنِّدوا جنود الاستغفار في الليالي والأسحار، فإني والله لأراها صارماً بتاراً على هؤلاء ، إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب...
سابعاً: العمل الصالح:
إن من يتأمل المشهد القرآني التالي في قوله تعالى:" ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون" ، ليدرك تلك الحقيقة التي وعيها سلف هذه الأمة وهي أننا إنما نُنصر على عدونا بذنوبهم وبصالح أعمالنا؛ فإن كانت لنا ذنوبٌ كذنوبهم أو لم تكن لنا أعمال ترجح على ذنوبهم وُكلنا إلى أنفسنا فخبنا وخسرنا.
إن التزود بالعمل الصالح الواجب منه ثم المندوب ثم المستحب، والاستكثار من ذلك كله وسيلة من أقوى وسائل التصدي لهذه الدولة المجرمة، عندما نصد جريمة الشرك بالتوحيد، ونصد جريمة الاستكبار بالسجود لله تعالى، ونصد جريمة الزنا بالعفاف والإحصان، ونصد جريمة الربا بالكسب الطيب والزكاة، ونصد جريمة الاعتداء وسفك الدماء باحترام حرمة الدماء وحقنها، ونصد جريمة الكذب والتضليل بالدعوة إلى الله، ونصد جريمة الاستعلاء بغير الحق بالتواضع والاستعلاء الإيماني، ونصد جريمة استضعاف الناس بالنصرة والتأييد لهم، ونصد جريمة تولي الكافرين بتولي المؤمنين، ونصد جريمة التبرؤ من المؤمنين بالتبرؤ من الكافرين، ونصد جريمة انتهاك الحرمات بالجهاد في سبيل الله، ونصد جريمة المداهنة في دين الله بكلمة حق لا تخاف في الله لومة لائم، ونصد كل جريمة للولايات المتحدة بعملٍ صالحٍ يدرؤها ويفضحها، عند ذلك نتمكن بإذن الله من دحر عصابات الإجرام وردها خاسئة إلى مزبلة التاريخ وأماكن جمع قمامة البشرية، عندها فقط نتمكن من ذلك ...
ثامناً: نصرة المؤمنين:
لقد تقدمت معنا بعض أنواع الجريمة الأمريكية وما فيها من عدوان ظالم حقود آثم على حرمات المسلمين؛ حرمات الدماء وحرمات الأبضاع وحرمات الأموال، فهم سفاحوا دماء منتهكوا أعراض سارقوا أموال، ولا بد لمواجهة جرائمهم القبيحة هذه من أن نهب لأجل نصرة المؤمنين أينما كانوا وإلا تمادى زحف المجرمين ليطال دماء وأعراض وأموال مزيد من المؤمنين ومزيد من المسلمين ومزيد من الآدميين، وكيف لا نهب وقد انيطت بنا مهمة نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم واستنقاذ البشرية من استعباد بعضها البعض، ألا فلنتأمل جيداً قوله تعالى:" ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" ، لنتأمل هذه الآية جيداً لندرك أن نصر المؤمنين وسيلة لازمة من أجل وضع حد لجرائم هؤلاء، ومن أجل الأخذ على أيدي هؤلاء قبل أن يُهلكوا ويَهلكوا
تاسعاً: الجهاد في سبيل الله:(2/19)
نعم لا بد لهذه المهمة البطولية من تضحيات وفداء، ولا بد لكتابة صفحات التاريخ هذه من مداد الشهداء، لا مندوحة عن ذلك ولا بديل عنه البتة، ولتعلم أيها المسلم أن هذا اختبار وابتلاء الله عز وجل فلتصبر على ما فيه من مشقة فإن ما يليه من حلاوة ولذة أعظم شاناً وأدوم حالاً، تأمل معي حكمة الله عز وجل في سنِّ هذه السنة لهذه الأمة العظيمة :" وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليُحق الحق ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون" ، نعم لا بد من الجهاد حتى تمضي جحافل الحق وتدحر جيوش الكفر والإجرام، فإن سفينة الإسلام لا تبحر ما لم تكن روافد الحق أنهارٌ من دماء الشهادة الزكية العبقة، وإن فئران الباطل وقطاع الطرق المجرمين لا يخنسون ما لم يبهرهم بريق السيوف ولمعان الأسنة، فبمثل هذا الجهاد المبارك جهاد السيف والسنان ينقطع دابر الكفر ويبطل سحر الباطل ويشق نور الحق سحب الظلام ، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة، ألا هل من بائعٍ ومشتري...
عاشراً: اليقين بوعد الله:
إن استيفاء المقدمات والأسباب السابقة لا يجدي شيئاً ما لم تكن الثقة بوعد الله تعالى مطلقة، لأن الرحلة شاقة، والطريق موحشة ، والقرح والجراح أمر لا بد منه، فما هو وقود المعركة إذا فترت الهمة، وما هو الزاد إذا أوحش الطريق، تأمل معي قول الحق تبارك وتعالى:" حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا فنُجِيَّ من نشاء ولا يُرد بأسنا عن القوم المجرمين"
فلا سبيل لصد جرائم هؤلاء إلا باليقين والثقة المطلقة في وعد الله بالغلبة والنصر، وإلا فإن ما عندنا من أسباب لا يُركن إليه، وما عندنا من قوة وعتاد لا يُعول عليه، بل إن شهود الأسباب وعدمه لدينا سواء إن نحن أعددنا فأحسنا العدة، وتوكلنا فأحسنا التوكل، وآمنا حق اليقين ، وجاهدنا في سبيل الله حتى نراها عين اليقين ...
حادي عشر: التدبر في عاقبة المجرمين:
ولا بد للسائر في طريق مكافحة الجريمة وتعقب المجرمين من أن يدرك أن المجرم مهما كانت له صولة وجولة وعزة ومنعة ظاهرة فإن مصيره إلى السوء، وعاقبته إلى الخسران، وقد أمرنا الله تعالى بالتدبر في هذا الأمر ليكون عوناً لنا على اجتناب سبيل المجرمين من جهة، وعلى عدم الوهن في ابتغاء هؤلاء المجرمين ومحاسبتهم ومعاقبتهم بما يليق بهم في الدنيا مع إيكالهم إلى الله تعالى في الآخرة، وتأمل معي هذه القاعدة القرآنية في تقرير هذا الأصل العظيم، حيث قال تعالى:" قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين"
فلنقرأ التاريخ لا لنتباكى على أمجاد الماضي وإنما لنأخذ العبر التي تفيد الحاضر، نعم لقد استباح التتار بغداد وسفكوا دم مليوني مسلم، ولا يعني هذا أن نسلم بغداد لصليبيي أمريكا ليقتلوا مليوني مسلم آخرين، وإنما يعني أن نلحق الصليبيين المجرمين بمن سبقهم من كفرة التتار والمغول والصليبيين الأول لتعوي على جثثهم الهالكة كلاب التاريخ ولتقف بغداد شماء أبية تقول بملء فيها : حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ...
ثاني عشر: الدعاء :
وقد جعلته آخراً لأن الدعاء لا بد من أن يكون معه شيء من قطران ، وهذا القطران هو تحصيل ما يمكن تحصيله من مقدمات وأسباب وبذل الوسع في تحصيل ما يرضي الله عز وجل قبل أن نمد أيدي التضرع والذلة بين يدي الله الحق، لنكون أقرب إلى حال العبد المجتهد في خدمة سيده الواقف ذليلاً بين يديه معترفاً بتقصيره، لا كحال ذلك العبد الآبق الكسول المتخاذل الذي يرجو سيده ولا حسنة لديه تشفع له ولا عمل لديه يدلل على صدق ذله وضراعته بين يدي مولاه.
ونحن إذا ما قمنا بالاجتهاد في تحصيل وسائل التصدي لهذه الدولة المجرمة واستنفذنا وسعنا وبذلنا جهدنا بصدق وإخلاص وجد وعزيمة، فإننا نأمل من الله تعالى أن نرفع أكف الدعاء كما رفعها من قبل موسى عليه السلام حيث قال تعالى:" فدعا ربه أن هؤلاء قومٌ مجرمون" ، ونأمل أن يجيب الله تعالى دعاءنا بهلاك هذه الدولة الصليبية المجرمة كما استجاب لموسى عليه السلام بهلاك فرعون وجنده، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(2/20)
وبعد، فهذه اثنتا عشرة وسيلة من وسائل التصدي لجرائم الولايات المتحدة الصليبية، ليس منا أحد لا يستطيع الانشغال ولو بواحدة منها على الأقل، أي إنه ليس لأحد منا حجة في عدم الانخراط في منظومة الدفاع القرآنية لصد هذه الجحافل الإجرامية، فلا حجة لأحدٍ منا أن يقبع في أقبية التخاذل والتثبيط، أو أن يلجأ إلى زوايا الدراويش ليواجه بزعمه عصابات الإجرام بحضرات الدروشة والمسكنة والسلبية والخذلان، إلا فليحذر هؤلاء قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير"
اللهم هل بلغت اللهم فاشهد..
وكتبه الفقير إلى رحمة ربه
وسيم فتح الله
25 محرم 1424 / الموافق 8 مارس 2003
=================00000
الجليس الصالح
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، اعلم أخي الزائر الكريم بعد سلام الله عليك ورحمته وبركاته أن جليسك إما أن يكون صالحاً وإما أن يكون سيئاً كما أخبر الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فاحرص على مجالسة الأخيار الصالحين من الإخوان، والكتب، والمواقع، وكل ما يُشاهد، ويُسمع، ويُقرأ، الذين يعينونك على أمر دينك ودنياك؛ واحذر مجالسة الأشرار فإنها لا تأتي بخير.
واحفظ جميع جوارحك عما عنه تسأل غداً، فإنه لن تزول قدما عبد يوم القيامة عن الصراط حتى يُسأل عن عمر وشبابه فيما أفناه وأبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، واعلم أخي الزائر أن أنفاسك معدودة، وساعاتك في هذه الدنيا محدودة، وحركاتك وسكناتك مرصودة، وأعمار هذه الأمة بين الستين والسبعين محصورة، ولهذا عندما أخبرت إحدى الصالحات ممن كان قبلنا من الأمم ممن كانوا يعمرون أنه ستأتي أمة تتراوح أعمارها بين الستين والسبعين قالت لمخبرها بذلك بعد أن أطرقت ملياً: أويبنون؟! لو كنتُ منهم لقضيت العمر ساجدة لله عز وجل.
فاستعمل ما آتاك الله من نعم فيما ينفع.
كما أن الكتب في الآخرة قسمان لا ثالث لهما، كتب الأبرار الأخيار التي تؤخذ بالميامن، وكتب الفجار الأشرار التي تعطى بالشمائل، كما أخبر الحق عز وجل، كذلك الأمر في الدنيا، فالكتب إما خيرة صالحة، وإما سيئة طالحة، وليس كل كتاب جليساً صالحاً خيِّراً كما قال أبو الطيب:
وخير جليس في الزمان كتاب
فمن الكتب والمواقع والإخوان ما تحرم مجالستهم، ومنها ما يستحب أو تجب مجالستهم
=================0000
أصدقاؤنا كيف نختارهم!
شباب
لا بد للإنسان عامة والشباب خاصة أن تكون لهم علاقات وصداقات وأصحاب وأحباب يأنسون إليهم في وقت فراغهم ويساعدونهم عند شدتهم ويستشيرونهم فيما يلم بهم، وهذا أمر قد جبلت وفطرت عليه النفس البشرية فلا يمكن لها أن تنفك عنه.
ومن المسلم به أن الناس يختلفون في اختيار الصديق والجليس باختلاف أفكارهم وآرائهم وطبائعهم وعاداتهم وميولهم.
ضرورة وجود وقواعد وأسس لاختيار الصديق
ونظرا لخطورة الصديق وتأثيره البالغ على الإنسان فإنه لا بد أن تكون هناك ضوابط وقواعد لاختياره وإلا أصيب الإنسان بالضرر والعنت ولذا يحذر القرآن الكريم من صديق السوء في غير ما موضع من كتاب الله في إشارة إلى ضرورة اختيار الصديق وفق مواصفات معينة يقول سبحانه "ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا" فتأمل حفظك الله كيف كان هذا الصديق والخليل سببا لدخول هذا البائس عذاب الله، وبعده عن رحمته.
والنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا المعنى في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه حيث قال: إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك – أي يعطيك – وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة".
من أقوال الحكماء في الصحبة
هذه المثال الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم جدير باستحضار الإنسان له دائما ليبني عليه الأسس التي من خلالها يقيم علاقته مع الآخرين ، إذ أن قضية الصحبة ليست قضية عابرة وقديما قال الشاعر:
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه*** فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال الآخر:
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم***ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
ووعظ بعضهم ابنه فقال له: إياك وإخوان السوء، فإنهم يخونون من رافقهم، ويفسدون من صادقهم، وقربهم أعدى من الجرب،ورفضهم والبعد عنهم من استكمال الأدب والدين، والمرء يعرف بقرينه، والإخوان اثنان فمحافظ عليك عند البلاء، وصديق لك في الرخاء، فاحفظ صديق البلية، وتجنب صديق العافية فإنه أعدى الأعداء.
الأصدقاء ثلاثة(2/21)
والأصدقاء ليسوا كلهم على درجة واحدة بل إنهم يختلفون فبعضهم أنت بحاجة له دائما وهذا أخطرها وبعضهم تفرضه عليك الظروف وطبيعة الحياة وإن كنت لا تريده وبعضهم شر ووبال عليك وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله الأصدقاء ثلاثة: أحدهم كالغذاء لا بد منه، والثاني كالدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت، والثالث كالداء لا يحتاج إليه قط.
وقال أحد السلف الأخ الصالح خير لك من نفسك، لأن النفس أمارة بالسوء والأخ الصالح لا يأمر إلا بخير.
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله – لولا القيام بالأسحار وصحبة الأخيار ما اخترت البقاء في هذه الدار.
معايير اختيار الجليس
فثمة صفات لا بد من توافرها في الصديق الذي تبحث عنه وتختاره لتكون صداقتك قائمة على أساس متين قوي ولتجني من خلالها ما ترجوه وتأمله ولتحقيق ذلك لا بد أن تضع أمامك دائما معيار الدين والتقوى والصلاح في اختيار الصديق فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرشد إلى ذلك بقوله "لا تصاحب إلا مؤمنا " والله جل وعلا يقول "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك بإخوان الصدق تعش في أكفانهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يبغضك منه، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.
العاقل اللبيب خير صديق
الصديق العاقل اللبيب أمر أساسي في اختيار الأصدقاء فإنه ينفعك بعقله ولا يضرك بتصرفاته ويفيدك عند المشورة وأخذ الرأي، واحذر كل الحذر من مصاحبة الأحمق المغفل فتجلب لنفسك كثيرا من ا لأضرار والمصاعب وكيف تصاحب من لا يفرق بين النافع والضار
وليكن في صديقك الذي تختاره مع ما سبق حسن خلق ينفعك في وقت عسرك ويواسيك بماله ورأيه ومشورته ويقف معك في الملمات ويعفو عن الزلات ويملك نفسه عند الغضب فكم من صديق في اليسر لا تحمله أخلاقه على مواساة أصدقائه ولا على إيثارهم وقت شدتهم وعسرهم وكم من صديق سريع الغضب والضيق يغلب غضبه عقله ويقدم هواه على غيره، وكم من صحبة وصداقة ومودة أفسدها سوء الخلق وقبح الكلام وسوء التعبير وشدة الانفعال.
واسمع لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لولا ثلاث في الدنيا لما أحببت البقاء فيها، لولا أن أحمل أو أجهز جيشا في سبيل الله، ولولا مكابدة الليل، ولولا مجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتفي أطايب التمر.
الجد والاجتهاد والهمة العالية لا يمكن الاستغناء عنها
ولا بد في الصديق الذي تختاره أن يكون جادا سويا ذا همة عالية مبتعدا عن سفاسف الأمور وصغائر الأعمال لا يمارس ما يكون سببا للحكم عليه بالفسق أو قلة العقل والسفاهة والانحراف فإن ذلك كله له أثر على سمعتك وقد تتأثر من طول صبحته ببعض أخلاقه وصفاته الذميمة.
وأخيرا اعلم أن قضية الصحبة قضية دين وليست دنيا فقط وتأمل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :: الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.
=================000000
من السنة النبوية في التربية الأسرية (8)
( حامل المسك )
إعداد الدكتور: نظمي خليل أبو العطا
من وسائط الثقافة التي تؤثر في سلوك الإنسان جماعة الرفاق أو الصحاب , وتخاف معظم الأسر من قرناء السوء على أبنائها , وتعاني بعض الأسر من هذا الأمر ولا تعرف كيف تتصرف، من هنا وجب أن تتضمن مناهج التربية الأسرة موضوعات تعالج هذا الأمر، وقد عالجت السنة النبوية المطهرة هذا الأمر بطريقة تربوية معجزة وهذا ما سنوضحه في السطور التالية بإذن الله.
الحديث النبوي الشريف:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه رائحة طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة خبيثة ). متفق عليه.
نستنتج من الحديث التربية الأسرية التالية:
1ـ بيان أنواع الرفاق والجلساء:
يبين الحديث أنواع الرفقاء والجلساء والأصدقاء فإما أن يكون الصديق صالحاً نافعاً على كل الوجوه كحامل المسك، وإما أن يكون صديقاً سيئاً ضاراً وهذا كنافخ الكير وعندما تصنف الأصدقاء يعلم الصديق ماذا سيجني من صديقة.
2ـ نفع الأصدقاء ومضارهم:
فبعد أن يتعلم المتعلم أصناف الأصدقاء والجلساء , يبين الرسول صلى الله عليه وسلم نفع النافع وضرر الضار وفي هذا تربية إيمانية صحيحة.(2/22)
فالجليس الصالح يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك , ويحثك على الاجتهاد والعمل الجاد ومكارم الأخلاق ومحاسنها بقوله وعمله , ويرفع همتك وإيمانك فالهمة والإيمان تتأثران بالبيئة المحيطة بالإنسان فالصحابي قال للصحابي هيّا بنا نؤمن ساعة أي: نجلس في طاعة الله ساعة وأنت على كل حال متنفع بالصالح إما بالرؤية الطبية أو السماع الطيب أو المسلك الطيب.
أما الصنف الثاني جليس السوء وصاحب السوء فهو شر على من خالطه يكون عوناً للنفس الإمارة بالسوء ويضرك في دنياك ودينك ويقلل همتك للعمل والتفوق والنجاح.
3ـ التحبيب في الجليس الصالح:
ففي الحديث دعوة إلى التقرب والقرب وملازمة الصالح فهو نافع رائحته طيبه وسلوكه طيب وعمله طيب , وهو كمن يجالس بائع المسك إما أن ترى الطيب وإما أن تشم رائحة الطيب وإما أن يهديك أو تشتري منه، وهذا المثل يقرب النفوس وهذا يحبب النشء في الجليس الصالح.
4ـ التنفير من الجليس السوء:
ـ ففي الحديث تنفير من جليس السوء والصديق السيء فهو ضار وحارق ونتن المنظر نتن الرائحة نتن المسلك نتن العاقبة وإذا وعي النشىء هذا المثل نفر من الجليس السيء.
ـ تحويل المعنويات إلى محسوسات:
فالخلق السيء والخلق الحسن أشياء مجردة المعنى محسوسة النتائج , وضرب المثل يحول المعنويات إلى محسوسات أي حول السلوك الطيب إلى مسك ورائحة وشراء للطيب، كما حول السوء إلى نار ودخان وفحم ورائحة كريهة وحرق للثياب , وهذا أسلوب تربوي حديث التعلم بضرب الأمثال، والتعلم بالوسائل التعليمية، والمواقف التعليمية وفي هذا إحداث للتعلم القوي في وقت قصير وأوضح مفاهيم.
5ـ استغلال المتضادات في التربية:
فالمثل يقول: وبضدها تميز الأشياء، فوضع صوره المسك وبائع المسك، ورائحة المسك وشراء المسك وإهداء المسك، بجوار صورة الفحم والكير والنار والدخان والرائحة الكريهة وتلف الثوب يجسد المعاني كما قلنا ويؤكد عليها.
6ـ التعلم بضرب المثل:
استخدم المصطفى صلى الله عليه وسلم تعديل السلوك والتعلم بضرب المثل , وهذا نوع من التربية يجب التأكيد عليه واتباعه عند إعداد مناهج التربية الأسرية وتنفيذها.
7ـ الطبع يُعدي:
يؤكد الحديث على أن الطبع يُعدي ويَعْدي , ويجب الفرار من قرين السوء فرارنا من المريض بالأمراض المعدية الفتاكة والمنفرة , وهذا ما أكد عليه الحديث وما يجب أن نؤكد في مناهجنا وعند توجيهنا لأبنائنا لأن بعض الطلاب والأبناء يتصورون أنهم محصنون ضد التأثير بأخلاق الصحبة السيئة.
8ـ الوقاية خير من العلاج:
ففي الحديث وقاية من الوقوع في مجالس السيئين والتأثر بأخلاقهم , وهذا مبدأ تربوي مهم فقد كان الصحابي الجليل حذيفة يقول: ( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) وهذا ما يجب أن نعلمه لأبنائنا وطلابنا ومعلمينا أثناء تدريبهم للتربية الأسر
=================000
التحذير من صحبة السوء
إعداد- صلاح عبد المعبود
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
فإن المرء على دين خليله، والمرء يُعرف من صديقه، لأن الأشباه تجتمع وتتقارب، والطيور على أشكالها تقع، ولا أنفع للإنسان ولا أضر عليه من البيئة والصحبة، ولذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي".
وأخرج مسلم في صحيحه، قصة رجل من الأمم السابقة قتل تسعًا وتسعين نفسًا، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض- بغية التوبة- فدلوه على عابد، فأتاه وأخبره أنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال له: ليست لك توبة فقتله فأكمل به المائة- لكن الشعور بالذنب والندم على فعله والخوف من الله والإنابة إليه والحنين إلى التوبة، كل ذلك تحرك في قلبه، وجاشت في صدره العودة والرجوع إلى الله خوفًا من عذابه وطمعًا في جنته، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدلوه على عالم، فأتاه وأخبره أنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة، فقال له: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكنك في أرض سوء يُعبد فيها غير الله، فاذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قومًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، فحمل متاعه وخرج من قريته وبينا هو في منتصف الطريق أتاه ملك الموت فقبض روحه، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة الرحمة: إنه رجع إلى الله تائبًا، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل حسنة قط، فأرسل الله إليهم ملكًا ليُحَكِّموه بينهم، فقال لهم: قيسوا ما بين القريتين فإلى أيتهما كان أقرب فخذوه إليها، فأوحى الله عز وجل إلى الأرض الطيبة أن تقاربي، وإلى الأرض الخبيثة أن تباعدي، فلما قاسوا ما بين القريتين وجدوه إلى الأرض الطيبة أقرب فأخذته ملائكة الرحمة إلى الجنة.
إنها قصة عظيمة النفع، أرشد فيها هذا العالمُ الرجل التائب إلى عدة أمور من أهمها:
1- تغيير البيئة بالانتقال من أرض السوء إلى الأرض الطيبة.
2- تغيير الصحبة السيئة إلى صحبة طيبة تعين على طاعة الله.(2/23)
فالإيمان يزيد في البيئة النقية، وفي جوار الصالحين والمتقين، ولذلك كان من دعاء سليمان عليه السلام: "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين".
وكل فساد وبلاءٍ وانحراف إنما ينشأ من أعوان الشيطان وجنوده من الأنس الذين يفتحون على العبد أبواب الغفلة والشهوات ولا يعينون على فعل الطيبات والصالحات، وكم من عبد قد احتوشه قرناء السوء وأصحاب الشهوات، فزينوا له الباطل وأَعْمَوْا بصره وبصيرته عن رؤية الحق ومشاهدة مواطن الخير والفضل، وثبطوا همته عن التشمير عن ساعد الجد ومواصلة السير في طريق الجنة وسبل الخير، ولقد نهانا ربنا عن مصاحبة الأشرار، وبين أنهم يوم القيامة سيتبرأ بعضهم من بعض وسيلعن بعضهم بعضًا، وسيتهم كل منهم الآخر أنه كان وراء ضلاله وإفساده قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون.
أما المؤمنون الصادقون فقد نزع الله من صدورهم الغل وجعلهم إخوانًا على سرر متقابلين في جنات النعيم: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68) الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين.
ولقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى من تجب مصاحبته وملازمته، وذكر سمات الجليس الصالح والجليس السوء، فقال: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد: لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثة". {البخاري: 2049}.
فالصاحب الصالح هو المطيع لربه المستقيم على أمره، الأمين على دينه، العاقل الذي يقهر هواه، فلا خير في مصاحبة الأحمق السفيه الخائن الفاجر، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أمارات النفاق وحذر أمته من شعبه بقوله: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر". متفق عليه.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عليك بإخوان الصدق فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقلبك منه، واعتزل عدوك، ولا تصاحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمورك الذين يخشون الله تعالى...".
فلا بد من صحبة الأخيار والعيش معهم، فإن العبد وحده ضعيف أمام الأوامر والتكاليف، ولذلك فإن الجماعة رحمة وعون على الطاعة والاستقامة، والفرقة عذاب وشؤم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، وذلك يتأكد بالحث الدائم على صلاة الجماعة في المسجد حيث تذوب الفوارق وسط الجماعة بين المؤمنين، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من سره أن يلقى الله تعالى غدًا مؤمنًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف".
فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، والشيطان يفترس العبد إذا كان وحده وهو عليه أشد بصحبة السوء وأعوان الشر، ومن ثَمَّ فعلى العاقل أن يتخير أقرب الناس إليه والملتصقين به، فإنه يُعرف بهم، ومن أحب قومًا حُشر معهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم، ومن أدخل نفسه مدخلاً يتهمه الناس فيه فلا يلومن إلا نفسه، فقد سبق بذلك الإنذار والوعيد والأمر والنهي.
إن صحبة السوء عدوٌ مبين، وبطانة خبيثة، وجنود حاضرة للشيطان أينما يوجهها تسير وتعمل، ولذلك فلا خير إلا في صحبة المؤمن، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
والله من وراء القصد.
=================0
من وسائل اكتساب الأخلاق..الصحبة الصالحة
أثنى الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بحسن خلقه فقال : ( وإنِّكَ لَعلَى خُلُقٍ عظيم ) وأمره سبحانه بمحاسن الأخلاق فقال: ( ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليُّ حميم
وجعل جل وعلا الأخلاق الفاضلة سبباً تُنال به الجنة فقال : ( وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضُها السموات والأرض أُعدَّت للمتقين الذين ينفقون فى السَّراء والضَّراء والكاظمين الغيظَ والعافينَ عنِ النَّاس واللهُ يُحبُ المحسنين ) وبعث رسوله صلى الله عليه وسلم بإتمامها فقال عليه الصلاة والسلام :إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.(2/24)
بيناالرسول صلى الله عليه وسلم فضل محاسن الأخلاق فقال: ما من شيءٍ فى الميزان أثقل من حسن الخلق. وقال: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقا.ً
رواه احمد وابو داود وسئل صلى الله عليه وسلم عن أى الأعمال أفضل فقال : حسن الخلق ولما سُئِل عن أكثر ما يُدخل الجنة قال: تقوى الله وحسن الخلق. فإذا كان الدين هو حسن الخلق فالواجب على كل من آمن بالله واليوم الآخر وآثرنجاة نفسه أن يتعرف على هذا المعنى الجليل وأن يلتزم به.
طبيعة الإنسان
الطبع يسرق من الطبع، والإنسان ابن بيئته، حقائق لامراء فيها،إذ من طبيعة الإنسان أن يتأثر بالوسط المحيط به والجماعة التى يتعايش معها.يقول الباحث الاسلامى ماهر السيد:إن الفرد حين ينخرط فى سلك مجموعة من مجموعات البشر يجد نفسه مدفوعاً لالتزام طريقتها، واستحسان ما تستحسنه الجماعة،واستقباح ما تستقبحه،وبذلك يكتسب الفرد - ولو لم يشعر - أخلاق الجماعة التى ينتسب إليها وينخرط فيها.إن البيئة التى يعيش الإنسان فيها تؤثر فيه ولاشك، فإذا وُضع بخيل بين كرماء مدة طويلة من الزمن خف عنده البخل وتعود على بعض مظاهر الكرم،وإذا وُضع جبان بين شجعان اكتسب منهم قسطاً من الشجاعة، وبذلك تخف عنده نسبة الجبن.
الصحبة الصالحة
وكذلك البيئات المنحرفة تؤدى دوراً عظيماً وكبيرًا فى اكتساب أفرادها الرذائل ومساوئ الأخلاق، ومما يؤسف له أن تُستغل هذه الوسيلة من قبل المغرضين والمفسدين لإضلال الشباب والفتيات وغوايتهم وتنشئتهم على مفاهيم وقيم مخالفة لتعاليم وقيم الإسلام.
ومن أجل التأثير العظيم للبيئة فى نفوس أبنائها وجدنا الإسلام يحث المسلمين على اختيار الصحبة الصالحة، ويحذرهم من صحبة السوء.
قال صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة"
وقال الله تعالي:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) الكهف/28.
وقال صلى الله عليه وسلم: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" حسن0
فيا ابن الإسلام، ويا مريد الخير، ويا سلالة الصالحين:
أنت فى الناس تقاس بالذى اخترت خليلاً
فاصحب الأخيار تعلو وتنل ذكراً جميلا
ولا تصاحب الفساق والفاسدين فتكون مثلهم:
ولا تجلس إلى أهل الدنايا فإن خلائق السفهاء تعدي
قال على بن أبى طالب رضى الله عنه:لاتصاحب الفاجر فإنه يزين لك فعله ويود لو أنك مثله.
وأختم هذه المقالة بكلام الغزالى رحمه الله إذ يقول: (أما الفاسق المصر على فسقه فلا فائدة فى صحبته، بل مشاهدته تهون أمر المعصية على النفس، وتبطل نفرة القلب عنها، ولأن من لا يخاف الله لا تؤمن غوائله، ولا يوثق بصداقته، بل يتغير بتغير الأغراض.
=================00
رجل.. ونصف رجل.. ولا شيء
من الطرق السهلة التي يمكنك بها هندسة التأثير أن تستفيد من شخص مؤثر، وذلك بالالتصاق به والاستفادة من علمه وموقعه ومهاراته وحماسه والفنون التي يجيدها وكذلك من آرائه واقتراحاته، فالصاحب ساحب، "والمرء على دين خليله".
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة".
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقيل: "الناس: رجل، ونصف رجل، ولا شيء، فالرجل من له رأي صائب ويشاور، ونصف الرجل من له رأي صائب ولا يشاور أو يشاور ولا رأي له، ولا شيء هو من لا رأي له ولا يشاور".
ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثير من الأصحاب الذين تربطهم به علاقات قوية، ولكن نفراً منهم التصق به التصاقاً قوياً حتى كان بعضهم لا يفارقه إلا حين النوم، ولذا كانت أكثر الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها هؤلاء الملتصقون به كأبي هريرة وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً.(2/25)
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثله! وإن إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصفة، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه يوماً: "إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي ثم يجمع إليه ثوبه، إلا وعى ما أقوله"، فبسطت نمرة عليَّ، حتى إذا قضى مقالته، وجمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء".
وهذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الذي كان من أكثر الصحابة التصاقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من السابقين الأولين، ومن النجباء العالمين، شهد بدراً، وهاجر الهجرتين، ومناقبه غزيرة وروى علماً كثيراً. عن مسروق قال: قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه.
وهناك كثير من العلماء من جمهور التابعين وتابعيهم كانوا أشد الناس حرصاً على الالتصاق بشيوخهم، ليأخذوا عنهم الحديث والفقه واللغة والأدب وغيرها من العلوم والفنون.
فقد وصل عدد شيوخ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري الذين كتب عنهم (1080) شيخاً، منهم أحمد بن حنبل، ومحمد بن عيسى الطباع، وإسحاق بن منصور. وأما عن تلاميذه الذين التصقوا به فعلى رأسهم الإمام مسلم، والترمذي، وابن خزيمة، والبغوي والنسفي.
وكذا الإمام مسلم فقد وصل عدد شيوخه إلى أكثر من (220) شيخاً، منهم: الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى ابن معين، والدارمي، والبخاري، وابن حميد. وأما عن تلاميذه الذين لازموه وأخذوا عنه فهم كثير، منهم: الفراء، وأبوحاتم الرازي، وابن خزيمة، والترمذي.
ورغم أهمية الاتصال بهؤلاء المؤثرين والالتصاق بهم إلا أنه ينبغي لصانع التأثير ألا يذوب فيهم، وألا يفقد شخصيته عندهم، وألا يكون كالميت بين يدي المغسِّل، وألا ينسى هدفه الرئيس الذي من أجله التصق بهم، وإنما عليه أن يستثمر صلته بهم من أجل تفعيل مشروعه التأثيري النافع وتسريعه وإنجازه بيسر.
لما قدم السلطان عبدالعزيز مصر، وزار الجامع الأزهر، صحبه الخديوي إسماعيل فلحظ الخديوي على شيخ بالجامع كأنه غير مهتم، فهو مسند ظهره، ماد رجله، فأسرع بالسلطان عنه، ثم كلف أحد رجاله أن يذهب له بصرة، يريد أن يعرف حاله، فلما جاء الرسول ليعطيه قبض الشيخ عنه يده، وقال له: قل لمن أرسلك: إن من يمد رجله لا يمد يده.
ويقول روبرت غرين: ابق مترفعاً وسيأتي الناس إليك، إذ سيصبح كسب عواطفك نوعاً من التحدي لهم، وما دمت تقلّد الملكة العذراء وتذكي آمالهم فإنك ستظل مغناطيساً يجتذب الاهتمام والرغبة.
وعند حديثنا عن هذا النوع من الاستثمار فإننا لا نقصد به استغلال هؤلاء المؤثرين لمصالح شخصية محدودة وإنما استثمارهم لمصلحة الأمة، خاصة ونحن عندما نتكلم عن صناعة التأثير وهندسة الحياة فإننا نقصد به التأثير الإيجابي النافع لا التأثير السلبي الضار.
وهنا نقول: إذا أردت أن تكون خطيباً مؤثراً فالتصق بخطيب مؤثر واستفد من أسلوبه وأخلاقه وحماسه، ولكن لا تكن نسخة طبق الأصل منه، لأن الناس لا يحترمون التقليد وإنما يحترمون الأصل ويقدرونه، ولذا يحسن بك تجنب نواقص هذا الخطيب وأخذ أفضل ما عنده، ومن ثمَّ إضافة شيء من عندك لتتميز به عنه، فيكون لك طعمك الخاص ولونك الفاقع ورائحتك المميزة، وقس على ذلك بالنسبة للالتصاق بالأنواع الأخرى من المؤثرين.
د.على الحمادي
=================000000
حسن الخاتمة وسائلها وعلاماتها والتحذير من سوء الخاتمة
عبد الله بن محمد المطلق
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء وأحصى كل شيء عدداً رحم من شاء من عباده فهيأ لهم في الدنيا ما يرفع به درجاتهم في الآخرة فثابروا على طاعته واجتهدوا في عبادته إن أصابتهم سراء شكروا فكان خيراً لهم وإن أصابتهم ضراء صبروا، فكانوا ممن قال الله فيهم: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10].(2/26)
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا… أما بعد: فإن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار فقد ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، وكم حسرة تحت التراب، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سبباً في هلاكه، قال ابن مسعود: المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه. [البخاري 11/88، 89 ومسلم أيضاً].
وكم شخص أصر على صغيرة فألفها وهانت عليه ولم يفكر يوماً في عظمة من عصاه فكانت سبباً في سوء خاتمته، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات [البخاري 11/283]. وقد نبه الله في كتابه جميع المؤمنين إلى أهمية حسن الخاتمة، فقال - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [سورة آل عمران، آية 102]. وقال - تعالى -: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [سورة الحجر، آية: 99].
فالأمر بالتقوى والعبادة مستمر حتى الموت لتحصل الخاتمة الحسنة وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن بعض الناس يجتهد في الطاعات ويبتعد عن المعاصي مدة طويلة من عمره ولكن قبيل وفاته يقترف السيئات والمعاصي مما يكون سبباً في أن يختم له بخاتمة السوء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" [البخاري 11/417 ومسلم برقم: 2643].
وورد في حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رجلاً من المسلمين في إحدى المعارك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبلى بلاءً شديداً فأعجب الصحابة ذلك وقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما إنه من أهل النار" فقال بعض الصحابة: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه سأنظر ماذا يفعل فتبعه، قال فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فرجع الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: "وما ذاك؟ " قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" وفي بعض الروايات زيادة "وإنما الأعمال بالخواتيم" رواه البخاري ومسلم.
وقد وصف الله - سبحانه - عباده المؤمنين بأنهم جمعوا بين شدة الخوف من الله مع الإحسان في العمل فقال: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) [سورة المؤمنون آية 57- 61]. وقد كانت هذه حالة الصحابة - رضي الله عنهم -
وقد روى أحمد عن أبي بكر الصديق أنه قال: "وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن وكان رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد" وكان علي بن أبي طالب يشتد خوفه من اثنتين طول الأمل واتباع الهوى قال: "فأما طول الأمل فينسي الآخرة وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وكان يقول: ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة قد أسرعت مقبلة ولكل واحدة منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل". وقد كان موت الفجأة مذموماً في الإسلام لأنه يباغت صاحبه ولا يمهله فربما كان على معصية فيختم له بالخاتمة السيئة. وقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة خوفاً شديداً، قال سهل التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله - تعالى - إذ قال: (وقلوبهم وجلة). وينبغي أن يكون الخوف من سوء الخاتمة ماثلاً أمام عين العبد في كل لحظة لأن الخوف باعث على العمل وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة" [الترمذي برقم 2452].(2/27)
لكن إذا قاربت وفاة الشخص وأشرف على الموت فينبغي له حينئذ أن يغلب جانب الرجاء وأن يشتاق إلى لقاء الله فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله - عز وجل -" [مسلم برقم 2877]. لكن كثيراً من جهلة المسلمين اعتمدوا على سعة رحمة الله وعفوه ومغفرته فاسترسلوا في المعاصي ولم ينتهوا عن السيئات بل جعلوا علمهم بهذه الصفات من أعظم الدواعي على الاستمرار على المعاصي، وهذا خطأ واضح واستدلال موصل للهلاك فإن الله غفور رحيم وشديد العقاب كما صرح بذلك في كتابه في كثير من المواضع فقال جل من قائل: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم) [سورة الحجر، آية 49-50]. وقال: (حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) [سورة غافر آية 1-3]. قال معروف الكرخي: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق.
وقال بعض العلماء: من قطع عضواً منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا. وينبغي للمسلم أن يحرص على أن يتخلص من ديون الناس ومظالمهم فإن ما كان للعبد عند أخيه سيطلبه منه يوم القيامة لا محالة، فإن كانت له حسنات أخذ منها وإن لم يكن له حسنات أخذت من سيئاته وطرحت عليه وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه. وسنبين هنا الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة بإيجاز. أولاً: التسويف بالتوبة: والتوبة إلى الله من جميع الذنوب واجبة على كل مكلف كل لحظة كما يدل عليه قوله - تعالى -: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) [سورة النور، آية: 31].
وكان - صلى الله عليه وسلم - وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخرن يتوب إلى الله كل يوم مائة مرة. روى الأغر المزني قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" [مسلم برقم 2702]. وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له [ابن ماجة برقم 4250 وإسناده حسن].
ومن أنجح حيل إبليس التي يحتال بها على الناس التسويف في التوبة فيوسوس للعاصي بأن يتمهل في التوبة فإن أمامه زمناً طويلاً ولو تاب الآن ثم رجع لا يمكن أن تقبل توبته بعد ذلك فيكون من أصحاب النار، أو يوسوس له بأنه إذا بلغ الخمسين أو الستين مثلاً عليه أن يتوب توبة نصوحاً ويلزم المسجد ويكثر القربات أما الآن فإنه في شبابه وزهرة عمره فليمتع نفسه ولا يشق عليها بالتزام الطاعات من الآن.
هذه بعض مكائد إبليس في التسويف في التوبة. قال بعض السلف الصالح: أنذركم سوف، فإنها أكبر جنود إبليس، ومثل المؤمن الحازم الذي يتوب إلى الله من كل ذنب وفي كل وقت خوفاً من سوء الخاتمة ومحبة لله. والمفرط المسوف الذي يؤخر توبته كمثل قوم في سفر دخلوا قرية فمضى الحازم فاشترى ما يصلح لتمام سفره وجلس متأهباً للرحيل. أما المفرط فإنه يقول: كل يوم سأتأهب غداً حتى أعلن أمير القافلة الرحيل ولا زاد معه، وهذا مثل للناس في الدنيا فإن المؤمن الحازم متى ما جاء الموت لم يندم أما العاصي المفرط فإنه يقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت…
ثانياً: طول الأمل: وهو سبب شقاء كثير من الناس حين يخدعه الشيطان فيصور له أن أمامه عمراً طويلاً وسنين متعاقبة يبني فيها آمالاً شامخة فيجمع همته لمواجهة هذه السنين ولبناء هذه الآمال وينسى الآخرة ولا يتذكر وإذا ذكره يوماً برم منه لأنه ينغص عليه لذاته ويكدر عليه صفو عيشه، وقد حذرنا منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أشد التحذير فقال: "إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فإنه الحب للدنيا" [رواه ابن أبي الدنيا بسند ضعيف].
فإذا أحب الإنسان الدنيا أكثر من الآخرة آثرها عليها واشتغل بزينتها وزخرفها وملذاتها عن بناء مسكنه في الآخرة في جوار الله في جنته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ويظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى الأعمال الصالحة واغتنام أوقات العمر فإن الأنفاس معدودة والأيام مقدرة وما فات لن يعود وعلى الطريق عوائق كثيرة بينها - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: "بادروا بالأعمال سبعاً هل تنظرون إلا إلى فقر منس أو غنى مطغ أو مرض مفسد أو هرم مفند أو موت مجهز أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" [الترمذي برقم 2408 وقال: حديث غريب حسن].
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" رواه البخاري 11/190-200].(2/28)
وقد أرشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين إلى ما يبعد عنهم طول الأمل ويبصرهم بحقيقة الدنيا، فأمر بتذكر الموت وبزيارة القبور وبتغسيل الموتى وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وزيارة الصالحين فإن كل هذه الأمور توقظ القلب من غفلته وتبصره بما سيقدم عليه فيستعد له وسنتكلم عن ذلك بإيجاز: أ - أما ذكر الموت دائماً فإنه يزهد في الدنيا ويرغب في العمل الصالح وعدم الركون إلى الشهوات المحرمة في الدنيا الفانية وقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكثروا من ذكر هادم اللذات" [الترمذي برقم 2409 وقال: حديث غريب حسن ورواه ابن ماجة برقم 4258].
وعن ابن عمر قال: قال رجل من الأنصار: من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم استعداداً له أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة" [رواه ابن ماجة برقم 4259 بسند ضعيف مختصراً. ورواه أيضاً ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح جيد قاله العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 4/451].
ثم يفكر الإنسان في الموتى ألم يكونوا أقوياء الأبدان يملكون الأموال ويأمرون وينهون، واليوم قد تسلط الدود على أجسادهم فنخرها وعلى عظامهم فبددها ثم يفكر هل له أن يسلم من الموت أم أنه سيصل إلى ما وصل إليه أولئك فيستعد لتلك الدار ويتأهب بالأعمال الصالحة فإنها العملة النافقة في الآخرة…
ب - أما زيارة المقابر فإنها عظة بليغة للقلوب فإذا رأى الإنسان المساكن المظلمة المحفورة ورأى هذه النهاية التي يحثو فيها أحباء الميت عليه التراب بعد إدخاله في لحد ضيق وإغلاقه عليه بلبنات من طين ثم يرجعون عنه ويقتسمون أمواله ويتملكون مخصصاته وتزوج نساؤه وينسى بعد مدة يسيرة بعد أن كان صاحب الكلمة في البيت يأمر فيطاع وينهى فلا يعصى، فإذا زار المؤمن المقبرة وتفكر في ذلك أدرك فائدة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت" [مسلم برقم 976].
ج - أما تغسيل الموتى وتشييع الجنائز فإن في تقليب الجسد على خشبة المغسلة عظة بليغة إذ هو في حال حياته وقوته لا يستطيع أحد أن يقلبه ولا أن يدنو منه إلا بإذنه، وربما كان شديد البطش عظيم الهيبة وقد صار بالموت جسداً خامداً لا حراك به يقلبه الغاسل كيف يشاء. وقد كان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل له، وكان عثمان رضي الله عنه إذا شيع جنازة ووقف على القبر بكى فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي إذا وقفت على القبر فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد" رواه أحمد الترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه.
د -أما زيارة الصالحين فإنها توقظ القلب وتبعث الهمة فإن الزائر يرى الصالحين وقد اجتهدوا في العبادة وتنافسوا في الطاعة لا غاية لهم إلا رضى الله ولا هدف لهم إلا الفوز بجنته معرضين عن التفاني على الدنيا والاشتغال بها لأنها معوقة عن السير في ذلك الطريق الشريف، وقد أرشد الله نبيه أن يصبر نفسه مع هؤلاء: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) [سورة الكهف: آية 28].
وقيل للحسن: يا أبا سعيد كيف نصنع أنجالس أقواماً يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك خوف.
ثالثاً حب المعصية وإلفها واعتيادها فإذا ألف الإنسان معصية من المعاصي ولم يتب منها فإن الشيطان يستولي على قلبه وتستولي على تفكيره حتى في اللحظات الأخيرة من حياته فإذا أراد أقرباؤه أن يلقنوه الشهادة ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله طغت هذه المعصية على تفكيره فتكلم بما يفيد انشغاله بها وإليك بعض قصص هؤلاء. رجل كان يعمل دلالاً في السوق ولما حضرته الوفاة لقنه أولاده الشهادة فكانوا يقولون له قل: لا إله إلا الله فيقول أربعة ونصف أربعة ونصف. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: يا رب قائلة يوما وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فجعل يغني [الجواب الكافي 96]. وربما أدركه الموت في المعصية نفسها فيلقى الله على تلك الحال التي تغضبه وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات على شيء بعثه الله عليه" [رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي].(2/29)
رابعاً الانتحار: فإذا أصاب المسلم مصيبة فصبر واحتسب كانت له أجراً وإن جزع وتضايق من الحياة ورأى أن أحسن طريق له أن يتخلص به من هذه المشاكل هو الانتحار فقد اختار المعصية وأسرع إلى غضب الله وقتل نفسه بدون حق وقد روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعن نفسه يطعنها في النار" وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: شهد رجل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحه فقيل له: يا رسول الله الذي قلت له آنفاً أنه من أهل النار فإنه قد قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إلى النار" فكاد بعض المسلمين أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل له إنه لم يمت ولكن به جراح شديدة فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" [البخاري 6/125 ومسلم برقم 111].
بشائر تدل على حسن الخاتمة نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على بشائر تدل الخاتمة إذا كانت وفاة العبد مع واحدة منها كان ذلك فألا طيباً وبشارة حسنة منها:
:1- نطقه بكلمة التوحيد عند الموت فقد روى الحاكم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [أبو داود 3116 والحاكم 1/351 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].
2- أن يموت شهيداً من أجل إعلاء كلمة الله قال - تعالى -: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) [سورة آل عمران آية 169-171]. 3- أن يموت غازيا في سبيل الله، أو محرماً بحج، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد" رواه مسلم وأحمد، وقال - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي وقّعته ناقته: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" [مسلم برقم 1206].
4- أن يكون آخر عمله طاعة الله فقد روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة" [رواه أحمد 5/391].
5- الموت في سبيل الدفاع عن الخمس التي حفظتها الشريعة وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل. عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد" [رواه أبو داود برقم 4772 والترمذي برقم 1418و 1421].
6- أن يموت صابراً محتسباً بسبب أحد الأمراض الوبائية وقد نبه النبي صلى اله عليه وسلم إلى بعضها فمنها: I- الطاعون: روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطاعون شهادة لكل مسلم" [البخاري 10/156-157]. II- السل: روى راشد بن حبيش قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قتل المسلم شهادة والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة والسل شهادة" [رواه أحمد 3/289]. ج- داء البطن: روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن مات في البطن فهو شهيد" [رواه مسلم برقم 1915]. د- ذات الجنب: روى جابر بن عتيك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وصاحب ذا الجنب شهيد" وسيأتي بتمامه بعد قليل.
7- موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها: روى عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة يجرها ولدها بسرره إلى الجنة" [رواه أحمد 4/201و 5/323].
8- الموت بالغرق والحرق والهدم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم" [الترمذي برقم 1063 وروى نحوه مسلم برقم 1915]. وعن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد والحرق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة" [رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي].(2/30)
9- الموت ليلة الجمعة أو نهارها: روى عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر" [رواه أحمد 2/176 والترمذي برقم 1080 وقال: حديث غريب وليس إسناده بمتصل]. 10- عرق الجبين عند الموت: فقد روى بريدة عن الحصيب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن يموت بعرق الجبين" [رواه الترمذي برقم 982 والنسائي 4/6 وسنده حسن].
خاتمة: وفي نهاية هذا اللقاء يحسن بنا أن نوجز الوسائل التي جعلها الله سبباً في حسن الخاتمة وهي:
1- تقوى الله في السر والعلن والتمسك بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو سبيل النجاة، قال - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [سورة آل عمران آية 102]. وأن يحذر العبد من الذنوب أشد الحذر فإن الكبائر موبقات وإن الصغائر مع الإصرار تتحول إلى كبائر وكثرة الصغائر مع عدم التوبة والاستغفار ران على القلب. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه" [رواه احمد 5/331].
2- المداومة على ذكر الله فمن داوم على ذكر الله وختم به جميع أعماله، وكان آخر ما يقول من الدنيا لا إله إلا الله نال بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [أبو داود 3116 والحاكم 1/351 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي]. وروى سعيد بن منصور عن الحسن قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: "أن تموت يوم تموت ولسانك رطب من ذكر الله" [المغني لابن قدامة 2/450].اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم في جنتك وجوارك وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
لا تأمن أخي المسلم مكر الله
الحمد لله مسدي النعم، كاشف الغم، كاسي العظام لحماً بعد الفناء والعدم، وصلىالله وسلم على من ختمت به الرسالة، وتمت به النعمة، وكمل به الدين، وجعل كتابه خاتم الكتب، والمهيمن عليها، وشريعته ناسخة للشرائع، ورسالته أفضل الرسائل ، وأمته خير الأمم.
وبعد ..
فإن الأعمال بخواتمها، فالسعيد من ختم له بخير، والشقي البعيد من رحمة الله من ختم له بسوء، وحُرم من جنة عرضها السموات والأرض، ولم تسعه رحمة الله التي وسعت كل شئ، وكل هذا مقضي مقدر بما سبق عليه الكتاب، وحكم به رب العباد، كما ورد في حديث الصادق المصدوق: "فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها إلاَ ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلاَ ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"1، فكل ميسر لما خلق له: "فأما من أعطى و اتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى"؛ و لهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالخواتيم"2.
ما الذي يؤمننا مكر الله، وقد حذرنا ربنا مغبة ذلك؟ وبين أن ذلك خُلُق القوم الخاسرين: "أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلاَ القوم الخاسرون"3، ما الذي يؤمننا وقد خاف ذلك أسلافنا الصالحون؟ ما الذي يؤمننا وقد أغلق الخوف من سوء الخاتمة الأتقياء من المؤمني ؟ ليس لذلك سبب سوى الغفلة والتفريط والجهل بقدر الله عزّ وجل؛ ورحم الله الحسن البصري حين قال: "المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن"؛ كيف يأمن المؤمن وما من قلب إلاّ وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء ثبته وإن شاء قلبه كما صح في الخبر؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يكثر من قول: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"4؛ "اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك"5.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "فالخواتيم ميراث السوابق، وكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق.
وقد قيل إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟ وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟
ويحكي أن بعض الصحابة خاف عند موته، فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى قبض خلقه قبضتين، فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، ولا أدري في أي القبضتين كنت."
كيف تأمن سوء الخاتمة وقد ختم بها لبعض من بايع الرسول صلى الله عليه وسلم وجاهد في سبيل الله وأبلى في الجهاد؟(2/31)
فذو الخويصرة التميمي وهو الحرقوص السعدي، قال عنه ابن الأثير في "أُسْد الغابة في تمييز الصحابة": (من الصحابة، ذكره الطبراني وقال: إن الهرمزان الفارسي، كفر ومنع ما قِبَله، واستعان بالأكراد، وكثر جمعه، فكتب عتبة بن غزوان إلى عمر رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر يأمره بقصده، وأمر المسلمين بحرقوص بن زهير وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بالقتال، فاقتتل المسلمون والهرمزان، فانهزم الهرمزان، وفتح الحرقوص سوق الأهواز ونزل بها، وله أثر كبير في قتال الهرمزان؛ وبقي حرقوص إلى أيام علي رضي الله عنه، وكان مع الخوارج لما قاتلهم علي، فقتل حرقوص يومئذ سنة سبع وثلاثين).
هذا الرجل خلط عملا صالحا وآخر سيئاً، ولذلك ختم له بسوء، لما سبق له في الكتاب الأول، فهو الذي:
{ ... بال في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ ... وهو الرادّ على الرسول صلى الله عليه وسلم قوله وهو يقسم: اعدل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟"
{ ... وهو الذي خاصم الزبير في شراج الحرة، وقال: إن كان ابن عمتك؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير باستيفاء حقه.
{ ... وهو الذي خرج على عليّ فيمن خرج، وفجر، وقاتله قتالا شديداً.
{ ... وهو من القوم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "ينكر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية"، وفي رواية: "ثم لا يعودون".
{ ... وهو الذي قتله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، واستبشر عندما وجده بين القتلى مع أهل النهروان.
هذه الفعال هي التي أوردت هذا الرجل موارد الهلاك، وجعلت ربنا سبحانه و تعالى يحكم عليه بما ختم له به، وما ربك بظلام للعبيد.
فاحذر أخي موجبات سوء الخاتمة، وأسباب فساد الدنيا والآخرة، التي أوردت حرقوص وغيره المهالك، وأخطرها ما يلي:
1. الرد على الله و الرسول صلى الله عليه وسلم.
2. عدم تعظيم شعائر و محارم الله عزوجل.
3. الطعن والتشكيك والإنتقاص من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4. الخروج على جماعة المسلمين.
5. حب الجاه والزعامة والمال.
6. الإصرار على المعاصي فهي بريد الكفر.
7. تسويف التوبة و تأخيرها.
8. الغفلة، وطول الأمل، وكراهية الموت.
9. الأمن من مكر الله .
10. الاسترسال مع الشبه و الشهوات.
11. الإعراض عن العلم الشرعي.
12. حب الجدل و المراء في الدين.
والله أسأل أن يختم لنا ولجميع إخواننا المسلمين بخير ، وأن يجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير ، وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها ، وخير أعمارنا أواخرها ، وخير أيامنا يوم نلقاه ، وآخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله ، وأن ينعم علينا بالاجتماع مع أنبيائه ، ورسله ، والشهداء ، والصالحين ، في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مذلة ، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الملحمة ، وعلى آله وصحبه أفضل هذه الأمة ، والسلام
=================000
الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله
أوصي نفسي وأوصيكم بتقوى الله العلي العظيم اتقوا الله حق تقاته واعلموا أن ربنا سبحانه وتعالى حذرنا من الأمن من مكره وحذرنا من القنوط من رحمته يقول ربنا عز من قائل { َلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
من هنا أنصح نفسي وأنصحكم إياك ثم إياك، إياك ثم إياك أن تأمن مكر الله ما معنى ذلك؟ فرعون إسترسل حتى قال أنا ربكم الأعلى، أمر الله موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه، ضرب موسى عليه الصلاة والسلام البحر بعصاه فانفلق البحر فلقتين بينهما أرض يابسة نستطيع أن نلحق بموسى ولكنهم جهلوا ما كتبه الله عليهم فنجى موسى ومن معه وأمر البحر أن ينطبق على فرعون فأدركه الموت فقال ءامنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين قال ربنا الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. فكان الإجماع أن فرعون لم تقبل توبته إذا فرعون ما عرف كيف جزاء الله ومعاقبته للكافرين فرعون أراد أن يبطش بموسى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
المكر بالنسبة للإنسان هو الخداع إذا قيل عن إنسان ماكر معناه مخادع أما مكر الله معناه أنه يوصل الجزاء والعقوبة، يوصل الجزاء والعقوبة للماكرين من حيث لا يشعرون وأوصل الجزاء والعقوبة لفرعون.(2/32)
إخواني إياكم أن تسترسلوا بالحرام أن تسترسلوا في إرتكاب ما حرم الله من صغيرة أو كبيرة معتمدين على رحمة الله جازمين أن الله لن يعذبكم بل سيسامحكم، إياكم وهذا، هذا هو الأمن من مكر الله، لا يجوز هذا لا يجوز، لا يجوز أن تأمن مكر الله، لا يجوز أن تأمن عقوبة الله وتسترسل بالحرام، لا يجوز أن تأمن عقوبة الله وأن تسترسل فيما حرم الله عليك فاتقوا الله واعلموا أن الأمن من مكر الله ذنب كبير، وكذلك القنوط من رحمة الله بعض الناس يقول لهم شيطانهم أنت عصيت الله كثيرا إرتكبت الكثير الكثير من الحرام كيف تتوب الآن ذنوبك كثيرة بعض الذنوب ما عدت تذكرها، يغلق عليه الباب حتى يصير قانطا من رحمة الله، وربنا قال: {لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
القنوط من رحمة الله ذنب كبير، إعزم على التوبة، إعزم في قلبك أنك لن تعود إليها أبدا إعزم بقلبك أن لا تعود إليها أبدا وتحسر وتندم فإن ربنا يقول: {عبدي لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا إلا أتيتك بقرابها مغفرة} معناه أن الله يغفر لمن يشاء إلا الذين لم يحافظوا على الإسلام يسبون الله أو رسل الله أو يسبون الملائكة أو دين الإسلام أو يعبدون غير الله أو يجعلون لله شبيها أو شريكا.
هؤلاء الكفرة إن ماتوا على الكفر فلن يغفر الله لهم وأما المؤمن العاصي فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه.
نسأل الله أن يتوفانا وهو راض عنا.
عباد الله إتقوا الله حق تقاته إننا أمام أيام عظيمة أيام طواف وسعي أيام وقوف عرفة أيام طواف حول البيت العتيق بيننا وبين تلك الأيام شهر فمن أراد حج بيت الله الحرام فليجمع ماله من مال حلال وإياكم والحرام. ولا تأكلوا لحما من مال حرام واعلموا أن الله سبحانه يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وتذكروا أن الصدقة تدفع البلاء داووا مرضاكم بالصدقة، تدفع الصدقة عنكم البلاء فتصدقوا ولو بقليل ابتغاء مرضاة الله واعلموا أن الله أمركم بأمر عظيم، أمركم بالصلاة والسلام على النبي المصطفى الكريم.
=================00
رسالة إلى مسؤول وتاجر
بسم الله نبدأ وعلى هدي نبيه صلى الله عليه وسلم نسير
إلى كل مسؤول مسلم سمع ورأى سب المشركين واستهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد وضع الله في رقبتك أمانة هي من أعظم الأمانات , إنها خير أمة أخرجت للناس , فالله الله في الأمانة , وليتق كل امرئ منا ربه فيما استرعاه.
أخي المسؤول المسلم :
فرطنا في ديننا وتركنا شريعة ربنا وراء ظهورنا فصرنا في ذيل الأمم , فهلا ساهمت في رد الأمة إلى صدارة الدنيا.
أخي : اعلم أن الله اختارك لمكانك ليبتليك ويبتلي بك ثم إما أن يدخلك الجنة أنت ومن تبعك على الحق وصبر معك على تحقيق العدل ونشر الخير, وإما أن يدخلك جهنم أنت ومن تبعك على تزيين الباطل وطمس الحق وتشويهه.
أخي المسؤول المسلم: كلنا نحب شريعة ربنا وكلنا نحب نبينا صلى الله عليه وسلم , ولكن منا من يؤثر حب النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ومنا من يؤثر دنياه فضلاً عن نفسه على محبة نبيه ودينه , و أذكرك بأن المتاع قليل والدنيا معبر للآخرة وسيجد كل منا ما قدم غداً.
أخي المسؤول المسلم : نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأزمة التي أعلن فيها الغرب عدائه لنبي الإسلام , إنما يكون بالمساهمة في نشر سنته صلى الله عليه وسلم , وتحريك الناس لشريعته واتباعه ومساعدة الدعاة على نشر دعوته صلى الله عليه وسلم , والتحذير من كل بدعة ومبتدع , ولا يكون هذا إلا في يد السلطان المسلم وكل مسؤول في مكانه يملك يد التغيير " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن "
أخي المسؤول المسلم : دعمك لمقاطعة بضائع المعتدين بداية الطريق لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم , ولكن هذا نخاطب به التجار أما أنتم أهل السياسة والرياسة فنخاطبكم بالمقاطعة الدبلوماسية التي تليق بمكانكم وتثبتوا بها للعالم ثباتكم على مبادئ دينكم , وتناغمكم مع مشاعر شعوبكم , واعلملوا أن هذا يجلب لكم الاحترام حتى من عدوكم.
أخي المسؤول : ما فقدنا احترامنا بين الأمم وما قلت مهابتنا وانكمشت إلا بتركنا لتحكيم شريعة ربنا فإلى حكام المسلمين: هلا أعدتم إلينا مهابتنا الضائعة وهلا اعدتم إلينا اقتصادنا الإسلامي بعدما جربتم كل منهج ولم تجدوا إلا الخسارة وانهيار الاقتصاد , هلا أعدتم إلينا حكمنا الإسلامي بعدما جربتم قوانين الغرب وفشلت في إنهاء مشاكلنا بما تحمله من ثغرات في وقت نملك فيه أفضل نظام وأشمل قانون على وجه الأرض ألا وهو قانون السماء شريعة رب البرية .
حكام المسلمين هلا أعدتم إلينا أنفسنا بإعادة شريعة ربنا لتعلنوا انتصاركم لسيد البشر صلى الله عليه وسلم, أعيدوا لنا أنفسنا بإعادة شريعة ربنا.(2/33)
أما أنت أخي التاجر المسلم ....
لما هاجر صهيب الرومي فاراً بدينه من كفار قريش لحقه بعضهم يريدون قتاله على ما معه من مال كان قد اكتسبه من تجارته بينهم , فوقف شامخاً وذكرهم بأنهم من أرماهم وخوفهم بالقتل ثم ساومهم أن يتركوه ويأخذوا المال ففعلوا , فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد تجرد من أمواله عاجله النبي صلى الله عليه وسلم بالبشرى قائلاً " ربح البيع أبا يحيى "
وسائل الثبات وأسبابه
الحمد لله، وبعد...
فاتقوا الله أيها المؤمنون كما أمركم ربكم، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[102]}[سورة آل عمران]. واعلموا أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء، فعن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ- ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ] رواه مسلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم-مبيناً شدة تقلب قلوب العباد-: [لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابًا مِنْ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيًا] رواه أحمد بسند لا بأس به .
وقد قيل:
وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ ولا القلب إلا أنه يتقلب
ومصداق هذا كله مشاهد ملموس في واقع الناس، فبينا ترى الرجل من أهل الخير والصلاح؛ إذا به انقلب على وجهه، فترك الطاعة، وتقاعس عن الهدى. وبينا ترى الرجل من أهل الفساد، أو الكفر والإلحاد؛ إذا به أقبل على الطاعة، وسلك سبيل التقى والإيمان.
إن تذكر هذا الأمر: لتطير له ألباب العقلاء، وتنفطر منه قلوب الأتقياء، كيف لا.. والخاتمة مغيّبة، والعاقبة مستورة، والله غالب على أمره، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: [وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ] متفق عليه. فالله المستعان.
فاجتهدوا في أخذ أسباب الثبات، واعلموا بأن المقام خطير والنتائج لا تخالف مقدماتها، والمسببات مربوطة بأسبابها، وسنن الله ثابتة لا تتغير.
إننا في هذه العصور أحوج ما نكون إلى معرفة أسباب الثبات والأخذ بها، فالفتن تترى بالشبهات، والشهوات، والقلوب ضعيفة، والمعين قليل، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن سرعة تقلب أهل آخر الزمان؛ لكثرة الفتن، فقال: [بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا]رواه مسلم.
بعض أسباب الثبات:
1- الشعور بالفقر إلى تثبيت الله تعالى: فليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين، فإن لم يثبتنا الله، وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها، وقد قال مخاطباً خير خلقه وأكرمهم عليه:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا[74]}[سورة الإسراء]. وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله: [لَا وَمُصَرِّفِ الْقُلُوبِ]رواه النسائي وابن ماجة بسند جيد. مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره.
2- الإيمان بالله تعالى: قال عز وجل:{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ...[27]}[سورة إبراهيم] والإيمان الذي وُعد أهله وأصحابه بالتثبيت هو الذي يرسخ في القلب، وينطق به اللسان، وتصدقه الجوارح والأركان، فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل. فالالتزام الصادق في الظاهر والباطن، والمنشط والمكره، هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات، قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا...[66]}[سورة النساء]. فالمثابر على الطاعة، المبتغى وجه الله بها؛ موعود عليها بالخير والتثبيت من الله مقلب القلوب ومصرفها.
3- ترك المعاصي والذنوب: صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها: فإن الذنوب من أسباب زيغ القلوب، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ] رواه البخاري ومسلم.(2/34)
وأما الصغائر: فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ]رواه أحمد.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
4- الإقبال على كتاب الله: تلاوةً، وتعلمًا، وعملًا، وتدبرًا: فإن الله سبحانه أخبر بأنه أنزل هذا الكتاب المجيد؛ تثبيتاً للمؤمنين، وهداية لهم وبشرى، قال الله تعالى:{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[102]}[سورة النحل]. فكتاب الله هو الحبل المتين، والصراط المستقيم، والضياء المبين، لمن تمسك به وعمل.
5- عدم الأمن من مكر الله: فإن الله سبحانه قد حذر عباده مكره، فقال عزوجل:{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[99]}[سورة الأعراف]. وقد قطع خوف مكر الله تعالى ظهور المتقين المحسنين، وغفل عنه الظالمون المسيئون كأنهم أخذوا من الله الجليل توقيعًا بالأمان وقال الله تعالى:{ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ[39]سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ[40]}[سورة القلم].
أما المحسنون من السلف والخلف، فعلى جلالة أقدارهم، وعمق إيمانهم، ورسوخ علمهم، وحسن أعمالهم؛ فقد سلكوا درب المخاوف، يخافون سلب الإيمان، وانسلاخ القلب من تحكيم الوحي والقرآن، حتى صاح حاديهم يقول:
والله ما أخشى الذنوب فإنها لعلى سبيل العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب من تحكيم هذا الوحي والقرآن
فالحذر الحذر من الأمن والركون إلى النفس فإنه مادام نَفَسُك يتردد، فإنك على خطر، قال ابن القيم رحمه الله:'إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه تعالى كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرفع من يشاء، ويخفض من يشاء، فما يؤمّنه أن يقلب الله قلبه، ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته، وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقوله:{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[8]}[سورة آل عمران]. فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم'.
6- سؤال الله التثبيت: فإن الله هو الذي يثبتك ويهديك، قال تعالى:{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[27]}[سورة إبراهيم]. فألحوا على الله بالسؤال: أن يربط على قلوبكم ويثبتكم على دينكم، فالقلوب ضعيفة، والشبهات خطافة، والشيطان قاعد لك بالمرصاد، ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوة حسنة، فإن من دعائهم: :{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[8]}[سورة آل عمران]. وما ذكره الله عنهم:{...رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[250]}[سورة البقرة]. وقد كان أكثر دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
7- نصر دين الله الواحد الديان، ونصر أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين: قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7]}[سورة محمد]. ونصر دين الله وأوليائه يكون بطرائق عديدة، لا يحدها حد:
1- فالدعوة إلى الله بجميع صورها.. نصر لدين الله .
2- وطلب العلم.. نصر لدين الله .
3- والعمل بالعلم.. نصر لدين الله.
4- وجهاد الكفار، والمنافقين، والعصاة.. نصر لدين الله.
5- والرد على خصوم الإسلام، وكشف مخططاتهم.. نصر لدين الله.
6- والبذل في سبيل الله، والإنفاق في وجوه البر.. نصر لدين الله.
7- والذب عن أهل العلم والدعوة، وأهل الخير والصحوة.. نصر لدين الله.
وطرائق نصر دين الله وأوليائه كثيرة، ولا تحقرن من هذه الأعمال شيئاً، فقاعدة الطريق: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ] رواه البخاري ومسلم. قال ابن القيم رحمه الله:
هذا ونصر الدين فرض لازم لا للكفاية بل على الأعيان
بيد وإما باللسان فإن عـ ـجزت فبالتوجه والدعا بجنان.(2/35)
8- الرجوعُ إلى أهل الحق والتقى: من العلماء والدعاة: الذين هم أوتاد الأرض، ومفاتيح الخير، ومغاليق الشر، فافزع إليهم عند توالي الشبهات، وتعاقب الشهوات قبل أن تنشب أظفارها في قلبك، فتوردك المهالك، قال ابن القيم رحمه الله -حاكياً عن نفسه وأصحابه-:'وكنّا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه – أي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله عنّا، وينقلب انشراحًا، وقوةً ويقينًا وطمأنينةً'.
9- الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي: فإنه لن يحصل العبد الخيرات إلا بهذا، وقد أمر الله نبيه بالصبر، فقال:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...[28]}[سورة الكهف]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:[مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ]رواه البخاري ومسلم.
فالصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
10- كثرة ذكر الله تعالى: كيف لا وقد قال:{...أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[28]}[سورة الرعد]. وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ]رواه البخاري. وقد أمر الله عباده بذكره كثيرا فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا[41]وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[42]هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا[43]}[سورة الأحزاب]. فذكر الله كثيرًا، وتسبيحه كثيرًا سبب لصلاته سبحانه وصلاة ملائكته التي يخرج بها العبد من الظلمات إلى النور.. فيا حسرة الغافلين عن ربهم، ماذا حرموا من خيره، وفضله، وإحسانه؟!
11- ترك الظلم: فقد جعل الله التثبيت نصيب المؤمنين، والإضلال حظ الظالمين، فقال جل ذكره: :{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[27]}[سورة إبراهيم]. فاتقوا ظلم أنفسكم بالمعاصي والذنوب، واتقوا ظلم أهليكم بالتفريط في حقوقهم، والتضييع لهم، واتقوا ظلم من استرعاكم الله إياهم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
هذه بعض أسباب الثبات على الحق والهدى والدين والتقى، من أخذ بها؛ فقد أخذ بحظ وافر، ووقاه الله سوء العاقبة والمآل. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
من خطبة:' وسائل الثبات وأسبابه ' للشيخ /خالد المصلح
=================000
مع الثبات وأسبابه
الحمد لله رب العالمين الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شي عليم واشهدا ن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمد عبه ورسوله صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم وبعد
:-أيها المسلمون
عباد الله اتقوا الله وراقبوه
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ))آل
عمران102
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ))النساء1
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ))الحشر18
عباد الله
سنقف وإياكم في هذه الدقائق الغالية مع الثبا واسباب الثبات لعلنا نكون واياكم ممن ثبتهم الله على الحق حتى ماتوا عليه
نتكلم على الثبات في وقت تمر الأمة فيه بمراحل حرجة من حروب وفتن ربما لو فكر فيها الرجل العاقل لشرد ذهنه وانخلع قلبه مما يرى، ولكن اعلم أخي المسلم أن الثبات على الحق والتمسك به من صفات المؤمنين الصادقين، قال - تعالى -: ((يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ))إبراهيم27 وقدوتنا في ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد لاقى ما لاقى ومع ذلك كان أشد ثباتًا حتى بلغ رسالة ربه على أتم وجه.
عباد الله(2/36)
إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) رواه مسلم
وهذه أمُّ سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: ((اللهم مقلبَ القلوب، ثبت قلبي على دينك))، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلب؟! قال: ((نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله عز وجل أقامه، وإن شاء الله أزاغه)) أخرجه أحمد في مسنده الترمذي في جامعه بإسناد صحيح وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك))، قال: فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، هل تخاف علينا؟ قال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلّبها كيف يشاء)) أخرجه الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه بإسناد صحيح
وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ *** ولا القلب إلا أنه يتقلب
ومصداق هذا كله مشاهد ملموس في واقع الناس فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم أصبحت وزهرها يابس هشيم فبينا ترى الرجل من أهل الخير والصلاح ومن أرباب التقى والفلاح قلبه بطاعة ربه مشرق سليم إذا به انقلب على وجهه فترك الطاعة وتقاعس عن الهدى. وبينا ترى الرجل من أهل الخنا والفساد أو الكفر والإلحاد قلبه بمعصية الله مظلم سقيم إذا به أقبل على الطاعة والإحسان وسلك سبيل التقى والإيمان.
أيها الإخوة المؤمنون:
إن تذكر هذا الأمر لتطير له ألباب العقلاء وتنفطر منه قلوب الأتقياء وتنصدع له أكباد الأولياء كيف لا والخاتمة مغيّبة والعاقبة مستورة والله غالب على أمره والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) متفق عليه،
فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله
أعلموا أنه على قدر ثبات العبد على الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثباته على الصراط المنصوب على متن جهنم وعلى قدر سيره على هذا الصراط في الدنيا يكون سيره على ذلك الصراط فمنهم من يمر مر البرق ومنهم من يمر مر كالطرف ومنهم كالريح ومنهم من يمشي مشياًومنهم من يحبو حبواً ومنهم المخدوش ومنهم من يسقط في جهنّم وهل تجزون إلا ما كنتم تعملون ولذا نحن في اليوم مرات ومرات ندعو الله أن يثبّتنا على الصراط المستقيم ونقول ((اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ{7}))
يارب ثبّتنا على طريق الصالحين طريق الايمان طريق التقوى طريق التوحيد طريق الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولائك رفيقاً
فيا عباد الله عليكم أن تجتهدوا في أخذ أسباب الثبات وأن تحتفوا بها علماً بأن المقام جد خطير والنتائج لا تخالف مقدماتها والمسببات مربوطة بأسبابها وسنن الله ثابتة لا تتغير، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
فمن أسباب حصول الثبات على الحق والهدى والدين والتقى
أولاً الشعور بالفقر إلى تثبيت الله - تعالى - وذلك أنه ليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين فإن لم يثبتنا الله وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها وقد قال مخاطباً خير خلقه وأكرمهم عليه: ((وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً")) وقال - تعالى -: ((إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا))وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قوله: ((لا ومصرف القلوب)) كما روى ابن ماجه بسند جيد مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره.
ثانيا ًومن أسباب الثبات على الخير والصلاح الإيمان بالله تعالى
قال عز وجل -: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة")). إبراهيم 27 والإيمان الذي وعد أهله وأصحابه بالتثبيت هو الذي يرسخ في القلب وينطق به اللسان وتصدقه الجوارح والأركان فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل فالالتزام الصادق في الظاهر والباطن والمنشط والمكره هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات
قال الله تعالى -: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً)). فالمثابرة على الطاعة المداوم عليها المبتغى وجه الله بها موعود عليها بالخير والتثبيت من الله مقلب القلوب ومصرفها.(2/37)
ثالثاً من أسباب الثبات على الطاعة والخير ترك المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها فإن الذنوب من أسباب زيغ القلوب فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه:
((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))
وأما الصغائر فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه))
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى *** واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
رابعاً من أسباب الثبات على الإسلام والإيمان الإقبال على كتاب الله تلاوة وتعلماً وعملاً وتدبراً فإن الله - سبحانه و تعالى - أخبر بأنه أنزل هذا الكتاب المجيد تثبيتاً للمؤمنين وهداية لهم وبشرى قال الله تعالى -:
((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ")) فكتاب الله هو الحبل المتين والصراط المستقيم والضياء المبين لمن تمسك به وعمل.
خامساً ومن أسباب الثبات على الصالحات عدم الأمن من مكر الله
فإن الله - سبحانه و تعالى - قد حذر عباده مكره فقال عز وجل -:
((أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)) وقد قطع خوف مكر الله - تعالى - ظهور المتقين المحسنين وغفل عنه الظالمون المسيئون كأنهم أخذوا من الله الجليل توقيعاً بالأمان وقال الله تعالى -: ((أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ` سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ))
يا آمناً معَ قبحِ الفعل منه *** هل أتاك توقيعُ أمن أنت تملكه
جمعت شيئين أمناً واتباع هوى *** هذا وإحداهما في المرء تهلكه
أما المحسنون من السلف والخلف فعلى جلالة أقدارهم وعمق إيمانهم ورسوخ علمهم وحسن أعمالهم فقد سلكوا درب المخاوف يخافون سلب الإيمان وانسلاخ القلب من تحكيم الوحي والقرآن حتى صاح حاديهم يقول:
والله ما أخشى الذنوب فإنها *** لعلى سبيل العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب من *** تحكيم هذا الوحي والقرآن
فالحذر الحذر من الأمن والركون إلى النفس فإنه مادام نَفَسُك يتردد فإنك على خطر قال ابن القيم رحمه الله: ((إن العبد إذا علم أن الله - سبحانه و تعالى - مقلب القلوب وأنه يحول بين المرء وقلبه وأنه - تعالى - كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء فما يؤمّنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقوله: ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)) فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم.
سادساً من أسباب الثبات على الهدى والحق سؤال الله التثبيت
فإن الله هو الذي يثبتك ويهديك -: فألحوا على الله - تعالى - بالسؤال أن يربط على قلوبكم ويثبتكم على دينكم فالقلوب ضعيفة والشبهات خطافة والشيطان قاعد لك بالمرصاد ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوة حسنة فإن من دعائهم: ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)). وما ذكره الله - تعالى - عنهم: ((رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)). وقد كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))
أسال الله ان يثبتنا واياكم على الخير والصلاح
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على احسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد ان لا اله الا الله تعضيما لشانه واشهد ان محمد عبده ورسوله الداعي الى رضوانه وعلى اله واصحابه وجميع اخوانه
وبعد .لا زلنا واياكم مع اسباب الثبات
سابعاً من أسباب الثبات على الإيمان نصر دين الله الواحد الديان ونصر أوليائه المتقين قال الله تعالى -: ((إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ))(2/38)
ونصر دين الله - تعالى - وأوليائه يكون بطرائق عديدة لا يحدها حد ولا تقف عند رسم فالدعوة إلى الله بجميع صورها نصر لدين الله وطلب العلم نصر لدين الله والعمل بالعلم نصر لدين الله وجهاد الكفار والمنافقين والعصاة نصر لدين الله والرد على خصوم الإسلام وكشف مخططاتهم نصر لدين الله والبذل في سبيل الله والإنفاق في وجوه البر نصر لدين الله والذب عن أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة نصر لدين الله وطرائق نصر دين الله وأوليائه كثيرة جعلنا الله وإياكم منهم من أوليائه وأنصار دينه ولا تحقرن من هذه الأعمال شيئاً فقاعدة الطريق اتق النار ولو بشق تمرة قال ابن القيم - رحمه الله -:
هذا ونصر الدين فرض لازم *** لا للكفاية بل على الأعيان
بيد وإما باللسان فإن *** عجز ت فبالتوجه والدعاء بجنان.
ثامناً من أسباب الثبات على الهدى الرجوعُ إلى أهل الحق والتقى من العلماء والدعاة فهم أوتاد الأرض ومفاتيح الخير ومغاليق الشر فافزع إليهم عند توالي الشبهات وتعاقب الشهوات قبل أن تنشب أظفارها في قلبك فتوردك المهالك قال ابن القيم - رحمه الله - حاكياً عن نفسه وأصحابه: (وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه – أي شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة).
عاشراً من أسباب الثبات على الحق والتقى الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي
فإنه لن يحصل العبد الخيرات إلا بهذا وقد أمر الله - تعالى - نبيه بالصبر فقال: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا")) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وما أعطي أحدٌ عطاء خيراً وأوسع من الصبر))
فالصبر مثل اسمه مر مذاقته *** لكن عواقبه أحلى من العسل
الحادي عشر من أسباب الثبات على الحق والهدى ترك الظلم
فالظلم عاقبته وخيمة وقد جعل الله التثبيت نصيب المؤمنين والإضلال حظ الظالمين فقال جل ذكره: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ))إبراهيم 27
. فاتقوا الظلم أيها المؤمنون اتقوا ظلم أنفسكم بالمعاصي والذنوب واتقوا ظلم أهليكم بالتفريط في حقوقهم والتضييع لهم واتقوا ظلم من استرعاكم الله إياهم من العمال ونحوهم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
وقال - صلى الله عليه وسلم –(( تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين، قلب أبيض كالصفا، وقلب أسود مربادا كالكوز مجخيا (أي مقلوبًا) لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرًا.))
وهذه صفة أهل النار ويقول - صلى الله عليه وسلم ((تعس عبد الدينار. تعس عبد الدرهم. تعس عبد الخميصة. تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش))
ومن المعروف أن الدينار مملوك والعبد مالك للدينار فكيف يكون الدينار هو المالك والعبد هو المملوك؟ من ذلك يتبين لنا أن العبد إذا انشغل بجمع الدينار وتركَ عبادة الله كان عبدًا للدينار من دون الله ولذلك يدعو الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذا الصنف فيقول "تعس وانتكس".
وأعجب من ذلك أن يكون المال سببًا في الانتكاس الكلي وهو الردة، فقد ثبت عند الإمام مسلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل عمر رضي الله عنه لجمع الزكاة فذهب إلى ابن جميل وكان فقيرًا فأغناه الله فطلب عمر منه الزكاة فمنع ولم يعترف بها قال - تعالى -: (( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون )) التوبة: 55-57
الحادي عشر ومن أسباب الثبات على الدين والصلاح كثرة ذكر الله - تعالى
كيف لا وقد قال جل شأنه : ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت))
وقد أمر الله - تعالى - عباده بالإكثار من ذكره فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيرا ` وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ` هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً))) فذكر الله كثيراً وتسبيحه كثيراً سبب لصلاته سبحانه وصلاة ملائكته التي يخرج بها العبد من الظلمات إلى النور فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حرموا من خيره وفضله وإحسانه.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة(2/39)
اللهم ثبتنا على الطاعة يارب العالمين
وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله فقد أمركم الله بذلك فقال - تعالى -:( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً)
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن أصحابه أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الإيمان – اليمن
=================000000
التسويف
أبدأ معكم تلخيص المحاضرات القيمة والتي هي بعنوان / آفات على طريق المسلم
لفضيلة الشيخ / محمد بن علي صالحين حفظه الله تعالى
واليوم تلخيص الدرس الأولى وهي عبارة عن ثلاث محاضرات ألقاها الشيخ في مدينة 6 أكتوبر بمصر وهي بعنوان ((( التسويف )))وأعرضها لحضراتكم كنقاط حتى تصل إلى الأذهان بسرعة وحتى تكون باختصار بقدر المستطاع فبسم الله أبدأ ...
يقول الشيخ حفظه الله :
إن التسويف من الأمراض والأعراض الكبيرة والتي تعيق حياة المسلم في طاعته لربه وفي حياته كمسلم بشكل عام
يقول أحد الصالحين : من كان يومه كأمسه فهو مغبون ( مغبون : أي تجارته خاسرة )
ومن كان يومه شرا من أمسه فهو ملعون .
* أسباب التسويف :-
1/النشأة – وتعني التربية التي تكون من جهة الأهل
2/ رفقة الكسالى – وكما يقال ( الصاحب ساحب فاعلم من تصاحب )
3/ الإرادة الضعيفة – وهذه ناتجة للإفتقار إلى تربية وتزكية النفس
4/ الأمن من مكر الله تعالى {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}
5/ طول الأمل مع نسيان الآخرة
6/ الإستهانة بالأمر مع الإعتماد على النفس
7/ التواكل على الله ونسيان قوّته سبحانه وغضبه
8/ عدم المتابعة والمحاسبة
9/ الإنغماس في المعاصي والسيئات
10/ عدم تقدير العواقب المترتبة على السيئات
* النتائج والآثار المترتبة على هذا التسويف :-
1/الحسرة والندم بعد فوات الأوان
2/ الحرمان من الأجر والثواب
3/ تراكم الذنوب مما يترتب عليه تأجيل التوبة
4/ تراكم الأعمال وصعوبة الأداء
5/ ضياع الهيبة من أمام الناس ( وهذا خاص بأصحاب الذنوب )
وكان من دعاء الحبيب صلى الله عليه وسلم ( اللهم اجعلني في عيني صغيرا وفي أعين الناس كبيرا )
6/ الحرمان من عون الله ومدده {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } (125) سورة آل عمران
* العلاج من آفة التسويف :-
وكما يقال ( لكل داء دواء ) فالتسويف إعترفنا أنه مرض وآفة فيلزمنا حتى نتجنبه من علاج وهذا العلاج نضعه بين أيديكم على نقاط كالتالي :
1/ عدم القنوط واليأس من رحمة الله تعالى
2/ التذكير بأن التسويف عجز وضعف وأن الإنسان قادر بعون الله
3/ المداومة على الدعاء والتضرع لله تبارك وتعالى
4/ على أولياء الأمور الإهتمام بمن تحت ولايتهم
5/ البعد عن صحبة الكسالى وإن كثروا في هذا الزمان فكما يقال ( لا يغرنك كثرة الهالكين ولا تستوحش قلة السالكين )
6/ المداومة على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم
7/ الإحتراز من المعاصي والسيئات
8/ تذكر الموت والدار الآخرة
9/ معايشة السلف الصالح والتطلع في سيرهم العطرة
10/ أن تقوم الأمة بمحاسبة المسويفين
11/ عدم الإستهانة بأي أمر من الأمور
12/ التذكير دائما بعواقب التسويف
وفي الختام لا يسعني إلى أن أدعو لنفسي ولكل مسلم بأن يجيرنا الله من هذه الآفة التي نخرت بيوت كثير من المسلمين
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أخوكم
أبو الحارث
سلسلة آفات على طريق المسلم : ((( التسويف )))
أبو الحارث محمد الدالي
=================00000
ففروا إلى الله
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فنحن جميعاً ركاب سفينة واحدة إن نجت نجونا جميعاً وإن هلكت هلكنا جميعاً.
ولقد حسم النبي هذه الحقيقة في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير أن رسول الله قال: { مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً }.
فواجب على أهل الحق من المصلحين الصادقين أن ينذروا، ويحذروا أهل الفساد، والواقعين في حدود الله عز وجل، وأن يأخذوا على أيديهم قبل أن تغرق السفينة بالجميع.
وهذا الواجب قد جعله رسول الله فرض عين على كل مسلم على اختلاف مراتبه ودرجاته.(2/40)
ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: { من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان }.
وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن مسعود أن النبي قال: { ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل }.
فإن عجز أحد من الناس أن ينكره بيده أو بلسانه فإن إنكار القلب كمرتبة الإنكار فرض عين على كل مسلم ومسلمة ولا يعذر بتركه على الإطلاق.
وذلك بكره المنكر وبغض أهل المنكر، أما هذه السلبية المدمرة القاتلة التي يرفع العلمانيون شعارها بقولهم: ( دع ما لقيصر لقيصر و ما لله لله. فلا سياسة في الدين ولا دين في السياسة. ولكل أحد أن ينتقد ما يشاء وأن يفعل ما يشاء في أي وقت شاء وأن ينطلق ليختار لنفسه من المناهج والقوانين ما يحب ويرضى، وليس من حق أحد أن ينكر عليه أو أن يأخذ على يديه!! ).
بل وقد يتشدق أحدهم كالثعلب في ثياب الواعظين ويردد قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105].
وقديماً خاف صديق الأمة الأكبر أبوبكر وأرضاه خاف هذه السلبية القاتلة، من منطلق فهم مغلوط مقلوب لهذه الآية الكريمة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله يقول: { ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيرون، إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب }.
وهكذا فإن وجود المصلحين الصادقين سبب من أسباب النجاة من الإهلاك العام، فإن فقدت الأمة هذا الصنف الكريم الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحل عليها عذاب الله وإن كثر فيها الصالحون الطيبون لأنهم سكتوا حتى كثر الخبث وأصبح أمراً عادياً مستساغاً تألفه النفوس.
وحينئذ يستحق الجميع عقاب الله جل وعلا كما في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها يوماً فزعاً وفي رواية استيقظ يوماً من نومه فزعاً وهو يقول: { لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، لقد فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه } وحلق بإصبعيه السباب والإبهام فقالت زينب يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون قال: { نعم إذا كثر الخبث }.
ولقد بوب الإمام مالك رحمه الله في موطئه باب بعنوان ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة.
بل قد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند حسن من حديث عدي عن عمير أن النبي قال: { إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكرون، فإذا فعلا ذلك عذب الله الخاصة والعامة }.
انتكاس الفطرة
حيث أننا نرى مؤامرة مفضوحة يريد أصحابها وأذنابها أن يفرضوا على المجتمعات المسلمة ما وصلت إليه المجتمعات الغربية الكافرة من انتكاس سحيق للفطرة.
فالجاهلية الحديثة في أوروبا وأمريكا لم تكتف بنشر الزنا، والشذوذ الجنسي، ونكاح الحارم بل قننت لهذا.. ! !، وأصبح هذا الانتكاس للفطرة أمراً عادياً عندهم لا يثير الدهشة أو التساؤل.. !!
وهم الآن يريدون أن يملوا ويفرضوا هذا الانحراف الشاذ على المجتمعات المسلمة.
وقد صدرت دراسات عديدة تبين أن اليهود وأتباعهم، قد نجحوا من خلال سيطرتهم على بيوت المال، وأجهزة الإعلان المرئية.. والمسموعة.. والمقروءة، قد نجحوا في نشر الرذيلة في العالم كله بصفة عامة، وفي أوروبا وأمريكا بصفة خاصة. حتى أضحت المشكلة كبيرة وخطيرة بشكل لا يتصور.
وإليك - أخي المسلم - بعض ما جاء في هذه الدراسات:
أولاً: تشير الدراسة إلى أن 90% من غير المتزوجات يمارسن الزنا بطلاقة أو من حين لآخر في أوروبا وأمريكا.
ثانياً: تشير الدراسة إلى أن عدد حالات الإجهاض الجنائي قد بلغ في عام 1983 إلى 50 مليون طفل !!!.
ثالثاً: أصبح الحمل لدى المرهقات، مشكلة كبيرة في أوروبا وأمريكا ففي أمريكا وحدها أكثر من مليون فتاة صغيرة تحمل سنوياً من الزنا.
ولم يتوقف الأمر عند الزنا فقط بل انتشر الشذوذ الجنسي بكل صورة، ما دام بدون إكراه.. !!
بل وتكونت آلاف الجمعيات والنوادي التي ترعى شئون الشاذين والشاذات.
وتشير الدراسات إلى أن عدد الشواذ في أمريكا وحدها أكثر من عشرين مليوناً وأصبحت لهم معابد وكنائس خاصة تقوم بتزويجهم.. أي تزويج الرجال للرجال، وتزويج النساء للنساء.. في حفلات خاصة يدعى إليها الأهل والأصدقاء!!!
بل لم يتوقف هذا الانتكاس السحيق عند هذا الحد بل تعداه أيضاً إلى نكاح المحارم من الأمهات والأخوات.(2/41)
وأول من دعا إلى ذلك فرويد اليهودي الذي جاء بنظريات هابطة لا تقوم إلا على الجنس.
حتى ادعى أن الطفل لا يحب أمه إلا حباً جنسياً محضاً.. !! و لهذا يكره الابن أباه.. !! وسمى فرويد اليهودي هذه الكُره بعقدة "أوديب".
وقال بأن الفتاة أو البنت أيضاً لا تحب أباها إلا حباً جنسياً محضاً.. !! و لذا تكره أمها، و سمى هذه الكُره بعقدة "إليكترا".
ومما يدمي القلب أن هذا الهراء.. والغثاء.. يدرس لأبنائنا وبناتنا في أخطر المراحل الدراسية.. !! على أنه من أبواب علم النفس، وهذا شئ يؤلم النفس ولا يعلمها !!!
ولقد نشرت مجلة التايم الأمريكية تحقيقاً واسعاً عن نكاح المحارم وذكرت فيه تقرير أحد الباحثين:
( لقد آن الأوان لكي نعترف بأن نكاح المحارم ليس شذوذاً.. !!، ولا دليلاً على الاضطراب العقلي.. !! بل قد يكون نكاح المحارم، وخاصة بين الأطفال وذويهم أمراً مفيداً لكليهما.. !!! ) أليس هذا انتكاساً للفطرة؟ !!
قال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].
و قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
ونتيجة لهذا الأمن من مكر الله، بل لهذا الكفر بمنهج الله، ابتلي الله هذه المجتمعات الغربية الكافرة بهذه الأمراض الفتاكة الخطيرة التي وقفوا أمامها وقفة العاجز على الرغم مما وصلوا إليه في الجانب العلمي.
عقاب إلهي
نعم إنه عقاب إلهي لكل من خرج من منهج الله وتحدى الفطرة فلقد انتشر الإيدز المعروف بمرض نقص المناعة، وبدأ يتزايد في السنوات الأخيرة بصورة مرعبة فلقد ذكرت منظمة الصحة العالمية في اجتماعها المنعقد في باريس في يونيه عام 1986م ذكرت أن عدد الذين يحملون فيروس الإيدز يتراوحون ما بين خمسة عشر مليون شخص.
هذا في عام 1986م فما بالنا كم بلغ عددهم الآن؟؟!! وقد خصصت أمريكا ألفي مليون دولار سنوياً للإيدز.
ومما يثير الرعب والخوف أن هذا المرض لم ينج من براثنه أحد من المصابين به على الإطلاق حتى الآن رغم هذه الملايين التي تنفق بسخاء في الأبحاث للوصول إلى علاج لهذا المرض الفتاك، ولن يصلوا إلى العلاج الحقيقي على الإطلاق، ما دامت الأسباب الحقيقية لانتشاره لازالت موجودة. وهي انتشار الزنا والشذوذ الجنسي بكل صورة.
وهذا ما أكدته الأبحاث والدراسات العلمية في أن هؤلاء هم أكثر الناس إصابة بهذا المرض الخطير.
هذا بالإضافة إلى الأمراض الخطيرة الأخرى التي انتشرت واستشرت كالسرطان و الزهري والهربس والسيلان وغيرها.
وتحقق قول من لا ينطق عن الهوى إذ يقول: { لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم }.
وأخيراً: لا ملجأ من الله إلا إليه
فلا سعادة للبشرية عامة، وللمسلمين خاصة، إلا بالعودة لمنهج الله عز وجل الذي خلق الإنسان وحده، وهو وحده الذي يعلم ما يسعده و ما يفسده أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
فمنهج الله لا يحارب دوافع الفطة ولا يستقذرها إنما ينظمها ويطهرها ويرفعها عن المستوى الحيواني والبهيمي ويرقيها إلى أسمى المشاعر والعواطف، التي تليق بالإنسان كإنسان، ويقيم العلاقة بين الرجل والمرأة فقط على أساس من المشاعر النبيلة الرقيقة الراقية الطاهرة فيقول سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ويهيئ منهج الله المناخ الطاهر النظيف ليتنفس المسلم في جو اجتماعي طاهر نقي يتفق مع الفطرة السوية.
بل ويحدد منهج الله كثيراً من الضمانات الوقائية التي تحمي المجتمع المسلم من الوقوع في مستنقع الرذيلة الآسن العفن.
ثم يعاقب بعد ذلك من ترك هذه الضمانات طائعاً مختاراً، و راح ليتمرغ في وحل الرذيلة والفاحشة وليعيث في الأرض الفساد.
وهذا هو قمة الخير للإنسانية كلها، ولتعيش الجماعة كلها، في هدوء وأمان. إذ أن منطق العقلاء يقول:
لو أن إنساناً أصيب في طرف من أطرافه بمرض السرطان وقرر الأطباء أنه إذا لم يبتر هذا الطرف فإن الداء سوف يسري في جميع الجسد ويقضي على حياة صاحبه. أما يكون من الرحمة أن نستأصل هذا الطرف للإبقاء على حياته بإذن الله جل وعلا.(2/42)
كذلك الفرد إذا استعصى علاجه ولم تؤثر فيه تربية ولم تنفعه موعظة ولم يقبل نصيحة وتأصلت روح الجريمة في نفسه وقام منتهكاً للأعراض مضيعاً للحرمات.
أيكون الأخذ على يديه لكف شره عن الجماعة كلها قسوةً وعنفاً؟ !! لا والله بل إنها الرحمة والحكمة بعينها مصداقاً لقول ربنا عز وجل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
ومن هنا جاء منهج الله بهذه الأحكام ليحفظ على الإنسانية عرضها وشرفها ونسلها.
فقال الله سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3،2].
أما إذا كان الزاني محصناً فإنه يرجم كما دلت على ذلك السنة الصحيحة.
وقد عاقب الله قوم لوط أشد العقاب لاتنكاس فطرتهم وخروجهم عن منهج الله الذي أمرهم به نبي الله لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام:
قال الله تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ [النمل:54-75].
وقال تعالى في حقهم: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ [الحجر:74].
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله : { من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه الفاعل والمفعول به }.
وبعد.. فلقد آن الأوان بعد ما رأينا هذه المآسي أن نفيء جميعاً إلى منهج الله. إذ لا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بالعودة إلى منهج الله بعد أن أحرقنا لفح الهاجرة القاتل، وأرهقنا طول المشي في التيه والظلام.
وها هو الإسلام لازال يعرض نفسه كمخلص للبشرية كلها من كل أمراض وعللها لأن هذه الحيلة البشرية من خلق الله ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله.
وأخيراً أردد مع مؤمن آل فرعون: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
وصلى الله على نبينا محمداً وعلى آله وأصحابه أجمعين.
=================
العجب أسبابه وعلاجه
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد ..
فإن العُجب من الآفات الخطيرة التي تصيب كثيراً من الناس ، فتصرفهم عن شكر الخالق إلى شكر أنفسهم ، وعن الثناء على الله بما يستحق إلى الثناء على أنفسهم بما لا يستحقون ، وعن التواضع للخالق والانكسار بين يديه إلى التكبر والغرور والإدلال بالأعمال ، وعن احترام الناس ومعرفة منازلهم إلى احتقارهم وجحد حقوقهم .
حدُّ العُجب
والعجب هو الزهو بالنفس ، واستعظام الأعمال والركون إليها ، وإضافتها إلى النفس مع نسيان إضافتها إلى المُنعم سبحانه وتعالى .
مساوئ العُجب
من مساوئ العجب أنه يحبط الأعمال الصالحة ، ويخفي المحاسن ، ويكسب المذام .
قال الماوردي : (( وأما الإعجاب فيخفي المحاسن ، ويظهر المساوئ ، ويكسب المذام ، ويصد عن الفضائل .. وليس إلى ما يكسبه الكبر من المقت حد ، ولا إلى ما ينتهي إليه العجب من الجهل غاية ، حتى إنه ليطفئ من المحاسن ما انتشر ، ويسلب من الفضائل ما اشتهر ، وناهيك بسيئة تحبط كل حسنة ، وبمذمة تهدم كل فضيلة ، مع ما يثيره من حنق ، ويكسبه من حقد )) .
حكم العُجب
العجب محرم ؛ لأنه نوع من الشرك ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (( وكثيراً ما يقرن الرياء بالعجب ، فالرياء من باب الإشراك بالخلق ، العجب من باب الإشراك بالنفس ، وهذا حال المستكبر ، فالمرائي لا يحقق قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ } والمعجب لا يحقق قوله :{ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فمن حقق قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ } خرج عن الرياء ومن حقق قوله : { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} خرج عن الإعجاب ))
وقال صلى الله عليه وسلم (( ثلاث مهلكات : شحُّ مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه )). [ أخرجه البيهقي وحسنه الألباني ] .
ومن السنة النبوية كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( بينما رجل يمشي في حلةٍ تعجب نفسه ، مرجل جمته ، إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة )) [ متفق عليه ] .(2/43)
وقوله : (( إذ خسف الله به )) يدل على سرعة وقوع ذلك به . وقوله : (( فهو يتجلجل إلى يوم القيامة )) وفي رواية الربيع عند مسلم : (( فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة )) .
قال ابن فارس : التجلجل : أي يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ، ويندفع من شق إلى شق ، فالمعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطرباً متدافعاً )) .
ومن الأدلة كذلك على ذم العجب حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ، فعن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية ؟ قال : أيّةُ آية؟ قال : قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [105: سورة المائدة].
قال أبو ثعلبة : أما والله لقد سألت عنها خبيراً ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( بل ائتمروا بينكم بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شَّحاً مطاعاً ، وهوىً متبعاً ، ودنيا مؤثَرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع العوامَّ ، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن كالقبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم )) [ رواه الترمذي وقال : حسن غريب وضعفه الألباني ] .
من أقوال السلف في ذم العجب
1- قال ابن مسعود رضي الله عنه : الهلاك في اثنين : القنوط والعجب ..
2- وكان بشر بن منصور من الذين إذا رءُوا ذُكِرَ الله تعالى والدار الآخرة ، لمواظبته على العبادة ، فأطال الصلاة يوماً ، ورجل خلفه ينتظر ، ففطن له بشر ، فلما انصرف عن الصلاة قال له : لا يعجبنك ما رأيت مني ، فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله مع الملائكة مدة طويلة ، ثم صار إلى ما صار إليه .
3- وقيل لعائشة رضي الله عنها : متى يكون الرجل مسيئاً ؟ قالت : إذا ظن أنه محسن .
بين العُجب والكفر
وربما طغت آفة العجب على المرء حتى وصل به الحدّ إلى الكفر والخروج من ملة الإسلام ، كما هو الحال مع إبليس اللعين ، حيث أعجب بأصله وعبادته ، ودفعه ذلك إلى الكبر وعصيان أمر الرب تعالى بالسجود لآدم عليه السلام .
وحكى عمر بن حفص قال : قيل للحجاج : كيف وجدت منزلك بالعراق ؟ قال : خير منزل ، لو كان الله بلغني قتل أربعة ، فتقربت إليه بدمائهم . قيل : ومن هم ؟ قال : مقاتل بن مسمع وليّ سجستان ، فأتاه الناس فأعطاهم الأموال ، فما عُزل دخل مسجد البصرة ، فبسط له الناس أرديتهم ، فمشى عليها ، وقال لرجل يماشيه {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [61: سورة الصافات] .
وعبد الله بن زياد بن ظبيان التميمي ، خوّف أهل البصرة أمراً فخطب خطبة أوجز فيها ، فنادى الناس من المسجد : أكثر الله فينا مثلك . فقال : لقد كلفتم الله شططاً !!
وأبو سمّال الأسدي أضل الله راحلته فالتمسها الناس فلم يجدوها فقال : والله إن لم يَرُد إليًّ راحلتي لا صليت له صلاة أبداً ، فالتمسها الناس فوجدوها ، فقالوا له : قد ردًّ الله عليك راحلتك فصلِّ ، فقال : إن يميني يمين مُصِرِّ !
قال الماوردي : فانظر إلى هؤلاء كيف أفضى بهم العجب إلى حمق صاروا به نكالاً في الأولين ، ومثلاً في الآخرين ، ولو تصور المعجب والمتكبر ما فطر عليه من جِبِلّة ، وبُلي به من مهنة لخفض جناحه لنفسه ، واستبدل ليناً من عُتوه ، وسكوناً من نفوره ، وقال الأحنف بن قيس : عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر ؟!
يا مظهرَ الكبر عجاباً بصورته *** انظر خلاك فإن النتن تثريب
لو فكر الناس فيما في بطونهم *** ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
هل في ابن آدم مثل الرأٍس مكرُمةً *** وهو بخمس من الأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك *** والعين مرفضة الثغر ملعوب
يابن التراب ومأكول التراب غداً *** أقصر فإنك مأكول ومشروب
علاقة العجب بالكبر والإدلال
قال ابن قدامة : اعلم أن العجب يدعو إلى الكبر ، لأنه أحد أسبابه ، فيتولد من العجب الكبر ، ومن الكبر الآفات الكثيرة وهذا مع الخلق .
فأما مع الخالق فإن العجب بالطاعات نتيجة استعظامها فكأنه يمنّ على الله تعالى بفعلها ، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها ، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها ، وإنما يتفقد آفات الأعمال من خاف ردها ، دون من رضيها وأعجب بها .
وقال أبو حامد : والإدلال وراء العجب ، فلا مدلّ إلا وهو معجب ، وربّ معجب لا يدلّ ، إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة ، دون توقع جزاء عليه ، والإدلال لا يتم إلا مع توقع الجزاء ، فإذا توقع إجابة دعوته ، واستنكر ردها بباطنه ، وتعجب منه كان مدلاًّ بعلمه ، لأنه لا يتعجب من رد دعاء الفاسق ، ويتعجب من ردّ دعاء نفسه لذلك ، فهذا هو العجب والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه .
أسباب العجب(2/44)
1- الجهل ، والغريب أن بعض الناس يعجب بعمله ومعرفته لمسائل الخلاف وأقوال العلماء ، ولو علم أن إعجابه بعلمه يدل على جهله لما كان من المعجبين بأنفسهم ، قال أبو حامد : وعلّة العجب : الجهل المحض ، فعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل فقط .
2- قلة الورع والتقوى .
3- ضعف المراقبة لله عز وجل .
4- قلّة الناصح .
5- سوء النية وخبث المطية .
6- إطراء الناس للشخص وكثرة ثنائهم عليه مما يعين عليه الشيطان .
7- الافتتان بالدنيا وتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء .
8- قلة الفكر ؛ لأنه لو تفكر لعلم أن كل نعمة عنده هي من الله .
9- قلة الشكر لله عز وجل .
10- كثرة الذكر لله عز وجل .
11- عدم تدبر القرآن والسنة النبوية .
12- الأمن من مكر الله عز وجل والركون إلى عفوه ومغفرته .
مظاهر العجب
مظاهر العجب كثيرة منها :
1- رد الحق واحتقار الناس .
2- تصعير الخد .
3- عدم استشارة العقلاء والفضلاء .
4- الاختيال في المشي .
5- استعظام الطاعة واستكثارها .
6- التفاخر بالعلم والمباهاة به .
7- الغمز واللمز .
8- التفاخر بالحسب والنسب وجمال الخِلقة .
9- تعمد مخالفة الناس ترفعاً .
10- التقليل من شأن العلماء الأتقياء .
11- مدح النفس .
12- نسيان الذنوب واستقلالها .
13- توقع الجزاء الحسن والمغفرة وإجابة الدعاء دائماً .
14- الإصرار على الخطأ .
15- الفتور عن الطاعة لظنه أنه قد وصل إلى حد الكمال .
16- احتقار العصاة والفساق .
17- التصدر قبل التأهل .
18- قلة الإصغاء إلى أهل العلم .
مجالات العجب وعلاجه
ذكر أبو حامد أن العجب يكون بثمانية أمور وذكر علاج كل واحد منها :
الأول : أن يعجب ببدنه :
في جماله وهيئته وصحته وقوته ، وتناسب أشكاله وحسن حورته وحسن صوته ، فيلتفت إلى جمال نفسه ، وينسى أنه نعمة من الله تعالى ، وهو معرض للزوال في كل حال . .
وعلاجه : هو التفكر في أقذار بطنه في أول أمره ، وفي آخره ، وفي الوجوه الجميلة والأجسام الناعمة كيف أنها تمزقت في التراب وأنتنت القبور ، حتى استقذرها الطباع .
الثاني : العجب بالبطش والقوة :
كما حكي عن قوم عادٍ أنهم قالوا { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [15: سورة فصلت].
وعلاجه :أن يشكر الله تعالى على ما رزق من العقل ، ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه يوسوس ويجن بحيث يُضحك منه ، فلا يأمن أن يسلب عقله إن أعجب به ، ولم يقم بشكره ، وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا ، وأن ما جهله أكثر مما عرفه .
الرابع : العجب بالنسب الشريف :
حتى يظن بعضهم أنه ينجو بشرف نسبه ونجاة آبائه وأنه مغفور له ، ويتخيل بعضهم أن جميع الخلق له موالٍ وعبيد !
وعلاجه : أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم وظنّ أنه ملحق بهم فقد جهل ، وإن اقتدى بآبائه فما كان من أخلاقهم العجب ، بل الخوف والازدراء على النفس ومذمتها ، ولقد شرفوا بالطاعة العلم والخصال الحميدة لا بالنسب ، فليتشرف بما شرفوا به .
ولقد ساواهم في النسب وشاركهم في القبائل من لم يؤمن بالله واليوم الآخر ، وكانوا عند الله شرًّا من الكلاب وأخسَّ من الخنازير ، ولذلك يبين الله تعالى أن الشرف بالتقوى لا بالنسب ، فقال{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [13: سورة الحجرات] .
الخامس : العجب بنسب السلاطين الظلمة وأعوانهم دون نسب الدين والعلم ، وهذا غاية الجهل .
وعلاجه : أن يتفكر في مخازيهم وما جرى لهم من الظلم على عباد الله والفساد في دين الله ، وأنهم الممقوتون عند الله تعالى، ولو نظر إلى صورهم في النار وأنتانهم وأقذارهم لاستنكف منهم ، ولتبرأ من الانتساب إليهم ..
السادس : العجب بكثرة العدد :
من الأولاد والخدم والعشيرة والأقارب والأنصار والأتباع ، كما قال الكفار : {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا } [35: سورة سبأ] .
وعلاجه : أن يتفكر في ضعفه وضعفهم ، وأن كلهم عبيد عجزة ، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعا ، ثم كيف يعجب بهم وأنهم سيتفرقون عنه إذا مات ، فيدفن في قبره ذليلاً مهيناً وحده لا يرافقه أهلٌ ولا ولد ولا قريبٌ ولا حميمٌ ولا عشير ٌ .
السابع : العجب المال :
كما قال تعالى إخباراً عن صاحب الجنتين { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [34: سورة الكهف] .
وعلاجه : أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه وعظيم غوائله ، وينظر إلى فضيلة الفقراء وسبقهم إلى الجنة يوم القيامة ، وإلى أن المال غادٍ ورائح ولا أصل له ، وإلى أن في اليهود من يزيد عليه في المال ، وإلى قوله صلى الله عليه وسلم (( بينما رجل يتبختر في حلةٍ له ، قد أعجبته نفسه إذا خسف الله به ، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة )) [متفق عليه] . وأشار به إلى عقوبة إعجابه بماله ونفسه .
الثامن : العجب بالرأي الخطأ :(2/45)
قال تعالى {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } [8: سورة فاطر] . وقال تعالى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [104: سورة الكهف] . وجميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعجبهم بآرائهم .
وعلاجه : أن يكون متَّهماً لرأيه أبداً لا يغترُّ به إلا أن يشهد له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح جامع لشروط الأدلة ، فإن خاض في الأهواء والبدع والتعصب في العقائد هلك من حيث لا يشعر .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد القسم العلمي بدار الوطن
-------
قصة الذي قتل مائة نفس
يحيط بابن آدم أعداء كثيرون من شياطين الإنس والجن, والنفس الأمارة بالسوء, وهؤلاء الأعداء يحسنون القبيح , ويقبحون الحسن ، ويدعون الإنسان إلى الشهوات , ويقودونه إلى مهاوي الردى, لينحدر في موبقات الذنوب والمعاصي .
ومع وقوع المعصية من ابن آدم فقد يصاحبه ضيق وحرج , وشعور بالذنب والخطيئة, فيوشك أن تنغلق أمامه أبواب الأمل, ويدخل في دائرة اليأس من روح الله, والقنوط من رحمة الله, ولكن الله العليم الحكيم , الرؤوف الرحيم ، الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير, فتح لعباده أبواب التوبة, وجعل فيها ملاذاً مكيناً, وملجأ حصيناً، يَلِجُه المذنب معترفاً بذنبه, مؤملاً في ربه, نادماً على فعله, غير مصرٍ على خطيئته، فيكفر الله عنه سيئاته, ويرفع من درجاته .
وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجل أسرف على نفسه ثم تاب وأناب فقبل الله توبته , والقصة رواها الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا , فسأل عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على راهب , فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا , فهل له من توبة , فقال : لا , فقتله فكمل به مائة , ثم سأل عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على رجل عالم , فقال : إنه قتل مائة نفس , فهل له من توبة, فقال : نعم , ومن يحول بينه وبين التوبة , انطلق إلى أرض كذا وكذا , فإن بها أناسا يعبدون الله , فاعبد الله معهم , ولا ترجع إلى أرضك , فإنها أرض سوء , فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق أتاه الموت , فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب , فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله , وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط , فأتاهم ملَكٌ في صورة آدمي , فجعلوه بينهم , فقال : قيسوا ما بين الأرضين , فإلى أيتهما كان أدنى فهو له , فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد , فقبضته ملائكة الرحمة . قال قتادة : فقال الحسن : ذُكِرَ لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره ).
هذه قصة رجل أسرف على نفسه بارتكاب الذنوب والموبقات , حتى قتل مائة نفس , وأي ذنب بعد الشرك أعظم من قتل النفس بغير حق , ومع كل الذي اقترفه إلا أنه كان لا يزال عنده من الرغبة في عفو الله ومغفرته ,ما دعاه إلى أن يبحث عمن يفتيه في أمره , ويفتح له أبواب الأمل , ولم يسأل عن أي عالم , بل سأل عن أعلم أهل الأرض , فدلوه على رجل راهب كثير العبادة قليل العلم , فأخبره بما كان منه , فاستعظم الراهب ذنبه , وقنَّطه من رحمة الله , وازداد الرجل غيّاً إلى غيِّه عندما أخبره أن التوبة محجوبة عنه , فقتله ليتم به المائة .(2/46)
وبعد قتله للراهب لم ييأس , ولم يقتنع بما قاله له , فسأل مرة أخرى عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على رجل , وكان عالما بالفعل , فسأله القاتل ما إذا كان يمكن أن تكون له توبة بعد كل الذي فعله , فقال له العالم مستنكرا ومستغربا : ومن يحول بينك وبين التوبة , وكأنه يقول : إنها مسألة بدهية لا تحتاج إلى كثير تفكير أوسؤال , فباب التوبة مفتوح , والله عز وجل لا يتعاظمه ذنب , ورحمته وسعت كل شيء , وكان هذا العالم مربيا حكيما , فلم يكتف بإخباره بأن له توبة , بل دله على الطريق الموصل إليها , وهو تغيير البيئة التي تذكره بالمعصية وتحثه عليها , ومفارقة الرفقة السيئة التي تعينه على الفساد, وتزين له الشر , فأمره بأن يترك أرض السوء , ويهاجر إلى أرض أخرى فيها أقوام صالحون يعبدون الله تعالى , وكان الرجل صادقا في طلب التوبة فلم يتردد لحظة , وخرج قاصدا تلك الأرض , ولما وصل إلى منتصف الطريق حضره أجله , فابتعد بصدره جهة الأرض الطيبة مما يدل على صدقه في التوبة حتى وهو في النزع الأخير , , فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ,كل منهم يريد أن يقبض روحه , فقالت ملائكة العذاب إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيرا أبدا , وقالت ملائكة الرحمة إنه قد تاب وأناب وجاء مقبلا على الله , فأرسل الله لهم ملكا في صورة إنسان , فأمرهم أن يقيسوا ما بين الأرضين , الأرض التي جاء منها , والأرض التي هاجر إليها , فأمر الله أرض الخير والصلاح أن تتقارب , وأرض الشر والفساد أن تتباعد , فوجدوه أقرب إلى أرض الصالحين بشبر , فتولت أمره ملائكة الرحمة , وغفر الله له ذنوبه العظيمة كلها .
إن هذه القصة تفتح أبواب الأمل لكل عاص , وتبين سعة رحمة الله , وقبوله لتوبة التائبين, مهما عظمت ذنوبهم وخطاياهم , إذا صدق الإنسان في طلب التوبة , وسلك الطرق والوسائل التي تعينه عليها , ومن ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله , فقد ظن بربه ظن السوء, فعلى العبد أن لا ييأس من رحمة الله , وكما أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب , فكذلك القنوط من رحمة الله , قال عز وجل : { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } (يوسف: 87) .
=================00
الإيمان وأثره في الأمن
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن خير الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].
ونسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما نسمع وما نقول وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الموضوع الذي نريد أن نتحدث نحن وإياكم عنه، ليس عليكم بجديد، خصوصاً وأنتم تعيشون معمعة الجهاد من أجل تحقيقه إذا خلصت النية وصلح العمل -بإذن الله تبارك وتعالى- فإن ذلك كالجهاد، بل هو نوع من أنواع الجهاد.
والعلاقة بين الأمن والإيمان، وبين الإيمان والسلوك والعمل؛ قد جاءت واضحة جلية في كتاب الله تبارك وتعالى، وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأي أمل وأي هدف تسعى إليه الشعوب والدول والأمم في هذا الزمان وفي كل زمان أعظم من الأمن، إن العالم اليوم -كما تشاهدون- يعيش في بحبوحة من التقدم المادي والرفاهية الحضارية.
وإن الأمم الكبرى فيه والتي تسمى بالتحررية أو التقدمية تعيش في قمة التطور المذهل في مجالات الحياة المادية ولكنها مع ذلك تعيش في حضيض وفي نكد فقدان الأمن والأمان وتعيش في حالة من الرعب، والخوف، والقلق، والضياع الذي يسيطر عليها في جميع مناحيها.
وما أشبهها في ذلك بحال الأمم قبل بعثة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، وما تزال رسالته التي تحقق الرحمة للعالمين بين أيدينا غضة طرية، وما نزال نحن حملة هذه الرسالة التي يجب أن نؤديها إلى العالم كله وإلى أنفسنا أولاً.
أدلة الأمن والإيمان من كتاب الله(2/47)
العلاقة بين الأمن والإيمان، من جميع جوانبها جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى، وأوضحها في حال الأمم السابقة وفي حالنا نحن لنتعظ ولنعتبر، فالله تبارك وتعالى يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66]، ويقول جل شأنه: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً [الجن:16] وآيات كثيرة تبين أنه لا أمن ولا رخاء ولا سعادة ولا طمأنينة إلا بالإيمان بالله تبارك وتعالى، وأن كل من يبحث عن الأمن في نفسه، أو مجتمعه، أو أمته فإنه لن يجده إلا في الإيمان بالله.
فعليه أولاً أن يؤمن بالله، وأن يخضع أعماله وجوارحه وهواه لله تبارك وتعالى، يكون تابعاً لما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الهدى والنور والحق والسُنة.
ولهذا يقول جل شأنه في حال الطرف الآخر: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
ويقول تبارك وتعالى في حال الطرف الآخر الذي لم يحقق الإيمان: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45].
والعلاقة بين الأمن وبين الإيمان تتضح من نفس مبنى الكلمة في اللغة العربية، فإن الإيمان تتركب حروفه الأصلية من نفس الكلمة التي تتركب منها حروف الأمن، وهي الهمزة والميم والنون (أَمِنَ)، هذه المادة -مادة (أمن)- يشتق منها الإيمان، وتدل عليه كما تدل على الأمن، وتدل على مادة أخرى وهي (الأمانة) فنجد أن الأمانة والأمن والإيمان متقاربة في الاشتقاق في اللفظ، فهي متقاربة في المعنى وفي الدلالة، ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأييداً لذلك: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم } أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والأمانة يقول الله تبارك وتعالى فيها: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]، فما هذه الأمانة؟
هي نفس عبء وحمولة الإيمان بالله وعبادة الله تبارك وتعالى التي قال فيها في موضع آخر: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فالأمانة هي مدلول الإيمان، وهي تشمل جميع الإيمان.
الإيمان أعظم أمانة حملها الإنسان
وأعظم أمانة أعطيها الإنسان أو كلف بها هي الإيمان بالله، وعبادة الله وتوحيده تبارك وتعالى، وفي نفس الوقت يجب على الإنسان أن يكون أميناً، وأن يأمنه المسلمون ويأمنه الناس وأن يكون مؤمناً بالله تبارك وتعالى.
فهذه كلها خصال مشتركة مجتمعة يجمعها جميعاً قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المتفق عليه: {الإيمان بضع وسبعون -أو وستون - شعبة فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان } فشهادة أن لا إله إلا الله هي الشعبة العليا، وهي التي لا يكون الإنسان مسلماً إلا بها، والحياء صفة تجمع صفات الخير جميعاً، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أيضاً: {إن الحياء لا يأتي إلا بخيرأو إن الحياء خير كله } فالحياء كله خير، وهو جماع خصال الخير جميعاً، فإذا استحيا الإنسان من الله ومن خلق الله ومن المؤمنين، فإنه لن يرتكب عملاً محظوراً قط.
ونتيجة لذلك سيكون الأمن في قلبه، وذلك نتيجة لخوفه من الله تبارك وتعالى، وسيكون الأمن في المجتمع لأن كل إنسان يستحي أن يعصي الله تبارك وتعالى، وأن يراه الله تبارك وتعالى على معصية وهو خال وحده، فكيف يفعلها جهاراً أمام الناس، فلا يعصي الله جهرةً إلا من سلخ ربقة الحياء وثوب الحياء منه أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
أعظم الأمن إنما يتحقق بتوحيد الله(2/48)
خصال الإيمان وشعبه تتفق وتلتقي حول هذه النقطة وحول هذا المبدأ، وأعظم الأمن إنما يتحقق بتحقيق توحيد الله تبارك وتعالى، ولهذا قال جل شأنه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] والأمن بالألف واللام (أل) هكذا للاستغراق، أي: أن كل الأمن إنما يكون لمن لم يلبس إيمانه بظلم, والظلم هنا هو الشرك كما فسره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما شق على أصحابه هذا عند نزول الآية السابقة، فقالوا: {وأينا لم يظلم نفسه }، فصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أنه أفضل الناس بعد الأنبياء خافوا ألا يكون لهم هذا الأمن، لماذا؟ قالوا: {وأينا لم يظلم نفسه } وأينا لم يعص الله، ولم يرتكب خطيئةً أو ذنباً، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طمأنهم فقال: {ليس ذلك، وإنما هو كما قال العبد الصالح :يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] } فمن ترك الشرك، ولم يلبس ولم يخلط توحيده بشرك فله الأمن: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فله الأمن في الدنيا وفي الآخرة، وله الهداية في الدنيا وفي الآخرة.
أما في الدنيا فهو يعيش على الصراط المستقيم فهو من أهل الهداية، وأيضاً من أهل الأمن؛ لأن من لا يخاف إلا من الله تبارك وتعالى فإنه آمن من كل شيء.
الصحابة ضربوا أروع الأمثلة في تحقيق الأمن
ضرب أصحاب النبي من ذلك أعظم المثل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] فليس هناك أي خوف: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فالمؤمن بالله تبارك وتعالى لا يخاف إلا منه تبارك وتعالى، ومن حقق التوحيد لا يخاف إلا منه تبارك وتعالى.
ولهذا لا يخاف من الكفر وأممه وأسلحته وقوته وعدده وعدته أبداً, ولا يخاف من ذي هيبة أو شأن أن يقول له: اتق الله! أبداً، ولا يخاف من صاحب معصية أو فجور إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكما أمره الله بالحكمة وبالموعظة الحسنة.
فهذا في الدنيا وفي الآخرة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّه [الأعراف:43] فلا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته ابتداءً إلا من حقق التوحيد كاملاً غير منقوص، ومن كانت عليه من المعاصي ومن الكبائر ما يستحق بها دخول النار ولم تشمله رحمة الله تبارك وتعالى بداية، فإن مصيره إلى الجنة -بإذن الله- لِمَا حقق من التوحيد؛ لأن الله تبارك وتعالى قد تأذن لمن لقيه لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة، وإن زنا وإن سرق.
فإذا حقق الإنسان التوحيد فلا بد أن يدخل الجنة ولو بعد حين، ولا يعني ذلك أن من ارتكب هذه المنكرات لا يدخل النار -عافانا الله تبارك وتعالى وإياكم من النار- لكن يعني: أن مصيره -بإذن الله- إلى الأمن وإلى الجنة، وإن عذب ما عذب قبل ذلك، وإن خوف بما خوف، فتبين أن أعظم أمن يتحقق للإنسان هو تحقيق التوحيد، أي: طمأنينة الإيمان التي تكون بتوحيد الله.
وانظروا إلى حال الذين لا يحققون توحيد الله تبارك وتعالى، كيف يعيشون في خوف، ولا يشعر بذلك الخوف -ولله الحمد- الذين تربوا على التوحيد وفهموه، وانظروا إلى حال الذين يتعلقون بالشياطين، والذين يعبدون الأولياء، والذين يعبدون السحرة والكهان والعرافين، والذين يتعلقون بالدجالين وأمثالهم يعيشون في خوف دائم وفي رعب وفي قلق نتيجة عدم تحقيقهم للتوحيد، فالإنسان منهم يخاف إذا عمل أي عمل، فهو يتكلم هو وصديقه في البيت وليس معهما أحد، ويقول له صاحبه: يا أخي اتق الله، ولا تذهب إلى الدجال ولا إلى الساحر ولا إلى الكاهن فهو إنما يضحك عليك، ويسلب مالك، وينهب عقيدتك، فيقول: اسكت، لا يسمعك الولي، وكأنه حاضر! فجعله رباً من دون الله تبارك وتعالى، وخاف منه وكأنه حاضر معه في ذلك المجلس، وقد يكون بينهما مئات الأميال.
وهذا الخوف وهذا الرعب الذي يلقى في القلوب إنما هو نتيجة عدم تحقيق توحيد الله تبارك وتعالى.
وأما من وحد الله تبارك وتعالى، ومن علم أن الله تبارك وتعالى هو وحده المعبود لا سواه، وهو وحده المدعو لا سواه، وهو وحده الذي يملك الضر والنفع، ولا أحد من العالمين يملك ذلك، فإنه لا يخاف إلا من الله تبارك وتعالى في سره وفي علانيته.
فهذا هو أعظم ما يتحقق من أنواع الأمن بالإيمان بالله وبتوحيد الله تبارك وتعالى.(2/49)
وأما ما يطلق الآن في هذا العصر وفي غيره، من الأمن الذي يقصد به خلاف الخوف، والذي يراد به أن يعيش الأفراد وتعيش المجتمعات في طمأنينة وفي رخاء وفي راحة لا تعكرها جريمة المجرمين، ولا عبث المعتدين، الأمن بهذا المفهوم متحقق ويتحقق أعظم التحقق بالإيمان بالله تعالى، وبصدق التوحيد لله، والإخلاص في امتثال أوامر الله تبارك وتعالى، ولا يتحقق بسوى ذلك، وإن شئتم الأدلة من الواقع، فما أعظمها من أدلة:
حالة العرب الأمنية قبل البعثة
ذكان العرب في الجاهلية قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حال من الرعب والخوف والجريمة تقشعر منه الأبدان، فما بالكم بالرجل العاقل الحليم البالغ الشجاع من سادات القوم يقبض على ابنته التي ناهزت الحلم ويدسها في التراب، وهي حية تصرخ، أي أمن يمكن أن يتحقق في مجتمع يفعل عظماؤه وقادته هذا، وأي قسوة في القلوب تتخيل بعد هذه القسوة، فلا رحمة ولا شفقة، كما أن الغزو والنهب والسلب هو حياتهم، ولهذا يقول شاعرهم:
وأحيانا على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا
فنحارب نحن وبكر من عدانا من العرب؛ لننهب ونجمع، فإذا لم نجد من نحارب إلا بكراً حاربنا بكراً وغنمنا بكراً، فهذه هي الجاهلية وهذه حياتهم، فما كانوا يجدون للأمن طعماً.
كان الرجل يمشي بالضعينة -أي: المرأة التي تكون في حوزته- وإذا برجل يخرج له من الطريق ويقول له سلم الضعينة وإلا قتلتك، وهنا لا حكم إلا للسيف، فإن قتله أخذ ضعينته، وإن قتل ذلك المجرم فإن مجرماً آخر يترصد في الطريق في مكمن آخر، لا طمأنينة ولا سعادة ولا راحة.
حال المسلمين الأمنية بعد البعثة
ولما بُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان المشركون يعذبون أصحابه رضي الله عنهم أشد العذاب، ونالهم أشد الأذى، بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك الظرف وفي ذلك الوقت الحالك وبشرهم بأن دينه هو دين الأمن ودين الرخاء والسلام للإنسانية جميعاً، فإنه لما جاءه أصحابه وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوسداً بردته في الكعبة، قالوا: يا رسول الله! إن البلاء قد اشتد بنا فادع الله لنا، فقام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محمر الوجه، متأثراً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من استعجالهم وعدم صبرهم، ولا غرابة في ذلك فهذا شأن النفوس البشرية، فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن ما يلاقون من الأذى هو حال الأمم قبلهم، وقال: {قد كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرق رأسه ويشق شقين، لا يرده ذلك عن دينه } إلى أن قال: {والذي نفسي بيده لتسيرن الضعينة ما بين عدن وصنعاء -أو أبين وصنعاء - لا تخاف إلا الله } فبشرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الأمن سوف يستتب بفضل الإيمان بالله تبارك وتعالى، حتى إن الضعينة سوف تقطع هذه المسافة في جزيرة العرب لا تخاف إلا الله تبارك وتعالى، وفعلاً لم يمض وقتاً طويلاً حتى كان الراعي وغيره يقطع المفاوز وهو لا يخاف إلا الله تبارك وتعالى والذئب على غنمه، أما البشر فلا يخاف منهم أبداً.
وقد تحقق هذا الأمن على يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما آمن الناس ودخلوا في دين الله تبارك وتعالى أفواجاً، والعجيب أن هذا الأمن الذي تحقق على يد محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الهداية والخير للبشرية، تحقق بأقل ما يمكن أن يتحقق من الدماء، فقد أحصى المؤلفون في السيرة عدد القتلى الذين قتلوا في جميع الحروب التي خاضها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يزيدوا على ألف قتيل فقط، ومن هؤلاء الألف بنو قريضة، مع أن بني قريضة لا ينطبق عليهم في الحقيقة أنهم قوم حاربوا، فليسوا قوماً أو أمةً أو عدواً خارجياً محارباً، وإنما هم بتعبيرنا الحديث: (مواطنون ارتكبوا الخيانة العظمى) لأنهم كانوا تحت حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموالاة العدو الخارجي -الأحزاب- الذي جاء لحصار المدينة ، ومع ذلك قتل منهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضع مائة، فهؤلاء يدخلون ضمن هذا العدد المقارب للألف من القتلى، فقد حقق الله تبارك وتعالى الأمن وعممه في جزيرة العرب وأطراف الشام والعراق ، وكل ما دخل في حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي حكم المسلمين.
ولو أننا قارنا - ولا مجال للمقارنة، ولكن لأن خفافيش الأبصار والمقلدين لا يجدون ولا يريدون أن يجدوا قدوة إلا أعداء الله تبارك وتعالى في الغرب والشرق- بين هذا العدد وبين ضحايا الحرب العالمية الثانية، كم قُتل في الحرب العالمية الثانية، وكم جرح، يقال في الإحصائيات الدولية: إن ضحايا هذه الحرب ستين مليوناً من القتلى والجرحى، وماذا حققت من خير، أو أمن، أو رخاء؟!!!(2/50)
فانظروا إلى ثمرة الإيمان كيف تثمر الأمن العظيم بأقل عدد، وانظروا إلى الكفر بالله عز وجل، وإلى أفعال الجبابرة والطواغيت الذين يريدون العلو والفساد في الأرض، كيف يدمرون الأمم والشعوب، وهذه الملايين من البشر تذهب ضحايا نزوات شخصية لطواغيت من البشر متألهين فأين هذا من ذاك.
العرب في الجاهلية اقتتلوا في حرب داحس والغبراء أربعين سنة، حتى تفانت عبس وذبيان، سبحان الله! وما هي داحس والغبراء؟! فرسان للسباق، اتهم كل فريق الطرف الآخر بأن هذه سبقت تلك؛ فتحاربت القبيلتان اللتان كانت منهما هذان الفرسان أربعين سنة.
وما عهد ذلك منكم ببعيد، أيضاً في الجاهلية الحديثة فإن دولتين من دول أمريكا الوسطى ، أظنها الدومينيكان والسلفادور ، اقتتلتا أيضاً ودامت الحرب بينهما، من أجل مباراة لكرة القدم.
الإنسان إذا فقد الإيمان وأخذ يرفع ويضخم التوافه ويعظمها في قلبه إلى حد أنه يقاتل من أجلها ويقتتل، فهو ذلك الإنسان الجاهلي، سواء كان قبل بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم بعد بعثته.
فإذا فقد الإيمان فقد الأمن ولو لأتفه الأسباب، ولو لأحط الغايات وأدنى ما يستمتع به من الشهوات، فكيف تحقق الأمن في المجتمع المسلم؟ وكيف كان سلوك المؤمنين في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين تحقق بهم ذلك الأمن؟
مثال يوضح علاقة الأمن بالإيمان
الأمثلة كثيرة، ونضرب مثالاً واحداً لعلاقة الأمن بالإيمان:
أم الخبائث هي: الخمر, وهي التي وراء كل جريمة، أو هي التي إذا شُربت فلتتوقع كل جريمة بعد ذلك، وليكن بعد ذلك ما يكون، وما المخدرات إلا فرع وتابع لها، والأمة التي تحارب الخمر بشدة لن تنتشر فيها المخدرات، بل الأمة التي تحارب التدخين بقوة وحزم لن ينتشر فيها الخمر، وبعد ذلك وأبعد منه المخدرات.
هذه الخمر لدينا فيها مثالان حقيقيان وواقعيان، ويغنيان عن كثير من الأدلة النظرية، لو تأملنا فيهما لعلمنا قوة العلاقة بين الأمن وبين الإيمان:
كان الناس يشربون الخمر في الجاهلية ثم نزل الإسلام بتحريمها بالتدريج، وكان الحكماء والعقلاء حتى في الجاهلية لا يشربون الخمر، ولا يشربها عاقل لا في جاهلية ولا في غيرها، والحكماء من العرب تعففوا عنها حتى في الجاهلية، وكان عدد من كبار الصحابة رضي الله عنه متعففاً عنها حتى قبل أن تحرم التحريم الكلي، وقد تدرج تحريمها، والشاهد أنه لما نزل التحريم الصريح في الآيتين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:90-91] فلما نزلت فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وتلاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه وتنادوا بها، وذهب وافدهم إلى من يشربها في منتدياتهم ومجامعهم: [[ألا إن الخمر قد حرمت -وإذا بأزقة المدينة تجري أنهاراً، فأريقت الخمر- وقال الصحابة انتهينا ربنا ]] ولم يكن جوابهم إلا ذلك: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [النور:51] في كل زمان ومكان: أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] وإذا قيل: لهم انتهوا، فإنهم يقولوا: انتهينا، فانتهوا وأريقت، ولم يحتفظوا بها ويقول قائلهم: لن نشربها ولكن يمكن أن نبيعها على أحد من اليهود أو أهل الذمة، فما فكروا في هذا ولم يقولوا، أو يقل قائل منهم: لماذا لا نشربها في الخفاء ونبقيها، ولم يُشَكِّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجنة للمراقبة تدخل البيوت وتحث على مراقبة الله تبارك وتعالى وعلى الخوف من الله تبارك وتعالى، فهؤلاء هم تربية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تربوا على مرتبة الإحسان: {أن تعبد الله تبارك وتعالى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك } فعلموا أن الله تبارك وتعالى عليهم رقيباً، وأنه مطلع على أحوالهم، وأن مقتضى إيمانهم، بل من إيمانهم أن ينتهوا حيث نهاهم الله ورسوله، فانتهوا وانتهت الخمر، وما بقي إلا الشواذّ الذين لا تخلوا منهم أمة، ومع ذلك ممن أقيم عليه الحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شهد له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمحبة الله ورسوله فهو قد أخطأ وغلط نتيجة الضعف البشري الذي ينتاب كل إنسان، لكن لم يعد هناك منهج استحلال وإصرار وعناد لأمر الله ورسوله، والسبب أنهم لما كانوا مؤمنين حققوا ذلك.
ولنأخذ المثل الآخر من الأمة التي لا تؤمن بالله ورسوله:(2/51)
فأمريكا خرجت من الحرب العالمية الأولى وهي تريد أن تربي شبابها تربية جديدة، لأنها انفتحت على العالم، وتريد أن تخطط لتسيطر على العالم كله ما أمكن، وكانت تريد لشبابها القوة، بالنظرة المادية المجردة، لا إيماناً بالله وبرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا بالآخرة وبالبعث من بعد الموت، ولكن ليكون الشباب قوياً ناهضاً ولتكون الأمة ناشطة ناهضة، فقالوا: لا بد أن نحرم الخمر، لأن الخمر دمر المجتمع الأمريكي.
وكتب الأطباء التقارير عن أخطارها، وشكى العقلاء الصفحات الطويلة عن مصائبها، والآباء والأمهات والمدرسون وكل المجتمع يشتكي من المجرمين، كل ذلك لماذا؟ قالوا: هذا نتيجة الخمر، قالوا: وما المانع، ولماذا لا نحرم الخمر؟! ودُرِسَ الأمر دراسة جادة، وحسبت التكاليف التي يمكن أن تنفق للدعاية لتحريم الخمر، وعينت وشكلت اللجان والهيئات في مداخل البلاد، وعينت لجان التفتيش على مصانع الخمور، وضُبط الأمر ورتب وأعلن رسمياً باسم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية : أن الخمر قد حرمت في الولايات المتحدة جميعاً، وأن الحرب عليها قد أعلنت رسمياً وشعبياً، وعملت الدعاية دورها، وكلكم يعلم قوة الدعاية الأمريكية إذا أرادت أن تدعو إلى أي شيءٍ شراً كان أم خيراً.
ومرت السنة الأولى والثانية وتفاقم الأمر خطراً، فضوعفت البنود للنفقات، وبعثت هيئات التفتيش ورجال التفتيش، وبذلوا الجهود أكثر وأكثر، وبذلوا التحريات أكبر وأكبر، ثم جاءت التقارير بأن الأمر قد تفاقم، وأن شربها قد ازداد، وأن المصانع قد أصبحت في الخفاء أكثر مما كانت في العلانية، وأن الناس يحتالون على إدخالها من المنافذ بجميع أنواع الحيل، وأن الأمر قد تجاوز الحد، وأن كل المليارات التي أنفقت في الدعاية لم تجد أي شيءٍ، واجتمعوا وأعادوا الاجتماع مرة إثر مرة، وفي النهاية لم يجدوا بُداً من أن يعلنوا رسمياً وشعبياً أن الحرب على الخمر قد انتهت وأنها حلال كالماء، لماذا؟ هل تنقصهم حضارة؟! هل تنقصهم ثقافة؟! هل تنقصهم معلومات طبية عن أضرار الخمر؟! هل تنقصهم إحصائيات عن الجريمة وعن أثر الخمر في إفساد المجتمع؟! لا، لا يوجد دولة في العالم تملك في هذا الشأن مثل هذه الدولة، فما الذي ينقصهم؟ ولماذا لم ينجحوا إذاً؟ ولماذا نجح المجتمع الإسلامي في محاربة هذا الداء الخبيث بأقل ما يمكن من الجهود، فبنداء واحد: ألا إن الخمر قد حرمت، انتهى كل شيء، ولم تنجح أرقى المجتمعات كما يسميها المخدوعون والمغرورون، ولم تنجح بلد التكنولوجيا في ذلك!!
لأن الأمر يتعلق بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمتى كان الإيمان كان الأمن وتحققت النتائج العظمى، ومتى فُقِد الإيمان فإنه لا خير في الإنسان ولا في المجتمع ولا في الأمة.
فالإيمان هو الذي يحول قاطع الطريق واللص المحترف إلى ذلك الإنسان الرقيق، الودود الحليم، الذي يبكي من خوف الله تبارك وتعالى، والذي لو قلت له: اتق الله! لخشع وبكى أمامك، ولو أخبرك أحد أن هذا كان لصاً مجرماً، وكان قاطع طريق محترف، لما صدقت إلا في ظل الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
نتائج ضعف الإيمان على الأمن
الإخوة الذين يبعثون للدراسة في أمريكا ، يعرفون أن السجون الأمريكية أصبحت ترحب وتفتح الأبواب لمن يدعو إلى الإسلام، بل إلى أي دين وأي ملة: إلى الهندوسية أو المجوسية أو البوذية المهم: ادخلوا السجون وعلموا هؤلاء الناس أي دين من الأديان حتى لا يحترفوا الإجرام، سبحان الله! إنه الخلو من الإيمان، لا تنقصهم الأجهزة الدقيقة، كل حياتهم بالكمبيوتر، فهو ينظم جميع أمورهم، ووسائل اكتشاف الجريمة قد تفوقوا فيها إلى حد لا يكاد يخطر ببال، وكثير منه سري لا يعلنونه حتى لا يعرف ذلك المجرمون، لكن في المقابل تكنولوجيا الإجرام تتفوق، والمجرمون محترفون، ومنهم مَنْ هم أعضاء في المحاكم، ومنهم مَنْ هم أعضاء في الحلقات أو في الهيئات العلمية التي تبحث الخطط لمحاربة الجريمة، ويوجد ضمن الأعضاء من هو مجرم محترف لكنه أستاذ جامعة، أو رجل من رجال الأمن أو من رجال الاجتماع الكبار.(2/52)
فلماذا تتفوق تكنولوجيا الجريمة على تكنولوجيا مقاومة الجريمة؟ لأنه إذا فقد الإيمان بالله سبحانه وتعالى فلا تستغربوا أبداً أن يكون هذا ولهذا انظروا إلى مجتمعنا ونحن لا نزكي أنفسنا ولا ينبغي لنا ذلك ونحن نعلم الفرق والبعد الشاسع بين مجتمعنا هذا، وبين ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا نحن نرجو ويجب علينا جميعاً رجال الأمن وخلافهم، أن نتعاون ليعود مجتمعنا هذا إلى ما كان عليه مجتمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدر الإمكان، -وإلى واقعنا ولله الحمد، كل ما نعيش فيه من أمن ورخاء ومن نسبة متدنية للجريمة فإنها نتيجة لوجود بقايا الإيمان في مجتمعنا، وروابط الإيمان التي تشد بعضه إلى بعض، ونتيجة تطبيق حدود الله تبارك وتعالى على هؤلاء المجرمين، وبقدر ما يتعكر الأمن فعلينا أن نراجع أنفسنا ولا نتهم إلا أنفسنا، ولنعلم أن ما أصابنا فبما كسبت أيدينا ويعفو عن كثير، وأنه بقدر بعدنا عن تحقيق الإيمان، بقدر ما يكون الخلل في الأمن.
فنحن لن نبلغ الجنة ولا نبلغ رضا الله تبارك وتعالى إلا بالإيمان بالله حق الإيمان، وبتحقيق توحيد الله تبارك وتعالى، وفي نفس الوقت لن يتحقق لنا الأمن والرخاء والاستقرار في مجتمعاتنا وفي حياتنا الدنيا إلا بتحقيق الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إن الله تبارك وتعالى لما أنزل أبانا -الإنسان الأول آدم عليه السلام- إلى الأرض، جعل له منهج الهدى، وقال: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] ومعنى لا يضل ولا يشقى. أي: الهداية والسعادة، فتكفل الله تبارك وتعالى لمن اتبع الكتاب والسنة وطريق الرشد الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهداية والسعادة، منذ أن نزل الإنسان الأول وإلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها، ولا يمكن أن تتحقق الهداية والسعادة والرخاء إلا في ظل الإيمان بالله، والحياء منه، وامتثال أوامره وطاعته تبارك وتعالى.
من صور فقدان الأمن في الآخرة
قال الله عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] نعوذ بالله من ذلك، فالصراط أحدُّ من السيف وأدَّق من الشعرة، فكيف إذا بعث الإنسان أعمى، هل يمشي على هذا الصراط أم يقع في النار -نعوذ بالله-؟ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [طه:125] يقول: إنك يا ربنا تعيد الخلق كما بدأته أول مرة، فكيف هذا العمى بعد البصر في الدنيا؟ قال: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:125-126] - نعوذ بالله - ولهذا نخاف والله من أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم شاكياً لرب العالمين: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].
فهجر القرآن هو الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، وعن تحكيم كتابه، عن التعاون لإقامة دينه، وخصوصاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نخشى والله أن يكون هذا الهجر واقعاً فتكون النتيجة هي أن نفقد السعادة والهداية.
وانظروا إلى الذين يتعاونون لإسقاط حد من حدود الله تبارك وتعالى، أو الشفاعة في حد من حدود الله تبارك وتعالى، إن ذلك يسبب الهلاك، ولذلك لما سرقت امرأة مخزومية من قريش، وهاب الصحابة أن يكلموا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأنها، وعلموا أنه سيقطع يدها، فكلموا أسامة بن زيد لعله يشفع لها عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمنزلته عنده، فأتاه فكلمه، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكأن الأمة قد انقض عليها صاعقة من السماء، وقال: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد }.
فإذا كان المجتمع يتواطأ ويتعاون على أن لا يقام حد من حدود الله تبارك وتعالى، أو على أن يشفع في حد من حدوده، فإن النتيجة الحتمية لهذا المجتمع هي أن يزداد الخوف، وتزداد الجريمة، أما إذا كان التعاون على البر والتقوى، وكان موظف أو رجل الهيئة مع رجل الأمن، ومع الرجل العادي، كلهم يتعاونون على ألا تشرب الخمر -مثلاً- وعلى ألا يكون الزنا، وتكون السرقة، وإذا كان حد من حدود الله تبارك وتعالى لم يشفعوا فيه، ولم يبدلوا ولم يغيروا في البيانات ولا في الأوراق، ولا في أي شيء من شأنه أن يعطل هذا الحد أو ينفيه، فإن النتيجة حينئذٍ أن يكون الأمن والرخاء بإذن الله تبارك وتعالى.
من صور فقدان الأمن في الدنيا(2/53)
ذكر الله في سورة النحل قوله تبارك وتعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112] هذه الآية تدل على ذلك، وهذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى عن قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، بماذا يحلم أي مجتمع في هذه الدنيا بأعظم من ذلك، الأمن والطمأنينة والرزق الرغد، والعيش الهنيئ الرخي الذي يأتي من كل مكان، تجلب فاكهة الشتاء في الصيف وتجلب فاكهة الصيف في الشتاء، انظروا إلى حالنا ولله الحمد، لا يوجد لون من ألوان النعيم المادي والترف إلا ونحن نعيش في بحبوحته، فكل أنواع الفواكه، وكل أنواع المشروبات، والملبوسات، والمطعومات، والروائح، وكل أنواع الأبنية، وما يتعلق بها، وكل أنواع التجهيزات موجودة في المجتمع أو في البيوت.
ولكن حين تبارز الله تبارك وتعالى بالمعاصي، وتعارض أوامر الله تبارك وتعالى وتعترض على ما أنزل الله جهرة وعلانية -كما تفعل كثير من المجتمعات- فإن ذلك لا يستغرب أن تصاب بما ذكره الله تبارك وتعالى حين قال: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] فهؤلاء القوم أغرقهم الله تبارك وتعالى بأن فتح عليهم أبواب كل شيء ولم يقل كما في الآية الأخرى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96] وكما في الآية الأخرى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66] فهذا النعيم إنما هو في حق المؤمنين إذا آمنوا واتقوا، لكن لما نسوا ما ذكروا به، نسوا الإيمان وتخلوا عن التوحيد إلى الشرك والبدع والضلال، وتخلوا عن الطاعة وأخذوا المعصية وتركوا أمر الله تبارك وتعالى إلى ما حرم فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] وانظروا إلى الإحصائيات الدولية في التفوق المادي، الدول الغربية هي الأولى في إنتاج الذهب، والفواكه، والزراعة، والصناعة، وكل شيء، ولا تنسى الجانب الآخر، فهي في الجرائم متفوقة متقدمة، وفي الاختطاف متفوقة متقدمة، وفي الزنا متفوقة متقدمة، وفي الإيدز متفوقة متقدمة، فهي الأولى في كل شيء.
ولكن ما هي النتيجة بعد ذلك؟ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا [الأنعام:44] وقال تعالى في آية أخرى حَتَّى إِذَا الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24] حتى أنهم درسوا كيف يواجهون الأعاصير - الإعصار الذي يأتي وقد يكون قطره مائة كيلو متر أو أكثر من عرض البحر- بواسطة الطائرات وبواسطة العلم، وبواسطة كذا: وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24]، ظنوا أنهم يستطيعون حتى في الزلازل وحتى في الأعاصير.
فماذا تكون النتيجة؟! أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ [الأنعام:44] نعوذ بالله من عذاب الله، بغتة أي: فجأة فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] وقال تعالى في آية أخرى: فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت:40]، وهذه قاعدة عامة، وهي: أن جميع الأمم أخذوا بذنوبهم، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:6-14] فالذين طغوا في البلاد فإن الله لهم بالمرصاد في كل زمان وفي كل مكان، إذا قضى الله تبارك وتعالى أمراً، وسنة كونية؛ فإن هذه السنة لا تختلف ولا تتغير ولا تجامل ولا تحابي أحداً، بل ربما تكون العقوبة لمن يطيع الله تبارك وتعالى، ولمن يعصيه عن علم أشدُّ وأعظم من عقوبة من تنزل به وهو في غفلة وإعراض وراء إعراض.
لنحذر عقوبة الله تبارك وتعالى، ولنحذر أثر المعاصي وأثر الذنوب، فإنها هي التي تعكر الأمن، ولا بد أن نحذر أولاً من الشرك: لأن الشرك هو الذي يعكر أمن الإنسان، فالإنسان الذين تطارده أشباح الشياطين والدجالين ووساوس المشعوذين؛ لا ينام ولا يهدأ ولا يستقر؛ لأنه قد لبس إيمانه بظلم وهو الشرك، فليس من أهل الأمن ولا من أهل الهداية.(2/54)
وأيضاً: الإنسان الذي يعصي الله تبارك وتعالى، فإنه قد تأذن أن يذل من عصاه، وكتب أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فلا بد أن يذل وأن يشقى، ولا بد أن يتنغص ويتكدر عيشه بمقدار ما يعصي الله تبارك وتعالى.
أما بالإيمان بالله سبحانه فإن الخير والسعادة والنجاح والفلاح يتحقق للإنسان، يقول الله تبارك وتعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] ولما أخبر الله تبارك وتعالى وبدأ القصة عن فرعون وجبروته وطاغوتيته قال: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5] سبحان الله! التمكين والنصر والعز يكون للمؤمنين وإن كانوا أقلية، مهما كان ضعفهم ومهما كانت قلتهم، وقد تحقق ذلك، فقال في سورة أخرى : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]، فذهبت حضارة فرعون وذهبت أمجاده ودمرت، وأورث الله تبارك وتعالى المستضعفين الذين كانوا مؤمنين متمسكين بما أنزل الله تبارك وتعالى، والذين ثبتوا مع نبي الله موسى، ثم من بعده فتحوا وأطاعوا الله، فأورثهم الله تبارك وتعالى مشارق الأرض ومغاربها التي بارك فيها.
الإيمان بالله شرط في التمكين في الأرض
التمكين إنما يكون لمن آمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول الله تبارك وتعالى : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:39-41] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد وعد من يحقق ذلك بأن يمكنه ويعزه ويُؤَمِّنه ويطمئنه في الدنيا والآخرة,.
ويقول أيضاً جل شأنه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] أي: لا تخافوا من أمرٍ أنتم مقبلون عليه، ولا تحزنوا عما تركتم وراءكم أو عما خلفتم، لا خوف عليكم ولا حزن، بل هو الأمن والطمأنينة التامة لأنهم كانوا في الحياة الدنيا مطمئنين بذكر الله، وبتقوى الله، ومطمئنين بامتثال طاعة الله تبارك وتعالى، فكانت عاقبتهم أيضاً أن يطمئنوا برضى الله تبارك وتعالى، وبالقرار والفوز برضاه، وبرؤيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتي هي أعظم نعيم.
فإذن العلاقة بين الأمن والإيمان، ومن جانب آخر بين الذنوب والمعاصي، وبين الجريمة والنكد والمعيشة الضنك، علاقة واضحة جلية في كتاب الله تبارك وتعالى وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا أردنا الإصلاح -ونحن نريده بإذن الله- فما أقرب طريقه.
طريق الإصلاح يكون بالعودة إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين
لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن كان قد قبضه الله إليه فإن سنته بين أيدينا، ومنهج الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ومنهج كل المسلمين الذين كانوا يداً واحدةً على من سواهم، ويداً واحدةً على تقوى الله تبارك وتعالى.
فرجل الأمن أو الهيئة أو أي مسلم هو مسئول عن أمن أمته، مسئول أولاً عن أمن نفسه، أن يؤمِّنها بالتوحيد، ويؤمنها من خوف عذاب الله، ويؤمِّنها بتوحيد الله من تعكير الشرك ودواعي الشرك، وأن يؤمِّن إخوانه المسلمين، فإن المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم.
وأيضاً مسئول عن أمن مجتمعه كله،فإن المسلمين يداً واحدةً على من سواهم، ويداً واحدةً على من يعكر أمنهم ويعبث به، وكل مجرم وعاصٍ لله تبارك وتعالى فإنه معكر للأمن.
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإنقاذ المجتمع(2/55)
هذا المجتمع كسفينة كما ضرب المثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل القائم في حدود الله والواقع فيها -القائم أي: على الأمور كما ينبغي، ومثل الواقعين أي: المرتكبين لما حرم الله- كمثل قوم استهموا في سفينة فكان قوم في أعلاها وقوم في أسفلها } فكون هذا الإنسان مسئول وكون هذا الإنسان أقل، هذا مثل الاستهام في القدر، والله تبارك وتعالى هو الذي يقدر، وإلا كم من مسئول برتبة كبيرة ودونه إنسان أقل منه لكنه أكثر منه عقلاً أو ذكاءً أو علماً، فالغنى والمنصب وأمثال ذلك كلها بتوفيق وبقدر من الله تبارك وتعالى، فلا يتكبر أحد على أحد نتيجة ماله أو منصبه، فإنما هي مثل الأسهم، كأنهم استهموا فكان هؤلاء في أعلاها وهؤلاء في أسفلها.
فهذه السفينة إذا خرقت من أي مكان فإنها تغرق جميعاً، ولهذا نقول: إن من يعصي الله تبارك وتعالى فإنه يعكر على نفسه وعلى مجتمعة كله، بالتبرج أو بالربا أو بالزنا أو بالاختلاط أو بالخمر، أو بأي معصية مما حرم الله تبارك وتعالى.
{ فكان الذين أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، } أي: إذا أرادوا أن يحققوا أي أمر يأخذونه عن طريق الذين في القمة الذين هم مسئولون عن إعطائهم هذا الحق وهذا الأمر وهذا المطلب، فقالوا: {فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا } لماذا نصعد إلى أعلى والماء عندنا هنا قريب؟! فلو خرقنا هاهنا لأخذنا الماء من قريب، وهكذا كل إنسان، إذا أراد أن يعف نفسه عن الشهوة -مثلاً- شرع الله تبارك وتعالى له أن يتزوج، والزواج يحتاج إلى صعود إلى فوق، كأن تذهب وتبحث عن الفتاة المؤمنة ثم تدفع المهر، ثم تذهب إلى من يعقد، فهذا فيه صعود إلى أعلى، لكن الزنا قريب ولا يتطلب هذا الطلوع، لكن ما هو الحال وما هي النتيجة بعد ذلك.
{ فإن أخذوا على أيديهم نجو ونجو جميعاً } فالطبقة التي هي مسئولة عن الأمن، ومسئولة عن المجتمع ومنهم الأب والأم -الزوجة راعية أيضاً في بيت زوجها- إن أخذوا على أيديهم نجو جميعاً، { وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً } ولكن إن تركوهم فخرقوا السفينة غرقوا، ولو كانت السفينة طولها ألف متر أو أكثر وحفرت في ركن من أركانها لغرقت جميعاً، فلا يقول إنسان: أنا هنا بعيد لن يصيبني شيء، وذاك الذي يعصى الله تبارك وتعالى بعيد هناك، لا، بل يجب إذا أردنا الأمن والرخاء لأمتنا ولأنفسنا أن نكون يداً واحدة على تقوى الله تبارك وتعالى، ويداً واحدة على طاعة الله تبارك وتعالى، ونحقق الإيمان في قلوبنا ونحقق ما أمر الله تبارك وتعالى به ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحينئذٍ تكون السعادة وتكون الطمأنينة، ويتبدل الحال بعد الذل عزاً، وبعد الفرقة اجتماعاً، وبعد الشدة رخاءً، وبعد القحط غيثاً ورحمةً.
وهذا من فضل الله تبارك وتعالى أن جعل الله تبارك وتعالى باب التوبة مفتوحاً لأعدى أعدائه، فما ظنكم بمن يأتي بالمؤمنين الموحدين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله فيخد الأخاديد -الحفر العميقة- ويلقي النار فيها ويلهبها، ثم يقذف بهم وهم أحياء في هذه النار، وانظروا إلى هذا الذي يحارب الجبار -سبحانه وتعالى- بهذا النوع من أنواع الحرب، يحرق أولياءه وهم أحياء، ومع هذا يقول الله تبارك وتعالى : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [البروج:10] ثم لم يتوبوا: سبحان الله! يعرض الله التوبة حتى على أعدى أعدائه، فما بالكم بأوليائه الذين غرقوا في الغفلة، وأطغتهم النعمة وبطروا معيشتهم ونسوا أوامر الله تبارك وتعالى، وتراخوا في تطبيق أوامره، مع أنهم لم يشركوا بالله، ولم يرضوا ولم يجاهروا حد المجاهرة الواضحة، فما بالكم بأوليائه! إذاً هم أحوج إلى التوبة، وفي نفس الوقت هم أقرب إلى أن ينالهم رضا الله ورحمته تبارك وتعالى، فلا نيأس من رحمة الله ومن روح الله تبارك وتعالى، ولا نيأس من إصلاح مجتمعنا، وإعادته إلى مثل ما كان عليه مجتمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأمن والطمأنينة، لأننا إذا بذلنا الجهد الصحيح، والحكمة والموعظة الحسنة، والنصيحة تلو النصيحة، وأخلصنا العمل لله سبحانه، وتبنا إلى الله فإن الله تبارك وتعالى يغيثنا بالإيمان في قلوبنا، وبالمطر والرحمة في أوطاننا، وبالأمن الذي هو النعمة التي يفقدها العالم اليوم، ولا يغني عنها أية نعمة من النعم، ولا يجدي ولا ينفع مع فقدانها أي رغد ولا أي نوع من أنواع الحضارة والتقدم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم للإيمان والعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه سميع مجيب.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا جميعاً بما نسمع وبما نقول.
الفرق بين الأمن والأمن من مكر الله
السؤال : ما هو الفرق بين الأمن، والأمن من مكر الله تبارك وتعالى؟(2/56)
الجواب: الأمن بمفهومه العام هو كما ذكر الله تبارك وتعالى: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] هو: الطمأنينة والراحة والسكينة.
وأما الأمن من مكر الله تبارك وتعالى -نعوذ بالله من ذلك- فهذا لا يجوز: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] والأمن من مكره تبارك وتعالى قد يكون مناسباً للإدمان وللإصرار على المعاصي حتى يطبع على القلب فيأمن من مكر الله تبارك وتعالى ومن عقوبته، وينسى سنة الله تبارك وتعالى في عذاب الأمم، فهو إذاً من النقم ومما يعكر المجتمع ومما يعكر الأمن، فإذا أمن مكر الله تبارك وتعالى في أي مجتمع من المجتمعات، فاعلم أنه سيفقد أمنه وراحته، وأنه معرض للهلاك والدمار عافنا الله وإياكم من ذلك.
وكلما كان الفرد والمجتمع خائفاً من الله تبارك وتعالى غير آمن من مكر الله؛ فإنه أقرب إلى رحمة الله، وإلى رضا الله، وإلى الأمن والطمأنينة.
وسائل تثبيت الإيمان
السؤال: ما هي وسائل تثبيت الإيمان؟
الجواب: لتثبيت الإيمان وسائل كثيرة، وقد تعود في أصلها إلى أمرين: الذكر والفكر.
أما الذكر فهو: ذكر الله تبارك وتعالى، وأفضل الذكر كتاب الله تبارك وتعالى، ثم سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذكر المعروف مثل الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وسائر الأدعية المعروفة والموجودة في كتب الأذكار الصحيحة، فهذه الأذكار من ذلك.
وأما الفكر: فإنه التفكر في مخلوقات الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191] والتفكر في نعمه وآلائه تبارك وتعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13].
التفكر في الكون، وكيف خلق الله الإنسان، والتفكر في الآخرة، وفي الموت، وأن الإنسان سوف يموت، وسوف يلاقي ربه، وذكر الآخرة والحساب والصراط والميزان، تذكر عقوبة العاصين ونعيم المطيعين، كل هذا مما يقوي الإيمان ويثبته، ورأس ذلك كله تقوى الله سبحانه في السر والعلانية، والوقوف حيث أمر الله، فإذا قرأ الإنسان أية من كتاب الله، أو سمع حديثاً من كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه حرام فليزدجر وليرتدع، وإن كان فيه أمر فليمتثل وليعمل به، فهذه كلها مما يقوي الإيمان.
والوسائل التي تؤدي إلى ذلك كثيرة أيضاً: مثل حضور حلقات الذكر، ومثل الاستماع إلى أهل الخير والعلماء، ومثل قراءة الكتب النافعة المفيدة، فكل ذلك مما يقوي ويحقق تثبيت الإيمان، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه سميع مجيب.
نصيحة لرجال الأمن
السؤال: ما هي نصيحتكم لرجال الأمن؟
الجواب: الإخوة رجال الأمن جزء منا، وجزء من مجتمعنا، فالإنسان قد يكون في سلك التعليم وأخوه أو أبوه في سلك الأمن، فنحن جزء واحد، وما ينصح به هذا ينصح به هذا، والنصيحة والوصية للجميع، وهي ما وصى به الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين : وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] هي تقوى الله في السر والعلانية.
وإن كان هناك مما يخص به رجال الأمن فإنما هو نتيجة اختصاصهم بأمر هم قائمون عليه لا يشركهم فيه غيرهم إلا على سبيل التعاون، أما هم فهم على سبيل الواجب، وإن كان واجباً على الجميع، وهو أن يتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً، وأن يكونوا يداً واحدة على أمر الله مع كل من يدعو إلى الله، ومع كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يحتسبوا هذا العمل عند الله، فإنهم يسهرون الليل ويجهدون ويتعبون أنفسهم، وهذا التعب والجهد لا يمكن أن يعوضه أي شيء من الدنيا، بل الدنيا من طبيعتها أن الإنسان إذا اطمأن إليها وأخذ منها أن يعتاد ذلك، فهو يشعر بقيمتها، حتى لو بذل للإنسان مقابل هذا الجهد والضنك والتعب أضعاف أضعاف ما يعطى غيره؛ فإنه سرعان ما يتعود ذلك ويصبح هذا أمراً عاديا في حياته، فالحافز المادي لا يكفي ولا يستمر أبداً لأن مفعوله مؤقت، لكن حافز الإيمان وحافز الاحتساب والعمل لوجه الله، وأن يحتسب الإنسان كل خطوة منه أنها في سبيل الله ومن أجل إخوانه المسلمين، فهذا حافز قوي، يجعل الإنسان يضحي ويستمر وهو لا يشعر بل يستلذ التعب ويستلذ السهر والألم لأنه من أجل الله ومن أجل إخوانه المسلمين وله الأجر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(2/57)
ثم إنه يجب على الإخوة جميعاً أن نتعلم من العلم قدر الاستطاعة، لأن الإنسان إذا علم أن هذا حرام وهذا حلال، فإنه يدعو ويأمر وينهى، ويعمل وفق منهاج بَيِّن ونور واضح، أما مع جهل بعض الأحكام أو كثير منها فإن الإنسان يفعل الخطأ وهو يظن أنه صواب، ويرتكب المحرم وهو يظن أنه يؤدي الواجب، فلذلك نحتاج أيضاً إلى العلم، والعلم موجود ولله الحمد فالحلقات موجودة، فمن لم يستطع فبالأشرطة المسجلة وغيرها من الأمور التي يسرها الله لطرق ووسائل طلب العلم، ونسأل الله أن يعينهم وأن يوفقهم لما يحب ويرضى، وأن يولي أمرنا خيارنا، إنه سميع مجيب.
كتب نافعة تتحدث عن الإيمان والسلوك
السؤال : أرجو منكم أن تدلوني على كتب نافعة عن الإيمان وأثره في السلوك؟
الجواب: الكتب لا تخرج عما قلنا من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كتبه السلف الصالح في هذا المجال، ومن ذلك مثلاً كتاب الجواب الكافي لابن القيم رحمه الله، وقد بين فيه أضرار المعاصي وأثارها في الفرد وفي الأمة، وعدَدَّ من أنواعها الشيء الكثير، وكتاب إغاثة اللهفان فقد ذكر القلوب وأقسامها وأحكام ذلك، وما يتعلق به، وأنواع الأضرار التي يأتي بها الشيطان إلى القلوب، وكتاب العبودية لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ، وهي رسالة على صغرها ولكنها نافعة عظيمة يعرف الإنسان بها لماذا خلق، وماذا ينبغي له، وماذا يجب عليه من حق العبودية لله تبارك وتعالى، وعموماً كل الكتب التي تعلم الإنسان العقيدة الصحيحة والعلم الصحيح وتقوي إيمانه بالله سبحانه مما ألفه السلف الصالح ، ومما في إمكان كل إنسان أن يستشير فيه من يعرفه من خاصة الإخوة الطيبين، ويقول أنا عندي كذا وأنا ينقصني كذا، ويدله على مراجع هي أقوى وأشمل مما قد يقال الآن فيما قد يكون عند الإنسان وغيره أولى منه أو لا يكون كذلك، لأن الحاجات تتفاوت، وكل إنسان دواؤه يختلف عن الآخر، وإن كانت الأدوية العامة في الجملة مشتركة.
علاقة حجاب المرأة بالأمن والإيمان
السؤال : هل حجاب المرأة من الأمن والإيمان؟
الجواب: نعم، وكيف لا يكون الحجاب وتمسك المرأة المؤمنة من الإيمان ومما يحقق الأمن، وهو من الخصال العظمى التي ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه، والإيمان بضع وسبعون شعبة، ومن أعظم هذه الشعب بل ومما يحقق كثيراً من شعب الإيمان الحجاب، وغض النظر من شعب الإيمان، وحفظ الفرج من شعب الإيمان، وحماية القلب من مرض الشهوة من شعب الإيمان، ومن ضرورات الإيمان.
وكل هذه تتحقق بأن تحتجب المرأة المسلمة وأن تغطي وجهها وجسمها، بل وأن تبقى كما قال الله عز وجل: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33].
وفي المقابل فإن أعظم فتنة كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء } فأعظم فتنة في هذه الأمة بعد الدجال هي فتنة النساء، وإذا كان التبرج وسفور المرأة وكشفها عن وجهها أو عن شيء آخر من جسمها، فإنه يعقب ذلك النظر، والنظر المحرم قد يتلوه ارتكاب الفاحشة، وارتكاب الفاحشة مؤذن بعقوبة الله وبغضب الله وبتعكير الأمن، فلن يقر أمن مجتمع أبداً إلا بأن تحتجب المرأة وأن تقر في بيتها كما أمر ربها تبارك وتعالى، فالعلاقة إذاً من أوضح ما يمكن بين أن تحتجب المرأة وتظل في بيتها تربي أولادها على الإيمان بالله، وبين أن تترك البيت وتخرج إلى المجتمع.
وفي كل دول العالم تجرى الإحصائيات وتدرس نتائجها، ويتبين أن المجرمين المحترفين الذين يعكرون الأمن، أو الغالبية منهم لم تربهم أمهاتهم، وإنما ربوا في الملاجئ أو في المحاضن أو على أيدي الخادمات والمربيات، فنشئوا في حقد على المجتمع، فينتقمون من هذا المجتمع بتعكير أمنه، لأن من لم يذق طمأنينة وسكينة الأم، وتربيتها، وعنايتها وهو صغير، كيف نريد منه يذيق المجتمع هذه الطمأنينة بعد أن أصبح فتاً يافعاً قوياً.
فإذا كانت هذه الدول التي لا تؤمن بالله، ولا ترجو الله ولا اليوم الآخر، بدأت تطالب أن تعود المرأة إلى البيت، وأن تشرف على تربية الأبناء، وأن تكون أماً ولا تكون شيئاً غير ذلك، فكيف بالمجتمع الذي يؤمن بالله ورسوله ويرجو الله والدار الآخرة، والذي هو حريص على أن يزيد أمنه دائماً وأبداً.
فالعلاقة من أوضح ما يكون بين هذا وذاك، بل بين جميع شعب الإيمان لأنها جميعاً شعب للإيمان، والإخلال بأي شعبة مخل للأخرى بلا شك، والمعاصي هي بريد الكفر، وليس هناك مجتمع يتبرج إلا وينحل، ويكون ذلك بريداً لانتشار الرذائل والمخدرات، والأفكار الهدامة، فأعداء الله حرصوا على أن يفسدوا المرأة المسلمة، ثم يدخلوا من خلالها إلى إفساد القلوب فيقضون على العقيدة والإيمان، وعلى الأخلاق والتماسك الاجتماعي، وكل شيء يقضون عليه إذا قضوا على المرأة المسلمة وأخرجوها إلى الشارع وإلى المجتمع وخلعت عنها الحجاب.(2/58)
والكلام في هذا يطول، ولكن لا بد أن نشير إلى ذلك، وأن نؤكد الإشارة إليه، فلعلنا ننتفع بما نسمع.
نصيحة إلى من لا يجد الطمأنينة
السؤال: إني لا أجد طمأنينة فما هو الطريق إلى الطمأنينة والإيمان؟
الجواب: الطريق تجدها في قوله تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:123-124] فهذا الأخ -ونحن كلنا مقصرون في طاعة الله بلا شك- نقول له: إن كنت تبالغ وتظن أنك تريد أن تكون بدرجة الصديقين والمقربين -لأن بعض الشباب يبالغ ويريد الطمأنينة العليا الكاملة التي لا تتحقق لكل إنسان، ولا تتحقق إلا بطول المجاهدة- فننصحك بأن لا تبالغ في ذلك وأن تجاهد ويجاهد نفسه حتى يصل إلى الطمأنينة الكاملة.
وأما إن كنت لا تجد الحد المعروف من الطمأنينة فإن في ذلك دليلاً على أن لديك ضعفاً وخللاً في الإيمان، وكلنا لدينا ذلك الضعف - نسأل الله أن يقوي إيماننا- فعليك أن تصلح نفسك، وأن تنظر إلى باطنك، وإلى مالك أهو من حلال أم من حرام؟ لأن الجسد الذي يغذى بالحرام النار أولى به، وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟ }.
فإذا كان الإنسان يأكل من الحرام، إما من الربا في البنوك، وإما أنه لا يقوم بواجبه الوظيفي، أو أي مال من أموال الحرام، فإنه مهما صلى واجتهد ودعا وتعبد يظل دعائه مردوداً عليه -والعياذ بالله- ويظل هذا الجسد كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { أيما جسم نبت من حرام فالنار أولى به }.
فعليك أن تنظر إلى مصدر رزقك، إلى قلبك فلعل فيه مرض من شبهة أو شهوة أو ما أشبه ذلك، وإذا قال الإنسان: كيف أعرف هذا، فهنا نعلم ضرورة الأخ الرفيق، والإنسان الصادق المؤمن، لأن المرء يحشر مع من أحب، فانظر إلى أحسن الأصدقاء الذين يبينون لك عيوبك ويبصرونك بعيبك، فإذا وفقت وسددت بينوا لك ذلك وأعانوك فتحمد الله، وإذا أخطأت أو قصرت بينوا لك ذلك ونصحوك فتتوب وتعود إلى الله سبحانه، فاختر الرفيق الصالح، واحضر حلقات الذكر، واذهب إلى العلماء وجالسهم واستمع إلى كلامهم، واقرأ كتاب الله، وادع الله أن يرزقك الطمأنينة والإيمان، وهذا ما نرجوه لنا جميعاً، إنه على كل شيء قدير.
حكم من يتستر على المجرمين
السؤال: ما خطورة التستر على المجرمين وعلى المنحرفين الذين لهم شر عظيم على الإسلام والمسلمين؟
الجواب: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لعن الله من آوى محدثاً } وهذا الحديث ذُكر بعدة روايات في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة، والإحداث أول ما ينطبق على الإحداث في الدين أي: المبتدعين، ثم كل من أحدث أمراً يضر بالمسلمين، ويهدد أمنهم واستقرارهم فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن من آوى هؤلاء ومن شابههم في معنى الإحداث، ومن إيواء المحدثين التستر عليهم، وتغطية آثار الجريمة، وكأن شيئاً من ذلك لم يكن، وقد ذكرنا القصة التي وقعت في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي المرأة المخزومية التي سرقت، وكيف أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل ذلك سبباً في هلاك الأمم فقال : {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ }.
فالتستر على الإنسان إن كان مقابل رشوة فإن هذه جريمة أخرى؛ لأن الرشوة شأنها عظيم وهي من الكبائر وتعلمون جميعاً ما ورد فيها.
وإن كان لأجل شيء آخر من مصلحة من مصالح الدنيا فإنها جميعاً تدخل في باب الرشوة.
وإن كان لضعف الإيمان، ولضعف النفس عن احتمال التبعة التي تكون من فضح هذا المجرم أو إيصاله، كما هي عليه الأمور الشرعية وحسب الإجراءات المتبعة في مثل هذه الحالة، فإن كان ذلك نتيجة ضعف الإيمان بالكسل والتراخي، وملاحقة من يجب عليك أن تلاحقه، فلتتق الله يا أخي ولتعلم أنك إنما وجِدت، وجعلت على هذه الثغرة وتأخذ هذا الراتب من أجل أن تؤدي واجبها، فالله الله أن يؤتى الإسلام من ثغرتك وأن يؤتى الإسلام من قبلك.
وتذكر أيضاً ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مثال، وهو أن المجتمع كالسفينة، وأن هذا المجرم إن خرق أي جزء من السفينة فإنها تغرق جميعها، وأنه إذا اعتدى على عرض، فإن هذا العرض يكون لأخيك المسلم أيضاً وقد يعتدي على عرضك أنت في يوم من الأيام، وهذا الفعل منك منافٍ للإيمان كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } فإذا كنت تحب لإخوانك المسلمين مثلما تحب لنفسك فاحرص على أمنهم، وذلك يكون بأن تحرص على متابعة وملاحقة كل مجرم بمقتضى ما يجب عليك من العمل الذي أمر الله به، ووفق المعروف والمتبع في مثل هذه الجريمة.(2/59)
وقد يقول بعض الإخوان: هل يدخل هذا العمل في قضية التجسس؟ أقول: هذا شيء آخر، يعني فنحن -مثلاً- الأفراد الآخرين الذين ليس من مهمتنا أن نتتبع بعض المجرمين، أو أن نتتبع بعض القضايا فنحن يجب علينا وجوباً عينياً أن ننكر المنكر الظاهر بقدر الاستطاعة، وكل من رأى منكراً ينكره إما باليد وإما باللسان وإما بالقلب، لكن من كان عمله وشأنه أن يتتبع الخمور أو المخدرات أو بيوت الدعارة أو غير ذلك، فهذا يجب عليه أن يتتبعها، ويجب عليه أن يتعاون هو مع من يعينه على تتبعها؛ لأن هذا شأنه، وهذا واجبه، وبلا شك أن المسئولية على الجميع، وأن الواجب مشترك على الجميع، وأنه لا بد من التعاون، وهذا ما أمر الله تعالى به وما يجب علينا جميعاً، ولكن العبء الأكبر إنما هو على المسئول الأصلي، وهو رجل الأمن أو رجل الهيئة أو ما أشبه ذلك.
=================0000
الرجاء والخوف
الرجاء
لم أخطط للحديث عن الرجاء عندما كتبت عن الخوف ، إلا أنني وجدت بعد الانتهاء من الكتابة أن الحديث عن الخوف لا يستكمل بنوده إذا لم يبحث موضوع الرجاء ، وذلك خشية الوقوع في التعسير الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ) ، رواه البخاري .
كما أن الخوف من الله عز وجل ورجاء ورحمته أمران متلازمان في عدة نواح منها :
1- اسم الرجاء غالباً ما يرد مقروناً بالخوف أو بأحد معانيه ، وهذا القِران ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربك كان محذوراً } الإسراء ، 57.
كما ورد أيضاً في السنة الشريفة ، حيث ذُكر أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في سياق الموت ، ( فقال : " كيف تجدك ؟ " فقال : أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يجتمعان في قلب عبد ، في مثل هذا الموطن ، إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف " ) رواه ابن ماجه .
2- اسم الرجاء قد يطلق في بعض الأحيان ويُراد به الخوف كما ورد في قوله تعالى : {ما لكم لا ترجون لله وقاراً } نوح ، 13. أي لا تخافون لله عظمة .
ولهذا لم يفرق الحارث المحاسبي في تعريفه للرجاء بينه وبين الخوف فكان مما قال : الرجاء هو " أن ترجو قبول الأعمال ، وجزيل الثواب عليها ، وتخاف مع ذلك أن يرد عليك عملك ، أو يكون قد دخلته آفة أفسدته عليه " .
معنى الرجاء ودلائله
جاء في معنى الرجاء أنه : " حسن الظن بالله تعالى في قبول طاعة وُفِّقت لها أو مغفرة سيئة تُبت منها " .
ومن هذا التعريف يمكن الاستنتاج أن رجاء رحمة الله لا يكون مع ترك الطاعات وعدم الالتزام بالنواهي ، فإن هذا يسمى اغتراراً والله تعالى يقول :{ يا أيها الناس }، فاطر } إن وعد الله حق فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور 5.
كما أن الله سبحانه وتعالى سمى من يقوم بهذا الفعل بالخَلف ، والخَلف اسمٌ يطلق على الرديء من الناس ، قال تعالى :{ فخلف من بعدهم خَلفٌ ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا يعقلون } ، الأعراف ، 169.
أما دلائل وجوب رجاء رحمة الله عز وجل فقد وردت في القرآن والسُّنة وأحاديث الصحابة والصالحين ، قال تعالى :{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } ، الزمر ، 53 .
وقد ذم الله عز وجل اليأس والقنوط من رحمته فقال تعالى :{ إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون }، يوسف 87.
وقد جاء في أخبار النبي يعقوب عليه السلام " أن الله تعالى أوحى إليه : أتدري لم فرقت بينك وبين يوسف عليه السلام هذه المدة ؟ قال : لا ، قال لقولك لاخوته : { أخاف أن يأكله الذئب وأنتم غافلون } لم خِفت الذئب عليه ولم ترجني له ، ولم نظرت إلى غفلة اخوته ولم تنظر إلى حفظي له ؟ ومِن سِبْقِ عنايتي بك أني جعلت نفسي عندك أرحم الراحمين فرجوتني ، ولولا ذلك لكنت أجعل نفسي عندك أبخل الباخلين " .
أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءت لتؤكد على سعة رحمة الله عز وجل، فقال عليه الصلاة والسلام : ( لما خلق الله الخلق كتب ، وهو يكتب على نفسه وهو وضعٌ عنده على العرش إن رحمتي تغلب غضبي ) ، رواه البخاري .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( جعل الله الرحمة في مائة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً ، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق ، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ) ، رواه البخاري .(2/60)
أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد كان لاستيعابهم القوي لمعاني صفات الله عز وجل- والتي منها صفة الرحمة- أثره في أقوالهم وأفعالهم ، فها هو التابعي الجليل أبو سفيان الثوري يفضّل رحمة الله عز وجل على رحمة أبويه فقال : " ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبويّ ، لأني أعلم أن الله تبارك وتعالى أرحم بي منهما " .
وها هو الفضيل بن عياض ينظر في يوم عرفة إلى المؤمنين وهم واقفون يبكون ويتضرعون ، "فقال لرجل إلى جانبه : أرأيت أن هؤلاء كلهم واقفون على باب رجل من الأغنياء يطلبون دانقاً (الدانق : سدس الدرهم ) أكان يردّهم ؟ فقال : لا ، قال : فإن المغفرة عند الله تعالى أهون من دانق عند أحدكم" .
نتائج الرجاء ودواؤه
إن نتائج الرجاء لا تختلف عن نتائج الخوف ، إذ أنهما يؤديان إلى العمل والسعي لمرضات الله بالعبادات والطاعات وفعل الخيرات ، قال تعالى في وصف أفعال الراجين :{ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } البقرة ، 218. } والله غفور رحيم
وقال أيضاً :{ أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب } ، الزمر ، 9 .
ولهذا كما اتفقت نتائج الرجاء والخوف اتفق الدواء بينهما ، بمعنى آخر أن العلماء عالجوا هذين النوعين علاجاً مترابطاً فداووا الخوف بالرجاء وداووا الرجاء بالخوف ، قال لقمان لابنه : "يا بني خف الله تعالى خوفاً لا تيأس فيه من رحمته وارجه رجاءً لا تأمن فيه مكره ، ثم فسره مجملاً فقال : المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر " .
ويكون الخوف كدواء وعلاج أفضل في حالة الشخص الذي يأمن مكر الله عز وجل ، فالله سبحانه وتعالى يقول : { أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون }، الأعراف ، 99 .
ويكون الرجاء كدواء أفضل عند من غلب على قلبه اليأس والقنوط من رحمة الله قال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم " ، الزمر ، 53.
إلا أن أفضل لحظات الرجاء هي لحظة احتضار الموت ، حيث يواسى المحتضر بالآيات والأحاديث التي تدل على سعة رحمة الله عز جل ، ومن هذه الأحاديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النار : ( لا يدخل الجنة رجل في قلبه مثقال حبة من خردل من كِبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان ) ، رواه أبو داود .
اللهم اجعلنا ممن يرجون رحمتك ويخافون عذابك ، اللهم آمين .
د. نهى قاطرجي
=================
الرجاء والخوف
والرجاء والخوف من المقامات الشريفة وقد وصف الله به أنبياءه والمرسلين وأتباعهم بإحسان إليهم من صالحي المؤمنين قال الله تعالى : (( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا )) .. وقال تعلى (( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين )) . وقال تعالى : (( إن الذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( يقول الله تعالى : (( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني .. )) الحديث .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( يقول الله تعالى : ياابن آدم ، غنك مادعوتني ورجتوني غفرت لك على ماكان منك ولا أبالي ، ابن آدم لو بغلت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( قال الله تعالى : وعزتي لا أجمع لعبدي خوفين ولا أمنين ، فإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة وإن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة )) .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( راس الحكمة مخافة الله )) .
ودخل صلى الله عليه وسلم على شاب يعوده وهو في الموت فقال له : (( كيف تجدك ؟ فقال أخاف ذنوبي وأرجوا رحمة ربي . فقال عليه الصلاة والسلام : ماجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه اله مايرجوا وأمنه مما يخاف )) . واعلم أن الخوف زاجر ، يزجر الإنسان عن المعاصي والمخالفات والرجاء قائد يقود العبد إلى الطاعات والموافقات فمن لم يجره خوفه عن معصية الله عز وجل ، ولم يقده رجاؤه إلى طاعة الله تعالى ، كان خوفه ورجاؤه حديث نفس لا يعتد بهما ولا يعول عليهما لخلوهما ن ثمرتهما المقصودة وفائدتهما المطلوبة . )) ثم الأفضل للمؤمن أن يكون بين الخوف والرجاء ، حتى يكونا كجناحي الطائر وكفتي الميزان قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا )) .
=================
محبة الله بين الخوف والرجاء
عبد العزيز قاري
المدينة المنورة
قباء
الخطبة الأولى(2/61)
أما بعد: فإن المؤمن الموحد المحسن حبه لله تعالى مقرون بالإجلال والتعظيم إنه حب المملوك لمالكه حب العبد لسيده حب المخلوق المقهور الضعيف لله الواحد القهار. ولذلك فإن المحبين الصادقين هم في هذا المقام في مقام المحبة هم في مقام موزون بين الرجاء والخوف.
فرجاؤهم معلق برحمة الله تعالى ولا يخافون إلا الله هم أشد الناس خوفًا من الله تعالى، وقد جمع الله تعالى أركان هذا المقام الإيماني الإحساني الرفيع في قوله سبحانه: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه [الإسراء:57]. وهم يتقربون إلى الله تعالى بحبه وبفعل ما يحبه ويرجون رحمته ومع ذلك يخافون عذابه.
فبين سبحانه في هذه الآية أن الملائكة والأنبياء وعباد الله الصالحين يتقربون إلى الله تعالى بحبه ويرجون رحمته ويخافون عذابه فهم في مقام حبهم لله في مقام موزون بين الرجاء والخوف. وذلك لكمال عبوديتهم لله تعالى وإجلالهم وتعظيمهم إياه.
لكن المحبة إذا خلت من الإجلال والتعظيم تحولت إلى نوع لا يليق بهذا المقام فيقع المحب إذًا في التدلل وفي سوء الأدب مع محبوبه.
قال أحد العباد الجاهلين الذين جهلوا هذا المقام قال هذه القولة الشنيعة: ما عبدتُ الله طمعًا في جنّته ولا خوفاً من عذابه إنما عبدته حباً في ذاته.
هذا جهل بهذا المقام وسوء أدب مع المحبوب، وزاد في سوء الأدب مع الله فقال:- وليس لي في سواك حظ فكيف ما شئت تمتحني؟
يا لجرأة هذا العبد المسكين، يا لجرأته وجهله بهذا المقام جرأته وسوء أدبه مع مقام المحبوب، إنه جبار السماوات والأرض، الله الواحد القهار لا يتدلل أحد من عبيده، عليه الأدب في محبته معه. كيف يتدلل العبد المقهور المملوك على الواحد القهار، ومع هذا ذلك العبد المسكين يقول: يا رب، إن حبي كله لك ليس لغيرك منه نصيب، فامتحن حبي إن شئت امتحنه كما تريد فإني لا أخاف ذلك، وامتحنه ربه ابتلاه سبحانه وتعالى، ذُكِرَ أن هذا العبد المسكين امتُحن بأن حبس الله بوله فأصيب بعسر البول، فكان كلما اشتدت عليه هذه المصيبة يطوف على الصبيان الصغار في الكتاتيب يقول لهم: ادعوا لعمكم الكذاب.
وقد ذكر فيما مضى قصة نبي الله وعبده الصالح يونس عليه السلام، مع الفرق بين الرجلين والفرق بين الهفوتين، ذلك نبي كريم عالم بربه لكن هفوته قد تبدو لنا قليلة دقيقة عاقبه بها ربه وابتلاه ذلك البلاء.
لما أذن يونس عليه السلام متكلاً على محبة ربه ومقامه عند ربه. إذن لما ذهب مغاضبًا. انظر كيف ابتلاه الله تعالى وهو نبي كريم وعبد صالح وعابد صادق ابتلاه بأن حبسه في بطن الحوت.
لا يتدلل أحد من العبيد على الله الواحد القهار.
الصحابة الكرام وهم أكرم هذه الأمة بعد نبيها وهم من هم في مقام إيمانهم وعلمهم وعملهم مع ذلك رباهم الله تعالى قال تعالى: ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون [آل عمران:143].
لذلك كان سيدنا رسول الله يعلم أصحابه الكرام ألا يغتروا بأنفسهم لا يغتروا بمقامهم لا يغتروا بقوة إيمانهم، لا يغتروا بحسن عملهم فيتمنوا لقاء العدو قال لأصحابه الكرام: ((لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية وإذا لقيتموهم فاثبتوا))[1].
فلا يغتر العبد بهذا المقام، العبد المحب لله تعالى إذا أصابه الغرور وذهب الخوف من قلبه حُرم من هذا المقام، هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أعظم المحبين لله تعالى، ومع ذلك كانوا في مقام حبهم في مقام موزون بين الرجاء والخوف يرجون رحمة الله ويخافون أشد الخوف من عذابه.
في الصحيح[2] أن النبي قال: ((أما إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) وكان إذا قام يصلي لربه يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل[3] من شدة البكاء بين يدي ربه وخوفًا من ربه سبحانه وتعالى، هذا مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولكنه لعلمه بربه وبعظيم قدره وسلطانه وعظيم عقابه وشديد عذابه، كان أشد الناس خوفًا منه سبحانه وتعالى.
وكلما كان العبد أعلم بالله كان أخوف له. قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر: 28].
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :وكفى بخشية الله علمًا.
المؤمنون الموحدون المحسنون العالمون بربهم عز وجل يخافون الله أشد الخوف لأنهم سمعوه يأمرهم بذلك قال تعالى في كتابه: وخافوني إن كنتم مؤمنين [آل عمران:175].
وقال سبحانه: فلا تخشوا الناس واخشون [المائدة:44].
ويخافون ربهم عز وجل لما يعلمون من أنه سبحانه وتعالى يقلب القلوب.
هؤلاء المؤمنون الموحدون المحسنون المستقيمون في أعمالهم على طريق المحبة والاستقامة ومع ذلك يخافون ربهم أشد الخوف، لما يعلمون من أنه يقلب القلوب فالقلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء.
قال سبحانه: واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه [الأنفال:24].
فمن ذا الذي لا يخاف على قلبه من تقلب الحال وعلى نفسه من انحياد المآل.(2/62)
لذلك كان وهو أكرم الخلق على الله كان يُكثر في يمينه أن يقول: ((ولا مقلب القلوب))[4] وكان يقول في دعائه : ((اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))[5].
ويخافون ربهم عز وجل أشد الخوف لما يعلمون أيضًا من أن عملهم قليل، يخافون منه أشد الخوف فرقًا من أنه لا يقبل عملهم الصالح. فهم مشفقون من ذلك أشد الإشفاق وقلوبهم وجلة قال تعالى: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [المؤمنون:60].
فالمؤمن الحق الصادق الموحد المحسن يخاف ألا يُقبل عمله، لا يغتر بعمله إنه يعلم أنه لن ينجو بعمله إنما ينجو برحمة الله تعالى ومنه وكرمه وعفوه.
وإن كان سبحانه وتعالى قد جعل العمل سببًا للنجاة ولكن العمل ليس مقابلاً للنجاة فلو كان الأمر على سبيل المقابلة ما استحق عبد أن ينجو بعمله مهما كان مقامه.
قال : ((لن ينجي أحدًا منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال :ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته))[6].
فالمؤمن لا يغتر بعمله أيضًا لأنه يعلم أن النجاة معلقة برحمة الله تعالى ومنّه وكرمه.
المؤمنون الموحدون المحسنون يخافون ربهم أشد الخوف، ولا يزالون في خوف من الله تعالى مازالوا في هذه الدنيا، لا يذهب الخوف من قلوبهم حتى يستقروا في جنته هذا إذا أكرمهم الله عز وجل فأدخلهم في مستقر رحمته وأسكنهم جنته، حين ذلك فقط يذهب الخوف من قلوبهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أما ما داموا في هذه الدنيا في هذه الحياة فهم في خوف دائم على أنفسهم لأنهم يعرفون قدر أنفسهم.
هذا حال المستقيمين منهم الذين أعرضوا عن المعاصي فما بالك بالمذنبين الذين يعلمون جناية أنفسهم وتفريطهم في جنب الله تعالى، ما أحراهم أن يكونوا أشد خوفًا لله سبحانه وتعالى، هذا إذا كانوا يعرفون ربهم فإنهم حينئذ يعلمون أن ربهم سبحانه وتعالى ما أغير منه، [7]إنه يغار أن تُنتهك محارمه.
وأخوف ما يخاف الموحدون المذنبون من أن يُحرموا من التوبة فذلك من أعظم العقوبات أن يجد العبد المذنب باب التوبة موصدًا أمامه فلا يوفق إلى التوبة أبدًا والعياذ بالله. هذا من أعظم العقوبات وهو من أخوف ما يخاف المؤمن الموحد المذنب على نفسه، فالمؤمن الموحد هو في خوف من الله تعالى شديد ورجاء في رحمته كبير ولذلك فإن لإيمانه بالله تعالى مقاماً موزوناً، ولمحبته لله تعالى مقاماً موزوناً بين هذين المقامين.
أما ذلك العابد الجاهل المسكين الذي لا يطمع في جنة ربه ولا يخاف من عذابه فقد أخطأ هذا المقام وحُرم من هذا المقام، أخطأ في دعواه المحبة فإن المحب الصادق الذي يعرف ربه فهو في خوف ولا يأمن على نفسه أبدًا حتى يستقر في جنة ربه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين [الأعراف:56].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
000000000000
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في الجهاد باب لا تمنّوا لقاء العدو (3/1101) رقم (3024،3026).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في النكاح باب الترغيب في النكاح (5/1949).
[3] أخرجه أحمد (4/25و26) والترمذي في الشمائل (323) وأبو داود (904) والنسائي (3/13)وغيرهم.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه في القدر باب يحول بين المرء وقلبه (6/2440).
[5] مسند أحمد (3/112، 257) سنن الترمذي (2140،3522).
[6] أخرجه البخاري في صحيحه في الرقاق باب القصد والمداومة على العمل (5/2373).
[7] أخرجه البخاري في صحيحه في التفسير (4/1696).
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ))[1].(2/63)
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
000000000000
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
=================000
أثر الأسماء والصفات في الإيمان
الحمد لله الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وسلم الذي عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وعبده بها حق العبادة ، وبعد: ففي هذه العجالة ستناول عقيدة أهل السنة في باب الصفات وآثار الإيمان بالأسماء والصفات .
الفرق بين الاسم والصفة
يتميز الاسم عن الصفة بأمور منها :
أولاً : أن الأسماء يشتق منها صفات ، أما الصفات ؛ فلا يشتق منها أسماء ، فنشتق من أسماء الرحيم والقادر والعظيم ، صفات الرحمة والقدرة والعظمة ، لكن لا نشتق من صفات الإرادة والمجيء والمكر اسم المريد والجائي والماكر.
ثانياً: أن الاسم لا يُشتق من أفعال الله؛ فلا نشتق من كونه يحب ويكره ويغضب اسم المحب والكاره والغاضب، أما صفاته؛ فتشتق من أفعاله فنثبت له صفة المحبة والكره والغضب ونحوها من تلك الأفعال.
ثالثاً: الأسماء يجوز أن يتعبد الله بها فنقول: عبد الكريم، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، لكن لا يُتعبد بصفاته؛ فلا نقول: عبد الكرم، وعبد الرحمة، وعبد العزة.
رابعا: الأسماء يدعى الله بها بخلاف الصفات فنقول : يا رحيم ! ارحمنا ، ويا كريم! أكرمنا ، ويا لطيف! الطف بنا ، لكن لا ندعو صفاته فنقول : يا رحمة الله! ارحمينا، أو: يا كرم الله ! أو: يا لطف الله ! ذلك أن الصفة ليست هي الموصوف؛ فالرحمة ليست هي الله، بل هي صفةٌ لله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [إنَّ مسألة الله بأسمائه وصفاته وكلماتِه جائز مشروع كما جاءت به الأحاديث، وأمَّا دعاء صفاته وكلماته فكفر باتِّفاق المسلمين؛ فهل يقول مسلم: يا كلام الله! اغفر لي وارحمني وأغثني أو أعني، أو: يا علم الله، أو: يا قدرة الله، أو: يا عزَّة الله، أو: يا عظمة الله ونحو ذلك؟! أو سمع من مسلم أو كافر أنَّه دعا ذلك من صفات الله وصفات غيره، أو يطلب من الصِّفة جلب منفعة أو دفع مضرَّة أو إعانةً أو نصراً أو إغاثةً أو غير ذلك؟!] .
خامسًا: أن أسماء الله عَزَّ وجَلَّ وصفاته تشترك في الاستعاذة بها والحلف بها كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ] [رواه مسلم]، لكن تختلف في التعبد والدعاء.
إن لأسماء الله الحسنى وصفاته العلى ثمارا مستطابة على قلب العبد المؤمن ،وهذا القلب كلما انطرح في ببيداء المطالعة والتبصر والاعتبار وتعرض لشمس التوحيد التي أشرقت عليه توالت عليه بشائر المعرفة فانصبغ القلب بصبغتها وعُمِرَ باطنه وظاهره بالعبودية وسلم من أدواء الشبهات وأمراض الشبهات ،فغشيته السكينة ونزلت عليه الطمأنية ورزق بإذن بارئه وفاطره الثبات حتى الممات .
التعبد بالأسماء والصفات:
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : وهذا فصل عظيم النفع والحاجة , بل الضرورة ماسة إلى معرفته والعناية معرفة واتصافا وذلك : أن الإيمان هو كمال العبد , وبه ترتفع درجاته في الدنيا والآخرة.
والإيمان أعظم المطالب وأهمها وأعمها: وقد جعل الله له مواد كبيرة تجليه وتقويه, كما كان له أسباب تضعفه وتوهيه...وأعظمها: معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة, والحرص على فهم معانيها, والتعبد لله بها. فقد ثبت في الصحيحين عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أنه قال : [إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ] رواه البخاري ومسلم .
أي : من حفظها وفهم معانيها, واعتقدها, وتعبد لله بها دخل الجنة . والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون. فعلم: أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته.
ومعرفة الأسماء الحسنى هي أصل الإيمان, والإيمان يرجع إليها. ومعرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية , وتوحيد الإلهية , وتوحيد الأسماء والصفات . وهذه الأنواع هي روح الإيمان وروحه , وأصله وغايته . فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته, ازداد إيمانه, وقوي يقينه. فينبغي للمؤمن : أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات.
معنى إحصائها:
قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله : [الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد ، وإنما هو العمل والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها ].(2/64)
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله : [فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات ].
مراتب التعبد بالأسماء والصفات:
تنقسم هذه العبادة إلى مراتب ،وهي راجعة إلى يقين القلب وخضوعه وذله لله جل جلاله ،وتفاوت الناس في هذه العبادة بحسب تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها والعلم بفساد الشُبَه المخالفة لحقائقها.
قال العز ابن عبد السلام رحمه الله : [وقد يحصل التحديق إلى هذه الصفات من غير تذكر ولا استحضار ،والعارفون متفاوتون في كثرة ذلك وقلته وانقطاعه ومداومته ،فهم في رياض المعرفة يتقلبون ،ومن نضارة ثمارها يتعجبون ،ولا تستمر الأحوال لأحد منهم على الدوام والاتصال لتقلب القلوب وتنقل الأحوال ، والغفلات حجب على العارف مسدلات ،إن أسدلت على جميعها نكص العارف إلى طبع البشر ،فربما وقعت منه الهفوات والزلات فإذا انكشف الحجاب عن بعض الصفات ظهرت آثار تلك الصفة وأينعت أثمارها].
وأكمل الناس في هذا الباب من تعبد الله بجميع أسمائه وصفاته ونال قصب السبق في عبودية الله بها ،وهذه منزلة تحقيق العبودية بالأسماء والصفات ، قال ابن القيم رحمه الله : [وأكمل الناس عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر كمن يحجبه التعبد باسمه القدير عن التعبد باسمه الحليم الرحيم أو يحجبه عبودية اسمه المعطي عن عبودية اسمه المانع أو عبودية اسمه الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء ونحو ذلك وهذه طريقة الكمل من السائرين إلى الله وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن قال الله تعالى: [وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[180]][الأعراف]].
ثمرات الإيمان بالأسماء والصفات:
1ـ أن العبد يسعى إلى الاتصاف والتحلِّي بها على ما يليق به، فالله كريم يحب الكرماء ، رحيم يحب الرحماء ، رفيق يحب الرفق، فإذا علم العبد ذلك ؛ سعى إلى التحلي بصفات الكرم والرحمة والرفق، وهكذا في سائر الصفات التي يحب الله تعالى أن يتحلَّى بها العبد على ما يليق بالعبد.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: [وأحب الخلق إلى الله من اتصف بمقتضيات صفاته فانه كريم يحب الكريم من عباده وعالم يحب العلماء وقادر يحب الشجعان وجميل يحب الجمال...،وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء وإنما يرحم من عباده الرحماء وهو ستير يحب من يستر على عباده وعفو يحب من يعفوا عنهم من عباده وغفور يحب من يغفر لهم من عباده ولطيف يحب من اللطيف من عباده ويبغض الفظ الغليظ القاسي الجعظري الجواظ ورفيق يحب الرفق وحليم يحب الحلم...ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة, فالله تعالى لعبده على ما حسب ما يكون العبد لخلقه ...،فكما تدين تدان وكن كيف شئت فان الله تعالى لك كما تكون أنت لعباده] .
2ـ تورث تعظيمه تعالى :قال الشيخ السعدي رحمه الله : وهو تعالى موصوف بكل صفة كمال , وله من ذلك الكمال الذي وصف به أكمله وأعظمه وأجله , فله العلم المحيط , والقدرة النافذة , والكبرياء والعظمة , حتى أن من عظمته أن السموات والأرض في كف الرحمن كالخردلة في يد المخلوق , ...وهو تعالى ... يستحق على العباد أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم, وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته, والذل له والخوف منه, وإعمال اللسان بالثناء عليه, وقيام الجوارح بشكره وعبوديته. ومن تعظيمه أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى, ويشكر فلا يكفر, ومن تعظيمه وإجلاله أن لا يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه, بل يخضع لحكمته, وينقاد لحكمه.
وتعظيم الله تعالى يورث العبد الذل والافتقار بين يديه سبحانه وتعالى ،[ويحكى عن بعض العارفين أنه قال : دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه.]
3- تورث العبد محبة الله جل جلاله: من تأمل أسماء الله وصفاته وتعلق بها طرحه ذلك على باب المحبة ،وفتح له من المعارف والعلوم أمورا لا يعبر عنها ،وإن من عرف الله أورثه ذلك محبة له سبحانه وتعالى.
وهذه المحبة عاطفة شرعية إيمانية وعبادة قلبية وهي محبة إجلال وتعظيم ،ومحبة طاعة وانقياد يبرهن بها العبد على صدق عبوديته لمولاه تعالى . فالمحبة هي ثمرة معرفة أسماء الله وصفاته واعتقاد جماله وكماله وجلاله ،والاعتراف بإحسانه وإنعامه .(2/65)
4- تورث اليقين والطمأنينة: إن قلب العبد لا يزال يهيم على وجهه في أودية القلق وتعصف به رياح الاضطراب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفته يشاشة قلبه ،فحينئذ يبتهج قلبه ويأنس بقربه من معبوده جل جلاله ويحيى حياة طيبة ويصبح فارغا إلا من ذكر الله تعالى وذكر أسمائه وصفاته ويأتيه من روح اللذة والنعيم السرور وريحان الأمان والطمأنينة والحبور ما يعجز عن ذكره التعبير ويقصر عن بيانه التقرير .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: [وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كما له إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول والتسليم والإذعان وانشراح الصدر له وفرح القلب به فإنه معرفة من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله فلا يزل القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه فينزل ذلك عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش فيطمئن إليه ويسكن إليه ويفرح به ويلين له قلبه ومفاصله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة لعينه فلو خالفه في ذلك من بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم وقال إذا استوحش من الغربة: قد كان الصديق الأكبر مطمئنا بالإيمان وحده وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينة شيئا, فهذا أول درجات الطمأنينة ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه وهذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي قام عليه بناؤه.
ومن عبد الله بأسمائه وصفاته وتحقق معرفة خالقه جلا وعلا،وعظمه حق التعظيم فإنه ولا شك يصل إلى درجة اليقين ،قال الحبر ابن القيم رحمه الله : [فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق علم الأمر والنهي وعلم الأسماء والصفات والتوحيد وعلم المعاد واليوم الآخر والله أعلم] .
5- تورث زيادة الإيمان: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : [من عرف أسماء الله ومعانيها فآمن بها كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء بل آمن بها إيمانا مجملا] فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته , ازداد إيمانه , وقوي يقينه . فينبغي للمؤمن : أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات.
6- تورث زيادة في الطاعات البدنية : لما كان القلب للجوارح [كالملك المتصرف في الجنود الذي تصدر كلها عن أمره ويستعملها فيما يشاء فكلها تحت عبوديته وقهره وتكسب منه الاستقامة والزيغ وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يلحه ] ؛ كانت لهذه الثمرات التي يجنيها القلب من توحيد الله بأسمائه وصفاته سريان إلى الجوارح ،ولا بدَّ ،فكلما [قوي سراج الإيمان في القلب وأضاءت جهاته كلها به وأشرق نوره في أرجائه سرى ذل النور إلى الأعضاء وانبعث إليها فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها].
7- تُطْلِعُ العبدَ على خسةِ الدنيا: فالدنيا زائلة خسيسة ومن تعلق بالأسماء الحسنى والصفات العلى تبين له حقيقة هذه الدنيا, قال ابن القيم: [فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها وقلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها وسرعة انقضائها ويرى أهلها وعشّاقها صرعى حولها قد بدّعت [خذلتهم] بهم وعذبتهم بأنواع العذاب وأذاقتهم أمر الشراب أضحكتهم قليلا وأبكتهم طويلا سقتهم كؤوس سمها بعد كؤوس خمرها فسكروا بحبها وماتوا بهجرها ،فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحل قلبه عنها وسافر في طلب الدار الآخرة وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الآخرة ودوامها وأنها هي الحيوان حقا فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها بل هي دار القرار ومحط الرحال ومنتهى السير وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ ] رواه مسلم.
وقال بعض التابعين: [ما الدنيا في الآخرة إلا أقل من ذرة واحدة في جبال الدنيا] ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها واضطرامها وبعد قعرها وشدة حرها وعظيم عذاب أهلها فيشاهدهم وقد سيقوا إليها سود الوجوه زرق العيون والسلاسل والأغلال في أعناقهم...فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات ولبس ثياب الخوف والحذر وأخصب قلبه من مطر أجفانه وهان عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه.(2/66)
8- معرفة الأسماء والصفات تجعل العبد يتنقل بين درجات الرجاء والخوف : فالخوف والرجاء جناحي الإيمان وبهما يصل العبد لمرضاة الرحمن،ويظهر أثر الإيمان بالأسماء الحسنى والصفات العلى في مواطن عدة منها:
* أن العبد إذا آمن بصفة [الحب والمحبة] لله تعالى وأنه سبحانه [رحيم ودود] استأنس لهذا الرب، وتقرَّب إليه بما يزيد حبه ووده له،وحبُّ الله للعبد مرتبطٌ بحبِ العبدِ لله ، وإذا غُرِست شجرةُ المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص،ومتابعة الحبيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أثمرت أنواعَ الثمار، وآتت أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذن ربها.
* ومنها : أنه إذا آمن العبد بصفات: [العلم ، والإحاطة ، والمعية] ؛ أورثه ذلك الخوف من الله عَزَّ وجَلَّ المطَّلع عليه الرقيب الشهيد، فإذا آمن بصفة [السمع]؛ علم أن الله يسمعه؛ فلا يقول إلا خيراً، فإذا آمن بصفات [البصر ، والرؤية ، والنظر ، والعين] ؛ علم أن الله يراه ؛ فلا يفعل إلا خيراً .
* ومن ثمرات الإيمان بصفات الله: أن لا ينازع العبدُ اللهَ في صفة [الحكم، والألوهية، والتشريع ، والتحليل ، والتحريم] ؛ فلا يحكم إلا بما أنزل الله, ولا يتحاكم إلا إلى ما أنزل الله . فلا يحرِّم ما أحلَّ الله، ولا يحل ما حرَّم الله.
* ومن ثمرات الإيمان بصفات الله عَزَّ وجَلَّ : تَنْزِيه الله وتقديسه عن النقائص، ووصفه بصفات الكمال ، فمن علم أن من صفاته [القُدُّوس، السُّبُّوح ]؛ نَزَّه الله من كلِّ عيبٍ ونقصٍ.
* ومنها أن الإيمان بصفة [الكلام] وأن القرآن كلام الله يجعل العبد يستشعر وهو يقرأ القرآن أنه يقرأ كلام الله ، فإذا قرأ: [يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ] [الانفطار:6]. أحسَّ أن الله يكلمه ويتحدث إليه، فيطير قلبه وجلاً ، وأنه إذا آمن بهذه الصفة ، وقرأ في الحديث الصحيح أن الله سيكلمه يوم القيامة ، ليس بينه وبينه ترجمان ؛ استحى أن يعصي الله في الدنيا ، وأعد لذلك الحساب والسؤال جواباً.
9- يورث العبد حسن الظن بالله: القلب الممتلئ بأسماء الله وصفاته علما ومعرفة يضع الرجاء بالله تعالى وحسن الظن في محله اللائق به، فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة وإما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتي إحسان الظن. فإن قيل: بل يتأتي ذلك ويكون مستند حسن الظن سعة مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده وأن رحمته سبقت غضبه وأنه لا تنفعه العقوبة ولا يضره العفو قيل: الأمر هكذا والله فوق ذلك وأجل وأكرم وأجود وأرحم ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به فإنه سبحانه موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش وعقوبة من يستحق العقوبة فلو كان معول حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البر والفاجر والمؤمن والكافر ووليه وعدوه فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه وتعرض للعنته وأوقع في محارمه وانتهك حرماته بل حسن الظن ينفع من تاب وندم وأقلع وبدل السيئة بالحسنة واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة ثم أحسن الظن فهذا حسن ظن والأول غرور والله المستعان.
في بستان الأسماء والصفات
السميع البصير:
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله : كثيرًا ما يقرن الله سبحانه وتعالى بين ' السميع , البصير ', كمثل قوله : [ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً][النساء: من الآية134]. فكل من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة والباطنة , فالسميع هو الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات , فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرها وعلانيتها , حتى كأنها لديه صوت واحد , لا تختلط عليه الأصوات , ولا تغلطه اللغات , والقريب منها والبعيد والسر والعلانية كلها عنده سواء . قال تعالى: [سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ] [الرعد:10] . وسمعه تعالى نوعان : أحدهما : سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والخفية , وإحاطته بها إحاطة تامة . والثاني : سمع الإجابة منه للسائلين والعابدين والمتضرعين , فيجيبهم ويثيبهم , ومنه قول العبد في صلاته : سمع الله لمن حمده , أي استجاب الله لمن حمده وأثنى عليه وعبده , ومنه قول إبراهيم عليه السلام : [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ] [ابراهيم:39] .
' وهو البصير ' أي الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات , حتى أخفى ما يكون منها , فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء , ويرى جميع أعضائها الظاهرة والباطنة , حتى أنه يرى سريان القوت في أعضائها الصغار جدا , ويرى سريان المياه في الأشجار وأغصانها وعروقها وجميع النباتات , ويرى نياط عروق النملة والبعوضة وأصغر من ذلك .(2/67)
فتبارك من تنبهر العقول عند التأمل لبعض صفاته المقدسة , وتشهد البصائر كماله وعظمته ولطفه , وخبرته بالغيب والشهادة والحاضر والغائب والخفي والجلي , ويرى تعالى خيانات العيون بلحظها , أي حين يلحظ العبد منظرا يخفيه على جليسه , فالله تعالى يراه في تلك الحالة التي يحرص على إخفاء ملاحظته عن كل أحد , ويرى تقلب الأجفان حين يقلبها الناظر من آدمي أو ملك أو جني أو حيوان ,وحين يطبقها ويفتحها . قال تعالى: [الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ] [ الشعراء: 218 - 219 ]. وقال تعالى : [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] [غافر:19]
صفة الرحمة: تشمل اسم الرحمن، والرحيم، والرءوف:
المفهوم من الرحمن نوع من الرحمة هي أبعد من مقدورات العباد بالإيجاد أولا ، وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانيا ،وبالسعادة في الآخرة ثالثا ،وبالإنعام بالنظر إلى وجهه الكريم رابعا .
وروى مسلم في صحيحه : [ خَلَقَ اللَّهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَوَضَعَ وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ وَخَبَأَ عِنْدَهُ مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً ].
وقد ورد اقتران الرحمن والرحيم كثيرا في القرآن كما في البسملة والفاتحة ،وفي هذا الاقتران دلالة على سعة الرحمة وشمولها، كما في صحيح البخاري 'قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ] قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ: [ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا].
وإن قام بقلبه شاهد الرحمة رأى الوجود كله قائما بهذه الصفة قد وسع من هي صفته كل شيء رحمة وعلما، وانتهت رحمته إلى حيث انتهى علمه،فاستوى على عرشه برحمته لتسع كل شيء ،كما وسع عرشه كل شيء.
ومعنى الرؤوف : ذو الرأفة وهي شدة الرحمة فهذا الاسم بمعنى الرحيم مع شدة المبالغة ،من رأفة الله أن يصون عباده عن موجبات عقوبته فإن العصمة من الزلل أبلغ في الرحمة من المغفرة للمعصية .
ومن رأفته ما شرعه من العقوبات لمن أخل بأمن المجتمع ، كجلد الزاني في قوله تعالى : [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ] [النور:2] . وقطع يد السارق في قوله تعالى : [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ] [المائدة:38] .
ووجه الرأفة في هذا كله: هو أن الله تعالى يغفر لهم هذه الذنوب فلا يعاقبهم عليها في الآخرة كما في الحديث الذي رواه البخاري [.....َلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ].
والوجه الآخر: أنه رحمة بالمجتمع المسلم حتى لا تنتشر فيه الجرائم والموبقات.
الحي القيوم:
الحي إذا أطلق على الله تعالى فمعناه كامل الحياة أي لم يزل حيا ولم يسبق ذلك عدم ولن يلحقه عدم ،فهي حياة أبدية ،بل لا يعتريها حتى مجرد النقص بالنوم .
والقيوم هو القائم بنفسه المستغني بصفاته ونعوت كماله فلا يحتاج لغيره، وهو المقيم لغيره فكل شيء محتاج له، فهو الغنى عن كل شيء في الوجود وكل الوجود محتاج له.
فالكون كله محتاج لقيومته وحياته الدائمة الكاملة ،فجميع الكائنات قائمة به وتدوم به وتبقى في الوجود به، ولو انقطع هذا الانتساب للحي القيوم طرفة عين لانمحى الوجود كله.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله واصفا حال العبد الذي يتعبد الله بالأسماء والصفات: [..ثم يُفْتَحُ له باب الشعور بمشهد القيومية فيرى سائر التقلبات الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده فيشهده مالك الضر والنفع والخلق والرزق والإحياء والإماتة فيتخذه وحده وكيلا ويرضى به ربا ومدبرا وكافيا وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه وصفات كماله ونعوت جلاله فلا يحجبه خلقه عنه سبحانه بل يناديه كل من المخلوقات بلسان حاله اسمع شهادتي لمن أحسن كل شيء خلقه] .(2/68)
فعلى هذين الأسمين مدار الأسماء الحسنى كلها ،وإليهما يرجع معانيها فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال ،فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة ،فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياةٍ وأتَّمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضادُّ نفيه كمال الحياة ،وأما القيوم فمتضمن كمال غناه وكمال قدرته فإنه القائم بنفسه ـ كما تقدم ـ فلا يحتاج لغيره ، فانتظم هذا الاسمان صفات الكمال أتم انتظام .
صفة المُلكْ: ويشمل اسم الملك ،والمالك،والمليك
ومعناها: التام الملك الجامع لأصناف المملوكات، الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود ويحتاح إليه كل موجود .
وفي الأمر والنهي تتجلى كذلك صفة الملك إذ هو المعبود الحق يأمر فيطاع.ومن تأمل حديث البخاري الذي رواه عن عبد الله بن مسعود قال :' جَاءَ حَبْرٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] [الزمر:67] .
- الصمد: وقيل في معناه:
الصمد هو السيد الذي يصمد إليه في الحوائج وأصل الصمد القصد, قال البخاري: قال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده, وقيل: معناه الدائم, وقيل: الباقي بعد فناء الخلق. قال شيخ الإسلام رحمه الله: [الصمد الذي لا جوف له ومن قال منهم إنه السيد الذي انتهى سؤدده].
فالعبد الذي تعرف على ربه الصمد لا يسأل غيره فهو السيد للكامل في صفاته وهو الذي يسد حاجة من انطرح بين يديه ،وهو الذي يرزق في العاجل والآجل ،وهو الذي يشفى من الأسقام والأمراض .
صفة التَّشْرِيعُ:
فالله جل وعلا هو المشرع فقط ، فالشرع ما أمر به والدين ما سنه ،وما خالف أمره فهو باطل ،وهذه الصفة صفةٌ فعليةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة ، من خصائص ربوبِيَّتِه ، من نازعه فيها فقد كفر، والله هو [[الشارع]] و هو [[المُشَرِّع]] وليسا هما من أسمائه سبحانه [صِفَاتُ اللهِ عَزَّ وَ جل ـ علوي بن عبد القادر السَّقَّاف ].
والدليل من الكتاب : قوله تعالى : [ شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ 000] الآية [الشورى : 13].
والدليل من السنة : حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : [ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى 000] رواه مسلم .
وقد كثر في أقوال العلماء إضافة التشريع لله سبحانه وتعالى ومن ذلك :
1- قول العلامة محمد الأمين الشنقيطي: [[ والعجب ممن يحكِّم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام ]] [أضواء البيان 3/400].
2- قول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية: [الشرك الأكبر أن يجعل الإنسان لله نداً إما في أسمائه وصفاته ، و إما أن يجعل له نداً في العبادة 000و إما أن يجعل لله نداً في التشريع بأن يتخذ مشرِّعاً له سوى الله أو شريكاً لله في التشريع يرتضي حكمه ويدين به في التحليل والتحريم عبادة وتقرباً وقضاءً وفصلاً في الخصومات أو يستحله وإن لم يُرِدْهُ ديناً ] [فتاوى اللجنة الدائمة1/516] .
كما كثر إطلاقهم لكلمة [[الشارع]] و [[المُشَرِّع]] على الله عَزَّ وجَلَّ من باب الصفة .
من:'أثر الأسماء والصفات في الإيمان'
للشيخ/ عبد الرحمن بن محمد بن علي الهرفي
***************
الباب الثالث- ركن الدعوة
نعي أليم إلى جنات الخلد الشيخ أحمد يس ورفقاؤه
فجعت الأمة الإسلامية فجر هذا اليوم الاثنين غرة صفر 1425هـ، في شيخ من شيوخها الأخيار، ومجاهد من مجاهديها الأبطال، وقائد من قوادها الأطهار، حيث اغتالته هو ومن معه قوى الشر والعدوان، من إخوان القردة والخنازير، وهم خارجون من صلاة الفجر، بصاروخ غاشم ورصاص غادر، متوهمين أنهم بذلك سيوقفون الحركة الجهادية التي يرعاها الشيخ أحمد يس منذ أمد بعيد وهو مقعد، وما علموا أن أمة يقود أحد مقعديها حركة جهادية قضت مضاجع قوى الشر والعدوان في العالم لن تستكين في يوم من الأيام ، ولن يخيفها الغدر والطغيان، بل سيزيدها قوة إلى قوتها، وعزماً وتصميماً بأن طريق الجهاد هو الطريق الوحيد لاسترداد الحق المغصوب والمسجد الأقصى المسلوب.(2/69)
ولن تفقد الحركة سوى شخص شيخها، وهو فقد كبير، وهي تعلم أن ما عند الله خير له وأبقى، وأن الموت مصير كل كائن، فلا نامت أعين الجبناء.
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعدد الأسباب والموت واحد
والله نسأل أن يجزي الشيخ أحمد يس وصحبه وكل الذين مضوا في هذا الدرب عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يتقبلهم في الشهداء، وأن يبوأهم في الجنة دار السعداء، وأن يبارك في تلك الأشلاء، وأن يرفع الأبناء، وأن يجير الأمة فيهم، ويخلف عليها بخير منهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يجعل دمه لعنة على اليهود الغاشمين، والنصارى الحاقدين، والمنافقين المخذلين.
عزاؤنا أن الشيخ أحمد يس قُتل مسلماً، مقبلا غير مدبر إن شاء الله، صابراً محتسباً، فماذا يبالي؟!
فلست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شَلْوٍ ممزَّع
اللهم ارفع علم الجهاد، وأقمع أهل الكفر والزيغ والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغا للحاضر والباد، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم
-------
يا فارس الكرسي
/ د عبد الرحمن العشماوي
1. ... أكسبوكَ من السِّباقِ رِهانا فربحتَ أنتَ وأدركوا الخسرانا
2. ... هم أوصلوك إلى مُنَاكَ بغدرهم فأذقتهم فوق الهوانِ هَوانا
3. ... إني لأرجو أن تكون بنارهم لما رموك بها، بلغتَ جِنانا
4. ... غدروا بشيبتك الكريمة جَهْرةً أَبشرْ فقد أورثتَهم خذلانا
5. ... أهل الإساءة هم، ولكنْ ما دروا كم قدَّموا لشموخك الإحسانا
6. ... لقب الشهادةِ مَطْمَحٌ لم تدَّخر وُسْعَاً لتحمله فكنتَ وكانا
7. ... يا أحمدُ الياسين، كنتَ مفوَّهاً بالصمت، كان الصَّمْتُ منكَ بيانا
8. ... ما كنتَ إلا همّةً وعزيمةً وشموخَ صبرٍ أعجز العدوانا
9. ... فرحي بِنَيْلِ مُناك يمزج دمعتي ببشارتي ويُخفِّف الأحزانا
10. ... وثََّقْتَ باللهِ اتصالكَ حينما صلََّيْتَ فجرك تطلب الغفرانا
11. ... وتَلَوْتَ آياتِ الكتاب مرتِّلاً متأمِّلاً تتدبَّر القرآنا
12. ... ووضعت جبهتك الكريمةَ ساجداً إنَّ السجود ليرفع الإنسانا
13. ... وخرجتَ يَتْبَعُكَ الأحبَّة، ما دروا أنَّ الفراقَ من الأحبةِ حانا
14. ... كرسيُّكَ المتحرِّك اختصر المدى وطوى بك الآفاقَ والأزمانا
15. ... علَّمتَه معنى الإباءِ، فلم يكن مِثل الكراسي الراجفاتِ هَوانا
16. ... معك استلذَّ الموتَ، صار وفاؤه مَثَلاً، وصار إِباؤه عنوانا
17. ... أشلاءُ كرسيِّ البطولةِ شاهدٌ عَدْلٌ يُدين الغادرَ الخوَّانا
18. ... لكأنني أبصرت في عجلاته أَلَماً لفقدكَ، لوعةً وحنانا
19. ... حزناً لأنك قد رحلت، ولم تَعُدْ تمشي به، كالطود لا تتوانى
20. ... إني لَتَسألُني العدالةُ بعد ما لقيتْ جحود القوم، والنكرانا
21. ... هل أبصرتْ أجفانُ أمريكا اللَّظَى أم أنَّها لا تملك الأَجفانا؟
22. ... وعيون أوروبا تُراها لم تزلْ في غفلةٍ لا تُبصر الطغيانا
23. ... هل أبصروا جسداً على كرسيِّه لما تناثَر في الصَّباح عِيانا
24. ... أين الحضارة أيها الغربُ الذي جعل الحضارةَ جمرةً، ودخانا
25. ... عذراً، فما هذا سؤالُ تعطُّفٍ قد ضلَّ من يستعطف البركانا
26. ... هذا سؤالٌ لا يجيد جوابَه من يعبد الأَهواءَ والشيطانا
27. ... يا أحمدُ الياسين، إن ودَّعتنا فلقد تركتَ الصدق والإيمانا
28. ... أنا إنْ بكيتُ فإنما أبكي على مليارنا لمَّا غدوا قُطْعانا
29. ... أبكي على هذا الشَّتاتِ لأُمتي أبكي الخلافَ المُرَّ، والأضغانا
30. ... أبكي ولي أملٌ كبيرٌ أن أرى في أمتي مَنْ يكسر الأوثانا
31. ... يا فارسَ الكرسيِّ، وجهُكَ لم يكنْ إلاَّ ربيعاً بالهدى مُزدانا
32. ... في شعر لحيتك الكريمة صورةٌ للفجر حين يبشِّر الأكوانا
33. ... فرحتْ بك الحورُ الحسانُ كأنني بك عندهنَّ مغرِّداً جَذْلانا
34. ... قدَّمْتَ في الدنيا المهورَ وربما بشموخ صبرك قد عقدتَ قِرانا
35. ... هذا رجائي يا ابنَ ياسينَ الذي شيَّدتُ في قلبي له بنيانا
36. ... دمُك الزَّكيُّ هو الينابيع التي تستقي الجذور وتنعش الأَغصانا
37. ... روَّيتَ بستانَ الإباءِ بدفقهِ ما أجمل الأنهارَ والبستانا
38. ... ستظلُّ نجماً في سماءِ جهادنا يا مُقْعَداً جعل العدوَّ جبانا
=================00
ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً(2/70)
قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) [فصلت/33-36]
الدعوة إلى الله هي وظيفة الرسل، والأنبياء، وأتباعهم، والصالحين، ومن تشبَّه بهم، فالتشبه بالرجال فلاح ونجاح.
قال صلى الله عليه وسلم لعليّ عندما بعثه إلى اليمن داعياً ومفقهاً لأهلها: "لئِن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمُر النعم".
لقد قصر الله الخيرية في هذه الأمة على المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فقال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"، وأوجب على طائفة من هذه الأمة التفرغ للدعوة: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، وقال: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون".
والدعوة إلى الله واجبة حسب الطاقة في كل الظروف والملابسات، فيوسف عليه السلام عندما ألقي في السجن ظلماً وعدواناً باشر وظيفته رغم مشاق الحبس وظروفه: "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عندما أودع سجن القلعة بدمشق، وعندما سجن كذلك ظلماً وعدواناً بالإسكندرية، لم يحل ذلك بينه وبين وظيفة الدعوة، فقد ظل يباشر الدعوة إلى الله وسط المسجونين، وقد استفادوا من وجوده الشيء الكثير، ولهذا عندما أدخل القلعة تلا قوله تعالى: "وضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب".
=================0000
ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله
الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد:
عباد الله إن مما خص الله به نبي هذه الأمة محمداً صلى الله عليه وسلم وخص به رسالتَه والنورَ الذي جاء به أنها رسالةٌ ودعوةٌ عامة للثقلين الجن والإنس ، والعربِ والعجم ،والأسودِ والأبيض ، والذكرِ والأنثى ، والسادةِ والعبيد ،كما قال جل وعلا : (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) ، وقال سبحانه : (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) ،(وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (بعثت إلى الناس كافة وكانت الأنبياء تبعث إلى أقوامهم خاصة ) .
أيها المسلمون: وبعد أن تقرر ما سبق فإن هذه الأمة مأمورة بما أمر بها نبيه فهي مأمورة بتبليغ الدين إلى الناس كافة ،كما قال سبحانه (، وقال سبحانه(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) آل عمران[104]،
هي المكلفة بنشر هذا الدين الذي فيه سعادة البشرية ولا نجاة ولا مخلص للناس إلا بالدخول في هذا الدين والانضواء تحت لواءه والاهتداء بتعاليمه وتشريعاته ، إننا لانشك لحظةً واحدة أن دين الإسلام هو الدين الذي به تحل كل المشاكل العالمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية ، وسوف نقف مع هذه العبادة العظيمة والمهمة الجسيمة ، والوظيفة الشريفة وقفات عدة:
الوقفة الأولى : الدعوة إلى الله وظيفةٌ من أشرف الوظائف ،ومهمةٌ من أعظم المهمات.
كيف لا ؟وهي وظيفة الأنبياء والرسل ومهمة كل من أراد الله به خيراً ورفعةً وسعادةً في الدنيا والآخرة ، ولا أعظم وصفاً ولاأصدق قولاً من قول ربنا جل وعلا حيث يقول:( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين)فصلت [33] قال الحسن البصري عند هذه الآية :" هو المؤمن أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحاً في إجابته ، فهذا حبيب الله هذا ولي الله "أ.هـ، فمقام الدعوة من أشرف المقامات ، فياخسارة من قامت حياته ، وذهبت أيامه ولم يكن له نصيب من هذه العبادة العظيمة ، فيا عبدالله تدارك أيامك واضرب بسهم في هذا الميدان المبارك بعلمك أو بجهدك أو بمالك أو برأيك على قدر استطاعتك حتى تنال هذا الشرف العظيم .
الوقفة الثانية : العلم وأثره في الدعوة(2/71)
الله سبحانه أمر بالدعوة إلى الله وأوجبها على هذه الأمة على كل من قدر وعلى حسب مقدار العلم الذي مع الإنسان ،قال سبحانه (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني )يوسف [106]، فالبصيرة : العلم ،و قال سبحانه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )النحل [125] فالعلم يتضمن العلم بما تدعوا إليه والعلم بحال الداعي وكلما كان العلم أغزر كانت الدعوة أقوى وأنفذ ، ولكن لا يقعدن بك هذا الأمر وتقول أنا لست من أهل العلم ، فنقول لك : ادع على قدر العلم الذي معك كما قال صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية ) ، وكن دليلاً على الخير ، ومساهماً بمالك ، ورأيك وجهدك فأنت بإذن الله من الدعاة إليه، واعلم أن أجرك عظيم كما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)
وقال صلى الله عليه وسلم (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )قال ابن القيم " وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة أهله بحيث إذا اهتدى رجل واحد بالعالم كان ذلك خيراً له من حمر النعم وهي خيارها وأشرفها عند أهلها فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس " أ.هـ وفقنا الله وإياكم لهذه النعمة العظيمة.
الوقفة الثالثة : الحكمة في الدعوة إلى الله هي كما قال ابن القيم –رحمه الله – معلقاً على قول الله (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة):"جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق ، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة ، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة ، المعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن"أ.هـ
الوقفة الرابعة : لا تنس إخلاص النية فهي الأساس في الدعوة كما قال جل وعلا (ادع إلى سبيل ربك ) لا إلى سبيل أحد غيره ، وقال في الآية الأخرى(قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله) لا إلى نفسي أو إلى مطمع من مطامع الدنيا، ومن خلصت نيته بارك الله له في جهده ووقته وظهر أثر ذلك عليه .
الوقفة الخامسة: شعارك في الدعوة إلى الله (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) ، وأيضاً (إن عليك إلا البلاغ ) ، وقوله(ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) ، وقوله (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد )
فيا من تدعوا إلى الله لا تذهب نفسك حسرات ولكن احذر من التقصير في الدعوة إلى الله والعلم والعمل ، فإن لم تجد الثمرة فلا تترك هذا الطريق فإن الهداية وإدخال الإيمان إلى القلوب ليس إليك وإنما إلى الله (إنك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) ، والنبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد .
الوقفة السادسة : أن مهمة الدعوة إلى الله يستطيع كل إنسان أن يقوم بها كل على حسب جهده وقدرته كما سبق ولكن مهمتنا نحن أن نرسخها في قلوب الأجيال وفي نفوس الناشئة وفي عقول الناس وتكون من أولى إهتماماتهم فيا أيها المدرس الناصح وأيها المربون والمربيات والمعلمون والمعلمات ويا أئمة المساجد يا طلاب العلم أيها الموظفون لا تتركوا هذه الوظيفة وهذه المهمة لحظة واحدة من لحظات حياتكم فبها سعادتكم وعزكم ونصر دينكم وظهوره على كل الأديان ، وهنا أقف وقفة عتاب ووقفة تعجب مع ذلكم الكاتب في جريدة الوطن هداه الله الذي كتب مقالاً جرح أفئدتنا وآلم نفوسنا لما عاب على إخواننا المدرسين نصحهم وإرشادهم في المدارس وقال إننا لسنا في مكان للدعوة إلى الله فنقول يا مسلم ياعبدالله نحن بغير الدعوة إلى الله وبغير الدين لا وزن لنا بين الناس ولا عز لنا إلا بهذا الدين فوجب أن نكون كلنا دعاة إليه ،ولا خير فينا إذا لم نكن كذلك فالله الله أيها الإعلاميون اعتزوا بدينكم وانشروه وساهموا في الدعوة إليه وحث الناس على القيام بهذه العبادة العظيمة وفقنا الله وإياكم لكل ما يحبه ويرضاه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
د. ناصر بن يحيى الحنيني
=================00000
هل تتمنى أن تكون من العلماء؟ ...(2/72)
كلٌ منا يتمنى أن يكون عالماً عاملاً، وخطيباً مفوهاً، وقدوة حسنة، وإماماً في كل خير؛ وحُق للعبد تلك الأماني السامية عندما يطرق سمعه قول الله - تعالى-: ((ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ))[سورة فصلت أية 33]، وتزداد تلك الرغبة عندما يتذكر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (العلماء ورثة الأنبياء)، وقوله: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)[رواه مسلم]، وتبلغ تلك الأمينة أقصاها عندما يبلغه قول المصطفى الهادي بإذن ربه إلى صراط مستقيم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)[رواه مسلم] قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره: (( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله )): "أي دعا عباد الله إليه، (( وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين )): أي هو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق - تبارك وتعالى - وهذه عامة في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بذلك"[تفسير القرآن العظيم 4/126].
والعبد إذ يتمنى ذلك ليس هدفه أن يُشار إليه بالبنان، ولا ليستجديَ العطف والإحسان، بل هي الرغبة الصادقة في الآخرة، وابتغاء وجه الله - عز وجل - مستصحباً معه قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - متوعداًً المرائيين، ومحذراًً الذين يريدون بعلمهم الدنيا : (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة - وذكر منهم - رجلاً تعلم العلم ليقال عالم وقارئ فيؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار )[أخرجه الترمذي]، (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة - يعني ريحها - يوم القيامة)[رواه أحمد].
لقد مدح الله - تعالى- العلم والعلماءـ وأثنى عليهم ثناءً ينفض عن الكسالى غبار الكسل، ويطمع الزاهدين فيه لتحصيله، ويحث العلماء على طلب المزيد منه (( وقل رب زدني علماً ))، والنصوص في ذلك كثيرة حسبنا منها قول الله - عز وجل -: (( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ )) قال السعدي - رحمه الله - عند هذه الآية: "فكل مَنْ كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء مَنْ يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته كما قال - تعالى-: ((رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه))" فالعلماء هم أهل خشية الله - تعالى-، وكفى بالخشية خصلة فقد أخبر الله - عز وجل - عن الملائكة بأنهم: ((يخشون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون))، وقال في وصف الأنبياء والمرسلين والمتقين: (( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً ))[سورة الأنبياء: 90]، وقال: (( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون))[سورة المؤمنون: 57]، وبالجملة فالخشية هي التي تدفع العبد لفعل الطاعات، وتزجره عن المعاصي والسيئات، وتورثه - بإذن الله - أعلى الجنات، فمن رغب - بعد سماع النصوص المرغبة في العلم - عنه فليبكِ على نفسه، وينوح عليها، وليرفع يديه إلى مولاه قائلاً : (اللهم إني أسألك علماً نافعاً)[رواه ابن السني] كما كان يدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
إن شغلك طلب الرزق، وألهتك معايشك عن تحصيل العلم؛ رغم نيتك الصادقة في أن تلحق بركب العلماء فتذكر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلياً نفسك؛ وهو يخبر عن رجل عالم وآخر يتمنى أن يكون له مثل علمه فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها فيقول: يا ليت لي مثل علمه لعملت مثله، قال: فهم في الأجر سواء)، فانظر كيف كانوا في الأجر سواء لأن الأمر كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات)، وهذا فضل الكريم الواسع ذو الفضل العظيم الذي لو أعطى عباده كلهم سؤلهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، إنما هي نية صادقة من قلب سليم مخلص، وهذه النية لا تغنيك عن طلب العلم، بل سعيك في طلب العلم هو تصديق لتلك النية، عسى الله أن يفتح علينا من علمه، ويفيض علينا من بركاته.(2/73)
تنبيه مهم: على العبد أن يعلم أنه لا بد له من تعلم الفقه الذي هو فرض عين وهو "معرفة معنى الشهادتين ومقتضاهما وما يناقضهما، ومعرفة أصول العقيدة الإسلامية؛ إذ العقيدة هي الفقه الأكبر، ومعرفة ما تصح به عبادة المرء من أحكام الطهارة والصلاة إجمالاً، وأحكام الزكاة إن كان عنده ما يزكيه، ومعرفة أحكام المعاملات ما يحل منها وما يحرم إن كان له تجارة حتى لا يقع في الحرام، لقوله - عليه الصلاة والسلام -: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)[رواه الطبراني في الأوسط والكبير]"، وإن قعدت بنا ذنوبنا عن تحصيل العلم لأن: (العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه) فكيف بالعلم الذي هو سبب حياة القلب في الدنيا وسلامته الآخرة؛ فلنتب إلى الله - عز وجل -، وإن لم نكن علماء فلنكن متعلمين، وليسلم إخواننا وعلماءنا من ألسنتنا كما قال أحد السلف: "كن عالماً أو متعلماً ولا تكن الثالث فتهلك".
إنّ دلالة الناس على الخير الذي من أعظمه العلم - بل هو الخير كله -، هذه الدلالة على العلم من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، وأسهل سبيل لتحصيل الحسنات من عدة جهات في وقت واحد: فيأتيك أجر صائم وقائم، ومتصدق وعابد كنت أنت السبب في دلالتهم على الخير، وهدايتهم إليه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)[رواه مسلم]، فلعلك ترشد عبداً من عباد الله إلى عالم ليصحبه، أو لدرس شيخ، أو تحثه على طلب العلم بأي وسيلة فيصبح عالماً صالحاً يأتي عمله هو ومن تبعه في ميزان حسناتك من غير أي نقص في أجورهم، وأمثلة الدلالة على الخير كثيرة تتعجب منها، ولعل قصة الإمام الذهبي - العالم المشهور - من تلكم الأعاجيب:
أنّ أحد مشايخه رأى خطه فقال له: إنّ خطك يشبه خط المحدثين، قال: فوقع حب الحديث في قلبي، وصدق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - حين قال: (وإن الرجل ليتكلم من رضوان الله - عز وجل - ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله - عز وجل - له بها رضوانه إلى يوم القيامة)[أخرجه أحمد].
كاتب المقال: عبد العليم صديق
المصدر: المختار الإسلامي
=================00000
الاعتدال في الدعوة
للشيخ العلامة/ محمد بن صالح العثيمين
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحقّ ، فبلغ الرسالة ، وأدّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حقّ جهاده حتى أتاه اليقين ، فصلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد :
فيسرني أن ألتقي بكم هذا اللقاء في موضوع مهم يهمّ المسلمين جميعهم ، ألا وهو الدعوة إلى الله عزّ وجل .
قال تعالى : {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}، والاستفهام في الآية بمعنى النفي ، أي : لا أحسن قولاً .
والغرض من الإتيان بالاستفهام في موضع النفي إفادة أمرين :
الأول - انتفاء هذا الشيء .
الثاني - تحدي المخاطب أن يأتي به ، فالاستفهام مشربٌ معنى التحدي ، أي: إذا كان عندك شيء أحسن من هذا فأتِ به ، ولكننا نقول : لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً ، وقال إنني من المسلمين .
والدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة إلى شريعة الله الموصلة إلى كرامته ، ودعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام تدور على ثلاثة أمور :
أولاً - معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته .
ثانياً - معرفة شريعته الموصلة إلى كرامته .
ثالثاً - معرفة الثواب للطائعين والعقاب للعاصين .
والدعوة إلى الله تعالى أحد أركان الأعمال الصالحة التي لا يتم الربح إلا بها كما قال الله تعالى: {والعصر. إن الإنسان لفي خسر . إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر}.
فإن التواصي بالحقّ يلزم منه الدعوة إلى الحق ، والتواصي بالصبر يلزم منه الدعوة إلى الصبر على دين الله تعالى في أصوله وفروعه .
إن الدعوة إلى الله صارت الآن وما زالت بين طرفين ووسط .
أما الطرفان فجانب الإفراط ، بحيث يكون الداعية شديداً في دين الله يريد من عباد الله تعالى أن يطبقوا الدين بحذافيره ، ولا يتسامح عن شيء الدين يسمح به، بل إنه إذا رأى من الناس تقصيراً حتى في الأمور المستحبة تأثر تأثراً عظيماً ، وذهب يدعو هؤلاء القوم المقصرين دعاء الغليظ الجافي ، وكأنهم تركوا شيئاً من الواجبات، ومن الأمثلة على ذلك :(2/74)
المثال الأول : رجل رأى جماعة من الناس لا يجلسون عند القيام إلى الركعة الثانية ، أو عند القيام إلى الركعة الرابعة ، وهي التي تسمى عند أهل العلم جلسة الاستراحة ، هو يرى أنها سنة ، ومع ذلك إذا رأى من لا يفعلها اشتدّ عليه ، وقال : لماذا لا تفعلها؟ ويتكلم معه تكلم من يظهر من كلامه أنه يقول بوجوبها ، مع أن بعض أهل العلم حكى الإجماع على أن هذه الجلسة ليست بواجبة ، وأن خلاف العلماء فيها دائر بين ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها مستحبة على الإطلاق .
القول الثاني : ليست مستحبة على الإطلاق .
القول الثالث : أنها مستحبة لمن كان يحتاج إليها ، حتى لا يشقّ على نفسه كالكبير ، والمريض ، ومن في ركبه وجعٌ ، وما أشبه ذلك .
فيأتي بعض الناس ، ويشدد فيها ، ويجعلها كأنها من الواجبات .
المثال الثاني: بعض الناس يرى شخصاً إذا قام بعد الركوع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، قال : أنت مبتدع لا بد أن تسدل يديك ، فإن وضعتهما على الصدر فإن ذلك من البدع والمنكرات ، مع أن المسألة مسألة اجتهادية ، وقد يكون الدليل مع من قال : إن اليدين توضعان بعد الركوع على الصدر ، كما توضعان قبله أيضاً على الصدر؛ لأن هذا هو مقتضى الحديث الذي رواه البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : ((كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة)).
المثال الثالث : كذلك بعض الناس ينكر على من يصلّي إذا تحرك أدنى حركة، وإن كانت هذه الحركة مباحة ، وقد ورد في السنة ما هو مثلها أو أكثر ، فتجده ينكر عليه الإنكار العظيم ، حتى إنه يجعل هذا الأمر هو محل الانتقاد في هؤلاء القوم ، مع أنها حركة مباحة جائزة ورد نظيرها ، أو ما هو أكثر منها في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا تشديد. وكان أبو جحيفة رضي الله عنه ذات يوم يصلي وقد أمسك زمام فرسه بيده ، فتقدمت الفرس ، فذهبرضي الله عنه وهو يصلي يسايرها شيئاً فشيئاً حتى انتهى من صلاته ، فرآه رجل من نوع هذا المتشدد، فجعل يقول : انظروا إلى هذا الرجل - وأبو جحيفة صحابي جليل رضي الله عنه فلما سلم أبو جحيفة بيّن لهذا الرجل أن مثل هذا العمل جائز، وأنه لو ترك فرسه لذهبت ولم يحصل عليها إلى الليل ، فانظر إلى الفقه في الشريعة والتسامح والتيسير فيها .
وهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه وهو يحمل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جدّ هذه الطفلة - فكان يصلي بالناس حاملاً هذه الطفلة ، فإذا قام حملها ، وإذا سجد وضعهاصلى الله عليه وسلم هذا فيه حركة ، وفيه ملاطفة للطفلة، وفيه أنه يؤمّ الناس فقد يلتفت بعضهم لينظر ماذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الطفلة . ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أتقى الناس لله تعالى وأعلمهم بما يتقي - كان يفعل ذلك .
ومثال آخر : اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عمله في السّرّ ، فأخبروا بذلك ، فتقالّوا عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر ، ولكن نحن بحاجة إلى عمل أكثر ليغفر الله لنا ذنوبنا، فقال أحدهم : أنا أصوم ولا أفطر . وقال الثاني : أنا أقوم ولا أنام . وقال الثالث : أنا لا أتزوج النساء ، فبلغ قولهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس منّي )) . هذا كله يدل على أنه لا ينبغي لنا ، بل لا يجوز لنا أن نغلو في دين الله ، سواء أكان في دعاء غيرنا إلى دين الله ، أم في أعمالنا الخاصة بنا ، بل نكون وسطاً مستقيماً كما أمرنا الله تعالى بذلك ، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فالله تعالى يقول: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون}. والنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم )) ، وأخذ حصيات وهو في أثناء مسيره من مزدلفة إلى منى أخذ حصيات بكفه وجعل يقول : (( يا أيها الناس بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين )).
وضد ذلك : من يتهاون في الدعوة إلى الله تعالى فتجده يرى الفرص مواتية والمقام مناسباً للدعوة إلى الله ، ولكن يضيع ذلك ، تارة يضيعه لأن الشيطان يملي عليه أن هذا ليس وقتاً للدعوة ، أو أن هؤلاء المدعوين لن يقبلوا منك ، أو ما أشبه ذلك من المثبطات التي يلقيها الشيطان في قلبه ، فيفوت الفرصة على نفسه .(2/75)
وبعض الناس إذا رأى مخالفاً له بمعصية بترك أمر أو فعل محظور كرهه ، واشمأز منه ، وابتعد عنه ، وأيس من إصلاحه ، وهذه مشكلة ، والله سبحانه وتعالى بيّن لنا أن نصبر ، وأن نحتسب ، قال الله تعالى لنبيه : {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار بلاغٌ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}. فالإنسان يجب عليه أن يصبر ويحتسب ، ولو رأى على نفسه شيئاً من الغضاضة، فليجعل ذلك في ذات الله تعالى ، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما أدميت إصبعه في الجهاد ، قال : هل أنت إلا إصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت.
وهذا عكس الأول حتى إن هذا ليرى الأمر بعينه ، ويسمعه بأذنه يجد هذا الأمر المخالف لشريعة الله ، ولا يدعو الناس إلى الاستقامة وعدم معصية الله تعالى ومخالفته ، بل إنّا نسمع أن بعض الناس يقول :
يجب أن تجعل الأمة الإسلامية التي تنتسب إلى الإسلام ، وتتجه في صلاتها إلى القبلة ، يجب أن تكون طائفة واحدة غير متميزة ، لا يفرق بين مبتدع وصاحب سنة ، وهذا لا شك خطأ وخطل وخطر ؛ لأن الحق يجب أن يميز عن الباطل ، ويجب أن يميز أصحاب الحق عن أصحاب الباطل حتى يتبيّن، أما لو اندمج الناس جميعاً، وقالوا : نعيش كلنا في ظل الإسلام، وبعضهم على بدعة قد تخرجه من الإسلام، فهذا لا يرضى به أحد ناصح لله، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
ويوجد أناس يستطيعون الدعوة إلى الله ؛ لما عندهم من العلم والبصيرة ، ويشاهدون الناس يخلّون في أشياء ، ولكن يمنعهم خوف مسبة الناس لهم ، أو الكلام فيهم أن يقولوا الحق ، فتجدهم يقصرون ويفرطون في الدعوة إلى الله تعالى وهؤلاء إذا نظروا إلى القوم الوسط الذين تمسكوا بدين الله على ما هو عليه إذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون ، إن هؤلاء لمتعمقون ، إن هؤلاء لمتشددون متنطعون ، مع أنهم على الحق .
وإذا نظر إليهم المفرطون الغالون قالوا: أنتم مقصرون لم تقوموا بالحق، ولم تغاروا لله تعالى ، ولهذا يجب أن لا نجعل المقياس في الشدة واللين هو ما تمليه علينا أهواؤنا وأذواقنا، بل يجب أن نجعل المقياس هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم رسم لنا هذا بقوله وبفعله وبحاله صلى الله عليه وسلم رسمه لنا رسماً بيّناً، فإذا دار الأمر بين أن أشدّد أو أيسّر، بمعنى أنني كنت في موقف حرج لا أدري الفائدة في الشدة أم الفائدة في التيسير والتسهيل ، فأيهما أسلك؟
أسلك طريق التيسير ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الدين يسر ))، ولما بعث معاذاً و أبا موسى الأشعري إلى اليمن قال: (( يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ))، ولما مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال السّام عليك يا محمد – يريد الموت عليك ؛ لأن السام بمعنى الموت - وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقالت : ((عليك السّام واللعنة )) فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام : (( إن الله رفيق يحب الرفق ، وإن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف ))، فإذا أخذنا بهذا الحديث في الجملة الأخيرة منه: (( إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف)) عرفنا أنه إذا دار الأمر بين أن أستعمل الشدة ، أو أستعمل السهولة كان الأولى أن أستعمل السهولة ثقة بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (( إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف )).
ومن أراد أن يفهم هذا الأمر فليجرب؛ لأنك إذا قابلت المدعو بالشدة اشمأز ونفر وقابلك بشدة مثلها ، إن كان عامّياً قال: عندي علماء أعلم منك ، وإن كان طالب علمذهب يجادلك ، حتى بالباطل الذي تراه مثل الشمس ، وهو يراه مثل الشمس ، ولكنه يأبى إلا أن ينتصر لنفسه ؛ لأنه لم يجد منك رفقاً وليناً، ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة . والحق لا يخفى إلا على أحد رجلين : إما معرض وإما مستكبر ، أما من أقبل على الحق بإذعان وانقياد فإنه بلا شك سيوفق له .(2/76)
ومن التطرف ما يكون من الآباء والأمهات في زمننا هذا حين صار الشباب - ولله الحمد - من ذكور وإناث عندهم اتجاه إلى العمل بالسنة بقدر المستطاع ، صار بعض الآباء والأمهات يضايقون هؤلاء الشباب من بنين وبنات في بيوتهم ، وفي أعمالهم حتى إنهم لينهونهم عن المعروف ، مع أنه لا ضرر على الآباء في فعله ، ولا ضرر على الأبناء أو البنات في فعل هذا المعروف ، كمن يقول لأولاده: لا تكثروا النوافل لا تصوموا البيض، أو الاثنين، أو الخميس، أو ما أشبه ذلك، مع أن هذا لا يضر الوالدين شيئاً ، ولا يحول دون قضاء حوائجهما ، وليس بضار على الابن في عقله ، أو بدنه ، أو في درسه ، ولا على البنت كذلك .وأنا أخشى على هؤلاء القوم أن يكون هذا النهي منهم لأولادهم كراهة للحق والشريعة ، وهذا على خطر ، فالذي يكره الحق أو الشريعة ربما يؤدي به ذلك إلى الردة ؛ لأن الله تعالى يقول : {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}. ولا تحبط الأعمال إلا بردة عن الإسلام كما قال الله تعالى : {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. هذا مثال من الشدة في أولياء الأمور .
أما بالنسبة للأولاد من بنين أو بنات إذا كانوا متمشين في مناهجهم وسيرهم على شريعة الله ، فليسوا في شدة .
وهناك في المقابل من يكون شديداً من الأولاد بنين وبنات على أهله ، بحيث لا يتسع صدرهم لما يكونون عليه من الأمور المباحة ، فتجده يريد من أبيه أو أمه أو إخوته أن يكونوا على المستوى الذي هو عليه من الالتزام بشريعة الله ، وهذا غير صحيح ، فالواجب عليك إذا رأيتهم على منكر أن تنهاهم عنه ، أما إذا رأيتهم قد قصروا في أمر يسعهم التقصير فيه كترك بعض المستحبات فإنه لا ينبغي لك أن تشتد معهم ، وكذلك في بعض الأمور الخلافية يجب عليك إذا كانوا مستندين إلى رأي أحد من أهل العلم أن لا تضيق بهم ذرعاً ، وأن لا تشتد عليهم .
فالذي ينبغي للإنسان سواء أكان داعية لغيره إلى الله ، أم متعبداً لله أن يكون بين الغلو والتقصير، مستقيماً على دين الله تعالى كما أمر الله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.
وإقامة الدين: الإتيان به مستقيماً على ما شرعه الله تعالى ، ولا تتفرقوا فيه، نهى عن ذلك سبحانه وتعالى؛ لأن التفرق خطره عظيم على الأمة أفراداً وجماعات.
والتفرق أمر مؤلم ومؤسف؛ لأن الناس إذا تفرقوا كما قال الله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، فإذا تفرق الناس، وتنازعوا فشلوا وخسروا وذهبت ريحهم، ولم يكن لهم وزن، وأعداء الإسلام ممن ينتسبون للإسلام ظاهراً، أو ممن هم أعداء للإسلام ظاهراً وباطناً يفرحون بهذا التفرق، وهم الذين يشعلون ناره، ويلقون العداوة والبغضاء بين هؤلاء الإخوة الدعاة إلى الله ، فالواجب أن نقف ضد كيد هؤلاء المعادين لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه، وأن نكون يداً واحدة ، وأن نكون إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما كان سلف الأمة في سيرهم ودعوتهم إلى الله تعالى ، ومخالفة هذا الأصل ربما تؤدي إلى انتكاسة عظيمة ، والتفرق هو قرة عين شياطين الإنس والجن ؛ لأن شياطين الإنس والجن لا يودون من أهل الحق أن يجتمعوا على شيء ، بل يريدون أن يتفرقوا لأنهم يعلمون أن التفرق تفتت للقوة التي تحصل بالالتزام بالوحدة والاتجاه إلى الله تعالى ويدل على هذا قوله تعالى : {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، وقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}، وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}، وقوله : {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}.
فالله تعالى قد نهانا عن التفرق ، وبيّن لنا عواقبه الوخيمة ، والواجب علينا أن نكون أمة واحدة ، وكلمة واحدة ، وإن اختلفت آراؤنا في بعض المسائل ، أو في بعض الوسائل ؛ فالتفرق فساد وشتات للأمر ، وموجب للضعف ، والصحابة -رضوان الله عليهم - حصل بينهم اختلاف لكن لم يحصل منهم التفرق ولا العداوة ولا البغضاء ، حصل بينهم الاختلاف حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه : (( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة ))، وخرجوا - رضوان الله عليهم - من المدينة إلى بني قريظة ، وحان وقت صلاة العصر ، فاختلف الصحابة ، فمنهم من قال : لا نصلي إلا في بني قريظة ولو غابت الشمس ؛ لأن الرسولصلى الله عليه وسلم قال : (( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة )) فنقول سمعنا وأطعنا .(2/77)
ومنهم من قال : إن النبي - عليه الصلاة والسلام - أراد بذلك المبادرة والإسراع إلى الخروج، وإذا حان الوقت صلينا الصلاة لوقتها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعنف أحداً منهم ، ولم يوبخه على ما فهم ، وهم بأنفسهم لم يتفرقوا من أجل اختلاف الرأي في فهم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهكذا يجب علينا أن لا نتفرق، وأن نكون أمة واحدة .
قد يقول قائل : إذا كان المخالف صاحب بدعة ، فكيف نتعامل معه ؟ .
فأقول : إن البدع تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول: بدع مكفرة .
القسم الثاني: بدع دون ذلك .
والواجب علينا في القسمين كليهما أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام، ومعهم البدع المكفرة وما دونها، إلى الحق ببيان الحق، دون أن نهاجم ما هم عليه إلاّ بعد أن نعلم منهم الاستكبار عن قبول الحق؛ لأن الله تعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم}، فندعو أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته ، والحق مقبول لدى ذي كل فطرة سليمة ، فإذا وجد منهم العناد والاستكبار فإننا نبيّن باطلهم على أن بيان باطلهم في غير المجادلة معهم أمر واجب .
أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة ؛ فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجرهم، وإذا كانت دون ذلك فإننا ننظر إلى الأمر ، فإن كان في هجرهم مصلحة فعلناه ، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه ، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث )) فكل مؤمن وإن كان فاسقاً فإنه يحرم هجره ما لم يكن في الهجر مصلحة، فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه؛ لأن الهجر دواء، أما إذا لم يكن فيه مصلحة، أو كان فيه زيادة في المعصية والعتو فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة .
وحل هذه المشكلة : أعني مشكلة التفرق أن نسلك ما سلكه الصحابة رضي الله عنهم وأن نعلم أن هذا الخلاف الصادر عن اجتهاد في مكان يسوغ فيه الاجتهاد لا يؤثر، بل إنه في الحقيقة وفاق؛ لأن كل واحد منا أخذ بما رأى بناءً على أنه مقتضى الدليل، إذن فمقتضى الدليل أمامنا جميعاً ، وكل منا لم يأخذ برأيه إلاّ لأنه مقتضى الدليل، فالواجب على كل واحد منا أن لا يكون في نفسه على أخيه شيء، بل الواجب أن يحمده على ما ذهب إليه ؛ لأن هذه المخالفة مقتضى الدليل عنده .
ولو أننا ألزمنا أحدنا أن يأخذ بقول الآخر ، لكن إلزامي إياه أن يأخذ بقولي ليس بأولى من إلزامه إياي أن آخذ بقوله ، فالواجب أن نجعل هذا الخلاف المبني على اجتهاد أن نجعله وفاقاً ، حتى تجتمع الكلمة ، ويحصل الخير .
وإذا حسنت النية سهل العلاج ، أما إذا لم تحسن النية ، وكان كل واحد معجباً برأيه ، ولا يهمه غيره ، فإن النجاح سيكون بعيداً .
وقد أوصى الله عباده بالاتفاق ، فقال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، فإن هذه الآية موعظة للإنسان أي موعظة .
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من الهداة المهتدين، والصلحاء المصلحين إنه جواد كريم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين
=================00000
احذر أخي الحاكم استحلال القتل، والحبس، والتنكيل لإخوانك المسلمين باسم الإرهاب
لقد استطاع الكفار اليهود والنصارى لعنهم الله أن يغيروا كثيراً من المفاهيم الإسلامية، وأن يقلبوا الموازين الشرعية، حتى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والحق باطلاً والباطل حقاً، والجهاد المشروع إرهاباً، والإرهاب الذي يمارسه الكفار باسم الشرعية الدولية عدلاً ورحمة.
ويعود ذلك لأسباب هي:
1. الحملات الإعلامية المكثفة التي تبثها وسائل الإعلام الكافرة، فقد أضحى للإعلام دور كبير في التأثير على الناس، لتقدم وسائل الاتصال وكثرتها، مما جعل العالم كله عبارة عن قرية صغيرة، ولضعف وسائل الإعلام الإسلامية وتأثرها بمايبثه الكفار.
2. حرب المصطلحات التي انتهجها الكفار منذ القرن الماضي، التي أتت ثمارها في فرض والترويج لما يريدون فرضه وترويجه.
3. تقدم الكفار الصناعي والعسكري مكَّنهم من فرض سيطرتهم وهيمنتهم على العالم، وولد في المسلمين روح الانهزام والتبعية للكفار، وهذه دائماً حال المغلوب مع الغالب.
4. انتهاج الكافر المستعمر ـ بعد أن أسقطوا الدولة العثمانية ـ لسياسة "فرِّق تسُد"، التي قسَّموا من أجلها الدولة الإسلامية إلى دويلات صغيرة، بحدود وهمية، وخلفوا في كل دولة منها قبل خروجهم الصوري والاستقلال الرسمي الذي منحوه لتلك الدول ألغاماً موقوتة، سرعان ما تفجرت، نتج عنها أمران، هما:
أ . تفرق المسلمين، وتشتتهم، وتنافرهم، وتباغضهم، بل وتحاربهم.
ب . موالاة جل حكام المسلمين للكفار، واعتمادهم عليهم في حماية أنظمتهم.(2/78)
5. إيهام الكفار لبعض حكام المسلمين بخطورة الجماعات الإسلامية على أنظمتهم وعروشهم، مما خلق عداوة وهمية مع هذه الجماعات، وحاجزاً نفسياً جعل من العسير خلق جسور تفاهم وتقارب بين الطائفتين.
لهذه الأسباب ولغيرها هان على كثير من حكام المسلمين القيام بحملات عنيفة للتفتيش، والتضييق، والحبس، والتقتيل إن دعا الحال لإخوانهم المسلمين، وتسليم بعض اللائذين بهم الفارِّين بدينهم من حكامهم إليهم أوإلى الكفار، وهم يعلمون أن مصيرهم القتلَ والتنكيل.
واستباحوا ممارسة انتهاك هذه الحُرَم بهذه التهمة التي اختلقها الكفار، وفي كثير من الأحيان من غير حجة ولا برهان، وإنما أخذاً بالظنون الفاسدة والتخيلات الكاذبة.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً ومرفوعاً قال: "يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء، يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت بالهدية، والقتل بالريبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع".
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (فإن الثلاثة المذكورة أولاً قد سنت، وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم الهدية فهو ظاهر، واستحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسة وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضاً، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة.
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج بذلك، فقال: "إن من ضئضئي هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"، ولعل هؤلاء المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "يصبح الرجلُ مؤمناً ويمسي كافراً" الحديث، يدل عليه تفسير الحسن قال: يصبح محرِّماً لدم أخيه وعرضه، ويمسي مستحلاً، إلى آخره).
لماذا لم يسلك حكامنا مع هؤلاء الشباب ومع غيرهم ما سلكه سلفنا الصالح مع الخارجين عليهم وعلى الدين؟ لماذا لم يناظروهم، ويجادلوهم، ويؤمنوهم، كما فعل عليّ، وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم من حكام المسلمين؟
روى ابن عبد البر بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما اجتمعت الحرورية يخرجون على عليّ، جعل يأتيه الرجل فيقول: يا أمير المؤمنين! إن القوم خارجون عليك؛ قال: دعهم حتى يخرجوا؛ فلما كان ذات يوم قلتُ: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم؛ قال: فدخلتُ عليهم وهم قائلون.. إلخ)
فناظرهم ابن عباس ورجع منهم ألفان، ولم يخرج على عليّ منهم إلا من كتب له الشقاء.
واللهَ أسألُ أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يهديهم سبل الرشاد، وصلى الله وسلم على محمد خير العباد، وعلى آله وصحبه الأمجاد
=================0000
ما أشد حاجة الدعاة إلى الله إلى الرفق !
الحمد لله والصلاة والسلام على أفضل رسل الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
لقد أمر الله موسى وهارون عليهما السلام أن يرفقا بعدو الله وعدو نفسه فرعون، مع سابق علمه بكِبْره، وصلفه، وكفره، وعناده، قائلاً: "اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أويخشى".
ما أمس حاجتنا معشر المسلمين، سيما الدعاة، إلى الرفق والتلطف في شأننا كله، في:
1. معاملتنا لأهلينا ومن نعول.
2. معاملتنا للآخرين.
3. تعليمنا للناس.
4. دعوتنا لهم.
5. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد مدح اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، وشهد له بحسن الخلق فقال: "وإنك لعلى خلق عظيم"، ووصفه بصفتين من صفاته العلا، فقال: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه من عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
وقال تعالى: "وقولوا للناس حسناً"، أي خاطبوا جميع المخلوقين بالحسنى، وقال مخاطباً الأمة في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، جاء في تفسيرها: (هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين، دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة، فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين، وقد قيل إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورُجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة، والله أعلم).
لقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم والرفق والرفقاء، وبيَّن أن الله عز وجل رفيق يحب الرفق، فقال لأشج عبد القيس رضي الله عنه: "إن فيك خَصلتين يحبهما الله: الحِلم والأناة".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق كله".
وفي رواية عنها لمسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه".
وعنها كذلك عند مسلم: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه".(2/79)
وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "لا تكوني فاحشة، فإن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء".
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "وقولوا للناس حسناً: (قال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به، وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً، مع البرِّ والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يُرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: "فقولا له قولاً ليناً"، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله باللين معه، وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيَّ حدة، فأقول لهم بعض القول الغليظ؛ فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: "وقولوا للناس حسناً"، فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى، فكيف بالحنفي؟!).
قال يحيى بن معاذ رحمه الله في تفسير قوله: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أويخشى" مخاطباً ربه: (هذا رفقك بمن يقول أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله؟!).
وقد قيل إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان، فشاور هامان، فقال: لا تفعل، بعد أن كنت ملكاً تصير مملوكاً، وبعد أن كنت رباً تصير مربوباً؟!
فويل لهامان من فرعون، وويل لفرعون من هامان، والويل ثم الويل لكل من اقتدى بفرعون وهامان من الحكام، والوزراء، والمستشارين، الذين يزينون الباطل ويصدون عن الحق.
وعلى العكس من ذلك فإن الغلظة، والفظاظة، والعنف، والشدة، والفحش، والتفحش لا تأتي بخير قط إلا مع الكفار المعاندين والمنافقين الجاحدين، كما قال تعالى: "إلا الذين ظلموا منهم"، بعد أن تستنفد معهم الوسائل اللينة.
=================0
الحكمة في الدعوة إلى الله
أهمية الحكمة في الدعوة
يقول الله ـ تعالى ـ : ( يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب) البقرة: 269 ، إذا فالحكمة منة ، ونعمة عظيمة من الله ـ تعالى ـ يمتن بها على من يشاء من عبادة ، وهي من الأشياء التي يمكن اكتسابها بالمراس والمران.
ويعرف ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ الحكمة بأنها : ( فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي ) مدارج السالكين .
يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسير : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) أي كل أحد على حسب حاله وفهمه، وقبوله وانقياده، ومن الحكمة، الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبدأة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة، و إلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر، والنهي المقرون بالترغيب والترهيب ...
إذا فالحكمة في الدعوة أمر مطلوب ، والداعي إلى الله مأمور بتوخي الحكمة حين دعوته ومصداق ذلك قول الله ـ تعالى ـ : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) النحل: 125 ، وقوله ـ سبحانه ـ : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) يوسف: 108.
وحينما طبق الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ الحكمة في دعوتهم ، وساروا على هدي المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونهجه دخل الناس في الإسلام أفواجا ، وانتشر الإسلام في بقاع الأرض
لكن لا يُفهم من الحكمة في الدعوة أنها تعني الرفق ، والحلم مع المدعو فحسب ، بل إن مراتب الحكمة تتجاوز ذلك كثيرا.
فمن الحكمة أن يكون الداعي رفيقا لينا مع المدعوين كما قال ـ تعالى ـ عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر... ) آل عمران : 159 ، وقال ـ سبحانه ـ مخاطباً موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ : ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ) طه: 43-44.
و من الحكمة أحيانا استخدام الشدة والتأنيب أحيانا ، ذلك لأن الحكمة تعني وضع كل شيء في موضعه ، فهي لين في وقت اللين ، وشدة في وقت الشدة . يقول الله ـ تعالى ـ على لسان موسى ـ عليه السلام ـ مخاطبا فرعون لما طغى وتكبر : ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) الإسراء: 102 ، ويقول ـ تعالى ـ : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين و اغلظ عليهم ومأواهم جهنم و بئس المصير ) التوبة: 73
وإن من الحكمة أيضا أن يكون الداعي قدوة في قوله وفعله ، يقول الله ـ تعالى ـ : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) الصف: 2-3.(2/80)
ومن أصول الحكمة مراعاة حال المدعوين ، إذ ليس من الحكمة استخدام أسلوب واحد في الدعوة مع الكبير والصغير ، والرجل و المرأة ، والمتعلم والجاهل ، والرئيس والمرؤوس ، والهادئ والغضوب ، بل لا بد من تنويع أسلوب المخاطبة كل بما يناسبه. يقول ـ تعالى ـ: ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ...) إبراهيم: 4.
إن الداعي الناجح هو الذي يعطي كل إنسان ما يلزمه من أفكار وتوجيهات، ويحاول أن يقنعه بالأسلوب الذي يناسبه ، ويناسب مداركه .
يقول سماحة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : ( ومن الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها المدعو وبلغته التي يفهمها حتى لا تبقى عنده شبهة، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، أو بسبب تعارض بعض الأدلة، وعدم بيان المرجح، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه المدعو، ويرق قلبه، وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج فيه المدعو إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعداً لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وتكفيه الحكمة، وقد يكون عنده بعض التمنع، وبعض الإعراض فيحتاج إلى وعظة وإلى توجيه وإلى ذكر آيات الزجر ) من أقوال الشيخ ابن باز في الدعوة ص/64
ومن مراتب الحكمة المجادلة بالتي هي أحسن من ضرب الأمثلة ، وبيان الحق بالأدلة العقلية والنقلية ، وإعطاء الحجج الصادقة، ونقض الحجج الباطلة، مع تحري الوصول إلى الحق ، يقول الله ـ تعالى ـ: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) العنكبوت: 26. وليحذر الداعي أن يتحول قصده من الدعوة إلى إظهار التفوق في النقاش، أو الغلبة في الجدل، ولكن ليكن القصد والغاية الإقناع والوصول إلى الحق.
كما أن من أعلى المراتب التي يجب أن يتحلى بها الداعي إلى الله دفع السيئة بالحسنة ، وهي مرتبة رفيعة لا ينالها إلا فئة نالت حظا عظيما كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) فصلت: 34-35.
وفي جميع الأحوال يجب على الداعي قول الحق، والصبر على الأذى، صبر المؤمنين العاملين، لا صبر الخانعين المستسلمين. روى البخاري عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
زاحف
شبكة الفجر
===========
تبليغ الدين إلى الناس كافة
الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد:
عباد الله إن مما خص الله به نبي هذه الأمة محمداً صلى الله عليه وسلم وخص به رسالتَه والنورَ الذي جاء به أنها رسالةٌ ودعوةٌ عامة للثقلين الجن والإنس ، والعربِ والعجم ،والأسودِ والأبيض ، والذكرِ والأنثى ، والسادةِ والعبيد ،كما قال جل وعلا : (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) ، وقال سبحانه : (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) ،(وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (بعثت إلى الناس كافة وكانت الأنبياء تبعث إلى أقوامهم خاصة ) .
أيها المسلمون: وبعد أن تقرر ما سبق فإن هذه الأمة مأمورة بما أمر بها نبيه فهي مأمورة بتبليغ الدين إلى الناس كافة ،كما قال سبحانه (، وقال سبحانه(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) آل عمران[104]،
هي المكلفة بنشر هذا الدين الذي فيه سعادة البشرية ولا نجاة ولا مخلص للناس إلا بالدخول في هذا الدين والانضواء تحت لواءه والاهتداء بتعاليمه وتشريعاته ، إننا لانشك لحظةً واحدة أن دين الإسلام هو الدين الذي به تحل كل المشاكل العالمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية ، وسوف نقف مع هذه العبادة العظيمة والمهمة الجسيمة ، والوظيفة الشريفة وقفات عدة:
الوقفة الأولى : الدعوة إلى الله وظيفةٌ من أشرف الوظائف ،ومهمةٌ من أعظم المهمات.(2/81)
كيف لا ؟وهي وظيفة الأنبياء والرسل ومهمة كل من أراد الله به خيراً ورفعةً وسعادةً في الدنيا والآخرة ، ولا أعظم وصفاً ولاأصدق قولاً من قول ربنا جل وعلا حيث يقول:( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين)فصلت [33] قال الحسن البصري عند هذه الآية :" هو المؤمن أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحاً في إجابته ، فهذا حبيب الله هذا ولي الله "أ.هـ، فمقام الدعوة من أشرف المقامات ، فياخسارة من قامت حياته ، وذهبت أيامه ولم يكن له نصيب من هذه العبادة العظيمة ، فيا عبدالله تدارك أيامك واضرب بسهم في هذا الميدان المبارك بعلمك أو بجهدك أو بمالك أو برأيك على قدر استطاعتك حتى تنال هذا الشرف العظيم .
الوقفة الثانية : العلم وأثره في الدعوة
الله سبحانه أمر بالدعوة إلى الله وأوجبها على هذه الأمة على كل من قدر وعلى حسب مقدار العلم الذي مع الإنسان ،قال سبحانه (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني )يوسف [106]، فالبصيرة : العلم ،و قال سبحانه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )النحل [125] فالعلم يتضمن العلم بما تدعوا إليه والعلم بحال الداعي وكلما كان العلم أغزر كانت الدعوة أقوى وأنفذ ، ولكن لا يقعدن بك هذا الأمر وتقول أنا لست من أهل العلم ، فنقول لك : ادع على قدر العلم الذي معك كما قال صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية ) ، وكن دليلاً على الخير ، ومساهماً بمالك ، ورأيك وجهدك فأنت بإذن الله من الدعاة إليه، واعلم أن أجرك عظيم كما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)
وقال صلى الله عليه وسلم (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )قال ابن القيم " وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة أهله بحيث إذا اهتدى رجل واحد بالعالم كان ذلك خيراً له من حمر النعم وهي خيارها وأشرفها عند أهلها فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس " أ.هـ وفقنا الله وإياكم لهذه النعمة العظيمة.
الوقفة الثالثة : الحكمة في الدعوة إلى الله هي كما قال ابن القيم –رحمه الله – معلقاً على قول الله (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة):"جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق ، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة ، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة ، المعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن"أ.هـ
الوقفة الرابعة : لا تنس إخلاص النية فهي الأساس في الدعوة كما قال جل وعلا (ادع إلى سبيل ربك ) لا إلى سبيل أحد غيره ، وقال في الآية الأخرى(قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله) لا إلى نفسي أو إلى مطمع من مطامع الدنيا، ومن خلصت نيته بارك الله له في جهده ووقته وظهر أثر ذلك عليه .
الوقفة الخامسة: شعارك في الدعوة إلى الله (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) ، وأيضاً (إن عليك إلا البلاغ ) ، وقوله(ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) ، وقوله (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد )
فيا من تدعوا إلى الله لا تذهب نفسك حسرات ولكن احذر من التقصير في الدعوة إلى الله والعلم والعمل ، فإن لم تجد الثمرة فلا تترك هذا الطريق فإن الهداية وإدخال الإيمان إلى القلوب ليس إليك وإنما إلى الله (إنك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) ، والنبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد .(2/82)
الوقفة السادسة : أن مهمة الدعوة إلى الله يستطيع كل إنسان أن يقوم بها كل على حسب جهده وقدرته كما سبق ولكن مهمتنا نحن أن نرسخها في قلوب الأجيال وفي نفوس الناشئة وفي عقول الناس وتكون من أولى إهتماماتهم فيا أيها المدرس الناصح وأيها المربون والمربيات والمعلمون والمعلمات ويا أئمة المساجد يا طلاب العلم أيها الموظفون لا تتركوا هذه الوظيفة وهذه المهمة لحظة واحدة من لحظات حياتكم فبها سعادتكم وعزكم ونصر دينكم وظهوره على كل الأديان ، وهنا أقف وقفة عتاب ووقفة تعجب مع ذلكم الكاتب في جريدة الوطن هداه الله الذي كتب مقالاً جرح أفئدتنا وآلم نفوسنا لما عاب على إخواننا المدرسين نصحهم وإرشادهم في المدارس وقال إننا لسنا في مكان للدعوة إلى الله فنقول يا مسلم ياعبدالله نحن بغير الدعوة إلى الله وبغير الدين لا وزن لنا بين الناس ولا عز لنا إلا بهذا الدين فوجب أن نكون كلنا دعاة إليه ،ولا خير فينا إذا لم نكن كذلك فالله الله أيها الإعلاميون اعتزوا بدينكم وانشروه وساهموا في الدعوة إليه وحث الناس على القيام بهذه العبادة العظيمة وفقنا الله وإياكم لكل ما يحبه ويرضاه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله
د. ناصر بن يحيى الحنيني
===========
قواعد الدعوة إلى الله
الحمد لله، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فصلى الله وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد،،،
من فضائل الدعوة إلى الله :
فإن الدعوة إلى الله هي أشرف الوظائف، وأفضل الأعمال، فإنها الوظيفة الأساسية للنبيين والمرسلين، والعمل الرئيسي لسائر الهداة المصلحين، وقد نص الله تبارك وتعالى على أن أحسن الناس قولًا هم الدعاة إلى الله، فقال:{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
[33]} [سورة فصلت].
كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الداعين إلى الله، العاملين بعلمهم، المعلمين لغيرهم هم أعلى الناس درجة، وأكثر الناس تأثرًا وتأثيرًا بالدين الحنيف، وأعظم الناس انتفاعًا بالغيث الذي أغاث الله به الأرض، فعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ] رواه البخاري ومسلم.
كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم مثوبة الدعاة عند الله، فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ] فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ: [أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ] فَقَالُوا: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ] فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ: [انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ] رواه البخاري ومسلم. يعني من أن تتصدق بأنفس المال .
خير مناهج الدعوة:(2/83)
ولقد رسم القرآن الكريم خير مناهج الدعوة فيما وصف للدعاة من آياته المحكمة، وفيما قص الله عن النبيين والمرسلين من طرق دعوتهم إلى الله التي تعتبر النموذج الأعلى للداعين إلى الله، وقد وضع القرآن الكريم النظام الأساسي للدعوة إلى الله تعالى إذ يقول:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...[125]}[سورة النحل]. وإذ يقول: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[108]}[سورة يوسف].
قواعد الدعوة إلى الله:
أولاً:الحكمة في الدعوة إلى الله:
فقد طلب الله من الداعي إليه أن يسلك طريق الحكمة في دعوته، والحكمة:'هي وضع الأمور في مواضعها' فاللين حيث ينفع اللين، والشدة حيث لا يجدي غيرها، فوضع اللين في موضع الشدة مضر كوضع الشدة في موضع اللين .
ومن الحكمة في الدعوة:
1- معرفة نفسيات المدعوين، ومنازلهم: فدعوة الأمي غير دعوة المتعلم، والمستقيم في الجملة غير المنحرف، والمعاند غير خالي الذهن، وسادة القوم غير عامتهم. وهذه القاعدة في الدعوة من أعظم أسباب نجاحها؛ ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أول الأمر سرًا ثلاث سنوات.
2- اغتنام الفرص الملائمة للدعوة: ومن أروع الأمثلة على ذلك ما ذكر الله في قصة يوسف عليه السلام مع صاحبه في السجن إذ يقول: { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[36]}[سورة يوسف]. فهذان السجينان رأى كل واحد منهما رؤيا، وهي رؤيا غريبة تستدعي الاهتمام لذلك بحثًا عن معبر لها، ولم يختارا غير يوسف الصديق، وكان الذي حملهما على اختياره دون غيره هو ما رأياه عليه من حسن السلوك، والإحسان في القول والعمل، وما على وجهه من آثار الصلاح يدل على ذلك كله قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
وحينما رأى يوسف عليه السلام حاجاتهما الماسة لتعبير هذه الرؤيا العجيبة، ورأى كذلك من حسن ظنهما فيه؛ اغتنم هذه الفرصة لدعوتهم إلى الله، وكان من حكمته عليه السلام أن يبدأ قبل دعوتهما إلى الله، وقبل تفسير الرؤيا لهما بزيادة تعريفها بنفسه، وتشويقهما إلى حديثه، وبيان نعمة الله على أهل التوحيد، فقال:{ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي...[37]} ثم بين لهما أن الشرك بالله سبب لكل شر، وأن توحيد الله سبب لكل خير، فقال:{...إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ[37] وأتبعت ملة وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ[38]} ثم بعد كل هذه التمهيدات العظيمة جرد الدعوة إلى التوحيد فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[سورة يوسف].
وبعد إقامة هذه الحجة على هذه الدعوة العظيمة، فسّر لكل واحد من صاحبي سجنه رؤياه في عبارة موجزة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ[41]}[سورة يوسف].(2/84)
ومن اغتنام الفرص في الدعوة كذلك: أن يتخول الدعاة المدعوين بالموعظة الحسنة في غير إكثار ممل: فإن كثرة الكلام تنسيه وتمله، ولذلك كان رسول الله يتخول أصحابه بالموعظة الحسنة مخافة السآمة عليهم، مع أن حديثه كان أعذب حديث يستمعون إليه، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم كأن قطع السكر تتناثر من فمه صلى الله عليه وسلم، ومع ذاك كله، فقد كان لا يكثر على أصحابه وإنما يغتنم الفرصة، فيتخولهم بالموعظة الحسنة مخافة إملالهم، فَعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: ' أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا' رواه البخاري ومسلم.
كما أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قصر الخطبة يوم الجمعة من فقه الرجل، فقد روى مسلم في صحيحة من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ].
ولقد كان السامع له صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يعد كلامه، ومع ذلك إذا تكلم أعاد الكلمة ثلاثًا ليفهم عنه صلى الله عليه وسلم.
3- ملاحظة أقدار الناس، وعدم التسرع في الكلام حتى تحين فرصة قد تكون الكلمة فيها خيرًا من كثير من الكلام.
4-مراعاة بيئة كل مدعو، وضرب الأمثال النافعة له من واقع بيئته، ولفت نظر المدعوين إلى نعم الله عليهم، وإحسانه إليهم دون قسوة أو غلظة، بل يزن الكلام وزنًا ويقدره تقديرًا قبل أن يتكلم به، ثم يستشعر الداعية في نفسه موقف المدعو وكأنه هو، وأن مراده من دعوته إنما هو سعادته في الدنيا والآخرة.
5- ومن الحكمة كذلك: تلوينها فالسرية حين يغلب على الظن أن تنفع السرية والجهرية والليلية حين تواتي الليلية والنهارية حين تواتي النهارية: وفي ذلك كله يذكر الله حكمة نوح عليه السلام في دعوته إذ يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا[5]فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا[6] وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا[7]ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا[8]ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا[9]فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا[10]يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا[11]وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[12]}[سورة نوح].
6- أن يبدأ بالترغيب والتذكير بنعم الله على المطيعين: وفي ذلك يقول تبارك وتعالى في قصة نوح عليه السلام: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا[10]يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا[11]وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[12]}[سورة نوح].
ولذلك كله رأينا مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه يقول لآل فرعون لما هددوا موسى عليه السلام بالقتل، قال هذا الداعية الصالح مع كتمانه إيمانه:{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ...} ثم يقول زيادة في التكتم: {...وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ...} فقد قدم الكلام على احتمال كذبه على الكلام على احتمال صدقه زيادة في أمر كتمانه أمره، ثم كان من أروع طرق جداله أن يستدل على صدقة بسلامة سلوكه وحسن هديه ولذلك قال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ[28]} [سورة غافر].(2/85)
وكأنه يقول: موسى صادق؛ لأنه مهتد، ولو كان كاذبًا لم يكن مهتديًا، فاستدل باهتدائه على صدقة، ثم قال: { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[29] وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ[30]مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ[31]وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ[32]يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ[33]}[سورة غافر].
ولما رأى أن قومه مصرون على عداوة رسول الله، والمحاربة لدين الله { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ[36]أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا...[37]} [سورة غافر].
لما قال فرعون هذه المقالة لم يجد هذا المؤمن حيلة من إعلان إيمانه، وليكن ما يكون، وفي ذلك يقول الله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ[38]يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ[39]}[سورة غافر].
ثم يقول: { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ[41]تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ[42]لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ[43]فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[44]}[سورة غافر].
أما القاعدة الثانية من قواعد الدعوة إلى الله: فهي سلوك الموعظة الحسنة: والأقوال الرقيقة، والعبارات المؤثرة، وقد اشتملت الأمثلة التي ذكرت الكثير منها.
أما القاعدة الثالثة: فهي الجدال بالتي هي أحسن: فيبتعد الداعية عن الأقوال الشنيعة، والألفاظ البشعة، بل يستدل بالفعل عندما ينفع الاستدلال بالفعل، وبالنقل عندما يرى الاستدلال بالنقل، ويلفت نظر المدعوين إلى آيات الله الكونية، ويحرص أشد الحرص على الخصم بإقراره، وإلى ذلك كله يشير الله تبارك وتعالى؛ إذ يقول: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[24]قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ[25]قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ[26]قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[27]}[سورة سبأ].
ومن أعظم قواعد الدعوة الشاملة للقواعد الثلاث المتقدمة: أن يكون الداعي على بصيرة: وبصيرة الداعية تسلك به أحسن السبل وتهديه أقوم الطرق.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن الدعوة إلى الله: قولًا، وعملًا، وسلوكًا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث داعيًا أمره بأحسن طرقها، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: [بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا]. كما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا] رواه البخاري ومسلم(2/86)
وكان من أمثلة ذلك عمليًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ] فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: [إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ-أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-. وفي رواية للترمذي وغيره: [أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ] ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ] .
ومن أعظم أسباب نجاح الدعاة: أن يتحلوا بالصبر: ولذلك قال لقمان لابنه وهو يعظه:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[13]}[سورة لقمان].
كما أن من أعظم أسباب نجاح الدعاة كذلك: أن يكونوا عاملين بما يدعون الناس إليه، منتهين عما ينهون الناس عنه: وقد وصف الله الذي يخالف قوله فعله بأنه ممقوت، وفي ذلك يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف].
ولله در الشاعر إذ يقول:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
ابدا بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يسمع ما تقول ويهتدى بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
ولذلك قال شعيب عليه السلام لقومه:{...وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88]}[سورة هود]. والحمد لله أولاً وآخرًا.
من محاضرة 'طرق الدعوة إلى الله' للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
==============
الدعوة بين تنويع الأساليب وتمييع الحقائق
إن مما نحتاج إلى إتقانه فن مخاطبة الناس على اختلاف مشاربهم، وتفاوت مستوياتهم، وتنوع انتماءاتهم، وذلك من حيث:
- اختيار المسائل والقضايا المناسبة.
-اغتنام الفرص والأوقات الملائمة.
-اعتبار حال المخاطبين من جهة تفاعلهم، وتقبلهم لما يخاطبون به.
-التعمق في معرفة قدرات عقولهم على تفهم ما يلقى عليهم، وما يراد منهم فهمه وتبنيه.
وغير ذلك من الاعتبارات المهمة، التي لا ينبغي لكل من أراد أن يوصل كلمته، ويجعلها مؤثرة مؤدية للغرض الذي يرنو إليه، ويسعى لتحقيقه أن يهملها ويهمشها، بل عليه أن يكون على دراية تامة وإحاطة قوية بحال من يجتهد لإيصال صوته إليهم، والتأثير به عليهم، خاصة من تصدى لبيان الحق والهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والسعي لإخراج الناس من ظلمات الكفر، أو الجهل، أو البدع والضلال إلى نور الإسلام والسنة والصراط المستقيم .
فكثيرًا ما يكون المرء على معرفة وعلم بما يدعو الناس إليه، ولكن هذا - مع حسنه - لا يكفي وحده، ولا يغني بمفرده، حتى يتقن صاحبه الدور الثاني المهم، وهو القدرة على إيصال هذا الحق إلى الناس بالكيفية المناسبة، والدخول إليهم به من الباب الصحيح الذي يستقبلونه ويتقبلونه .
فالخطوة الأولى في فشل الداعية، أو المربي، أو المعلم، أو المخاطِب بصورة عامة تظهر عندما يكون همه محصورًا في إبداء ما في صدره، وإخراجه للناس، وإيصاله إليهم بأي طريقة كانت، ومن غير مراعاة للظروف المؤثرة إيجابًا أو سلبًا، ومن غير دراية، أو اهتمام بقدرات المخاطبين على تفهم القضية، أو المسألة التي سيوصلها لهم .
فتراه يخاطبهم كلهم بطريقة واحدة، وكيفية متساوية، وبنفس الأسلوب، سواء عنده العالم والجاهل، والمسلم والكافر، وقديم العهد بالالتزام وحديثه، والمبتدع الضال والمتبع السني، والرجل والمرأة.(2/87)
ولسنا نقصد بمراعاة نفوس الناس، واعتبار أحوالهم وعقولهم أن تميع القضايا، أو تمطط المسائل الشرعية، وتحرف وتغير لأجل إقناع طائفة من الناس مثلًا بأن الإسلام دين اليسر والتسهيل، أو نحو ذلك، فإن ثمة فرقًا بين تحريف الحق وإخضاعه لأهواء الناس، وبين إبقائه على حاله واضحًا جليًا محددًا كما أنزله الله، وبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن يختار 'الأسلوب المناسب' والوقت المناسب لإيصال ذلك الحق ' كما هو في الشرع ' للناس .
فكثيرًا ما يحدث خلط في هذه ا لقضية، ويقع فيها اللبس أو التلبيس، فتزور الحقائق الشرعية، وتغير باسم: سماحة الإسلام ورفقه ويسره، والحكمة في الدعوة إليه.. ونحو ذلك، وهذه الأمور صحيحة في نفسها، ولكن تفسيرها بهذه الكيفية ليس على وجهه الصحيح .
فالإسلام دين الرفق.. نعم ودين السماحة، ودين اليسر، ورفع الحرج، ولكن ليس معنى ذلك أن نأتي إلى حقائقه الثابتة، ومسائله البينة، وقضاياه الجلية؛ ونصرفها عن مدلولها الشرعي الصريح الصحيح، ونؤول معناها، بل نحرفه بغية إقناع الناس بها.
فنحن بهذا العمل – وفي حقيقة أمرنا - لا نقنع الناس بحقائق الإسلام التي أنزلها الله، والتي أراد منهم الإيمان بها، والالتزام بتعاليمها، ولكننا تركنا 'حقائق الإسلام ' الصحيحة جانبًا، وقدمنا لهم ما تشتهيه أنفسهم، وتهواه قلوبهم بـ 'اسم الإسلام' .
وليس هذا هو موطن الحكمة في الدعوة إلى الله، ولكن الحكمة، وحسن التبليغ أن نتقن إيصال الحق البين دون خدش ولا تحريف إلى الناس، فالحكمة إنما تكون في الأسلوب والطريقة، والكيفية والوسيلة التي نوصل بها 'الحق'، ولهذا قال الله سبحانه:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ... [125]}[سورة النحل] .
فالدعوة إنما تكون إلى:{... سَبِيلِ رَبِّكَ... } التي هي الإسلام الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ... [153]}[سورة الأنعام] . وكما قال عز وجل:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[6]صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[7]}[سورة الفاتحة].
وما أجمل ما كتبه الأستاذ سيد قطب رحمه الله حيث يقول:'إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله، والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة؛ فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه' [4/2201الظلال].
والحقيقة إن تحريف مسائل الشرع – ولو كانت في عين البعض صغيرة – أمر في غاية الخطورة، وهو في واقع أمره من الكذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا، فإن الشارع قد جوز للعالم، أو الداعية أن يكتم بعض العلم لمصلحة معتبرة يراها، وله في بعض الأحيان السعة في هذا الأمر .
ولكنه لم يجوز لهم بحال أن يغيروا أو يبدلوا شيئا مما بينه وقرره الشرع تحت أي دعوى ولا اعتبار لما يتوهمه البعض من المصالح الموهومة المتعلقة بذلك، بل جاء الوعيد الشديد، والتهديد الأكيد الذي يزجر القلوب عن ذلك أشد الزجر، ويردعها عنه أعظم الردع، كل ذلك إبقاء للحق على نصاعته، وحفظا له، وصيانة لمصادره .
فقد بوب البخاري رحمه الله قائلًا: [ بَاب: مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا ، وَقَالَ عَلِيٌّ:' حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ'؟] . وساق تحته حديث معاذ رضي الله عنه عندما كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه :'مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً' . رواه مسلم في مقدمة صحيحه.. هذا فيما يتعلق بترك بيان بعض العلم؛ جلبًا لمصلحة شرعية راجحة، أو درءًا لمفسدة كالتي ذكرها ابن مسعود رضي الله عنه .
أما تحريف الحق وتغييره والتصرف فيه، فهذا ما لا يجوز بحال، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه الذي أغرق فيه اليهود، ورفعوا لواءه قاتلهم الله أنى يؤفكون.
فينبغي التفريق بين:
-سعة الأمر في كيفية الدعوة، واختيار الأسلوب المناسب، والوقت الملائم.
- وبين حفظ ما يدعو المسلمُ إليه، وعدم خدشه، وتمييعه.
ونضرب لذلك مثلًا يتضح به المراد أكثر، ويتجلي به المقصود من واقع توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مثل هذه المسائل:(2/88)
فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ بِهِمْ الْبَقَرَةَ قَالَ فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَتَجَوَّزْتُ فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ ثَلَاثًا اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَنَحْوَهَا] رواه البخاري ومسلم.
فالمفسدة التي وقعت لهذا الرجل، وهي نفوره من الصلاة، وتركه الجماعة، وانفصاله عن إمامه لم يهملها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يغض الطرف عنها، بل اعتنى بها أشد الاعتناء، وأولاها بالغ الاهتمام، ولكنه لم يعالجها بشيء يقدح في حقيقة الصلاة الشرعية المأمور بها، فلم يأمر معاذا بترك شيء من واجبات الصلاة، أو أركانها، أو حتى مستحباتها بل أرشده إلى الإبقاء على الحقيقة الشرعية، والهيئة الصحيحة مع إقامتها بما يتناسب مع من خلفه من الضعفة، وذوي الحاجات، فالصلاة بقيت صلاة على حالها بصورتها وهيئتها.
وهكذا.. ينبغي أن تبقى كل الحقائق الشرعية التي ندعو الناس إليها، ونعلمهم إياها، ولكن نقدمها بالأسلوب المرتجى أن يكون سببًا في تقبلهم لها، واقتناعهم بها .
أما العبث في تلك الحقائق والتصرف بها النقص والزيادة فيها من أجل الناس؛ فهذا ما لا يقره الشرع، وهي هفوة عظيمة، وزلة جسيمة في حقه .
وأوضح من حديث معاذ رضي الله عنه في إيضاح هذه المسألة المهمة حديثُ الأعرابي الذي بال في المسجد:
فعن أنس رضي الله عنه قال:جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ. رواه البخاري ومسلم. وقال لأصحابه رضوان الله عليهم لما زجروا الأعرابي وشددوا عليه: [ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ] رواه البخاري.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أقر أصحابه على أن ما فعله هذا الأعرابي منكر ينبغي تغييره وإزلته، ولكن نهاهم عن الأسلوب والطريقة التي أرادوا بها تغيير ذلك المنكر، وهي زجرهم وتناولهم للأعرابي، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم الكيفية الصحيحة والأسلوب الأمثل القويم في إزالة ما رأوه من ذلك المنكر، ولهذا ترك الأعرابي حتى فرغ من بوله فدعاه وقال له: [إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ]رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم معلمًا لأصحابه، ومرشدًا وموجهًا لهم لما وقع منهم ما وقع مع هذا الأعرابي: [ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ] رواه البخاري.
والصحابة إنما وقع منهم الخطأ في هذه الحادثة في الكيفية التي أرادوا بها تغيير ما رأوه من المنكر بمعنى أن ' التعسير ' كان في الأسلوب الذي اتخذوه لذلك، أما كون ما فعله الأعرابي من البول في المسجد منكرًا فهذا شيء لم ينكره عليهم صلى الله عليه وسلم بل أقرهم عليه من خلال تعليمه للأعرابي، وإراقة الماء على بوله، وهذه القصة تشير إلى مثيلاتها وتبين حكم نظيراتها، وقد استطردنا في هذه القضية؛ لأهميتها، وبسبب الخلط الواقع فيها، وسوء فهم الكثيرين لها .
وكما ذكرنا فإن هم الخطيب، أو الداعية، أو الكاتب ينبغي أن لا يكون محصورًا في إيصال ما عنده فحسب دون اعتناء وحرص لفهم المخاطبين لقضيته، واستيعابهم لمقاصده ومسائله، فكثيرا ما تسمع:
'عليك بالبلاغ، ولا يهمك مَن قَبِل ممن لم يقبل'، وهذه الكلمة تحتمل معنى صحيحًا – وإن كان ليس المتبادر إلى الأذهان – وتحتمل معنى خاطئًا:(2/89)
أما المعنى الصحيح: فهو أن المسلم ينبغي أن تشد همته نحو الدعوة إلى الله، وتبليغ دينه وإيصاله للناس، ويبذل جهده في اختيار الأساليب وتنويعها بحسب أحوال من يخاطبهم، والصبر عليهم في تفهيمهم الحق، ثم بعد ذلك من نكص على عقبيه، وأعرض، فلا يحمل الداعية همّه، ولا يحرف الحق لأجله، أو يشوه صورته، ويمسخ شخصه استعطافًا لقلبه، فيكون معنى العبارة آنفة الذكر من نحو قوله تعالى:{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ[21]لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ[22]}[سورة الغاشية]. وغيرها من الآيات .
أما المعنى السقيم لتلك العبارة: فهو أن الداعية لا يعتني بأساليب الدعوة، ولا يهتم بوسائلها، ولا ينظر إلى حال من يخاطبهم، ولا يعتبر أحوالهم وعقولهم ومستوياتهم، إنما يقول ما يريد، ويفصح عما يعتقد بكيفية واحدة، وطريقة ثابتة في أي مجلس كان، ومع أي قوم كانوا، ولا يهمه قبول الناس لما يقول، فإذا ما أعرض الناس عن تقبلهم لما عنده ' بسبب أسلوبه في إيصال الحق ' فإنه لا يهتم بذلك، ولا يعبأ، ولا يصلح من حاله، أو يغير من شأنه، إنما يقول:' علينا أن نقول ولا يهمنا القبول'، ولا شك في خطأ هذه الفكرة، وانحرافها عن الجادة .
فإن المسلم الداعية معني ببذل الجهد واستفراغ الوسع في اختيار 'الأسلوب أو الطريقة' التي يبلغ بها دعوته بما يؤدي الغرض، ويوصل إلى المقصد وهو ' هداية الناس ' ودخولهم في ' سبيل الله '، فلا يصح أن يكون المسلم داعية إلى الحق بنيته وقصده، وصادًا عنه بأسلوبه وطريقته .
والبون شاسع بين:
- أن يكون صدود الناس، وعدم قبولهم للحق بسبب إعراضهم، أو استكبارهم، وطمس الله على قلوبهم.
- وبين أن نكون سببًا في التنفير من الحق لفساد طرق الدعوة، أو بسبب فقدان القدرة على تبليغه.
ولأن إفهام الناس الحق، ومحاولة إيصالهم إلى معانيه بالوسائل الصحيحة المناسبة لهم أمرٌ ذو أهمية أرسل الله كل رسول بلسان قومه ليبين لهم، كما قال عز وجل:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[4]}[سورة إبراهيم].
قال سيد قطب رحمه الله عند هذه الآية:'وهذه نعمة شاملة للبشر في كل رسالة فلكي يتمكن الرسول من إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم لم يكن بد من أن يرسل بلغتهم، ليبين لهم وليفهموا عنه فتتم الغاية من الرسالة ...' .
ولا أدل على الاعتناء بطرق دعوة الناس إلى الحق مما تضمنه القرآن الكريم – وهو أساس الدعوة وقطبها – من الأساليب المتنوعة من الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والإنذار والتبشير، والوعظ والتذكير، ومخاطبة العقول بالحجج العقلية المفحمة القاطعة، والأمر بالتفكر في الآيات الكونية المنصوبة القائمة، والدعوة إلى مقارعة الحجة والبرهان بمثلها، والمجادلة بالتي هي أحسن، وضرب الأمثال، وتصريف الآيات للناس ليفهموا الحق ويعقلوه، وقد جاء ذلك مبينًا في آيات لا تحصى.
والمقصود: أن القرآن هو أكمل صور الوعظ، وأتم أحوال التذكير، وهو متضمن لكافة أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية أن يتمرس فيها، ويتقنها، ويبذل جهده في اختيار أمثلها حسب أحوال من يخاطبهم، ودون إهمال لقدرات فَهْمِ وخلفيات وعلائق من يحب هدايتهم، فإذا اجتهد في ذلك، وسدد وقارب، فأعرض الناس وتولوا؛ تلا قول الله:{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ... [56]}[سورة القصص].
ولا شك أن الموضوع أعمق مما دوناه هنا، وهو بحاجة إلى تقصٍ يكشف عن مكنونه، وفهم يوصل إلى لب مضمونه، ولعل هناك من ينشط لذلك، والله الهادي إلى سواء السبيل .
من:' الدعوة بين تنويع الأساليب وتمييع الحقائق' للشيخ/حسن محمد قائد
==============
فن التوجيه
عناصر الدعوة الإسلامية ...
بعد الحديث عن حكم الدعوة الإسلامية وأن وجوبها كفائي، وأن ثمة فوارق بين الدعوة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتحدث هنا عن أساليب الدعوة أو الطرق الصحيحة لممارسة الدعوة، أو ما يمكن أن أسميه بالعناصر الأساسية لإيصال الإسلام إلى الناس ودعوتهم إليه، ولا شك في أن القرآن الكريم ما كان له أن يهمل تلك المسألة، لذلك بين القرآن العناصر الأساسية والهامة للدعوة الإسلامية بآيات جلية المعنى صريحة العبارة.
قال تبارك وتعالى:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة، والموعظة الحسنة، وجادله بالتي هي أحسن. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (النمل: 125).
وقوله:( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (يوسف: 108).
فعناصر الدعوة كما وردت في الآيتين الشريفتين:
1- الحكمة. 2- الموعظة الحسنة. 3- الجدال الحسن 4- البصيرة.(2/90)
وهذه العناصر الواردة في القرآن الكريم نمرّ عليها أثناء التلاوة مرور الكرام، أو أن نستشهد بها في كيفية الدعوة وسلامتها إجمالاً دون الوقوف والتأمل في كل عنصر من تلك العناصر الأربعة، بل إنني أذهب إلى أكثر من الوقوف والتأمل وأبعد من ذلك.
أذهب إلى ضرورة دراسة كل عنصر من تلك العناصر دراسة موضوعية هادفة، وهذا ما قصدت بيانه.
أولاً: الحكمة
(الحكمة) في اللغة لفظ مشتق من (حكم) وهو المنع بقصد الإصلاح والضبط، لذلك سُمي لجام الدابة (حَكَمَة) لمنعها من النفور والعصيان.
فيقال حكمت الدابة أي منعتها من فعل لا أريده.
ومن هذا المعنى قيل (حكمت السفينة) أي ربطها لأمنعها من الإنسياب في الماء.
وقال أحدهم:(أبني حنفية أحكِموا سفهاءكم) أي امنعوا سفهاءكم(1).
وقد توسع استعمال اللفظ واشتق منه ألفاظاً متعددة لمعانٍ أخرى نحو قولك: أحكمت الصنعة أي أتقنتها، وحكمت السد أتقنته ومنعت تسرب الماء منه، وأحكم الله آياته أتقنها ومنع وقوع الخلل والاختلاف فيها.
والحكم هو القول الفصل المانع من الاختلاف والخصومة. وتارة ينصف بالعدل فنقول حكم عادل وتارة بالظلم فنقول حكم ظالم.
واشتق منها اسم الفاعل والمفعول والمصدر فنقول: حاكم ومحكوم وحكم وحكومة.
ومنها اشتق كلمة (حِكْمَة) وهي القول المحكم المتقن الذي لا يتسرب إليه خلل من كذب أو خطأ أو إبهام أو غموض أو غير ذلك.
وقد استعملت العرب لفظ الحكمة للطبيب لأنه يمنع المرض، وليس لأن الطبيب هو الحكيم أو أن الحكمة منحصرة في الطب. وإنما لأن الطب كان أحد مصاديق الحكمة واتسع مفهوم الحكمة حتى صار مفهوماً كلياً يندرج تحته مفاهيم متعددة، فكل عمل أو قول تتطابق مع الواقع وامتنع عليه النقد أو الرد والمعارضة كان عملاً أو قولاً حكيماً. فنقول قول حكيم، وسلوك حكيم، ورأي حكيم وهكذا.. لذلك كان الحكم أعم من الحكمة لأن الحكم يتصف بالظلم والعدل والحكمة لا تستعمل لا عند العدل فقط.
فنقول حكم بالحكمة أي فصل بين الناس بما يمنع الخلل، والنقص، والنقد، والمعارضة.. وهذا معنى قوله تعالى:( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) أي ألهمناه الحقيقة، والقدرة على بيانها وإظهارها بالألفاظ والجمل الفاصلة التي لا إبهام فيها وغموض.
فالقول الفاصل الذي لا توجد فيه ثغرة أو جهة ضعف تمنع من قبوله قول حكيم.
وقول الراغب الأصفهاني في )مفردات القرآن( مادة (حكم) بأن الحكمة هي«إيصال الحق بالعلم والعقل» ليس تعريفاً لمطلق الحكمة وإنما تعريف للحكمة المطلوبة في الدعوة الإسلامية.
وعرّفها ابن قيم الجوزي في )هامش التفسير القيم( ص344 بأن الحكمة هي«وضع الشيء في موضعه اللائق به».
وعرفها السيد الطباطبائي في تفسير الآية:( أدعو إلى سبيل ربك بالحكمة..) بأنها «الحجة التي تنتج الحق الذي لا مرية فيه ولا وهن ولا إبهام» (يراجع تفسير الآية في تفسير الميزان).
والملاحظ أن هذه التعاريف لجانب من جوانب الحكمة وليسا تعريفاً لمفهومها الكلي، ولكن كما ذكرت يمكن أن تصلح تعاريف للحكمة في الدعوة الإسلامية.
فإن مراعاة أحوال المدعو إلى الإسلام من الحكمة، أحواله المادية، والنفسية، والفكرية، والاجتماعية حتى أحواله العارضة فإن الحكمة مراعاة تلك الأحوال، وعدم مراعاتها ليس من الحكمة بل من الحماقة التي لا ينتج عنها سوى تنفير المدعو.
والقدرة على استعمال الحجة والبرهان من الحكمة فإن استعمال الدليل في غير موضعه، أو الحجة حتى لو كانت صحيحة في غير مناسبتها ليس من الحكمة.
اختيار أولويات المواضيع من الحكمة، واختيار الموضوع غير المناسب للمقام كذلك ليس من الحكمة.
كما أن دراسة علم الدعوة ومتطلباته من الحكمة في الدعوة، والارتجالية فيها خلاف الحكمة.
ثانياً: الموعظة الحسنة
الموعظة الحسنة عنصر هام من عناصر الدعوة الإسلامية وهي العلامة على مصداقية الداعية أو عدم مصداقيته، وبعبارة أخرى هي العلامة الفاصلة بين الداعية إلى الله الذي لا غاية له سوى الله، وبين الداعية إلى نفسه أو إلى شيء آخر غير الله تبارك وتعالى، لذلك وصفها الله سبحانه وتعالى (الموعظة الحسنة).
لأن الداعية الإسلامي لا يريد من الناس جزاءاً ولا شكوراً بل كل ما يريده منهم هو عودتهم إلى الله، وعبادتهم إياه.
والموعظة كما عرّفها الراغب الأصفهاني في )مفردات القرآن( هي «زجر مقترن بتخويف».
ونقل عن الخليل بن أحمد أن الموعظة هي «التذكير بالخير فيما يرق له القلب».
والواقعان كلاً من المعنيين صحيح فالزجر المقترن بتخويف يسمى موعظة، كما في قوله تعالى:( إني أعظك أن تكون من الجاهلين) (هود: 46).
وقوله تعالى:( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن..) (النساء: 34).
فمعنى الوعظ في الآيتين هو الزجر المقترن بتخويف.
وكذلك التذكير بالخير بما يرق له القلب ورد في قوله تعالى:( يعظكم لعلكم تتذكرون) (النحل: 60). أي يذكركم لعلكم تتذكرون.
ولكن المعنى الأول هو الأشهر في استعمال لفظ الموعظة.(2/91)
وأستطيع أن أعرف الموعظة الحسنة بأنها هي النصيحة الهادفة إلى الخير، والدّالة عليه؛ وهذا هو المعنى العام لكلمة موعظة، فالزجر موعظة ولكن الموعظة ليست في كل معانيها زجراً فقد تستعمل كلمة موعظة بقدر الأمر المستتبع للخير كما في قوله تعالى:( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى) (سبأ: 46).
بمعنى قل إنما آمركم بأن تفعلوا واحدة من اثنتين أن تقوموا لله مثنى أو أفراداً.
والزجر أو الأمر أو التذكير أو غير ذلك مما يستتبع شيئاً ما يسمى نصيحة فإن كان المستتبع خيراً كانت موعظة حسنة وإن كان المستتبع شراً كانت الموعظة سيئة.
وقد وردت كلمة موعظة في القرآن بمعاني متعددة، منها على سبيل المثال، قوله تعالى:( فاعرض عنهم وعظهم) (النساء: 63) أي وحذّرهم وخوفهم.
وقوله تعالى:( يعظكم الله أن تعودوا لمثله إن كنتم مؤمنين) (النور: 117). أي ينهاكم ويحذركم.
ويمكن بعد ما تقدم أن نضع تعريفاً للموعظة الحسنة المقصودة في قوله تعالى:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) بأنها هي القول البليغ اللين الهادئ المتضمن لتخويف وزجر مع عدم التصريح بالزجر والتخويف أو الأمر أو التذكير، كالأمر بفعل ما يستتبع خيراً للفاعل أو التذكير بعاقبة الخير للأخيار أو الشر للأشرار بقصد الحث على فعل الخير وترك الشر.
ثالثاً: الجدال بالتي هي أحسن (الجدال الحسن)
والجدال كالموعظة دليلٌ وعلامة على حسن النية أو سوء النية عند الداعية، ولكنها في الجدال أوضح وأكثر دلالة على النية، وذلك لأن الجدال تباري مع الخصم وتبادل حجج لإثبات كل واحد صحة ما هو عليه. وهنا مكمن الخطورة، أو الشعرة الفاصلة بين النية الحسنة في الجدال والنية السيئة فيه. لأن المجادل يبحث عن النصر والتفوق في الجدال. فإن كان الجدال انتصاراً للذات (للأنا) كانت النية سيئة وإن كان الانتصار لله وإحقاق الحق كانت النية صالحة.
فقد يجادل الداعية بقصد الدعوة إلى الإسلام، وفي خضم الجدال والخصام الحواري يتحول القصد إلى سعي لإثبات التفوق الشخصي والمصداقية الأنانية. وبعبارة أخرى يتحول الجدال من السعي لإثبات صحة الإسلام وأحقيته في الاتباع إلى السعي لإثبات أن المجادل على حق وخصمه على باطل. وهنا يكون الجدال حول أمر شخصي وليس جدالاً موضوعياً هادفاً.
وهذا النوع من الجدال لا يصل بالمتجادلين إلا إلى العداء والتخاصم والتنازع لأنه ليس لله ولا لإحقاق حق، وإبطال باطل. وهو النوع الذي نهى الله تبارك وتعالى عنه في قوله تعالى:( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (البقرة: 197).
ويستطيع المرء أن يميز بين الجدال الحسن الذي لله ونصرة الحق، وبين الجدال السيء الذي للنفس ونصرة (الأنا) أو (النحن).
فالأول من أهم علاماته هو أن المجادل لا يرفض الحق إذا جاء من خصمه ويسلم له ويذعن إليه لأن الوصول إلى الحق هو الهدف فمتى وصلنا إليه سلمنا به.
ومن علاماته أيضاً عدم الخروج عن موضوعية الحوار.
ومن علاماته أيضاً أنه إذا ما وصل المتجادلون إلى مرحلة لا يسلم فيها أحد للآخر ينفصلوا عن وئام واحترام وعلى أمل مواصلة الحوار فلعل كل منهم كان عاجزاً في إثبات ما هو عليه.
وأما الجدال الباطل؛ فن من أبرز علاماته هو رفض رأي الخصم شكلاً وموضعاً وابتداءً حتى ولو كان بداخله يؤمن أنه حق لا شك فيه. لن الهدف في هذا الجدال ليس الوصول إلى الحق بل هو اكتساب انتصارات ذاتية. «أنا أسكتّ فلاناً» «أنا أفحمت علاناً» «أنا أهنت بكراً»... وهكذا.
فـ(الأنا) هي البداية وهي النهاية، وهي الموضوع وهي المحمول، والحق والإسلام لا ناقة له في الجدال ولا جمل.
ومن علاماته الخروج عن الموضوعية العلمية في الحوار إلى أمور شخصية وكشف عورات وتقاذف إهانات، ومن علاماته أيضاً الوصول في النهاية إلى حد العداء والرمي بالقبيح والقذف بالمنكرات، والتوهين بالشتم والسباب.
ولكي نصل إلى مثالية في الجدال ونحقق معنى الجدال الحسن الذي أمرنا الله تبارك وتعالى باتباعه كأسلوب في الدعوة إلى الإسلام، يجدر بنا أن نعرف معنى الجدال ومقوماته.
معنى الجدال:
الجدال في اللغة هو وضع الشيء على الشيء إذا كان من جنسه، فتقول جدلت الحبل أي وضعت بعضه على بعض حتى صار مجدولاً.
ونقول: جدلت المرأة شعرها أي وضعت بعضه على بعض فصار ضفيرة، ومنه أخذ جدول الماء إذ تعلو أمواجه بعضها على بعض.
وقد عرّفه الراغب الأصفهاني في المفردات مادة (جدل):«الجدال هو المفاوضة على سبيل المنازعة من جدلت الحبل أي أحكمت فتله». وهذا التعريف لا يبعد كثيراً عن معنى الجدال، إلا أنه يمكن لي أن أقرب المعنى بقولي «الجدال هو مراجعة القول بإعلاء بعضه على بعض على سبيل الغلبة» وبعبارة أخرى«وهو تبادل الحجج والبراهين في أسلوب حوار على سبيل تفنيد أحدهم قول وحجج الآخر وتثبيت قوله».(2/92)
والجدال لا يبعد أن نسميه حواراً بزيادة قصد الغلبة، نحو قوله تبارك وتعالى:( فقال لصاحبه وهو يحاور أنا اكثر منك مالاً وأعزّ نفراً) (الكهف: 34)... الآيات.
ويتنوّع الجدال إلى حسن وسيء باعتبار هدفه وغايته، وباعتبار أسلوبه وطريقته.
فالجدال الهادف إلى إحياء عصبيات عرقية أو عنصرية أو طائفية، أو غرضه التعالي، والتفاضل الشخصي والأناني، أو بقصد الشهرة والتظاهر، جدال سيء. حتى لو كانت الوسيلة جيدة وعلمية.
وكذلك إذا كان أسلوبه الطعن والمغالطة والتجريح وكشف العورات والكذب جدال سيء حتى لو كانت الغاية سامية ونبيلة، فلا الوسيلة تبرر الغاية، ولا الغاية تبرر الوسيلة في الجدال السيء وأما الجدال الحسن فهو الذي يكون هدفه الأول والأخير هو الحق ولا سوى الحق والوصول إلى الحقيقة وليس إلى غيرها مع مراعاة الوسيلة العلمية الصالحة الشريفة.
مقومات الجدال الحسن
إن للجدال الحسن مقوماته التي يجب مراعاتها من اجل الوصول إلى المثالية فيه، بحفظ التوازن النفسي والمنطقي ليحول دون الخروج عن الموضوعية والابتعاد عن الهدف المنشود، ويمكننا أن ننوّع مقومات الجدال الحسن إلى: مقومات نفسية، مقومات منطقية أو جدلية.
أولاً: المقومات النفسية.
إن أهم مقوم نفسي للوصول بالجدال إلى أسمى أهدافه هو أن يضع المجادل هدف المجادلة وهو الإسلام أمام عينه بحيث لا يحيد عنه أبداً، ولا يتحول عنه بتاتاً، حتى لا يدع مجالاً لهوى النفس تحت ضغط المجادلة أن تنتصر لنفسها وتنسى هدفها الصحيح.
ثانياً: أن ينظر المجادل الإسلامي إلى خصمه باحترام، وتقدير لعقله ورأيه، ليقطع الطريق أمام نفسه الإمارة بالسوء أن تتكبر أو تتعالى.
ثالثاً: أن يلزم نفسه بخلق الإسلام الذي ينهى عن فحشاء القول ومُنكِر السلوك.
رابعاً: أن يبتعد عن الذاتية والأنانية والانتصار للذات.
وأما المقومات الجدلية أو المنطقية، فكثيرة أهمها:
أولاً: حسن الاستدلال وهو أن يكون الدليل ثابتاً ومباشراً على ما يريد الاستدلال عليه فلا يكون الدليل لشيء والموضوع شيء آخر.
وأن يكون مباشر أي دليل ليس بينه وبين الموضوع واسطة أو أن يكون بعيداً عن الموضوع.
وأن يكون الدليل مما يؤمن به الطرف الثاني من المجادلة، وإلا لما كان للدليل أثر في نفس المجادَل.
ثانياً: أن يكون البرهان صحيحاً نتج عن انضمام مقدمتين صحيحتين في الواقع الملموس للمجادل.
ثالثاً: أن يكون جواب الداعية الإسلامي حال المجادلة دقيقاً، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا أحسن الاستماع للطرف الثاني وفهم واستيعاب قوله، فإن العجلة والمقاطعة، والاستهانة تؤدي دائماً إلى عدم موفقية الإجابة على شبهات الخصم.
رابعاً: العفو عن زلات لسان الخصم، أو قوله غير المقصود منه، وعدم التركيز أو الوقوف عليه.
خامساً: عدم السماح بالخروج عن الموضوعية العلمية، أو تفرع النقاش والجدال.
سادساً: إذا أدرك الداعية أن الجدال سيأخذ شكلاً غير لائق، أو أنه سيصل إلى طريق مسدود فعليه بأدب إسلامي رفيع أن يرجئ المجادلة بحيث يدع الباب أمام خصمه مفتوحاً.
وإليك بعض النماذج لطرق الجدال الحسن نقلتها من كتاب (البلاغة العربية)(2):
المذهب الكلامي(3)
وهو أن يأتي البليغ بحجة قاطعة، ليبرهن على ما يدعيه على طريقة أهل الكلام، بحيث أن تكون هذه الحجة مسلمة عند المخاطب، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت بعد تسليم بالمقدمات المسلتزمة للمطلوب.
وقالوا: إن أول من وضعه الجاحظ، وقال: إنه لا يوجد شيء منه في القرآن!
وأجيب عليه بقولي أن القرآن مشحون بجميع أنواع الحجج، والأدلة، والبراهين ومن أمثلة المذهب الكلامي في القرآن الكريم قال تعالى:( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه) ، فقوله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق)، هذه الدعوى مسلّم بها عند الكافرين كما جاء في قوله تعالى:( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن الله) ، وقوله:(ثم يعيده) دعوى أنكرها الكافرون وقوله:(وهو أهون عليه) برهان ساطع، ودليل قاطع، على صحة الدعوى بالقدرة على إعادة الخلق، حيث أن إعادة الخلق أهون من بدئه الذي سلّمتم به، وإذا كان كذلك، يلزمكم التسليم بصحة هذه الدعوى.
ومن ألطف البراهين القاطعة التي تحمل في طياتها المذهب الكلامي قوله تعالى:( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة، وهو بكل خلق عليم) .
وقصة الآية: أن الأخنس بن شريق، أو عتبة بن الربيعة، جاء ببعض العظام البالية من المقابر، وطحنها بي يديه، وقال للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله): من يحيي العظام وهي رميم؟ والمقصود أنه أنكر دعوى الإعادة، فكانت الإجابة برهاناً دامغاً، حيث أن دعوى البدء مسلّم بها، وإنّ الإعادة أهون من البدء، فدعوى الإعادة صحيحة مسلتزمة لأن الخلق من موجود أهون من الخلق من عدم.(2/93)
ومثله قوله تعالى:( يا أيها الناس! إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) ، ونحو قوله:( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى وهو الخلاّق العليم) .
ومن أمثلة المذهب الكلامي في كلام الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) نحو قوله(صلى الله عليه وآله):«أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلّكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: فليبلغ الشاهد الغائب..».
تضمن هذا القول الشريف أعظم البراهين والحجج؛ فقوله:«وإن أباكم واحد» حجة على أن ربكم واحد، حيث أنكم تسلمون بأنكم جميعاً لأب واحد، وهو آدم.
فلا بدّ أن تسلموا نه لا يمكن أن يكوون الخالق لآدم أكثر من واحد، لأن ذلك من البديهيات. ثم إن هذه حجة ساطعة على دعوى عدم أفضلية جنس على جنس إلا بالتقوى، حيث أنكم تسلمون بأن كل الناس لأب واحد، إذاً فلا قربى لأحد منكم عند الخالق بجنس أو عنصر، وإنما القربى لديه تكون بقدر طاعته، سبحانه وتعالى.
(2)التسليم الجدلي
ويسمى بالافتراض الجدلي: وهو أن يفرض المتكلّم حصول أمر محال الوقوع، ومشروط بحرف الامتناع -لو- أو منفي، ثم يسلم بوقوعه، أو إمكان وقوعه، تسليماً جدلياً، وذلك لإثبات ما بعده.
أقول: هو افتراض وقوع أمرٍ محال الوقوع، افتراضاً جدلياً، لإثبات ما بعده، وبإثبات ما بعده، والتسليم به، تصح دعوى المحالية للأمر المفترض وقوعه. نحو قوله تعالى:( ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه إله إذاً لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض) ، فقوله:( ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله) نفي الشريك، وقوله:(إذاً..) بمعنى إذا سلمنا بصحة دعوى الشريك، فلا بدّ أن نسلم بأن كل إله يذهب بما خلق، ويتعالى بعضهم على بعض، وهذا ما ليس بحاصل، حيث أننا نرى أن كل الخلق ذو نظام واحد، وذلك يدل على أن الخالق واحد.
ولو أن أحد الإلهين علا على الآخر، لكان المتعالي هو الإله الحقيقي الواحد الأحد. وبعد أن تثبت ذلك، يلزم التسليم باستحالة الفرض الذي فرض جدلاً، وهو دعوى الشريك، وهو المطلوب إثباته.
ونحو قول تعالى:( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) ، وجود آلة غير الله أمر محال، ولكن افترضت صحته جدلاً بحرف الامتناع، وذلك لإثبات الدعوى بعده، وهو فساد السماوات والأرض، فإن صح فسادهما، صح وجود غير الله، وإن لم يصح فسادهما، بطلت دعوى وجود غيره، تبارك وتعالى. وحيث أن الواقع يثبت أن السماوات والأرض قائمتان بأمره، دلّ على بطلان الدعوة المفروضة.
أقول: قد وجدنا في القرآن الكريم من التسليم الجدلي، ما ليس بمنفي، ولا مشروط، نحو قوله تعالى:( ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذاً قسمة ضيزى) ، بمعنى أنه إذا سلمنا جدلاً بأن لكم الحق في التقسيم، فلا بدّ أن تسلموا بان تجعلوا ما تحبون لكم، وما تكرهون لله، قسمة ظالمة، ومن ثم يلزمكم التسليم بأنه ليس لكم الحق في التقوّل على الله سبحانه وتعالى، والقرآن الكريم مشحون بتلك اللطائف والحجج الدامغة.
(3)أسلوب الحكيم
أسلوب الحكيم من أدق وألطف أنواع البديع لأنه من الرادعات لأهل الفضول في الحديث.
وهو: أن يأتي المتكلم بجواب لمخاطب يقتضي ظاهره خطابه، ومخالفاً لمراده، مع علمه به.
وقالوا: إنه إتيان المخاطب بغير ما يترقبه نحو قوله تعالى:( يسألونك عن الجبال قل: ينسفها ربي نسفاً) ، فمراد السائل هو السؤال عن حقيقة الجبال، وفي السؤال فضول حيث أنه ليس من وظائف الرسل بيان مثل هذه الأمور، وإن كانوا عالمين بها، ولذلك كان الجواب على ظاهر السؤال مخالفاً لمراد السائل وهو (ينسفها ربي نسفاً) بمعنى أن هذه الجبال على عظمتها وضخامتها، ينسفها ربي نسفاً، وهذه من وظائف الرسل، وهو بيان صفات الله سبحانه.
ونحو قوله:( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) ، فالمراد من السؤال هو معرفة الأهلة، وأفلاكها، وظهورها، واختفائها، وهذه من المسائل التي قد لا يتحملها عقل السامع وفكره، ولذلك كانت الإجابة حكيمة، حيث أنها جاءت على ظاهر السؤال مخالفة للمراد، فبينت فوائد الأهلة للإنسان.
ونحو قوله(صلى الله عليه وآله) لمن سأله متى الساعة؟ فأجاب: وماذا أعددت لها؟، فالسؤال عن متى الساعة، فضول، وشغل النفس بما لا ينبغي الإنشغال به، بل يجب إشغالها بما يفيدها وهو إعداد النفس لها.
ونحو قول أمير المؤمنين(عليه السلام) لمن سأله عن المسافة بين السماء والأرض؛ فقال:«دعوة مستجابة».
السائل يسأل عن المسافة القياسية بين السماء والأرض، والفضول ظاهر في السؤال. ولكن الإمام (عليه السلام) تجاهل مراد السائل، وأجابه على ظاهر سؤاله فقال:«دعوة مستجابة».
(4)القول بالموجب(2/94)
القول بالموجب: قريب الشبه بأسلوب الحكيم، لأن القول بالموجب هو ردّ المتكلم قول المخاطب من فحوى كلامه، وذلك بأن يعمد إلى لفظ من ألفاظ حديثه، ويحمله على غير ما أراده المخاطب من دون تغيير في اللفظ.
نحو قوله تعالى:( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون: هو أُذُنٌ. قل: أُذُنُ خير لكم، يؤمن بالله، ويؤمن للمؤمنين، ورحمة الذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) (التوبة: 61). الأذن: هو السماع للناس غير المكذب لهم، قالها المنافقون بقصد الإيذاء للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).
ولكن الله سبحانه لم ينفها عن نبيه، وإنما حملها بنفس لفظها على غير ما أراده المنافقون. فحملها على حسن الخلق والرحمة للمؤمنين.
ونحو قوله تعالى:( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولله العزّة، ولرسوله، وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون) .
جعل المنافقون أنفسهم على طرفي نقيض مع الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) ثم نسبوا صفة حميدة لأنفسهم، وأخرى ذميمة للرسول، والمؤمنين، ثم رد الصفة الذميمة على المنافقين، من دون نفيها عنهم، لأنهما على طرفي نقيض، فبنسبة العزة للمؤمنين، فالذلّة تكون على المنافقين.
ومن لطائف القول بالموجب:
ما حكي أن خالد بن الوليد، سأل أحد أعيان الحيرة عندما فتحها، قال له: من أين خرجت؟ فقال الرجل: من بطن أمي. فعلام أنت؟ فقال: على الأرض. قال: فيم أنت؟ فقال: في ثيابي. قال: أتعقل لا عقلت؟ فقال: أي والله وأقيد! قال: ابن كم أنت؟ فقال: ابن رجل واحد! قال خالد: ما رأيت كاليوم قط إني أسأله وينحو في غيره! فقال الرجل: ما أنبأتك إلا عما سألت. فسل عما بدا لك.
فقصد خالد من السؤال الأول: من أي بلد جئت. فحمل الرجل الخروج على معنى، آخر عير المراد، ولكنه لم يغير ، ولم يبدل.
وقصده من الثاني: على أي عقيدة أنت، أو بأي دين تدين.
وقصده من الثالث: نفس قصده من الثاني.
وقصده من الرابع: أتفهم لا فهمت، فحملها الرجل على عقال البعير.
ومن الخامس: كم مضى من عمرك.
ومن لطائفه في الشعر قول أحدهم:
قلت: ثَقّلْتُ إذا أتيتُ مراراً قال: ثَقْلتَ كاهلي بالأيادي
قلتُ: طوّلت. قال: أوليت طولاً قلت: أبْرَمتُ، قال: حبل ودادي
وفي العدد القادم إن شاء الله نتحدث عن العنصر الرابع من عناصر الدعوة الإسلامية وهو البصيرة في الدين.
(1) بتصرف من تفسير القيم لابن القيم ص344 في تفسير الآية:(ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة).
(2) النماذج منقولة من كتاب المؤلف (البلاغة العربية) علم البديع.
(3) دكتور مصري أستاذ في الأدب العربي والشريعة الإسلام
=============
الحكمة في الدعوة إلى الحق بين الإفراط والتفريط
الحكمة كما قال العلماء: هي وضع الشيء في موضعه، وهي نعمة من نعم الله - سبحانه - من رُزقها فقد أوتي خيراً كثيراً كما قال - تعالى -: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) فلابد للعلماء والدعاة أن يتصفوا بالحكمة ويتعلموها لإيصال العلم والحق والإسلام إلى من يخاطبونه.
ومتى عدمت الحكمة فات المقصود وحصل الخلل وكثر الجدل والمراء، وأعظم الحكمة في الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى -: أن ينزل المدعو المنزلة اللائقة به، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنزلوا الناس منازلهم) حديث حسن المتن رواه جماعة من الصحابة بأسانيد لا تخلوا من مقال، لكن بجموعها يرتفع الحديث، ومن هنا فإن الداعية إلى الله - سبحانه وتعالى - والعالم المعلم للناس الخير عليه أن يدرك من خلال قواعد الشرع تقسيم المدعوين إلى ثلاث أقسام يجب معرفتها:
القسم الأول:
جاهل بالحكم غير مدرك ولا معاند وهذا القسم هو الذي يحتاج إلى رفق ورحمة وإيضاح للحق معاملة له بالحال التي تناسبه.
القسم الثاني:
عالم بالحكم ولكن عنده شيء من التفريط والإهمال والغفلة وهذا القسم نوعان:
1)نوع يأتي بعد ارتكاب المخالفة وقد صحى ضميره وانتبه قلبه وثاب رشده يريد معرفة ما يلزمه ويبحث عن طريق الخلاص من ذنبه فهذا النوع يحتاج لطريقة خاصة للتعامل معه وتشجيعه وهدايته والرفق به وفتح آمال المستقبل أمامه وتثبيته على الاستقامة حتى يشعر بحلاوة السهولة واليسر فيستمر في إحياء قلبه وإزالة أثار الرجس، والمخالفات فلابد من استعمال الحكمة معه بما تقتضيه حاله.
2)النوع الثاني المستمر في تفريطه وإهماله وغفلته ومخالفته وهذا يحتاج لوصفة خاصة لأنه مازال مريضاً، وربما وقع في أمراض أخرى فالحكمة معه معرفة الأمراض التي تلبس بها وإدراك الأغراض التي تنذر بوقوعه في أمراض أخرى واستعمال الحكمة معه لمعالجته بحسب الحال التي هو فيها.
القسم الثالث:(2/95)
العالم الذي يتلبس بشيء من العناد والكبر ويتمتع بجرأة فائقة في رد الحق أو التردد في قبوله وربما تجاوز إلى دفعه ومحاربته وقد يمارس الجدل ويتستر بغطاء حق فيما يظهر للناس لكنه يريد بمزاعمه تلك الباطل، وهذا أنواع كثيرة أيضاً يحتاج العلماء والدعاة لمعرفة الحكمة في إدارة الدعوة معهم وكشف خفاياهم وزيفهم وإيضاح كل ذلك بحكمة وبصيرة.
هذه الأقسام إذا أدركناها عرفنا أنه ليس من الحكمة أن نسوي كل قسم بالآخر بل لابد أن ننزل كل قسم منزلته في خططنا الدعوية والعملية، وقد أصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المنهجية بقاعدة مهمة تدرك من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يوم بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن حيث قال له: " إنك تأتي قوماً أهل كتاب" وقصة بعثة معاذ إلى اليمن بكاملها منهج متكامل تحتاج لرصدها بكاملها من قبل الدعاة لأن فيها من منهج الحكمة الشيء الكثير.
وعندما نتأمل في الجملة التي قدمناها من قصته نلحظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك، ليكون معاذ على خبرة ودراية بحال المدعوين فيضع له منهجاً لإيصال الحق لهم وخطة لإيصال العلم إليهم فبدأ من حيث يحتاجونه لا من الصفر وهذا يعني أن على الدعاة والعلماء أن يدركوا الأرضية التي يقف عليها المدعو وذلك لا يتأتى دون دراسة ما يحيط بالمدعو من أحوال وأوضاع تسهل إيصال الحق إليه وتعمل بالحكمة والموعظة الحسنة لتجلية ما خفى فإن عرف أن المدعو يريد المكابرة والاستكبار والنفور والتعدي على الحق، كان من الحكمة منع الاستكبار والتعدي ومنع الطرق الملتوية التي ينفذ منها هذا القسم بقصد تجميد الحق وتفسيخه أو إزالته بالكلية وإن زعم الاستقامة والامتثال: وفيما يلي نضرب بعض الوقائع من عمل صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - في استعمال الحكمة في الدعوة والبيان في أمثلة تدلنا على حاجة العلماء والدعاة للدراسة والتأصيل في حال وقعنا ومعرفة ما نحتاجه حتى نوصل الحق لمريديه ونحميه من المعتدين عليه وفق منهجية الرسول محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وبعيداً من سلوك تفسخ القائلين والمفتين لما يحدث من حرب للدين وقيمه بما يصدرونه من أحكام مجانبة للحق في قولهم للمعتدين على الحق: (هذه أمور داخلية تخصكم لا ندخل في قضاياها)
وحتى نبعد عن النوم العميق الذي يمارسه كثير ممن يعدون في الدعاة ويحسبون على العلم وأهله بما يمارسونه من تفسير للحكمة بطريقة سلبية أدت إلى ظهور تفسخ الباطل وانتشاره بنشوة تحت ظل ممارسة ذلك السكوت الرهيب الذي يمارسه فريق من حماة الحق تحت مسمى الحكمة دون معرفة مواضع وضع الحكمة بل إنهم جعلوا من الحكمة أن لا حكمة وأصبح يمارس البعد عن الحق والاعتداء على الدين تحت سمع وبصر هذا الفريق الذي قعد للمعاندين قاعدة الدين يسر " ويسروا ولا تعسروا " ليأتوا بها على لسان هذا الفريق بعد كل منكر يقترف وبين يدي كل إثم يراد له أن ينتشر ويسمون كل هذا حكمة. كما أننا نريد من ضربنا للأمثلة محاربة ظاهرة سلوك العنف المطلق بحجة الحكمة أيضاً في حماية الحق وإبرازه وفرضه تحت مبررات كثيرة تستعمل جانب القوة وتنسى الجمع بين أدلة العقوبة وأدلة العفو ولا تتأتى الحكمة إلا في الجمع بين الأدلة ومعرفة إنزال النصوص على أحكامها ومتى يكون العفو ومتى تجب العقوبة.
=================00000
"لأن يهدي الله على يديك رجلاً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس
هذه الوصية الغالية، والكلمة الطيبة، من أهم ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وقد بعثه إلى اليمن معلماً ومرشداً، وفي الحقيقة فإنها وصية للأمة الإسلامية جمعاء، لأن هداية الخلق وإرشادهم هي غاية الشرع ومقصوده، والمراد بالهداية هنا هداية الإرشاد والتوجيه، أما هداية القلوب فلا يملكها إلا الله: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"، "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله".
وحكم الدعوة إلى الله الوجوب العيني على من تعينت عليهم من العلماء وطلاب العلم: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"، والوجوب الكفائي على غيرهم من عامة المسلمين حسب الطاقة.
ووسائل الدعوة كثيرة ومتنوعة ومختلفة باختلاف الداعين والمدعوين، فالدعوة إلى الله تكون بالقدوة الحسنة بالفعال والخصال قبل الأقوال، وباللسان والبنان، وبالمال والإحسان، وشروطها الصدق، والإخلاص، والعلم، والرفق، والتلطف، والحكمة: "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".(2/96)
والدعوة إلى الله هي وظيفة الأنبياء والرسل وورثتهم من العلماء العاملين، لهذا فلا يحول بينهم وبين عملهم هذا حائل سوى الموت، لا يمنعهم من ذلك خوف، ولا مرض، ولا حبس، ولا غربة، فإن منعوا من الكلام، وعزلوا عن الأنام، وغربوا عن الأوطان، هرعوا إلى الكتابة، وإن حيل بينهم وبين أدواتها استعاضوا عن ذلك بما تيسر، ففي الفحم عوض عن القلم، وفي الرأس عوض عما في الكراس، وفي الحيطان والجدران عوض عن الدفاتر والليحان.
فرسولنا الكريم وإمامنا العظيم لم يمنعه خوفه من الرصد ومطاردة قريش له من أن يؤدي واجبه ويقوم برسالته، وذلك عندما التقى، وهو في طريق هجرته إلى المدينة، ببريدة بن الحصيب الأسلمي وقومه، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، وها هو نبي الله يوسف عليه السلام لم يمنعه الحبس والسجن من دعوة المسجونين إلى توحيد الله عز وجل، فقد استغل فرصة سؤال بعض المسجونين له عن تأويل رؤيا منامية قائلاً: "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان".
وما فعله الرسل مارسه ورثتهم في الحبس، أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وشمس الأئمة السرخسي، وغيرهما كثير، مما جعل شيخ الإسلام ابن تيمية يحول نقمة السجن إلى نعمة، حيث قال عندما أودع سجن القلعة بدمشق ظلماً وعدواناً: "وضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب"، وحيث سخر من صنيع أعدائه به، (فقال عندما قال له بعض المشايخ: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك، أونفيك، أوحبسك: "إن أنا قتِلتُ كانت لي شهادة، وإن نفيتُ كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص دعوتُ أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبداً، وأنا مثل الغنمة التي كيف تقلبت تقلبت على صوف"، فيئسوا منه وانصرفوا).
عليك أخي الداعية بالوسيلة الباقية، بنشر العلم، وكتابته، وتدوينه.
العلم صيد، والكتابة قيد قيِّد صيودك بالحبال الواثقة
إذا أردت ألا ينقطع عملك، وأن تتصل دنياك بآخرتك: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وابن صالح يدعو له".
لذلك فإن كثيراً من العلماء الربانيين حرصوا على الكتابة والتأليف، والفتوى والتدريس وهم في غياهب السجون، وقد منعوا من أسبابها، وحرموا من أدواتها، فجل رسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية خرجت من السجن، وكتبت بالفحم، ودونت على الجدران والحيطان، منها: منهاج السنة المحمدية، الإيمان، الاستقامة، تلبيس الجهمية، الفتاوى المصرية، الرد الكبير على من اعترض على رسالة الحلف بالطلاق، والرد على الإخنائي، وغيرها كثير.
(وأملى شمس الأئمة السرخسي كتابه "المبسوط" نحو خمسة عشر مجلداً، وهو في السجن بـ"أوزجند" كان محبوساً في الجب بسبب كلمة نصح بها الخاقان، وكان يملي من خاطره من غير مطالعة كتاب وهو في أدنى الجب وأصحابه في أعلى الجب، وقال عند فراغه من شرح العبادات: "هذا آخر العبادات، بأوضح المعاني وأوجز العبارات، أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات"، وقال في آخر شرح الإقرار: "انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني على ما هو من الأسرار، أملاه المحبوس في محبس الأشرار").
على العلماء وطلاب العلم والدعاة الاقتداء بأمثال هؤلاء الرجال، والتأسي بسير الأخيار، والتشبه بمن سلف من الأبطال، فإن التشبه بالرجال فلاح، ومن سار على الدرب وصل، كل ذلك مع حسن النية وصدق الطوية، والله الموفق للخيرات، والمقيل للعثرات، والصلاة والسلام على من ختمت به الرسالات، وعلى آله وصحبه السادات، وعلى التابعين لهم في الخيرات
---------
الإعداد الذاتي للداعية
يعد الجانب الذاتي الجزء المهم و الأساس في برامج التربية و التدريب، و من دونه لا تنجح هذه البرامج و لا تحقق أهدافها، ذلك أن عجلة الحياة لا تتوقف؛ فتأتي في كل لحظة بتجارب و أفكار و خبرات و فرص لا يجوز فوتها.
والمنهج الإسلامي في التربية و العبادة يرى هذه الرؤية و الفلسفة، فالعبادات و المعاملات تنبثق من رقابة ذاتية و مسؤولية لدى المسلم مع الحرص والرغبة في نيل رضا الله تعالى، و الشعور بأنه يراقبه دائماً وينتظر الثواب و يخاف العذاب.(2/97)
وتؤكد الآيات و الأحاديث دائماً على ضرورة وعي الأهداف والحكم من العبادات، فإنها من غير ذلك تكون أفعالاً جوفاء، قال – تعالى -: (أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، فإن لم يحقق المسلم بالصوم التقوى؛ فقد أخل بالغرض الذي شرع الصوم من أجله، و إن كان يشارك المسلمين بالشعائر الظاهرة للصوم، وقال - صلى الله عليه و سلم -: "رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب" وقال – تعالى -: (لن ينال الله لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم)، وقال: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر)، وقال - صلى الله عليه و سلم -: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم تزده من الله إلا بُعداً".
وحين نفكر في تحقيق حكم العبادات و جوهرها؛ نجد أن الدافع الذاتي والحرص على الشعور بها هو الذي يجعل هذه العبادات و الشعائر ليست حركات شكلية؛ بل أداءً حياً يسري في حياة المسلم اليومية و في ضميره و روحه و عقله، فيصقله و يسمو به عن المعصية و الانحراف.
و يقدم الحديث النبوي تمثيلاً حكيماً مؤثراً حين يرينا كيف يختلف أثر الدعوة في الناس حسب طبائعهم و مشاربهم و صفاتهم الفردية؛ فالناس كما وصفهم الحديث في معاملة ما بعث الله به نبيهم - صلى الله عليه و سلم- كمثل الأرض و التربة: بعضها طيب فيقبل الماء فينبت الكلأ، و بعضها يحفظ الماء للناس ولا تقبله، و بعضها قيعان لا تحفظ ماء ولا تنبت زرعاً!.
و حين نستعير الأفكار السابقة، و نجعلها في برامج العمل؛ نؤكد أولاً أن منهاج العمل الإسلامي يعتمد غالباً في النجاح و الفاعلية على الجهد الذاتي والصفات الفردية لدى الدعاة، وهم يستفيدون من هذه البرامج بقدر استعدادهم وجهودهم الذاتية.
وحتى نعين الأخوة الدعاة على فهم هذه الفكرة في خطوات وبرامج عملية؛ فإننا نقدم الأفكار والاقتراحات التالية:
1 – يكف معظم الناس بعد سن الخامسة والعشرين بسبب مشاغل الحياة وزيادة المسؤولية، وضعف الحماس والتقدم في السن، وضعف الصحة عن ممارسة مواهب نافعة، يكفون عن المطالعة و القراءة و المشاركة في الأنشطة العامة، لكن على الداعية أن يلتزم مهما تكن حاله اقتصاص وقت مناسب للقراءة والمشاركة والرياضة والكتابة والأعمال الفنية والحرفية، فإنه إن لم يفعل سيجد نفسه بعد سنوات فقد صلته بالمجتمع المحيط والأجيال الصاعدة.
2 – أن يرسم الداعية خطة للثقافة الذاتية الجادة لتحقق فهماً للإسلام وأحكامه و المجتمع الواقع المحيط، و العمل الجماعي وأصوله وقواعده تعتمد على المصادر الأولية والبحث العلمي، و تتجاوز الكتب المبسطة، أو الكتب المختصرة المتكررة.
3 – أن يشترك الداعية في مكتبة عامة و يتتبع المجلات المختصة والنتاج الفكري الجديد في مجال واحد يختاره.
4 – غنيمة الفرص والسعات التي تتيحها المؤسسات التي يعمل بها أو يدرس، كالدورات مثلاً، و لا يزهد فيها أو تمنعه مشاغله أو ضعف همته و إرادته لتحول بينه و بينها.
5 – حيازة أكبر قدر ممكن من المهارات العملية و الفنية و الحرفية، كرخصة السواقة و الحاسوب و المقالة الصحفية و الأدبية و الرسم، أو المهارات اليدوية و الفنية كصيانة السيارات و الأجهزة و الحدادة و النجارة و كل ما ينفع المسلم و المسلمين، والسعي الدائم في الاعتماد على النفس في أداء الأعمال اليومية والاحتياجات، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".
6 – المشاركة في الدورات التي تعقدها مؤسسات شتى لقاء أجر، كالمراكز المهنية الأهلية المختلفة.
7 – إتقان لغة أجنبية يوسع الداعية ويزيد ثقافته.
و أخيراً فثمة أوصاف و شروط تلزم الداعية والمشاركين في العمل الإسلامي نذكر الدعاة بها ليسعوا إلى تحقيقها:
- رحابة الصدر و سعة الأفق.
- احتمال الرأي الآخر والرضى برأي الغالبية.
- فهم الأحداث الجارية و ربطها و تفسيرها.
- فهم المجتمع المحيط فهماً أصيلاً يحيط بتاريخه ونشأته وأسبابه الحضارية و الثقافية و الاقتصادية و الخدمات و المرافق.
- دراسة تاريخ الدعوة الإسلامية و مبادئها، و سبر أعماق العمل الإسلامي الاجتماعية و التنموية و النقابية.
- اغتنام الوقت وحسن تقسيمه.
- القدرة على الإدارة و التخطيط، و إدراك أصول العمل الجماعي وقواعده العلمية.
ولا بد أن يحقق الداعية نفسه جملة من الأخلاق و الشروط ذكرناها آنفاً، لكننا نوردها هنا ليفهم الداعية أنها إطار التكوين الذاتي و جوهره، وبدونها يفقد العمل معناه، ولا يختلف عن سواه من الأعمال، وهي: تقوى الله، وعبادته، والإنابة إليه، والشجاعة، و الكرم، والحلم، و الأناة، والقدوة الحسنة، وسائر ما وصى به ديننا الحنيف، وما تسعى به الدعوة الإسلامية؛ ليتحلى به أبناؤها: (و لباس التقوى ذلك خير)، (و اتقوا الله و يعلمكم الله
000000000000
حكم الدعوة إلى الله وفضلها(2/98)
للشيخ عبد العزيز بن باز
أما حكمها: فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل، وأنها من الفرائض، والأدلة في ذلك كثيرة، منها قوله سبحانه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ومنها قوله جل وعلا: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ومنها قوله عز وجل: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ومنها قوله سبحانه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) فبين سبحانه أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى الله، وهم أهل البصائر، والواجب كما هو معلوم هو اتباعه، والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) وصرح العلماء أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية، بالنسبة إلى الأقطار التي يقوم فيها الدعاة، فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها، فهي فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب، وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة، وعملا صالحا جليلا.
وإذا لم يقم أهل الإقليم، أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام، صار الإثم عاما، وصار الواجب على الجميع، وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإمكانه، أما بالنظر إلى عموم البلاد، فالواجب: أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله جل وعلا في أرجاء المعمورة، تبلغ رسالات الله، وتبين أمر الله عز وجل بالطرق الممكنة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث الدعاة، وأرسل الكتب إلى الناس، وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله عز وجل.
وفي وقتنا اليوم قد يسر الله عز وجل أمر الدعوة أكثر، بطرق لم تحصل لمن قبلنا، فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر، من طرق كثيرة، وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنة بطرق متنوعة: عن طريق الإذاعة، وعن طريق التلفزة، وعن طريق الصحافة، ومن طرق شتى، فالواجب على أهل العلم والإيمان، وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب، وأن يتكاتفوا فيه، وأن يبلغوا رسالات الله إلى عباد الله ولا يخشوا في الله لومة لائم، ولا يحابوا في ذلك كبيرا ولا صغيرا ولا غنيا ولا فقيرا، بل يبلغون أمر الله إلى عباد الله، كما أنزل الله، وكما شرع الله، وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يكون فرض عين، ويكون فرض كفاية، فإذا كنت في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر، ويبلغ أمر الله سواك، فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك، فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة والتبليغ، والأمر والنهي غيرك، فإنه يكون حينئذ في حقك سنة، وإذا بادرت إليه وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في الخيرات، وسابقا إلى الطاعات، ومما احتج به على أنها فرض كفاية قوله جل وعلا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ الآية، قال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية وجماعة ما معناه: ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا الأمر العظيم، تدعو إلى الله، وتنشر دينه، وتبلغ أمره سبحانه وتعالى، ومعلوم أيضا أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله، وقام بأمر الله في مكة حسب طاقته، وقام الصحابة كذلك رضي الله عنهم وأرضاهم بذلك حسب طاقتهم، ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ، ولما انتشروا في البلاد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قاموا بذلك أيضا رضي الله عنهم وأرضاهم، كل على قدر طاقته وعلى قدر علمه، فعند قلة الدعاة، وعند كثرة المنكرات، وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم، تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته، وإذا كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك، ووجد فيها من تولى هذا الأمر، وقام به وبلغ أمر الله، كفى وصار التبليغ في حق غيره سنة، لأنه قد أقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر الله على يد سواه.
ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله، وإلى بقية الناس، يجب على العلماء حسب طاقتهم، وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم، أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون، وهذا فرض عين عليهم على حسب الطاقة والقدرة.
وبهذا يعلم أن كونها فرض عين، وكونها فرض كفاية، أمر نسبي يختلف، فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص، وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام، لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم.(2/99)
أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار، حسب الإمكان بالطرق الممكنة، وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها، فإن الأمر الآن ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها، طرق الإذاعة والتلفزة والصحافة وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم، ولم تتيسر في السابق، كما أنه يجب على الخطباء في الاحتفالات وفي الجمع وفي غير ذلك أن يبلغوا ما استطاعوا من أمر الله عز وجل، وأن ينشروا دين الله حسب طاقتهم، وحسب علمهم، ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإلى الإلحاد وإنكار رب العباد وإنكار الرسالات وإنكار الآخرة، وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان، وغير ذلك من الدعوات المضللة، نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما، وواجبا على جميع العلماء وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام، فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة، وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوا، وأن لا يتقاعسوا عن ذلك، أو يتكلوا على زيد أو عمرو، فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك، والتكاتف في هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل، ذلك لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة، للصد عن سبيل الله والتشكيك في دينه، ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله عز وجل، فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي، وبدعوة إسلامية على شتى المستويات، وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله.
فضل الدعوة
وقد ورد في فضل الدعوة والدعاة آيات وأحاديث كثيرة، كما أنه ورد في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاة أحاديث لا تخفى على أهل العلم، ومن ذلك قوله جل وعلا: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فهذه الآية الكريمة فيها التنويه بالدعاة والثناء عليهم، وأنه لا أحد أحسن قولا منهم، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم أتباعهم على حسب مراتبهم في الدعوة والعلم والفضل، فأنت يا عبد الله يكفيك شرفا أن تكون من أتباع الرسل، ومن المنتظمين في هذه الآية الكريمة (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المعنى: لا أحد أحسن قولا منه لكونه دعا إلى الله وأرشد إليه وعمل بما يدعو إليه، يعني: دعا إلى الحق وعمل به، وأنكر الباطل وحذر منه، وتركه، ومع ذلك صرح بما هو عليه، لم يخجل بل قال: إنني من المسلمين، مغتبطا وفرحا بما من الله به عليه، وليس كمن يستنكف عن ذلك ويكره أن ينطق بأنه مسلم، أو بأنه يدعو إلى الإسلام، لمراعاة فلان أو مجاملة فلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل المؤمن الداعي إلى الله القوي الإيمان، البصير بأمر الله يصرح بحق الله، وينشط في الدعوة إلى الله ويعمل بما يدعو إليه، ويحذر ما ينهى عنه، فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه، ومن أبعد الناس عن كل ما ينهى عنه، ومع ذلك يصرح بأنه مسلم وبأنه يدعو إلى الإسلام، ويغتبط بذلك ويفرح به كما قال عز وجل:(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) فالفرح برحمة الله وفضله فرح الاغتباط، فرح السرور، أمر مشروع، أما الفرح المنهي عنه فهو فرح الكبر، والفرح هذا هو المنهي عنه كما قال عز وجل في قصة قارون:(لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)
هذا فرح الكبر والتعالي على الناس والتعاظم، وهذا هو الذي ينهى عنه..(2/100)
أما فرح الاغتباط والسرور بدين الله، والفرح بهداية الله، والاستبشار بذلك والتصريح بذلك ليعلم، فأمر مشروع وممدوح ومحمود، فهذه الآية الكريمة من أوضح الآيات في الدلالة على فضل الدعوة، وأنها من أهم القربات، ومن أفضل الطاعات، وأن أهلها في غاية من الشرف وفي أرفع مكانة، وعلى رأسهم الرسل عليه الصلاة والسلام، وأكملهم في ذلك خاتمهم وإمامهم وسيدهم نبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ومن ذلك قوله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فبين سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو على بصيرة، وأن أتباعه كذلك، فهذا فيه فضل الدعوة، وأن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى سبيله على بصيرة، والبصيرة هي العلم بما يدعو إليه وما ينهى عنه، وفي هذا شرف لهم وتفضيل، وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " رواه مسلم في الصحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " أخرجه مسلم أيضا، وهذا يدل على فضل الدعوة إلى الله عز وجل، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لعلي رضي الله عنه وأرضاه: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " متفق على صحته، وهذا أيضا يدلنا على فضل الدعوة إلى الله وما فيها من الخير العظيم، وأن الداعي إلى الله جل وعلا يعطى مثل أجور من هداه الله على يديه، ولو كانوا آلاف الملايين، وتعطى أيها الداعية مثل أجورهم، فهنيئا لك أيها الداعية إلى الله بهذا الخير العظيم، وبهذا يتضح أيضا أن الرسول عليه الصلاة وللسلام يعطى مثل أجور أتباعه، فيا لها من نعمة عظيمة يعطى نبينا عليه الصلاة والسلام مثل أجور أتباعه إلى يوم القيامة، لأنه بلغهم رسالة الله، ودلهم على الخير عليه الصلاة والسلام، وهكذا الرسل يعطون مثل أجور أتباعهم عليهم الصلاة والسلام، وأنت كذلك أيها الداعية في كل زمان تعطى مثل أجور أتباعك والقابلين لدعوتك، فاغتنم هذا الخير العظيم وسارع إليه.
=================0
ضوابط للعمل الجماعي الاجتماع والائتلاف خير، ولكن علام نجتمع؟
أسس الائتلاف والاجتماع
1. الاتفاق على الثوابت والمسلمات
2. تحديد مجالات العمل
3. الطاعة لا تكون إلا في المعروف
4. أن لا يضم التجمع أحداً من أصحاب البدع الكفرية
5. أن يتولى القيادة علماء شرعيون
6. الاقتصار على أهل السنة
عوامل تؤدي إلى التفرق
الحذر من السعي لجمع المتناقضات
ما من عاقل إلا وهو قلق وحزين للتفرق والتشرذم الذي أصاب الأمة الإسلامية، وأدى إلى ضعفها، وهوانها، وتكالب الأمم الكافرة عليها، وإلا وهو يسعى لتضييق دائرة الخلاف ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لأن التخلص منه كلياً أمر لا سبيل إليه البتة بحكم الله: "وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"، وبحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة"، قيل: ما الواحدة؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي اليوم"، "وسألتُ ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم شديد فأبى".
بان من ذلك أن المطلوب من المسلم أمران، هما:
1. أن يعتصم هو بالكتاب، والسنة، وما أجمعت عليه الأمة، ولا يحيد عن ذلك.
2. أن يسعى لجمع الأمة وتوحيدها على هذا الأساس.
وهناك فرق كبير بين أمرين، يخلط بينهما كثير من الناس، سيما العاملون في مجال الدعوة، هما:
1. الانتساب إلى جماعة مخالفة عقدياً، ومنهجياً، وسلوكياً لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.
2. التنسيق والتعاون مع كافة فرق أهل القبلة من غير استثناء عند نزول الكوارث، وحلول الفتن، وغزو ديار الإسلام، مهما كانت درجة التزام من حلَّ بهم هذا البلاء بالإسلام، كما حدث ذلك قديماً عندما هجم التتار على دار الإسلام، حيث قام العلماء الربانيون في مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه في حث جميع طوائف المسلمين حكاماً ومحكومين للذب عن الدين ودياره وحريمه.
وكما حدث في هذا العصر عندما غزا السوفيت أفغانستان، وتآمر الصرب على المسلمين في البوسنة والهرسك، وهرع البعض لنصرة إخوانهم في الشيشان، وكذلك عندما شرعت أمريكا في حربها الصليبية، بدءاً بأفغانستان والعراق، وهبَّ من وفقه الله لنصرة الإسلام.
فالانتساب في الحالة الأولى لا يحل، لأن الانتساب إلى الجماعة التي تقوم على المنهج الصحيح من المباحات، فكيف إذا كان هناك عدد من الانحرافات؟
أما في الحالة الثانية، حال التنسيق والتعاون ودفع الصائل، قد يصل الأمر فيه إلى درجة الوجوب لمن تعين عليهم ذلك ممن يليهم.(2/101)
وثمة أمر آخر، وهو أن هناك ساحات ليست بالقليلة يباح الاختلاف غير المصَاحَب بالبغي فيها، وهي دائرة خلاف التنوع في الفروع، كيف وقد خالف ابن مسعود عمر رضي الله عنهما في مائة مسألة من ذلك، ومع ذلك كان حكم عمر على ابن مسعود بأنه: "كنيِّف ملئ علماً"، وقال ابن مسعود عند استشهاد عمر: "لم يصب الإسلام بمثل مصيبته في عمر".
وفي هذا الإطار يمكن أن تحمل المقولة التي قالها الشيخ محمد رشيد رضا وتبناها الشيخ حسن البنا رحمهما الله: "دعونا نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، هذا إذا لم يتعد الاختلاف حدوده السائغة، أما إذا تعداه إلى خلاف التضاد فقد حرم الانتساب والاجتماع معه.
فهذه المقولة لا يمكن أن تطلق على علاتها، إذ لابد أن تقيد بهذا القيد، وإلا فإنها تأتي بالطوام العظام، لأنه لا يملك أحد أن يعذر أحداً أويأذن له في الممارسات الشركية، أوفي تأويل صفات الرب سبحانه وتعالى، أوأن معاني هذه الصفات غير معقولة ولم يتعبدنا الله بها؟
لا يملك هذا إلا صاحب الشريعة، فما أذن وعذر فيه صاحب الشريعة حقَّ لنا أن نأذن ونعذر فيه، وما لم يأذن ويعذر فيه فلا يحل لأحد أن يتجرأ عليه.
?
أسس الائتلاف والاجتماع
للائتلاف، والاجتماع، والانتساب للعمل الإسلامي أركان وأسس ينبغي مراعاتها:
1. الاتفاق على الثوابت والمسلمات
حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف أبرز معالم الفرقة الناجية المنصورة التي يتحتم توفرها في كل مسلم يريد النجاة يوم القيامة: "ما أنا عليه وأصحابي اليوم"، هذه الكلمة الجامعة المانعة، فما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً.
ما أيسر وأسهل الإقرار بذلك من الناحية النظرية، وما أصعب وأشق الالتزام بذلك عملياً، في العقيدة، والتصور، والمنهج، والعبادة، والسلوك، والمعاملات.
هذا هو الركن الأساس للاجتماع والائتلاف، فإذا فقِد أوأخِلَّ به فلا قيمة لأي أساس أخر، ومن ثم يحرم الاجتماع والانتساب مع فقده كلياً أوجزئياً، فجل التفرق والتمزق الذي أصاب الجماعات العاملة في مجال الدعوة مرده إلى فقدان ذلك أوالإخلال به.
?
2. تحديد مجالات العمل
لا بد من تحديد المجالات التي يود العمل فيها، وتستوجب التعاون، إذ عدم الاتفاق على ذلك بصورة قاطعة معول من معاول التفرق بعد اجتماع.
من أخطر المجالات التي ينبغي أن تكون الرؤية فيها واضحة وجلية:
1. الجانب السياسي: إذ تعتبر السياسة في هذا العصر أول عامل للتفرق والتشتت، لكثرة مزالقها، وقذارة أساليبها.
2. جانب المرأة: لقد حدد الإسلام مجال عمل المرأة وقصره على البيت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والمرأة راعية على بيت زوجها و ولده، ومسؤولة عن رعيتها".
أما منح المرأة حقاً لم يمنحه لها الشارع الكريم، ومطالبتها بأن تزاحم الرجل، وتتمنى ما فضل الله به الرجال عليها، وتنخدع بدعايات وأكاذيب دعاة إفساد المرأة وإخراجها من بيتها، فيما يعرف بالحقوق السياسية، فهذا عين المخالفة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
?
3. الطاعة لا تكون إلا في المعروف
من المسلمات في هذا الدين أن الطاعة فيه لكل من وجبت عليك طاعته بالمعروف، فلا مجال لطاعة أحد قائد جماعة أوغيره في غير طاعة الله.
?
4. أن لا يضم التجمع أحداً من أصحاب البدع الكفرية
هذا أيضاً من المسلمات في هذا الدين، فالتجمع الذي يضم بعض أصحاب البدع الكفرية ومن باب أولى القادة، دعك عن الكفار، لا يحل لأحد الانتساب إليه، أوالتنسيق معه.
?
5. أن يتولى القيادة علماء شرعيون
لا يحل لأحد أن يسعى لتجمع أوينتسب لجماعة يتولى قيادتها غير العلماء الشرعيين، سيما العلمانيين، فلا مجال لتصدر هؤلاء، بل ينبغي الفرار من هذا الصنف أكثر من الفرار من السباع الضارية.
?
6. الاقتصار على أهل السنة
هذا الشرط لازم من الشرط الأول، وهو الكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
?
عوامل تؤدي إلى التفرق
في غمرة الحرص على التجميع ولمِّ الصف يغفل البعض عن أمور مهمة يجب الحذر منها، لأنها عوامل هدم، نشير إلى أخطرها:
1. الحرص على الكثرة من غير التفات إلى الكيف.
2. تحكيم العواطف على العقل.
3. الحذر من التعامل بردود الأفعال.
4. أن لا يكون التجمع غاية في ذاته، وإنما يكون وسيلة لتحقيق غايات وأهداف مشروعة.
?
الحذر من السعي لجمع المتناقضات
في بعض الأحيان قد يكون التمايز والانفصال من الجماعة المعينة خيراً من البقاء فيها، فالطلاق بغيض وكريه إلى النفوس، ولكن شرعه الله في بعض المواطن التي يستحيل معها البقاء والاستمرار، ولهذا جاء في الأثر: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، فآخر العلاج الكي، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
فالسعي للتجمع ينبغي أن يكون بين الذين تجمعهم أرضية مشتركة، وأن يكون هناك توافق، خاصة في مجال العقيدة، والتصور، والمنهج، في دائرة أهل السنة الرحيبة.(2/102)
السعي للتوفيق بين فصائل الجماعة الواحدة إذا كان بينها تباين واضح واختلاف كبير، أوكانت هذه الفصائل بينها جامع مشترك من المخالفات العقدية لا يحل.
فمثلاً إذا كان يتزعم فصيلاً من تلك الفصائل إمام من أئمة البدع فلا يحل السعي للاجتماع بهذا الفصيل، سيما لو كان يغلب على الظن أن يتولى هذا المبتدع قيادة الجماعة إذا اجتمعت لا قدر الله، فالسعي لهذا غير مشكور، والساعي مأزور غير مأجور.
ولهذا لا ينبغي السعي للاجتماع والائتلاف لمجرد التجمع وتكثير "الكيمان"، من غير أن يكون هناك محاولات جادة لمراجعة الأسس والقواعد التي ينبغي أن تقوم عليها أي جماعة من الجماعات التي تريد العمل للإسلام، وبالطبع لا يدخل في ذلك أسباب الخلافات الشخصية المتمثلة في الهيمنة، والسيطرة، والحرص على القيادة والزعامة.
ومن باب أولى وبالأحرى السعي للتوفيق والجمع بين المتناقضين: السنة والشيعة، وقد سعي لذلك من قبل، وكونت لجان ومكاتب للإشراف على ذلك، ولكن دون جدوى، لأن الفوارق بين السنة والشيعة فوارق عقدية كبيرة.
فلا فائدة ترجى ولا ثمرة تجنى من هذه المساعي مع إصرار الرافضة على بعض العقائد الكفرية، نحو:
1. تضليلهم وتكفيرهم لخيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين.
2. رميهم لعائشة بالعظائم التي برأها الله منها.
3. زعمهم أن لهم قرآناً يساوي ثلاثة أضعاف قرآننا، ويعرفونه بقرآن فاطمة الزهراء.
4. خذلانهم لأهل السنة قديماً وحديثاً، وتعاونهم مع الكفار للقضاء عليهم، كما صنع ذلك الرافضي ابن العلقمي مع التتار، وكما يصنع أحفاده اليوم في العراق، حيث كانوا المعين الأساس لضرب الإسلام فيه.
هذا على سبيل المثال لا الحصر، فكيف يمكن الجمع بين أولئك القوم وبين أهل السنة مع هذه المخالفات العظيمة؟!
ومن باب أولى تلك الدعوة الكفرية التي يرفعها البعض للتوحيد أوالتقارب بين الأديان، تحت مسميات مختلفة ذات مدلول واحد.
الذي ينبغي أن يجدَّ فيه دعاة التوحيد قبل العمل على تجميع أهل السنة خاصة، والمسلمين عامة، ويوضحوه ويجلُّوه تجلية كاملة، علام يكون الاتفاق والاجتماع؟! لأن هذا هو الخطوة الأولى والبداية الصحيحة للتجمع المثمر المفيد، ويؤمن بعد الله من حدوث التفرق والانقسامات فيما بعد.
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل الرشاد، ويريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه، والباطل باطلاً ويلهمهم اجتنابه.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، الذي أكمل الله على يديه الدين، وأتم به النعمة، وختم به الرسالة والنبوة، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.
***************
الباب الرابع- ركن العلم
أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء
العلماء منزلتهم رفيعة، ومكانتهم عند الله عالية، فهم ورثة الأنبياء، والمبلغون الموقعون عن رب الأرض والسماء، وعن الرسول المجتبى، والحبيب المصطفى، ويكفيهم شرفاً وعزة أنهم الواسطة بين الخلق وربهم، فقد شاطروا الأنبياء، وقاسموا الرسل في التبليغ، والتعليم، والإرشاد، فما أطيب أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.
ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن أبي الطفيل أن نافع بن عبد الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان – وكان عامل عمر على مكة – فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى؛ فقال: من ابن أبزى؟ فقال: رجل من موالينا؛ فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين".
وقال أبو العالية: كنت آتي ابن عباس وهو على سريره، وحوله قريش، فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير، فتغامز بي قريش، ففطن لهم ابن عباس، فقال: هكذا العلم يزيد الشريف شرفاً، ويجلس المملوك على الأسرة.
جاء في كتاب "الجليس والأنيس" لأبي الفرج المعافى بن زكريا الجريري: (أن معاوية رضي الله عنه ابتنى بالأبطح مجلساً فجلس عليه ومعه زوجه ابنة قرظة، فإذا جماعة على رحال لهم، وإذا شاب قد رفع عقيرته يتغنى:
من يساجلني يساجل ماجداً يملأ الدلو إلى عقد الكرب
قال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر؛ قال: خلوا له الطريق؛ ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يتغنى:
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قلن: تعرفن الفتى؟ قلن: نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر؟!
قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن أبي ربيعة؛ قال: خلوا له الطريق فليذهب؛ قال: ثم إذا هو بجماعة، وإذا فيهم رجل يُسأل، فيقال له: رميت قبل أن أحلق، وحلقت قبل أن أرمي؟ في أشياء أشكلت عليهم في مناسك الحج، فقال: من هذا؟ قالوا: عبدالله بن عمر؛ فالتفت إلى ابنه وقال: هذا وأبيك الشرف، هذا والله شرف الدنيا والآخرة.(2/103)
قال الذهبي: قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على السرير، وحوله الأشراف، وذلك بمكة في وقت حجة في خلافته، فلما بصر به عبد الملك قام إليه فسلم عليه وأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وقال: يا أبا محمد، حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، اتقِ الله في حرم الله وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور، فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين، فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم، ولا تغلق دونهم بابك؛ فقال له: أفعل؛ ثم نهض وقام، فقبض على يده عبدُ الملك، وقال: يا أبا محمد، إنما سألتنا عن حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك؟ قال: ما لي إلى مخلوق حاجة؛ ثم خرج، فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد.
وقال الزهري: قال لي عبد الملك بن مروان: من أين قدمتَ؟ قلت: من مكة؛ قال: فمن خلفتَ يسودها؟ قلت: عطاء؛ قال: أمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي؛ قال: فبِمَ سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية؛ قال: إن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا.
ثم سأله عمن يسود بقية الأمصار، فإذا جلهم من العجم، فتعجب عبد الملك من ذلك، فقال له الزهري: يا أمير المؤمنين، إنما هو الدين، من حفظه ساد، ومن ضيعه سقط.
قال إبراهيم الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاء، فجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه، قوما؛ فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.
وقال الحربي: وكان محمد بن عبد الرحمن الأوقص عنقه داخل في بدنه، وكان منكباه خارجين كأنهما زجان؛ فقالت له أمه: يا بني لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوك منه، المسخور به، فعليك بطلب العلم، فإنه يرفعك.
فولي قضاء مكة عشرين سنة.
قال: وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرعد حتى يقوم.
قال: ومرت به امرأة وهو يقول: اللهم أعتق رقبتي من النار؛ فقالت له: يا بان أخي، وأي رقبة لك!
وقال يحيى بن أكثم: قال الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين؛ قال: فتعرف أجل مني؟ قلت: لا؛ قال: لكني أعرفه، رجل في حلقة، يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: يا أمير المؤمنين، أهذا خير منك، وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي عهد المؤمنين؟ قال: نعم، ويلك، هذا خير مني، لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت أبداً، ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر.
وقال خيثمة بن سليمان: سمعت أبا الخناجر يقول: كنا في مجلس يزيد بن هارون والناس قد اجتمعوا إليه، فمر أمير المؤمنين، فوقف علينا في المجلس، وفي المجلس ألوف، فالتفت إلى أصحابه وقال: هذا والله الملك.
وقال سفيان الثوري: من أراد الدنيا والآخرة فعليه بالعلم.
وقال المزني: سمعت الشافعي يقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن تعلم اللغة رق طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
وقال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة عند الله من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء.
وقال سهل التستري: من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء، يجيء الرجل فيقول: يا فلان، إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا؟ فيقول: طلقت امرأته؛ ويجيء آخر فيقول: حلفت بكذا وكذا، فيقول: ليس يحنث بهذا القول؛ وليس هذا إلا لنبي أوعالم، فاعرفوا لهم ذلك.
قال أبو جعفر الطحاوي: كنت عند أبي عمران، فمر بنا رجل من بني الدنيا، فنظرت إليه، وشغلت به عما كنت فيه من المذاكرة، فقال لي: كأني بك قد فكرت فيما أعطي هذا الرجل من الدنيا؟ قلت له: نعم؛ قال: هل أدلك على خلة؟ هل لك أن يحول الله إليك ما عنده من مال، ويحول إليه ما عندك من علم، فتعيش أنت غنياً جاهلاً، ويعيش هو عالماً فقيراً؟ قلت: ما أختار أن يحول الله ما عندي من علم إلى ما عنده، فالعلم غنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وسلطان بلا رجال.
وفي ذلك قيل:
العلم كنز وذخر لا نفاد له نعم القرين إذا ما صاحب صحبا
قد يجمع المرء مالاً ثم يحرمه عما قليل فيلقى الذل والحربا
ويا جامع العلم مغبوط به أبداً ولا يحاذر منه الفوت و السلبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه لا تعدلن به دراً ولا ذهباً(2/104)
قلت: هل كان للتابعي الجليل، والعالم الكبير، عطاء بن أبي رباح، وهو مولى، أسود شديد السواد، أعور، أفطس، أشل، أعرج، ليس في رأسه شعر إلا شعرات، وقطعت يده مع ابن الزبير، ثم عمي، أن يسود، وأن يكون مفتي أهل مكة أكثر من عشرين سنة، سيما في المناسك، ويقول ابن عباس لأهل مكة: تجتمعون عليَّ وعندكم عطاء؟ وكان في زمان بني أمية يأمرون في الحج منادياً يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن عطاء فعبد الله بن أبي نجيح، إلا بالعلم والتقوى والورع؟!
قال رحمه الله: لو ائتمنت على بيت مال لكنتُ أميناً، ولا آمن نفسي على أمة شوهاء.
وكذلك ما كان لابن أبي أبزى، ولأبي العالية، ولمحمد بن عبد الرحمن الأوقص، وغيرهم كثير أن يتصدروا الناس، ويؤموهم، ويسودوهم إلا بالعلم والتقوى.
ورحم الله الزهري عندما قال لعبد الملك راداً على تعجبه من سيادة الموالي على الأمصار بالعلم: يا أمير المؤمنين، إنما هو دين، من حفظه ساد، ومن ضيعه سقط.
ولله در الفقيه الأديب، والعالم الحكيم، أبي إسحاق الألبيري ، عندما قال حاضاً ومشجعاً ابنه أبا بكر على طلب العلم والاشتغال به، في قصيدته التي مطلعها:
تفت فؤادك الأيام فتاً وتنحت جسمك الساعات نحتاً
وتدعوك المنون دعاء صدق ألا يا صاح أنت أريد أنتا
قال رحمه الله:
أبا بكر دعوتك لو أجبتا إلى ما فيه حظك لو عقلتا
إلى علم تكون به إماماً مطاعاً إن نهيتَ وإن أمرتا
ويجلو بعينك من غشاها ويهديك الطريق إذا ضللتا
وتحمل منه في ناديك تاجاً ويكسوك الجمال إذا عريتا
ينالك نفعه ما دمت حياً ويبقى ذكره لك إن ذهبت
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مقاتل من أردتا
وكنز لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
فلو قد ذقت من حلواه طعماً لآثرت التعلم واجتهدتا
ولم يشغلك عنه هوى مطاع ولا دنيا بزخرفها فتنتا
ولا ألهاك عنه أنيق روض ولا خدر بزينتها فتنتا
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
فواظبه وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الله انتفعتا
وإن أعطيت فيه طول باع وقال الناس إنك قد علمتا
فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ: علمتَ فهل عملتا؟!
فرأس العلم تقوى الله حقاً وليس بأن يقال لقد رؤستا
عليكم أيها الكبار والصغار بطلب العلم الشرعي، فطلب العلم ليس له عمر محدد، ولكن يتأكد طلبه للصغار والشباب، وعليك أخي المسلم أن تبدأ بالأهم ثم المهم، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالعلم منه ما هو فرض، فإذا بلغ المسلم وجب عليه أن يتعلم كيف يتوضأ، ويغتسل، ويصلي، فإذا دخل رمضان وجب عليه تعلم أحكام الصيام، وهكذا.
ومن أوجب الواجبات تعلم العقيدة الصحيحة لمن تيسرت له.
وعليك أن تتلقى العلم من المشايخ، وأن تحرص على حضور الدروس التي تنعقد في المساجد، وأن تبدأ بصغار العلم قبل كباره، وبالكتب الميسرة، ثم تتدرج فيها.
واعلم أن هذا العلم دين، فانظر عمن تأخذ وتتلقى هذا العلم.
واحذر كذلك أن تشغلك دراستك النظامية عن تحصيل العلم الشرعي، ولا يخدعنك الشيطان بأنك ستتعلم العلم الشرعي بعد التخرج، فهذا من تلبيس إبليس وبعض الأهل.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، ودعوة مستجابة، ونعوذ بك اللهم من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، وعين لا تدمع.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، وصلى الله وسلم على معلم البشرية، وهاديها إلى الطريق السوية، وعلى صحابته، والتابعين لهم بإحسان، ما تعاقب الليل والنهار، وما ناح قمري على الأغصان.
=================0
العلماء بين الدور المنشود والدور المفقود
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد. . .
فغير خاف على من له علم ومعرفة بدين الإسلام أن للعلماء من رفيع المنزلة وعلو المكانة وسبق الفضل ما لا يزاحمهم فيه غيرهم من أصناف الناس. ففضائلهم في الكتاب والسنة مشهورة ومناقبهم فيهما منشورة، فهم الواسطة بين الله وبين عباده في تبليغ الشريعة والدلالة عليه جل وعلا. قال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء. فالعلماء خلفاء الرسل في أممهم ووارثوهم في علمهم يحتاج إليهم الصغير والكبير والذكر والأنثى والحاكم والمحكوم. فالواجب عليهم عظيم بقدر ما تبوؤوه في الأمة من المكانة والمنزلة. فبصلاحهم وقيامهم بما فرض الله عليهم من النصح والبيان يصلح معاش الناس ومعادهم. ولهذا قيل: إن زلة العالم كالسفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير.(2/105)
ولقد أخذ الله على أهل العلم ميثاق البيان وعدم الكتمان كما قال تعالى:--وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ? (آل عمران: 187). وذم الكاتمين للحق المعرضين عن القيام به، فقال تعالى:--وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ? (البقرة: من الآية140)، وقال تعالى:--إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ? (البقرة: 159). وإن وجوب البيان والنصح للأمة على أهل العلم ليتأكد في أزمنة الفتن وأيام المحن التي تنطمس فيها سبل الهدى ويلتبس فيه الحق بالباطل وتستحكم فيها الأهواء ويتبع الناس فيها كل ناعق ويخفى فيها الحق على طالبه، ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن بقطع الليل المظلم، أي: الأسود الذي لا نور فيه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا)). رواه مسلم (169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولقد مرت أمة الإسلام عبر تأريخها بأزمات كثيرة وفتن متلاحقة قيض الله فيها للأمة من أهل العلم والفضل وأهل النصح والعدل من أنقذ بهم الأمة وحفظ بهم الملة، فأثر العلماء ودورهم في إخراج الأمة من الفتن والنجاة بها من متلاطم المحن مشهور مذكور، فمعهم مصابيح الدجى ومشاعل الهداية التي يخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور. وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمة بالعز والسناء والرفعة، وأنه لن يزال فيها قائم بأمر الله حتى تقوم الساعة ففي البخاري (6767) ومسلم (3545) من حديث المغيرة وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)). وأهل العلم هم أئمة هذه الطائفة الظاهرة المنصورة.
ولا ريب أن أمة الإسلام اليوم في شرق الأرض وغربها تمر بمرحلة بالغة الحساسية والخطورة، هي أحوج ما تكون فيها إلى أهل العلم الراسخين في علومهم العاملين لدينهم الناصحين لأمتهم العالمين بواقع الأمة وما يحيط بها من أخطار. فهؤلاء بهم تسير السفينة ويبلغ المقصود، بل الأمة اليوم بحاجة إلى كل جهد من أبنائها المشفقين البررة. فكيف يسوغ في مثل هذه الظروف الحرجة من تأريخ أمتنا أن يترجل الفارس أن ينزوي أهل العلم والخير عن ساحات البيان والنصح ومواقع التأثير والإصلاح، بل الواجب على كل صاحب علم وخير أن يساهم في نصح الأمة بما يستطيع من قول أو رأي أو عمل، وأن يتقدم كل ناصح إلى ميادين الدعوة والبناء بإخلاص وجد وعلم وبصيرة، فإن نصر الله عز وجل ونصر دينه واجب على أهل الإيمان قال الله تعالى:--يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ? (محمد: 7). ومن رحمة الله وسعة فضله أن نصر المؤمنين لله ولدينه لا يحده حد ولا يقف عند رسم، بل إن استقامة الواحد منا في نفسه من نصرنا لله تعالى. فينبغي أن لا يحقر أحدنا في هذا السبيل شيئاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات)). فكل جهد في نصر دين الله والذب عن أمة الإسلام نافع مبرور مهما قل في أعين الناس وصغر روى البخاري في صحيحه (2681) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما رأى لنفسه على من دونه فضلاً: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)) ورواه النسائي(3127) بلفظ: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)). وفي لفظ آخر (3128) ((ابغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)).(2/106)
إن نجاح أهل العلم في الاضطلاع بدورهم وفي إنقاذ الأمة والخروج بها من حلقات الفتن وسلاسل المحن والإبحار بها نحو الغايات العظام لا يمكن بلوغه ولا سبيل إلى دركه إلا بأسباب تمخر بها سفينة الأمة عباب هذه الأمواج المتلاطمة فإن السفينة لا تجري على اليبس. وهذه الأسباب سلسلة من خصال البر من إخلاص العمل لله تعالى وإصلاحه بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وتقوى الله تعالى في السر والعلن، والنصح للأمة والتحلي بأحسن الأخلاق من العلم والحلم واللين والرفق والصبر وغير ذلك من صفات الخير التي تتحقق بها صفات أئمة المتقين التي ينتظمها قول الله تعالى:--خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ? (الأعراف: 199)، وقوله تعالى:--وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ? (السجدة: 24)
إن كثيراً من أهل العلم الذين يحملون همَّ هداية الأمة وإصلاح أوضاعها لا يخفى عليهم ما لهذه الأسباب من الأهمية والأثر إلا أن هناك سبباً رئيساً غائباً غفل عنه كثيرون، وهو لا يقل أهمية عن الأسباب المتقدمة لإنجاح دور العلماء المنشود في إنقاذ الأمة من الفتن والمحن، ألا وهو تواصل أهل العلم فيما بينهم وتواصيهم بالبر والتقوى والصبر والمرحمة وتعاونهم في ذلك. إن أهل العلم بحاجة ماسة إلى أن يمدوا بينهم جسور المحبة والألفة والاجتماع والأخوة والمشورة، فإن كثيراً من الخير وحظاً وافراً من الإصلاح يتحقق بذلك. ويتأكد هذا التواصل والتواصي في النوازل الكبار والأزمات الجسام لأمور عديدة أبرزها ما حوته النقاط التالية:
أولاً
أن معالجة ما تمر به الأمة من أخطار ومواجهة ما يعصف بها من أحداث أمر يفوق جهود الأشخاص ويتجاوز طاقات الأفراد مهما كانت ألمعية عقولهم ورسوخ علومهم، وقد كان سلفنا يقولون في بعض ما يرد عليهم من مسائل العلم: هذه مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر، فإذا كان هذا هديهم في المسائل الشخصية الفردية، فكيف بالنوازل المصيرية التي يتأثر بها واقع الأمة ويرتسم بها مستقبلها، أفيسوغ أن يبت فيه فرد أو يستقل بها رأي؟! فليت شعري من الذي تقوى درعه على تلك السهام. فلا بد من تضافر الجهود وتراص الصفوف ونبذ الاعتداد بالنفس والاستبداد بالرأي وتضخيم الذات، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.
ثانياً
أن جزءاً كبيراً مما أصاب الأمة ويصيبها من الفتن والنكبات إنما هو بسبب ما جرى في الأمة من التنازع والفرقة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها; وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها)).
ثالثاً
أن مما يؤكد ضرورة أهل العلم إلى وصل ما بينهم في أيام الفتن وتواصيهم بالحق والصبر أن الفتن أعاذنا الله منها تغير القلوب وتشوش عليها بما تبعثه من الشبهات المانعة من معرفة الحق والحائلة دون قصده. ولهذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن بأنها كقطع الليل المظلم كما جاء في صحيح مسلم (169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم))، ووصفها أيضاً بأنها عمياء صماء كما في سنن أبي داود (3706) من حديث حذيفة. وإنما وصفت الفتنة بذلك؛ لأن الإنسان يعمى فيها عن أن يرى الحق، وأن يسمع فيها كلمة الحق.
رابعاً
أن واجب النصيحة للأمة يتطلب من أهل العلم ورثة الأنبياء أن يبذلوا وسعهم في دلالة الأمة على خير ما يعلمونه لهم وأن يحذروهم شر ما يعلمونه لهم وإنما يبلغ الناصح ذلك بالاجتهاد في تبين الصواب ومشاورة أولي الألباب من إخوانه، فقد أثنى الله على أهل الإيمان بهذا فقال في سياق الثناء عليهم:--وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ? (الشورى: 38). وما كان أغنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يشاور أحداً وقد تكفل الله له بالهداية والنصر، ومع ذلك فقد أمره الله تعالى بمشاورة أصحابه رضي الله عنهم فقال تعالى:--وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ? (آل عمران: 159). ولقد بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأخذ بذلك حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه كما في الترمذي: ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فواجب على ورثته أن يتأسوا به. قال بعض البلغاء: من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل والعقل الفرد ربما ضل.
وقال بشار بن برد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة فإن الخوافي قوة للقوادم(2/107)
ولا طريق إلى تحصيل ذلك مع هذا التقاطع الذي يخيم على علاقة كثير من أهل العلم والفضل ويعد من أكبر العوائق دونه.
خامساً
أن كثيراً من الشر وفساد ذات البين الواقع بين أهل العلم منشؤه ما يكون بينهم من تباعد وتقاطع يورثهم بذور الجفوة التي يسقيها سعاة الباطل ونزغات الشيطان، فالتواصل والتواصي ضمانة لتضييق الدائرة على أسباب الفرقة، وهو كفيل بمحو بذور الجفوة، وإشاعة الألفة والمحبة. ومما قيل: المحبة شجرة أصلها الزيارة.
=================
جانب من تثبت وتورع السلف الصالح عن الفتيا وتجاسر الخلف عليها
نماذج لتورع السلف الصالح وتثبتهم عن الفتيا
الأسباب التي تدفع البعض إلى هذا السلوك المشين، والخلق المعوج اللئيم كثيرة
أخطر المسائل التي يجب التحرز من الفتيا فيها
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
المفتي موقِّع عن الله عز وجل، ومبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الواسطة بين الرب والخلق، فعليه أن يعرف قدره، ويتقي ربه، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب، ويتحرى في فتواه، ويدقق في السؤال، ويتأنى في الجواب، وأن لا يخطئ قول "أدري"، وأن لا يستنكف ويستكبر عن ذلك، وليكن له في رسوله، وملائكة ربه، والسلف الصالح، والخلف الفالح الأسوة الحسنة والقدوة الفاضلة، فالخير كل الخير في اقتفاء آثارهم والتخلق بأخلاقهم.
قال ابن المنكدر رحمه الله: إن العالم بين الله وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم.
وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: من أراد أن ينظر إلى محاسن الأنبياء فلينظر إلى محاسن العلماء، فيجيء الرجل فيقول: يا فلان، إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا، فيقول: طلقت امرأته؛ ويجيء آخر فيقول: حلفت بكذا وكذا، فيقول له: ليس يحنث بهذا القول؛ وليس هذا إلا لنبي أوعالم، فاعرفوا لهم ذلك.
وبعد..
فإليك أيها المفتي، والقاضي، والعالم، وطالب العلم، يا من ابتلاهم الله بالفتوى، وامتحنهم بالقضاء، واختبرهم بالعلم، إليكم جميعاً هذه النصائح الغالية، والنماذج الفريدة، والخصال الحميدة، التي ينبغي لكل منكم أن يتحلى بها، وأن يكون أهلاً لها، لحاجتكم إليها أكثر من حاجة من سبقكم، وذلك لقلة المعين، ولضعف وازع الدين، لتعرف إذا كان هذا حالهم وتلك خصالهم في التحري، والتدقيق، والتثبت، والتأكيد في الفتوى وهم أهلها وأحق بها، أين أنت من ذلك؟ وأين موقعك مما هنالك؟ فإن لم تكن مثلهم فتشبه بهم، فإن التشبه بالرجال فلاح ونجاح.
نماذج لتورع السلف الصالح وتثبتهم عن الفتيا
1. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون".
وعن ابن عباس رضي الله عنه نحوه.
2. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من كبار التابعين ومن أئمة الدين: "أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم المسألة فيردها إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول منهم، ما منهم من أحد إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".
3. وقال حصن الأسدي: "إن أحدكم ليفتي في المسألة، لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر".
4. وقال مالك رحمه الله: "سمعت محمد بن عجلان يقول: إذا أخطأ العالم "لا أدري" أصيبت مقاتله".
وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
5. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك، لا أعرف غيرك؛ فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله لا أحسنه؛ فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها، فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم؛ فقال القاسم: والله لئن يقطع لساني أحب إليَّ من أن أتكلم بما لا أعلم.
6. روي من غير وجه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "أي سماء تظلني، وأي أرضٍ تقلني، إذا قلتُ في كتاب الله بغير علم".
7. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "يا أيها الناس! من سُئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم الله أعلم، إن الله قال لنبيه: "قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ").
8. عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن شيء فقال: "لا أدري"، فلما ولى الرجل قال: نعمَّا قال عبد الله بن عمر، سئل عما لا يعلم، فقال: لا علم لي به".
9. وسئل الشعبي عن مسألة فقال: "هي زباء هلباء وبر لا أحسنها، ولو ألقيت على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعضلت به، وإنما نحن في الغوق ولسنا في النوق"، فقال له أصحابه: لقد استحيينا منك مما رأينا منك، فقال: لكن الملائكة المقربين لم تستح حين قالت: "لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا".
10. وقال مجاهد: "سئل ابن عمر عن فريضة من الصلب، فقال: لا أدري؛ فقيل له: فما منعك أن تجيبه؟ فقال: سئل ابن عمر عما لا يدري، فقال: لا أدري".(2/108)
11. وعن أيوب قال: تكاثروا على القاسم بن محمد يوماً بمنى، فجعلوا يسألونه، فيقول: لا أدري، ثم قال: "إنا والله لا نعلم كل ما تسألون عنه، ولو علمنا ما كتمناكم، ولا حلَّ لنا أن نكتمكم".
12. سئل سعيد بن جبير عن شيء فقال: لا أعلم، ثم قال: "ويل للذي يقول لما لا يعلم: إني عالم".
13. وذكر الشعبي عن علي رضي الله أنه خرج عليهم وهو يقول: "ما أبردها على الكبد، ما أبردها على الكبد"، فقيل له: وما ذاك؟ قال: "أن تقول للشيء لا تعلمه: الله أعلم".
14. وقال القاسم بن محمد: "يا أهل العراق، إنا والله لا نعلم كثيراً مما تسألونا عنه، ولئن يعيش المرء جاهلاً إلا أنه يعلم ما افترض الله عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم".
15. وقال ابن وهب: وسمعت مالكاً يحدث عن عبد الله بن يزيد بن هرمز قال: "إني لأحب أن يكون من بقايا العالم بعده لا أدري، ليأخذ به من بعده".
16. وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: "سأل عبد الله بن نافع أيوبَ السختياني عن شيء فلم يجبه، فقال له: لا أراك فهمت ما سألتك عنه؟ قال: بلى، قال: فلمَ لا تجيبني؟ قال: لا أعلمه".
17. وقال عبد الرحمن بن مهدي: "كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله! جئتك من مسيرة ستة أشهر، حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها، قال: فسل، فسأل الرجل عن مسألة، قال: لا أحسنها، قال: فبهت الرجل، كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء، قال: فقال: فأي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعتُ إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن".
18. وقال ابن وهب في "كتاب المجالس": سمعت مالكاً يقول: "ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول: لا أدري، فإنه عسى أن يهيأ له خير".
19. وقال ابن وهب: "وكنت أسمعه كثيراً يقول: لا أدري"؛ وقال: "لو كتبنا عن مالك لا أدري، لملأنا الألواح".
20. وقال عقبة بن مسلم: "صحبتُ ابن عمر أربعة وثلاثين شهراً، فكثيراً ما يسأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إليَّ فيقول: تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسراً لهم إلى جهنم".
21. وقال ابن عيينة: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً".
22. وقال أبو داود: "قول الرجل فيما لا يعلم: لا أعلم، نصف العلم".
23. وكان مالك رحمه الله يقول: "من أجاب في مسألة، فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة أوالنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة".
24. وسئل مالك عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، ألم تسمع قوله جل ثناؤه: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا".
فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يُسأل عنه يوم القيامة.
25. وقال مالك: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم المسائل ولا يجيب أحدهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه، مع ما رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة، فكيف بنا نحن الذين غطت الخطايا والذنوب قلوبنا؟!"، بل كيف بنا نحن؟!
26. وسئل الشافعي رحمه الله عن مسألة فسكت، فقيل له: ألا تجيب يرحمك الله؟ فقال: "حتى أدري الفضل في سكوتي أوفي الجواب".
27. وكان سعيد بن المسيب رحمه الله لا يكاد يفتي فتيا، ولا يقول شيئاً إلا قال: "اللهم سلمني وسلم مني".
28. وقال سُحنون: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، فقال: تفكرت فيه وجدته المفتي يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقته فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الرجل فيستمتع بامرأته ورقيقته وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا".
29. وجاء رجل إلى سُحنون يسأله عن مسألة، فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال: مسألتي أصلحك الله، اليوم ثلاثة أيام؛ فقال له: وما أصنع بمسألتك؟ مسألتك معضلة، وفيها أقاويل، وأنا متحير في ذلك؛ فقال: وأنت أصلحك الله لكل معضلة؛ فقال سُحنون: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لحمي ودمي للنار، وما أكثر ما لا أعرف، إن صبرتَ رجوتُ أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامضي تجاب في مسألتك في ساعة؛ فقال: إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك؛ قال: فاصبر؛ ثم أجابه بعد ذلك.
وقيل له: إنك تُسأل عن المسألة لو سئل عنها أحد من أصحابك لأجاب فيها، فتتوقف فيها، فقال: "إن فتنة الجواب بالصواب أشد من فتنة المال".
30. وقال بشر الحافي: "من أحب أن يُسأل فليس بأهل أن يُسأل".
31. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك قال: "أخبرني رجل دخل على ربيعة فوجده يبكي؟ فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم".
32. وقال ربيعة: "ولبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السراق".
قلت: هذا المسلك الحميد، والتثبت الكثير، استمده السلف الصالح من رسول الهدى، وإمام المتقين المعصوم من الزلل، المؤيد بالوحي، مع ذلك كان كثيراً ما يقول لا أدري، وكذلك كان يقول أمين الوحي جبريل.(2/109)
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي البقاع خير؟ قال: "لا أدري"، فقال: سل ربك، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: "يا جبريل، أي البقاع خير؟"، فقال: "لا أدري"، فقال: "سل ربك"، فانتفض جبريل انتفاضة كاد يصعق منها محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما أسأله عن شيء"، فقال الله عز وجل لجبريل: "سألك محمد أي البقاع خير؟ فقلتَ: لا أدري، وسألك أي البقاع شر؟ فقلتَ: لا أدري؟ فأخبره أن أحب البقاع المساجد، وأن شر البقاع الأسواق".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أدري أعُزَيْر نبي أم لا؟ وما أدري أتبع ملعون أم لا؟".
وقال: "ما أدري أتبع لعن أم لا، وما أدري ذو القرنين نبي أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟".
أقول: ما بال كثير من أهل زماننا يتجاسرون على الفتيا ولا يخشون مغبتها، ولا يتورعون كما تورع أسلافهم، فيبيعون آخرتهم بدنياهم، وفي كثير من الأحيان يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم من الحكام والعامة؟!
?
الأسباب التي تدفع البعض إلى هذا السلوك المشين، والخلق المعوج اللئيم كثيرة
ولكن أخطرها ما يأتي:
أولاً: الجهل بخطورة الفتوى وما يترتب عليها، وما تثبت السلف عنها إلا لعلمهم بخطورتها.
ثانياً: خطب ود الحكام.
ثالثاً: محاولة التلفيق بين الإسلام وإفرازات الحضارة الغربية المادية الكافرة.
رابعاً: خطب ود العامة، فمنافقة المجتمع والعامة أخطر من منافقة الحكام.
خامساً: اعتقاد البعض جواز التشهي في الفتوى، فيتخير من أقوال أهل العلم أيسرها لمن يهواه من المستفتين.
سادساً: حب التميز على الآخرين بدعوى التخفيف والتسهيل.
سابعاً: الحرص على تتبع زلات وسقطات بعض أهل العلم بدعوى أنها داخلة في الرخص الشرعية.
ثامناً: توهُّم الضرورة، إذ الضرورة التي تبيح أكل الربا مثلاً إن لم يأكله هلك.
تاسعاً: الاستحياء من قول لا أدري.
عاشراً: إيثار السلامة.
?
أخطر المسائل التي يجب التحرز من الفتيا فيها
1. دعوى تقارب الأديان وتوحيدها.
2. الدعوة إلى التعايش السلمي مع الكفار.
3. الدعوة لتقارب السنة مع الرافضة مع بقائهم وإصرارهم على عقائدهم الكفرية.
4. تحسين بعض البدع بالعقل والهوى.
5. التكفير، والتبديع، والتفسيق.
6. استحلال الفروج والأبضاع.
7. ما يدخل البطون من المآكل والمشارب، وكذلك الملابس: "فكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"، كما صح بذلك الخبر.
8. الدماء.
9. الطلاق.
10. التحليل والتحريم، ومن أخطر ما ألف في هذا العصر كتاب "الحلال والحرام" للدكتور يوسف القرضاوي سامحه الله، حيث أحل فيه كثيراً مما حرم الله، نحو التصوير، والتمثيل، والغناء، والموسيقى، والسينما، وغيرها، وصدق من سماه بـ"الحلال والحلال".
عليك أخي القارئ أن تقارن بين ورع السلف الصالح عن الفتيا وتجاسر الخلف عليها، وليت الأمر اقتصر على المنتسبين إلى العلم الشرعي، بل تعداه إلى تطفل بعض الوراقين والصحفيين من الشيوعيين والمنافقين، حيث أصبحوا يحللون، ويحرمون، وينكرون من الدين ما لا تهواه أنفسهم، حيث أباحوا الردة وأنكروا حدها، وشككوا في الكثير من المسلمات، بل وصلت بهم الجرأة إلى التطاول على ثلة من العلماء، وتحريض الكفار عليها، وتخويفهم من خطرها، بما يخيله إليهم باطنهم المريض، وعقلهم الباطن الحاقد، وما تطفح به الصحف من هجوم شرس، وتحامل بغيض، على الفتوى الموفقة التي أصدرتها الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة من عدم جواز الانتساب إلى حركة التحرير ليس ببعيد عنا، فحسبنا الله عليهم، وهو كافينا شرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعند الله تلتقي الخصوم، وينصر المظلوم.
فالله أسأل أن يرينا وجميع إخواننا المفتين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يسلمنا ويسلم منا.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المفتين، وإمام المتقين، محمد بن عبد الله صادق الوعد المبين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
0000000000000
إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 40)
فَصْلٌ .
[ كَرَاهَةُ الْعُلَمَاءِ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى ] وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَكْرَهُونَ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى ، وَيَوَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفِيَهُ إيَّاهَا غَيْرُهُ : فَإِذَا رَأَى بِهَا قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بَذَلَ اجْتِهَادَهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثُمَّ أَفْتَى .(2/110)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : أَدْرَكْت عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَرَاهُ قَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ مُحَدِّثٌ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ ، وَلَا مُفْتٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : أَدْرَكْت عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ ، وَلَا يُحَدِّثُ حَدِيثًا إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ إنَّ بُكَيْر بْنَ الْأَشَجِّ أَخْبَرَهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ ، فَجَاءَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ إيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ فَقَالَ : إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَمَاذَا تَرَيَانِ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : إنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَا لَنَا فِيهِ قَوْلٌ ، فَاذْهَبْ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنِّي تَرَكْتُهُمَا عِنْدَ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ ائْتِنَا فَأَخْبِرْنَا ، فَذَهَبْت فَسَأَلْتُهُمَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ جَاءَتْك مُعْضِلَةٌ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : الْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا ، وَالثَّلَاثُ تُحَرِّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ كُلَّ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ لَمَجْنُونٌ ، قَالَ مَالِكٌ : وَبَلَغَنِي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ ذَلِكَ ، رَوَاهُ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، وَرَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ .
وَقَالَ سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ : أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا ، يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْبَابُ الْوَاحِدُ مِنْ الْعِلْمِ يَظُنُّ أَنَّ الْحَقَّ كُلَّهُ فِيهِ .
قُلْت : الْجُرْأَةُ عَلَى الْفُتْيَا تَكُونُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَمِنْ غَزَارَتِهِ وَسِعَتِهِ ، فَإِذَا قَلَّ عِلْمُهُ أَفْتَى عَنْ كُلِّ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَإِذَا اتَّسَعَ عِلْمُهُ اتَّسَعَتْ فُتْيَاهُ ، وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَوْسَعِ الصَّحَابَةِ فُتْيَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فَتَاوَاهُ جُمِعَتْ فِي عِشْرِينَ سِفْرًا ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَيْضًا ، وَاسِعَ الْفُتْيَا ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَرَادِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : كُنْت أَرَى الرَّجُلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَإِنَّهُ لَيَدْخُلُ يَسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَيَدْفَعُهُ النَّاسُ عَنْ مَجْلِسٍ إلَى مَجْلِسٍ حَتَّى يُدْفَعَ إلَى مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَرَاهِيَةً لِلْفُتْيَا ، قَالَ : وَكَانُوا يَدْعُونَهُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ الْجَرِيءَ .
وَقَالَ سَحْنُونٌ : إنِّي لَأَحْفَظُ مَسَائِلَ مِنْهَا مَا فِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَئِمَّةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، فَكَيْف يَنْبَغِي أَنْ أَعْجَلَ بِالْجَوَابِ قَبْلَ الْخَبَرِ ؟ فَلِمَ أُلَامُ عَلَى حَبْسِ الْجَوَابِ ؟ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : حَدَّثَنَا أَشْهَلُ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : قَالَ حُذَيْفَةُ : إنَّمَا يُفْتِي النَّاسَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ : مَنْ يَعْلَمُ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ ، أَوْ أَمِيرٌ لَا يَجِدُ بُدًّا ، أَوْ أَحْمَقُ مُتَكَلِّفٌ ، قَالَ : فَرُبَّمَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : فَلَسْت بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ الثَّالِثَ
=================0000
بالعلم والجهاد قوام الدين والعباد
قوام دين الله الذي به صلاح العباد والبلاد العلمُ والجهاد.(2/111)
فبالعلم يعرف الناس دينهم، حلاله من حرامه، وبدعته من سنته، وبالعلم يجاهد المنافقون ويرد على شبه المضلين، وتأويل الجاهلين، وتلبيس الملبسين.
وبالجهاد يحمى حمى الدين، ويدفع عن ديار المسلمين، ويقمع الكفار والمشركون، ويذب عن الأعراض والحريم.
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ".
قال القرطبي في تفسيرها: (الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتدخل فيه أمته من بعده، قيل المراد جاهد بالمؤمنين الكفار، وقال ابن عباس: أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان، وشدة الزجر والتغليظ، وروي عن ابن مسعود: جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكْفَهِرَّ – أي اعبس – في وجوههم).
وقال: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافة فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ".
فقوام الدين برفع راية الجهاد، ولكن المجاهدين يحتاجون إلى علم يصحح نياتهم، ويحكم تصرفاتهم، ويضبط ممارساتهم، فشرع طلب العلم وتعين على طائفة من هذه الأمة أن تتفقه في الدين لتقوم بتوجيه المسلمين، مجاهدين، وتجاراً، وزراعاً، وغيرهم، وفي ذات الوقت ندب الله طائفة من هذه الأمة، لتحمي ظهورالمجاهدين، وتمولهم، وتجهزهم، وتقوم بشؤون أسرهم وأهليهم.
فكل ميسر لما خلق له، ولا تغني طائفة عن طائفة، إذ الإسلام في حاجة لكل هؤلاء، فكل منهم على ثغرة من ثغور الإسلام.
جاء في تفسير: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً..": (إذ لو نفر الكل لضاع مَنْ وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد، وليقم فريق يتفقهون في الدين،ويحفظون الحريم).
هذا بالنسبة للسرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي بلغت خمساً وثلاثين سرية، فقد أمر البعض أن يبقوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقون عنه العلم ليعلموه للغزاة عندما يرجعون إليهم، وإلا فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبع عشرة غزوة، وقد ثبت في بعض الغزوات عندما انفض عنه كثير من الأصحاب، كما حدث في أحُد وحُنَين، ولهذا لقب بنبي الملحمة.
فينبغي لمن استطاع من العلماء والفقهاء أن يكون في مقدمة المجاهدين والمرابطين، فيفعل كما فعل أسلافهم، فقد استشهد كثير منهم في ساحات القتال، أومرابطين في الثغور، وكانوا من المحرضين على القتال بالقول والعمل، وما كانوا منزوين وقاصرين جهدهم على العبادة، والتأليف، والتصنيف، والتقعيد، كما يفعل كثير منهم الآن.
بل ليت الأمر وقف عند هذا الحد، إذ هناك من أصبح همه الأكبر التثبيط، والتخذيل، والتحذير من جهاد دفع الغزاة الذين غزوا ديار الإسلام، فليتهم إذ لم يخرجوا ويشجعوا سكتوا وكفوا المقاومين المجاهدين شرهم.
معلوم من الدين ضرورة أن كلاً من العلم والجهاد منه ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية، والتمييز بين ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية أمر في غاية الأهمية، سيما فيما يتعلق بالجهاد، فجهاد الدفع واجب، فإذا غزا الكفار بلداً من بلاد المسلمين تعين على أهل تلك البلاد دفعهم، فإن لم يتمكنوا من ذلك وجب على من يليهم، حتى يطبق الحكم سائر ديار الإسلام.
ولا يشترط فيه كذلك أن يكون تحت راية إمام، فإذا تخلى الحكام عن ذلك جوهد الكفار تحت أي راية يكون الغرض منها إعلاء كلمة الله، كما لا يشترط فيه إذن الوالدين.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وإنما جعل طلب العلم في سبيل الله لأنه به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير، والثاني الجهاد بالحجة والتبيان، وهو جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه.
قال تعالى في سورة الفرقان: "وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا. فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا"، فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادين.
أيضاً فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومع هذا قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ"، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن.
والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم، ودعوة الخلق به إلى الله، ولهذا قال معاذ: "عليكم بطلب العلم، فإن تعلمه لله خشية، ومدارسته عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد".
إلى أن قال: وكما قيل:
فما هو إلا الوحي أوحَدَّ مرهف تميل ظباه اخدعي كل مائل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من كل جاهل(2/112)
ولما كان كل من الجهاد بالسيف والحجة يسمى سبيل الله، فسر الصحابة قوله: "أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ" بالعلماء والأمراء، فإنهم المجاهدون في سبيل الله عز وجل، هؤلاء بأيديهم، وهؤلاء بألسنتهم، فطلب العلم وتعليمه من أعظم سبيل الله).
=================00
العلم، والدعوة، والجهاد... توافق أم تنافر؟
أرى خطرا يحدق بالأمة، يتمثل في التنازع بين المؤمنين، بغير حق..
أناس يزنون الأمور بما يقع في نفوسهم، لا بالعرض على الأصول الشرعية..
ويبنون على ما يزنون مواقف لا تمثل إلا نفوسهم، وينسبونها إلى الشرع ، ويحكمون وفقها، فيضللون، ويجزمون بهلاك من لم يكن مثلهم..
ومن قال: هلك الناس؛ فهو أهلكهم..
وما بني على باطل فهو باطل...
وما البلاء إلا من عاطفة لا يحكمها عقل، وفي عقل لا تخالطه عاطفة نصيب من البلاء كذلك..
والتوفيق في عقل وعاطفة يجتمعان، فهذا يرشد هذه، وهذه تحرك هذا..
لأجل هذا كتبت المقال التالي..
والله ولي المؤمنين..
العلم، والدعوة، والجهاد..
جمع بين المحكمات وفصل بين المتشابهات
(1) العلم، والدعوة، والجهاد.. بهذه الثلاثة ننشر الإسلام..
- قال الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}.
- وقال تعالى: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}..
- وقال تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا}..
تبليغ الإسلام بالعلم:
- يكون بالمجادلة بالدليل والبرهان وإقامة الحجة على الخصم..وهذه مهمة العلماء الراسخين في العلم، مع أهل العلم والفكر والبحث من غير المسلمين..
وتبليغ الإسلام بالدعوة:
- يكون بعرض الإسلام على الناس، ببيان أصوله ومحاسنه وغاياته، وعلوه على غيره من الملل والنحل والأديان.. وهذا السبيل مع العوام من غير المسلمين، الذين لايحتاجون إلى كبير حجة لإقناعهم، لذا فهو مهمة كل مسلم عنده الحد الأدنى من العلم والفهم.
وتبليغ الإسلام بالجهاد:
- يكون بالقتال، ببذل النفس والمال.. وهذه مهمة كل مسلم عاقل بالغ قادر، عالما كان أو عاميا.. وهذا السبيل مع عموم المحاربين من الكفار، الذين يمنعون تبليغ الإسلام.
(2) كل هذه السبل مهمة، وكلها لازمة لانتشار الدين في الأرض، وبعضها يتقدم على بعض..
• فالعلم والدعوة أولاً.. ثم الجهاد ثانيا..
في البدء يدعى الناس إلى الإسلام، يعرض عليهم الدخول فيه، وإن احتاجوا للجدال والمناظرة، فلهم ذلك، فإن أسلموا فبها ونعمت، وإلا فما لهم إلا دفع الجزية، والبقاء على دينهم، فإن أبوا فالجهاد..
• فالجهاد آخر المراتب في التبليغ، ولا يلجأ إليه إلا بعد نفاد كل الوسائل المقنعة للدخول في الإسلام، أو الكف عن معاداة واعتراض طريقه.. عن بريدة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم..فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) .
(3) والعلم له شروطه، والدعوة لها شروطها، والجهاد له شروطه..
• فلا يناظر ويجادل إلا راسخ، وليس كل وقت ينفع فيه الجدال، فإذا وقعت المكابرة امتنعت المجادلة..
• ولا يدعو ويرصد نفسه للدعوة إلا فقيه يعرف كيف يدعو؟، وإلى ماذا يدعو؟، ومتى يدعو؟..
• ولا يجاهد إلا قادر، وليس الجهاد في كل وقت، بل يشترط له إعداد العدة، وتوفر العدد، وغير ذلك. وليس المقصود استقصاء شروط كل واحدة منها، بل التذكير بأن كونها واجبة، مهمة، فريضة على المسلمين، لكن ذلك لايعني الدخول فيها كيفما اتفق، بل لابد من شروط، لايحصل الدخول فيها إلا بها، وهذا كما أن الطعام مهم للجسد، لكن ذلك لايعني أكل كل الطعام، وفي أي وقت..
(4) هذه الثلاثة لها حد أدنى ، واجب على جميع المسلمين أن يأتوا به..
• فالعلم له حد أدنى، لا يصلح الإسلام من دونه، وهو معرفة أركان الإسلام، وأركان الإيمان، وما فيها من فروض، لا تقوم الشريعة بدونها..
• والدعوة لها حد أدنى، فيجب على عموم المسلمين الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا تركوه جميعا أثموا، وإذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الآخرين، فهو فرض على الكفاية.
• والجهاد له حد أدنى، مثل الدفع عن أرض المسلمين إذا اعتدى عليها معتدٍ، والاستجابة إذا استنفر الإمام، ونحو ذلك، فهذا واجب على كل قادر.(2/113)
فكل واحدة من هذه الثلاثة لها حد أدنى، ثم بعد ذلك من أراد التوسع فله ذلك، وهو محمود في حقه. فالله تعالى مايز بين الناس، فأعطى كل إنسان ما لم يعط غيره:
فهذا وهبه العلم ويسره له، فهو في دراسة وبحث وحفظ للعلم، وفي تعليم وتدريس وتأليف..
وهذا وهبه فقه الدعوة ويسره له، فهو يجوب الأرض، يدعو إلى الإسلام، يلاحق الناس بدعوته..
وهذا وهبه حب الجهاد ويسره له، لا همّ له إلا فيه، إذا سمع هيعة طار إليها..
هذا التخصص موهبة من الله تعالى، فكل ميسر لما خلق له، لكن ذلك لا يعني ألا يضرب كل من هؤلاء بسهمه في الأبواب الأخرى، كلا، بل يجب على كل طائفة أن تأخذ بالحظ الواجب من كل عبادة من هذه الثلاثة، ثم ما زاد على ذلك من مستحب، فهو مخير في التزود منه.
وقليل جدا من يقدر على الجمع بين هذه العبادات الثلاثة، فيكون عالما داعيا مجاهدا، على التمام والكمال، باستيفاء الواجب والمستحب منها، هذا لايتحقق إلا في الأنبياء، وفي ندرة من غيرهم، وهو مقام كبير، ولم يأمر الله تعالى عباده بتحصيله، لعلمه بضعفهم أن يبلغوه، إنما أمرهم بالحد الأدنى..
تجد إنسانا مبرزا في العلم، ليس كذلك في الدعوة والجهاد.. وآخر مبرز في الدعوة، ليس كذلك في العلم والجهاد.. وثالث مبرز في الجهاد، ليس كذلك في العلم والدعوة.. وهكذا..
فإن هم أخذوا بالحد الأدنى، ثم توسعوا فيما تخصصوا فيه فهم مثابون، وليس عليهم سبيل، وإن هم قصروا في الحد الأدنى، فهم ملومون.. وهذا موجود:
تجد عالما ليس له همّ إلا العلم، وليس له أدنى مشاركة في الجهاد، لابالمال ولابالنفس، وكذا في الدعوة.. وتجد داعية ليس له همّ إلا الدعوة، وليس له أدنى مشاركة في العلم، ولا في الجهاد..
وتجد مجاهدا ليس له همّ إلا في الجهاد، وليس له أدنى مشاركة في العلم، ولا في الدعوة..
فهؤلاء هم أهل التعبد المقيد، بحسب تعبير ابن القيم في "المدارج"، الذين قيدوا أنفسهم في عبادة معينة، واستغنوا عن غيرها، مع كونها مهمة ومطلوبة، فإذا خرج أحدهم عن النوع الذي هو فيه إلى غيره من الطاعات، اتهم نفسه بالنقص والتقصير، فهو يعلي من شأن عبادته على بقية العبادات، ويرى كل الإيمان والقرب في ذلك، كمن يرى أعلى المقامات في العلم، أو من يرى أعلى المقامات في الدعوة، أومن يرى أعلى المقامات في الجهاد، ثم يقلل من شأن بقية العبادات!!..
أما أهل التعبد المطلق، فهم الذين ليس لهم غرض في عبادة معينة، بل غرضهم عبادة الله تعالى في كل ما أمر به، ولو كان حظ نفوسهم في غيرها، تراهم مع العلماء في حلق العلم، ومع الدعاة في أبواب الدعوة، ومع المجاهدين بالنفس والمال، يضربون بسهم في كل طاعة قدر الاستطاعة، ويجتهدون ويجدون فيما تخصصوا وأتقنوا، لكن لا يهملون ولا يضيعون سواه..
فالكمال: الغنيمة من كل العبادات قدر الإمكان..
والواجب: الأخذ بالحد الأدنى منها..
والمفترض: وضع كل إنسان في مكانه اللائق به، ليعطي وينتج أحسن ما لديه:
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقد أرسل خالد بن أنيس إلى خالد الهذلي لما بلغه أنه جمع العرب لقتال المسلمين، ولم يرسل أبا بكر، وأرسل معاذا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن للتعليم والدعوة ولم يرسل خالد بن الوليد وعمرو بن العاصي، وأرسل خالدا وعمرا على رأس السرايا والجيوش ولم يرسل عمر ولا عثمان رضي الله عنهم، فهذا هو الفقه في التعامل مع مواهب البشر..
(5) السمة الجامعة: التآلف والتعاون..
السمة الجامعة بين هذه الفئات الثلاثة هي: التآلف، والتعاون، والمحبة، والنصرة، والإكرام.. مهما تباينت وجهات النظر، إذا كانت ضمن دائرة النص والاجتهاد..
فالعالم يوقر المجاهد والداعية.. والداعية يوقر العالم والمجاهد.. والمجاهد يوقر العالم والداعية..
فكلهم على ثغرة من ثغور الإسلام، وكلهم على عمل عظيم، وكلهم في حاجة إلى بعضهم بعضهم.. فإذا علم أن من الندرة أن تجتمع هذه الثلاثة: العلم والدعوة والجهاد؛ في شخص واحد، علم أن التكامل مرتبط بالاجتماع لا بالفردية، وعلى ذلك فهم بدون اجتماع في نقص وضعف، ولا كمال ولاقوة إلا باجتماعهم، والإسلام لايعلو إلا بهذه الثلاثة، فهي أساسه وقوامه..
وكل هؤلاء له مقام كبير في الدين:
• فالعلماء ورثة الأنبياء، هم الذين يعلمون الناس الخير، وهم أهل القرب من الله والخشية لله تعالى..
• والدعاة هم رسل القلوب، وهم الذين يمدون أيديهم لإنقاذ الناس، فهم أهل محبة الله تعالى..
• والمجاهدون هم حماة الدين وحفظته، وعز الإسلام، فهم جند الله.
فهي أركان ثلاثة، وأهلها هم أركان الإسلام، وإذا سقط ركن سقط الإسلام، فلم يقم في الأرض، ولايمكن لركنين أن يقوما بدون ثالث، أبدا.
والأمة في حاجة إلى العلماء والدعاة والمجاهدين، فإذا غابت فئة اختل ميزان الأمة ومال، وفي ذلك نقصان الأمة وزوالها من مرتبة الريادة وإمامة البشرية.(2/114)
فمعرفة قدر هذه الأركان يمنع من التهاون في إقامتها، أو التهاون في توقير أهلها، كما يفعل من لم يفهم حقيقتها، كالذي يهون من جانب الدعوة والجهاد، ويطعن وينتقص من أهلها، لاشتغاله بالعلم، أو الذي يهون من جانب العلم والجهاد، ويطعن ينتقص من أهلها، لاشتغاله بالدعوة، أو الذي يهون من جانب العلم والدعوة، ويطعن وينتقص من أهلها، لاشتغاله بالجهاد.
(6) كل هذه الثلاثة فيها أصول لا تقبل الجدال.. ومسائل تقبل الاجتهاد..
• فأما أصل العلم قيامه على الكتاب والسنة وفقه السلف، وما عداه فباطل..
• وأصل الدعوة قيامها على بيان صحة الإسلام، وبطلان ما سواه من الأديان: يهودية أو نصرانية أو غير ذلك، وكذلك بيان أن الصحيح هو ما عليه الفرقة الناجية: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما عدا ذلك فباطل ..
• وأصل الجهاد جهاد الكفار المحاربين، وهو دفع وطلب، وعز الإسلام فيه، وهو ذورة سنامه..
ثم تأتي بعد ذلك المسائل الخلافية التي هي محل الاجتهاد، لكونها تدور على فهم النص، والنص يحتمل الخلاف فيه:
• ففي العلم، فروع الفقه، والعقيدة؛ يسوغ فيها الخلاف، ولايسوغ فيها التنازع والإنكار.
• وفي الدعوة، وسائل الدعوة توقيفية أم لا؟، يسوغ فيها الخلاف، ولا يسوغ التنازع والإنكار.
• وفي الجهاد، هل تحققت شروط الجهاد أم لا؟، يسوغ فيها الخلاف، لا التنازع والإنكار.
فإذا وقع خلاف في الأصول وجب الإنكار والرد بالتي هي أحسن، وبيان الخطأ في هذا الأصل، وتحذير الناس من الوقوع فيه، ومن اتباع فاعله، فمن غير المقبول المساس بالأصول..
أما إذا وقع الخلاف في الفروع، التي هي محل اجتهاد، والنصوص تحتمله، جاز النقد والرد بالتي هي أحسن، لكن ليس على المتخالفين أن يقعوا في بعضهم بعضا، وأن يحذر بعضهم من بعض، ولايجوز لهم التنازع والفشل، والمعاداة والعدوان وتسليط اللسان، واتهام النيات، والحكم بالهلاك، فهذا كله جور وظلم ونقص في الحكمة وضيق في الرؤية، وفي مثل يقول الله تعالى:
- {ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}..
- {ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}.. - {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}..
فهذا هو البلاء، وبدخول المؤمنين فيه تنزع الرحمة، ويحل الفشل، وينزل العذاب..
فالخلاف في مسائل الفروع، في العقيدة والفقه، لا يسوغ التنازع والتدابر والتقاطع..
والخلاف في وسائل الدعوة، لا يسوغ التنازع والتدابر والتقاطع..
والخلاف في تحقق شروط الجهاد، لا يسوغ التنازع والتدابر والتقاطع..
إذا كان الخلاف مبينا على الدليل الصحيح، الذي يقبل كل هذه الأوجه المختلفة..
والحق لاريب أنه واحد، لكن الآفة في الأفهام، قد توفق فتصيبه، وقد لا تصيبه، فإن اجتهد المرء صادقا في إصابة الحق فهو مأجور مرتين إن أصاب، ومرة إن أخطأ، فكان لاجتهاد أجر، ولو لم يصب، وهذا دليل على رضا الله تعالى عن صنيعه، وإلا ما أثابه، أفيرضى الله تعالى عن هذا المجتهد ويثيبه أجرا، ثم يأتي من يدعي الإيمان وحب الله ورسوله فيسخط عليه، وينازعه، ويعاديه ويظلمه؟!!.
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه حينما اجتهدوا في فهم أمره: (لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فمنهم من صلى في الطريق، ومنهم صلى في بني قريظة، فأقرهما على الاجتهاد، مع أن المصيب واحد لا غير.. وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم بجواز الخلاف في فروع الفقه..
وانسحب خالد بن الوليد بالجيش في معركة مؤتة، خشية عليه من الهلاك، إذ كان عدد جيش العدو مئتي ألف، وعدد المسلمين ثلاثة آلاف، ولما دخل المدينة حثى الناس التراب في وجه الجيش قائلين:
يا فُرار، فررتم في سبيل الله ؟!، فقال النبي صلى الله علي وسلم:
(ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله). الروض الأنف 7/19
فدل على أن الخلاف في مسائل الجهاد، من حيث توقيت الجهاد والهجوم، أو التراجع، واختيار وقت آخر، من مسائل الفروع التي يسوغ فيها الخلاف، ولا يسوغ في هذا التنازع والعداء..
وبعد هذا: فإذا وجدت أحدا يعادي في مسائل الخلاف، ويقاطع ويدابر، فاعلم أنه:
إما جاهل لا يدري ولا يفرق بين ما يسوغ وما لا يسوغ فيه الخلاف، ومثل هذا كثير، وهؤلاء أصحاب نيات حسنة في الدين، لكن آفتهم عدم البصيرة والعلم.. ودواؤهم التعليم والتبصير..(2/115)
وإما صاحب هوى، يريد فتنة، ومثل هؤلاء موجودون، ويهمهم الإيقاع بين المؤمنين، كما أوقعوا بين علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهم، فيتخذون من مسائل الخلاف والمشتبهات دخلا لإفساد ذات بين المؤمنين، وتفريق كلمتهم، وحصول التنازع والفشل، متسترين بحب الدين والحرص عليه، وما أضر على الدين منهم، فعلى المؤمنين الحذر منهم، ولن ينجيهم إلا التقوى والبصيرة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لايألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط}..
أبو سارة
abu_sarah@maktoob.com
=================000
قصة في التاريخ.. وعبرة للأجيال.!
الكاتب : قاسم الشيباني
كان المسلمون في الأندلس في عزٍ وتمكين لما كانوا يدا واحدة ولما كانوا يعتمدون الجهاد منهج حياتهم وأعظم أهدافهم . إذ كان ملوك المسلمين يقودون كتائب الجهاد لنشر الإسلام أمثال طارق بن زياد وموسى بن نصير وعبدالرحمن الغافقي ثم عبدالرحمن الداخل وإلى عبدالرحمن الأوسط ثم إلى أبي عامر المنصور الذي كان يأمر جنوده إذا رجعوا من غزوة أن يجمعوا له غبار حذاءه فإذا سألوه ما الذي سيفعل به قال إذا مت فاجعلوه في كفني فإذا قدمت على ربي قلت يا رب هذا غبار قدمي في سبيلك. حتى هابه ملوك النصارى وصاروا يسعون جاهدين لعقد الصلح معه ودفع الجزيه حتى إن أحد ملوك النصارى في شمال الأندلس أهدى له الهدايا العظيمه ليصرفه عن قتاله وكان من ضمن الهدايا أن أهدى ابنته له سبية جارية. فهل رأينا عزا كهذا العز أو مجدا كهذا المجد .!!..
ثم مرت السنون والأيام فقعد حكام المسلمين في الأندلس عن الجهاد في سبيله وانشغلوا بالزخرفة و العمران وانتشر اللهو والطرب وصار طبيعة الحياة وانتشرت القيان والمعازف وصار بدل أن يملأ بلاط الحكام العلماء والعقلاء ملأه الشعراء و المغنون و السفهاء وأصحاب اللهو و المصالح الشخصية أضف الى ذلك تنافس الملوك على الحكم وتفرقهم حتى بلغت دويلات الأندلس اثنتين وعشرين دويلة تقريبا حتى صار ذلك العصر يعرف بعصر دويلات الطوائف فهذا المعتمد وهذا المعتضد وهذا المتوكل وهذا المقتدر وهذا القادربالله وهذا الناصر وهكذا القاب ملوك وسير صعاليك جمعة للمال خونة للأمة لايبالون بمايهدد المسلمين من خطر عدوهم وتربصه بهم حتى قال أحد الشعراء المتضجرين من وضع ملوك الطوائف في الأندلس :
مما يزهد في أرض أندلس ألقاب معتضدفيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
واستمر المسلمون دويلات متفككة متناحرة حتى كان بعضهم يعقد الحلف مع دول النصارى ضد بعضهم اذا خاف على دويلته من الآخر وحتى ذكر من سخافتهم انه اذا تزوج أحدهم باخت الآخر أو ابنته اتحدا في الحدود ليصيرا بذلك دويلة واحدة والسبب عقد زواج هكذا بمنتهى السخافة و اللا مبالاة . حتىطمع فيهم النصارى وصاروا يباشرون غزوهم بينما هم يلتزمون موقف الدفاع واذا ماهوجم احدهم تفرج عليه الآخر دون أي حراك وكأنه ينتظر دوره الى المذبحة .
استمر هذا الوضع سنين حتى دخل الأندلس أحد العلماء العاملين الربانيين الناصحين وهو الباجي - رحمه الله - فرأى هذا التفرق والتشرذم فجعل أعظم أهدافه أن يسعى في توحيد دويلات الطوائف وبدأ برحلاته الشهيرة في تاريخ الأندلس بين دويلاتها لتوحيد ملوكهم وجمع كلمتهم فكانوا يظهرون له الموافقة والتأييد لكن دون أي تحرك فعلي صادق وبقي الباجي كذلك ثلاثين سنة يحاول جاهدا توحيد كلمة ملوك الطوائف لكن دون جدوى حتى كان الحدث الذي هز المسلمين في الأندلس وكان كارثة فظيعة تلك هي احتلال مدينة بربشتر من قبل أحد ملوك النصارى ذلك فرلند في جيش من النورمان والفرنسيين وكان عدد جيشهم يقارب الأربعين ألف مقاتل فحاصروا بربشتر قرابة أربعين يوماً وكان ذلك عام 456هـ فدخلوها عنوةً وقتلوا ما يقارب المائة ألف وانتهكوا الأعراض فكانوا ينتهكون عرض المسلمة أمام زوجها أو وليها ، وسبوا قرابة خمسة آلاف فتاة من أجمل فتيات المسلمين وأرسلوهن هدية كسبايا لملك القسطنطينية .(2/116)
جرى ذلك رغم استنجادات أهل بربشتر بملوك دويلات الطوائف ولم يتحرك أحد ، يذكرنا هذا بما جرى للمسلمين في البوسنة وكأني الساعة أتذكر تجوال رئيس البوسنة علي عزت بيجوفيتش بحكام المسلمين يتسولهم شيئاً من المال لكي يسلح المسلمين هناك ولكن لم يجبه أحد فكانت النتيجة ما يقارب مئتي ألف مسلم قتيل وانتهك عرض خمسين ألف مسلمة بينما توزع ثلاثون ألف فتاةٍ مسلمة على معسكرات الجيش الصربي وأرسل الآلاف من الأطفال المسلمين ليباعوا في أوربا على الكنائس والأديرة لإعدادهم ليكونوا رهباناً وقسس نصارى .
لم يصبر العلماء لما سقطت بربشتر ولما حدث ما حدث تحرك العلماء وجمعوا الناس للجهاد وكان من هؤلاء العلماء ابن حزم وابن عبد البر وابن رشد في جيش من المسلمين متطوعين بلغوا خمسة آلاف مجاهد فاستطاعوا أن يهزموا حامية النصارى في بربشتر ولم يقتل منهم إلا خمسين مجاهداً بينما قتل من النورمان النصارى ألف وخمسمائة وتحررت بربشتر وعادت إلى المسلمين مما دل على أن المسلمين ليسوا ضعفاء وأنهم إذا رجعوا للجهاد وابتعدوا عن الإخلاد إلى الأرض والدعة فإنهم هم الأعز وغيرهم الأذل .
لكن الأمر بشكل عام كان كما هو عليه تفرق وتشرذم . حتى إن الفونسو ملك النصارى زاد في إذلال المسلمين فبلغ به الحال أن أرسل إلى ملك إشبيلية المعتمد بن عباد يطالبه باثنتين أن يدفع الجزية وكانت الثانية في منتهى الإذلال للمسلمين وذلك أنه طلب من المعتمد أن يسمح لزوجته أن تلد في جامع قرطبة مما أغضب المعتمد بن عباد وجعله يقتل وفد الفونسو عندها حاصره الفونسو حصاراً شديداً وأرسل له رسالةً في منتهى الغطرسة والتكبر يقول فيها أرسل إلي مروحةً أروح بها عن نفسي فكتب إليه المعتمد رسالةً جعلته يرجع ويترك الحصار إذ قال له : ( والله لئن لم ترجع لأروحن لك بمروحةٍ من المرابطين تروح بها نفسك ) ثم قال: ( والله لئن أرعى الجما ل أحب إلي من أن أرعى الخنازير ) . عندها رجع الفونسو وحاصر طليطلة أهم مدن المسلمين في العالم محاولاً فتحها.
وأخذت الأحداث تتسارع والباجي رحمه الله يرقب الأحداث بقلق وكان ذلك قبيل وفاته عام 474هـ فجمع العلماء وطلب منهم أن يعبروا البحر إلى المغرب حيث دولة المرابطين الدولة الإسلامية القوية دولة العلم والجهاد ليستنجدو بأمير المجاهدين فيها يوسف بن تاشفين رحمه الله وكان آنذاك قد بلغ من العمر ثمانين سنة ومع ذلك لم ينزل عن صهوة جواده يجاهد في سبيل الله فاتجه الوفد إلى حاكم دويلة بطليوس وكان أفضل الموجودين فأيدهم وساعدهم بتموينهم في هذه الرحلة فانطلقت الرحلة وعبرت البحر حتى قدمو على دولة المرابطين وقابلو أميرها يوسف بن تاشفين -رحمه الله- .
وكان لقيام هذه الدولة العظيمة في تاريخ الإسلام قصة طريفة وهي أن شيخ قبيلة جدالة البربرية في المغرب ويسمى يحيى بن عمر بن ابراهيم الجدالي توجه إلى القيروان فقابل علمائها فطلب منهم أن يرسلو معه أحدهم لينشر في قبيلته جدالة العلم والقرآن فتوجه معه أحد العلماء المعدودين آنذاك وهو عبد الله الفاسي فأقام لهم رباطا أي مخيما كبيرا وكان يقوم على العلم والجهاد معاً فالإسلام علم وجهاد حتى تكّون من هذه القبيلة ألف كلهم صاحب علم وجهاد ثم توفي يحيى زعيم هذه القبيلة فتولى بعده أخوه أبو بكر ثم إن خلافا حدث بين قبائل صنهاجة البربرية فذهب أبو بكر ليصلح ما جرى بينهم من خلاف ووكل ابن عمه يوسف بن تاشفين لإدارة الأمور إلى حين رجوعه وكان آنذاك شابا فطنا ذكيا لبيبا حكيما شجاعا فأدار الأمور على خير وجه وطور الدولة وأسس كثيرا من الأنظمة وسن القوانين الإدارية فلما رجع أبو بكر الجدالي وجد ما أذهله وأدهشه من حسن التنظيم فقام بما لم يتوقعه أحد قال هذا الفتى افضل مني في هذا الأمر وتنازل عن الحكم ليوسف بن تاشفين لكفائته رحمه الله فلم يكن ملكا بل كان خليفة صالحا فتولى يوسف الأمور حتى بلغت دولته المغرب العربي كله وصارت كل الدول تهابها هذا ملخص نشأة دولة المرابطين .(2/117)
أما وفد العلماء فقد عبر البحر كما قلنا حتى قابل يوسف بن تاشفين فتحرك مباشرة لإنقاذ طليطلة المحاصرة ولما بلغ سبتة شمال المغرب المطلة على البحر رفض حاكمها سقوت عبور يوسف بن تاشفين وإعطاءه ما لديه من سفن وبقي يوسف يحاول فيه مقنعا ويحلف له ويعطيه المواثيق والعهود ألا يمس ملكه الضعيف ومع ذلك لم يستجب بل أغلق الحصن دونه واحتار يوسف بن تاشفين فطليطلة ستسقط وهذا لا يبالي خوفاً على دويلته حتى كان عام 478 هـ حيث سقطت طليطلة وابن تاشفين لا يريد مقاتلته حقنا لدماء المسلمين فلما سقطت طليطلة ورأى العلماء ما تسبب فيه سقوت حاكم سبتة أصدروا فتوى ليوسف بإهدار دم سقوت ووجوب دخول سبتة بالقوة هنا دخلها يوسف ابن تاشفين عنوة وقتل سقوت وأُخذت السفن وعبر يوسف وهاج البحر بهم عندها دعا يوسف ابن تاشفين ربه قائلا : اللهم إن كنت تعلم أن في عبورنا هذا خيرة للمسلمين فسهله لنا وإن كنت تعلم غير ذلك فصعبه لنا حتى لا نعبره فسكن البحر فعبر رحمه الله فتقدم إلى أشبيلية فاستقبله المعتمد بن عباد ثم سارا معاً بجيشهما إلى بطليوس فاستقبله المتوكل بالله وكان رجلاً صالحاً فانضم إليهما كجندي وأرسل بقيه ملوك الطوائف ما توفر لديهم من رجال حتى بلغ جيشه خمسة وعشرين ألفاً. عندها سار الفونسو لمواجهة يوسف بن تاشفين واستنجد بملوك النصارى معلنا أنها حرب صليبية فاستنجد بملك جليقيه و فرنسا وإيطاليا وتنادى الرهبان و القسس من علماء النصارى بحثِ ملوك أوروبا على إنجاد الفونسو , فتكون لديه جيش من خمسين ألفاً بأكمل عدة و سلاح فلما رأى الفونسو ما احتشد إليه قال بكل غرور جمعت من الجيوش ما أحارب به الجن والأنس و الملائكة .
وتقابل الجيشان في مكان سمي باسم المعركة الزلاقة سميت بذلك لكثرة الدماء حتى صارت الخيل تزلق في أرض المعركة وتبادل الفريقان المراسلات فأرسل الفونسو إلى يوسف بن تاشفين يهدده ويتوعده بأن يرجع و إلا فعل وفعل فاكتفى يوسف بن تاشفين شيخ المجاهدين بأن قلب رسالته وكتب على ظهرها ثلاث كلمات فقط يقول فيها \" الذي يكون ستراه \" ثم أرسل له رسولاً يخيره بين ثلاث إما الأسلام وإما الجزية وإما القتال فأبى الفونسو متعجباً وأرسل أن اجعل الإثنين بيننا وبينك موعد لبدأ القتال فوافق يوسف بن تاشفين ولم يكن ليخدع ولم يخبر الجيش بموعد الفونسو بل أمرهم بأن يكونوا على استعداد في كل ساعة ولما كانت ليلة الجمعة قام أكبر علماء المسلمين في الجيش وهو ابن رميلة - رحمه الله - ودعى يوسف بن تاشفين وقادة الجيش وأخبرهم أنه رأى الرسول – صلى الله عليه وسلم – في المنام يبشره بالنصر وأنه يستشهد ففرح قادة المسلمين بهذه الرؤيا واستبشروا بها واخذ بن رميله يتطيب ويدهن رأسه استعداداً للقتال ولما كان من الغد الجمعة حصل ما توقعه يوسف بن تاشفين فقد هجم الفونسو النصراني غدراً ولكن المسلمين كانوا على حذر مستيقظين لعدوهم و المؤمن كيس فطن لا يركن إلى عدوه ولا يثق به واشتد رحى المعركة ورفع النصارى الصلبان و الإنجيل وكبر المسلمون واستبسلوا في القتال واستبسل المعتمد بن عباد وكان شجاعا حتى عقر تحته ثلاث خيول وأدار يوسف بن تاشفين رحمه الله المعركة خير إدارة حتى إذا رأى جيش المسلمين كلّ وتعب وكان كذلك الأمر بالنسبة للنصارى أمر بجيشٍ خبأه عن أرض المعركة أن ينقسم إلى قسمين ويهجم قسم على قلب جيش النصارى و النصف الآخر ينطلق إلى مؤخرة الجيش فيشعل فيه النيران فصار النصارى لا يدرون من أين يؤتون وقاد يوسف بن تاشفين ذلك الشيخ الجليل تلك الكتيبة التي انقضت على قلب الجيش النصراني حيث الفونسو وكان يتسنم للشهادة يطلبها يلقي بنفسه قبل أصحابه واستمر قتالا ًعنيفاً من الصباح حتى غربت الشمس حتى وصل هو وأصحابه الأبطال إلى الفونسو حتى جرح الفونسو عدة جراح حينها لاذ بالفرار فلما تمزق جيشه وكان الليل قد خيم أمر يوسف بن تاشفين المسلمين بعدم المطاردة لخشيته أن يتفرق الجيش والوقت ليل ووصل الفونسو إلى طليطلة وليس معه إلا مائة فارس وقتل النصارى مقتلة عظيمة لم ير مثلها . ونصر الله يوسف بن تاشفين شيخ المجاهدين . ونصر الله المسلمين لما زهدوا في الحياة وارتفعوا بأرواحهم عن الركون والإخلاد إلى الأرض وملاذها وعن الأخلاد الى الذل والهوان .
عندها جمع يوسف بن تاشفين ولاة الأندلس ووعظهم و ذكرهم بهذه النعمة وأن سبب ضعفهم هو تمزقهم وتفرقهم وحثهم على التوحد وكر راجعا إلى المغرب ليدير شئون دولته ..(2/118)
فهل يا ترى أعتبر ملوك دويلات الطوائف كلا والله لم يعتبروا بل رجع بعضهم يقاتل بعضا حرصا على الملك ورجعوا يبرمون التحالفات المخزية تحالفات الخيانة مع الفونسو ضد بعضهم البعض حتى استولى الفونسو على حصن شرق الأندلس هو حصن لييط وصار يهاجم المسلمين منه هنا عبر المعتمد بن عباد بنفسه إلى المغرب مستنجدا بيوسف بن تاشفين فبادر يوسف وعبر البحر فاستطاع أن يرد حصن لييط من الفونسو ثم رجع إلى المغرب مرة أخرى فهل إعتبرت حليمة كلا بل عادت إلى عادتها القديمة عندها لم يصبرعلماء المسلمين في الشرق الإسلامي على ما يجري في الأندلس فقام علماء الشام والعراق و على رأسهم أبو حامد الغزالي وأبو بكر الطرطوشي رحمهما الله بإصدار فتوى يحملون فيها يوسف بن تاشفين مسؤليه سقوط الأندلس ويلزمونه عبور الأندلس وإزالة دويلات الطوائف بالقوة فبقاء هؤلاء الصعاليك فيه ضياع لأرض المسلمين واستباحة لبيضتهم .
تأمل يوسف بن تاشفين الفتوى وتأمل حال الأندلس فوجد أن هذا هو الحل الذي لا مفر منه لإنقاذ المسلمين فهؤلاء الحكام الضعفاء لم يعد همهم سوى كراسيهم وإن كانت النتيجة استباحة المسلمين وذهاب أرضهم . فعبر يوسف بن تا شفين ولكن هذه المرة لمقاتلة صعاليك الطوائف وإزالتهم وتخليص المسلمين منهم فسلم بعضهم مفاتيح دويلاتهم كملك غرناطه وبعضهم أبى فأزالهم بالقوة وكان نصيب من يرفض القتل ، وكان ممن رفض التسليم شحا بكرسيه المعتمد بن عباد فدخل يوسف بن تاشفين اشبيليه بالقوة وأصدر أمرا بمصادرة أموال المعتمد وطرده من الأندلس إلى المغرب فعاش فقيرا بالمغرب وذهب بصره فصار يتكفف الناس حتى كانت بناته يغزلن الصوف ويبعنه للناس وكن في عصر مملكته َيخلِطُ لهن الطين بالمسك فيمشين عليه لعباً بأموال المسلمين وطغيانا في الأرض .
مات المعتمد بن عباد لم يعرفه أحد حتى ناد المنادي في مراكش صلوا على الغريب فما صلى عليه إلا ثلاثة نفر ولم يعرفه أحد إلا عند دفنه حيث صرخ بهم رجل قائلاً : أتدرون من هذا هذا المعتمد بن عباد صاحب بلاط أشبيليه وقصورها الحمراء .
و توقف المد النصراني بدخول المجاهدين إلى الأندلس وامتد عمر الأندلس بعد أن كادت تسقط في خلال سنوات معدودة إلى ثلاثمائة عام كل ذلك بفضل الله ثم بفضل المجاهدين في سبيل الله فهل ندرك أن الجهاد هو الحياة .
تلك قصة في التاريخ وعبرة للأجيال فهل يعيها المسلمون (( إن الذين لا يقرؤون التاريخ ولا يعونه هم المحكوم عليهم بتكراره ))(1)
----------
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 346)(2/119)
وَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ
فَإِنَّ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ يَنْقَسِمُونَ إلَى مُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ وَالْفَارِقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ هُوَ الصِّدْقُ فَإِنَّ أَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ هُوَ الْكَذِبُ ؛ وَلِهَذَا إذَا ذَكَرَ اللَّهُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ نَعَتَهُ بِالصِّدْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتَعَقَّبْ إيمَانَهُمْ رِيبَةٌ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الْمَأْخُوذُ عَلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ لِأَجْلِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ ؛ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِكِتَابِ يَهْدِي وَسَيْفٍ يَنْصُرُ وَكَفَى بِرَبِّك هَادِيًا وَنَصِيرًا . وَالْكِتَابُ وَالْحَدِيدُ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي الْإِنْزَالِ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَزَلَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْزِلْ الْآخَرُ . حَيْثُ نَزَلَ الْكِتَابُ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } وَالْحَدِيدُ أُنْزِلَ مِنْ الْجِبَالِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا . وَكَذَلِكَ وَصَفَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَى الْبِرِّ الَّذِي هُوَ جِمَاعُ الدِّينِ فِي قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } إلَى قَوْلِهِ { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْكَذِبِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } قَوْله تَعَالَى { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . قَوْله تَعَالَى { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الصِّدْقَ وَالتَّصْدِيقَ يَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ وَفِي الْأَعْمَالِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي(2/120)
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنْ الزِّنَا فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا السَّمْعُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } . وَيُقَالُ حَمَلُوا عَلَى الْعَدُوِّ حَمْلَةً صَادِقَةً إذَا كَانَتْ إرَادَتُهُمْ لِلْقِتَالِ ثَابِتَةً جَازِمَةً وَيُقَالُ فُلَانٌ صَادِقُ الْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا يُرِيدُونَ بِالصَّادِقِ ؛ الصَّادِقُ فِي إرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَطَلَبِهِ وَهُوَ الصَّادِقُ فِي عَمَلِهِ وَيُرِيدُونَ الصَّادِقَ فِي خَبَرِهِ وَكَلَامِهِ وَالْمُنَافِقُ ضِدُّ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ كَاذِبًا فِي خَبَرِهِ . أَوْ كَاذِبًا فِي عَمَلِهِ كَالْمُرَائِي فِي عَمَلِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } الْآيَتَيْنِ . وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ فَهُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ إذْ " الْإِسْلَامُ " هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ } الْآيَةَ . فَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْبَرَ وَمَنْ اسْتَسْلَمَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ وَكُلٌّ مِنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ ضِدُّ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ ضِدُّ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ . وَيُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَلِهَذَا كَانَ رَأْسُ الْإِسْلَامِ { شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَرْكَ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين دِينًا سِوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْأُمُورُ الْبَاطِنَةُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ لَا تَنْفَعُ بِدُونِهَا . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ
000000000000
أيها العلماء والدعاة احذروا ذلاقة اللسان، وثناء وإعجاب ومجاراة العوام
ويلٌ للعالم من الأتباع(2/121)
أيها العلماء والدعاة احذروا الشهوات الخفية، والأمراض القلبية، والنزغات الشيطانية، كالرياء، والعجب، والكبر، والتعاظم، ونحوها، واخشوا ذلاقة اللسان، ولا تغتروا بثناء وإعجاب العوام، ورحم الله امرءً عرف قدر نفسه، ولهذا السبب قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ويل للعالم من الأتباع"، وكان عمر رضي الله عنه يقول لمادحيه والمثنين عليه: "المغرور من أغررتموه"، وكان ابن مسعود رضي الله عنه ينهى عن متابعته والسير معه إن قام من المجلس، ويقول لتلاميذه وأصحابه: "لو تعلمون من نفسي ما أعلم لرجمتموني بالحجارة، ولما وطئ قدمي أحد منكم".
ولخطورة المدح والإطراء في الوجه، سيما عندما يقرن بالمبالغة والكذب، وفي الغالب لا يخلو مدح منهما، أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يُحثى التراب في وجوه محترفي المدح، لما يسببه من الفتن والبلاء للممدوح، فقال: "احثوا في وجوه المداحين التراب"، وفي رواية: "احثوا التراب في وجوه المداحين".
قال الإمام أبوبكر بن العربي المالكي في توجيه هذا الحديث: (وصورته أن تأخذ كفاً من تراب وترمي به بين يديه وتقول: ما عسى أن يكون مقدار من خُلِق من هذا، وما أنا؟ وما قدري؟ توبخ بذلك نفسك ونفسه، وتعرِّف المادح قدرك وقدره، هكذا فليحث التراب في وجوههم، قال: وقد كان بعض مشايخنا إذا رأى شخصاً راكباً ذا شارة يعظمه الناس، وينظرون إليه، يقول لهم وله: إنه تراب راكب على تراب، وينشد:
حتى متى، وإلى متى تتوانى أتظن ذلك يا فتى نسياناً؟).
روى ابن عساكر في تاريخه عن ابن عيينة رحمه الله: أن ربيعة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: رياء حاضر، وشهوة خفية.
من تلكم الأمراض القلبية، والشهوات الخفية، والنزغات الشيطانية التي ينبغي الخوف والحذر منها للناس عامة، وللعلماء والدعاة خاصة، ما يأتي:
1. ذلاقة اللسان، وحلو المنطق والبيان: فهذه نعمة عظيمة، ولكنها قد تنقلب إلى نقمة وخيمة، وتصبح وبالاً على صاحبها إن لم يتداركه ربه ويتعاهد نفسه بالمجاهدة، ومن ذلاقة اللسان خاف أحد السلف الكرام على الأمة، فقال: "أخوف ما أخاف على الأمة منافق ذلق اللسان"، وحق له أن يخاف على الأمة من اجتماع الذلاقة مع النفاق، لأن ذلق اللسان عنده مقدرة على قلب الواقع، وتزوير الحقائق والتلبيس والتدليس على العامة، ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من البيان لسحراً".
2. حب التعالي والتعاظم والتفاخر: وهو الشهوة الخفية، والعلة المهلكة الردية، وقد ورد في ذلك حديث، وإن لم يصح سنده فقد صح معناه، وهو: "احذروا الشهوة الخفية، العالم يحب أن يُجلس إليه".
فالصدق والإخلاص أساس العمل، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العمل ما شورك فيه، فهو أغنى الشركاء، فحب العالم للعلو والظهور على أقرانه يفسد عمله، ويحط من شأنه.
قال المناوي: (فإن ذلك يبطل عمله لتفويته الإخلاص وتصحيح النية، فليس الشأن حفظ العلم، بل في صونه عما يفسده كالرياء، والعُجْب، والتعاظم بإظهار علمه، وذلك سم وخيم، وسهم من سهام الشيطان الرجيم.
ثم قال: أخرج العلائي في أماليه عن علي: "سيكون أقوم يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمَهم عملُهم، وسرهم علانيتهم، يجلسون حلقاً حلقاً يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس لغيره ويدعه").
3. ثناء العوام وإعجابهم: لا شك أن الثناء الحسن والشكر هو عاجل بشرى المسلم، شريطة أن يخلو من الغلو والكذب، فإذا خالطه غلو وكذب وكان في الوجه فهو البلاء، وقصم الظهر، والذبح بلا سكين، والموت غير الرحيم، كيف لا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم المحفوظ بأن يبالغ في مدحه وثنائه ويكذب فيه، فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
وعندما قال له رجل: ما شاء الله وشئت؛ غضب عليه، وقال له: "أجعلتني لله نداً؟! بل قل ما شاء الله وحده".
4. موافقة العامة ومجاراتهم: هذه كذلك من الفتن المهلكة، أن ينجر العالم وينساق من حيث لا يدري أويدري، إن خوفاً أوطمعاً، في فتاواه إلى ما تهواه نفوسهم، وألفوه عن آبائهم وأجدادهم، وما يتفق مع عاداتهم وأعرافهم.
قد يحدث ذلك بحسن نية وقصد واجتهاد، بغرض نيل ثقتهم والتودد إليهم، أوبسبب تتبع الزلات والهفوات والأقوال المرجوحة.
أوقد يكون بسبب شدة الحرص والمحافظة على المسلمين، أولقناعته أن هذا هو الحق، أوإيثاراً للسلامة.
مهما يكن الدافع لذلك فإن لهذا المسلك خطورته، ولهذا الطريق وعورته، للآتي:
1. الواجب علينا الدعوة إلى الله على بصيرة، وتبصير الناس بما أوجبه عليهم دينهم، استجابوا لذلك أم لم يستجيبوا، فواجب الرسول وأتباعه البلاغ المبين.
2. هذا المسلك ليس له حد ولا نهاية، فمن خطا فيه خطوة ساقته إلى الأخرى، وهكذا.
3. نتائجه غير مضمونة، فقد يأتي بالعكس والنقيض لمراد من سلكوه.(2/122)
4. لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أولها بالثبات على المبادئ، وبالأخذ بالعزائم، وبالصبر واليقين.
5. فيه طمس لكثير من حقائق الإسلام، ومظاهر الدين، وإخفاء لشعائره، وفي ذلك ضرر لا يدانيه ضرر.
6. العاقل من اتعظ بغيره، فما من عالم أوداعية سلك هذا المسلك الوعر الخطر إلا قد حار بعد الكور.
7. التمكين لا يكون إلا بعد الابتلاء، فمن رام تمكيناً من غير ابتلاء وامتحان واختبار رام الماء من السراب، والعنب من الشوك.
سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل، أن يمكن أويبتلى؟ فقال الشافعي: "لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة".
وقال مالك: "لا تغبطوا أحداً لم يصب في هذا الدين".
فالحذر من نزغات الشياطين، ومن الأماني الكاذبة، وأحلام اليقظة، ومن إتباع النفوس هواها، والغفلة عن مجاهدتها: " قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا".
وتذكر أن كثرة الأتباع والموافقين وقلة المعترضين ليست دائماً مؤشر خير وعلامة رضى، فقد قال الإمام أويس القرني: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يترك لي صديقاً".
وقال سفيان الثوري: "إذا رأيتَ الرجل يثني عليه جميع جيرانه فهو رجل سوء"، لأنه لو كان آمراً ناهياً لما رضي عنه أحد منهم.
والله أعلم بالصواب، وله المرجع والمآب، وصلى الله وسلم على أتقى الخلق وأخشاهم، محمد بن عبد الله، وآله وأصحابه ومن والاهم
=================0000
هلموا إلى رياض الجنة، حِلَق الذكر، الجامعات الشرعية المفتوحة
كانت المساجد والكتاتيب التابعة لها، والمعاهد، والكليات، والجامعات التي أنشئت فيها هي المحاضن لنشء المسلمين، ولتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، ولتخريج العلماء، والقضاة، والمصلحين.
استمر هذا الأمر إلى أن تآمر الكفار وعملاؤهم من المنتسبين إلى الإسلام على إسقاط الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية، وعقب ذلك تقسيم دولة الإسلام إلى دويلات صغيرة، وممالك هزيلة، تقاسمها الكفار والمستعمرون، حكموا بعضها بأنفسهم، وأنابوا غيرهم في حكم البعض الآخر.
ثم ما فتئوا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، حيث أقصوا الإسلام عن معظم مناحي الحياة، سيما في جانب السياسة، والحكم، والاقتصاد، ومناهج التربية والتعليم.
لقد فطن بعض الأخيار لذلك فحافظوا على بعض دور التعليم الدينية، وأنشأوا غيرها، مستفيدين من بعض الأوقاف الإسلامية، وحاضين ومشجعين الموسرين على التبرع والإنفاق لتسييرها، واستمر التعليم الديني موازياً للتعليم الرسمي، مع هضم حقوقهم، والتضييق عليهم، وعدم تعيينهم في الوظائف الحكومية المتميزة وغير المتميزة.
وقد استمر هذا الوضع بعد أن نالت الدول الإسلامية استقلالها الاسمي، لان المستعمر لم يخرج إلا بعد أن اطمئن على وجود كادر ممن ربوهم على أيديهم، ووفق مناهجهم عن طريق الابتعاث وغيره.
مما ساعد على استمرار المدارس، والمعاهد، والجامعات الإسلامية فترة من الزمان، اعتمادهم بعد الله على أنفسهم في تمويلها وإدارتها، وعدم قبول شيء من العون الحكومي.
شعر المستغربون وأعداء الدين بخطورة هذا النوع من التعليم عليهم، فأوعزوا للمسؤولين بطرق مباشرة وغير مباشرة بتوحيد مناهج التعليم في البلاد وتوحيد الإشراف عليها، ولم يكن ذلك شاملاً للمدارس الإرسالية والكنسية وإنما فصِّل تفصيلاً على المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية.
كانت الضربة القاضية على ذلك عند شروع أمريكا وحلفائها في حربهم الصليبية على الإسلام، التي بدأتها بحرب الخليج الأولى وبغزو أفغانستان والعراق، وتدجين كل حكام المسلمين، حيث صدرت التعليمات لهم بإغلاق جميع المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية، بحجة أنها محاضن للإرهاب، وتفرخ الإرهابيين.
ولم يقتصر الأمر على القضاء على ما تبقى من تلك المدارس والمعاهد في المملكة العربية السعودية وباكستان، بل تعدى ذلك إلى التدخل السافر في تعديل المناهج والمقررات، حتى في المدارس والجامعات العلمانية التي أنشئت على غرار ما عند الكفار، وحذف كل الآيات، والأحاديث، والآثار، والمراجع، والمصادر، التي تتكلم عن كفر اليهود والنصارى، وعن عقيدة الولاء والبراء، وعن الجهاد، هذا ما علم وما خفي أعظم.
هذا بجانب وسائل الإفساد وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، والتشكيك في الثوابت والمسلمات، والتعتيم، والتضليل، والتدليس الذي تقوم به وسائل الإعلام العالمية والمحلية، التي أضحت بوقاً للوسائل العالمية المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة المرئية، والفضائيات، والشبكات العنكبوتية.
لقد عمل كل ذلك وغيره كثير عمله في إفساد العقائد وتدمير الأخلاق، وتسييب الشباب.(2/123)
لا خروج من هذا النفق المظلم، والفتن المحيطة، والمستقبل القاتم إلا بالرجوع إلى شرعنا المصفى، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
أولى تلك الوسائل وأهم هذه الأسباب العلم الشرعي، إذ مشكلة الإسلام الحقيقية تكمن في جهل أبنائه وكيد أعدائه.
ومعلوم أن المؤسسات التعليمية القائمة جلها مؤسسات علمانية، فهي معاول هدم ومسخ، ومنها كليات وجامعات إسلامية تستوعب أعداداً قليلة بجانب التزامها بنظم وقواعد ومتطلبات قد تعوق قيامها بالدور المناط بها.
هذا بجانب الضغوط والمضايقات التي تواجهها.
من المعلوم ضرورة كذلك أن العلم بالتعلم، وأن العلم الشرعي ومفاتحه لا ينالان إلا بمجالسة العلماء ومزاحمة الحكماء منهم بالركب، والقرب من أنفاسهم، والحرص على الاستفادة منهم، لأن العلم يحتاج إلى الأدب والسلوك والهدي الصالح، والسمت الصالح.
التعامل مع الكتب من غير شيخ، وقبل الحصول على مفاتح العلم له أضرار بليغة ومخاطر كثيرة، ورحم الله أبا حيان الأندلسي حين قال مبيناً مضار ذلك ومحذراً منه:
يظن الغمرُ أن الكتب تهدي أخا جهل لإدراك العلوم
وما علم الجهولُ بأن فيها مدارك قد تدقُّ عن الفهيم
ومن أخذ العلوم بغير شيخ يضل عن الصراط المستقيم
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
من العسير جداً في زماننا هذا التفرغ لطلب العلم، أعني بذلك تفرغ العالم والمتعلم، حيث لم يبق إلا الانتساب إلى الجامعات الشرعية المفتوحة المتيسرة، وفي بعض الأحيان ولبعض الطلاب والشباب تكون في متناول اليد.
أعني بذلك الدروس المنتظمة في المساجد، فهي لا تحتاج إلى رسوم، ولا تسجيل، ولا تفرغ، ولا ترحيل، وغاية ما تحتاجه:
1. رغبة صادقة في طلب العلم الشرعي.
2. وعزيمة ماضية.
3. وقلب حاضر.
4. وتفرغ جزئي لمدة ساعة أوساعتين بما في ذلك المراجعة.
5. الكتاب الذي يدرس ودفتر وقلم.
6. وإن كان هناك جهاز تسجيل فزيادة خير.
فالعلم صيد و الكتاب قيد
قيد صيدك بالحبال الواثقة
وأوقات هذه الدروس لا تتعارض مع طالب، ولا عامل، ولا موظف، فهي من بعد صلاة الصبح إلى الشروق، ومن بعد صلاة المغرب إلى العشاء، في أيام معدودة، وساعات محدودة، وأوقات مباركة مشهودة.
وهي مفتوحة للصغير، والكبير، والشاب، والشيخ، والقارئ، والأمي، والمنتظم، وغير المنتظم، للعالم، والمتعلم، والمستعلم، والمحب، في العقيدة، والفقه، والحديث، والسيرة، والسياسة الشرعية، والتفسير، والأدب، والسلوك.
من أمثلة ذلك ما هو قائم في مسجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمعمورة، حيث تقام فيه بفضل الله عز وجل ثلاثة دروس بعد الفجر، ودرسان بين المغرب والعشاء، على النحو التالي:
1. شرح موطأ الإمام مالك بعد فجر الإثنين من كل أسبوع.
2. شرح التجريد الصريح لصحيح البخاري بعد فجر الأربعاء من كل أسبوع.
3. شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد بعد فجر الثلاثاء من كل أسبوع.
4. شرح زاد المعاد في هدى خير العباد لابن القيم بين المغرب والعشاء يوم الثلاثاء من كل أسبوع.
5. شرح القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية لابن جُزَي المالكي.
وسيُنقل درس صحيح الترمذي للألباني من مسجد جامعة إفريقيا إلى مسجد المعمورة قريباً بإذن الله.
هذا بجانب العديد من الدروس والدورات القصيرة المدى التي يقيمها السادة العلماء والضيوف الفضلاء من خارج البلد وداخله، التي عمر وأنار الله بها المساجد في معظم مساجد ولاية الخرطوم وغيرها.
والمطلوب من السادة المشايخ الإكثار من هذه الدروس والمداومة عليها، فأحب العمل إلى الله أدومه، والتحضير لها وتنويعها حتى تلبي جميع الرغبات وتحقق كل الطلبات.
وينبغي للشباب خاصة الاستفادة من هذه الدورس والحرص عليها، وتشجيع غيرهم وحضهم، فالدال على الخير كفاعله، ورب مبلغ أوعى من سامع، ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.
وينبغي للجان المساجد والمسؤولين عنها أن يسعوا لإقامة هذه الدروس، وأن يهيئوا لها الجو المناسب، وأن لا تضيق صدورهم بها، فعمارة المساجد بعد إقامة الصلوات المكتوبة والاعتكاف يكون بإقامة الدروس، والندوات، والدورات العلمية النافعة.
لا تحرم أخي المسلم، طالباً كنت، أم عاملاً، أم موظفاً، أم تاجراً نفسك من ذلك، واحذر التعليلات الفارغة، والأماني الكاذبة، فما أنت فيه مهما كان ليس بأوجب عليك ولا أحب إلى الله مما ندعوك إليه.
كان الشافعي رحمه الله ينشد:
إذا رأيتَ شباب الحي قد نشأوا لا يحملون قِلال الحبر والورقا
ولا تراهم لدى الأشياخ في حِلقٍ يعون من صالح الأخبار ما اتسقا
فعد عنهم ودعهم، إنهم همج قد بدَّلوا بعلو الهمة الحُمقا(2/124)
قال ابن عقيل رحمه الله: (وبعض الناس يحتج لتركه – العلم – بكبر السن، أوعدم الذكاء، أوالقلة والفقر، أوغير ذلك، وذلك من وسواس الشياطين يثبطون بها، ومن نظر في حال السلف وجماعة من علماء الخلف وجدهم لا يلتفتون إلى هذه الأعذار، ولا يعرجون عليها، وقد قيل:
ومن يجتهد في نيل أمر ويصطبر يَنَلهُ، وإلا بعضَه إن تعسرا
فما دمتَ حياً فاطلب العلم والعُلا ولا تألُ جهداً أن تموت فتعذرا
ولكن ينبغي اغتنام أوقات الفراغ، فإنه أقرب إلى حصول المقصود).
هل تعلم أخي الكريم أن رياض الجنة هي حلق الذكر، التي يدرس فيها الحلال والحرام، ويتعلم منها السنة من البدعة، وأنها الجامعات المفتوحة.
صحَّ عن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا"، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: "حلق الذكر، فإن لله سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم".
قال عطاء بن أبي رباح: (مجالس الذكر مجالس الحلال والحرام، كيف يشتري ويبيع، ويصوم ويصلي، ويتصدق، وينكح، ويطلق، ويحج).
فهلم ارتع فيها واستأنس بها.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله وسلم وبارك على معلم البشرية الخير، وعلى آله والتابعين لهم، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين
=================0
مجالس الذكر
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه واشهد ان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه وعلى اله وصحبه وجميع اخوانه أما بعد
إن خير المجالس وأزكاها وأطهرها وأشرفها واعلاها قدراً عند الله وأجلها مكانة عنده مجالس الذكر, فهي حياة القلوب ونماء الإيمان وزكاء النفس وسبيل السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة , ولهذا ورد في فضلها والحث على لزومها
والترغيب في المحافظة عليها نصوص كثيرة في الكتاب والسنة , مما يدل على شريف قدر تلك المجالس ورفيع شأنها وعلو مكانتها وأنها خير المجالس . إن مجالس الذكر هي رياض الجنة في الدنيا . فعن أنس بن مالك رضي الله عنه
, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)), قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال حلق الذكر .
فمن شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا , فليستوطن مجالس الذكر فإنها رياض الجنة.
ومجالس الذكر هي مجالس الملائكة , فإنه ليس من مجالس الدنيا مجلس إلا مجلس يذكر فيه الله تعالى فيه , كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن لله ملائكة فضلاً , يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر
, فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تعالو تنادوا : هلموا إلى حاجتكم , قال : فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا , قال : فيسألهم ربهم تعالى وهو أعلم بهم : مايقول عبادي ؟
قال : يقولون : يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال : فيقول : هل رأوني ؟ فيقولون : لا والله مارأوك , قال فيقول : كيف لو رأوني : قال : فيقولون : لو رأوك كانوا أشد لك عبادة , وأشد لك تحميداً وتمجيداً , وأكثر لك تسبيحاً , قال : فيقول : مايسألوني؟
قال : يسألونك الجنة , قال: فيقول: هل رأوها , قال : فيقولون ل: لا والله يارب ما رأوها, قال : فيقول : فكيف لوأنهم رأوها ؟ قال: يقولون : لو أنهم رأوها كانوا أشد عليهم حرصا , وأشد لها طلباً , وأعظم فيها رغبة , قال: فيقول : فمم يتعوذون ؟ قال : من النار , قال : يقول : وهل رأوها ؟
قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً , وأشد لها مخافة , قال : يقول : فأشهدكم أني قد غفرت لهم . قال : فيقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم , إنما جاء لحاجة , قال : هم الجلساء لايشقى بهم جليسهم )) رواه البخاري.
فمجالس الذكر هي مجالس الملائكة بخلاف مجالس الغفلة واللهو والباطل فإنها مجالس الشيطان , والله تعالى يقول: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }الزخرف36 , إن مجالس الذكر تؤمن العبد من الحسرة والندامة يوم القيامة بخلاف مجالس اللهو والغفلة فإنه تكون على صاحبها حسرة وندامة
يوم القيامة , فعن ابي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :((من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة )) , أي نقص وتبعة وحسرة.(2/125)
ومن شرف مجالس الذكر علو مكانتها عند الله أن الله عزوجل يباهي بالذاكرين الملائكة , كما ثبت عن أبي سعد الخدري رضي الله عنه قال : خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ مَا أَجْلَسَكُمْ قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ قَالَ آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ قَالُوا وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أَجْلَسَكُمْ قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا قَالَ آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ قَالُوا وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ)) روا مسلم.
ومجالس الذكر سبب عظيم من أسباب حفظ اللسان وصونه عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والسخرية والباطل , فإن العبد لابد له من أن يتكلم وما خلق اللسان إلا للكلام فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذكر أوامره بالخير والفائدة , تكلم ولابد بهذه المحرمات أو ببعضها , فمن عود لسانه على ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو, ومن يَبُس لسانه عن ذكر الله نطق بكل باطل ولغو وفحش .
ومما ينبغي للمسلم أن يتفطن له في هذا المقام أن ذكر الله تعالى لايختص بالمجالس التي يذكر فيها اسم الله بالتسبيح والتكبير ونحوه بل تشمل ماذكر فيه أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه ومايحبه ويرضاه , بل إنه ربما كان هذا الذكرأنفع من ذلك لأ معرفة الحلال والحرام واجبة في الجملة على كل مسلم بحسب مايتعلق به من ذلك , وأما ذكر الله باللسان فأكثره يكون تطوعاً وقد يكون واجباً كالذكر في الصلوات المكتوبة , وأمامعرفة ما أمر الله به وما يحبه ويرضاه ومايكرهه فيجب على كل من احتاج إلى شيء من ذلك أن يتعلمه .(1)
من فوائد الذكر :
1- أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.
2- أنه يرضي الرحمن عزوجل.
3- أنه يزيل الهم والغم عن القلب .
4- أنه يجلب للقلب الفرح والسرور.
5- أنه يقوي القلب والبدن .
6- أنه ينور الوجه والقلب.
7- أنه يجلب الرزق.
8- أنه يحط الخطايا.
9- أنه سبب نزول السكينة .
10- أنه غراس الجنة .(2)
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الذاكرين له , وأن ينفعنا بما كتبنا , وأن يوفقنا في الدنيا والآخرة , إنه جواد كريم و وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
0000000
(1) – الفوائد المنثورة إعداد عبدالرزاق البدر
(2) – الوابل الصيب لابن القيم
أبو فيصل
==============
مقياس الالتزام
أما بعد: أيها المسلمون :_
قال الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) ما مقياسُ الالتزام؟ وما معنى الالتزام ؟وكيف فيكون المسلم ملتزماً؟
هذه الكلمة لم تكنْ معروفةً في الصَّدرِ الأوّل من الإسلام ؛ فلم يكون يُوجد لديهم إلا مؤمنُُ أو كافر ؛ أو كان يطلق الاسمُ العام على الداخل في الإسلام ؛ فيقال فلانُ مسلم ؛ أما في الأزمة المتأخرة فقد قسم الناس بعضهم بعضاً إلى ملتزم بدين الله عزَّ وجل وغير ملتزم ؛ وللنّاس فيما يصَّنفون مذاهبُ فيعنونَ غالباً بالملتزم "كل ما أطلق السَّنة الظاهرة وعمل بها ؛ من إعفاء اللحية وتقصير الثياب وما يتبع من ذلك ؛ وبعضهم يقف عند هذا اللحد فلا يتجاوزه .
والحقيقة أن الالتزام بدين الله سبحانه وتعالى إنما يكون أولاً وأخيراً بخشية الله عز وجل ؛ يكون بمعرفة من هو الله عز وجل ؛ فنخشاهُ حق الخشية ونحبهُ حق المحبة ؛ ونطيعه حق الطاعة ؛ وننتهي عما حرم وننهى عنه .
ولقد جاء القرآن الكريم بهذه التربية العظيمة على لسان محمدٍ صلى الله عليه وسلم ؛ فصاغَ منها رجال الإسلام الأوائل غدوا رجالاً يحملون بين جنوبهم إيماناً خالطت بشاشته القلوب ؛ حتى أصبح معجزة من المعجزات ؛ فلانت له الصُّم الصَّلاب ؛ وأتتهم الدنيا وهي راغمة ؛ علِموا من العلم ما علموا ؛ فبارك الله في علمهم ؛ ونفع بهم الأمة ؛ وترجموه إلى واقعٍ عمليّ ؛ فأصبحوا عباد ليل ؛ صوّام نهار؛ مجاهدين في سبيل الله ؛ علما في الحلق والمساجد ؛ إذا قالوا فعلوا ؛ وإذا فعلوا أخلصوا ..(2/126)
وفجأة: وجدنا أنفسنا في أزمنةٍ إنقلبت فيها الموازين ، وأنتكستْ فيها الفطرة وتغيرت فيها الآراء .. رضينا منها أن نكون مع الخوالف ، تعلمنا العلم لغير وجه الله ، تعلمنا العلم للدنيا فمحق الله بركته وغفلنا عن الآخرة فطبع الله على القلوب ونزع منها لذة الإيمان وحلاوة العبادة ..
أيها الأحبة: هل تعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شاب رأسه في ليله واحدة ؟ شاب رأسه ولحيته في ليله واحدة بعد إذ لم يكون كذلك ( شيبتني هود وأخوتها قبل المشيب ) حديث صحيح شيبتني هود وأخوتها ، هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت.
لقد شاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه قول الله عز وجل في سورة هود)فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود:1121) شاب الرسول صلى الله عليه وسلم من كلمة واحدة ، من كلمة إستقم ، شاب رأسه ولحيته ، ظهر على أصحابه في صباح اليوم التالي، وقد ظهر فيه الشيب ( يا رسول الله قد شاب رأسك في ليله ، قال: شيبتني هود وأخواتها ). ظن أنه لن يستطيع القيام بكل ما أمره به ربه عز وجل ، فشيبته هود وأخوتها .
أين هذا من الذي قضى في الإلتزام على حد زعمه عشرات السنين ، إذا نظرت إلى أحواله رأيت العجب العجاب، إن جئت لحفظ القرآن تجده لم يحفظ منه إلا النز اليسير ، وقد يكون أبنه الصغير يحفظ القرآن كاملاً، وهو مشغول بالدنيا لكنه ملتزم .وإذا جئت إلى طلب العلم لم تجد له فيه ناقةً ولا جملاً ، إلا ثقافة كثقافة مدمني القنوات الفضائية _ يجمعون الغث والسمين ويظنون أنهم بذلك مثقفون علماء ، فلا يعرف من طلب العلم إلا اسمهْ .
وإن جئت إلى الدعوة إلى الله تعالى والحرقة على أوضاع المسلمين وجدته من أكسل الناس فيها ولا فخر ، فإذا غلب على أمره يوماً ، وتفوه بكلمة واحدة استطار لبه وشمخ بأنفه ، وظن أنه قد جاء بشيء لم تستطعهُ الأوائل .
فإذا نظرت إلى عبادته _ قلت رحم الله تلك العجوز ، كانت تقوم الليل وتصوم النهار على ضعفها ، وهذا جيفةٌ بالليل حمار بالنهار. فما هو مقياس الالتزام إذاً ؟
إن العاقل الحصيف والمؤمن الذي يخاف على إيمانه لينظر في أقواله وأفعاله ، فيهما سب نفسه، ويرتقي بها في مدارج الإيمان ، حتى يحط رحاله إن شاء الله تعالى في جنات الله عز وجل .
ويعلم _ أن احمل هذا الدين مسؤولية عظيمة ، الله عز وجل يعطي الدنيا _يعطيها الكافر والمؤمن ، والبر والفاجر والمنافق ، لكن الدين لا يعطيه إلا من يحبه قال صلى الله عليه وسلم :(إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن يكره ولا يعطي الدين إلا من يحبه) .
سأل عن هذا الدين بين يدي الله تعالى يوم القيامة ، هل من المعقول أن يعطيك الله نعمةً قد حرمها كثير من الناس ثم لا تقوم بشكرها ، ولا تأبه بها ، وترضى بالدون .
ما بالنا أيها الأخوة غفلنا عن جوهر الأمر _ ورضينا بزيف بريقه ،أين الإقتداء الصحيح بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وسمته وحسن خلقه ، ألم يكن لنا في رسول الله أسوة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) أين حسن الخلق الذي كان عليه الصلاة والسلام ، لماذا نجد اليوم من بيننا أناساً بغضوا إلى عباد الله دين الله ؟ حببوا إليهم الكفر والفسق والعصيان ، قنطوهم من رحمة الله ، ثم أغلقوا في وجوههم أبواب جنةٍ عرضها السموات والأرض ، فتحوا في وجوههم أبواب النيران ، ألم يقل الله عز وحل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107)
أفيكون الرسول عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين ، رؤوفاً رحيماً بالناس ، ويكون بعضنا عذاباً على العالمين ، يجصي عليهم أنفاسهم ، ويحاسبهم قبل يوم الحساب ، ويسومهم سوء العذاب ، بزعم أنه هو الوحيد الذي يغار على دين الله ، فيتصور أنه موكل على أبناء أدم من بعده ، ويظن بأفعال الناس السوء ، كيف سيهتدي العباد إذا رأوا من هذا حاله .
وقد كان السلف _ رحمهم الله يدعو أحدهم بسلوكه وفعله قبل قوله ، فإذا تكلم ود السامع أنه لا يسكت ، من طيب خلقه وكلامه وسمحته ، أين الذي ما وضعه الله عز وجل في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه .(2/127)
يأتي معاوية بن الحكيم السلمي _ رضي الله عنه _ رجلٌ يأتي إلى النبي _ صلى الله عله وسلم _ والصحابة يصلون وقد حرم الكلام في الصلاة وهو لا يعلم فتكلم في صلاته فرمقه الصحابة بأعينهم فلما أكثر سكتوه قال: لا كنني سكتُ قال : واثكل أمياه ماذا فعلت وبعد الصلاة يقول أتى النبي _صلى الله عليه وسلم _ فبأبي هو وأمي والله كهرني ولا نهرني ، ولا سبني ولا شتمني ، ولكنه قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس .. إنما هي لذكر الله تعالى قال فما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه عليه الصلاة والسلام .. وكلنا نعرف قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي _ صلى الله عليه وسلم _ في يوم بارد شاتٍ فجبذ النبي _ صلى الله عليه وسلم _ جبذةً قويةً بحاشية برده عليه الصلاة والسلام .. وكان عليه بردٌ نجراني غليظ الحاشية فقال: يا محمد _ بكا غلظة _ مُر لي من مال الله الذي عندك "ليسمن مال أبيك ومال جدك فلتفت النبي _ صلى الله عليه وسلم _ وأبتسم وأمر له بعطاء . وكلنا نعرف قصة الأعرابي الآخر الذي جاء فبال في المسجد ، فقام الصحابة فنهروه فقال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ دعوه لا تزرموه .. ثم لما قضى بوله قال: يا أخا العرب :إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من أفعال الناس إنما هي للصلاة والذكر وقراءة القرآن .. فماذا قال الأعرابي..قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً.. وكلنا نعرف قصة الأعرابي الثالث الذي يشكوا معاذاً _رضي الله عنه _ من كثرة ما يطيل بهم الصلاة .. فقال :والله أنب لا كره الصلاة من كثر ما يطيل بنا معاذ .. آفتان أنت يا معاذ آفتان أنت يا معاذ .. إذا صليت بالناس فأقصر .. ثم التفت إلى الأعرابي فقال : ماذا تقول في صلاتك إذا صليت .. قال الأعرابي : لا أحسن دندنتك ولا دندنت معاذ .. أسال الله الجنة وأستعيذه من النار .. فتبسم النبي _صلى الله عليه وسلم _ وقال: حولها ندندن
وكلنا أيضاً نعرف قصة الأعرابي الذي جاء فوقف على رؤوس الناس فقال : أعطني يا محمد فأعطاه فقال النبي _صلى الله عليه وسلم _ وهل وفيتك ، قال : لا ولا جزاك الله خيراً ، قلة حياء وقلة أدب .. ثم أعطاه الرسول_صلى الله عليه وسلم _ قال : هل أجزلت لك .. قال: لا ولا جزاك الله خيراً .. فغضب الصحابة وأرادوا أن يفتكوا به .. ثم أعطاه وأعطاه ثم أخذه فأدخله بيتاً فقال : هل أجزلت لك قال: نعم .. جزاك الله من أخ عشيرةٍ خيراً فقال النبي:_ صلى الله عليه وسلم _فإن أصحابي قد غضبوا عليك فهلا خرجت إليهم وقلت لهم ما قلت لي :قال نعم ..فخرج الأعرابي فقال :جزاه الله من أخ عشيرةٍ خيراً قد والله أجزل لي العطية فضحك النبي _ صلى الله عليه وسلم _ قال: أن مثلي ومثلكم ومثل هذا كمثل رجلٍ معه جمل فندمه فجاء الناس ليمسكوه فهيجوه ، ولو تركتكم وهذا الأعرابي فضربتموه فمات ، دخل النار ..(2/128)