وأما من صد عن الحق ولم يقبل الحق الذي جاءت به الرسل ووجد حرجًا في نفسه من كلام الرسل، ومن كلام من اصطفاهم الله جل جلاله إن أولئك البلاء في أنفسهم وليس البلاء في الحق، البلاء في شهواتهم وشبهاتهم، وليس البلاء فيما أنزل الله وفيما بلغته الرسل من عند الله، ورسل الله صادقون مصدقون لا ينطقون عن الهوى قالت الرسل: وما علينا إلا البلاغ المبين فماذا كان جواب أولئك الذين كذبوا الرسل؟ قالوا إنا تطيرنا بكم، تطيروا بهم قالوا: إن سبب ما جاءنا من الشر وسبب ما جاءنا من البلاء إنما هو من جهتكم إنما هو من أسبابكم، أما نحن فإننا مستحقون لكل فضل من الله ولكل رحمة من الله، ولكن سبب بلائنا أنتم أيها الرسل لأنكم خالفتم ما عهدنا عليه الآباء وما عهدنا عليه من سبقنا في عباداتهم للآلهة المختلفة وفي اتباعهم لكبرائهم إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم.
يعني إن لم تتركوا ذلك فلنرجمنكم ولنقتلنكم أيضًا ليمسنكم منا عذاب أليم، فكان جواب الرسل، جواب المطمئن إلى الله الذي أنس بما عند الله المصدق بوعد الله قالت الرسل: طائركم معكم سبب شقائكم وسبب التطير وسبب ما سيحيق بكم من البلاء إنما هو معكم، ملازمكم، وهو ما صدر عنكم من عمل الشر وما صدر عنكم من سوء وما صدر عنكم من تكذيب الرسل وعدم الإيمان بكتب الله وبما أنزل الله على رسوله قالت الرسل: أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون [يس:19]. يعني أتقتلوننا لأجل التذكير بالله وبسنة الله وبالصدع بما أنزل الله في كتابه، أتقتلوننا لذلك؟ بل أنتم قوم مسرفون، فسبب ذلك الإسراف، إسرافكم في الأمر وإسرافكم في أنفسكم ومجاوزتكم للحد الذي أذن الله به، وهكذا كل من خالف الرسل من الذين اتبعوا شهواتهم، واتبعوا شبهاتهم، إن أولئك دائمًا حجتهم من جنس تلك الحجة يظنون أن البلاء من جهة المذكرين، أن سبب ما يصيب الناس إنما هو من جهة الذين ذكروهم بما أنزل الله في كتابه، وهذه حجة قديمة جديدة أتواصوا به بل هم قوم طاغون [الذاريات:53].
ثم بين الله جل جلاله وظيفة رجل من المؤمنين آمن بما جاءت به الرسل. بعثه واعظًا لقومه مذكرًا لهم قال سبحانه: وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين [يس:20]. وجاء من أقصى المدينة، وهي تلك القرية رجل يسعى قال المفسرون في قوله: من أقصى المدينة ما يشعر بأنه ليس من أغنياء الناس بل من فقرائهم، وليس من أهل الجاه، بل هو ممن يرفض قوله الأكثرون لأنه جاء من أقصى المدينة وعادة الناس في الأزمنة الأُوَل أن الأشراف والكبراء يسكنون وسط المدن وأن من هم دونهم يسكنون الأطراف والأقصى من المدينة.
وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين لقد كان حريصًا أن يتبع أولئك الناس المرسلين، فيتبعونهم فيما جاءوا به من الحق وينصرونهم ولا يخذلونهم؛ لأن في ذلك أسباب السعادة لهم في الدنيا والأخرى.
قال يا قوم اتبعوا المرسلين ثم علل ذلك بقوله: اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون [يس:21]. إن من أدلة صدقهم أنهم مهتدون على صراط الله، وأنهم مجدوا الله جل جلاله وأنهم دعوا إلى إفراد الله جل وعلا بالعبادة، دعوا إلى ذلك وكانوا على بصيرة في ذلك الأمر، وهم لم يسألوا الناس أجرًا ولم يتكلفوا قال: اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون. يعني اتبعوا من لا يطلب منكم مالاً، والحال أنه من المهتدين، لأن من الناس من لا يسأل الناس أجرًا في دعوته، ولكنه على ضلالة، على مخالفة للرسل، والناس قد يظنون أن كل زاهدٍ أو أن كل من لا يسأل الناس أجرًا أو أن كل مدافع عن حقوق الناس أنه على هداية.
وهذه الآية فيها التنبيه على أنه لابد أن يكون مع الأول على هداية، والهداية هي الهداية إلى طريق الرسل الذي بينه الله جل وعلا في كتابه اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون، والقضية ليست أنهم لم يسألوا الناس أجرًا فحسب، بل القضية الكبرى أنهم على هداية من الله، أن حالهم الهداية، أنهم اهتدوا بهداية الله، وأخذوا ما أنزل الله، ولم يفرقوا بين أمر الله، لم يفرقوا بين كلام الله، بل كانوا على وفق ما يحب الله ويرضى، ابتعدوا عن المشتبهات وأخذوا بالحق فكانوا على الهداية، وقبلوا ما أمرهم الله به، فكانت تلك الهداية للمرسلين.(/2)
وكذلك تكون تلك الهداية لكل من اتبع الرسل قال الله جل وعلا مخبرًا عن قيل ذلك الرجل الصالح: ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون [يس:22]. يقول: لماذا لا أعبد الله الذي فطرني؟ لماذا لا أعبد الواحد الأحد، وأعلق قلبي به وأدلُّ الناس عليه وأجعلهم مطمئنين إلى الله، عابدين له وحده دون ما سواه خالعين للأنداد وهذه هي دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، إن دعوتهم ودعوة أتباعهم إلى التوحيد الخالص ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون قال جل وعلا لنبيه: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين [يوسف:108]. قال ذلك الرجل الصالح: أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغنِ عني شفاعتهم شيئًا ولا ينقذون إني إذاً لفي ضلال مبين.
إذا كانت دعوة الرسل ودعوة ذلك الرجل الصالح فيما دعا به قومه، في توحيد الله وردّ الناس إلى التعلق بالله، لأنها مهمة المصلحين، لأنها مهمة الذين يريدون أن يعلقوا قلوب الناس بالله جل جلاله، فإذا صلحت القلوب وصلح الناس أنزل الله جل وعلا البركات على الأرض وأذن بما يأذن به من سننه الكونية، قال جل وعلا مخبرًا عن قوله: إني إذًا لفي ضلال مبين يعني إن كنت على تلك الحال من الشرك فإني على ضلال مبين، نعم كانت تلك أقواله، وكانت تلك دعوته، فما كان منهم إلا أن قتلوه، ما كان منهم إلا أن توجهوا إليه بالتهديد لما قال لهم: إني إذًا لفي ضلال مبين توجه إليهم بكلمة الحق وقال: إني آمنت بربكم.
إما أن يكون توجه إلى المرسلين وإما أن يكون توجه إلى الناس إني آمنت بربكم فاسمعون فلما قال ذلك بادروا إليه وقتلوه فتلقته الملائكة بقولهم: قيل ادخل الجنة لأنه دعا إلى ما دعا إليه المرسلون واتبع سيرتهم وجاهد في ذلك، ولو كان في ذلك بذل نفسه، تلقته الملائكة ألا تخف ولا تحزن وادخل الجنة، فنظر لما دخل الجنة ورأى النعيم، تذكر قومه ورحم قومه فقال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين أدركته الرحمة، أدركته رحمة الخلق، وهكذا الداعية الصالح الناجح يأمر الناس بما أمر الله به، وهو رحيم بهم يرحم العاصي إذا عصى، ويرحم الضال أن ضل، ويرحم الناس أن لا يكونوا من أهل الجنة، وبوده لو بذل نفسه ودخل الجنة جميعًا جنة الله جل جلاله، قال الإمام أحمد: وددت أن جسدي قرض بالمقاريض وأن الخلق أطاعوا الله جل جلاله، لأنه يحب المؤمنين ويحب أهل الإسلام ويحب أن يكون خلق الله جميعًا من أهل الجنة، لكن ذلك لا يمكن أن يكون، لأن الله ذرأ لجهنم نصيبًا وذرأ للجنة نصيبًا وكل سيأتيه نصيبه.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل الجنة.
لما دخل الجنة وقتل ثم صار بقومه ما صار من تكذيب الرسل قال جل جلاله: وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ليس الأمر بعسير على رب العالمين، لا يحتاج إلى جنود مجندة، إنما هي صيحة من السماء فأخذتهم صاعقة أتتهم، فأخذتهم فكانوا أمواتًا فإذا هم خامدون يا حسرة على العباد.
أيها المؤمنون: إن في قصص القرآن لعبرة، وإن الدعوة الصالحة الناجحة لابد أن يكون فيها ومعها ولها التدبر الأعظم في سنن الله، وفي قصص القرآن، وفي دعوة الأنبياء والمرسلين، لأن من أخذ بدعوتهم، من أخذ بدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، من أخذ بسنته فإنه على نجاح في دعوته، ولو لبثت دعوته ما لبث نوح في قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا [العنكبوت:14]. المهم أن يكون الطريق صوابًا، وليس المهم أن يكون الطريق قصيرًا لأن مع الصواب رضى الله جل جلاله، أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أتباع نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن الذين يحشرون تحت لوائه، ومن الذين يردون حوضه فيسقون منه سقية، ويشربون شربة لا يظمأون بعدها أبدًا.
أسأل الله أن يجعلنا من المنيبين إليه, الخاشعين، الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون، واسمعوا قول الله جل وعلا بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فإن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه حقًا وتوبوا إليه صدقًا إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده صلى الله عليه وسلم إلا هالك.(/3)
هذا وإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة، عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقوى الله؛ فإن بالتقوى فخاركم ورفعتكم عند لقائكم لربكم، فاتقوا الله حق التقوى بتعظيمكم أمره وإجلالكم له بالسر والعلن، فإن في ذلكم الفوز العاجل والآجل، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمرنا جميعًا بأمر جليل بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته، ومصلحته عائدة لنا، فقال جل وعلا قولاً كريمًا: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا))[1] يعني من قال: اللهم صل على محمد وسلم تسليمًا كثيراً مرة واحدة، أثنى الله عليه بها في الملأ الأعلى عشر مرار.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
---
[1] رواه مسلم عن أبي هريرة ح (408).(/4)
يا ليت قومي يعلمون
بسم الله الرحمن الرحيم ...
محاضرة
الشيخ محمد حسين يعقوب ...
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمد عبده ورسوله .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ " [ آل عمران/102 ]
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا "[ النساء /1 ]
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " [ الأحزاب/70-71 ]
ـ أما بعد ـ
فإنَّ أصدق الحديث كلام الله تعالى ، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
إخوتي في الله ..
هل تعلمون ـ يقينًا ـ لماذا خلقكم الله ؟ هل تعلمون ـ حقًا ـ حقيقة هذه الدنيا ؟ هل تعلمون أنَّ بعد الموت بعثًا ؟ وأنَّ بعد البعث حسابًا فإما جنة وإما نار ؟
هل تعلمون ..؟ هل تعلمون …؟ آهٍ .. يا ليت قومي يعلمون .
إخوتي في الله ..
إن أول ما ينبغي عليك تعلمه فقه السير إلى الله ، فتعرف السبيل الموصلة إليه جل وعلا كي تمضي فيها ، ومن المعلوم أنَّ كل سبيل لا يخلو من عوائق ، وكل طريق لابد له من نهاية ، ودائمًا تكون الأهداف هي الباعث المحفز للجدية في السير ، فعُلِم من هذا أنَّ مبادئ هذا العلم ثلاثة :
1) معرفة السبيل .
2) معرفة العوائق التي فيه .
3) تعلق القلب بالمقصود .
إخوتاه ..
لقد انشغل الناس عن هذه السبيل ، وشغفوا بالجدل ، وراحوا يخبطون خبط عشواء فيما لم يخلقوا لأجله ، وإذا بالقوم يمتحنون في هذا العلم فيرسبون ، لأنهم اهتموا بالمفضول وتركوا الفاضل ، اهتموا بالتناظر حول المسألة والمسألتين ، ودب الخلاف الذي قطع أواصر الأخوة ، وأتى على بنيان الدعوة من القواعد .
إخوتاه ..
تعالوا لنداوي القلوب السقيمة ، تعالوا نستذكر مسائل هذا العلم الشريف ، تعالوا لنتعلم كيف السبيل إلى رب العالمين .
وأول ذلك أن تعرف حقيقة الدنيا .
حقيقة الدنيا
الدنيا عدوة لله عز وجل ، بغرورها ضل من ضل ، وبمكرها زل من زل ، فحبها رأس الخطايا والسيئات ، وبغضها والزهد فيها أم الطاعات ، وأس القربات ، ورأس المنجيات "
1) الدنيا حقيرة لا تساوي عند الله شيئًا .
قال الله تعالى : " اعلموا أنَّما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " [ الحديد/20]
أخرج الترمذي في جامعه والضياء في المختارة وصححه الألباني عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء " .
ولحقارتها زهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فشبهها بما تنفر منه السجايا السليمة .
أخرج الإمام أحمد والطبراني والبيهقي وحسنه الشيخ الألباني عن الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى جعل ما يخرج من بني آدم مثلا للدنيا " .
وأخرج ابن حبان والطبراني وحسنه الألباني عن أبي بن كعب أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلا للدنيا و إن قزحه و ملحه فانظر إلى ما يصير " .
قال ابن الأثير في النهاية : قزحه : أي توبله ، من القزح وهو التابل الذي يطرح في القدر .
والمعنى أن المطعم وإن تكلف الإنسان التنوق في صنعته وتطييبه فإنه عائد إلى حال يكره ويستقذر ، فكذلك الدنيا المحروص على عمارتها ، ونظم أسبابها راجعة إلى خراب وإدبار .(/1)
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ؟ فَقَالُوا : مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ . قَالَ : أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ . قَالُوا : وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ : فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ .
2) الدنيا دار فناء .
إنها إلى زوال ، وكل ما فيها لا يبقى على حال ، نعيمها منغص لأنَّه ناقص ، وما هي إلا أيام معدودات .
قال الله تعالى : " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " [ النحل/96 ]
في صحيح مسلم عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ : خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصَرْمٍ ، وَوَلَّتْ حَذَّاءَ ( أي مسرعة ) ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا ، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لَا زَوَالَ لَهَا ، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ ، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا لَا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا ، وَ ـ وَاللَّهِ ـ لَتُمْلَأَنَّ .أَفَعَجِبْتُمْ وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنْ الزِّحَامِ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيمًا وَعِنْدَ اللَّهِ صَغِيرًا وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا تَنَاسَخَتْ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَاقِبَتِهَا مُلْكًا فَسَتَخْبُرُونَ وَتُجَرِّبُونَ الْأُمَرَاءَ بَعْدَنَا .
وهكذا كانوا رحمهم الله تعالى يعرفون حقيقة الدنيا وأنها دار خراب لا دار عمران وأن الآخرة هي دار القرار فعمروها وتركوا عمارة الدنيا لأهل الخسران .
قال ثابت البناني : بنى أبو الدرداء مسكنًا ، فمرَّ عليه أبو ذر ، فقال : ما هذا ؟! تعمر دارًا أذن الله بخرابها ؟! لأن تكون رأيتك تتمرغ في عذرة ، أحب إليَّ من أن تكون رأيتك فيما رأيتك فيه .
قال ابن مسعود : من أراد الآخرة أضرَّ بالدنيا ، ومن أراد الدنيا أضرَّ بالآخرة ، يا قوم ، فأضروا بالفاني للباقي .
3) الدنيا سبب الزيغ والضلال
أخرج ابن ماجه وحسنه الشيخ الألباني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : " آلفقر تخافون ؟ والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صبا، حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هي ، و أيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها و نهارها سواء .
فالدنيا كلها فتن لذلك حذرنا الله منها ، لأنها تغوي البشر فيضيعون في التكالب على زخرفها
أخرج الإمام أحمد في مسنده وصححه الشيخ الألباني عن مصعب بن سعد قوله صلى الله عليه وسلم : " احذروا الدنيا فإنها خضرة حلوة " .
وفي الصحيحين عن عمرو بن عوف الأنصاري قال صلى الله عليه وسلم : " فوالله ما الفقر أخشى عليكم و لكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم " .
والناس عادة ما يقعون فريسة النظر إلى من هم أعلى منهم في الدنيا ، وقد يرى أهل الإيمان الكفار يتطاولون في البنيان ، ومن لا يفقه سنن الله الربانية قد يصاب بهزيمة نفسية ، وقد يتطلع بعضنا إلى حضارة الغرب الآن فيحسدهم على ما هم فيه من ترف وثراء ، ويمضي ليحاكيهم في هذه ويترك الأهم .
وقد أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عالية ، شعار حزب الله المفلحين " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا و لنا الآخرة ؟ " [ متفق عليه ] .
وللأسف نحن في عصر يقول القائل فيه : من معه دولار أو جنيه فإنه يساوي دولارًا أو جنيهًا ، وهذه من علامات استحواذ الدنيا على الناس ، فصارت هي المعيار والمقياس الذي يقاس به كل واحد .(/2)
وصدق رسول الله إذ يقول كما في حديث بريدة الذي أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم في مستدركه وحسنه الشيخ الألباني " إن أحساب أهل الدنيا : الذين يذهبون إليه هذا المال " .
4) الدنيا سبب الهلاك والذل .
حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوقوع في شراك التنافس على المال ، وبين أن هذا كان سبب هلاك الأمم السابقة ، وأنه سبب هلاك أمة الإسلام .
أخرج الطبراني والبيهقي وصححه الشيخ الألباني عن ابن مسعود و أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن هذا الدينار و الدرهم أهلكا من قبلكم و هما مهلكاكم .
وقال بشر الحافي : قل لمن طلب الدنيا تهيأ للذل .
5) الدنيا دار ابتلاء
فالمؤمن يعرف أنها قنطرة إلى الآخرة وأنه لابد من امتحان ليعرف ماذا قدم وليصحح النهج إن أخطأ ، أما الكافر لا يرى سواها فيتكالب عليها ، بل يعبدها .
أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر "
وفي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني ومستدرك الحاكم وصححه الألباني عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حلوة الدنيا مرة الآخرة ، و مرة الدنيا حلوة الآخرة " .
كان الحسن يقول عن الدنيا : خَبَاث ! كل عيدانك مضضنا ، فوجدنا عاقبته مرًا.
تفريغ القلب منها
فإذا كان هذا سمتها حقيرة فانية زائلة مضلة مهلكة مُبلية فما بال قلبك مشغولاً بها ، إنَّ مكانها الحقيقي تحت الحذاء .
لماذا أنت مهموم بها ؟ لماذا تستحوذ على قلبك فلا يعود فيه شيء من طلب الآخرة .
انظر كيف كانت قلوبهم معلقة بالآخرة ، إنهم فطنوا لحقيقة الأمر ، فصارت الدنيا لا تساوي عندهم قيد أنملة .
قيل لبعض السلف : متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله ؟
قال : إذا صفا الود وخلصت المعاملة .
قيل : فمتى يصفو الود ؟ قال : إذا اجتمع الهم في الطاعة .
قيل : فمتى تخلص المعاملة . قال : إذا كان الهم همًا واحدًا .
قيل : بم يتعان على ذلك ؟ قال : بالتحري في المكسب .
قيل : زدني خلالا . قال : كل حلالاً وارقد حيث شئت .
قيل : أين طريق الراحة قال : خلاف الهوى .
قالت امرأة أبي حازم لأبي حازم : هذا الشتاء قد هجم علينا ، ولا بد لنا من الطعام والثياب والحطب .
فقال لها أبو حازم : من هذا كله بد ، ولكن لا بد لنا من الموت ، ثمَّ البعث ، ثمَّ الوقوف بين يدي الله تعالى ، ثمَّ الجنة ، أو النار " .
وكان الإمام أحمد يقول : إنما هو طعام دون طعام ، ولباس دون لباس ، وإنَّما هي أيام معدودات .
قال سليمان بن الأشعث : ما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط .
فكانوا لا يبالون بالدنيا ولا بأهلها ، بل كانوا يحقرونها ويسفل عندهم من رضي بها .
قال أبو بكر بن عياش : من عظم صاحب دنيا فقد أحدث حدثًا في الإسلام .
6) ما الدنيا من الآخرة ؟
ولذلك لم يصح أن تعقد المقارنة بين الدنيا والآخرة ، فكل ما في هذه الدنيا لا يساوي أقل القليل من الآخرة .
أخرج الطبراني وصححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما أخذ المخيط غمس في البحر من مائه " .
وفي رواية لمستدرك الحاكم وصححها الألباني " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فأدخل إصبعه فيه فما خرج منه فهو الدنيا " .
وأيم الله ما الدنيا من الآخرة ، فهل تعلمون ماذا أعد الله لعباده المؤمنين ، هل تعلمون أنَّ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فكل ما يخطر ببالك فالأمر بخلاف ذلك .
أخرج الطبراني وصححه الألباني عن سهل بن سعد مرفوعًا " إنَّ في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب أحد " .
فيا ليت قومي يعلمون " ما الجنة " ؟
1) هي دار الخلود .
في معجم الطبراني وصححه الألباني عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن المرد إلى الله إلى جنة أو نار خلود بلا موت و إقامة بلا ظعن "
2) الجنة دار النعيم لا شقاء فيها .
في صحيح البخاري عن أبي هريرة. مرفوعاً " إنَّ رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له : ألست فيما شئت ؟ قال : بلى ولكن أحب أن أزرع ! فبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه و استحصاده فكان أمثال الجبال فيقول الله : دونك يا ابن آدم ! فإنه لا يشبعك شيء .
3) وأعظم من كل ذلك أن أهلها يظفرون بأعظم نعيم حين يرون رب العالمين من كل يوم جمعة الذي يدعى هناك يوم المزيد أما تشتاقون لذلك .
في صحيح مسلم عن أنس مرفوعًا " إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة ، فيها كثبان المسك ، فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم ، فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم ، و قد ازدادوا حسنا و جمالا فيقول لهم أهلوهم : و الله لقد ازددتم بعدنا حسنا و جمالا فيقولون : وأنتم و الله لقد ازددتم بعدنا حسنا و جمالا .(/3)
أخرج الإمام أحمد في المسند وابن ماجه في سننه وابن خزيمه وابن حبان في صحيحيهما عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون : و ما هو ؟ ألم يثقل الله موازيننا و يبيض وجوهنا و يدخلنا الجنة و ينجنا من النار ؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه و لا أقر لأعينهم " .
فإنْ سألت عن وصفها .
فلها ثمانية أبواب
أخرج ابن سعد وصححه الألباني عن عتبة بن عبد " الجنة لها ثمانية أبواب والنار لها سبعة أبواب " .
فإن شئت أن تعلم ما وصف تلك الأبواب فانظر شأن مصراعيه .
ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا " والذي نفسي بيده إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة و بصرى "
وأما أرضها فخبزة بيضاء
أخرج أبو الشيخ في العظمة وصححه الألباني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أرض الجنة خبزة بيضاء " .
وفي الجنة أنهار
أخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه الألباني عن معاوية بن حيدة مرفوعًا " إن في الجنة بحر الماء ، و بحر العسل ، و بحر اللبن ، و بحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار بعد "
وفي الجنة نهر الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه
في البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف قلت : يا جبريل ما هذا ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاكه الله ثم ضرب بيده إلى طينه فاستخرج مسكا ثم رفعت لي سدرة المنتهى فرأيت عندها نورا عظيما
وأخرج الشيرازي في الألقاب وصححه الألباني عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أربعة أنهار من أنهار الجنة سيحان و جيحان والنيل و الفرات " وفي الجنة غرفٌ
أخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه وحسنه الألباني عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها و باطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام و ألان الكلام و تابع الصيام و صلى بالليل و الناس نيام .
وفي الجنة شجر عظيم الشان
في الصحيحين عن أنس مرفوعًا " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام ما يقطعها " .
في المسند وصحيح ابن حبان وحسنه الألباني عن أبي سعيد الخدري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها "
أما بيوت الجنة فبناؤها الذهب والفضة
أخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه الألباني عن أبي هريرة مرفوعا " الجنة بناؤها لبنة من فضة ، ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وتربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم " .
وفي الجنة خيام من لؤلؤ .
في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا .
وفي الصحيحين عن أبي موسى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون " .
وأزواجك في الجنة لا تسل عن وصفهن
أخرج الطبراني في الأوسط وصححه الألباني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط إن مما يغنين : " نحن الخيرات الحسان أزواج قوم كرام " ، ينظرن بقرة أعيان ، وإن مما يغنين به : " نحن الخالدات فلا يمتنه نحن الآمنات فلا يخفنه " نحن المقيمات فلا يظعنه .
إخوتاه ..
ولكن الجنة درجات ، وكلٌ بحسب عمله وكسبه
في البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنَّه أوسط الجنة و أعلى الجنة و فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة.
أخرج الإمام أحمد في مسنده و الترمذي في جامعه وصححه الألباني عن معاذ بن جبل أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ذر الناس يعملون فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء و الأرض و الفردوس أعلاها درجة و أوسطها و فوقها عرش الرحمن و منها تفجر أنهار الجنة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس " .
وبعد
فهل لما علمتم شأنها شمرتم عن ساعد الجد لتظفروا بها ، أم مازلتم تؤثرون الحياة الدنيا الفانية ، أم مازلتم في الغفلات المهلكة .
هذه الجنة فأين من يعمل لها ؟
هذه الجنة فأين من يهواها ويشتاق لها ؟
فإن ظللتم فيما أنتم فيه من البلاء ، وآثرتم العاجلة على الباقية ، فهل تعلمون إلى أين المصير ؟
هل تعلمون عن جهنم شيئًا ؟
فيا ليت قومي يعلمون " ما النار ؟ "(/4)
النار أعاذنا الله وإياكم منها
كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل و أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا " .
كان مالك بن دينار يقول : لو وجدت أعوانًا لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها : أيها الناس ، النار .. النار .
قال عطاء السليمي : إذا ذكرت جهنم ما يسعني طعام ولا شراب .
وكان طاووس يفرش له الفرش ، فيضطجع ويتقلى كما تتقلى الحبة في المقلى ، ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ، ويقول : طيَّر ذكر جهنم نوم الخائفين .
النار .. النار .. وما أدراكم ما النار .
في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها " .
1) أشد ما شعرت به من حر الصيف أو زمهرير الشتاء هذا فقط مجرد نفس من أنفاسها .
في الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء و نفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر و أشد ما تجدون من الزمهرير .
وفي رواية للترمذي وصححها الألباني " فأما نفسها في الشتاء فهو زمهرير وأما نفسها في الصيف فسموم " .
وفي الصحيحين أيضًا عن عبد الله بن عمر أنًّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم "
2) نار الدنيا جزء من سبعين جزءًا منها
في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ناركم هذه التي توقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم قيل : يا رسول الله ! إن كانت لكافية ؟ قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها "
3) أشد ما تجد من شقاء وبلاء لا يقدر بغمسة فيها
في صحيح مسلم عن أنس بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له : يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا و الله يا رب و يؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له : يا ابن آدم ! هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا و الله يا رب ! ما مر بى بؤس قط و لا رأيت شدة قط .
4) أدنى عذابها
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ أدنى أهل النار عذابا ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه " .
5) وفيها من يدخل بغير حساب
أخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه الألباني عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران وأذنان يسمعان و لسان ينطق يقول : إني وكلت بثلاثة : بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلها آخر و بالمصورين " .
6) وهي بالغة العمق
أخرج الترمذي عن عتبة بن غزوان وصححه الألباني : " إنَّ الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي بها سبعين عاما ما تفضي إلى قرارها "
وأخرج هناد وصححه الألباني عن أنس مرفوعًا " لو أن حجرا مثل سبع خلفات ألقي عن شفير جهنم هوى فيها سبعين خريفا لا يبلغ قعرها " .
سلم يا رب سلم .
7) وهي لا تشبع
قال تعالى : " يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد "
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال جهنم يلقى فيها و تقول : { هل من مزيد } حتى يضع فيها رب العزة قدمه فينزوي بعضها إلى بعض و تقول : قط قط ، وعزتك وكرمك ، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة .
8) لها سبعة أبواب .
قال الله تعالى : " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم " .
9) طعام أهلها الزقوم وما أدراك ما الزقوم .
أخرج الإمام أحمد والترمذي في جامعه وغيرهما وصححه الألباني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه ؟ " .(/5)
أخرج الترمذي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع ، لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة ، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب ، فيستغيثون بالشراب ، فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد ، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم ، فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم ، فيقولون ادعوا خزنة جهنم فيقولون : ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات . قالوا : بلى . قالوا : فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال . قال : فيقولون : ادعوا مالكا . فيقولون : يا مالك ليقض علينا ربك قال فيجيبهم إنكم ماكثون قال الأعمش نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام قال فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال فيجيبهم اخسئوا فيها ولا تكلمون قال فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل .
إخوتاه ..
ثمَّ ماذا ؟
هل من توبة قبل الموت حتى تأمن شرها ، أخي ابكِ على خطيئتك الآن قبل أن تبكي غدًا دما .
في مستدرك الحاكم وحسنه الألباني عن أبي موسى الأشعري أنَّ النَبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم جرت و إنَّهم ليبكون الدم " .
إخوتاه ..
اتقوا النار فإنكم لا تدرون ما هي ؟ اتقوا النار فاجعلوا بينكم وبينها سترًا ، قدموا الآن القرابين قبل فوات الأوان .
أخرج الطبراني عن فضالة بن عبيد مرفوعًا " اجعلوا بينكم وبين النار حجابا و لو بشق تمرة " . ...(/6)
يامن ابتلاك الله اصبر واحتسب ولك الجنة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله
أما بعد
كل من لاقيته يشكو دهره *** ليت شعري هذه الدنيا لمن
أحبائي في الله
إن هذه الدنيا لاتخلو من الأكدار ولا تصفو لأحدا أبدا ..ماهى إلا دار امتحان وابتلاء
ماسرت إلا وأحزنت ..وما أضحكت إلا وأبكت ..وما وسعت إلا وضيقت
قال الله تعالى
( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) فهي لاتستقر على حال
وقال جل في علاه { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } محمد31
إذ الابتلاء سنة إلهية من الله عز وجل سنة جارية ..ماضية
ولنا في رسلنا الكرام أسوة حسنة فلقد ابتلى جميع الأنبياء وابتلى خير البشرية أعظم بلاء
فما كان منهم عليهم صلوات ربي وسلامه إلا أن صبروا واحتسبوا أجرهم عند الله
فمهما كانت مصيبتنا كبيرة وبلائنا عظيم فإن أشد بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( إن عظم البلاء مع عظم الجزاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط )
فالابتلاء دليل على محبة الله للعبد ففي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من يرد الله به خيرا يصب منه )
يامن ابتلاك الله بجسدك ..
يامن ابتلاك بمالك وولدك ..
يامن ابتلاك بأحبابك ..
ماابتلاك إلا لأنه يحبك ويريد أن يرفع قدرك في عليين
ويريد أن يطهرك في الدنيا فقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم ( ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة
ومحت عنه خطيئة ) مسلم
يريد أن يرزقك الجنة فإن الجنة لا تنال إلا بالمكاره ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات )
أيتها الحبيبة اسمعي معي قصة (امرأة من أهل الجنة )
عن عطاء بن أبى رباح قال قال بن عباس رضي الله عنهما – ألا اريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت بلى
قال هذه المرآة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت أنى اصرع
إني أتكشف فادع الله لي 000 قال: إن شئت صبرت ولك الجنة وان شئت
دعوت الله أن يعافيك فقالت أصبر فقالت إني أتكشف فادع الله لي إن لا
أتكشف فدعا لها0
فتأملي أختاه هذه المرأة كيف آثرت الجنة على شفائها من ذاك المرض لما تعلم من أن الجنة أعظم المطالب وأجل الغايات
ولعلمها أن الدنيا حقيرة لا تساوي عند الله جناح بعوضة ومهما عاشت فيها فأمدها قصير وهى إلى انقضاء وزوال
فيامن ابتلى في هذه الدنيا اعلمي رحمك الله أن كلما زاد الإيمان زاد الابتلاء وكلما كان الابتلاء هينا الإيمان على قدره
غاليتي اصبري واحتسبي فلك من الله البشرى في قوله { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {157} ) البقرة
وقوله { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر10 سبحان الله ..ما أعظمه من جزاء قال الأوزاعي رحمه الله في تفسير هذه الآية
( ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف لهم غرفا )
اللهم اجعلنا من الصابرين
اعلمي أيتها الغالية
أن ما أصابك بقضاء من الله وقدره فهو أعلم بعباده واعلمي أن الذي يأتيك من رحيم
فهو أرحم بك من نفسك ووالديك والناس أجمعين
فاحمدي الله أختاه دائما وابدأ لأن البلاء أو المصيبة لم تكن في دينك
( فكل مصيبة دون الدين تهون ) كما في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ولا تجعل مصيبتنا في ديننا )
فأعظم مصيبة مصيبة الدين
فالحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى
وفي الختام أسأل الله العلي القدير أن يحيني وإياكن الحياة الطيبة حياة السعداء وان يرزقنا الصبر واليقين
حتى نقضي هذه الحياة الدنيا والله راض عنا
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
الكاتبة / الغادة(/1)
يا غافلاً !
الحمد لله الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، عَزَّ جاهُه، وجَلَّ ثناؤُه، وتقدَّست أسماؤه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله على حين فترة من الرسل بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياًَ إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
فإن الغفلة عن الله -تعالى- مُهلكة للإنسان، فكم من غافل عن مولاه لم يستفق إلا وهو صريع بين الأموات! فما نفعه ما كان يجمعه من متاع الدنيا الفاني.
أخي المسلم الحذر الحذر أن تكون من الغافلين عن ذكر الله وعبادته، أو أن يأتيك الموت وأنت على غير أهبة واستعداد، تخوض في السيئات وتنتهك الحرمات.
يا غافلا ً وله في الدهر موعظة إن كنت في سنة فالدهر يقظان !
لقد أمر الله -عز وجل- رسوله -صلى الله عليه وسلم- ونحن تبعاً له- بذكر الله والحذر من الغفلة، فقال -تعالى-: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} الأعراف:205.
وقال -تعالى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} الكهف:28.
وقد ذم الله -سبحانه- الغافلين عن ذكره فقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ..} الأنبياء:1-3.
وذم الله -تعالى- الكفار الذين يتفننون في مختلف أمور الدنيا من معايش ومآكل ومشارب، وصناعات، واختراعات.. ولكنهم غافلون عن الله -تعالى- وعن معرفته وعبادته، منهمكون في الدنيا ومشاغلها وأتعابها، ولا يرجون لله وقاراً، ولا يقيمون لطاعته وزناً، {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} الروم:7.
إن الحضارة الغربية بما أوتيت من أسباب التقدم والقوة المادية – بما لم تبلغه الحضارات السابقة في هذا المجال -لم تعرف إلى الآن الهدف الذي خلقت لأجله! لقد علموا عن أمور الدنيا أموراً هائلة أوصلتهم إلى الصعود في طبقات الجو.. والغوص في ظلمات البحار، والغور إلى مكنون الأرض لاستخراج الثروات المختلفة.. ولكن مع كل ذلك لم يجدوا الراحة التي يؤملونها ويؤملها كل إنسان على ظهر الأرض، لقد اهتموا بالجسد والمادة وغفلوا عن الروح.. راحوا وراء أجسادهم وتركوا الروح التي براحتها يرتاح الجسد، وبنكدها يكون العناء والنكد..
إن داء الغفلة عن الله والدار الآخرة ينتهي بالمجتمعات والأفراد إلى نهاية مخيفة.. فالغرب قد شبع من متاع الدنيا وأسرفوا وبذروا، ولكن هل ارتاحت نفوسهم الراحة الحقيقة؟ كلا والله! فحوادث الانتحار فيهم تتكرر وتشاهد كل يوم وصباح مساء، وحياتهم البهيمية قد سئمتها حتى البهائم. لماذا؟ لأن تلك الشهوات الحيوانية المفرطة بلا قيود ولا ضوابط! لا يردعها رادع ولا يصدها صادّ، وذلك بسب افتقاد الكفار والمنافقين لأمر هام لم يبلغوه، وشيء عظيم يفتقدوه. إنه الاتصال بالله وتلبية نداء فطرة الله في نفوسهم والوفاء بعهده الذي واثَقَهم به { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ( ) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( ) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الأعراف: 172- 174.
وكم من شباب المسلمين ورجالاتهم من يتركون طاعة الله ،ويتجهون لتفريج الهموم -بزعمهم- إلى السفريات في كثير من دول الكفر، ثم يعجبون بما هم عليه من بهرج، ولكن ما إن تنقضي تلك السفريات وتلك الإجازات حتى يعود الهم والغم من جديد، والسبب في كل ذلك الغفلة عن الله -سبحانه وتعالى-. فوا عجباً ممن اتخذ العميان هداة له!
أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه
فيا أخي الكريم: هل عشت مع الله، ولله -تعالى-، تروح وتغدو في طاعته وعبادته وذكره.
والله لو ملكت من متاع الدنيا ما ملكت، وأنت في ضياع وتيه وبعد عن ربك ومولاك فلن يغني عنك ملكك ومالك ومنصبك وولدك من الله شيئاً، ستلاحقك الهموم، وستطاردك الغموم وينغص حياتك شبح القلق، وتؤزك الشياطين أزاً..(/1)
إن أخطر شيء في حياة الإنسان هو الغفلة عن أعظم شيء في الوجود وهو الصلة بالله والتقرب إليه بإقامة الصلوات، لقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقواماً يتهاونون بالصلوات بالختم والطبع على قلوبهم والغفلة المطبقة -والعياذ بالله- حيث قال: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمع والجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين) رواه مسلم.
ولقد حذر الله الغافلين من صدمة يوم القيامة وسمى ذلك اليوم يوم الحسرة، يوم يتحسر فيه الغافلون على تقصيرهم في جنب الله، {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} مريم: 39.
ألا تعلم يا أخي أن أشد ما يتحسر عليه أهل الجنة ساعة قضوها في غفلة! فكيف بأهل النار، إنهم لأشد حسرة وحسرات على ما فات !
قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: (ليس تحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله -عز وجل- فيها).
كم من مبدد للأيام والليالي في لهو وغناء، ونزهة وضياع، وقيل وقال، غفلة تلو غفلة، فلا يصحى المرء إلا وهو في معسكر الموتى ثاوياً!
سبحان الله! كيف غدت الأمة المحمدية في آخر عهدها. بقايا من الصالحين والمصلحين والدعاة من العلماء العالمين. وأغلب الأمة في غفلة عظيمة، وسبات عميق، وكأنهم لم يخلقوا إلا للأكل والشرب والمُتع، دونما هدف وغاية.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: (لا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى بيت). وقال أيضاً: (على قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله).1
وقال –أيضاً-: (إن حجاب الهيبة لله -تعالى- رقيق في قلب الغافل).2
اعلم أخي وفقك الله: أن الغافل بينه وبين الله -تعالى- وحشة لا تزول إلا بالذكر، واعلم أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليتخير العبد أعجبهما إليه وأولاهما به ، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة.3
أيها الغافل عن ذكر الله وعبادته: اعلم أن الغفلة عن ذكر الله -تعالى- لها مضار كثيرة تشقيك في دنياك، وتهلكك في أخراك، إن لم يتداركك الله برحمته، ومن ذلك:
1- أنها تجلب الشيطان وتسخط الرحمن، ولقد رأينا وسمعنا من كان غافلا عن الله لاهياً مستمعاً للغناء معرضاً عن ذكر الله قد صرعته شياطين الجن حقيقية لا معنى، فلم يأمن الشيطان بجسم ويرتاح له كتلذذه بالسكون والقرار في جسد هذا الغافل، أعاذنا الله من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
2- أن الغفلة سبب في الهموم والغموم والبعد عن السعادة، لأن الله -تعالى- قد قضى بأن من اتبع هداه فإنه لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكره فإنه له معيشة ً ضنكاً.
3- تورث العداوة والبغضاء، وتذهب الحياء والوقار بين الناس، ومن أراد مصداق ذلك فليذهب إلى أبغض البقاع إلى الله: الأسواق، ولينظر حال كثير من الناس فيها: لغط وصياح وغفلة عن الصلوات والذكر، وترتب على ذلك خصومات ومشاجرات وعداوات، وقد يصل الحال إلى سفك الدماء.
4- تُبلد الذهن وتسد أبواب المعرفة الحقيقية.
5- تبعد العبد عن الله -تعالى- وتجره إلى المعاصي، وعامة معاصي الناس وجرأتهم على الحرمات ما أتت إلا بغفلتهم عن ربهم، ولو عرفوا الله -تعالى- حق المعرفة وقدروه حق قدره لما حصل منهم تجرؤٌ على أحكام الله ووقوع في معاصيه.
نسأل الله أن يجنبنا الغفلة والبعد عنه، ونسأل أنه يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..
000000000000
1- الوابل الصيب لابن القيم (ص59).
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق (ص65).(/2)
يوسف بين الدعوة والفتنة
( سلمان بن يحي المالكي )
الحمد الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد. سورة يوسف من أبرز السور التي تتجلى فيها الفتن التي تحدث للمسلم، بأنواعها وأشكالها وفيها يتضح اليسر بعد العسر في كل فتنة يصادفها الداعية، إن الانفراج بعد الشدة يسبقه ثبات على المنهج، وقد يكون هو الهدية لذلك الثبات، وقد يكون الانفراج بحد ذاته فتنة أخرى يختبر الله بها ثبات عبده في اليسر، فكم من المسلمين من ثبت حين المحنة والشدة فلما جاء اليسر والانفراج والرخاء حاد عن الجادة، وابتعد عن الصف، هذه المعاني وكثير غيرها يجدها قارئ القرآن من خلال سورة يوسف، فهي سورة تمثل منهج البلاء، ونتيجة هذا البلاء، وسأعرض إلى شيء يسير مما بلي وفُتن به نبينا يوسف عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام.
الفتنة الأولى: مؤامرة الاغتيال:
وكانت من صنع أقرب الناس إليه، وهم إخوانه، مما يجعل لهذا البلاء مذاقًا مرًا يختلف عن باقي مؤامرات الاغتيال والتي عادة تكون من أعداء بعيدين بالنسب، أما أن يكون صاحب المؤامرة هو الأخ الذي خرج معه من صلب واحد فهذا ما يزيد من قساوة الفتنة، خاصة إذا كان سبب القتل سببًا تافهًا كالذي ذكره إخوة يوسف وهم يناقشون أمر اغتياله { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( ) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ } الآيات: 8-9، إذاً: كان سبب المؤامرة حب أبيهم ليوسف وتفضيله عليهم بادعائهم، ولننظر كيف يكون تفكير من استولى عليه الشيطان حتى أعمى بصيرته عن رؤية البديهيات من الأمور، لقد غاب عن أذهانهم الاحتمالات الأخرى الناتجة عن الجريمة، وتذكروا كما سول لهم الشيطان احتمالاً واحدًا، وهو بقاؤهم بعد يوسف ليكونوا هم الخيار الوحيد والأبناء الوحيدين ليعقوب، ولم يضعوا بالحسبان احتمال اكتشاف جريمتهم، وحزن يعقوب عليه السلام على يوسف، وشكه بهم، وخطأهم بالتنفيذ، واحتمال بقائه حيًا وإرجاعه لأبيه، وغيرها من الاحتمالات الواردة، ونلاحظ لطف القدير بيوسف، بأن أنطق أحدهم لتمضي مشيئته بأن يكون اقتراح أحدهم بمثابة الانفراج الأول للفتنة الأولى { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } الآية: 10، هذا الاقتراح، ومضوا جميعًا بعد حبك المؤامرة لأبيهم، ليقنعوه بأخذ يوسف للذهاب معهم في رحلتهم، وبالرغم من تردد يعقوب عليه السلام إلا أنهم أقنعوه بأخذه معهم، ومضوا به ليبدأ يوسف عليه السلام في الجب فتنة ثانية.
الفتنة الثانية: الإلقاء في الجب:
ومما يزيد في حجم هذه الفتنة رؤية يوسف عليه السلام لإخوانه وهو الغلام الصغير وهم يمسكونه ويتعاونون جميعًا لإنزاله في الجب، ثم يراهم وهم يغادرون ليتركوه وحيدًا في تلك الصحراء ليمكث في ظلام الجب، وكأن ذلك تهييئًا له للسجن الحقيقي الذي في مراحل الفتن المتلاحقة في حياته، ثم يأتي الفرج بعد تلك الشدة وذلك الصبر ليوسف عليه السلام وهو يعاني الوحدة القاتلة في ذلك الجب على شكل قافلة تمر؛ فتلقطه من الجب:{ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } الآية: 19، لقد أُخرج من الجب، ليرى الدنيا مرة ثانية، ولكن هذا الخروج كان بداية لفتنة جديدة في حياته.
الفتنة الثالثة: الاستعباد:
يلتقطه هؤلاء السيارة من الجب، يُعجبون بجماله، وأسرعوا في بيعه عبدًا بسعر زهيد في مصر { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ( ) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ...} الآية: 20-21، ينتقل يوسف عليه السلام من الحرية التي كان يعيشها مع والديه بعز وتقدير، التي حسده عليه إخوانه، إلى ذل العبودية والاستعباد في قصر عزيز مصر، شأنه شأن العبيد المملوكين يحمل الأثقال لسيده، ويقضي الحاجات الحقيرة، ويؤمر فيطيع وهذه الفتنة بحد ذاتها تحتاج إلى صبر، وحسب العبد أن يشعر أنه ليس كباقي البشر، ولا يعامل معاملة البشر، بل يعامل معاملة أقرب للحيوان منها للبشر في معظم الأحيان.
الفتنة الرابعة فتنة النساء:(/1)
يوسف عليه السلام كان صارخ الجمال، فُتنت بجماله امرأة العزيز مع فارق السن الكبير بينهما، ولم تستطع أن تكتم عشقها وتعلقها، وهي السيدة وهو العبد حتى أقدمت بعد أن بلغت شهوتها الذروة إليه وقالت { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ...} الآية: 23، بعد أن غلقت الأبواب، وتأكدت من خلو القصر فقال: {...مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }الآية: 23، ولنا مع هذه الفتنة وقفات:
الوقفة الأولى: إن المرأة لا تقول هذه الكلمة للرجل حتى تكون قد استعدت لذلك بل ما أوتيت من دهاء الجاذبية وفعلت كل ما من شأنه جذب من تريد إليها.. فقد تكون قد تعرت تمامًا، أو كشفت الكثير من مفاتنها في أقل التقديرات، أو كشفت ما يثير شهوة الرجال، ووضعت الأصباغ على وجهها، والعطور على جسدها إلى غير ذلك.
الوقفة الثانية: إن فتنة النساء التي فتن بها يوسف عليه السلام هي من أعظم الفتن التي واجهها في حياته، وحتى نعرف عظم هذه الفتنة لابد أن نعرف ما هي العوامل التي تدفع الرجال للزنا بالنساء، لا شك أنها كثيرة، وكثيرًا من الأحيان يكون توفر عامل واحد منها كافيًا لحدوث الزنا، فكيف إن تجمعت جميعها في موقف يوسف مع امرأة العزيز؟! ومن إن من أبرز هذه العوامل:
أولا: جمال الرجل الذي يدعوه إلى التقرب للنساء غرورًا بجماله، غير ذلك القبيح الذي يعلم سلفًا أنه غير مرغوب فيه.
ثانيا: طلب المرأة لذلك، وهو من أقوى العوامل، ويكون هذا العامل أقوى عندما يكون طلبها لحبها لقضاء الشهوة مع ذلك الرجل، وليس للمال، أو لأمر آخر، وهو ما حدث ليوسف عليه السلام.
ثالثا: غربة الرجل، فالغريب لا يعرفه أحد، مما يسهل القيام بعملية الزنا بعيدًا عن رقابة المعارف، حتى لو فضح لما كانت فضيحة أشد عليه من فضيحته بين أقاربه.
رابعا: العبودية، والعبد رهن لأمر سيده، لا يستطيع ردها ؛ لأن من عمله الطاعة دون تردد ؛ لأنه لا يملك قرار نفسه.
خامسا: الفتوة والشباب، فيوسف كان شابًا صغيرًا، بخلاف الكبير بالسن الذي انقطعت شهوته، أو كادت أن تنقطع.
سادسا: تهيؤ المرأة للزنا، وهذا يختلف عن طلبها للزنا وهو يعني أنها وضعت وفعلت كل المغريات التي تغري الرجل بالمرأة { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ... } الاية:23.
سابعا: إغلاق الأبواب، وهذا أدعى للأمان لفعل الفاحشة، وبعيدًا عن رقابة عمال القصر، أو الأقرباء لهذه المرأة { وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ...} الاية:23.
ثامنا: المنصب، فامرأة العزيز كانت زوجة رئيس الوزراء في عهد الفراعنة، ومنصبها يجعلها قادرة على إخفاء الجريمة، حتى وإن انكشف أمرها، وهذا عامل أمانٍ آخر يغري الرجل بالإقدام.
تاسعا: دياثة الزوج، ومن الآيات يتبين أن العزيز زوجها كان ديوثًا بدليل قوله تعالى: { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } الآية: 25. وبعد المحاكمة وظهور الحق بجانب يوسف عليه السلام ؛ ما زاد على قوله ليوسف عليه السلام { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا... } 29. ( وقال لزوجته)...{ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } الآية: 29. وهذا دافع من أكبر الدوافع لاقتراف هذه الفاحشة مادام الشخص الذي له هذه المرأة لا يمانع بذلك.
عاشراً: التهديد بالسجن، وقد يضعف الإنسان ويرضخ لمثل هذا التهديد، وهو أيضًا من العوامل الفاعلة والمؤثرة في الكثير من الناس، وهذه العاشقة قد هددته أمام النساء بعد أن قطعن أيديهن إكبارًا لجماله الفتان وقالت { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ } الآية: 32. إن الكثير من الجرائم الخطيرة ترتكب إذا استعمل التهديد بالسجن، فكيف إذا كانت الجريمة مما ترغب به النفس وتتهالك عليه، ومن امرأة القصر صاحبة السلطة والمنصب.(/2)
هذه العوامل جميعها تحققت في هذه الفتنة التي خاضها يوسف عليه السلام، فإذا كان عامل واحد من هذه العوامل يتساقط بسببه الرجال، فكيف وقد تجمعت جميعها ليوسف عليه السلام ؟! وهذا أيها الأحبة يقرب لنا طبيعة الثبات الذي ثبت به يوسف عليه السلام، ويعطينا أيضًا الزاد والتربية الأصلية التي تربى عليها، فكانت سببًا من أسباب الثبات ؛ لأنه لا يمكن أن يثبت في مثل هذه المواقف الذين يتركون نفوسهم ترتع حيث شاءت ثم يتمنون الثبات.. كلا لا يثبت إلا من تعب على نفسه وزكاها، فيثبته الله تعالى في أعظم المحن والبلايا، وبعد أن نجح يوسف في هذه الفتة فرج الله عنه، وأخرجه من تلك الأزمة بعيدًا عن رائحة القصر التي تفوح بالفساد والانحلال الخلقي، وذلك بعد أن لجأ لله وحده، معترفًا بضعفه البشري أمام شلال الفتن المنهمر { وَإِلّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } الآية: 33. فأخرجه الله من تلك الفتنة.. واستجاب له، ولكن إلى فتنة من لون جديد إنها فتنة السجن والغربة { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إلي } الآية 33.
الفتنة الخامسة، السجن:
يقول تعالى: { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } الآية: 35، عندما دخل السجن الذي كان له جنة بمقارنته بذلك القصر الموبوء، إن أقسى ما يجده المسجون في السجن، هو فصله عما يحدث في الخارج، عن أهله وأبنائه وأقسى من ذلك: عندما يدخل السجن وهو برئ من غير ذنب، ويُهمل هناك دون أن يَلتفت أحد بالخارج أن هناك إنسانًا يعيش في السجن، وأقسى من ذلك أن السجين لا يملك قرار نفسه بالذهاب والإياب والطعام والبقاء في هذا المكان أو غيره.
الفتنة السادسة، الإطالة في السجن:
إن ذلك السجين الذي يعلم متى يخرج، وفي أي ساعة ينتهي ذلك الحبس لا يعاني مثل ذلك الذي لا يعلم متى تنتهي مدة الحبس ولا يقال له متى الخروج، يظل يترقب كل يوم، وكل يوم يمضي يشابه الذي قبله، دون استيقان حتى النهاية، مما يجعله في عذاب نفسي دائم، خاصة إذا طالت المدة دون أن يشعر به أحد، وهذا ما حدث ليوسف عليه السلام، فقد قال لأحد السجينين الذي ظن أنه ناجٍ منهما { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ... } الآية: 42، ولكن الشيطان أنسى ذلك الرجل أن يتذكر يوسف المظلوم عند سيده { فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ }الآية: 42، ولم يتذكره أحد إلا بعد أن احتاج الملك إلى من يؤول له رؤياه فتذكر حينها ذلك الرجل صديقه يوسف عليه السلام وذكره للملك آنذاك، ولكن الأصالة أبت عليه الخروج بهذه الطريقة، ورفض أن يخرج وملصوقة فيه تهمة الزنا، حتى يعلن رسميًا على الملأ من المجرم الحقيقي وتعلن براءته، ونصاعة صفحته، عندها فقط رضي أن يخرج عزيزًا بريئًا، ولكنه خرج إلى فتنة قل أن يثبت فيها الرجال وهي:
الفتنة السابعة، فتنة المنصب:
ولا شك أن فتنة المنصب من أكبر الفتن التي يمكن أن يتعرض لها المسلم وخاصة الداعية، ولكن يوسف عليه السلام ما كان من ذلك الصنف المتهالك على الدنيا، بل إن قلبه معلق بالآخرة ؛ فلم تهزه فتنة المنصب على الاستسلام لله، والتأدب معه، والاعتراف بنعمه عليه، فها هو يقول في آخر المطاف بعد أن جمع الله له والديه وإخوته { رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }الآية: 101، يقول سيد قطب رحمه الله: "وهكذا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان، ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين بين يديه، إنه النجاح المطلق في الامتحان الأخير"
أيها الأحبة: لابد للمسلم أن يتعلم الكثير من هذه القصة القرآنية العظيمة، وأول ما يجب أن يتعلمه:
سنة الله في البلاء، ويتضح للمؤمن خطوط كثيرة في فتنة البلاء من أهمها:
الخط الأول: مقدار البلاء يتناسب مع مقدار القرب إلى الله.
الخط الثاني: يكون البلاء أحيانًا بسبب الابتعاد ولو قليلاً في أحد معاني العبودية.
الخط الثالث: أنكل بلاء يصاحبه لطف من الله.
الخط الرابع: أن الانفراج بعد الشدة يسبقه ثبات على المنهج.(/3)
فنلاحظ هذه الخطوط في قصة يوسف واضحة جلية: فمقدار البلاء يزداد بالتدريج في كل فتنة ينتقل إليها يوسف عليه السلام. ونلاحظ الخط الثاني: عندما اعتمد يوسف عليه السلام على الذي ظن أنه ناجٍ منهما ولم يستعن بالله أولاً؛ فعاقبه الله بذلك النسيان{ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } الآية: 42، ونلاحظ الخط الثالث: في جميع الفتن التي مر بها يوسف، ففي الفتنة الأولى، كان اللطف في مؤامرة القتل أن ألقى الله الرحمة في قلب أحد إخوانه ليعدل قرار القتل إلى إلقاء في الجب. وفي الفتنة الثانية: نرى أن اللطف هو عدم موته، وبقاؤه على قيد الحياة. وفي الفتنة الثالثة: نرى اللطف في حياة الاستعباد، أنه كان في قصر عزيز مصر، وكان الذي اشتراه يعامله معاملة الابن المدلل. وفي الفتنة الرابعة: نرى اللطف أنه رأى برهان ربه عندما استبدت به الفتنة. وفي الفتنة الخامسة: نرى اللطف في أن السجينين اللذين سجنا معه قد وثقا به، واستطاع أن يروح عن نفسه بالدعوة إلى الله، فهذه كلها لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام. أما الخط الرابع: فكان جليًا أيضًا، فكلما ثبت يوسف عليه السلام في فتنة أهداه الله تعالى هدية ذلك الثبات..
إن المؤمن عندما يعيش هذه السنة، فإنه لا يستغرب ما يصيبه الله به من بلاء، وهذا يجعله أكثر ثباتًا ورهنًا بما يصاب به من عند مولاه، هذه بعض الدروس المستفادة من قصة هذا النبي المبتلى، أسأل الله أن يعصمنا من الفتن وأن يثبتنا على الدين والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/4)
يوم لا ظل إلا ظله
187
أحاديث مشروحة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- أهمية العدل والإمام العادل. 2- الحسن البصري يكتب صفات للإمام العادل. 3- خطورة مرحلة الشباب. 4- التأكيد على دور البيت والمدرسة والمجتمع في مسوؤلية التربية. 5- دور المسجد في مرحلة صدر الإسلام. 6- فضل التآخي والتحابب في الله. 7- عفة يوسف عليه السلام. 8- توبة الكفل ووفاته.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا ربكم حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى.
في الليلة الظلماء يفتقد البدر، وفي لهيب الشمس وسموم الحر، يستطلب الظل وتستجلب النفحات، وما أروع العدل حين يطغى الجور، والإنصاف حين يعلو الغمط! وما أعجب الشرخ الشاب، حينما ينتصر على الصبوة المتفتقة! ويا لعظم الحظ ووفرة التوفيق، لمن أوقف قلبه، فبات معلقا في كل مسجد! وما أهنأ الرجلين، إذ يتحابان في الله، فلا يجتمعا إلا عليه، ولا يفترقا إلا عليه، ويا حبذا العفة والخشية، حينما تظهر المغريات، وتضمحل العقبات، وما أجدى صدقة السر في إطفاء غضب الرب! وما أعذب الدموع الرقراقة في الخلوة، حينما تسيل على خد الأسيف العاني!
أيها المسلمون، إن سنة المصطفى هي المنبع الثر للهدى والحق والنور، وهي المعين الذي لا ينضب، والحق الذي لا يعطب، وإن الوقوف الدقيق عند حديث رسول الله المنبعث من مشكاة النبوة، ليحمل النفس المؤمنة، على أن تعرف أسراره، وتستضيء بأنواره، فلا ينفك، يشرح النفس ويهديها بهديه، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى ، وكلما ذكر كلام المصطفى فكأنما قيل من فمه للتو، كلام صريح، لا فلسفة فيه، يغلب الأثرة والشهوة والطمع.
روى البخاري ومسلم في صحيحيها، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق، بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه))[1].
عباد الله، ما أحوجنا جميعا، إلى أن نستظل في ظل الرحمن، في يوم عصيب يعظم فيه الخطب، ويشتد فيه الكرب، يوم أن تدنو الشمس من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما. رُحماك يا رب، عفوك يا الله.
ألا ما أحوج الأمة المسلمة، في كل عصر وفي كل مصر، إلى الإمام العادل، وهو صاحب الولاية العظمى، وكذا كل من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه. الرعية عبيد، يتعبدهم العدل، العدل مألوف وهو صلاح العالم. الإمام العادل، هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه، من غير إفراط ولا تفريط، فهو أبو الرعية، والرعية أبناؤه، يعلم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويعالج مريضهم، يرى القوي ضعيفا حتى يأخذ الحق منه، والضعيف غِطريفا حتى يأخذ الحق له.
وإن تحقيق العدل، أمام الرغبات، والمصالح والأهواء، أمر في غاية الصعوبة؛ إذ حلاوته مرة، وسهولته صعبة، وحينما يستطيع المرء تخطي تلك العقبات، كان معنى ذلك، أن فيه من الإيمان والتقوى ما يجعله مستحقا لأن يكون واحدا من هؤلاء السبعة.
ولقد ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، فأرسل إلى الحسن البصري، أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكان مما كتب له الحسن: (اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل، قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وهو كالراعي الشفيق على إبله، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويُكِنّها من أذى الحر والقر، وهو كالأم الشفيقة، والبرة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، والإمام العادل يا أمير المؤمنين، وصي اليتامى، وخازن المساكين، وهو كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده . اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك).
أيها الناس، إن الشاب المسلم، الذي يستحق أن يكون واحدا من هؤلاء السبعة، هو ذاك الفتى اليافع، الذي تعلق قلبه بربه، ولما يشخ بعد، تتجاذبه مزالق الرغبات النفسية ومتطلبات الجسد، ترق عنده الحياة، فتسحره بالنظرات المغرية، وتجمع له لذائذ الدنيا، في لحظة مسكرة، أو شبهة عارضة، الشباب الذي يعيش للهوى وأحلام اليقظة وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131]. الشاب، شأنه شأن غيره من الشباب، الذين تعتريهم في هذه السن، أنواع من التصرفات غير المتزنة، والذين هم أحرى في أن يقعوا فريسة، لمثل هذه الدركات غير المسؤولة.(/1)
إن الشباب مرحلة، هي من أخطر مراحل الحياة؛ لأنها مرحلة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة، ولما كان الشباب من العمر، وسيسأل الإنسان عن عمره، فإن رسول الله خص الشباب في قوله: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، وذكر منها: وعن شبابه فيم أبلاه؟)) رواه الترمذي[2].
إن من أكرم الناس نفعا، وأنداهم كفا وأطيبهم قلبا، وأصدقهم عزما، هو الشاب المسلم النقي التقي، الذي يجل الكبير، ويرحم الصغير، لا تسمعه إلا مهنئا أو معزيا، أو مشجعا أو مسليا، ولا تراه إلا هاشا باشا، طلق الوجه مبتسما، يبعده إيمانه بربه، عن طيش الصغر، وإصرار الكبر، فهو الجندي في الميدان، والتاجر في السوق، والعضو الفعال في الجمعيات والمنتديات الخيرة نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]. قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء:59،60]. وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ [يوسف:30].
إن مما يساعد الشباب على عبادة ربه، صفاء المحضن، ممثًَلا في البيت والمدرسة والمجتمع، وكذا قيام المحضن بواجبه من توعية وإرشاد، حتى يشب الشباب عن الطوق[3]، ((ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) [4].
ولن يستغني شاب عَبَدَ رَبّهُ، عن مطالعات حثيثة، في سير أسلافه إبان شبابهم، كابن الزبير وابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر، وأسامة وأنس، والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين. وجدير بشاب هذا شأنه، أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
عباد الله، المساجد بيوت الله، وأماكن عبادته، وهي خير البقاع، يكرم الله عمارها وزواره فيها، ويثيب على الخُطا إليها فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَاء الزكاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَارُ [النور:36، 37].
ومن هنا كان فرح الباري جل وعلا، بزوار المساجد. قال رسول الله : ((ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر، إلا تبشبش الله تعالى إليه، كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم)) رواه ابن ماجه وابن خزيمة[5] وغيرهما وإسناده صحيح.
ولم يكن للمسلمين في القرون الأولى، من معاهد ولا مدارس إلا المساجد، ناهيكم عن خمس صلوات في اليوم والليلة. ففي المسجد يدرس القرآن وتفسيره، والسنة وفقهها، واللغة وأصول الدين. وأين مجلس إمام دار الهجرة. والحسن البصري، وأبي حنيفة والشافعي وأحمد إن لم يكن في المسجد. أما إنه لو رجع لبيوت الله، ما كانت عليه من إقامة الشعائر واجتماع المسلمين فيها، لتعلقت بها قلوب الكثيرين ممن أعرضوا عنها واستخفوا بشأنها وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ [البقرة:114]. اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.(/2)
عباد الله، إن المؤمن في هذه الحياة، يجد صعوبة بالغة، في أن يعيش وحيدا فريدا، دون صديق أو مؤانس، صديق يناجيه، وخِلِّ يلاقيه ويواسيه، يشاطره مسرته، ويشاركه مساءته. لقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر، خداجا خداجا غير تمام، تقوم لغرض وتقعد لعرض، والإسلام دين الأخوة والمحبة والتآلف وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]. الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، به تقع الألفة، المتحابون في الله، دائمة صحبتهم، باقية مودتهم، لا تزيدها الأيام إلا وثوقا وإحكاما، لخلوصها من الإثم، والأغراض الدنيئة الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]. قال رسول الله : ((أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء، على منازلهم وقربهم من الله))، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى إلى النبي فقال: يا رسول الله: ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم؛ انعتهم لنا. فسر وجه رسول الله بسؤال الأعرابي فقال: ((هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) رواه أحمد[6] ورجاله ثقات. اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك.
عباد الله، إذا ما يسرت للمسلم سبل الغواية، ودعت إليها الدواعي والمغريات دعا، فهو بحاجة ماسة، إلى أن يرى برهان ربه، وأن يسطع نور الهداية في فؤاده، وليس هناك امتحان، أقسى من امتحان، يتغلب فيه المرء على صبوته وغريزته، تبذل له حسناء نفسها، وهو في فحولة الرجولة. وهي في حالة رفيعة من الجمال والجاه، فاتنة عاشقة مختلية متعرضة، متكشفة متهالكة، فحينها لا ينبغي أن ييأس الرجل، إذ إن مطارق الخوف من الله ومراقبته، تعينه على أن يرى برهان ربه، وتذكره بقوله تعالى عن يوسف وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23].
لقد اجتمع ليوسف عليه السلام، من الدواعي لإتيان الفاحشة الشيء الكثير؛ فلقد كان شابا وفي الشباب ما فيه، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24]. وقد غلقت الأبواب، وهي ربة الدار، وتعلم بوقت الإمكان وعدم الإمكان فكان ماذا؟ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]. استعاذة وتنزه واستقباح، ولماذا؟ وما هو السبب؟ لأنه يعبد الله كأنه يراه، فأراه الله برهان ربه وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].
((كان الكفل، من بني إسرائيل، لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها، فلما أرادها على نفسها، ارتعدت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ قالت: لأن هذا عمل ما عملته، وما حملني عليه إلا الحاجة. فقال: تفعلين أنت هذا من مخافة الله، فأنا أحرى، اذهبي فلك ما أعطيتك ووالله ما أعصيه بعدها أبدا، فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه: إن الله قد غفر للكفل، فعجب الناس من ذلك)) رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه[7].
فاتقوا الله ـ معاشر المسلمين ـ وتخلقوا بأخلاق رسول الله واهتدوا بهديه تفلحوا، ويتحقق لكم ما وعدكم به من الاستظلال بظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
[1] صحيح البخاري ح (660)، صحيح مسلم ح (1031).
[2] حسن، سنن الترمذي ح (2417) وقال: حديث حسن صحيح.
[3] الطوق: حَلْي للعنق ، والعبارة التي ذكرها الخطيب مُستلة من المثل المشهور (شبّ عمر وعن الطوق) ، و(كَبر عمر وعن الطوق) يضرب لملابس ما هو دون قدره ، كما يتضح عند قراءة مورده ، والمعنى الذي رمى إليه الخطيب هو أنه لا بد من صفاء المحضن من الصغر حتى حالة النضج في الكبر ، راجع (القاموس وتاج العروس ، مادة طوق ، ومجمع الأمثال للميداني (3/14) تحقيق محمد أبو الفضل ، طبعه دار الجيل).
[4] أخرجه البخاري ح (893)، ومسلم ح (1829).
[5] سنن ابن ماجه ح (800)، صحيح ابن خزيمة ح (1491).
[6] مسند أحمد (5/343)، وأخرجه أيضًا الحاكم (4/170) وصححه ووافقه الذهبي وحسّن المنذري إسناده. الترغيب ح (4448).
[7] سنن الترمذي ح (2496) وقال: حديث حسن، ومستدرك الحاكم (4/254 ـ 255) وصححه ووافقه الذهبي.
الخطبة الثانية(/3)
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم واتبع سنتهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن من الناس، من أنعم الله عليه بشيء من المال، فما أنكر فضل الله عليه، بل هو ينفق بسخاء، ويتسلل إلى المساكين لواذا، يعلم أن من الفقراء من يحرجه علنية العطاء، فذاك رجل تخطى عقبة الجشع، أنقذه الله ممن عبدوا الدينار والدرهم، فكانوا أحلاس بخل وإمساك، سجاياهم المتكررة منع وهات، بل هات وهات، قد قضوا على أنفسهم أن يعيشوا مرضى بالصحة، فقراء بالغنى، مشغولين بالفراغ، لكنهم مع ذلك لا يجدون في المال معنى الغنى؛ إذ كم من غني يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يجد، وما علموا قول النبي : ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) متفق عليه[1].
إن النفس بطبعها، تميل إلى إبراز عملها، لاسيما الصدقة، كل هذا لتحمد؛ فإذا ما جاهد المرء نفسه، حق له أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. ورحم الله مالك بن دينار؛ حيث يقول: (قولوا لمن لم يكن صادقا لا يتغنى) ولقد قال ابن عائشة، قال أبي: (سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ).
عباد الله، ما أسعدها من لحظات، يجلسها المرء خاليا فيها مع نفسه، يناجي ربه وخالقه، فيهتن دمعه عذبا صافيا، خاليا من لوثة الرياء، وإن نيران المعاصي التي تأتي على قلب المسلم، فتحيله إلى فحم أسود كالكوز مجخيا، لا يطفئها إلا تلك الدموع، التي تنهمر على إثر ذكر الخالق وخشيته، ولقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية من البكاء.
ولقد كان أيوب السختياني ربما حدث بالحديث، فيرق فيتمخط، ويقول: ما أشد الزكام! يظهر أنه مزكوم، لإخفاء البكاء، رجاء أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله . وقام محمد بن المنكدر ذات ليلة فبكى، ثم اجتمع عليه أهله، ليستعلموا عن سبب بكائه، فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم، فلما دخل هدأ بعض الشيء، فسأله عن سبب بكائه فقال: تلوت قول الله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]. فبكى أبو حازم، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء فقالوا: أتينا بك لتخفف عنه فزدته بكاء.
روى النسائي وأحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله: ما النجاة ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك))[2].
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا أنه لابد من الخوف والبكاء، إما في زاوية التعبد والطاعة، أو في هاوية الطرد والإبعاد، فإما أن تحرق قلبك ـ أيها المسلم ـ بنار الدمع على التقصير، وإلا فاعلم أن نار جهنم أشد حرا فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [التوبة:82]. فانظروا عباد الله إلى البكائين في الخلوات، قد نزلوا على شواطئ أنهار دموعهم، فلو سرتم عن هواكم خطوات لاحت لكم خيامهم ولسمعتم بكاءهم ونشيجهم، ولسان حالهم يقول:
نزف البكاءُ دموعَ عينك فَاسْتَعِرْ عيناً لغيرك دمعُها مدرار
من ذا يعيرك عينَه تبكي بها أرأيت عينا للدموع تُعار؟
[1] صحيح البخاري ح (1429)، صحيح مسلم ح (1033).
[2] صحيح لم أجده في سنن النسائي، وهو في المسند (4/148) وأخرجه أيضًا الترمذي ح (2406).(/4)
... ... ...
يوم لا ظل إلا ظله ... ... ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أهمية العدل والإمام العادل. 2- الحسن البصري يكتب صفات للإمام العادل. 3- خطورة مرحلة الشباب. 4- التأكيد على دور البيت والمدرسة والمجتمع في مسوؤلية التربية. 5- دور المسجد في مرحلة صدر الإسلام. 6- فضل التآخي والتحابب في الله. 7- عفة يوسف عليه السلام. 8- توبة الكفل ووفاته. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا ربكم حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى.
في الليلة الظلماء يفتقد البدر، وفي لهيب الشمس وسموم الحر، يستطلب الظل وتستجلب النفحات، وما أروع العدل حين يطغى الجور، والإنصاف حين يعلو الغمط! وما أعجب الشرخ الشاب، حينما ينتصر على الصبوة المتفتقة! ويا لعظم الحظ ووفرة التوفيق، لمن أوقف قلبه، فبات معلقا في كل مسجد! وما أهنأ الرجلين، إذ يتحابان في الله، فلا يجتمعا إلا عليه، ولا يفترقا إلا عليه، ويا حبذا العفة والخشية، حينما تظهر المغريات، وتضمحل العقبات، وما أجدى صدقة السر في إطفاء غضب الرب! وما أعذب الدموع الرقراقة في الخلوة، حينما تسيل على خد الأسيف العاني!
أيها المسلمون، إن سنة المصطفى هي المنبع الثر للهدى والحق والنور، وهي المعين الذي لا ينضب، والحق الذي لا يعطب، وإن الوقوف الدقيق عند حديث رسول الله المنبعث من مشكاة النبوة، ليحمل النفس المؤمنة، على أن تعرف أسراره، وتستضيء بأنواره، فلا ينفك، يشرح النفس ويهديها بهديه، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى ، وكلما ذكر كلام المصطفى فكأنما قيل من فمه للتو، كلام صريح، لا فلسفة فيه، يغلب الأثرة والشهوة والطمع.
روى البخاري ومسلم في صحيحيها، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق، بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه))[1].
عباد الله، ما أحوجنا جميعا، إلى أن نستظل في ظل الرحمن، في يوم عصيب يعظم فيه الخطب، ويشتد فيه الكرب، يوم أن تدنو الشمس من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما. رُحماك يا رب، عفوك يا الله.
ألا ما أحوج الأمة المسلمة، في كل عصر وفي كل مصر، إلى الإمام العادل، وهو صاحب الولاية العظمى، وكذا كل من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه. الرعية عبيد، يتعبدهم العدل، العدل مألوف وهو صلاح العالم. الإمام العادل، هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه، من غير إفراط ولا تفريط، فهو أبو الرعية، والرعية أبناؤه، يعلم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويعالج مريضهم، يرى القوي ضعيفا حتى يأخذ الحق منه، والضعيف غِطريفا حتى يأخذ الحق له.
وإن تحقيق العدل، أمام الرغبات، والمصالح والأهواء، أمر في غاية الصعوبة؛ إذ حلاوته مرة، وسهولته صعبة، وحينما يستطيع المرء تخطي تلك العقبات، كان معنى ذلك، أن فيه من الإيمان والتقوى ما يجعله مستحقا لأن يكون واحدا من هؤلاء السبعة.
ولقد ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، فأرسل إلى الحسن البصري، أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكان مما كتب له الحسن: (اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل، قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وهو كالراعي الشفيق على إبله، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويُكِنّها من أذى الحر والقر، وهو كالأم الشفيقة، والبرة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، والإمام العادل يا أمير المؤمنين، وصي اليتامى، وخازن المساكين، وهو كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده . اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك).(/1)
أيها الناس، إن الشاب المسلم، الذي يستحق أن يكون واحدا من هؤلاء السبعة، هو ذاك الفتى اليافع، الذي تعلق قلبه بربه، ولما يشخ بعد، تتجاذبه مزالق الرغبات النفسية ومتطلبات الجسد، ترق عنده الحياة، فتسحره بالنظرات المغرية، وتجمع له لذائذ الدنيا، في لحظة مسكرة، أو شبهة عارضة، الشباب الذي يعيش للهوى وأحلام اليقظة وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131]. الشاب، شأنه شأن غيره من الشباب، الذين تعتريهم في هذه السن، أنواع من التصرفات غير المتزنة، والذين هم أحرى في أن يقعوا فريسة، لمثل هذه الدركات غير المسؤولة.
إن الشباب مرحلة، هي من أخطر مراحل الحياة؛ لأنها مرحلة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة، ولما كان الشباب من العمر، وسيسأل الإنسان عن عمره، فإن رسول الله خص الشباب في قوله: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، وذكر منها: وعن شبابه فيم أبلاه؟)) رواه الترمذي[2].
إن من أكرم الناس نفعا، وأنداهم كفا وأطيبهم قلبا، وأصدقهم عزما، هو الشاب المسلم النقي التقي، الذي يجل الكبير، ويرحم الصغير، لا تسمعه إلا مهنئا أو معزيا، أو مشجعا أو مسليا، ولا تراه إلا هاشا باشا، طلق الوجه مبتسما، يبعده إيمانه بربه، عن طيش الصغر، وإصرار الكبر، فهو الجندي في الميدان، والتاجر في السوق، والعضو الفعال في الجمعيات والمنتديات الخيرة نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]. قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء:59،60]. وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ [يوسف:30].
إن مما يساعد الشباب على عبادة ربه، صفاء المحضن، ممثًَلا في البيت والمدرسة والمجتمع، وكذا قيام المحضن بواجبه من توعية وإرشاد، حتى يشب الشباب عن الطوق[3]، ((ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) [4].
ولن يستغني شاب عَبَدَ رَبّهُ، عن مطالعات حثيثة، في سير أسلافه إبان شبابهم، كابن الزبير وابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر، وأسامة وأنس، والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين. وجدير بشاب هذا شأنه، أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
عباد الله، المساجد بيوت الله، وأماكن عبادته، وهي خير البقاع، يكرم الله عمارها وزواره فيها، ويثيب على الخُطا إليها فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَاء الزكاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَارُ [النور:36، 37].
ومن هنا كان فرح الباري جل وعلا، بزوار المساجد. قال رسول الله : ((ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر، إلا تبشبش الله تعالى إليه، كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم)) رواه ابن ماجه وابن خزيمة[5] وغيرهما وإسناده صحيح.
ولم يكن للمسلمين في القرون الأولى، من معاهد ولا مدارس إلا المساجد، ناهيكم عن خمس صلوات في اليوم والليلة. ففي المسجد يدرس القرآن وتفسيره، والسنة وفقهها، واللغة وأصول الدين. وأين مجلس إمام دار الهجرة. والحسن البصري، وأبي حنيفة والشافعي وأحمد إن لم يكن في المسجد. أما إنه لو رجع لبيوت الله، ما كانت عليه من إقامة الشعائر واجتماع المسلمين فيها، لتعلقت بها قلوب الكثيرين ممن أعرضوا عنها واستخفوا بشأنها وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ [البقرة:114]. اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.(/2)
عباد الله، إن المؤمن في هذه الحياة، يجد صعوبة بالغة، في أن يعيش وحيدا فريدا، دون صديق أو مؤانس، صديق يناجيه، وخِلِّ يلاقيه ويواسيه، يشاطره مسرته، ويشاركه مساءته. لقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر، خداجا خداجا غير تمام، تقوم لغرض وتقعد لعرض، والإسلام دين الأخوة والمحبة والتآلف وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]. الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، به تقع الألفة، المتحابون في الله، دائمة صحبتهم، باقية مودتهم، لا تزيدها الأيام إلا وثوقا وإحكاما، لخلوصها من الإثم، والأغراض الدنيئة الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]. قال رسول الله : ((أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء، على منازلهم وقربهم من الله))، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى إلى النبي فقال: يا رسول الله: ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم؛ انعتهم لنا. فسر وجه رسول الله بسؤال الأعرابي فقال: ((هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) رواه أحمد[6] ورجاله ثقات. اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك.
عباد الله، إذا ما يسرت للمسلم سبل الغواية، ودعت إليها الدواعي والمغريات دعا، فهو بحاجة ماسة، إلى أن يرى برهان ربه، وأن يسطع نور الهداية في فؤاده، وليس هناك امتحان، أقسى من امتحان، يتغلب فيه المرء على صبوته وغريزته، تبذل له حسناء نفسها، وهو في فحولة الرجولة. وهي في حالة رفيعة من الجمال والجاه، فاتنة عاشقة مختلية متعرضة، متكشفة متهالكة، فحينها لا ينبغي أن ييأس الرجل، إذ إن مطارق الخوف من الله ومراقبته، تعينه على أن يرى برهان ربه، وتذكره بقوله تعالى عن يوسف وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23].
لقد اجتمع ليوسف عليه السلام، من الدواعي لإتيان الفاحشة الشيء الكثير؛ فلقد كان شابا وفي الشباب ما فيه، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24]. وقد غلقت الأبواب، وهي ربة الدار، وتعلم بوقت الإمكان وعدم الإمكان فكان ماذا؟ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]. استعاذة وتنزه واستقباح، ولماذا؟ وما هو السبب؟ لأنه يعبد الله كأنه يراه، فأراه الله برهان ربه وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].
((كان الكفل، من بني إسرائيل، لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها، فلما أرادها على نفسها، ارتعدت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ قالت: لأن هذا عمل ما عملته، وما حملني عليه إلا الحاجة. فقال: تفعلين أنت هذا من مخافة الله، فأنا أحرى، اذهبي فلك ما أعطيتك ووالله ما أعصيه بعدها أبدا، فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه: إن الله قد غفر للكفل، فعجب الناس من ذلك)) رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه[7].
فاتقوا الله ـ معاشر المسلمين ـ وتخلقوا بأخلاق رسول الله واهتدوا بهديه تفلحوا، ويتحقق لكم ما وعدكم به من الاستظلال بظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
[1] صحيح البخاري ح (660)، صحيح مسلم ح (1031).
[2] حسن، سنن الترمذي ح (2417) وقال: حديث حسن صحيح.
[3] الطوق: حَلْي للعنق ، والعبارة التي ذكرها الخطيب مُستلة من المثل المشهور (شبّ عمر وعن الطوق) ، و(كَبر عمر وعن الطوق) يضرب لملابس ما هو دون قدره ، كما يتضح عند قراءة مورده ، والمعنى الذي رمى إليه الخطيب هو أنه لا بد من صفاء المحضن من الصغر حتى حالة النضج في الكبر ، راجع (القاموس وتاج العروس ، مادة طوق ، ومجمع الأمثال للميداني (3/14) تحقيق محمد أبو الفضل ، طبعه دار الجيل).
[4] أخرجه البخاري ح (893)، ومسلم ح (1829).
[5] سنن ابن ماجه ح (800)، صحيح ابن خزيمة ح (1491).
[6] مسند أحمد (5/343)، وأخرجه أيضًا الحاكم (4/170) وصححه ووافقه الذهبي وحسّن المنذري إسناده. الترغيب ح (4448).
[7] سنن الترمذي ح (2496) وقال: حديث حسن، ومستدرك الحاكم (4/254 ـ 255) وصححه ووافقه الذهبي. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...(/3)
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم واتبع سنتهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن من الناس، من أنعم الله عليه بشيء من المال، فما أنكر فضل الله عليه، بل هو ينفق بسخاء، ويتسلل إلى المساكين لواذا، يعلم أن من الفقراء من يحرجه علنية العطاء، فذاك رجل تخطى عقبة الجشع، أنقذه الله ممن عبدوا الدينار والدرهم، فكانوا أحلاس بخل وإمساك، سجاياهم المتكررة منع وهات، بل هات وهات، قد قضوا على أنفسهم أن يعيشوا مرضى بالصحة، فقراء بالغنى، مشغولين بالفراغ، لكنهم مع ذلك لا يجدون في المال معنى الغنى؛ إذ كم من غني يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يجد، وما علموا قول النبي : ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) متفق عليه[1].
إن النفس بطبعها، تميل إلى إبراز عملها، لاسيما الصدقة، كل هذا لتحمد؛ فإذا ما جاهد المرء نفسه، حق له أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. ورحم الله مالك بن دينار؛ حيث يقول: (قولوا لمن لم يكن صادقا لا يتغنى) ولقد قال ابن عائشة، قال أبي: (سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ).
عباد الله، ما أسعدها من لحظات، يجلسها المرء خاليا فيها مع نفسه، يناجي ربه وخالقه، فيهتن دمعه عذبا صافيا، خاليا من لوثة الرياء، وإن نيران المعاصي التي تأتي على قلب المسلم، فتحيله إلى فحم أسود كالكوز مجخيا، لا يطفئها إلا تلك الدموع، التي تنهمر على إثر ذكر الخالق وخشيته، ولقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية من البكاء.
ولقد كان أيوب السختياني ربما حدث بالحديث، فيرق فيتمخط، ويقول: ما أشد الزكام! يظهر أنه مزكوم، لإخفاء البكاء، رجاء أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله . وقام محمد بن المنكدر ذات ليلة فبكى، ثم اجتمع عليه أهله، ليستعلموا عن سبب بكائه، فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم، فلما دخل هدأ بعض الشيء، فسأله عن سبب بكائه فقال: تلوت قول الله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]. فبكى أبو حازم، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء فقالوا: أتينا بك لتخفف عنه فزدته بكاء.
روى النسائي وأحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله: ما النجاة ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك))[2].
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا أنه لابد من الخوف والبكاء، إما في زاوية التعبد والطاعة، أو في هاوية الطرد والإبعاد، فإما أن تحرق قلبك ـ أيها المسلم ـ بنار الدمع على التقصير، وإلا فاعلم أن نار جهنم أشد حرا فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [التوبة:82]. فانظروا عباد الله إلى البكائين في الخلوات، قد نزلوا على شواطئ أنهار دموعهم، فلو سرتم عن هواكم خطوات لاحت لكم خيامهم ولسمعتم بكاءهم ونشيجهم، ولسان حالهم يقول:
نزف البكاءُ دموعَ عينك فَاسْتَعِرْ عيناً لغيرك دمعُها مدرار
من ذا يعيرك عينَه تبكي بها أرأيت عينا للدموع تُعار؟
[1] صحيح البخاري ح (1429)، صحيح مسلم ح (1033).
[2] صحيح لم أجده في سنن النسائي، وهو في المسند (4/148) وأخرجه أيضًا الترمذي ح (2406). ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ
مقدمة:
الحمد لله الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه الله للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً، محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فهذه وقفةٌ مع آيةٍ من كتاب المولى - سبحانه وتعالى - سيتم استعراض أقوال المفسرين فيها، وهي الآية التاسعة والثمانون بعد المائة من سورة البقرة، نسأل الله أن ينفعنا بالعلم الشرعي وأن يجعلنا من العالِمين العاملين.
يقول - تعالى - : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (189) سورة البقرة.
سبب نزول الآية:
يكاد يتفق أهل التفسير في نقل سبب نزول الآية إلا أن بعضهم أبهم وبعضهم صرح في ذكر الذي كان سائلاً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الهلال ونزلت الآية لسؤاله.
قال الإمام القرطبي - رحمه الله - : هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال معاذ - رضي الله عنه - : يا رسول الله إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة، فما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يستوي ويستدير ثم ينتقص حتى يعود كما كان؟ فأنزل الله هذه الآية، وقيل: إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الهلال وما سبب محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس، قاله ابن عباس و قتادة والربيع وغيرهم1.
قال في زاد المسير: هذه الآية من أولها إلى قوله: "والحج" نزلت على سبب، وهو أن رجلين من الصحابة قالا: يا رسول الله: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد ويمتليء حتى يستدير ويستوي ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}. هذا قول ابن عباس2،.3
بيان معنى الآية:
الأهلَّة:
جَمعُ الهلال، وجُمِعَ وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالاً واحداً في شهر غير كونه هلالاً في آخر، فإنما جمع أحواله من الأهلة. ويريد بالأهلة شهورها، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلوله فيه كما قال:
أخوان من نجد على ثقة ... الشهر مثل قلامة الظفر
وقيل: سمي شهراً لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه.
ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر وليلتين من أوله، وقيل: لثلاث من أوله، وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير كالخيط الرقيق، وقيل: بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع، قال أبو العباس: وإنما قيل له هلال؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه.
ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه واستهل وجهه فرحاً، وتهلل إذا ظهر فيه السرور.
قال أبو كبير:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
وقال آخر:
المرءُ مِثْلُ هلالٍ حين تُبصرهُ ... يبدو ضئيلاً ضعيفاً ثم يَتَّسِقُ
يَزدادُ حتّى إذا ما تَمَّ أعْقَبه ... كَرُّ الجديدين نقصاً ثم يَنْمَحِقُ4
قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحجِّ}
المِيقاتُ: مصدر الوَقْت، والآخِرةُ مِيقاتُ الخَلْقِ، ومَواضِعُ الإِحرامِ مَواقيتُ الحاجِّ، والهِلالُ مِيقاتُ الشَّهْرِ5.
والمواقيت: جمع ميقات بمعنى الوقت، كالميعاد بمعنى الوعد، والفرق بينه وبين المدة والزمان: أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها والزمان: مدة مقسومة، والوقت: الزمان المفروض لأمر6.
ومعنى الآية: (يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرَارِها وَتمامها واستوائها، وتغير أحوالها بزيادة ونُقصان وَمحاق واستسرار، وما المعنى الذي خَالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان؟
فقُلْ يا محمد: خالف بين ذلك ربُّكم لتصييره الأهلة - التي سألتم عن أمرها، ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه - مواقيتَ لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقِها واستسرارها وإهلالكم إياها، أوقات حلّ ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرُّم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقيت للناس7.
وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب، أعني قوله: {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ}من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة والنقصان لأجلها؛ لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل وأحق بأن يتطلع لعلمه8.(/1)
وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً"9.
قوله تعالى: }وَالْحَجِّ}: يعني: وللحجِّ، يقول: وجعلها - أيضًا - ميقاتًا لحجكم، تعرفون بها وقت مناسككم وحَجكم.
"والحج" بفتح الحاء قراءة الجمهور. وقرأ ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وعن سيبويه: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى، وقيل: الفتح مصدر، والكسر الاسم.
وقد أفرد سبحانه الحج بالذكر؛ لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز النسيء فيه عن وقته، بخلاف ما رأته العرب، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور، فأبطل الله قولهم وفعلهم.
ولقد استدل الإمام مالك وأبو حنيفة وأصحابهما في أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج بهذه الآية؛ لأن الله تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصح أن يحرم في جميعها بالحج، وخالف في ذلك الشافعي؛ لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} (197) سورة البقرة، وأن معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس، وبعضها مواقيت للحج، وهذا كما تقول: الجارية لزيد وعمرو، وذلك يقضي أن يكون بعضها لزيد وبعضها لعمرو، ولا يجوز أن يقال: جميعها لزيد وجميعها لعمرو10.
وذُكر عن القفال - رحمه الله - أنه قال: إن إفراد الحج بالذكر إنما كان لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء، والله أعلم11.
وقوله تعالى: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها}
وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة: أن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه؛ لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن يحول بينه وبين السماء حائل، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم.
قال أبو عبيدة: إن هذا من ضرب المثل، والمعنى: ليس البرّ أن تسألوا الجهال، ولكن البرّ التقوى واسألوا العلماء، كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه. وقيل: هو مَثَل في جماع النساء، وأنهم أمروا بإتيانهنّ في القبل لا في الدبر. وقيل غير ذلك.
والبيوت جمع بيت، وقُرئ بضم الباء وكسرها.12
وسواء كانت هذه عادتهم في السفر بصفة عامة، أو في الحج بصفة خاصة وهو الأظهر في السياق، فقد كانوا يعتقدون أن هذا هو البر - أي الخير أو الإيمان - فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل، وهذا العمل المتكلف الذي لا يستند إلى أصل، ولا يؤدي إلى شيء، وجاء يصحح التصور الإيماني للبر، فالبر هو التقوى، هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن، وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان، ولا تعني أكثر من عادة جاهلية.
كذلك أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها، وكرر الإشارة إلى التقوى، بوصفها سبيل الفلاح:
{وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون}.
وبهذا ربط القلوب بحقيقة إيمانية أصيلة هي التقوى، وربط هذه الحقيقة برجاء الفلاح المطلق في الدنيا والآخرة؛ وأبطل العادة الجاهلية الفارغة من الرصيد الإيماني، ووجه المؤمنين إلى إدراك نعمة الله عليهم في الأهلة التي جعلها الله مواقيت للناس والحج، كل ذلك في آية واحدة قصيرة13.
إلى هنا نصل إلى ختام تفسير الآية، والله أعلم.
وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - انظر: الجامع لأحكام القرآن لمحمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله (2/339).
2 - زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (1/195) ط: المكتب الإسلامي- بيروت الطبعة الثالثة ، 1404 هـ.
3 - انظر: فتح القدير للشوكاني(1/291) حيث ذكر أن سبب النزول أخرجه ابن عساكر بسند ضعيف، كما ذكر سبب النزول النسفي في تفسيره (1/93) والسيوطي في الدر المنثور(1/490)، والبيضاوي في تفسيره(1/474).وكذا في معالم التنزيل للبغوي(1/211).
4 - أسرار البلاغة (1/49).
5 - انظر: كتاب العين(5/199) للخليل بن أحمد الفراهيدي.
6 - تفسير البيضاوي(1/474)بتصرف
7 - جامع البيان في تأويل القرآن(3/555) لمحمد بن جرير الطبري، 224 - 310 هـ ط: مؤسسة الرسالة.
8 - فتح القدير(1/249).
9 - قال الشيخ الألباني: ( صحيح ) انظر حديث رقم : 3093 في صحيح الجامع.
10 - جامع البيان في تأويل القرآن (2/343)
11 - مفاتيح الغيب (3/139) للرازي.
12 - فتح القدير (1/249).
13 - في ظلال القرآن لسيد قطب (1/158).(/2)